إبليس يتوب!

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ …

***

أرخى الليل سدولَه على الكائنات، وأوى الناس إلى مضاجعهم فارغين من همِّ الحياة، إلا محزونًا قد حضره بثُّه، أو عابدًا قائمًا في مِحرابه، أو حارسَ ليلٍ قد سهر لعيشه، أو عاشقًا يسترجع ذكرياته، أو صاحبَ لهْوٍ وغزل قد اسودَّ نهاره وابيضَّ ليله …

وفرغ إبليس مما كان فيه من تدبير سلطانه وسياسة رعيته، وانفضَّ «زبانيته» عن مجلسهم إليه كلَّ مساء، فتفرَّقوا زِبْنيًّا وراء زِبْنيٍّ، وانبثوا ينفثون الشر عن أمره في أوكار الظلام، ففي كل منعطف شيطان صغير يتربَّص، وبين كل اثنين من البشر ثالثٌ من جند الشيطان لا يَرَيانه … وتسلَّل إلى مَضاجع النُّوَّام من بني آدم نفرٌ من الزبانية يصنعون لهم الأحلام، ويتمنَّون الأماني، ويوقظون الشهوات …

وأشرف إبليس من طاقه على الدنيا يَرقُب ما يكون من أمرِه وأمرِ الناس، أيقاظًا أو نائمين. وكأن قد سرَّه ما رأى وما سمع، وما أُلقِي إليه من علمِ ما لم يسمع ولم يرَ، فاطمأن إلى غلبة سلطانه على الأرض، ونفاذ حكمه على البشر، واستعلاء كلمته في الناس … فبردت ناره، وهدأت حميته، وسكنت فورة الكبرياء التي شبَّها الحسد في قلبه يومَ اتخذ اللهُ بشرًا من طينٍ ليجعله خليفةً في الأرض …

… وكأنْ قد رأى إبليس في تلك الليلة أن المباراة بينه وبين البشرية قد انتهت إلى غايتها، وثبتت حجته على الله … فتمتم بكلمات مزهوًّا فخورًا بالنصر والغلبة، فلم يكد يفعل حتى برق البرق، ورعد الرعد، وعصفت الرياح، وتهاوت الشُّهب، وزُلزِلت الأرض، وتحرَّكت الرواسي، ولاح بين المشرق والمغرب شعاعٌ من نور …

وارتعد إبليس وأخذه الروع حين رأى ما رأى وسمع ما سمع، وناله من الفزع ما لم ينله مثله منذ كان؛ فهتف في ندم وذلة وضراعة: «يا رب! أئنَّها القيامة …؟»

فلم يلبث أن خبا البرق، وسكت الرعد، وهدأت الريح، وسكنت الأرض، وأُرسيت الجبال؛ فأُفرخ روع إبليس، وثابت نفسه إلى الطمأنينة، وعاد يُشرِف من طاقه على الدنيا هادئًا راضيًا يَرقُب ما يكون من أمر زَبانيته وأمر الناس!

وسمع في هدأة الليل شيخًا قائمًا في محرابه يصلِّي لله ويدعو، فما يبدأ ولا ينتهي من سجدة إلا استعاذ بالله من الشيطان الرجيم. وأحسَّ إبليس لعنات الشيخ تتساقط عليه وحواليه رجومًا، فلو كان من طين لَاحترق، ولو كان من ثلج لَذاب …

وصرَّت أسنان الشيطان من الغيظ، وانقدح من حجاجيه شرار كاللهب؛ كيف عجز وعجزت زَبانيته معه عن فتنة هذا الآدمي وإرادته على أن يتعلق بحظه من الدنيا وشهوات النفس، على حين لم يعجزه أن يطرد أباه من الجنة …؟!

وكأن قد سمع إبليسُ وهو في موقفه ذاك ضحكةً ساخرة ردَّته عما هو فيه من الغيظ والحنق إلى التفكير في شأنه وشأن بني آدم جميعًا: هذا آدمي يلعنه في صلواته ويقذفه برجومه، أفكان يعتصم من لعناته لو أنه سلَّط عليه شهواته وأغرى به هواه؟! فكيف وإن من بني آدم ملايين من أهل الغواية والضلال لا يتورَّعون عن منكر ولا يتحرَّجون من معصية، وإن الآدمي منهم لَيرتكبُ الخطيئةَ طاعةً لأمر الشيطان ثم يلعنه، بل إن منهم مَن يقارف الذنب وهو يستعيذ من الشيطان الرجيم، فكأنما ييسِّر لهم إبليس شهواتهم ويُضاعِف لهم مَسرَّاتها ليَجزوه على ما قدَّم إليهم رُجومًا ولَعنات؛ فإنهم لَيسرعون إلى لعنته إسراعهم إلى طاعته، وهو الشيطان الرجيم على لسان كل بشري من بني آدم، سواء منهم طائعه وعاصيه!

وظل إبليس في موقفه ذاك، مُشرِفًا من طاقه على الدنيا، يتفكَّر في شأنه وشأن بني آدم، وزَبانيته ماضون لما أمرهم: يخالطون أنفاسَ النائم، ويوسوسون في أذن اليقظان، ويؤنسون خلوةَ المستوحش، ويُوحشون مجتمعَ الأحباب …!

وهبَّ نسيم السحر نديًّا رطبًا يعطِّر الدنيا بأنفاس أهل الجنة، فاستروح منه إبليس روحَ الماضي يذكِّره أيامَه كلها منذ بدء الخليقة ويلقي التاريخ بين يديه؛ وتغشته الذِّكرى، وعاد الزمان القهقرى أمام عينيه، فإذا هو مَلَك بين الملائك يسبِّحون بحمد ربهم حافِّين من حول العرش؛ ثم إذا هو يفسق عن أمر ربه آبيًا مستكبرًا أن يسجد لبشر من طين، وإذا هو من بعدُ مطرودٌ من رحمة الله، مذموم مدحور يرجمه الفضاء ويلعنه الأبد؛ ثم ينفث نفثتَه في صدر حواء فيزلُّها وزوجها عن الجنة فيُخرِجهما مما كانا فيه، ويتعقَّب أبناءهما من بعدهما على الأرض يصنع منهم حطبَ جهنم، فما بشرٌ من الناس إلا له شيطان يسعى بين يدَيْه …

… ثم ها هو في موقفه ذاك، تتناثر من حوله لعنات الأحياء من بني آدم جميعًا، وتصكُّ أذنَيْه من مكان سحيق زفراتُ عُبَّاده في نار جهنم تُكوى جِباهُهم وجنوبُهم بما أغواهم وأضلَّهم سواء السبيل …!

ولأول مرة في تاريخ البشرية استشعر إبليس لذعَ الندم فدمعت عيناه …!

يا لها سخرية …! إبليس يتوب …!

كَفَاهُ ما اقترف منذ هبط من السماء انتقامًا لكبريائه التي زعمها دِيست يومَ أُمِر أن يسجد لصلصال من حمأ مسنون!

أكانت توبةً نصوحًا، أم مبالغةً في الانتقام، أم هو قد اشتهى أن يعيش بشرًا بين البشر عمرًا من عمره؛ ليذوقَ بعض لذَّات البشرية ويرى بعينَيْ حسه كيف يفتتن بها الناس جميعًا منذ كانوا، فتُسرِع بهم شهواتُهم إلى طاعة الشيطان …؟

•••

وطلع إبليس على الأرض فتًى وسيمًا يمشي على قدمَيْن مشيَ الناس، وشعر لأول ما لبسته البشرية أنه جائع، فعاج على نديٍّ ساهر له به عهد؛ لأنه هو الذي أنشأه وأقامه حجرًا على حجر، وطالما قضى فيه الليالي ذوات العدد من حيث لا يراه ذو عينين، ينفث الشر، ويبذر بذورَ الخطيئة، ويفتنُّ في وسائل الإغواء …

كانت مصابيح النديِّ ترمي أضواءها إلى بعيد، وتمدُّ من أشعتها شَرَكًا يصيد الناس ويأخذ عليهم طريقَهم؛ وكأنَّ كل ما ينبعث منه يشعر أن هناك حركة وعملًا يُغريان مَن يلتمس إرضاءَ شهواته …

ولكن … ها هو ذا إبليس يصعد الدَّرَج في أناة ورِفق، ويدفع الباب في هدوء وخِفة، ويخطو إلى البَهْو في سكون وحذر؛ فيرى، ولكنه يرى أجسادًا لا تكاد تتحرك؛ ويسمع، ولكنه لا يسمع إلا مثل أنفاس النائمين؛ ويشهد، ولكنه لا يشهد إلا عيونًا محدِّقة في الفضاء تتأمل. لم يكونوا سكارى ولا مُغيَّبين، ولكنَّ فكرةً طارئة قد أُلقِيت إلى قلوبهم فإنها لَتسيطر عليهم جميعًا فتجمعهم على حال واحدة بين السخط والرضا، وبين الندم والاستغفار؛ وكأنما كانت على أعينهم جميعًا غشاوة فانقشعت، فعادوا يرون ويسمعون ما لم يروا من قبلُ أو يسمعوا …!

وجلس الشيطان إلى مائدته وحيدًا وطلب طعامًا، وراح يُدِير عينَيه فيما حوله ومَن حوله، ويتسمَّع نجوى الضمائر الخفية في أعماق أصحابها.

ورأى مائدة خضراء مبسوطة، قد تناثر عليها ها هنا وهنالك نقدٌ وورق، ورأى كئوسًا فارغة وممتلئة، ورجالًا ونساءً قد تحلَّقوا حول المائدة كتفًا لكتف، وامرأة بين كل رجلَين … ولكن يدًا واحدة لا تمتد إلى شيء، وفمًا واحدًا لا ينبس بكلمة …

وأبصر رجلًا يهتزُّ في موضعه هزةً خفيفة وهو يتحدث إلى نفسه حديثًا وعاه إبليس كأنْ قد سمعه بأذنين: «ماذا يصنع وقد خسر على المائدة كلَّ ما كان له من مال؟ إنه لَيرى ماله أمامه على المائدة ولكنه ليس من حقه؛ لأن حظه في اللعب قضى به لغيره، هو قضاء غير مشروع، ولكنه حُكم العُرْف فما عليه إلا الطاعة!» وقالت له نفسه: «ما أنت والقمار؟ كم نهيتُكَ فلم تنتهِ! الآن فذُقْ ألمَ الحرمان مما تملك، فلعلك لا تستمع إلى إغواء الشيطان من بعدُ …»

واختلج إبليس في مجلسه اختلاجةً كادت تنمُّ عليه حين ذُكِر اسمه، وهمَّ أن ينهض لولا أن أقبل عليه النادل بالطعام.

وشُغِل إبليس لحظةً بالأكل يزدرد اللقمة بعد اللقمة لا يكاد يحرِّك بها فكه، وعرف لأول ما ذاق الطعام لماذا كانت شهوة البطن أولَ همِّ الإنسان!

وعاد ينظر إلى وجوه الناس ويتسمَّع نجوى الضمائر، فما راعه إلا هذا المقامر الرابح محدِّقًا في الفضاء يتفكَّر، وإن وجهه لَتتعاقب عليه ألوانٌ شتى من الندم والخِزي والحياء … ثم لم يلبث أن نهض يجمع المال المبعثر على المائدة فيفرِّقه في سُماره وهو يقول: «معذرة يا صحابتي! فإنما هو مالكم ليس لي حق في شيء منه، وما لعبت لأسلبكم ما تملكون، إنما هي السلوة وإزجاء الفراغ …» وعضَّ على شفتَيْه واحمرَّ وجهه خجلًا؛ إذ كان يعلم ويعلم أصحابه أنه كاذب في اعتذاره، فما قامَرَ إلا مؤمِّلًا أن يربح، وما ربح من قبلُ مرةً إلا وهو يعلم أنه يأخذ ما لا يملك؛ وقد ربح الليلة، ولكنه حتى ضم يديه على المال أحسَّ كأنه يقبض على جمر، ورفَّتْ به سانحة من الخير فتعفَّف أن يأكل مالَ الناس، فخرج عنه لأهله …!

ونظر الرجل إلى يمينه فإذا جارته مطرقة قد تغرغرت عيناها، فمال عليها وهو يهمس: «أيكون قد أغضبَكِ ما فعلتُ يا سيدتي؟»

قالت المرأة: «عفوًا، ليس لي شأن بذاك، ولكنَّ أمرًا يقتضيني أن أعود مُسرِعةً إلى الدار …!»

وهبَّت واقفة، فقال الرجل متلطفًا: «أتأذنين أن أصحبك؟»

قالت: «شكرًا …!»

وسارت في طريقها فما ألحَّ الرجل ولا تعوَّقت المرأة. ومالت إلى غرفة في الندي تأخذ زينتها في المرآة، فأدركتها صديقة، ونظرت كلٌّ منهما في وجه صاحبتها فأطالت النظر، ثم أطرقتا!

منذ بعيدٍ تقارف هاتان المرأتان الإثمَ في غيرِ حذرٍ ولا تذمم؛ أما إحداهما فضحية شابٍّ أغواها حتى نال منها ثم اختفى وخلَّف بين أحشائها بِضْعةً منه، ففرَّت بِعارها من قانون الجماعة إلى حيث تشفي داء قلبها بالانتقام من الرجال!

وأما الأخرى فزوجٌ كالأيِّم، أو هي أيِّم وإن تكُ ذات بعل؛ فما شعرت يومًا أن لها حقًّا على رَجُلها، وإنه لَدائمُ التجوال بين البلاد، لا تستقرُّ به الحياة في داره يومًا حتى تعرض له الأماني تُغرِيه أن يضرب في الأرض يطلب المال أو يطلب المجد، وليس لها من ماله أو مجده إلا الحرمان والظمأ …

لم تحس المرأتان قبل الليلة معنًى من معاني الندم على ما تأتيان من المعصية، فما بالهما الليلةَ مُطرِقتين قد جثم على صدرَيْهما الهمُّ …؟!

أرأيت إلى المجرم إذ يُفجَأ وهو يقارف جريمةً منكرة، فليس يملك أن ينكر ولا أن يعتذر …؟

وعادت المرأتان تنظر إحداهما إلى الأخرى، فإذا هما تتعانقان وقد أجهشتا باكيتين؛ وأطفأت دموعُ الاستغفار وقدَ النارِ ولذعَ الندم، فكأنما حلَّت في جسدِ كلٍّ منهما روحٌ جديدة قد خرجت من الجنة لساعتها لم تتعلَّق إثمًا ولم تجترح معصية …

… وتلفَّت إبليس فإذا الندي مُقفِرٌ خالٍ ليس فيه إلا النُّدُل يسعون بين الموائد الخالية، يرفعون الأوراق والأقداح ويصفِّفون الكراسي والمناضد!

•••

وتنفَّس الصبح فأبدل إبليسُ ثيابًا بثياب وانطلق في تُبَّانِه وبُرنُسه إلى شاطئ البحر ليستمتع هنالك بما يستمتع به البشر، ويملأ عينَيه من مفاتن دنيا الناس. لقد كان له في البحر معهدٌ يرتاده زَبانيته يعلِّمون الناس السِّحرَ وينصبون شَرَك الفتنة؛ وها هو ذا البحر، فأين فتنته وسِحره؟ وأين مَباهجه التي كانت؟ أين الأجسام البَضَّة، والأذرع الغَضَّة، والسيقان اللَّفَّاء؟ وأين العيون التي ترمي فتُصمِي؟ وأين لآلئ البحر تغوص وتطفو؟ وأين الزبد الأبيض يلاطم الزبد الأبيض؟

لقد خلا البحر من عرائسه، إلا عجوزًا مقرورة مستلقية على الشاطئ لا يبدو منها إلا عينان تبصان كصدفتين في كومة رمل! وهذه فتاة تمشي على استحياء مستندة إلى ذراع أخيها فما تعرَّت من بُرنُسها إلا ليسترها الماء، وهذا رأس رجل يبدو سابحًا من بعيد، فما يكاد يرى الفتاة حتى يتنكَّب عن الطريق لئلا تتأذَّى منه الحسناء السبوح!

وأحسَّ إبليس أول آلام البشرية في الوَحْدة والفراغ والضجر، فمضى على وجهه ممتلئ النفس فارغ الفؤاد؛ لقد ودَّع عالمه الموحش تحت الرغام ليظفر بالأنس في عالم البشرية، فما ظفر إلا بالوحشة وألم الشعور بالحرمان؛ وخلع شيطانيته تائبًا ليَهَبَ للناس الاستقرارَ والسلام، فما لقي هو في بشريته إلا الاضطراب والألم!

•••

واطمأنت الحياة بالناس حين بطل سِحر الشيطان، فاجتمعوا على الرضا والطاعة في حال شر منها السخط والعصيان؛ إذ لم يكن ثمة عدوان يدعو إلى المقاوَمة، أو تربُّص ينبِّه إلى الحذر، أو كَيْد يستتبع الحرص واليقظة؛ وعاد كل فرد أُمَّة وحده، يعيش في رضًا وقناعة على أكمل ما يكون الإنسان صلاحًا وحبًّا للخير؛ ولكن الجماعة حين وجدت الأمن والسلام، لم تجد ما يشدُّ وَحْدتها ويربطها آصِرة إلى آصِرة.

ودبَّ النعاس إلى أجفان الحياة؛ فمات الطموح لأنه باب من التكبر؛ وخمد النشاط لأنه جهاد في غير عدُوٍّ؛ واستنام الناس إلى القدر لأنَّ التمنِّي ضربٌ من الأثرة؛ وعاش نصف الناس عيالًا على نصف الناس؛ فليس ثمة عملٌ للشرطة والجيش ورجال الحكم، وأنَّى لهم أن يعملوا ما دام لا سرقة ولا قتال ولا عدوان؟

وكسدت سوق القفال والزراد والصيقل والرماح؛ وما حاجة الناس إلى الأقفال والدروع والسيوف والرماح؟

•••

وقال فتًى لصاحبه: «قد آن أوان «مولد» الولي العارف بالله …» فأجابه صاحبه: «دع عنك يا صديقي، وتعال نلتمس نزهة في غير ساحة هذا المولد، فما لنا ولهذه المهرجانات التي لا تجتمع إلا على شر ولا تحشد الناس إلا لمعصية؟ حسبي أن أعمر قلبي بذكر الله، وأتخذ أولياءَه قدوتي وإمامي …»

وأمَّن صاحبه على قوله، ولكن البدال، والبقال، والبزاز، وبائع الحمص، وصانع الحلوى، ومدير الملهى؛ لم يعرفوا لماذا هجر الناس المولد؛ فمضى الموسم ما باعوا ولا اشتروا ولا تعوضوا، وقوَّض كل منهم خيمته ومضى غير مأجور على جهاده!

وقال بعضهم لبعض: «أترون الناس قد نسوا أولياءهم فتمرَّدوا على ما اعتادوا؟»

فأجاب شيخ كبير: «ذلك من عمل الشيطان …»

وأراق الخمَّار أحمرَه وأصفرَه وهو يقول: «ليت خمري كانت خلًّا …!»

وجلس قاضيان يداولان بينهما الرأي: «أيهما خير: أن تعيش الفضيلة وحدها على الأرض، أو تنبت بين أشواك الرذيلة والمنكر والشر، فيكون للإنسانية منها أفراح ثلاثة: فرح النفس المؤمنة بها، وفرحها بالصبر على المجاهَدة لها، وفرحها بالظفر بعد مشقة الجهاد …؟»

•••

ونظر شيخ من الزهاد في صحيفة أعماله، فإذا هي بيضاء أو كالبيضاء؛ وهل يُضاعِف الأجرَ إلا المقاوَمة؟ أما لو أن عابدًا قضى الدهر كله راكعًا ساجدًا، ما عدل أجرُ عبادته كلِّها ثوابَ ساعةٍ لشابٍّ تتجاذبه شهوات الدنيا، كلما هفت نفسه إلى معصية ردَّه عنها الإيمانُ والتُّقى، فهو أبدًا في مجاهَدة لا يهدأ، وهو أبدًا مأجورٌ أجرًا لا ينتهي!

وإنما يقظة الحياة في الجهاد والمقاوَمة، وتوقُّع ما يأتي به الغد على شتى ألوانه؛ فإذا عدم الجهاد، وفُقدت دواعي المقاوَمة، وعاش الإنسان لساعته التي هو فيها — أعمًى أو كالأعمى لا يبصر ما أمام — فقدت الحياةُ معناها الأسمى، وعاش الناس في هدًى أشبه بالضلال، وفي فضيلةٍ شرٍّ من الإثم والفسوق والعصيان!

أيها الزاري على القدر، ليتك تدري …! هل تستوقد النار إلا بالحطب؟ فمن أين لك، ما دمت تشفق على الغصن اليابس والهشيم الجاف؟!

وهل يعلم الفسَّاق والعُصاة من بني آدم، أنهم قبل أن يكونوا في أُخراهم حطبَ جهنم، كانوا في دنياهم سُلَّمَ البشرية إلى مثلها الأعلى …؟

•••

وتثاءب الشيطان وتمطَّى إذ أدركه النعاس الذي ضرب على عيون البشر، وإذا هو وقد خضع لناموس البشرية قد ناله ما ينال الناس من الضِّيق والملل وتقلُّب الرأي، إذا تقلقلت دنياه طلب الاستقرار، فإذا استقرَّ عاد ينشد الحركةَ ويتبرَّم بالسكون …!

وقلَّبَ وجهَه في السماء كاسفًا محزونًا، ثم أسند رأسه إلى راحته، وجلس يتفكَّر …

أي خير كان يقدِّم للجماعة البشرية، على حين كان لا يبغي إلا الكيد والانتقام؟ هذه الدنيا تنام بعد يقظة، وتسكن بعد حركة، وتسترخي بعد نشاط؛ لأنه هو قد بطل سِحره، وإذ لم يبقَ في الدنيا شر، مات في الجماعة روحُ الانبعاث إلى الخير …!

وهتف «الشيطان» ذاهلًا في حيرة: «يا رب! ما أعجبَ تدبيرك وأدقَّ حكمتك! خلقت الشر والخير يصطرعان في هذا العالم؛ لتُوجِد منهما الخيرَ الأعظم، وأنا — أنا عبدك المشئوم — حسبتني يومًا أكبر مما أنا، حين ذهبت أهدم ما تبني، وأعصي ما تأمر، وأدعو إلى ما تنهى؛ فلما آذنتَ أن تذل كبريائي، أريتَني نفسي إلى جانب عظمتك، أنا الذي زيَّن له الغُرورُ يومًا أنه أكبرُ من أمرك، فإذا أنا أعصي عصياني في طاعتك، وأُفسِد إفسادي لإصلاح عِبادك، على قدر منك وتدبير حكيم …»

وشعر إبليس بالخيبة تلاحقه في كل مكان، فلا هو هناك — في عالمه الشيطاني — كان موفَّقًا فيما يحاول من أسباب الانتقام، ولا هو هنا …

وعاوَدته نزغةٌ شيطانية، ولكنه لم يلبث أن قمعها في صدره وانطلق في سبيله.

•••

وانتهى إلى البستان المعشوشب المخضل وقد نال منه الإعياء، فارتمى على العشب الرطب يستريح في ظل وارفة لَفَّاء، وطلع له من بين ملتف الحدائق حسناءُ وضَّاءة، تمشي كما يهتزُّ الغصن، وترنو كما يبتسم الزهر.

وأحسَّ إبليس مرةً أخرى أن قانون البشرية يعمل في دمه وأعصابه، وأطال النظر إلى الحسناء الفاتنة، ثم أطبق عينَيْه كأنما توهَّم أنه قد احتوتها أجفانه، وشعر بمس الحب في قلبه فأشرق وجهه بابتسامة هادئة فيها لمحةٌ من السرور وغيرُ قليل من الألم.

وجلست الحسناء جلستَها على العشب غير بعيد، وضمَّت إليها أطرافَ ثوبها يستر شيئًا ويكشف عن شيء، مستأمنة مطمئنة.

وخطا إبليس خطوتَين إلى حيث جلست يسألها شيئًا، فاستحيت حواء الصغيرة وأرخَتْ فضْلَ ثوبها على الوجه الفاتن، ووقف إبليس يُنشِد قصيدةَ غزل طويلة وَعَتْها حواء كلمةً كلمةً ومعنًى معنًى ولكنها لم تنبسْ، ومدَّ إليها يدًا يستنهضها فما نهضت وازورَّت عنه مُعرِضة، وسكت ولكن عينيه ظلتا تتحدَّثان حديثهما …

واربدَّ وجه المرأة من غضب، فما رأى إبليس غضبتها إلا فنًّا جديدًا من فنون جمالها؛ فدنا منها وعلى شفتَيْه ابتسامته، فقالت وقد ضاقت به: «إليكَ عني يا فتى وخلِّ سبيلي …!»

وضاق صدر الشيطان بهذا الإنسان العنيد، وثقُل عليه أن يعجز عنها وهو هو!

كم أنثى قبلَ صاحبتِه هذه كانت من عُبَّاده وأتباعه، ما تأبَّتْ واحدةٌ منهن على ما أراد لها، على أنه اليومَ يريدها لنفسه هو، فليس به اليومَ حاجةٌ لأن يسعى لغيره وقد خلع عنه شيطانيته …!

ماذا …؟ أيعيش هذه الآلافَ من سِنِيه الماضية يتحكَّم في البشرية كلها، ويُملي إرادته، ويسعى بين الناس، ويصل بين الأحباب، ويقدِّم الثمرةَ لكلِّ مَن يشتهيها؛ حتى إذا اشتهى هو أن يذوق تلك الثمرة أعجزه أن ينالها …؟

وللمرة الثانية منذ خُلِق، شعر أن كبرياءه جريح …

لقد أبى أن يسجد لأبي البشرية كلها وفسق عن أمر ربه، أفتفسق عن إرادته امرأة؟ وما هو إنْ لم يغلبها على نفسها؟ وما هي حتى تتأبَّى عليه كلَّ هذا الإباء؟

وعاوَد احتياله يستجدي الحسناءَ بعض الرضا؛ فولَّت عنه مُعرِضةً مستكبرة، ومضت تدوس بقدمَيْها الصغيرتين قلبَ إبليس …!

وعاد إلى نفسه يستلهمها الحيلة فما أمَدَّته بشيء، وبدا إبليس في بشريته إنسانًا ضعيفًا قليلَ الحول لا قدرةَ له على التصرُّف، ولا طاقةَ له بالاحتمال …!

ووجد له شغلًا من فراغ … وعدا خلف المرأة يحاول أن يدركها لا يبالي نظرات الناس، فإذا زوجها يلقاها على الطريق فيصحبها إلى الدار يدًا في يد، وجنبًا إلى جنب!

وأحسَّ إبليس — فوق ألم الحب الذي يجد — ألمًا جديدًا من آلام البشرية، وقذف منظرُ الزوجين المتحابين في قلبه الحسدَ …!

وآدَه العجزُ والشعور بالحرمان، فعاوَدته شيطانيتُه ثائرةً محنقة، على أنه وقد ذاق بعضَ لذَّاتِ البشرية في آلامها، لم يكن يطيب له أن يرتدَّ إلى عالمه، ولكنه حين أحسَّ العجز عن الظفر بالمرأة التي يشتهيها، راح يستمدُّ الحيلة من طبيعته «الشيطانية» الأولى ليظفر بما يشتهي وهو باقٍ في بشريته!

ولكنه — وا أسفا! — لم يستطع أن يكون شيطانًا ورجلًا في وقتٍ معًا، وحين ألهمته طبيعتُه الأزلية بالرأي وأمَدَّته بالحيلة، فقذف فكرتَه في نفس المرأة، كان خلقًا آخَر ليس من البشرية ولا حَظَّ له من المرأة. ونفذ سهمُ إبليس إلى قلب الحسناء، فنظرت إلى وراء تفتقد عاشِقها المُدنَف فلم تَرَه؛ وما كان لها أن تراه وقد عاد شيطانًا لا تحسُّه النظرات ولا يخضع لنواميس هذا العالَم؛ ورآها وهي تنظر نحوَه متلهِّفةً مشتاقة، فما نالته نظرتُها ولا مسَّت قلبه؛ لأن إحساس البشرية ونوازعها كانت قد فارقَتْه حين لبس جلدة شيطان …!

وكُتِب في تاريخ الأرض أن إبليس قد تاب مرةً، ولكنْ ردَّتْه إلى شيطانيته امرأة …!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤