باب المختارات

المختارات النثرية

(١) وصف بيروت

أيها البيروتيُّون:

أقمتُ في هذه البلاد — بلادنا — ستَّ سنوات، ولم أستطع قبل الآن أن أقول في بيروت كلمة حقٍّ يرضاها قلبٌ شُغِف بحبِّ بلاده، ولا يُنكرها عقلٌ شُغِف بحبِّ الحقيقة. نظرتُ إلى هذه المدينة بعينٍ رأت مُدُنَ أوروبا وأميركا، فاستصغرتها وندبتُ حظَّها، ثم نظرتُ إليها بعينٍ شاهدت غيرها من مدن سوريا، فأحببتها وأكبرت شأنها. وأنا الآن ناظرٌ إليها بالعينين فأصِفُهَا وأُنصِفُها.

بيروت أُمُّ البلاد السورية وأمة البلاد السورية، أميرة المدن الآسيوية، وأجيرة المدن الآسيوية، بيروت حسنة من حسنات التمدُّن، وآفة من آفاته.

بيروت لؤلؤة شرقية في صيغةٍ من النحاس غربية. هي خلخالٌ في رِجل سلطانة المشرق عند الصَّباحِ، وأسوارٌ في معصم ربَّة المغرب عند الغروب. هي ذَرَّة في أوحالٍ تئنُّ فوقها الكهرباء، هي مرجانة على ساحلٍ اختلط تِبره برماله، ولُجينه بأوحاله.

ساحل النغولة مهد أُمُّ المدن السورية وعرشها.

فم الأتون بيروت، وأفق النور بيروت، ومطلع الظُّلمة بيروت، عروس الحرية هي وعجوز الحرية. يومًا تتهادى تحت عَلَم الوطن عفَّةً وكِبْرًا، ويومًا تتوكَّأُ على عصاها كيدًا ومكرًا، يومًا تُلبس الرعاة العُتاة إكليلًا من الأزهار، تُصعِر يومًا خدها للظالم، وأمام سُدَّته تُعفِّرُ يومًا وجهها.

بيروت منبر الدستور ومشنقته، بيروت حسناء النظام، وبيروت صخابة الفوضى.

مدينة المدن السورية بيروت، منبتُ الياسمين والقلام، مغرس الورد والشوكران، القراص فيها يرفع رأسه عِزَّةً تحت أزاهر الليمون، والعليق يسرح ويمرح في ظلال النخيل. مدينة الدماء، مدينة المدن، مدينة الخلسة والرجاسة، أخت أورشليم، روُحها تئنُّ في الأزقَّةِ، نفسها تحشرج في المجاري، قلبها يُغرِّدُ في البساتين، عينها تَدمَعُ في دوائر الحكومة، جسمها يذوبُ في الموبقات، وعقلُها يدقُّ على سندان التفريق في المدارس.

بيروت إحدى وصيفات باريس، هي قمرٌ ينعكسُ فيه نور المغربِ فيُضيءُ المشرق، وتنعكس فيه أيضًا ظُلمةُ الغرب، فتزيد الشرق ظلامًا. بيروتُ منبت العلوم، ومغرس الخُرافات، هي حقلٌ خصبُ التُّربة تزرع فيه أوروبا قمحها وزوانها ووردها وقلامها، ومع ذلك نراها سائرة إلى الأمام ساهرة صابرة. إذا أقبلت سوريا بيروت أمامها، وإن أدبرت بيروت وراءها. إذا كانت اليوم كآذار من السنة تتراوح في رعدها وبرقها بين الظلمة والنور، غدًا تصير كآيار، بل كتموز، كآيار بأزهارها، كتموز بثمارها. إذا كانت اليوم أسيرة شياطين التفريق، غدًا تُصبح ربَّة الأُلفة والإخاء، إذا كانت اليوم عرش التعصب الديني؛ فهي غدًا قبره.

مدينة المدن السورية بيروت، وإثمها مثل مجدها؛ كلاهما عظيم، إذا بكت هاج بكاؤها بكاء الأُمَّة، إذا غرَّدت ردَّدت أنغامها بلابل حلب، وشحارير الشام، وحساسين لبنان، وحمام الجليل.

إذا وردت بحيرة الإصلاح «ورد الفرات زئيرها والنِّيلا»، وإذا أفسدت أفسدت بناتها في السَّواحل، وعلى شواطئ العاصي والأولى والأردن وبردى.

كلمة باطل تنطق بها بيروت تمسي حُجَّة في دمشق، كلمة حقٍّ تَصْدَعُ بها بيروت تُروي غليل القرى الظمآنة، وتبعثُ في مُدُنِ السَّواحل والسهول روح الجهاد.

أُمُّ المُدُنِ السُّوريَّة هي، وعجوز المدن السوريَّة، تُعلِّمُ بناتها الفضيلة يومًا، ويومًا تُعلِّمُهُنَّ الرَّذيلة، تحملُ إليهنَّ نورًا، وتحملُ إليهنَّ سُمًّا، إثمها مثلُ مجدِهَا؛ كلاهما عظيم، وأعظمُ من الاثنين واجبٌ فرضه الله على الأمَّهات: أحسني القدوة يا بيروت يُحسِن بناتك الاقتداء … في المروج والجبال، وفي السواحل والسهول، بناتكِ يَستقين من ينابيع علمكِ وأدبكِ، من مدارسكِ، من صحافتكِ، من منابركِ، من مطابعكِ، فصفِّي مياهًا تسقينها بناتكِ، اخفري السُّبُل، صُوني المناهل، تعهدي المسارب، اقطعي يدَ كلِّ أثيمٍ يشتَغِلُ اليوم في تعكيرها أو تخريبها أو تسميمها، اقطعي الأيادي التي تحمل إليها سِرًّا فضول الأديان، وأوحال التَّعصُّب، وأوساخ سخافات الأدب والسياسة، طهِّري ينابيعكِ، ارحمي بَنِيكِ وبناتكِ.

أشهد ألا نور ولا دخان ولا وُحُولَ في سوريا اليوم غير ما كان مصدره بيروت، وأشهدُ أنَّ بيروت وجه سوريا، وأن «الهوتنتوتي» في هذا الزَّمان يغسل وجهه … بيروت قلب سوريا، والعلم يقضي بأن يكون النقل كالقلب والجسم نظيفًا نقيًّا، ولكن المدينة التي تُدعى دُرَّة في تاج آل عثمان هي دُرَّة في أوحال وغبارٍ، تئنُّ فوقها وتحتها الكهرباء، وتبص حولها حباحب الأدباء.

أوحال وأقذار وغبار في أسواق المدينة، وفي آدابها، وفي سياستها، وفي أديانها، ودُرَّةُ العِلمِ، ودُرَّة الدِّين، ودُرَّة تاج آل عثمان في هذه الأوحال والأقذار غائصات ضائعات، وماذا يزيل الأوحال والأقذار والغبار؟ لا الصحافة، ولا قرض البلدية، ولا قصائد الشعراء، ولا كلماتي تُزيلها. هذه الأقذار من فضول الأعصُر والأجيال، ولا يزيلها أبدًا سرمدًا غير التربية الحقَّة، والتهذيب الصحيح. تربية أساسها الشجاعة والحميَّة والصدق والنظافة، وتهذيب أساسه النزاهة والأمانة والإقدام، وحب العدل والوطن، متى تأصَّلَت هذه الفضائل في الرعاة، وفي الرعية، وفي السائدين والمَسُودين، تصطلح جادات المدينة، وتستقيم جادات الأدب والدِّين والسياسة، أصلحوا الحياة تُصلحوا الحكومة، أصلحوا الحياة تُصلحوا المدينة.

(٢) وادي الفريكة أو العَوْد إلى الطبيعة

وادي الفريكة مهيبٌ أكثر منه جميلٌ، هو عميقٌ ملتوٍ ينحدرُ من قريةٍ صغيرةٍ ليغسل رِجليه في نهر الكلب، هو صغير ولكنَّه كثيرُ الزوايا والأسرار، يجمع بين الدلب الذي لا يعيش إلا بالقرب من الماء، والصنوبر الذي يكتفي بمشاهدة البحر من أعالي الجبال، وفي الشتاء تَنثر الطبيعة تحت قدميه أزاهر الدفلى، وتُكلِّلُ رأسه في الربيع وفي الصيف بأزاهير اللزان، ومع هذا الجلال والدلال تراه حاملًا على منكبيه كثيرًا من الأطواد التي تخضع صاغرة تحت قدمي صنين.

نعم، إنَّ مُلتقى الجبال على منكبي وادي الفريكة، هنالك تُعانق جبال القاطع جبال كسروان، ومن أعطافها تتدفَّقُ في الشِّتاء المياه التي تَجري في نهر الكلب، هنالك تمتدُّ الأعناق، وتنحني الرءوس، وتضغط الخدود بعضها على بعض، وفي الصباح قبل أن يغيب القمر وتُشرقُ الشَّمس، تتلألأُ فوقها آلهة الحبِّ لتباركها إلى الأبد، تُشرقُ الزَّهرة من وراء جبلٍ صنينٍ، وتُرسل أشَّعتها الباهرة فوق الجبال التي يُعانق بعضها بعضًا عناقًا أبديًّا على منكبي وادي الفريكة.

في هذه الوادي من القصور الشامخة، والمنحدرات المخوفة، والوهاد العميقة، والكهوف المظلمة، ما لا يرغب النَّاسُ في الانحدار إليه، فهو يقولُ للفلَّاح: تعالَ وفأسك ومنجلك، ويقول لمُحِب الطبيعة: تعالَ بأفكارك وتصوراتك، كما تقول الرياض لمحب السرور: تعالَ بالعُود والدن.

في صباح يومٍ من الأيَّام التي تقفُ حائرة بين الخريف والشتاء لبَّيت دعوة الوادي، خرجتُ من بيتي بمعطفٍ مشمعٍ، وأخذتُ أقفز عن الرُّبى، وأَدِبُّ من تحت الصخور حتى وصلت إلى قلب الغاب. نزلت لأَتفقَّد الوادي بعد أن اغتسل بسحابة الخريف الأولى، هبطتُ على عادتي لا ترويحًا للنفس — كما يُقالُ — بل طالبًا الإلهام، ناشدًا الفائدة.

نعم، أنا أَقصد الوادي كما يقصده الفلَّاح، ولكن فأسي ومنجلي يختلفان نوعًا عن فأسه ومنجله، وأحمالنا ونحنُ عائدان تختلفُ كثيرًا بعضها عن بعضٍ، على أنَّ حطب الغاب يُفيدُ في هذه الأيَّام أكثر من حطب الخيال، والفلَّاح هو الفيلسوف الحقيقي، ولكن ذلك قلَّما يهمني.

قد انحدرتُ إلى الوادي ووقفتُ على صخر يُشرِفُ على النَّهر، وتأمَّلتُ فعل العواصف والأنواء الليلة البارحة، تلك الليلة التي دَخَلَ إله الشتاء بعروسه الطبيعة، كيف لا ومياه النهر والسَّواقي حمراء كالدم، وقفتُ هنالك مبتهجًا، فأحسستُ بأنَّ روحي انفصلت عن جسمي وطارت فوق الأشجار البليلة، وفوق الصخور الشَّهباء في الصَّيف السوداء بعد الأمطار، طارت وطار معها ما تراكم على رأسي وقلبي من الأفكار والخيالات والأماني، طارت مُسرعة صامتة كما يطيرُ السنونو والحسون في هذا الفصل.

شعرتُ بأنَّ روح الوادي تجسَّدت فيَّ، وروحي تجسَّدت في الوادي؛ فأنا إذن والوادي سواء، في نفسي ما فيه من الظلال والخيالات والكهوف، في نفسي ما فيه من الصخور الشَّامخة، والمنحدرات الهائلة، والسواقي الفائضة، والأنهُر الجارية، في نفسي ما فيه من العصافير والجنادب والنسور، ومن الهوام والذئاب أيضًا، أيها القارئ البعيد القريب.

صعدتُ قليلًا وجلستُ تحت خرنوبةٍ غضَّةٍ، وتنفَّستُ مُتَنشِّقًا هواء الإحراج المنعش، فكاد يكون لنَفَسي صدًى في حفيفِ الأوراقِ، في ظلِّ هذه السَّكينة يكاد المرء يسمع خفقان قلبه، وعند توغُّلِي في الصَّخرِ سمعتُ صوت رفرفة العصافير، فالتفت إلى جهة الصَّوت، وإذا بسربٍ كبيرٍ من السنونو فرَّ من أمامي، ففكرتُ في نفسي قائلًا: لو كان للطير أن يقرأ الأفكار لمَا كان هذا السِّرب يفرُّ الآن من وجهي، بل كان يجيئني مُغرِّدًا، فأُقبِّله ويُقبِّلني، ويسيرُ بعدئذٍ كُلٌّ منَّا في سبيله، ولكن إخواني البشر لم يُعوِّدُوا الطَّير مثل هذا، والسنونو لم يقرأ شيئًا حتى اليوم ممَّا أكتبه. إلى الآن لا يعرفني، وهل يُلامُ على ذلك والإنسان نفسه لم يزل يعجز عن فهم ما انطوى عليه الإنسان؟!

السَّكينة بعد العواصف. أتأمَّلتها في زمانك؟ هي عندي نوعٌ من الرَّاحة الأبدية، السَّكينة في الوادي تكادُ تكون في هذا الفصل غير عالمية، فما أنعشها للنفس! وما أجمل وقْعها على الأُذُنِ والقلب! ولو جازَ أن تقول إنَّ للسكينة ألحانًا وأنغامًا، لقُلت إنَّها أشجى في مسمعي، وأبدعُ من ألحان أمهر الموسيقيين، وما معنى الألحان التي لا تسبقها وتتلوها السَّكينة؟ إنَّها عندي كَلَا شيء، بل هي ضجيجٌ مزعجٌ مُمِلٌّ. وأمَّا العبير المنتشر في الغابات بعد الأمطار — وخصوصًا بعد السحابة الأولى من فصل الشتاء — فيُحيِّر الكيماوي والنباتي والعطَّار، فما أشذاه وأطيبه! وما أبعده وأغربه! أيُفاخرني الخليع بروائح الحشيش والأفيون وحبوبِ المِسك والعنبر وغيرها من «نسخات» المصريين؟ فوالله إنَّ روائح الغاب والوادي بعد الأمطار لأطيب منها شذًى، وأبعد منها غرابةً، وأشد منها فعلًا في النفس.

مرَّ عليَّ ساعة من الزَّمن وأنا أتنشَّقُ هذه الرَّوائح، وأُفكِّرُ في الحشَّاشين والروحيين والبوذيين، في أولئك الذين يُسكِرهم الإيمان أو الأفيون، فيرتفعون بأحلامهم إلى ما وراء الطبيعة، أو ينحدرون إلى ما تحتها، فنهضتُ وقد تخدَّرت أعصابي من أرج الأشجار النديَّة، وأفيون الأرض النديَّة، ونظرتُ بعينِ البصيرةِ إلى الأُفُقِ من خلال الأغصان، فتنسَّمتُ من الغيوم المُتراكمة فيه خيرًا، وقلتُ في نفسي: إلى البيت يا ولد، إلى البيت. فها قد اختَبَأَتْ في أعشاشها الطُّيورُ، وعادت إلى أوكارها الحشرات والهوام، وعَدَت نحو حظائرها الماشية. ها قد انهزمَت السَّكينة أمام الرياح، وهبَّت الأوراق الصفراء البالية من الأدواح لتختبئ في الغياض والأدغال. وأنتَ، فما الذي يُبقيك هُنَا؟ عُد إلى عُشِّك قبل أن تُحاصرك الرِّياح، عُد إلى عُشِّك قبل أن تَسل عليك صوارمها الغيوم وتُطلق مدافعها، قبل أن تُرسل عليك السُّحب شآبيبها. فقبلتُ نصيحة نفسي، ونظرتُ حولي باحثًا، فرأيتُ بالقربِ من شجرة صنوبر كبيرة صخرًا قد نقرت فيه الدِّيَم والأعاصير مغارة صغيرة، فتقدمت نحوها ودججت تحت الصخر إليها دجًّا، وتأمَّلتُ بعد ذلك حكمة الطبيعة، ورحمة العواصف والرياح. لا أيها القارئ، إنَّ الطبيعة لا تظلمُ بَنِيها مهمَّا اشتدَّ غضبها، ومهما تعامت في مناحيها الهائلة المخوفة، وأمَّا أولئك الذين يخافُون الأمطار ويخشون الأعاصير فيتفرَّجون عليها من وراء الزجاج، فَذَرْهُمْ في نعيمهم يمرحون، أولئك فُقراءُ الرُّوح لا يُدركون الغرض الجوهري من الحياة الدنيوية، ولا يعرفون ما غرب وخفي فيها من اللذات الروحية والجسدية. كم من مرَّةٍ سمعت صوت النفس يُناجيني قائلًا: امشِ تحت المطر الهاطل، وعرِّض خديك لسهام الغيوم، بل لقبُلاتها، فهي تسيلُ شوقًا إليك، وإذا وجدت نفسك في الغاب أو في الوادي في مثل هذه الآونة، فلا تخف على جلدك من الذَّوبان، ولا تُهرول إلى البيت كالجبان، بل قُل لنفسك: مكانكِ تحمدي أو تستريحي. افرح بكل مظهرٍ من مظاهر الطبيعة، واستفد إن كان عندك ذروة من العلم، عليك بشجرةٍ وارفةِ الظِّلال، فاشغل فِكرك أو قلبك بشيءٍ تراه حولك ولا تكُن من الخاسرين. هذه الفرص ثمينة يا صاح، وهي أندرُ من الغُرابِ الأعصم، ولعلَّك لا تُوفَّقُ أيضًا للاقتراب من الطبيعة في شِدَّة غضبها في ساعة تهيُّجِها واضطرابها، فاقترب منها الآن، تعلَّم منها الثبات والإخلاص، واستمد منها القوة والجلال.

إذا كُنتَ في سفينةٍ تتقاذفها الرِّياحُ من كلِّ جانبٍ، وأوشكت تبتلعها الأمواج، أَتُضيع وقتك بالعويل والنحيب صارفًا النَّظر عمَّا يتمثَّلُ حواليك من جمال الطبيعة وهولها وجلالها؟ لا أقولُ لك: لا تُصِلِّ إلى الله ليُنجيكَ من الغرقِ في مثل تلك السَّاعة، ولكنَّني أقول: اشكره تعالى أولًا وآخرًا على أنَّه جعلك ممن شاهدوا هذا المشهد العظيم، ووقفوا هذا الموقف الرهيب. ألا تظنُّ مُشاهدة البحر ساعة هيجانه تُساوي شيئًا، وخُصوصًا إذا كنتَ في مركبٍ واقعٍ في شبكِ أمواجه الزَّابدة؟ هل لنا أن نُختبر مثل هذه الاختبارات النَّادرة كل يوم؟ ولنفرض أنِّي مِتُّ في الوادي تحت الغيث الهاطل، أو سكنت قعر البحر تحت الموج المتراكم، أينقص من نفسي الأزلية شيء؟ فعلام الخوف والجبن؟ أيخشى الإنسان ربه؟ أيحاذر ابن الطبيعة أُمَّه؟ أتوجس النفس الأزلية خيفة من شيءٍ زائلٍ؟

قد شذبت نصائح القوم، ووضعتُ ما بقي منها في جيبي، وسِرتُ مع نفسي سَيرًا بطيئًا بعيدًا عن طُرُقِ الوادي الضيِّقة، بعيدًا عن تلك الخطوط الصَّفراء التي يراها التَّائِهُ عن بُعدٍ، فيقصدها ويُلازمها مُطمئنًا، سِرتُ بين شرايين الوادي وعروقه طالبًا في القلب مركزًا جميلًا تُزينه ثلاث من أدواح الصنوبر الشامخة، وقد تساوت كلها حجمًا وقدًّا وجمالًا، رأيتها واقفة هنالك شبه عرائس خرجن من خدورهن ليدعونني إليهن. وهل تظنَّني خاطرت بنفسي إذ لبَّيت الدَّعوة؟ لا وحياتك أيها القارئ، فقد خاطرتُ بشيءٍ من اللحم والدم والعِظام التي تُقيِّد النَّفس، أَوَليس من المحمدةِ أن يُطلِقَ المرءُ للنَّفسِ زمامها مهمَّا كلَّفه ذلك؟ أوجِّهُ هذا السُّؤال إلى الشعراء لا إلى اللاهوتيين. أنا لا أذكر سوى اللذات الروحية حينما أكون بالقرب من الطبيعة، ومتى عُدت إلى المدينة، فهنالك لذَّات جسدية تنتظرني، هنالك سرور يُنسيني النَّفس كما يُنسيني سروري الآن سرور الجسد.

وأما الكوارث والحوادث التي يخافها الناس، ويُبالغون في التهويل بها، فمتى جاءت تراني متأهِّبًا، تراني دائمًا مستعدًّا إلى السفر.

الطريقُ التي اتخذتُها إلى الصنوبر في الوادي هي الطريق إلى الحقيقة في العالم، وعلى من يحبُّ الاقتراب من الصنوبر، وتتوقُ نفسه إلى فَيْء أشجاره وأرضه المفروشة بإبره اليابسة، أن يُخاطر بكثيرٍ من الرَّفاهية التي ألِفَها، عليه أن يُخاطر في الأحايين بحياته، أي بلحمه ودمه، عليه أن يمشي بين العوسج والأدغال، وعلى الشوك والبلان والشيح، بين الحجارة والرتم والقيصوم، وفوق الصخور المُغطَّاة بالطحلب النَّامي في ثُقوبها الغار والخنشار، عليه أن يدجَّ دجيجًا من تحتها تارةً، ويُقبِّل شوك القرقفان الذي يعترضه، ويشمُّ رائحة الطيون الذي تلتصق أوراقه بثيابه، وقد يقع تارةً من صخرٍ أملس، ويزلق طورًا على الأرض المفروشة بورقِ الأشجار البالي، وبينما هو سائرٌ يسمع الحقيقة تخاطبه قائلة: أنا الصنوبر أيُّها الشاب الطَّلْق المُحَيَّا، الرَّائع الوجه، الرقيق العواطف، الرَّاسخ في علم السلوك، المُواظب على سُنن الأدب والمسامرة، فإن كنت تريد الاقتراب منِّي، إن كنتَ تريدُ الجلوس تحت جوانحي الخضراء المبللة بندى الحب؛ فعليك أن تترك وراءك نعومة المجالس، وجمال الترف، ورفاهة العيش وبذخه، عليك أن تدوس شوك الخرافة، وتمشي بين عوسج التقليد، وتقطع أودية الأوهام، وتَعبُر سواقي الحبِّ الكاذب، وتتوغَّل في الصُّخور الشَّامخة، وتسقط تارةً في عليق الرؤساء، وطورًا في أدغال الحكام وأحافير الشرائع.

وإذا سَلِمت بعد كُلٍّ فصَعِّد في الصخور المعتزَّة بذاتها، المتفردة بعظمتها، القائمة على شُفْر الهاوية، من غير أن تشعر بشيءٍ من الخوف والرهبة، أو أن يُخامرك بشيءٍ من الرَّيب بنفسك. ومتى وصلت إليَّ تُقيمُ في ظلِّي سعيدًا، قريبًا من الحياة بعيدًا عنها في آنٍ واحدٍ، وتُصبِحُ مثل قمَّة جبل الشيخ لا مِلك فيك لأحدٍ من الناس، ولا لإحدى الطوائف والأحزاب، تُصبِحُ إذ ذاك مِلكًا مشاعًا للجميع. تَبَارَكَ من عاش في ظلِّ الحقيقة، تَبَارَكَ من مَلَكَ نفسه.

حاصرني المطرُ في كهفي الصغير ساعة من الزمن، فأخذتُ أتأمَّلُ أثناء ذلك ما كان داخله من آثار المخلوقات التي سكنته قبلي، فرأيتُ أنَّ الحيَّة كانت تدخله لتُغيِّر فيه ثوبها، والثعلب ليأكُلَ فرخته، والضَّبعُ ليفترش فيه مائدته. كيف لا وهذا ثوبُ الحيَّة البالي، وهنا بعض ريش الدجاجة المسكينة، وهناك عَظْمٌ من عِظام الثعلب، وفي السَّقف والزَّوايا أنسجة العنكبوت، وفيها عشيرة من البعوض؟ وإنِّي أؤكِّدُ أنَّ هذه البعوضة الرَّاقدة الآن في هذه الخيام النحيفة آمَنُ على نفسها من قيصر الرُّوس في قصره! ولقد يستطيع حزاز الصخور أن يُفيدني شيئًا من هذا الباب لو شاء ربك، لقد يستطيع الخنشار النَّامي على باب المغارة الباسط جناحه المزركش فوق هذه الأوراق البالية أن يقصَّ عليَّ قصةً غريبةً عجيبةً، فكم من حادثٍ حدث في جوف هذا الكهف لو كان لجدرانه أن تنطق وتتكلَّم.

آهًا على رفيقٍ يُشاطرني الآن هذا المأوى الصغير المعتم البارد، الجميل في ذاته — لا أُنكر أنَّ العُزلة جميلة — ولكن رفيقًا واحدًا؛ لأقول له من وقتٍ إلى آخر: إنَّ العُزلة جميلة؛ فقد تاقت نفسي وأنا بالقرب من الطبيعة إلى نفسٍ بشرية أخرى تُريني بما فيها من القوَّةِ والضعف ما خفي من قوَّتي وضعفي. تأمَّلت وأنا في هذه المغارة ما في الطبيعة من القوى الكامنة، ومن الهول الرَّاقد تحت ستار السَّكينة والجمال، فجرَّني الفكرُ إلى الهيئة الاجتماعية الحاضرة الواقفة على شفر هاوية فتن لم يسبق لها مثيلٌ في التاريخ. جرَّني الفكر إلى ستار الكذب والتصنُّع والاحتيال الذي يُسدله ذوو الغايات النفسية على الحقيقة، إلى القوى الكامنة في الشعوب المظلومة، إلى الهول الرَّاقد تحت ملاءةٍ من الخوفِ والخُمولِ، إلى الخير الكامن في الأفراد الغيورين على الحقيقة، الجريئين في الذَّبِّ عنها، ومهمَّا اشتدَّت الاضطهادات على ذوي الأفكار فهم لا يُحرمون كوخًا يلتجئون إليه؛ تضربنا الطبيعة باليسرى وتُعيننا باليمنى؛ تُعدُّ لنا المغاور لنلتجئ إليها حينما يشتدُّ غضبها الأعمى، وإذا حملقت فينا الهيئة الاجتماعية، وكشَّرت عن نابها؛ ففي زوايا الأرض وأطرافها نفوسٌ حُرَّةٌ ساميةٌ تُنعشنا بطِيبِ شذاها، وتُجدِّدُ فِينا حرارة محبَّتها الحماسة والنشاط.

وبعد أن وضعت حرب الرقيع أوزارها أشرقت السماء قليلًا، فظهر شيءٌ من نورِ الشَّمس من خلال الغيوم والأغصان، وحوَّل نُقط الماء المتجمعة على الأوراق إلى نثراتٍ من الفِضَّةِ، وحبَّاتٍ من اللؤلؤ الثمين، وأخذَتْ إذ ذاك العصافير تطير من غصنٍ إلى غصنٍ، ومن صخرٍ إلى آخر ساكتةً خائفةً، وهكذا تفعل بعد الأمطار والعواصف، فهل هي تشعر مع الشاعر بلذة التأمل الذي توجبه السَّكينة؟ أَتُمثِّل الآن دور الفيلسوف بعد أن مثَّلَت دور المنشد المطرب؟

في مثل الساعة — ساعة السَكينة والهدوء — لا تتوق النفس المبتهجة إلى الشمس ونورها، ولا تشتاق إلى بهائها وحرارتها، في مثل هذا الوقت من السنة تلذ لي الغاب، ويبعدني الوادي عن الأوراق والكُتب، تلذُّ لي الغاب وما فيها من السلوى والإلهام والرَّاحة، تلذُّ لي ظُلمتها وظلالها، سَكينتها وصخورها، وأشجارها وأدغالها، أشواكها وأزهارها. نعم، إنَّ صوت الغيث الهاطل على الأشجار جميلٌ؛ فهو يضرب على أغصانها وأوراقها فيُخرج منها أنغامًا وألحانًا مُطربة مُدهشة، ولكن السَّكينة التي تتلو العواصف أجملُ في أُذُنِ النفس وأطرب.

صوت الأوراق الصفراء التي تقع مُتناثرة إلى الأرض من ثقل ما عليها من الماء، أو صوت نقطة ماءٍ تقع من ورقةٍ خضراء حيَّة على ورقة يابسة ميتة، أو صوت فأس الحطَّاب بين أشجار العفص والسنديان، أو أصوات الأولاد الذين يؤمون الوادي والغابات طالبين الحلازين. هذا كل ما تسمعه في الغاب بعد العواصف والرياح، وهو جميل؛ لأنه قليل في كثير:

عوى الذِّئبُ فاستأنستُ بالذِّئبِ إذ عَوَى
وصوَّت إنسانٌ فكدتُ أطيرُ

صحيح ما يقال من أن الرياح والأعاصير تضرُّ بمصالح النَّاس، ولكن أَمِنْ أجل الإنسان ومصالحه الزمنية المادية خلق الله كل شيء؟

هكذا يُقالُ في التعاليم الدينية، ولكن الطبيعة تقول غير هذا القول، ويظهرُ لي أنَّ الأعاصير تعوِّض أضعافًا على الإنسان؛ فالذي تأخذه من مِلكه الخاص تُعيدُه إلى مِلك الطبيعة، والخسارة لا تكون إلا نسبية. وهذا ظاهرٌ لكلِّ الذين وصلوا بترقِّيهم الروحي العقلي إلى درجة يتم فيها امتزاج الروح البشرية بروح الطبيعة الشاملة. وهؤلاء القلائل لا يفقدون شيئًا أزليًّا، ولا يكسبون شيئًا زائلًا؛ لأنَّ الطبيعة بما فيها هي أبدًا لهم، وهم أيضًا لها على غابر الدهر.

السير في شوارع المدن الكبرى يُذكِّرُ الإنسان بالإنسان، وأمَّا السير في الوادي أو الغاب فيُذكِر السائر بالخالق العظيم. الأول يدعو إلى العمل، والثاني إلى التفكُّر والتأمُّل. في الأول بعض اللذة التي يتبعها الإعياء والقنوط، وفي الثاني نوع من اللذة الذي يتبعه النشاط والعزم وحُسن الآمال.

يمشي المُتنزِّه في شارع من شوارع باريز أو نيويورك فيُدهشه ازدحام الناس، وتنقبض نفسه من الضَّجيج، ويتبلبل فِكره مما يراه وراء زجاج النوافذ الكبيرة من مصنوعات الإنسان، ومن التُحف والعاديات، ويمشي ابن الطبيعة في الغاب بين الأدغال وتحت الأشجار والأدواح فتُنعشه روائح الصنوبر، ويُسكِره أرج الأرض الذكي الممتزج بروائح القويسة والبطم والغار، فيخرج من بيت أُمِّهِ وقد مُلئ نشاطًا وعزمًا وسرورًا، وبالأخص إذا كان معها في ساعة تهيُّجها. يخرج إذ ذاك وهو شاعر بأنه يستحق أن تُعامله الطبيعة معاملة مثيلٍ لها، بل معاملة أحد أعضائها المُتساوين أمام الناموس الشامل الدائم الذي لا يَبطُل من أجل الأغنياء، ولا يُلغى من أجل الملوك والأمراء.

وهكذا خرجتُ من الوادي بعد أن قضيتُ فيه بضع ساعات، خرجتُ بعد أن تصفَّحتُ فصلًا طويلًا من كتاب أميرة المنشئين وربَّة الكتاب.

(٣) فوق سطوح نيويورك

دخلتُ ذات يومٍ مصعد إحدى بنايات نيويورك الشاهقة، فرفعني الخادم في أقلِّ من دقيقةٍ إلى الطَّابق الأخير منها — الطابق الخامس والعشرين — ومن هناك أخذتُ أدورُ صاعدًا درجًا من الحديد لولبيًّا حتى وصلتُ إلى قبَّة البناية العظيمة؛ قبة تكادُ تختفي بين الغيوم في النهار، وتضيعُ بين النجوم في الليل، قبة ترتفعُ بين أبنية نيويورك العالية ارتفاع هذه فوق بيوت الفقراء الحقيرة. ومن هُناك يُشرِف المتفرِّج على مدينة نيويورك العُظمى، وينظر إليها نظرة الطائر، ولكن يجب عليه قبل أن يرى أسواقها المزدحمة أن يطل من حالق على سطوحها المشتبكة بأسلاك البرق والتلفون، المُغشَّاة بالدخان المتصاعد من المداخن ومن آلات سكك الحديد الجارية فوق الأسواق.

وبعد أن وقفتُ في القبة بعيدًا عن ضجَّة الأشغال، وحركة التجارة، وصِياح باعة الجرائد، وضوضاء الأرتال والمَركبات، تنشَّقتُ الهواءَ النَّقي الذي يَنُدرُ في البيوت والأسواق، تنشَّقتُ منه مِقدارًا وافرًا، وسرَّحت نظري فيما تحتي من السطوح، وما فوقها من المداخن التي يتصاعد منها الدخان على الدَّوام في النهار وفي الليل؛ فخُيِّل لي أنَّ هذه المداخن أفواهُ براكين هائلة تُنذِرُ بقدومِ انفجارٍ عظيمٍ، فكأنَّها أيادي أُولئك المُعدنين السوداء مُرتفعة نحو السماء ليصرف الله عنهم البلاء، وكأنَّ الدُّخان المُتصاعد من أناملها هو الفائض من دخان الظُّلُمات التي يسكنها المُعدنون، ويحفرون فيها ساكتين صابرين. ألوف من المداخن تنفثُ في وجه السَّماء روحها الغازي، رافعةً إلى الخالق احتجاجها على القائلين بحركة العمل المستمرة، بالحركة الدَّائمة التي لا يتخلَّلها راحة ولا هدوء.

تأملتُ هذا الدخان مليًّا، ونظرتُ في تكوينه وأشكاله، في اجتماعه وتبدُّدِهِ، في صعوده وسقوطه، في انسلاله وهجومه؛ فرأيتُ هنالك أشباحًا وحشية ترتفعُ تارةً وتنخفض أخرى، وتهجمُ على الهواء هجوم الزَّابع في الفضاء، فكأنها تريد إفساده بنَفَسها الغازي القتَّال. هي أمواج بخارية تتلاطم وتنتفخ وتتبدد في الجو: هذه تشبه حيَّة تنساب وتختفي، وتلك تُشبه جاموسًا يشول برأسه وينطح بقرنيه السماء، فيعود مُنهزمًا مسحوقًا متبددًا في الفضاء.

أَغمِض الطرف قليلًا وعُد معي إلى عالم التجارة والعمل، ألا ترى لتلك الأشباح والهيئات المرعبة أمثالًا في الهيئة الاجتماعية؟

ألا ترى كيف هذا الجاموس في البورص ينطح تلك النعاج الصغار فيقتلها، ومن ثَمَّ ينطح خالقه فيقتل نفسه؟

ألا ترى تلك الحية في الهيئة الاجتماعية تنفثُ سُمَّها في الإخوان، ولا تلبثُ أن تَنفَد قوَّتها المميتة، فتتلاشى كما تتلاشى أمواج الدخان؟

أترى هذه المداخن فوق هذه السطوح؟ لينفُذْ بصرك في الضَّبابِ المُتصاعد منها، فترى ما وراءها من الشَّقاءِ والبلاءِ، من الويل واللأواء. إنَّ وراء هذه المداخن — وإن شئتَ فقُل تحتها — أُلوفًا من الأرواح البشرية التي تضربُ بالمعاول تحت الأرض اثنتي عشرة ساعة كلَّ يومٍ، فالدخان هو روح الفحم الذي يحترق في الألوف من الأكوار والمواقد والأُتن، ومع الفحم أيضًا تحترق أرواح أولئك الرجال والأولاد الذين يُعدنون في ظُلمَةٍ قتَّالةٍ لا يدخُلُها الهواءُ ولا النور ولا الماء إلا بالطرائق الصناعية؛ فهم يستخرجُون الفحم وهم يحملونه إلى الأرتال التي تنقله إلى المدن والقرى. هو عملهم المقدَّس الذي يحترق الآن أمامك ويذهب أدراج الرياح. نعم، إنَّ نتيجة عملهم للعالم عظيمة، ولكنها لأنفُسِهِم عقيمة، هي كالدخان الذي يتبدَّدُ الآن تحت عينيك.

لا بد لنا من الفحم في الوقت الحاضر، ولكن أَيَبطلُ في المستقبل استعماله؟ إنَّ كثيرًا من البيوت الآن تستعيضُ عنه بالغاز للطبخ وللدفاء، وبعض شركات السِّكَك الحديدية تستخدمُ عِوَضه الكهرباء. نعم، قد تنفدُ المعادن يومًا من الأيام، فيُحرر المُعدنون من العبودية التي لا مثيل لها حتى في العبوديات القديمة، العبوديات التي أُبطِلت بحدِّ السَّيفِ، وسُفِكت من أجلها دماء الأحرار.

لا يمضي شهرٌ إلا ويحدُثُ في معادن الفحم في هذه البلاد وفي غيرها كوارث تقضي على مئات وألوف من المُعدنين بالموت السريع؛ فكم مرَّة انهالت الأرضُ على أولئك المُستعبَدين، وهم على أشغالهم مكبُّون قانعون، فأيَّمت أُلوفًا من النساء، ويتَّمَت أُلوفًا من البنين! فضلًا عن استخراج الفحم، فإنه تمثال الموت التدريجي البطيء، فكلُّ مُعدِّنٍ يموتُ بحكم الطبع مُنتحرًا؛ إذ ليس الانتحار محصورًا بتجرُّع السُّم، وباستنشاقِ الغاز، وبإطلاق المسدس. لا، الرَّجُلُ الذي يضطر أن يشتغل مع بَنِيه الصغار تحت الأرض، فيُحرم الهواء النقي والنور وجمال الفضاء لا يموتُ أبدًا موتًا طبيعيًّا، والهيئة الاجتماعية التي لا تقوم إلا بشقاء فئةٍ من بَنِيها هي هيئة مُظلمة مختلَّة، هي هيئة فاسدة تفتقرُ إلى كثيرٍ من الإصلاح والتعديل والتحسين. قد تقدَّمنا — على ما يزعم — بعضهم في الحضارة والتمدُّن، وقد حرَّرنا — على ما نَعلَم — العبيد، وأطلقنا الحرية في بلاد الغرب لكلِّ امرئٍ، فقيرًا كان أو غنيًّا، ولكن العبودية الجديدة تظهرُ في مظاهر مُختلفة وأثواب غريبة، فماذا ينفعُ السجين قولك له: أنت حر؟ ماذا ينفعه تغيير ثوبه المخطَّط بثوبِ الرِّجال الأحرار إذا ظلَّ راسفًا في سلاسل الحديد مسجونًا في غُرفته المُظلمة؟

قد تغيَّرت القيود وتنوعت السلاسل، واستُبدِل النَّخَّاسون بغيرهم. تعددت الأسباب والموت واحد!

إن في الولايات المتحدة من العبوديات أنواعًا وأشكالًا، فهناك العُبودية في المعادن، والعبودية في آبار الغاز، والعبودية في معامل الأنسجة وفي عالم العمل على الإطلاق، فمتى يا تُرى يتحرَّرُ الإنسان حقًّا، وتشمل السعادة والرَّاحة كل أُسرة بشرية؟

كفانا تأمُّلًا في المعادنِ والمداخِنِ والدخان، لنَعُد إلى عالم التجارة لنسقط إلى ساحة الجلبة والحركة والضوضاء. ها قد صِرت في الشارع أسمع باعة الجرائد يُنادون على جرائدهم: أخبار أخيرة، أخبار مهمة، فابتعتُ نُسخة من جريدة المساء وعُدتُ إلى البيت تحت ضباب الفكر، وبين دخان النفس ولهيبها، فجلستُ إلى الكانون، وقرأتُ الخبر الآتي:

اضطرابٌ هائِلٌ في البورص، وسقوطٌ عظيمٌ في الأسهم. قد بلغت الخسارة في ساعة واحدة خمسين مليون دولار بسبب سقوط الأسعار الفجائي.

خمسون مليون دولار تخسر وتكسَب في هنيهةٍ من الزَّمن، وألوفٌ من المُعدنين يضربون بالمعاول عشر ساعات في النهار، ويُخاطرون بأرواحهم وأرواح بَنِيهم في الظُّلُماتِ الكالحة تحت الأرض من أجل دولار أو دولارين! ما أجمل هذا العالم يا صاح! وما ألطف هذا التمدن الحديث الذي يأتينا في كلِّ شارقةٍ وبارقةٍ بمثلِ هذه الغرائب الخارقة!

(٤) من على جسر بروكلن

أُحِبُّكِ يا نيويورك على ما فيكِ من حركةٍ وضجيجٍ وازدحامٍ، أُحِبُّكِ على ما فيكِ من غريب الخزعبلات والأوهام، أُحِبُّكِ وإن كنتِ لا تحفلين بما يحلمه شعراؤك من جميلِ الأحلام، أُحِبُّكِ لا من أجل ملاهيكِ الحافلة، وحدائقكِ الزَّاهرة، وصروحكِ الشامخة، ومتنزهاتكِ الفسيحة الباهرة، ولا من أجل بَناتكِ النشيطات الجميلات، أو نِساءِكِ المُتَرجِّلات، بل أُحِبُّكِ من أجل جسركِ العظيم فقط! ذلك الجسر الذي يراهُ المرءُ في الليل عن بُعدٍ وقد أُضيء بالأنوار المُتنوعة الألوان فيظنُّه القسطان. ومحبتي لهذا البناء الحديدي العظيم محبَّة الصانع لشيءٍ جميلٍ يصنعه. أُحِبُّهُ كأنه ملكي الخاص، أُحِبُّهُ كأنه صنعة يدي، وكلما داهمتني جيوش الهموم واليأس سِرتُ إلى الجسر وحصَّنْتُ هُناك نفسي. هناك أنصب خيامي، وبين أبنية المدينتين أرفع عَلَمي، وأُجَيِّشُ من النور والهواء جيشًا جرارًا، فتبدد أمامه غيوم الغمِّ، ويذوبُ ثلج الأكدار؛ فأقف إذ ذاك مُنتصرًا والهواء البارد النقي يُورد خدِّي. أقفُ في مُنتصف الجسر فوق المراكب والبوارج الجارية تحتي، وبين العربات والأرتال المارَّة عن يميني وشمالي، وأتهلَّلُ بفوزي المُبين — بفوز النفس على الهموم المُحدقة بها — على الرزايا التي تغشيها. لا جَرَمَ أنَّ من يقطع الجسر مَاشيًا كل يومٍ يستغني في حياته كلها عن الطبيبِ والكَّاهن والمحامي؛ يستغني عن الطبيب لأنَّ الهواء النقي والمشي هما الطبيبان الحقيقيَّان، يستغني عن الكاهن لأن المشي يُساعد على التأمُّل، والتأمُّل يسمو بصاحبه إلى ما فوق السفليات، ويعقد بين خالقه وبينه ذاك الاتحاد الذي تتوقُ إليه كل نفسٍ بشريةٍ سامية، ويستغني عن المحامي لأن النفس إذا استحمَّت كلَّ يومٍ في نور الشَّمس، وانتعشت من نسيم الصباح، وناجت في الفجر خالقها؛ يتولَّد فيها للخصام كُره شديد.

أُلوف من الناس يقطعون الجسر كل يوم، ولكن كم هو عدد من يمشون ولا يُخاطرون بأنفُسهم في الأرتال المزدحمة؟ عددهم أقل من عدد الحكماء في العالم. على الجسر طريق رحبة خاصة بالمشي، وطريقان ضيقتان لسكة الحديد والمَركبات الكهربائية. وإذا اعتاد جمهور الناس أن يَعبُر الطرق الضيقة في الحياة، ترى الأرتال أبدًا مُزدحمة، وطريق السير الواسعة أبدًا مهجورة.

قطعت الجسر ماشيًا على عادتي ذات يومٍ من أيَّام الشِّتاءِ الشديدة الرياح، الكثيرة الأمطار، فكم من شخصٍ تظنُّني صادفت في طريقي؟

رجلًا واحدًا وبوليسين، أما البوليسان فلا فضل لهما في قيامهما هناك، ولكن الشخص الآخر جدَّد فيَّ الرجاء.

ما أجمل المطر على الجسر وعلى النهر تحته! وما أقبح قعقعة المركبات والأرتال وقد شُحِنَ فيها الناس كالمواشي! ما أشقى هؤلاء الناس! ما أثمن أوقاتهم وما أرخص حياتهم! ما أعظم أشغالهم وما أصغر أعمالهم! هم يخافون على جلودهم من الأمطار، ولكنهم لا يخافون على رئاتهم من جراثيم الملاريا والسُّلِّ. يهربون من الهواء النقي ومن تحت سماء الله الواسعة؛ لأن ذلك تستوجبه التجارة. يكرهون المشي لأنه مضرٌّ بأشغالهم؛ فبئس الأرباح، ونِعم الخسارة!

يرى السائر على الجسر أنَّ الطريق الجميلة الرحبة قد خُصِّصت به وبقليلٍ من مثله، فإذا مشى هناك يقدر أن يرفع يديه إلى العُلا ليمجِّدَ خالقه دُون أن يُسيء إلى أحدٍ، ويقدر أن يتنشَّق الهواء مليًّا غير ممزوج بهدروجين البشر.

ولكن لننظر في المسألة من وجهٍ آخر، لو كان كلُّ من يقطعون الجسر حُكماء تهمهم صحَّتهم أكثر من تجارتهم لازدحمت طريق المشي الرَّحبة، وأصبح هواؤها كهواء الأرتال. سبحان من دبَّر الأمور! فالطُّرُق الفسيحة جميلة؛ لأن عابريها قليلون. لتزدحم الناس مع جراثيم الملاريا والسُّلِّ إذن، وأنا أمشي مع إخواني — وإن قَلَّ عددهم — على طريق الجسر المُتنَكَّب عنها، وتحت سماء الله.

وفي مثل هذا اليوم وقفتُ على الجسر بعد الغروب بنصف ساعة، وسرَحتُ نظري في مرفأ نيويورك الواسع المستدير الجميل، المرفأ الذي لا يخلو دقيقة واحدة في النهار أو الليل من البواخر والقوارب والمراكب واليخوت؛ بواخر قافلة، وسفن حافلة، وقوارب راسية، وزوارق تشقُّ العُباب ذاهبةً جائية، وهناك في جنوب المرفأ ترفع الحرية رأسها قائمة على أركانها لتُضيء العالم الجديد بضوءِ نبراسها. رأيتُها تلك السَّاعة تُشعل مصباحها في الوقت الذي ظهر فيه البدر من وراء مدخنة في مدينة بروكلن، فخُيِّل لي أن تمثال الحرية محطة للقمر على الأرض يصل إليها نوره، فتعكس الأشعة بعد أن تجتمع على وجهها الجميل، وتُذكِّر العالم الجديد بثبات هذا الكوكب القديم، فقلتُ في نفسي: متى يا ترى تصير الحرية مثل هذا القمر، فتُوقِد مصباحها لا في الغرب فقط، بل في الشرق وفي الجنوب وفي الشمال، في العالم بأسره؟

متى تُحوِّلين وجهكِ نحو الشَّرق، أيتها الحرية؟ متى يمتزجُ نورُكِ بنورِ هذا البدر الباهر، فيدورُ معه حول الأرض، ويضيء ظلمات كل شعب مظلوم؟ أيتأتَّى أن يرى المستقبل تمثالًا للحرية بجانب الأهرام؟ أيمكن أن نرى لكِ في بحر الروم مثيلًا؟ أممكن أن يُولَد لكِ أخوات في الدردنيل، وفي بحر الهند، وفي خليج الصين؟ أيتها الحرية، متى تدورين مع البدر حول الأرض لتُنيري ظلمات الشعوب المقيَّدة والأمم المستعبدة؟

وأنتِ أيتها البواخر المُقِلة إلى أوروبا ومِصر وعدن والهند منسوجات «نوانكلند» وقطن «فرجنيا» وحديد «بنسلفانيا» وقمح «تكساس» وخشب «فرمنت»، خُذي معكِ إلى بحر الروم وبحر الهند والبحر الأحمر والبحر المتوسط بعض موجات من هذه الأمواج التي تغسل أبدًا قدمي تمثال الحرية، خُذي معكِ ولو زجاجة صغيرة من هذا الماء المقدس، ورُشِّي منها سواحل مِصر وسوريا وفلسطين وأرمينيا والأناضول، وإلى كلِّ جزيرةٍ تمرُّين بها، وكلِّ بلادٍ تقصدينها، وكل شعبٍ تُحيي سواريكِ قباب كنائسه، ومآذن جوامعه. احملي سلام هذه الآلهة التي تُنيرُ الآن طريقكِ في الخروج من العالم الجديد، وتُوكِل بكِ ما لها في السماء من شقيقات باهرات، احملي إلى الشرق شيئًا من نشاط الغرب، وعُودي إلى الغرب بشيءٍ من تقاعد الشرق، احملي إلى الهند بالة من حكمة الأميركان العملية، وعُودي إلى نيويورك ببضعة أكياس من بُذور الفلسفة الهندية، اقذفي على مِصر وسوريا بفيضٍ من ثمار العلوم الهندسية، واقفلي إلى هذه البلاد بفيضٍ من المكارم العربية. أيتها البواخر الآيبة، حيي عن جسر بروكلن خرائب تَدمُر وقلعة بعلبك، وأَقْرِئي أهرامَ مِصر سلام هذه المعالم الشاهقة المشعشعة بالكهرباء، سِيري أيتها السفن بسلام، وارجعي بسلام.

•••

وقد شاهدت الآن ثلاثة مناظر عظيمة لا أقدرُ أن أنساها حياتي. لا أتناساها لأنها عندي أشبه برموز جميلة لدعائم الحياة الرُّوحية الثلاث، هي مراحل في رحلتي الفكرية التي باشرتها منذُ خمس سنين أو من حين وُلِدْتُ. نعم، إنِّي طفلٌ في العالم الرُّوحي، إِنِّي سائحٌ في مروج النَّفس وأوديتها، أمامي مسافة طويلة يجب أن أجتازها، وتحتي هوة هائلة يجب أن أسبر غورها، وفوقي فضاء غير متناهٍ ينبغي لي أن أتمتع بجماله، وحولي من المروج والجبال والأنهُر والبحار ما يَشغل معظم وقتي لو عشت ألف عام.

أمَّا المناظر الثلاثة التي تمتَّع بها طرفي حتى الآن فتركَتْ أثرًا عظيمًا في نفسي، فهي: لبنان وسواحله من ذروة جبل صنين، وباريز من على برج إيفل، ونيويورك في الليل من مُنتصف جسر بروكلن، فالأوَّل إنما هو رمز الطبيعة، والثاني رمز الفنون الجميلة، والثالث رمز الكد والاجتهاد. وهذي هي دعائم الحياة الرُّوحية الثلاث؛ فالمنظر الأول صنعة الله، والمنظران الآخران صنعة الإنسان.

المنظر الأول أو الطبيعة هو منبع النفحات الإلهية والإلهامات الروحية.

والمنظر الثاني أو باريز هو منبع التفنن في الصناعة على الإطلاق.

والمنظر الثالث المنبسط أمامي الآن إنما هو عنوان الجهاد والجَلَد والثبات والنجاح، فإذا كنت، أيها القارئ، شاعرًا أو مُصوِّرًا أو كاتبًا، بل لو كنت صبَّاغًا أو دبَّاغًا أو إسكافًا، وجِّه نظرك إلى الطبيعة أولًا تستمد منها الإلهام الإلهي، وعنها تقتبسُ الألوان البديعة، والمناظر الجميلة، والأشكال الأنيقة، والنغمات السماوية، وعرِّج على باريز ثانيًا تتعلَّم منها دقَّة الصناعة، ولطافة الأسلوب، وجمال الفنون، وغرابة الإبداع، وسِرُّ الابتكار، وانزل على نيويورك ثالثًا تأخذُ منها الاجتهاد والجلادة، وتتعلم من أهلها الاستقلال في العمل، والثبات بعد الفشل.

الطبيعة، التفنن، الاجتهاد، هذي هي أُسُّ الأعمال الفكرية، هذي هي دعائم الحياة الروحية.

لبنان، باريز، نيويورك: في الأولى روحي، وفي الثانية قلبي، وفي الثالثة الآن جسدي.

(٥) فلتكمل مشيئة الله١

في اليوم الثالث اجتمع الحصان والبغل والحمار في ديوان التفتيش، وأمروا بإحضار الثعلب المُتَّهم بالكفر والإلحاد إلى المجلس؛ كي يسمع الحكم الذي أصدره القضاة الثلاثة، وكانت قضيته قد اشتهرت، فسمع بها القاصي والدَّاني من جميع الحيوانات، فحضر منهم عددٌ غفيرٌ إلى المجلس ليروا الثعلب المتَّهم، ويسمعوا تلاوة الحكم المُخيف.

ولما دخل الثعلب المجلس مُكبَّلًا بالحديد، ومُحاطًا باثنين من الخفر، أخذت الحيوانات في اللبيط والصفير والنهيق، ولم يكن المتفرِّج ليسمع إِلا كلمات يفهم منها الصلب والشنق والحريق: فليمُت الثعلب، فلتسقط الكهربائية، فليحي المجلس.

الحصان: يأمركم المجلس بالنِّظام، وينهاكم عن المظاهرات والصفير والنهيق، اسمعوا قراءة الحُكم الذي أبرزه المجلس بصوتٍ حيٍّ.

فاستتبَّ عند ذلك السكوت، وبدأ الكاتب بقراءة ما يلي:

قد ظهر للمجلس وتحقَّق للمستنطقين: أولًا: أنَّ للثعلب اعتقادات خصوصية شريرة تُخالف تعاليم جمعيتنا المقدسة، وتُناقِضُ شريعةَ الله التي أقامنا عليها أُمناء، وأوصانا بها، وهذا ما ندعوه كفرًا وإلحادًا، وقد تبيَّن ثانيًا: أنَّ المتهم لم يُبرهن عن اعتقاداته الفاسدة إلا بأسلوب التهكُّم والازدراء والاستخفاف؛ إذ كان يتكلم عن القضايا المقدَّسة بالهزء والسخرية. وهذا ما نسميه تجديفًا. وثالثًا: أنَّه لم يُجاوب على سؤالات القضاة إلا بعد أن سيم العذاب الاعتيادي وغير الاعتيادي. وهذا ما نعتبره تمرُّدًا وتكبُّرًا. ورابعًا: أنكر على القضاة السلطة، واحتقرهم وأهانهم بإلقائه عليهم سؤالات ليس من شأنه إلقاؤها. وهذا ما نعده وقاحةً وفضولًا. ولذلك قد التأم المجلس في جلسةٍ سِريَّةٍ، وتفاوض الأعضاء في أمر المتهم، وأبرموا الحكم الآتي: بقوة السلطة الروحية المُعطاة لنا — نحنُ أعضاء مجلس التَّفتيش — نحكم على الثعلب أولًا: بالفضول والوقاحة، وثانيًا: بالتمرد والعصيان، وثالثًا: بالتجديف، ورابعًا: بالكفر والهرطقة والإلحاد. وعقابه على كلِّ واحدة من هذه الجرائم هو كما يلي: قصاص الذنب الأوَّل: هو أن تُغصب من الملحد كل أملاكه وتُضافُ إلى أملاك الجمعية المقدسة، وعقاب الذنب الثاني: أن يبقى تحت الحرم سنة كاملة، والثالث: أن يُلقى في السجن خمس سنوات، وأما عقاب الذنب الرابع فهو: الإعدام بالنار. وقد حركت أعضاء المجلس عاطفة الشفقة والرحمة، فعزموا على نقض الحكم بالإعدام إذا أنكر المتهم اعتقاداته الخبيثة الشيطانية المُضِرَّة، واعترف بشرائعنا، واعتذر أمام المجلس عن كلِّ كلمةٍ وقحةٍ فاهَ بها أثناء المحاكمة. أما الذنوب الثلاثة الأخرى فعقاب المتهم عليها ثابت — كما ذكرنا — تأديبًا للكافرين المارقين، والمتمردين المجدفين. ويسألُ المجلس الثعلب أمام الجمع عمَّا إذا كان يريدُ أن يرجع عن غيِّهِ، ويُكفِّر عن ذنوبه بإنكاره كل اعتقاداته الخبيثة، ويعترف بتعاليمنا كي يُعفَى عنه من الموت. ولمَّا انتهى الكاتب من قراءة الحُكم، عاد الحصان إلى السؤال قائلًا: هل تريدُ أن تفعل ذلك؟ فأجاب الثعلب بدون تردُّدٍ: هل تريدون أن أشتري حياتي بضميري؟ إنِّي لا أرى نسبة بين الثمن والمُشترى، اطلبوا مني غير هذا.

الحصان : تَذكَّر أنَّك رب عائلة؛ فلك زوجة وأولاد يشقُّ — لا شك — عليك فِراقهم، ألا تعرف بأنَّك تجلب إلى عائلتك التعاسة والشقاء إذا أنت لم تُنكر اعتقاداتك الخبيثة؟ ألا تعرف بأنَّك مديون لأولئك الصغار أولادك، فلا تكُن لهم مثلًا رديئًا وقدوة قبيحة؟ تأمَّل قليلًا، أعِد نظرك على هذه المسائل الخطيرة، لا تكُن أحمق متمرِّدًا؛ إذ إن هذه الصفات السافلة لا تُكسبك شيئًا، وشكاسة طباعك تُفضي بك إلى النَّار، فنسألك الآن ثانيةً: هل تريدُ أن تُنكر اعتقاداتك، وتعتذر عن وقاحتك وتجديفك، وترتد إلى اعتقادك الأصلي الذي نشأت عليه وورثته عن أجدادك؟
الثعلب : أنتم أيها القضاة المُحترمون الأفاضل أحوج في رأيي إلى الإنكار والاهتداء مني، فأنتم في عيني كما أنا في أعيُنكم، فإذا طلبتم منِّي إنكار اعتقادي تجعلون لي حقًّا بأن أطلب منكم إنكار اعتقادكم، وإذا تركتموني وشأني أترككم وشأنكم، فَلِمَ تحكمون عليَّ بالإعدام وأنا لم أرتكب قط ذنبًا؟ لماذا أعطاني إلهي عقلًا، ووهبني قوَّتَيْ الحكم والتمييز؟ ألكي أقتلهما وأعيش من أجل بطني فقط؟ أيُعطي الله العصفور جناحين ثم يُهلكه إذا طار بهما؟ أيعطيني عقلًا ثم يُهلكني إذا استخدمته للافتكار والتأمُّل؟ لا شكَّ في أنَّ اعتقادي هو أرسخ في قلبي من اعتقادكم في قلوبكم، ومتى أنكرتُ وجود الخالق أُنكرُ إذ ذاك اعتقادي، وأقرُّ لكم بتعاليمكم الخرافية، فأنتم أكرهتموني فاعترفت بما لا أعترف به إلا بعد العذاب الأليم؛ اضطررتموني إلى إنكار وجود الله وأنا لا أُنكر إلا إِلهكم، أجبرتموني على إنكار الكتاب بكامله، وأنا لا أستهجن إلا ما جاء فيه من الخرافات والخزعبلات، تقولون: إنِّي أُنكر العجائب، وأنا لم أُنكر ولم أُثبت، ولكن لكم الأمر وعليَّ الطاعة. أما ما تطلبونه الآن، فهو أكثر مما أطلبه من نفسي. لا، يا أسيادي، إنَّ الحياة التي تريدون قتلها بَخْسة جدًّا بالنسبة إلى الضمير الذي يحيا سعيدًا شريفًا طاهرًا. إنَّ هذا الجسد لا يُساوي ما تطلبونه منِّي أنتم؛ تطلبون قتل ضميري ليبقى جسدي حيًّا، وما نفع الجسد بلا ضمير؟ فأنا أُفضِّل أن أرى نفسي في النار المستعرة على أن أرى ضميري مُكبَّلًا بسلاسل العبودية. خُذوا جسدي واتركوا لي ضميري.
الحمار : أيها الثعلب المسكين، اسمع صراخ زوجتك، ترأَّف على أولادك، أشفِقْ على نفسك! إن الحياة عزيزة، والهلاك الأبدي فظيع مُرعب؛ فاحفظ الأولى، واتَّقِ الثاني، احفظ حياتك بكلمة واحدة، أنكِرْ اعتقاداتك وعِشْ مع زوجتك وأولادك سعيدًا.
الثعلب : لا تزدني من هذه الإرشادات؛ فقد عزمت على أن أموت من أجل اعتقادي كما مات الأسد على الصليب من أجل دعوته، خُذُوني إلى النَّار وألقوني فيها؛ فأستريحُ من هذه الحياة وأفرح بالآخرة.
الحصان : إذن أنت تأبى الإنكار وترفض الاهتداء، فلا حول ولا … فالمجلس إذن يبعث بك تحت الحفظ إلى أصحاب السلطة المدنية ليُنفِذوا فيك حكمه المبرم.
وتبوَّأ عندئذٍ الحصان كرسيه، وأمر الكاتب بأن يأخُذ قِرطاسًا وقلمًا ويكتبُ ما يلي:

إلى الثور قاضي قضاة الحكومة المدنية

إنَّ مفتاح السماء يستنجدُ سيف الدولة؛ فالثعلب الواصل إليكم قد حُوكم في مجلسنا على اعتقاداته الشخصية الخبيثة المُضرَّة بتعاليمنا، ووُجِدَ بعد المخابرة والاستنطاق أنه ارتكب الذنوب الآتية: أولًا: الوقاحة والاستهزاء، ثانيًا: التمرد والمكابرة، ثالثًا: التجديف، ورابعًا: الكُفر والهرطقة والإلحاد. وقد رفض أن يهتدي ويُنكر اعتقاداته الشَّيطانية مُكفِّرًا بذلك عن ذنوبه القبيحة، وفَضَّلَ أن يُنفَّذ فيه حكم المجلس، الذي هو — كما تعلمون — الإعدام في النار. فأملنا أن تستخدموا القوة المُعطاة لكم لتنفيذ حكم المجلس، وفي كل الأحوال: إنَّ مفتاح السماء يستنجدُ سيف الدولة.

الداعون لحضرتكم
الحصان، الحمار، البغل
أعضاء مجلس التفتيش

ولمَّا فرغ الكاتب من كتابة الرسالة قدَّمها إلى المجلس، فوقَّع عليها كُلٌّ منهم بإمضائه، وسلَّمها الحصانُ مختومةً إلى الخفر قائلًا: خُذ الثعلب تحت الحفظ إلى السجن، وسلِّم هذه الرسالة إلى صاحبها؛ فنحن — والحمد لله — قد تمَّمنا وظيفتنا، ونقدر أن نقول براحةٍ وسرورٍ وضميرٍ مُستقيم: إنَّنا أبرياء من دم هذا الصديق؛ فلتكمل مشيئة الله.

الحمار : وسيرى الثعالب أي منقلب ينقلبون.
البغل : فلتكمل مشيئة الله.

وارفضَّ المجلس عندئذٍ، وخرج جميع الحيوانات مُتهلِّلين فَرِحِين وهم ينتظرون أن يُشاهدوا عن قريب إحراق الكافر المسكين.

أمَّا الثور فإنه عندما وصله الكتاب فضَّه وقرأه، ثم صادق عليه وناوله للجلَّاد ليعمل بموجبه، وأعطى الثعلب فرصة عشرة أيام ليتفكَّر في أمره؛ لعلَّه يرتدُّ عن غيِّه ويُنكر اعتقاده.

وكان الثور يذهب كل يوم إلى الثعلب في سجنه ويُحاوِلُ إقناعه، ولكنه لم يظفر بأرب؛ إذ إن المحكوم عليه بقي مُصِرًّا على عناده، متشبِّثًا بآرائه، ومُحافظًا على ما كانت تدعوه إليه استقامة ضميره التي أفضت به إلى الموت احتراقًا. وبعد أن مضت المُدَّة المعينة وجاء صُبح اليوم الحادي عشر، ذهب الجلاد مع أعوانه إلى السَّاحة العمومية في المدينة، وأضرموا هنالك نارًا متأجِّجة، وجاءوا بالمحكوم عليه راسفًا بسلاسل الحديد، مُحاطًا بالخفر، وأوقفوه على دكَّةٍ عاليةٍ تُشرِفُ على النار المضطرمة بالقرب منها، وكانت الحيوانات قد ازدحمت في السَّاحة العمومية، ومن جملتهم الحصان والحمار والبغل، الذين أتوا ليروا هذا المشهد المرعب، ويتلذَّذوا بثمرة أعمالهم الصالحة.

ولم يكن بين كل هذه الخلائق المحتشدة ثعلب واحد؛ لأن الحكومة كانت قد اتخذت كل الاحتياطات لمنع المظاهرات الثعلبية، وأعلنت أنها تستخدم القوة في هذا اليوم لقمع كل عنيدٍ مُكابرٍ يُحاول أن يُثير الخواطر، ويدسَّ الدسائس؛ فبقيت الثعالب في بيوتها، واحتملت المصيبة بقلبٍ مملوءٍ من الخوف والحنق.

وكان السرور والابتهاج يشملان كل الجماهير المحتشدة؛ إذ إن أكثر الحيوانات كانوا يكرهون الثعالب الكافرة، ويعتقدون بأن وجودهم مضرٌّ بالصالح العمومي، فشكروا المجلس الذي أصدر الحكم، والقاضي الذي صادق عليه، وجاءوا الآن ليُسْدُوا شكرهم الجزيل إلى الجلاد الذي يُنفِّذه.

فوقف إذ ذاك الجلاد بالقرب من الثعلب على الشرفة، وحلق له شعره، وعصب عينيه بمنديل وخاطبه قائلًا: أسألك لآخر مرة إن كنت تريد أن تنكر اعتقادك وترتد عن غيِّك مهتديًا إلى الصواب.

فرفع الثعلب يده إلى السماء وقال: اسْألْه عزَّ وجل ولا تَسْألْني.

الجلاد : لا تريد أن تنكر اعتقادك إذن!
الثعلب : إنِّي أموت لأن الحيوانات نيام، أما أنتم فستموتون لأنهم سيكونون أيقاظًا.

إذن بالسلطة المُعطاة لي من الثور، قاضي القضاة، وبموجب الأمر الذي بيدي، أرمي هذا الثعلب الكافر في النار لتَطهُر جامعتنا، وتُنقَّى آدابنا من سفاهات الزندقة التي تشوِّهها، وعند ذلك رجع الجلاد إِلى الوراء، وأخذ الحبل الموصول باللوح وشدَّ به، فانسحب اللوح من تحت أقدام الثعلب، ووقع في النار المستعرة تحته، فصرخ إذ ذاك الجلاد قائلًا: فلتكمل مشيئة الله.

فكان لصرخته صدًى تصاعد من بين الجمع الذي هتف مرددًا: فلتكمل مشيئة الله، فليمُت كل كافر، فليحي البغل والحمار والحصان.

أمَّا الثعلب فلمَّا انسحب من تحت أقدامه اللوح، ووقع في جوف النار المستعرة صرخ صرخةً مُرعبةً هائلةً، وكان لم يزل مالكًا على عقله عندما هتف الجمع المحتشد: فلتكمل مشيئة الله. فحركته عواطفه الفطرية لتذكُّر خالقه، فهتف معهم بصوتٍ يخنق اللهيب: فلتكمل مشيئة الله.

وبعد مضي برهة من الزمن أصبح الثعلب رمادًا، فسُرَّت الحيوانات، وصعد بعدئذٍ الحمار والبغل والحصان إلى الشُّرفة ليشكروا الله، ويتوسَّلُوا إلى العِزَّة الإلهية كي تُساعدهم دائمًا على استئصال شأفة كل كافرٍ مُلحدٍ.

ولم يكد الحصان يلفظ اسم الخالق حتى حدث في الجو اضطراب عظيم؛ فاكفهرت السماء، وهطلت الأمطار، وتساقط البَرَد كالحجارة، وجالت ريح عاصفة في أرجاء الفضاء تجرُّ وراءها البرق والصواعق، وبقي هذا الحال مُدَّة نصف ساعة، فوقف الجميع مُرتعشين خائفين، ثمَّ انقشعت الغيوم وظهر من ورائها الأسد راكبًا أوتومبيلًا كبيرًا، فوقف فيه وخاطب الحصان والحمار والبغل قائلًا: «أطلب رحمة وليس ضحية، قلتُ لكم: حبوا أعداءكم، قلت لكم: لا تدينوا لئلا تُدانوا، قلت لكم: مثلما تريدون أن يفعل الغير بكم افعلوا أنتم بهم أيضًا، قلت لكم: لا تقتلوا. بأي جسارة ترتكبون هذه الجرائم الفظيعة، ومن ثمَّ تقولون إنها من أجلي؟ أي متى قلت اذبحوا واحرقوا إخوانكم من أجلي؟ بأي كتابٍ قُلتُ عذِّبُوهم واطردوهم واحرقوهم واسجنوهم من أجلي؟ أما والحق أقول لكم: إنَّكم دنَّستم اسمي، وافتريتم عليَّ، وأفسدتم تعاليمي. وَيْلٌ لكم من العقاب الشديد الصارم! وَيْلٌ لكم حين تقفون يوم الدين لتجاوبوا عن كل جريمة ترتكبونها باسمي من أجل مطامعكم وغاياتكم الذاتية!»

فتشجع عند ذلك الحمار ونفض عن جسمه غبار الرعشة، وخاطب الأسد بصوت خافت قائلًا: ألم تقل لنا: «أمَّا أعدائي الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم ها هنا واذبحوهم قُدَّامي.»

فصرخ الأسد إذ ذاك صرخةً مُرعبةً قائلًا: هذا كذبٌ باسمي وافتراء عليَّ، فأنتم أفسدتم تعاليمي ونقَّحتموها على ما يُوافق أذواقكم، ويساعدكم على نَيل مطامعكم، بأي جسارةٍ تُضيفون عليها هذه الآيات الشيطانية؟ فكيف أقول لكم: حبوا أعداءكم، ثم أناقضُ نفسي بنفسي وآمركم بذبح أعدائي؟ الحقُّ أقولُ لكم: إنَّ جرائمكم عديدة، ووَيْلٌ لكم في الآخرة! فاذهبوا من أمامي، ولا تتجاسروا على تكرير هذه الأعمال الفظيعة.»

وتلبدَّت إذ ذاك السماء بالغيوم، وغاب الأسد في أوتومبيله عن الأبصار.

أمَّا الحصان والبغل والحمار، فذهبوا إلى إصطبلهم مُنكِّسين وجوههم خاسئين، وبينما هم سائرون ذات يومٍ على طريق السكة الحديدية إذ صفَّر قطار العلم القائد عربات البخار الكهربائية والاختراعات، ومرَّ عليهم جميعًا فسحقهم سحقًا، وتطايرت رءوسهم وبقايا أجسادهم في الجو، وتشتتت أعضاؤهم المتقطعة على طريق التمدن الحديث.

(٦) بذور للزارعين

إنَّ حسنة واحدة تأتيها لخيرٌ من ليالٍ بالصلاة تُحييها. إنَّ الأمين وإن كان كنودًا لخيرٌ من المدغل وإن كان هجودًا.

إنَّ التعبد لفي الصالحات، لا في تمتمة الصلوات.

ورُبَّ صِغارٍ يلعبون أصدق إيمانًا من شيوخٍ يتورَّعُون.

ورُبَّ مُحسنة في موبقات الوجود أصحُّ دينًا من راهبات السجود.

ورُبَّ كافرٍ عمَّالٍ للخير أحبُّ إلى الله من راهبٍ في الدَّير.

السَّالكون عملًا وفكرًا خيرٌ من السالكين ذِكرًا.

أنت السالك يا مَنْ تُطابق بين أقوالك وأعمالك.

الندامة حُبًّا بالغفران كالإحسان حُبًّا بالشكران.

وقد قال بلزاك: «الندامة الشهرية إنما هي خباثة أبدية.»

المواساة خير العبادات، وممرِّضة تضمد جرح الشِّرير خيرٌ ممن يُصلُّون من أجله.

إنَّ روائح الأدوية عند من أحبت أن تخدم الله لأذكى من رائحة البخور، والنور الضئيل المُنبعث من عين المريض الذَّابلة لأجمل من نور الشموع في الهيكل.

بالأعمال لنخدم الله، ولنُسبِّحه بالأعمال.

•••

إذا تَخَاصَمَ من أصدقائك اثنان لا تسبق في الإصلاح بينهما الزمان، فهو للعداء خير دواء، وإنَّ عاقبة الإسراع في وصل حبل الوداد هي غالبًا كعاقبة الجرح المندمل على فساد.

•••

شرُّ الأصدقاءِ صديقٌ لا يعتبرك من أكفائه؛ فإن ظنَّ نفسه أكبر منك يُهينك في حُبِّه وتَقلُّبِه، وإن كان أصغر منك يغيظك في تودُّدِهِ وتحبُّبه.

من نهج لحاجاته المادية وغاياته الدنيوية منهج التديُّن والورع الكاذب والرِّياء والتنطُّع، كان بعيدًا عن الدِّين، وعن الله، بُعد هذه الأرض عن أبعد السيارات من الشمس.

الدِّين الحقيقي ما أنار القلب من الإنسان والضمير، فيهديه في الحياةِ الدُّنيا خير طريقٍ إلى خير الأبواب في الآخرة، ومتى كان ضمير جاري كنور الشمس حيًّا نقيًّا، وقلبه كوردةٍ تفتح في الفجر لتستقبل ندى السماء، لا فرق إذ ذاك عندي إن ذَكَرَ مع الدراويش، أو سَجَدَ مع اليسوعيين، أو اغتسل في نهر القنج مع البوذيين؛ فهو المؤمن الحقيقي، هو الصَّادِقُ في دينه، هو رجل الله الأمين.

•••

من أجلِّ ما قرأته في الكُتُبِ المُقدسة فاتحة القرآن؛ فهي صلاةٌ جديرةٌ بأن يردِّدَها بقلبٍ حيٍّ كلُّ إنسانٍ كل يومٍ في السَّنَةِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. أي والله! فإن الإنسان وإن كان من أرقى البريطانيين، أو من أرقى العُثمانيين، إن كان من باريز، أو كان من نيويورك، أو من أطنة، أو من داهومي، هو في أشدِّ حاجةٍ إلى الهداية اليوم ممَّا كان في أيَّام النبي داود، أو في عهد عاد وثمود.

•••

قُل تبارك السِرُّ الذي فيَّ ولا تحفل بضجيج الناس وضوضى الأمم. عِش قنوعًا هادئًا ساكتًا مُعتزلًا، وواظب على نظافة العقل والقلب كما تُواظب على نظافة الجسد، فلا تكُن من الخاسرين، تلاهُ في العمل والنمو عن عقبات الحياة وهمومها، وبكلمةٍ وجيزةٍ: كُنْ مُثمرًا ولو بين القتاد، فلا تحزن يوم يجيئك ملك الحصاد.

•••

خير الكُتب وأنفسها كتاب لا يتركني بعد أن أُطالعه في الحال التي ألفتها، كتاب يحرِّكُ فيَّ عاطفة شريفة جديدة، أو قصدًا كبيرًا جديدًا، أو فكرًا ساميًا جديدًا، كتابٌ يزحزحني من مكاني، أو يدفعني لأُزحزح من هُم حولي، كتابٌ يُفيقني من سباتي العميق، أو يَنهض بي من حمأة الخمول، أو يَهديني إلى طريقةٍ أحلُّ بها عُقدة من عُقَدِ الحياةِ، ولكن مثل هذا الكتاب على كثرة ما تُصدره المطابع الحُرَّة اليوم من القصص والروايات أصبح كالامرأةِ الفاضلة التي ينشدها سيدنا سليمان.

•••

كليمبروتوس اليوناني رمى بنفسه في البحر بعد أن انتهى من قراءة كتاب أفلاطون في خلود النفس، وفي فعلته هذه الخارقة ثناءٌ عظيمٌ على المؤلف وعلى القارِئ معًا؛ إذ لو لم يقنع كليمبروتوس بحجة أفلاطون لما كان فادى بحياته ليبرهن عن إيمانه، ولو لم يعتقد أفلاطون بما كتبه لما استطاع أن يُفحم كليمبروتوس.

فمثل كتابه هذا يُزحزح حقًّا، ولكنه يُزحزح جدًّا، يزحزح القارئ دُفعة واحدة عن هذا العالم، فهو إذن لا ينفع كثيرًا. ومن حظِّنَا أنَّه لم يُترجم إلى اللغة العربية، على أنَّنِي وإن كنتُ أشكُّ في صِحَّةِ عقل كليمبروتوس لا أشكُّ قط في شجاعته، التي حملته على أن يعمل بما اعتقده صحيحًا. فما قولك بالمسيحيين والمسلمين واليهود الذين يعتقدون — أو في الأقل يقولون — بالخلود، ويبكون أمواتهم كما لو كانت أنفسهم أيضًا للدود؟ فإن كنَّا في اعتقادنا صادقين، إن كنَّا واثقين — كأفلاطون وكليمبروتوس — أنَّ النَّفس لا تموتُ، ينبغي أن نفرح في الأقلِّ ساعة تُطلق من أسر الجسد، على أنَّنِي لا أسألكم أن تفرحوا، ولا أُسألكم أن ترموا بأنفسكم في البحر لتُبرهنوا عن إيمانكم العجيب، ولكن لا تصمون الأحياء ساعة الموت بالعويل والنحيب.

•••

الحكيم لا يخشى الموت؛ لعلمه بأنَّ الموت بعيدٌ عن الإنسانِ ما زال حيًّا، ومتى مات الإنسان يصبح بعيدًا عن الموت.

خيرُ الإحسان وأجمله ما جاد به القلب والعقل معًا، وما بقي ففيه الكذب والادعاء، جُد عليَّ بشيءٍ من القوتِ فآكله، وبعد قليلٍ أصبح كما كنت قبل إحسانك، ففُتاتك لا تُغيِّرُ في نفسي شيئًا، ولكن هات منك فكرًا ساميًا جميلًا، فيتحلل في القلب والدماغ، ويُخالط النفس مني؛ فترثه عنِّي الأجيال. في كلِّ قوَّةٍ أدبيَّةٍ — أي عقلية روحية — شيءٌ من الخير الخالص النَّقي، وإذا كان فيك يا أخي شيءٌ من هذه القوة الأدبية؛ فهذا الخير يصدرُ عنك إِن شئت أو لم تشأ، وينفعني أنا وإن شئت أو لم أشأ.

•••

مِنَ النَّاسِ من يُعجَبُ ببعضِ أبطال التَّاريخ ليحذوا حذوهم في السَّيئات لا في الحسنات، فينتحل لحماقته من شذوذهم الأعذار، ويتخذ من عيوبهم مثالًا لعيوبه.

(٧) الجوع

إذا نضبت في البلاد الأنهار، واستحالت السماء نحاسًا حاميًا تُرسل أشعة شمسها نقمةً وانتقامًا، فتحرق الأشجار، وتأكل النبات، وتجفِّفُ الأرض، وتجعلُ الحقول كالصحراء، يحدث في النَّاس مجاعة لا يد جانية فيها للإنسان.

وإذا غزا الجراد زرع أُمَّةٍ ومُروجها، يلتهِمُ الأخضَرَ واليابس كشمس النفود في الصيف، فلا يترك وراءه شيئًا يصلح للغذاء، يحدث في البلاد مجاعة لا يد أثيمة فيها للإنسان.

وإذا ألقى الوباء في أمَّة عصاه، وشرع يفتك فيها فتكًا ذريعًا، أوجب عليها النطاق الصحي فأبعدها من خيرات الأرض خارج تخومها، فقد تُجهِز عليها مجاعة لا يد جانية فيها للإنسان.

وإذا كانت أمة في حرب، فحاصرها العدو وحبس عنها الزاد، فأبت التَّسليم صاغرة، فقد تهلك جُوعًا ولا ذنب في ذلك على العدو أو عليها.

أما إذا وطأ الجيش المُحاصِرُ أرضها، وأبت البقية الباقية الرضوخ والاستكانة ملجة في العصيان، فقد يتَّخِذُ الفاتح التجويع طريقة للاستيلاء التَّام، وقد يكون الذنب في ذلك عليها.

ولكن أُمَّة طائعة أولياء أمرها، أُمَّة مُخلدة إلى السَّكينة، أمَّة بريئة طاهرة الذيل، تربأ على الضيم صبورة، سكوتة، جلودة، تُربتها في الأقل لم تزل جيدة، أنهارها لم تزل جارية، سماؤها لم تزل مُقيمة على عهودها تُرسلُ غيثها خيرًا شتاءً ربيعًا، في مثل هذه الأُمَّة لا تحدُثُ مجاعة إلا لأحد أمرين: لجهلٍ فيها، أو لجَورٍ في أولياء أمرها.

والمجاعة التي لا يد فيها للطبيعة أو للقضاء أو لله، إنما هي جناية الإنسان الكبرى على أخيه الإنسان.

إنَّ خيرات الأرض لتكفي أبناء الأرض، وإنَّ التكافل والتعاون لمن أوليَّات الوجود الإنساني الحضري منه والمدني، فإذا أغفلنا الآن البحث في أسباب المجاعة، ونظرنا في نتائجها فقط، تحتَّمَ علينا النَّظرُ أيضًا في الطَّرائق الفعالة لإزالتها، ولإزالتها سريعًا.

أمَّة صغيرة في بُقعةٍ قصيَّةٍ من الأرضِ تتضوَّرُ اليوم جوعًا، وأمَّة كبيرة عزيزة الشأن، عظيمة الصولة، يفيض عنها من خيراتها، أليس من العدل إذن — بل من الواجب المُقدَّس — أن نأخذُ ممَّا فاض عن هذه لنُطعم تلك الجائعة؟ نعم، وما يصحُّ في الأمم يصحُّ في الأفراد. وهذا التعديل في خيرات الأرض عدلٌ لا فضل فيه لمن أعطى، ولا شُكر عليه ممن قَبِلَ العطاء.

الأمَّة المنكوبة أمتنا أيها الناس، الجياع فيها إخواننا، وإنَّ الفائض عنَّا اليوم لا حقَّ لنا به البتَّة، لا والله، ليس ما فاض من خيرنا اليوم لنا، بل هو للجياع في بلادنا، ولو كنتُ من أُولِي السيادة والسلطان لأخذتُ اليوم من شبعان لأُطعم الجائع، لفرضتُ على كلِّ سوريٍّ مِقدارًا من المال يدفعه راضيًا أو مُكرهًا.

وماذا يضرُّ السُّوري لو دفع اليوم دولارًا واحدًا لإغاثة إخوانه في الوطن؟ دولارًا واحدًا على كلِّ سوريٍّ، الفقيرُ والغنيُّ سواءٌ.

إنِّي من أصحاب الرأي لا أصحاب السيادة؛ لذلك لا أستطيعُ أن أضرب ضريبة — هي حق والله — على كلِّ سوري، ولكني عملت بطريقتي وبحقِّي، فدعوت إخواني في المهجر في مقالٍ سبق إلى الصوم يومًا واحدًا؛ يدفعون ما يُوفِّرون في هذا اليوم إعانة للمنكوبين، وقُلتُ: إنَّنا إذا خَبِرنا الجوع نرثى لحال الجائع، فنُسرع لإغاثته.

وكي لا يُقال: إني أُبشِّر بما لا أفعلُ بدأتُ بنفسي عاملًا برأيي، فإنِّي محاسب لقلبي إذا مال، وللساني إذا قال؛ لذلك صُمت عن الأكل والشرب والتدخين يومين وصالًا، ودفعتُ نفقة اليومين إلى اللجنة، وجئتُ في هذا المقال أُطلِع القارئ على ما خَبِرته من نتائج الصوم ومفعول الجوع.

فإذا كانت كلمتي في الصوم ذهبت أدراج الرياح، عسى أن يُؤثِّر عملي، فيحمل إخواني في المهجر على الاقتداء بي.

من الساعة السابعة مساءً حين بدأت أصوم حتى الساعة الثالثة بعد ظهر اليوم الثاني لم أشعر قط بالجوع، ولكنني أحسست بطنين في أُذني، وبتجفُّفٍ في لساني، وبشيءٍ من المرَّةِ في فمي، على أنِّي في الساعة السابعة، أي بعد مرور أربع وعشرين ساعة، بدأت أشعر نوعًا بالجوع وبالعطش وبشيءٍ من الدوار.

كنتُ أصيل هذا النهار أتمشَّى وصديق لي في أحد شوارع المدينة، فمررنا بمطعمٍ صُفَّت في شباكه أنواع الخبز والكعك والحلويات، فوقفتُ أمام الزُّجاج الحائل دوني وتلك الجنَّة ناسيًا ذاتي، أُمثِّل في نفسي ولدًا فقيرًا جائعًا لا فِلس في يَدِهِ يفثأ به ثورة جوعه. اخترقت الزُّجاج عيناي وما فيهما من نهمةٍ إلى الأكل، فتحلَّب اللعاب في فمي، فغصصت بمُرِّ مذاقه، وترغرغت عيناي بالدموع. هذا وأنا لا أشعر حقًّا بمضض الأَلم في معدة فارغة، وقلبٍ يقتر شواء؛ لأني أجوع مُختارًا، والمسكين الذي صورته أمامي، بل أمام تلك المآكل المصفوفة وراء الزجاج، يجوع مُكرهًا. إِنَّ جوعي ينتهي ساعة أُريد، وأمَّا جوعه فلا يزُولُ إلا ساعة يتصدَّق عليه أحدُ المحسنين.

فقُلتُ في نفسي: إنَّ حالة اجتماعية تُوجِدُ مثل هذا المسكين الجائع لحالة ذميمة، مُنكَرة، فاسدة، جهنمية، وإذا كانت كذلك فكيف بها والمسئولون عنها يُجوِّعُون عمدًا أُمَّة بأسرها؟

لقد شاركتك جوعك يا أخي، فتعالَ أُقاسمك كسرتي؛ عَلَّه — تَعالَى — يُبعدني من ذُلِّ الحاجة والاستجداء، الذي هو أَشدُّ ويلًا من مضض الألم الذي يُولده الجوع. ألا فليردد كل سوري هذا الكلام، هذا الابتهال، وليُمثِّل حول مائدته الفاخرة صبيًّا فقيرًا عضَّه الجوع، أنهكه، أقعده، أضناه، أورثه الهزال والخبل، فيُسارِعُ إلى إغاثته.

ومن غريبِ أمر الصَّوم أنَّ صاحبه لا يشعر بالجوع إلا في السَّاعات التي اعتاد أن يأكل فيها؛ فإنِّي بعد أن أتت السَّاعة العاشرة استفقتُ نصف الليل ولا أثر في نفسي للصوم كأني قضيتُ البارحة وقد أكلت على عادتي ثلاث مرَّات.

ولكنني نهضتُ صباح اليوم الثاني وفيَّ — ساعة الفطور — نهمة إلى الأكل، وهذا لا شك من قبيل العادة.

على أنَّ مظاهر الجوع ازدادت نوعًا وشِدَّة؛ فتحتُ فمي فإذا به كالقطن جفافًا، بلعتُ ما تحلَّبَ من رضابي إذ مررت بركوة القهوة، فإذا به أَمرُّ من الحنظل، نظرتُ إِلى لساني، فإذا به أبيض كالحليب، لمسته بإصبعي، فإذا به كعباءة الرَّاهب خشونة، أما أُذناي فازدادتا طنينًا، وأحسستُ أن رأسي جسمٌ غريبٌ رُكِّبَ مُؤقتًا بين كتفيَّ، نزلتُ الدرج وعُدتُ إلى غرفتي، فألمَّت بي نوبة من الارتعاش شديدة أقعدتني بضع دقائق وأنا أرتجف حتى أطرافي، وكنتُ أثناء ذلك أحسُّ بموجات حارة تتماوج في داخلي، وبالأخص في جوار المعدة.

فقُلتُ في نفسي: قد عضَّكَ الجوعُ يا رجل، قد دنوت من إخوانك في الوطن.

نعم، بدأت في اليوم الثاني أشعر بالجوع وأتألم من شعوري؛ فهذا الضعف في رِجلي — وبالأخص في مفاصلي وركبتيَّ — إن هو إلا احتجاج المعدة على صاحبها، بل على باريها، بل على من في أيديهم خزائن الأرض المسئولين عن توزيع خيرات الدنيا على عباد الله.

مررت بركوة القهوة ثانيةً، فوقفتُ أمامها راغبًا مُتردِّدًا، ثم امتنعتُ لأنِّي آليت على نفسي أن أصوم يومين كاملين، وفي البيت المُقيم فيه أُناس في الدور الأسفل يطبخون طعامهم، فتتصاعد أحيانًا روائح المطبوخات فتسطع في منزلي وتزعجني جدًّا، ولكن اليوم يوم الصوم والجوع، فإن امرأً يقتر شواءً يتصاعد صوت نشيشه من فوق النار إلى منزلي لأحبُّ عندي من مطرِبٍ أو مُطربة، وإنَّ روائح الشواء والأبازير في أنفي لألذُّ من روائح المِسك والبخور.

ولَّت ساعة الفطور وولَّى معها مضض الجوع ولا غرو؛ فإنَّ للعادَةِ حتَّى في الأكل — كما قلتُ — تأثيرًا شديدًا فينا؛ إذ ما السبب يا ترى في رغبتي بالطعام في ساعاتٍ اعتدنا أن نتناوله فيها، وفي نسيانه، بل الرغبة عنه، في الفترات بينها؟

أما الفكر مني ففي اليوم الأول من صومي كأن لم يزل رائقًا صافيًا، ولكنه في اليوم الثاني أصبح خاسئًا حسيرًا.

ومن غريب أمر الصوم أيضًا أنَّ الذي يصومُ يومين يستطيع أن يصوم خمسة، بل عشرة أيَّام وصالًا؛ فأنا في مساء اليوم الثاني لم أشعر بشهوةٍ إلى الأكلِ شديدة كمساء اليوم الأول، وقد قرأتُ أخبار أُناسٍ صاموا أسبوعين وثلاثة دُون أن يتعطَّل فيهم عضوٌ من أعضائهم الحيوية كالكبد أو الكليتين أو الرئة أو القلب.

ومعلومٌ أنَّ الأقدمين كانوا يُكثرون من الصَّوم والتنحُّس، وقد قال ابن خلدون: «وقد شاهدنا من يَصبِرُ على الجوع أربعين يومًا وصالًا.»

على أنَّه لا يُنكرُ أنَّ الصوم أيامًا وصالًا يُفقِد المرء قواه الجسدية والعقلية؛ فإن العضلات والأعصاب لتتقلَّص وتذوب من الاقتيات مما كُوِّنت منه، وإنَّ العقل ليخسأ ويَمرض من تَشرُّبِ دمٍ لا غذاء فيه؛ أي إنَّ الصَّائم طويلًا، الطَّاوي أيَّامًا، يعيشُ على لحمه ودمه، يأكلُ بالحقيقة نفسه. نعم إخواني، إنَّ الجائع يعيشُ على لحمه ودمه، والجائعُ كَرهًا يُقاسي من مضض الذُّلِّ — ذُل الحاجة وذُل الطلب — ما هو أشد من مضض الجوع.

كتبت مرة نبذة أنتقدُ فيها بعض التعابير العربية التي نُردِّدُها نحن الكُتَّاب وقلَّما نتحقق تمام معناها، من جملتها قولنا: «الجوع المدقع»، فاستغربت إذ عُدت إلى القاموسِ النعتَ، وقلتُ أن لا أحد يجوع جوعًا يلصقه بالدقعاء — أي التراب — فمهما اشتدت سَورة الجوع لا تبلغُ درجة يصحُّ أن ننعتها بالدقوع.

ولكني تحقَّقتُ اليوم خطئي؛ فإنَّ الجوع يُوهِنُ، يُهزِلُ، يُنهِكُ، يُقعِدُ، يُهلِكُ، وإذا كان الجائع هائمًا في البَرية يطلُبُ الأعشاب يقتاتُ بها، فليس من الغريب أن يسقط في الطريق من شدة الجوع. نعم، رأيت كلاب السوق في الشرق في جوعٍ ألصق بطونهم ووجوههم بالتراب، وكنتُ أَجِلُّ البشر عن ذِلَّة الكلاب وجوعهم.

فوا أسفاه! إنَّنا لنتحقَّقُ اليوم من حال بلادنا صحَّة التعبير العربي، بل تحققنا التقصير فيه لا الغلو: مئات بل أُلوف من إخواننا مطروحون اليوم في الطرق والأسواق تتلاشى أجسامهم عضوًا عضوًا، عيونهم شاخصة إلى الشمس نهارًا، إلى السماء والنجوم ليلًا، يسألون باري الأكوان كسرة من الخبز. قلوبٌ واجفةٌ، أبصار خاشعة، نفوس حزينة حتى الموت، مِعَدٌ تلتصِقُ بالأضلُعِ منهم كما تلتصق أجسامهم بالدَّقعاء — بالتراب — في فمهم المرَّة الصَّفراء — مُر الحياة — يبتلعونها ثم يبتلعونها، في أعصابهم المتقلِّصة غصص الرعشة، في أجسامهم المرض والوهاء.

شيوخ وأطفال، نساء ورجال، يُسارعون إلى المدينة من الجبال عَلَّهم يلتقطون في أسواقها ومن فضلات ذوي اليسار فيها كسرة من الخبز، فيتساقطون في الطُّرق كورق الخريف وقد استحوذ عليهم الجوع المُدقع، أفلا تُشاركهم جوعهم يومًا واحدًا أيها السوري؟! أفلا تمدهم بنفقة يومٍ من أَيَّام يُسْرك؟!

ووالله لو مرَّ بهؤلاء المناكيد الجياع وحشٌ ضارٍ، أو عُقابٌ كاسر، لمَالَ بوجهه عليهم، لرثى لحالهم. وإنَّنَا نعلمُ أنَّ في الحيوان غريزة هي أشرفُ من غريزة الإنسان التي أفسدتها المدنية والتَّكالُبِ فيها، فمن الطُّيور من تُطعِم صغارها من قلبها إذ لم تجد لهم رزقًا.

فيا أيُّها السُّوري النَّائي عن إخوانك المنكوبين، جئتُ أُخبرك — خاشعًا لا مُفاخرًا — أنِّي صُمتُ يومين فأنهكني، أقعدني يومٌ واحدٌ من الجوع، فكيف بمن يصومون أيامًا بل أسابيع؟ اليوم، اليوم، من كان غنيًّا فليستعفف، من كان متردِّدًا في التبرُّع فليتقدَّم، من كان متقاعدًا فلينهض، من كان في سُباتٍ فليستفق. وما الفائدة من القول غدًا غدًا؟! فإنَّ مثل هؤلاء المستحجرة قلوبهم يُلوحون بثريدتهم للجائع لأقرب إلى الضاري من الحيوان منهم إلى الإنسان.

قد يُنعِم الله بالبلوى وإن عَظُمَتْ
ويَبتلي الله بعض القوم بالنِّعم

الصوم، التقشُّف يومًا واحدًا؛ تملكون تلك النفس منكم الشارهة إلى اللذات، فإنَّ مثل هذه السيادة على أنفسكم لأشرف من وجاهة يجرُّها لكم المال. صُوموا يومًا واحدًا، وتصدَّقوا علينا بدولارين مما رُزِقتم.

الأمة — أمتنا — جاثية على قارعة الطريق تئنُّ من ألم الجوع، الجوع المُدقع، الجوع المُهلك، فهلا تسارعنا بل تسابقنا إلى إغاثتها؟ أليس بلسان في جلعاد؟

(٨) هباسيا

(٨-١) مهد العلم الحديث

ألْقِي الرواية جانبًا سيدتي، فأقصَّ عليكِ قصَّة حقيقية محورها المرأة والعلم، وقُطرها الظلم والتعصب، تعالي معي أُحدِّثْكِ ماشيًا فتفهمي كلامي ماشيةً. إنَّا الآن لفي حي الأعيان من المدينة، وها قصر الملك أمامنا، وبالقُربِ منه المتحف الشهير الذي بناه أحد الملوك الفاتحين، وفي هذا المتحف دار العلوم التي يُؤمُّها الطلبة من كل حدَبٍ وصوبٍ، من كلِّ الشَّرق يأتون ومن الغرب، من الجنوب ومن الشمال؛ ليتلقوا العلم والفلسفة من امرأةٍ عالِمةٍ حكيمةٍ.

أقفُ بكِ، سيدتي، أمام هذه الكلية العظيمة، كلية لا شرقية هي ولا غربية، أقفُ بكِ أمام هذا المعهد القديم — وهو مهد العلوم الحديثة — الذي شيَّده الأمراء، وخلَّد ذِكره المؤرخون والشعراء. ما أبهى هذه الرواقات وقد غصَّت بالطلبة من كلِّ أجناس الناس والطبقات! وما أعظم هذه المكتبة وفيها ما يربو على الأربعمائة ألف مجلَّد! ولكنها — وا أسفاه — ستُوزَّع على الحمامات بعد حين، ولا يُعصى العلم على ابن العاص، ولا الأربعمائة ألف مجلد تقوى على كتاب واحد. إن لله في خلقه وفي كُتبه شئونًا.

نعم، سيدتي، نحن في سراديب التاريخ، فلا يَهولنَّك ما وراءنا وما أمامنا من الظلمات، على أني أقف بكِ موقف النور لنذرف دمعة على العلم وعلى إحدى نسائه العاملات.

ليست المكتبة أعظم ما في المتحف، بل هناك دوائر أخرى سترينها: هذا المرصد الفلكي الذي يُبعد الإنسان من الخرافات ويُقرِّبُهُ من الله، وهذا المعمل الكيماوي حيث المَلِك نفسه كان يشتغل بضع ساعات في النهار باحثًا عن إكسير الحياة، وهذه دار التشريح، ولا أظنُّكِ تُحبِّين أن تدخليها، وقد تتعوذين إذا أخبرتكِ أنَّ الأطباء فيها يُشرِّحون الأحياء أيضًا ممن حُكِمَ عليهم بالإعدام؛ ابتغاء التَّوصُّل إلى الحقائق الطبيَّة الرَّاهنة. لا تتكرهي سيدتي؛ فقتل المجرمين خيرٌ من قتل الأبرياء.

تعالي فأُريكِ جنينة الحيوانات وبستان النباتات؛ حيث الطلبة يتعلمون من الأمثال الحيَّة عِلمَي النبات والحيوان، ولا تظنِّي أنَّ التعليم في هذا المعهد العظيم ينحصرُ في العلوم الطبيعية فقط، بل يتناولُ أيضًا العلوم العقلية والرُّوحية؛ فإنَّ هذا المعهد — لكمثل معاهد العلم كلها — إنما هو مهد الحقائق والأضاليل معًا. ورُبَّ حقيقة تُشعل الأوهام نورها، ورُبَّ أوهام — كبعض الأطيار — تبيضُ بيوضها في عُشِّ الحقائق؛ فقد نبغ في هذا المعهد العلمي المتشرعون واللاهوتيون والأطباء والفلاسفة والعلماء.

لا، يا سيدتي، ليست كلية أُكسفرد هذه ولا معهد الصُربن، لسنا الآن في لندرا أو في باريس، إِنما نحن في المدينة التي وُلِدَ فيها العلم الطبيعي واللاهوت المسيحي تحت سقفٍ واحد، فتخاصما وتنازعا طويلًا، وكان من شأنهما في قديم الزمان ما كان، إنَّما نحن في قاعدة البلاد المصرية، في باريس الزمان القديم، في الإسكندرية على عهد الرومان، والمتحف الذي وَصفتُ فروعه العلمية هو الذي شيَّده بطليموس سوتر، وابنه فيلادلفس، وكان المليكان يدرسان ويعملان فيه كبقيَّة الطلبة والعلماء.

المؤرخون متفقون في أنَّ كلية الإسكندرية هذه كانت في زمانها أعظم معهد للعلم في العالم. كيف لا ومِن مرصدها رُصِدت النجوم والكواكب التي استنار بها فيما بعد علماء أوروبا الفلكيُّون؟! كيف لا وفيها وُضِعَت فلسفة أرسطاطليس الاستقرائية موضع العمل، وكان من ثِمارها أنَّ معهد بطليموس هذا أضحى مهد العلوم الحديثة؟! ومَنْ مِنْ عُلَماء اليوم يُنكِرُ فضل أرخيميدس في الرياضيات؟

ومَنْ لا يذكر بطليموس وآبولونيوس وهباركوس في علم الفلك؟

ومَنْ لا يعرف إقليدس ومبادئه في الهندسة التي يتعلمها الطلبة في المدارس حتى اليوم؟ وقد لا تعلمين سيدتي أن أراتوستينس — وهو من علماء هذا المعهد أيضًا — قاس الأرض قبل عُلَماء الخليفة المأمون، واكتشف شكلها الكروي قبل كبرنكوس وغاليلو، وأن هيرو اخترع آلة بخارية قبل جان وطس الإنكليزي، وأن تيزيبوس أوَّل من اخترع ساعة مائية، وأن يوليوس القيصر بعث يطلب من هذا المعهد الإسكندري سوسيجينوس الفلكي ليُصلح له الرُّوزنامة الرومانية على الحساب الشمسي؛ فالمعهد الذي ينبغ فيه مثل هؤلاء العلماء العاملين — لا شكَّ — عظيمٌ، وأعظمُ منه من كانوا يُلقون فيه الدروس العالية.

(٨-٢) الفيلسوفة العذراء

ومن هؤلاء سيدتي: الفيلسوف ثيون الذي درس الرياضيات في القرن الرابع «ب.م»، وراقَبَ كُسوفًا سنة ٣٦٥، وألَّف في الفلك والطبعيات تآليف دُرِّست كلها، ولكن أعظم تآليف ثيون وأعماله: ابنته البارعة هباسيا.

وُلِدَت هذه الفتاة في الإسكندرية، وقرأت العلوم على أبيها، وكان لها ميلٌ خاصٌّ في الرياضيات والميكانيكيات، وقبل أن وقفت حياتها على العلم والتعليم سافرت إلى أثينا، وتلقَّت هُناك الشريعة والفلسفة، ورافعت في المحاكم، ونشأت نشأة عجيبة دلَّت على مقدرةٍ عقليَّةٍ فيها تُضاهي مقدرة أعظم الرجال. ولمَّا تُوفِّي أبوها كانت قد تمكَّنت من العلوم، وبرهنت في مواقف عديدةٍ على تضلُّعها ورسوخها في الرياضيات والفلسفة؛ فرُقِّيَت في العشرين من عمرها — وهي عذراء — إلى منصبه، وظلَّت تُعلِّم في المتحف الإسكندري أربعين سنة، فهاج أخيرًا عليها هائج الجهل والتعصُّب فقتلها شرَّ قتلةٍ، كما ستعلمين.

هباسيا زينة نساء الإسكندرية في تلك الأيام، ورئيسة الفلسفة الأفلاطونية، وصديقة الأُمراء المحبِّين للعلم والعلماء، ومُرشدة الحكَّام، وعدوَّة التعصُّب والخرافة. كلنا نسمعُ بالملكة كليوباترا الدَّاهية الفاسقة، ولكن من منَّا يسمع بهباسيا العالِمة العفيفة العذراء؟ في المتحف الذي وصفتُهُ كانت تُلقي دُرُوسها على الألوف من الطَّلبة وفيهم الأعيان والأغنياء واللاهوتيون. في ذاك المتحف كانت تُعلِّم — بأفصح لسانٍ وأجلى بيانٍ — فلسفة أفلاطون الجديدة التي تُدعَى في تاريخ الفلسفة «نيو بلاطونيزم»، في ذاك المتحف الذي شيَّده بطليموس رفيق الإسكندر، أنارت هباسيا أنوارًا أطفَأَها الجهل والتعصُّب، فظلَّت بعدئذٍ أوروبا تَعمَهُ في الظلمات أحد عشر قرنًا.

وقد كانت هذه الوثنية الفاضلة رائعة الجمال، فصيحة اللسان، شديدة العارضة، سديدة الرأي، سريعة الخاطر، شريفة الشمائل والخِصال — وإنَّ آباء الكنيسة أنفسهم ليعترفون لها بذلك — على أنَّها كانت تُتعب فكرها عبثًا في مسائل قد تَشغل الفلاسفة بعد ألفي سنة من اليوم كما أشغلتهم منذ ألفين مضت: من أين الحياة؟ وإلى أين؟ فإنَّ هباسيا، سيدتي — أمدَّ الله بحياتكِ وأنارها — كانت تُحاوِلُ حلَّ هذا اللغز القديم العظيم: ما هو العقل؟ وما هو العلم؟ وما هو الله؟

في مثل هذه المواضيع الخطيرة كانت الفيلسوفة العذراء تُلقي دروسها وخُطبها، والحقيقة أنَّ فلسفة الإسكندرية في أيام هباسيا وقبلها إنَّما هي مزيجٌ من فلسفات اليونان كلها؛ كفلسفة المشائين والرواقيين والكلبيين وغيرهم.

ومن تلاميذ هباسيا الذين حازوا شُهرة في زمانهم: سينيسيوس أسقف عكَّا، وقد بعثَ هذا الأب الفاضل برسائل عديدة إلى ابنة ثيون البارعة، فيها ثناء جميل عليها، واعتراف بفضلها وجميلها عليه — ولم تزل هذه الرسائل محفوظة — وفي إحداها يستشيرُ المراسِلُ أستاذته في عمل الإسطرلاب، دليلُ أنَّها كانت تميلُ إلى علمي الفلك والميكانيكيات أكثر من سواهما. وقد ألَّفت كتابًا وشرحت كُتب آبولونيوس في هذه المواضيع.

ولكن عمرو بن العاص الذي جاء الإسكندرية بعدئذٍ لم يرَ فيها وفي الألوف مثلها كبير فائدة، فوزَّعها على الحمَّامات لتُسَخَّن على نارها المياه — برَّد الله مثواه!

قد شهد المؤرخون لهباسيا الوثنية بالعِفَّةِ والنزاهة، كما شهدوا لها بالفضل والعلم والحكمة، وهم مُتَّفِقُون في أنَّها عاشت وماتت عذراء. وأمَّا ما قاله سويدس في أنها اقترنت بالفيلسوف أزيدوروس فلا صحَّة له، وقد قيل: إنَّه محضُ اختلاقٍ وافتراءٍ. والنمَّامون منذ البدء كثيرون؛ فالأسقف سينيسيوس أوَّل من اعترف بفضلها وعلمها، وعندما تَعرَّف بها، وأخذ يحضر محاضراتها كانت أضحت في الأربعين من عمرها، وكانت قد قضت في المتحف عشرين سنة تخطب وتُعلِّم، وظلَّت الصداقة بين الفيلسوفة الوثنية والأسقف المسيحي نقيَّة الأسباب، وثيقة العُرى، فلا هباسيا اعتنقت الدين المسيحي، ولا سينيسيوس خلع ثوبه الكهنوتي.

على أنِّي قرأتُ في أثرٍ لأحدِ آباء الكنيسة أنَّ أسقف عكا لم يقتبل قواعد الدين المسيحي، ولم يعترف بعقائده كلها، فهل في ذلك دليلٌ على أرجحية الفلسفة في كفَّةِ ميزانه؟ الله أعلم!

أما في سلوكها ولبسها ومعيشتها، فقد كانت آية البساطة والجمال.

وإنِّي لأتخيَّلُها واقفة أمام تلاميذها بثيابِهَا البيضاء المهلهلة، وقد عقصت بشريطة من الحرير شعرها، وسدلت على كتفها ذيل ردائها، وفي رِجلها العارية نعلٌ يوناني بسيط، فلا قُبَّعة تُثقِلُ رأسها، ولا مِشدَّ يُضعِف رئتيها وقلبها، ولا كعبَ عاليًا يُضرُّ بعمودها الشَّوكي وبمجموع أعصابها؛ آية في البساطة والبراعة والجمال.

وحبَّذا لو عادت نساء اليوم، سيدتي، إلى الزِّيِّ اليوناني القديم البسيط، خمس أذرع من القماش الكتَّان الرقيق خيرٌ من عشرين ذراعًا من الحرير الثقيل المخيط على آخر «مُودَة»؛ فلا تُثقلي وتشدِّدِي جسمكِ سيدتي كما لو كان جسم عدوتك، ناهيكِ بأمر الاقتصاد والتوفير، على أنَّنا لسنا الآن في موضوع الأزياء والاقتصاد.

لنعُد إِذن إلى هباسيا؛ فقد وصلنا إلى ما يُثيرُ الأحزان من أمرها، فإنَّ هذه العالِمة الحكيمة، التي كان يُكرِمها الإسكندريون الرَّاقون، ويستفتيها العلماء العاملون، ويستشيرها في أمور السياسةِ الحكامُ، لم تنجُ من كُره المتعصبين من المسيحيين؛ فبعد أن خدمت العلم والفلسفة أربعين سنة خدمات جليلة، ماتت موت الشهداء على أفظع طريقة وأنكرها، كما ستعلمين.

(٨-٣) البطريق كيرللوس

لم تكُن الإسكندرية في ذاك الزمن مهد العلوم المادية فقط، بل كانت عُشَّ الكلام أيضًا والسفسطة؛ وبينا كان نستوروس وكيرللوس يتنازعان في عقيدة عبادة العذراء، وأثاناثيوس وآريوس يتناقشان في عقيدة المشيئة الواحدة والمشيئتين، كان علماء الإسكندرية يشتغلون هادئين باكتشافاتهم واختراعاتهم. ومن آباء الكنيسة الذين اشتهروا بالفصاحة والعلم، والتعصُّب والدهاء، والمُعاندة والمُكابرة: كيرللوس، الذي كان بطريق الإسكندرية على زمن هباسيا، فبينا هي كانت تُلقِي دروسها في العلوم والفلسفة على الألوف من الطلبة، كان كيرللوس يُثيرُ من على منبره خواطر النَّصارى على اليهود، ولما ارتقى إلى المنصة البطريقية في الإسكندرية كانت هباسيا في أوجِ شُهرتها، وقد تجاوزت الخمسين من عمرها، ومنذ ذاك الحين إلى أن قُتِلَت لم يَطِبْ للبطريق عيشٌ، ولم يَسُغْ له شراب. وإنَّ أمره في التعصُّب والحقد والاستبداد مشهورٌ لدى المؤرخين؛ فحينما ذهب إلى أفسس ليُناقش نستوروس في عقيدة العذراء استصحب زُمرة من رعاع الإسكندرية، حتى إذا ضاقت به أبواب الجدل هاجهم على عدوه، وعندما تبوَّأ كرسي السيادة طرد اليهود من الإسكندرية، وبعث بعسكر على معابدهم وبيوتهم فنهبوها ودمَّرُوها، وارتكبوا من الفظائع فيها ما تقشعر لهوله الأبدان.

ولا يخفى عليكِ، سيدتي، أنَّ البطريق في تلك الأيام كانت له قوة الحاكم المدني، فإن فرقة من الجنود كانت دائمًا موقوفة لخدمته لتنفيذِ أوامره، على أنَّ مُحافظ البلد أورستيس لم يستطع صبرًا وسكوتًا على هذه الفظائع التي ارتكبها كيرللوس باسم الدين، فناهضه برهة — وكانت هباسيا في هذا الخصام نصيرة المُحافظ، بل نصيرة الحق — واستمرَّ هذا النزاع إلى أن حدث الحادث الهائل الذي أودى بحياة ابنة ثيون العالِمة الجميلة. ولا تظُنِّي، سيدتي، أنَّ هذا هو السبب الوحيد الذي أثار خاطر كيرللوس على هباسيا، فإنَّ رأس الخلاف بينهما لأبعدُ من هذا. أجل، إنَّما هو نزاعٌ بين العلم والخرافة، بين التعصب والفلسفة، بين الحرية والاستبداد، بل هو نزاع بين عذراء وثنية أقامت على فضائل الدِّين المسيحي دُون أن تعتنقه، وبين بطريرك استخدم الدِّين واسطة لإشفاء غليله ونَيل مآربه، وفاز بذلك فوزًا مبينًا، حتى إنَّ المحافظ أورستيس أشفق على منصبه وحياته من تعصُّب البطريرك وتغيُّظه، ولكن ذنب المحافظ ذنب سياسي فقط، وذنب هباسيا سياسي علمي ديني؛ لذلك اختارها كيرللوس هدفًا لحقده وغضبه. وسأنقل إليكِ حادثة قتلها كما رواها واتَّفَقَ في روايتها المؤرِّخون.

عندما كانت هباسيا عائدة في عربتها من المتحف الملكي قاصدة بيتها، تصدَّى لها جمهورٌ من رعاع المسيحيين وفيهم الرُّهبان، وفي مُقدمتهم بطرس الشَّمَّاس الذي كانت له في الجريمة المُنكَرة اليد الطولى، فأسقطوها من العربة، وجرُّوها إلى السيزاريوم — وقد كانت في ذاك الزمان كنيسة للنصارى — ونزعوا عنها كلَّ ثيابها، ومزَّقوا جسدها تمزيقًا بصدف المحار — وقيل بشقف من القرميد والفَخَّار — ثم قطَّعوها إِربًا إربًا، وذهبوا بها إلى خارج المدينة وحرقوها هناك. وكان ذلك في آذار سنة ٤١٥، في عهد الملك تيودوسيوس الثاني. فقدَّس كيرللوس في صباح اليوم التالي على عادته، وأكل جسد الرَّب، ولكنه لم يستطع أن يقول ما قاله بيلاطوس قبله بأربعة قرون: «أنا بريءٌ من دم هذا الصديق.»

لا، فإنَّ البطريرك مسئول عن قتل هباسيا على هذه الطريقة الفظيعة الشنعاء، وقد يتطرَّف المؤرخون ويعتدلون — بحسب نزعاتهم السياسية وصبغاتهم الدينية — ولكن ما من واحدٍ منهم يرتابُ في أنَّ البطريرك كيرللوس هو العامل الخفي على قتل هباسيا.

وقد قال ثيودزوت — وهو من آباء الكنيسة المشهورين: إن لكيرللوس يدًا خفيَّة في هذه الجريمة.

وقال أحد المؤرخين المعتدلين: إن لم تُقتل هباسيا بأمرٍ صريحٍ واضحٍ من البطريرك، فقد قُتِلت بعلمه وإرادته.

وقد أدهشني عنوان طويل لكتابٍ، طُبِعَ في إنكلترا سنة ١٧٢٠، في هذا الموضوع، قال المؤلف: إن هذا «تاريخ امرأة عظيمة في علمها وفضلها وفصاحتها وأخلاقها وجمالها، قتلها إكليروس الإسكندرية ومزَّقُوها إربًا إربًا إكرامًا لخاطر بطريركهم الذي يُدعى بلا استحقاق القديس كيرللوس».

وفي قتلها أُقفِل باب المتحف العظيم الذي شيَّده رفيق الإسكندر، في قتلها كانت نهاية العلم والفلسفة في المغرب، في قتلها تمَّ للتعصُّبِ النَّصر على الحريَّة والتهذيب، فأُقفِلَ باب النور الذي فتحه بطليموس في الإسكندرية — كما أقفله بوستنيانوس في أثينا، فكان سميليسيوس آخر الفلاسفة في بلاد اليونان — وكانت هباسيا خاتمة الفلاسفة في بلاد مِصر. ومنذُ هاتين الحادثتين المُنكَرتين تبتدئ ما يُدعى في التاريخ «العصور المظلمة»، وتستمرُّ في أوروبا أحد عشر قرنًا.

هذي هي سيرة هباسيا «العظيمة في علمها وفضلها وجمالها»، بل هذه قصة النزاع بين الدين والفلسفة في ذلك الزمان. ومهما قيل في البطريرك كيرللوس، فمن المقرَّرِ، سيدتي، أنَّ الرجل الذي يعمل ما عمله في اليهود، الرجل الذي يُهيج رِعاعه على نستوروس في مجمع أفسس، الرجل الذي يستخدم القوة العسكرية لإثبات عقيدة لاهوتية وتعزيزها، لا يتردَّدُ في أمر امرأةٍ عملت على هدم صروح الخُرافة والأوهام، فقولي إذن: رَحِم الله أمثال كيرللوس من البطاركة، وجعل أمثال هباسيا من المقرَّبين المُكرَمين.

١  نقلنا هذا الفصل عن كتاب «المملكة الحيوانية»، وقد وضعه فيلسوفنا ليبرهن على فساد الدِّين المسيحي في نُفوس الناس وكُتُب العلماء، وأن ما وضعته الكنيسة من الطقوس والنظامات إنما هو من عمل شياطين الإنس لا من وحي الله، وأنَّ العداوات التي بين أرباب المذاهب إنما هي من زيادات حَمَلَة الدين في الدين، ولو رجع الناس إلى مذاهبهم الأصلية التي وضعها الله لهم لكانوا عِباد الله إخوانًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤