كل شيءٍ يفنى إلا الفناء

لست أدري لماذا وقع اختيار أترابي في المدرسة وفي اللعب، على هذه المساحة المهجورة الواسعة لتكون ملعبًا للكرة. ألأنَّها بعيدة عن البلد والزحام ودبيب أرجل البشر والحيوانات؟ أم لأنها تمتدُّ وراء مزلقان السكة الحديدية، ويسهل الوصول إليها بعد انصرافنا من المدرسة وقبل عودتِنا إلى بيوتنا؟ وهل خطر على بال زملائي أنها ملاصقةٌ للجبانة الكبيرة الغارقة في نعاس الموت الذي لا يقظَة منه؟ لا شكَّ أنهم لم يُفكِّروا في ذلك. ولو فعَلُوا لحظة واحدة لما تمادُوا كل مرة في صراخهم وصياحهم ومعاركهم الطاحنة على الكرة، التي كانت تشتدُّ أحيانًا إلى حدٍّ يوقظ عفاريت الظهر والعصر وربما يوقظ الموتى من نومِهم الأبدي.

كنا في ذلك اليوم قد خرجنا من المدرسة مُبكِّرين قبل أن تَتوسَّط الشمس كبد السماء. قالوا لنا إنَّ الناظر أمر بأن يكون ذلك اليوم نصف يوم فحسب بمُناسبة الاحتفال بأحد الأعياد التي لا أذكرها. هللنا وصفَّرنا وزمَّرنا ورقصنا، وسرعان ما جمعنا فريقنا والتأم شمل الفريق المنافس. وجرينا ونحن نتوعَّد الخصم المغرور ونتحداه، وجروا هم أيضًا وسبقونا إلى الملعب الذي بدا من بعيد كأنه منسيٌّ ووحيد، وفي انتظار أن نُعمِّره بشقاوتنا وقفزاتنا ونداءاتنا المستمرة، وصيحاتنا المرتفعة، وكأنما نلعب الكرة بحناجرنا لا بأقدامنا.

كان «الماتش» في ذلك اليوم حاميًا أكثر من المرت السابقة، وكان فريقنا — كما فهمت بعد ذلك — مُصممًا على الثأر لنفسه من هزيمةٍ ساحقةٍ مُنِي بها قبل أن يضموني إليه ويعهدُوا إليَّ — لفرط وداعتي ومسالمتي وهدوئي الفظيع — بأن أقف في «الجون» وأصدَّ الكرات التي تُوجَّه إليه من الفريق المُضاد. بدأ اللعب واشتعلت المعركة، وتعالت أصوات الصياح والغضب والتهديد بالانتقام. ووقفت في مكاني كالشبح الساكن الغريب أتفرَّج على الجميع، وأمثل دور «الجون» دون أن أُشارك في شيءٍ، أو تخرج من فمي كلمة أو صيحة واحدة. وفجأة دوت الكرة كالقذيفة وتخطت الحواجز والقوائم الخشبية التي أقف تحتها لتسقط بعيدًا في الجبَّانة المجاورة. كلفوني — ولا أدري لماذا — بأن أُسرع بالبحث عنها وإحضارها. سرت نحو الجبَّانة التي كان يَفصلُها من أرض الملعب مجرًى مائي نحيل، وسورٌ تُرابي تكسوه الأعشاب البرية الموحشة، وتعلو بالقرب منه نخلات وشجيرات صغيرة كابية الخضرة. لم يَطُل بحثي عن الكرة؛ إذ وجدتها مُلقاة بالقرب من السور. التقطتها بسرعة وقذفت بها إلى الأيدي المتشنجة التي كانت تنتظرها نافذة الصبر، لكنني قررت في الوقت نفسه ألا أرجع للملعب مهما تعالت صيحاتهم ونداءاتهم. كانت رهبة الجبانة وغموضها وسحرها الأسود قد جذبتني للتجوال فيها، وجعلتني أسدُّ أذني عن النداءات المتلاحقة.

وكانت سخونة الشمس تنفث اللهب في الأشجار والحشائش المنبسطة، وتسقط حممها الحارة على أسطح المقابر والأضرحة فتزداد بياضًا ولمعانًا. رحت أتمشَّى بين صفوف القبور القديمة، وأتعرف على القبور الجديدة التي تُغطِّيها زهور وأوراق وسعف نخيل لا يزال يحتفظ بخضرته ونضارته. وشملتني رهبة الموت، وبدأت أفكر في القبر الذي سيضمُّني مع بقية أهلي. لم أكن أعرف الطرق إلى مدفن أسرتي، ولم أحاول البحث عنه وسط غابة الموتى الساكنة. ولذلك اكتفيت بقراءة الفاتحة على الجميع، وقراءة الآيات والكلمات والتواريخ المكتوبة والمحفورة على الشواهد أو على أسطح القبور. كانت أول مرة أعيش فيها مع الموت، وأتصوَّر أن الموتى قد توحدوا في شخصٍ واحدٍ يستقبلني ويُرحِّب بي في عالَمهم السُّفليِّ. وشعرت أنني لستُ غريبًا عن هذا العالم، وأنني أحد الأشباح التي تتجوَّل فيه ولا تخشى أن تسكنه وتبقى فيه إلى يوم الحساب.

كان أترابي في اللعب قد يئسوا من النداء عليَّ، وكفُّوا عن انتظار عودتي إليهم، ولكنهم لم يكفُّوا عن الصياح والصراخ والسبِّ والشتم لبعضهم، ولا عن الوعيد والتهديد بالانتقام. وظلَّت أصواتهم تنساب نحوي كالأصداء القادمة من عالم آخر انقطعت صلتي به منذ أن حللتُ في هذا العالم السُّلفي. لا أعرف الآن إلى أين أخذتني شطحاتي وتأملاتي في الموت والحياة، وذكرياتي عن الأجداد والأقارب الذين سمعتُ عنهم من أمي وأختي الكبيرة. ويبدو أن توهُّج الشمس وعطر السكون وأبخرته النافذة، والحرارة المُسلَّطة على رأسي، ورءوس الكائنات الخفية التي تُواصِل دويَّها المكتوم بلا انقطاع، يبدو أنها جميعًا قد التفتَ حولي ولفَّتني في ثوبٍ كثيفٍ من التعب والرغبة في النوم. وملتُ إلى مقبرة حديثة وعالية كانت تقع في الظل، فجلست عليها ورحت أتثاءب وأناجي الموتى الذين تخيلت أنهم اتحدوا في كيان الميت، الذي أجلس على قبره دون أن أعرف شيئًا عنه أكثر من اسمه وتاريخ مولده ووفاته المحفورين بخطٍّ رديءٍ على المصطبة التي مدَّدت جسدي فوقها. لا أذكر حتى الآن هل رحت في النوم، أم أفقت منه على صوتٍ غامضٍ ومُتحشرجٍ ومخنوق يرتفع من تحتي، وهو يُدمدم في غضبٍ وحزنٍ عميق: أنتم أيها الأحياء اللاهون، المُنهمِكون في الصخب والطموح والعبث والضجيج، هل فكَّرتم لحظة في راحة الموتى الذين تُقلقونهم وتُزعجون نومهم؟ وأنتم أيها الأولاد الأشقياء، ألم تجدُوا مَكانًا تلعبون فيه وتتَصايحون وتتقاتَلُون وتسبُّون وتلعنون غير هذه الأرض الملاصِقة لأجدادكم وآبائكم الذين نسيتموهم ونسيتم حقهم في السكينة والسلام؟ هل نسيتم أن كل شيء يَفنى ولا يَبقى إلا الفناء؟ وأنت أيها الولد المسكين! … هل بدأت تحسُّ بحرمة الموت وتغلغُله فيك وفي كل شيء حيٍّ؟ هل تشعر الآن بأنك لن تفلت من مصيرنا، وأنك منذ الآن ميت، وكلكم ميتون وإن لم تدفنوا بعد مثلنا في التراب؟ قم يا ولدي المسكين وكن أعقل وأحكم من رفاقك المزعجين … قم يا ولدي ولا تنس ما قلته لك: كل شيء يفنى ولا يبقى إلا الفناء.

ربما صحوت من نومي فجأة، ورحت أجري بحثًا عن بوابة الخروج، وربما تفكَّرت فيما قاله الصوت الغامض الرهيب، ومضيتُ خطوة خطوة نحو الطريق الزراعي الذي يحفُّ بالجبانة وأنا أواصل التأمُّل فيما سمعت. ولعلِّي ما زلت منذ ذلك اليوم أتفكَّر في الموت وأعيشه في كل لحظةٍ، وأتنفَّسه مع كل نفس، وأعمل وأذهب وأجيء وأكتب وأقرأ وأنا أُحدِّق في وجهه وعينيه، وأحاول أن أرد عليه، أو أُواجهه وأتحدَّاه، أو أهادنه وأراوغه بالانخراط الدائم في التأمل والعمل. أعلم منذ ذلك اليوم أنني دخلت تابوتي بغير حاجةٍ إلى تآمُر «ست» أو غيره، وأعرف تمامًا أنني أسير وأتكلم وأخطب أحيانًا وآكل وأشرب وأنام وأصحو من داخل التابوت الذي لا يراه أحدٌ غيري. وعلى الرغم من اقتناعي بما قاله الصوت الغامض المخنوق، ومن شكِّي في بقاء أي شيءٍ مما أعمل أو أكتب أو أقول، فإنني أُواصل الردَّ والمواجَهة، ولا أكفُّ عن إرسال الرسائل إلى المجهول الذي يَسكنُني ويتربص بي، ولا بد أنه سيأخذني يومًا إلى عالَمه السُّفلي … لكن الشيء المؤكد الذي لا يتطرَّق إليه الشك، هو أنني منذ ذلك اليوم لم تلمس قدمي الكرة أبدًا، ويقينًا لن تلمسها في أيامي الباقية.١
١  الفكرة مُستوحاةٌ من قصيدة نثرية وردت في ديوان «سأم باريس»، للشاعر شارل بودلير تحت عنوان: ميدان الرماية والجبانة، ص١٣٧ من الترجمة العربية للشاعر محمد أحمد حمد، القاهرة، المشروع القومي للترجمة، ٢٠٠٢م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤