كوجيتو مصري

وأنا في الطريق إليه، كنت أضع يدي على قلبي، وأحمل في اليد الأخرى مظروفًا كبيرًا يضم بعض أعماله التي أملاها في الفترة الأخيرة على كاتبة الكمبيوتر (الحاسب)، وتطوعت بتصحيحها بسبب ما أصاب عينيه من تليف أدَّى إلى شبه إظلامٍ تام. كم أحببت السير في هذا الشارع الطويل المحاذي لكورنيش النيل في حيِّ الروضة العريق الذي نجا إلى حدٍّ كبير من زحف الأبراج البشعة وغابات الإسمنت الخانقة. وكم كان أحب شيء إلى نفسي أن أسارع إلى المسكن الهادئ المتواضِع للصديق الحبيب، كل مرة أرجع فيها من غربتي الطويلة في البلاد العربية التي أُعرت إليها أو عملت فيها. كنت أحس — في جلسات الأنس والود الممتدة إلى ما بعد منتصف الليل — أنني أتعلَّم من الحكمة التي تفيض من عقله الثاقب المتزن، وحسه الواقعي المجرَّد من كل الأوهام، ما لم أتعلَّمه من عشرات الحكماء الذين درستهم وقمت بتدريس أفكارهم ومذاهبهم، وأخذوا عمري ما أخذوا بلا رحمة. ولأنَّ الصديق الحبيب يهوى العزف على العود والكمان، فقد كانت الموسيقى التي أحبها من ألحان عبد الوهاب والسنباطي أشبه بسياج من الأضواء والألوان المبهجة، التي تترقرق وسط أحاديثنا المرهفة عن أزمات الأدب والفكر والنقد وأزمتنا معها. وكنتُ أخرج من كل زيارة وكأنني لعازر الذي مسَّته المعجزة، فوهب حياةً جديدة بعد أن غيَّب في قبره، ونهض على قدمَيه وهو أكثر شجاعة وتصميمًا على مواصلة الحياة. وها أنا ذا في الطريق إلى الصديق العزيز يؤرقني القلق عليه من ناحية، ويَملكُني الإعجاب به من ناحية أخرى. لقد أحسستُ في الزيارات الأخيرة، وأنا أتأمل وجهه وأسمع ضحكاته الخافتة وهمساته الساخرة بشيء يصعب عليَّ وعلى أي لغةٍ أن تصفه أو تحدده، لم يكن هو الخوف على صحته التي تردت ترديًا واضحًا في الشهور الأخيرة، لا سيما بعد فشل العملية الجراحية التي أُجريت في عينه اليسرى ولم تُسفر عن إهدائه بصيصًا واحدًا من النور. ربما كان هو الإحساس بأن الصديق — بالرغم من ضحكاته وفكاهاته اللاذعة، ومحاولاته المستمرة لكي يبدو طبيعيًّا إلى أقصى حد — يقف منِّي ومن كل شيء موقف المودع الموشك على سفرٍ طويلٍ. لكنني كنت أبذل كل جهدي في التغلب على هذا الإحساس، والإقبال على الضحك والثرثرة وكأن كل شيء سيبقى على حاله، ولن تتوقف عجلة حياتنا ولقاءاتنا لحظة واحدة.

في هذه الزيارة الأخيرة، وقفت أمام باب الشقة الهادئة — التي طالما شعرت بأنها تفوح بعطر المحبة والصدق والرضا والتواضُع — كما فعلت عشرات المرات على مدى العقود الثلاثة الأخيرة من عمري. وعندما فتح بنفسه الباب وجدتني أمام وجه شاحب ضامر، صوَّر لي الوهم أن سمرته ازدادت عمقًا وجهامة وقتامة، وأن الجسد الذي واجهني على الباب قد ازداد نحوله وهزاله بما لا يخفى على النظرة العابرة. وزاد من خوفي وقلقي أن الصديق لم يفتح ذراعيه ليضمَّني إلى صدره، كما اعتاد أن يفعل، ولم يربت على كتفي مرتين أو ثلاثًا، ويأخذ يدي في يده ويشدني إلى حجرة الصالون التي ننفرد فيها سويًّا. وعندما استقر في جلسته إلى جواري، لم أسمع منه تهليلًا ولا ضحكًا ولا لهفة على أخبار صحتي وعملي كما ألفت منه. خرجت من فمه كلمة أهلًا بصعوبة، وبصوت لا يكاد يُسمع قبل أن يلتفَّ في رداء الصمت، ويشدُّ ظهره وعضلات وجهه وما بقي من نور يحتضر في عينيه في اتجاه الحائط المواجه له. نادى على ابنه بصوت عالٍ لكي يحضر القهوة، وحاولتُ من جانبي أن أخرق أستار التوتر والتخشُّب بالكلام عن إعجابي بالأعمال التي قمتُ بمراجعتها، واستمتعت متعة لا حدَّ لها بقراءتها. كان هناك كلام حماسي كثير يريد أن يقفز من فمي عن مسرحيته المرحة الشائقة «مغامرات عيسى المفتري مع أبي الفتح السكندري»، التي استوحاها من بعض مقامات الهمذاني، وعن روايته القصيرة العذبة والفكهة والمحزنة معًا «الأعداء الصماء» التي تخيل فيها لقاء رجل وامرأة فوق الثمانين في إحدى الحدائق، واكتشافهما خلال الحوار الذكي المتوثِّب أنهما هما الحبيبان القديمان من أيام الثانوي، وأن غلطة الحبيب الغارق في حبِّه والواضع نفسه تحت تصرف المحبوبة أنه لم يتشجع مرة واحدة لكي يصارحها بحبه ويعلن بوضوح عن مكنون قلبه؛ ربما بحكم طبيعته المحافظة أو خجله الفطري. وها هما يلتقيان بعد ضياع الحب والعمر، كما يلتقي حفيده وحفيدتها اللذان يتعشَّم الراوي ألا يقعا في غلطتهما أو يكررا خطأهما …

كنت أنوي أن أتحدث عن هذين العملين وعن عمل ثالث أزمع أن يعيد نشره بعد إضافة قصص جديدة إليه، لكن الصديق أشار بيده مُبديًا رغبته في إغلاق هذا الباب وإيقاف سيل الإعجاب الذي بدأ ينهمر، فأوقفه سدٌّ منيع من السأم أو الرغبة الشديدة في التزام الصمت. خيَّم فوقنا السكون فترة غير قصيرة. لم تمتدَّ يد الصديق إلى العود أو الكمان أو حتى إلى الكاسيت كما كان يفعل، لم تندَّ عنه ضحكة واحدة، وهو الساخر الأبدي في كلامه وكتابته. إنما طالت جلستُه المشدودة ونظراته المصوَّبة إلى الجدار المقابل. احترمت رغبته في الصمت والتوحُّد، ونهضت مستأذنًا في الانصراف، فشدَّني بعنف إلى الكرسي الذي أجلس عليه، وهو يقول: هل يُضايقك أن أفكر؟ ألا تقولون عندكم أنا أفكر فأنا إذن موجود؟ ضحكت قائلًا: هذا هو الكوجيتو المعروف عن ديكارت أب الفلسفة الحديثة. سأل، وهو يلتفت نحوي متجهمًا: وهل توافق أنت عليه؟ قلت مسترسلًا، وكأنني أشرح درسًا: لا شكَّ في أن ديكارت وجد نفسه في حالة تفكيرٍ، وأنه اكتشف أنه يوجد بحق كلما فكر، ولكن النتائج التي استخرجها من هذا الكوجيتو ربما كانت مغلوطة أو متسرِّعة أو ملفقة؛ أقصد إثبات وجود الله ووجود العالم بعد أن تأكَّد له وجود الذات المفكِّرة، وقد اعترض الكثيرون … قاطعني قائلًا: هل اعترض أحد على هذه العبارة الشهيرة؟

قلتُ: كثيرون اعترضوا عليها، أو وضعوها في صيغٍ مختلفةٍ، أو فنَّدوها من أساسها. سأل، وهو يُثبت وجهه ونظره إلى الحائط المُقابل: مثل مَن؟ قلت: هم كثيرون! أحدهم قال: أنا أوجد إذن أنا أُفكِّر، وهؤلاء هم الوجوديون الذين جعلوا الوجود الجسدي في العالم سابقًا على التفكير. وفيلسوف آخر قال: أنا أتعذَّب فأنا إذن موجود، فبدأ من المعاناة لمأساة الحياة والموت، وأكَّد أنهما علَّة الإحساس بالوجود الممزق والمهدد في كل لحظةٍ. وثالث جعل الأولوية للإرادة على التفكير، فقال ما معناه أنا أريد، أو أنا أبذُل جهدًا في مقاومة عقبة خارجيةٍ، فأنا إذن موجود؛ أي إنه لا يُوجد بحقٍّ حتى يفعل ويغير لا حين يفكر وحسب. الآراء والصيغ كثيرة يا صديقي، والمهم أن العبارة الشهيرة، بل أشهر عبارة في تاريخ الفِكر الفلسفي، قد تندَّر عليها البعض وقالوا إنها خرافةٌ ووهمٌ وقع فيه الفيلسوف الفرنسي في ليلة المِدفأة، التي عزل نفسه فيها عن كل شيءٍ؛ عن العالم المُحيط به والظروف التاريخية والاجتماعية التي يحيا فيها، بل عزَلَ نفسَه حتى عن جسده الذي راح — بعد رحلة الشك المطلق فيه وفي وجود أي شيء آخر سوى فكره المحض — يُحاول بصور ملفَّقة أن يثبت وجوده ووجود العالم.

التفت صديقي وعلى وجهه ظلُّ ابتسامة: أفادك الله ولا فُضَّ فوك، وأنا معجبٌ بصاحبك الذي ربط وجوده بالموت، وأكد أن الإنسان لا يوجد إلا حين يتعذَّب ويحس بمأساة الحياة والموت. شيءٌ عجيب أن نُوجد حين نحسُّ أننا نمُوت … قاطعتُه مُحاولًا أن أوجه الحديث وجهة أخرى: ذلك مجرَّد رأي، لماذا لا نقول إننا نُوجد عندما نعمل أو نبني أو نُبدع أو نسعد الآخرين أو نأمل في مُستقبَل أفضل أو … قال الصديق، وهو يخبط على ركبتي: أنا أيضًا عندي كوجيتو جديد، كوجيتو مصري بحق ولا يُمكِن أن يكون إلا مصريًّا. سألته وأنا أضحك، قال: اسمع يا سيدي، أنا أظهر في أجهزة الإعلام فأنا موجود، أنا أدَّعي وأرفع صوتي وأثير الفرقعات والزوابع وأتسول النقد والكتابة عني فأنا إذن …

قاطعته بحزمٍ، وأنا أحسُّ أن صوته يتهدَّج ويبتلُّ بالدموع، التي لا تُريد أن تطفر من العين: لا … لا، ما تقوله غير صحيح. المترفِّع عن الإعلام والمتعفف عن التسوُّل الذي نتكلم عنه موجود أيضًا، ووجوده في ضمير وتاريخ الفكر والأبد أكثر رسوخًا. ثم إن … قاطعني، وهو يضغط على يدي: طول عمرك عبيط وعلى نياتك. قلت، ضاحكًا: وما له؟ رومانسي خائب كما تقول، المهم هو الصدق والإخلاص، أليس كذلك؟ زم شفتيه وشدَّ عضلات ظهره ووجهه، وثبت نظراته على الحائط المُواجه، وعاد يتغطى برداء الصمت الأسود الثقيل. استأذنت في الانصراف، فقام واقفًا وشكرني على مراجعة البروفات، وعند الباب عانقني فجأة وقبَّلني. وخرجت إلى الشارع، والقلق والخوف من شيء مجهول يستبد بي …

بعد أسبوع واحد من تلك الزيارة، حمل إليَّ الهاتف نعيَه بصوتِ ابنته العزيزة. زلزلني النبأ الفاجع، ولكنه لم يُفاجئني. فقد أعدتُ التفكير فيما قال، وأدركت كيف يحكم التجاهل على الإنسان بالموت. إن الصديق الذي كان منذ مُنتصَف الستينيات إلى منتصف الثمانيات هو أشهر كاتب إذاعي قد لزم الصمت والاعتزال عن أجهزة الإعلام أكثر من عشر سنوات ليتفرَّع لكتاباته الإبداعية الحرَّة، فنسيتْه هذه الأجهزة كما نسيَه النقادُ تمامًا، وحكم عليه الجميع بالموت وهو حيٌّ. أُسدلت ستائر الصمت والظلام على مسلسلاته الإذاعية، التي كانت تُوقِف أنفاس الجماهير المتابعة لها؛ (كالمماليك، وملك الأورنس، وريا وسكينة، وأديب وغيرها)، وأشاح أهل المسرح بوجوههم، فلم يخطر على بال واحد منهم أن يلتفت إلى روائعه المسرحية؛ (كمحاكمة مطرب نشاز، والحرب والشاطئ الآخر، وغيرها)، وخرست ألسنة النقاد وجفَّت أقلامهم بعد رحيل الناقدَين الكبيرين اللذَين كتبا عنه قبل رحيلهما أيضًا (وهما عبد الحميد يونس وشكري عياد)، فلم يَقُل أحد ولم يكتب أحد عنه كلمة واحدة. وظلَّت ابنته بعد وفاته تدوخ السبع دوخات لكي تنشر أعماله الكاملة — التي قالت لي إنه جمعها ليلة وفاته عندما جمع أولاده حوله وأوصاهُم عليها — أو حتى أعماله المتأخرة التي لم يَسبِق نشرها … وأفكِّر الآن — بعد حوالي السنتين من رحيله — في الكوجيتو المصري الذي صاغه في زيارتي الأخيرة، وهو يبتسم ابتسامته المرَّة، فأسأل وأنا أبتسم كذلك ابتسامة مرة: أصحيح أن الإنسان عندنا لا يُوجد إلا حين يتظاهر ويدَّعي ويُعلن عن نفسه في كل بوقٍ وبكل وسيلةٍ؟!١
١  كتبت هذه اللوحة عن زيارتي الأخيرة لصديق العمر الحبيب عبد الرحمن فهمي، الروائي والمسرحي والقاص والكاتب الإذاعي الشهير، وذلك قبل رحيله بأسبوع واحد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤