قلب أم …

صباح ومساء، ويقظة ونوم، وأمنية بالنهار تتراءى حلمًا بالليل، وعجلة الزمن تدور فتطوي العمر وتختزل الحياة …

هذه هي الدنيا …

يا ويلتا! … وفي الناس من يعيش في دنياه كما يدور الثور في الطاحون: يدور ويدور ولا يزال يدور لا يدري أين ينتهي، ويمضي على وجهه في طريق طويل لا يقف عند حد ولا ينتهي إلى غاية، وحوله أربعة جدران!

وهل الحياة إلا يوم مكرر؟

ما أمس؟ وما اليوم؟ وما غد …؟ إن هي إلا رسوم متشابهة تتعاقب على مرآة مثبَّتة في جدار قائم. الصورة واحدة ولكنها تلوح وتختفي، وتزعم المرآة أنها ثلاثة شخوص أطافت بذاك المكان!

ولولا خداع النفس وأباطيل المُنَى ما طابت الحياة!

•••

… واستيقظت «الأم» ذات صباح كما تستيقظ كلَّ صباح، فأبدلت ثوبًا بثوب، وجثت في محرابها تصلِّي لله وتدعو …

كانت تعيش وحدها في هذه الدار المتداعية منذ سنوات.

لقد فارَقَها «الرجل» فراقَ الأبد، وحمله الرجال على الأعناق إلى مَثْواه، ولكن ذِكْراه بقيت معها في ولدَيْه …

… وبكَّرت إليه في الغداة تنثر الزهر على قبره وفي نفسها لهفة وفي عينها دموع، ثم تحوَّلت عنه إلى ولدَيْه لتجفِّف في صدرهما دموعها.

وآلت منذ ذلك اليوم أن تكون لهذا الطفل وأختِه أمًّا وأبًا … وبرَّت بما وعدت. كان ذلك منذ أربع عشرة سنة.

•••

أما الفتاة فقد شبَّت واكتملت ونضجت ثمرتها فانتقلت من دار إلى دار … وباحت بمكنونها إلى زوجها الشاب واستمعت إلى نجواه … وعرفت دنيا جديدة … أتُراها تذكر اليومَ أمَّها …؟ أَلَا إن أمها لَقانعة راضية بما بلغت من أمانيها … لقد تحقَّقت لها أمنية من أمنيتَين …

وأما الفتى فقد قطع في سبيله مرحلتين وانتهى إلى الجامعة، فما أهون ما بقي! … إنه بعيد عن أمه منذ سنواتٍ ثلاثٍ يجاهد جهاده ليبلغ مأمله، ولم يبقَ إلا خطوة واحدة …

وأما الأم فإنها في وَحْدتها من تلك الدار ما تزال تصلِّي لله وتدعو ليحقِّق لها ما بقي.

يا لله! أهذه هي؟ لشد ما غيَّرتها الأيام! …

•••

… كان لها جاه ومال، وكان لها شباب وفتنة، وكانت حياتها أغنية ضاحكة كلها مرح ونشوة ودلال … يا للمسكينة! أين هي اليوم مما كانت منذ أربع عشرة سنة؟

أتُرى مرآتها تحدِّثها بما كان وبما صار كعهدها يوم كانت … ولكن أين تلك المرآة …؟ لقد علاها غبار السنين؛ فما لها عين تنظر ولا لسان يصف.

هاتان عينان قد انطفأ بريقهما؛ فما لهما همس ولا نجوى.

وهاتان وجنتان ذابلتان ليس لهما أَرَجٌ ولا شذى.

وهاتان شفتان قد أطبقتا على ابتسامة حزينة ليس لها صوت ولا صدى.

وهذا الشَّعْر — ما كان أجمله يوم كان! — قد خطَّت عليه الليالي سطورًا بيضاء في صحيفة مسودة. إن فيها تاريخَ جهادٍ نبيلٍ أربعةَ عشرَ عامًا بلا ونى ولا كلال.

… لقد بذلت لولدَيْها أغلى ما كانت تملك؛ بذلت المال والشباب، وبَرِئت من شهوات النفس وأوهام المُنَى، ونسيت كل شيء مما كانت تطمح إليه، إلا شيئًا واحدًا، عاشت ما عاشت له، وبذلت ما بذلت من أجله، وخاطرت بما خاطرت في سبيله … ذانك ولداها العزيزان … أما واحدة فقد بلغت، وأما الثاني …

إنها لَقريرة العين على ما جاهدت وما بذلت؛ لأنها من الغاية التي تهدف إليها على خطوات.

•••

… وفرغت الأم من صلاتها ودعائها فنهضت متثاقِلةً إلى صوانها ففتحته فأخرجت منه كِسرة جافة فبلَّتها تحت الحنفية وأخذت تَلُوكها بين فكَّيْها، ثم صَعِدَتْ إلى سطح الدار تتشمَّس …

وأمسكت عودًا من الحطب تهشُّ به على دجاجها وهي تنثر له الحَبَّ وفُتات الخبز الناشف. إن لها في هذا المكان لَسلوةً وأُنسًا، وإنها لَتجد من هذه الطيور أسرةً تأنس إليها وتتسلى بمَرْآها، بضع دجاجات وديك، هذا كلُّ ما بقي لها من أُنس العشير!

وانحنت على خُمِّ الدجاج فأخذت ما فيه من بيض، ثم هبطت الدَّرَج تستند إلى الحائط حتى بلغت غرفتها، فوضعت ما معها من البيض في كيس النخالة وجلست في النافذة تَرقُب ساعيَ البريد …

لقد تعوَّدت أن تتلقَّى في مثل هذا اليوم من كل أسبوع رسالةً من ولدها …

وجاء ساعي البريد فسلَّم إليها الرسالة، ففضَّتها معجلة وقرأت …

إنه قادم بعد يومين ليراها …

يا فرحتا! إن لها عيدًا من دون الناس.

ووفرت الأم من غدائها لعشائها، وقامت إلى الصوان فأخرجت ثوبها الجديد الذي خاطته منذ عامين، فرتَقَت ما فيه من فُتوق؛ استعدادًا ليوم الاستقبال السعيد.

وكنست، ونظَّفت، وهيَّأت فراش الضيف، وجلست تعدُّ الساعات وتهيئ برنامج الاستقبال، ونامت ليلتها تحلم …

ومضى اليومان وحل الميعاد، وجلست الأم وراء الباب تَرقُب مَقدمَ فَتاها وقد هيَّأت ما هيَّأت لاستقباله …

كذلك تفعل كلما حان موعد زيارته، وإن له زيارة في كل شهر.

•••

وتلقَّت الأم ولدها بالترحيب والعناق، وكأنما عاد إليها الشباب، فإن في عينيها بريقًا، وفي خدَيْها حُمرة، وعلى شفتيها ابتسام، وفي جبينها أَلَق.

وجلس إليها ساعة يحدِّثها وتحدِّثه، ثم نهض يتهيأ للخروج ليَجُول في المدينة جَولة، ومشى يختال في زيه وزينته، وأمه تشيِّعه بعينيها من النافذة فرحانة!

لا عليها مما تقاسي من الجوع والظمأ والحرمان وإنه لَسعيد. حسبُها من سعادة العيش أن يكون ولدُها كما يتمنَّى لنفسه، إنها لَتكتمُ عنه وعن الناس ما تجد من الضِّيق والحَرَج وقسوة الحياة. وماذا يُجدِي عليها أن يعرف إلا أن يحزن ويتألم!

… وتوارى الفتى عن عينيها في منعطفات الطريق، فابتعدت عن النافذة وعلى خدَّيها دموع، وراحت إلى الصوان تفتحه لتُخرِج صندوقها الصغير؛ الصندوق العزيز الذي يضم ذكريات الماضي جميعًا، ويضم أماني المستقبل …

في هذا الصندوق أهدى إليها زوجُها الذي فقدته منذ بضع عشرة سنة هديةَ العُرْس الغالية، وفي هذا الصندوق كانت تحفظ ما تحفظ من حِلَاها وجواهرها يومَ كان لها حِلًى وجواهر، وفي هذا الصندوق كانت تدَّخِر ما تدَّخِر من مال لتنفق على ولدَيْها حتى تبلغ بهما مبلغَها … فماذا يضم صندوقها العزيز اليومَ؟

بضعة جنيهات، وقرط مكسور، وسِوار من الذهب؛ هذا كل ما هناك … وإن بين ولدها وبين الغاية التي يهدف إليها بضعة أشهر … ماذا يُجدِي كل ذلك؟

•••

… وتركته في فراشه نائمًا يحلم، وبكَّرت إلى السوق وفي يدها قرطها المكسور وسِوارها، تشدُّ عليهما أناملها المرتجفة.

وعادت بعد ساعة ومعها مال!

واستيقظ الفتى ليقصَّ على أمه رؤياه وهو يضحك في مرح ونشوة، ويُمنِّيها بما ينتظر من السعادة يومَ يكون ويكون. وابتسمت …

ورفعت عينيها إلى السماء وعلى شفتَيْها نجوى خافتة، وفي قلبها أمل.

وقامت تودِّعه إلى الباب، وأعطته ما طلب، لم تَحرِمه من شيء في نفسه، وانثنت إلى غرفتها لتضع الصندوق الفارغ في موضعه من الصوان.

ومضى الفتى على وجهه لا يبالي ما خلَّفَ وراء ظهره … مَن ذا الذي يرى هذا الفتى المتأنق الجواد فيعرف مَن يكون؟

إنه هو نفسه لا يعرف … وأمه حيث تركها، تعيش في دُنْياها بين صباح ومساء، ويقظة ونوم، وأمنية بالنهار تتراءى حلمًا بالليل، وعجلة الزمن تدور فتطوي الحياة وتختزل العمر، وهي لا تدري. هذه هي دنياها. ولكن لها يومًا تترقَّب مَطلعَه على شوق ولهفة، ولكن متى …؟ أترى هذا اليوم حين يجيء يردُّ عليها الشبابَ المُدبِر والعمرَ الذي ضاع؟!

•••

وانقضت بضعة أشهر، وحان اليومُ الذي كانت تنتظر، وكانت راقدة في فراشها تحلم، حين دخل إليها زوج ابنتها ليزفَّ إليها البشرى … بنجاح ولدها …

وجلست في فراشها وأشرق وجهها بابتسامة راضية، وقبَّلت البشير قبلة، ثم مال رأسها على الوسادة … وكانت تبتسم …

وهتفت في صوت خافت: الآن أدَّيتُ واجبي! وعادت الابتسامة إلى شفتَيْها أكثر إشراقًا وفتنة.

ودارت بعينيها في أرجاء الغرفة حتى استقرت على صورة فَتاها في إطارها، ثم أطبقت أجفانها.

وتراقصت أشعة المصباح الذابل في الغرفة الخالية من الأثاث إلا من سرير محطَّم عليه جسد محطَّم.

وهبَّت نسمة عابرة فأطفأت المصباح وعمَّ الظلام. وخرج الرجلُ ناكسَ الرأس يتعثَّر في خُطاه ليُلقِي إلى زوجته النبأ الفاجع …

وكانت زوجته جالسةً إلى المرآة تتزين …

•••

وعلى حين كانت الدار تموج بالأهل، والجيران يتهيئون لتشييع الأم إلى مقرها، كان الفتى جالسًا في ثُلَّة من أصدقائه وصديقاته يحتفلون باليوم السعيد!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤