ترجمة حياته

ما ذُكِرَ اسم الأمين إلا وتمثَّل لكلِّ من طالع مُؤلفات ذاك الفيلسوف الشرقي الذي نبتت أفكاره في لبنان، ونمت في بلاد الحريَّة: بلاد الغرب، ونُشرت في المجلات والمؤلفات الإنكليزية والعربية. كاتبٌ رشيقُ العبارةِ، متينُ التركيب، يُطرب بأسلوبه كما يُسكرُ بآرائه الفلسفية، تُعرِبُ أشعاره عن عقلية سامية، وروح رفيعة، ورُجحان قوة الاستقراء، ودقة شرح أسرار الحياة وما وراء الحياة، أفرنجي الأسلوب، عصري الأفكار، راقي الخيال والوصف والابتكار، يبتكر بكتاباته وبلاغة تعبيره آراء وفلسفة اجتماعية خالعًا ثوب التقليد والجاهلية القديم، يَنظِمُ الشِّعرَ الخيالي البليغ المؤثر باللغة الإنكليزية والعربية.

ومن اطَّلَعَ على بنات أفكاره، ونفثات يراعه، وبديع أسلوبه، وجميل مقالاته، وغزارة مادته، وما عنده من بُعد التصور وسموِّ الخيال، وتقرير الحقائق الفلسفية، وإيراد اختبارات روح الاجتماع بأسلوبه الشعري المنثور، ومن سمع رنَّة صوته الموسيقي أثناء الخطابة وإشاراته التي تأخذُ بمجامع القلوب يعجب لهذا الاجتماعي الكبير، ويفتخرُ به؛ لأنه شرقيٌّ راقٍ عاش بين الطَّبقةِ الرَّاقية من الأَميركيين، ونال شُهرةً ومكانًا رفيعًا، وله مُكاتبات كثيرة مع كُبرائهم وعلمائهم.

وإنَّ كاتبًا كبيرًا وشاعرًا مُتفنِّنًا في البحث عن أمراض الشرق، وتأخُّرِهِ الأَدبي الاجتماعي، وفلسفة الحياة وما بأسرار الوجود، وخياليًّا يَسبحُ في عالم التصورات الرَّاقية، خليقٌ بأن تُسطَّر سيرة حياته ليطَّلِع عليها الناس، وخصوصًا الشرقي العربي، ويدرُس نبوغَه أبناءُ وطنه في بلاد الغرب.

أذكرُ شيئًا من تاريخ حياته بمناسبة زيارته مصر في هذا الشهر «٢٨ يناير سنة ١٩٢٢»، واحتفال السوريين والمصريين بهذا النابغة، وتقدير روحه الكبيرة في جسمه النحيف.

•••

وُلِدَ أمين فارس الريحاني — أو فيلسوف الفريكة — في قرية «الفريكة» من لبنان الجميل في سنة ١٨٧٦، وتعلَّم مبادئ اللغة العربية والإفرنسية في مدرسة صغيرة لمواطنه الكاتب الصحافي نعوم مكرزل، صاحب جريدة «الهدى»، وهاجر في العاشرة من عمره مع عمِّهِ إلى نيويورك حيثُ درس مبادئ اللغة الإنكليزية، ثم اشتغل بالتجارة خمس سنوات كان في أثنائها مثالًا للاقتصاد وبساطة المعيشة.

وطالع تآليف كبار شعراء الإنكليز، فشغف بكُتب شكسبير ورواياته، وتَولَّد فيه ميلٌ إلى فنِّ التمثيل، فدخل مُمثلًا في شركة أميركية، وجَالَ معها ثلاثة أشهر، ثم ترك هذا الفن الجميل لأسباب.

ودخل كلية نيويورك الفقهية، ومكث فيها سنة كان مثال الاجتهاد والذكاء، وبدأ منذ ذاك الحين بالكتابة والخطابة ونشر المقالات في الصحف الأَميركية، وخطب عدة خُطَب بالإنكليزية في أنديةٍ ومحافل أميركية مشهورة.

واشتدَّ عليه الضعف لإكبابه على الدرس في أثناء تحصيله في المدرسة، فأشار عليه الطبيب بترك الكلية، والرُّجوع إلى سوريا تغييرًا للهواء، فسافر إليها عام ١٨٩٨، وطالع في أثناء وجوده في بيته في لبنان نُسخة من ديوان المعرِّي، فأُعجب بأفكار الشاعر الفلسفية وراقته، فمال إلى ترجمة الرباعيات إلى الإنكليزية.

ولمَّا أنهى ترجمتها عرضها على شركة من أهمِّ شركات طبع الكُتب في أميركا، فقبلتها حالًا، وبعد طبعها بدأت شُهرة الريحاني، فأقام نادي الثريَّا الأميركي حفلة إكرام للسوري النَّابغة، خطب فيها خُطبة نفيسة باللغة الإنكليزية، تقدَّم إليه بعدها رئيس النادي ووضع على رأسه إكليلًا من الزهر، وسأله أن يتلو بعض الرباعيات ويُسمِع الحاضرين الفلسفة الشرقية والنبوغ السوري.

وكتب الريحاني في أثناء ترجمته الرباعيات مقالات كثيرة نشرها أكثر الجرائد العربية والإنكليزية، ونَظَمَ في الإنكليزية ديوانه المؤثِّر.

وفي عام ١٩٠٤ عاد إلى سوريا، ومكث في قرية الفريكة مُدَّةً طويلة، وكتب في أكثر الجرائد العربية. وكان يُكاتب المجلات الإنكليزية في أثناء عُزلته التي وَلَّدت في ذهنه فلسفة راقية. وطبع الريحانيات المشهورة في العالم العربي، التي تتجلَّى فيها الفلسفة الشرقية بالقالب الإفرنجي الشعري.

وطبع روايته الإنكليزية التي مثَّل فيها أخلاق السوري وعاداته، وشرح حالته في بلاد الغرب، تلك الرواية التي يذكرها الإنكليز بين أشهر رواياتهم: كتابٌ خالدٌ.

وبعد إقامته في سوريا مُدَّة طويلة رجع إلى نيويورك، وعاش عيشة الفلاسفة المعتزلين جائلًا بين بروكلن ونيويورك وغيرهما خطيبًا ومؤلفًا وكاتبًا في أشهر المجلات والجرائد الإنكليزية والعربية. وهو يكتبُ ويُؤلِّفُ للذةٍ يشعرُ بها، ولدافعٍ طبيعي يُحركه ليشرح فلسفة الاجتماع. وخطب عدَّة خُطب في محافل سورية في أثناء الحرب العمومية حرَّك فيها عاطفة السوري وهمته لمساعدة أخيه في الوطن، وإنقاذه من أنياب الجوع، ومخالب الموت، واليد الظالمة.

أمَّا معيشته فهي أُنموذج البساطة واللطف، جمع فيها بين الرجل السوري الراقي والأميركي المتمدن، ونكب عن التبجح، وحب الظهور، واحتقار الغير، والادِّعاءِ، وعشق المال. وهو يجتهدُ في تطبيقِ أفعاله على أقواله، ولا يودُّ تكليف غيره ما يستطيعُ هو أن يعمله. لا يُقيِّدُ نفسه بالانخراطِ في سلك الجمعيات والخضوع لقوانينها. يعشق الحرية ولا يتذلَّلُ لينالَ غايته. مُقِرٌّ بضعفه، صادقٌ بحديثه، مُسامِحٌ لمن يُسيءُ إليه، سليمُ النِّيَّة، رقيقُ الكلام، بشوشُ الوجه.

أمَّا صفاته، فرَبْعُ القامة مع ميلٍ إلى القِصرِ، رقيقُ العضل، نحيفُ البنية، واسع العينين، عريض الجبهة. كان منذ سنوات طويل الشَّعر، حليق الشَّاربين. أمَّا الآن فشعرُ رأسه وشاربيه مُعتدلٌ. وهو لا يزالُ في دور الشباب والنشاط. أكثر الله من نوابغنا ونفع بهم الوطن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤