الجسور

أحببتُ الجسور طوال حياتي. فرحتُ بالمشي والقفز عيلها، وهزِّ أسوارها الواهية وأنا بعدُ طفل صغير. كانت جسورًا خشبية مُتهالكة ومتآكلة من كثرة الأقدام التي مرَّت عليها، اهترأت ألواحها وامتلأت أرضيتها المتَّسخة بالفجوات الخطرة، ولكنها لم تفقد سحرها العجيب في عَينَي طفل ريفيٍّ من بلدة صغيرة في دلتا النيل. لن أستطيع الآن أن أصف مشاعري نحو تلك الجسور العجوز الهشَّة التي كنتُ أجدُها بسهولة فوق الترع والقنوات، وأُسرع إليها لأراقبَ الحمير والبقر والجاموس والفلاحين الطيبين الذين يَعبُرونها صامتين. بل إنني أتذكر بشيء من الخوف كيف كنتُ أدلي رأسي من بين فتحاتها المتسعة مع أنني لم أكن أعرف العوم وما زلت أجهله حتى اليوم.

وكبرتُ في العمر وأُتيح لي أن أعبر جسورًا على نهر الراين، وجسورًا على نهر السين يلوذ بها صعاليك باريس من الفنَّانين، الشحَّاذين المعروفين باسم «الكلوشار»، يستريحون تحتها في الليل ومعهم زجاجة النبيذ و«الباجيت» الأبيض الطويل. وسنحتْ فرصةُ إجازة قصيرة قضيتها في لندن بعبُور جسرها الشهير، فتذكرت حسرة الشاعر «إليوت» — في إحدى قصائده التي لا أذكر الآن إن كانت هي الأرض الخراب أو أغنية حب بروفروك — على مئات الرجال والنساء والأطفال، الذين يمشون عليه كل يوم وسيمُوتون حتمًا في يوم من الأيام. وها أنا ذا في كهولتي ثم في شيخوختي أعيش في القاهرة، كأني أعيش في جوف تنِّين مُحتضر — وإن كان لا يتورَّع عن ملء حياتنا إزعاجًا وضوضاء وتلوثًا من كل نوع. وأجدِّد عشقي القديم بتأمل جسورها في الليل بعد أن يهدأ ضجيج النهار، وأحسُّ وأنا أسير على أحد جسورها بمتعةٍ لا تَعدلُها متعة، بينما أستمع إلى همسات أنوارها الوديعة، وهي تخاطب جسد المدينة المنهك: ها أنا ذا أُضيء لك دروبًا تَعبُرينها من شاطئ إلى آخر، من المرض إلى الصحة، ومن العجز والشيخوخة إلى شباب الأمل والبعث الجديد، فهل تَسمعينَني أيتها الأم الطيبة التي ظلمها أبناؤها وشوَّهوا وجهها وسمموا هواءها وأهانُوا آثارها وأهملوا صروح الأصالة والعراقة والصمود والصبر فيها؟

وأنظر الآن في بعض رسوم فان جوخ وغيره من الفنانين عُشاق الجسور، وأسأل نفسي: ما المعنى الذي تَنطوي عليه؟ ما السر في ذلك السحر القديم الجديد؟ وأحاول الإجابة، فأقول: إنه التواصُل، الانتقال من أرض إلى أخرى، من شاطئ إلى شاطئ جديدٍ ومن حال إلى حال. هذه الظهور الخشبية أو الحديدية تتطوَّع مختارة بتحمُّل أثقال الأقدام والعجلات على اختلاف أنواعها وأشكالها، لتُوصِّل العابرين إلى برِّ الأمان. أغلبها يمتد فوق أنهار أو ترع أو قنوات؛ أي فوق حياة متدفِّقة تتدافع فيها موجة في إثر موجةٍ، وتتحرك حركة لا تعرف التوقف. إنها ثابتةٌ فوق الماء، ولكنَّها توحي بمعاني الحركة والصيرورة المتصلة، قد تصمد مئات السنين، وقد تُبادر بتخريبها الحروب وقوى القهر والتعصب والإرهاب، ولكنها في النهاية تنطق بأنها مؤقتةٌ وعابرة ككل مَن يعبرها، وكل شيء في حياة الإنسان. المؤمن بالله يعلم أن الدنيا جسر إلى الآخرة، مِحنة أو امتحان أو ابتلاء، إن اجتازه الإنسان بالعمل الصالح والقلب السليم فقد فاز بعُبوره إلى ما هو خير وأبقى. والمؤمن بهذا العالم وحده يعرف أن المجتمَع الذي يعيش فيه، والمدينة التي يسكنها ويعمل بها، ليست إلا جسرًا يحاول أن يعبره إلى مجتمعٍ أفضل وأعدل، ومدينة مثاليةٍ أجمل وأكمل، مدينة يحلم بها ويعمل بإخلاص مع غيره لتحقيقها في الواقع بالعلم والخبرة وبالثورة والأمل … كانت كل الحضارات التاريخية جسورًا يُؤدِّي بعضها إلى بعض، يلتقي العابرون من الناحيتين فيتفاعلون ويتبادلون المعرفة والتجارة وسبل العيش وأسبابه، أو يتحارَبُون ويتقاتلون ويدمرون ثم يذهبون، ولكنهم في كل الأحوال يهدمون جسورًا وقد يبنون جسورًا أخرى إلى أشكالٍ مختلفة من التحضر لا تنسخ بالضرورة خير ما في الأشكال السابقة عليها. والأجيال؟ إن الآباء جسور تمدُّ حبها ورعايتها وتضحياتها ليعبر فوقها الأبناء، والمعلمون جسور يجتازها التلاميذ إلى آفاق جديدة ومعارف وخبرات أكثر صحة أو أكثر حداثة. كلاهما — الآباء والأبناء — يُقدم تجربته للآتي بعده، وهو يقول: هذه هي تجربتي، خذها بخيرها أو شرِّها، وحاول أن تُجدِّدها وتضيف إليها. والويل لجيل أو أب أو معلم يتصوَّر أن تجربته مُطلَقة، أو يَتوهَّم أن خبرته نهائية وثابتة. إنه لينكر عندئذ أنه مجرَّد جسر، كما يتنكَّر لطبيعة الجسور ومعناها وحكمتها.

وقد أعجبت في شبابي، وما زلت معجبًا، بفلاسفة التطوُّر والتقدم والحركة، منذ هيراقليطس الإغريقي في القرن الخامس قبل الميلاد، إلى داروين الإنجليزي ونيتشه الألماني في القرن التاسع عشر، إلى المفكرين والأدباء «اليوتوبيين» الذين يرسمون ملامح مدن المستقبل التي لا تُوجد بعدُ في أي مكان (وهذا هو مفهوم كلمة يوتوبيا في أصلها اليوناني) ويدعوننا للكفاح في سبيل تحقيقها، أو يُحذروننا من أخطارها وأهوالها إن كانوا من المتشائمين الذين يُصوِّرون مدنًا أو يوتوبيات أخرى مضادة، ولا بد أن الرمز الذي تنطوي عليه كلمة الجسر هو الذي جذبني إلى أولئك وهؤلاء، ولعلَّ أشدهم تأثيرًا على نفسي حتى اليوم هو نيتشه، الذي حفر عباراته المشهورة عن الجسور في قلبي وعقلي، وأكاد أقول على لحمي وعظمي. ولا شك أننا نتذكَّر تلك العبارات المثقلة بالنبوءة والمتوهجة بالغضب والتمرُّد التي تردُ في مقدمة أروع كتبه، وهو «هكذا تكلم زرادشت»: «إنني أعلمكم الإنسان الأعلى، ما الإنسان إلا شيء ينبغي تجاوُزه، فماذا فعلتم لكي تتجاوَزُوه؟ الإنسان حبلٌ مشدود بين الحيوان وبين الإنسان الأعلى، حبل مُمتدٌّ فوق هاوية، معبرٌ خطر، مُفترق طريق مُخيف. وأعظم ما في الإنسان أنه جسرٌ، وليس هدفًا أو غاية.»

ومع أن فكرة الإنسان الأعلى فكرةٌ غامضة ومحيِّرة؛ فهي توحي للإنسان بأنه جسرٌ، وأنه على الدوام أمل لم يتحقَّق وواقع لم يكتمل بعد …

وأعود فأسأل نفسي وجيلي بعد أن تخطينا الستين أو حتى السبعين: هل كنا جسورًا صالحة لمن عبروا فوقنا؟ هل استطعنا أن نقدم لهم تجربة تعينهم على بلوغ شاطئ الأمان، أو نغرس فيهم ثقافة حيَّة وفاعلة تشجعهم على الاقتحام والتجاوز والإبداع والابتكار؟ وإذا كنا قد قمنا بهذا الواجب، فلماذا تتراكم حبال التعاسة والفقر والجهل والتخلف والفساد من حولنا، بل تكاد ترزَح فوق صدورنا؟ وعندما نتهاوى وننهار — كما تساقط الكثيرون من أعزائنا ورفاق طريقنا — فهل سيذكر أحد ممن تحملنا وطء أقدامهم على أجسادنا وأعمارنا؟!

لا يُمكنني الإجابة على هذه الأسئلة. فالإنصاف يأتي به الزمن أو لا يأتي، وربما ننسى وتنسى جهودنا تمام النسيان، ولا يذكر منا — إن ذكَرنا أحد أو تذكَّرنا — سوى فشلنا وخيبات آمالنا. لكننا نتمنَّى إن عبر بقبورنا عابر، أن يتذكَّر ما قاله الشاعر الإغريقي سيمونيدس عن زملائه الذين سقطوا صرعى في الميدان: أيها العابر الغريب! قل لمُواطنينا في إسبرطة … إننا نرقد هنا ولا نزال في الموت لعهدها أوفياء …

لعل العابر يومئذ يتذكر الجسور التي انهارت، وإذا وجد نفسه يمشي على جسور أقوى منها لا ينسى الذين مدُّوها. وإذا اتَّهم خبرتهم القاصرة، فلا يجحد إخلاصهم وصدقهم حتى لا تجحده بدوره أجيال آتية، ستمد جسورًا غير جسوره.

لستُ أقول هذا ولا يقوله جيلي، إنما تقوله الجسور التي حاول أن يَمدَّها: أنتم يا من تعبُرون فوقنا! إن هدمتمُونا يومًا وشيَّدتم غيرنا؛ فاذكرونا وسامحونا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤