تقرير للتسلية!

عندما تسلمت «إلهام» تقرير رقم «صفر» في ذلك الصباح المشرق من شهر سبتمبر لم يكن في المقر السري من الشياطين اﻟ «١٣» في بيروت غيرها … وكان بقية الشياطين الذين قضوا الفترة الأخيرة بلا عمل قد تفرَّقوا بين الجبل ودمشق في رحلات للتسلية … بينما كان «أحمد» في ذلك اليوم يتولى العمل في قسم الأجهزة الإلكترونية أسفل المقرِّ السرِّي. وكان «عثمان» في ورشة السيارات.

قرأت «إلهام» التقرير وابتسمت وقالت تُحدِّث نفسها: حتى التقرير القادم من رقم «صفر» رغم طوله مكتوب عليه للتسلية … شيء مُدهِش … لقد أصبحنا شياطين للتسلية وليس للمغامرات والكشف عن الأسرار ومطاردة الأشرار!

وقالت «إلهام» وهي تنظر إلى المرآة وتسوي شعرها … لعلَّ الفائدة الوحيدة من التقرير أنه سيَجعلني أرى «أحمد» … ثم نزلت مُسرعة بعد أن تركت التقرير في الغرفة؛ فقد كان ممنوعًا تمامًا إخراج التقارير من المقرِّ السري … مهما كانت ضآلتها أو بساطتها.

كان «أحمد» يجلس وحيدًا يتسلى بقراءة بعض الصحف والمجلات عندما سمع وقع أقدام «إلهام» خلفه … وتظاهَر بأنه لم يسمعها … وعندما وضعت يدَيها على عينيه برفق تركها دون أن يلتفت … فقد أحس أن قبضة من ورق الورد تُحيط بعنقه وعينيه … وتمنى أن يظل هكذا إلى الأبد.

غيرت «إلهام» صوتها وهي تقول: من أنا؟

ضحك «أحمد» وهو يرد: «عثمان»!

ضغطت «إلهام» على رقبته بذراعيها برفق وقالت: لا!

عاد «أحمد» يقول: «قيس»؟

ردت «إلهام»: لا … «ليلى»!

قال «أحمد»: مسكين «قيس» … لقد تعذَّب كثيرًا من أجل «ليلى».

إلهام: لقد كان خوافًا … ولو كان مثل «عنترة» مثلًا لخطف «ليلى» على حصانه!

أحمد: لعلَّه خشيَ أن تَصرخ «ليلى» وتُجمِّع عليه الناس.

إلهام: في هذه الحالة يكون غبيًّا أيضًا!

أحمد: هل تَضمنين له ألا تصرخ؟

إلهام: نعم أضمن.

وأمسك «أحمد» بذراعَي «إلهام» وقال: في هذه الحالة …

تخلَّصت «إلهام» من يدَي «أحمد» ببراعة وقالت: في هذه الحالة يا أستاذ «قيس» عليك أن تُعدَّ السيارة وتَخرُج لنتغدى في الخارج … فقد ضقت بالبقاء في المقر.

أحمد: لقد استبدل عنترة بحصانه سيارة من أحدث طراز.

إلهام: وقررت «ليلى» أن تذهب معه دون صراخ.

ووقف «أحمد» والتفت إلى «إلهام» التي قالت هامسة: تقرير من رقم «صفر»!

اختفت ابتسامة «أحمد» وقال باهتمام: ماذا فيه؟

إلهام: يقول رقم «صفر» إنه تقرير للتسلية.

زم «أحمد» شفتيه وقال: صحيح؟!

إلهام: هيا قل لعم «سرور» أن يغلق الأبواب، وتعالَ نقرأ التقرير ثم نذهب للغداء.

وأصدر «أحمد» تعليماته، ثم صعدا معًا إلى الطابق الأول حيث المقر السري … وأسرعت «إلهام» تُحضر التقرير. وبعد أن اغتسل «أحمد» وغير ثيابه عاد إليها، فقالت له: اسمع يا سيدي.

من رقم «صفر» إلى «ش. ك. س»

هذا التقرير ليس مُلزمًا لكم بالعمل … ولكن يُمكن اعتبار ما فيه للتسلية أو المران …

وسكتت «إلهام» لحظات ثم مضت تقرأ: «توفي منذ أيام في مستشفى بوسطن بالولايات المتحدة بحار عجوز فقَدَ ذاكرته ثلاثين عامًا متصلة، وقد عثرت دورية بريطانية على ذلك البحار أثناء عاصفة هبت على المحيط الهادي في شهر يناير ١٩٤٤م … ولم يكن مع البحار أيَّة أوراق تدل على شخصيته، كذلك لم يكن بالقرب من المكان الذي وُجدَ فيه أية آثار لسفينة غارقة مما يُرجح أن البحار قد سقط من إحدى السفن ليلًا أثناء العاصفة ولم يَتنبه إليه أحد. وقد نشرت الجرائد في إنجلترا، ثم في الولايات المتحدة صورة البحار وطالبت من يعرفه أن يتقدم، ولكن لم يتقدَّم أحد ولم يتصل به إنسان طوال فترة الثلاثين عامًا الماضية.

وقد ظل البحار المذكور فاقد الذاكرة تمامًا. لم يتذكَّر اسمه أو من أين أتى مطلقًا، وقد أجرى عليه عددٌ كبير من الأطباء في إنجلترا تَجارب كثيرة لعله يستعيد ذاكرته ولو جزئيًّا ولكن دون جدوى … ثمَّ نُقلَ إلى الولايات المتحدة وقامت أكبر مراكز الأبحاث بنفسِ المُحاولة لإعادة ذاكرتِه إليه … ولكنه لم يتذكَّر شيئًا مُطلقًا حتى مات.

قال «أحمد» مقاطعًا: لقد قرأت هذه القصة المدهشة في صحف الأسبوع الماضي، ولفتت نظري لغرابتها.

عادت «إلهام» تقرأ: ولم يكن في البحَّار علامات غير عادية، سوى وشم مرسوم على ظهره وهذا الوشم يُمثِّل شيئًا كالثعبان … أو كرأس حيوان خرافي. وعندما نقل العلماء صورة للوشم وشاهدها البحار لم يتذكَّر شيئًا مطلقًا.

وسكتت «إلهام» لحظات ثم مضَت تقرأ: وعندما تُوفي البحار ونُشرت صورته للمرة الأخيرة مع قصته الغريبة ظهر رجلٌ وتعرَّف عليه … وهذا الرجل إنجليزي يُدعى «هنتر سميث» وطلب تسليم الجثمان له … وقال «هنتر» إن البحار العجوز يُدعى «سيمون موران»، وإنه كان بحارًا في سفينة فرنسية أغرقتها عاصفة في المحيط الهادي … وقد شكَّت السلطات الأمريكية في أقوال «هنتر» … لأنه من المعروف أن فرنسا لم يكن لها أية سفن في منطقة المحيط الهادي أثناء الحرب العالَمية الثانية … ولكن «هنتر» أكَّد أن السفينة كانت مُكلَّفة بمهمة سرية … ولكن السلطات لم تُصدِّق هذا التفسير ورفضت تسليم الجثمان له.

عاد «أحمد» يقول: قرأت هذه التفاصيل أيضًا.

عادت «إلهام» تقول: انتظر قليلًا … فهناك شيء لم تقرأه في الصُّحف … لقد تسلَّل شخصٌ ليلًا إلى المستشفى وعبث بحاجيات «سيمون موران» وبجُثمانه … ويبدو أنه كان يبحث عن شيء ما. وقد تنبَّه حرس المستشفى إليه وطاردوه، ولكنه تمكَّن من الهرب … ويشكُّ الحراس أنه كان «هنتر سميث».

أحمد: هذا أيضًا ذكرته الصحف.

إلهام: إليك إذن ما لم تَنشرْه الصحف … لقد غادر «هنتر» الولايات المتحدة بطريق البر إلى كندا … ومنها إلى ألمانيا … ثم إلى منطقة الشرق الأوسط … وإلى بيروت بالذات …

انتبه «أحمد» وقال: بيروت؟!

إلهام: نعم بيروت … ولم يحضر «هنتر» وحده … وليس هناك تُهمة معينة يُمكن أن تُوجَّه إلى «هنتر» … فلم يكن الحراس متأكِّدين من شخصيته … ولهذا يقول رقم «صفر» … إنه للتسلية فقط أو للمران يُمكننا أن نُحاول معرفة لماذا جاء «هنتر سميث» إلى بيروت.

أحمد: ولكن ما سرُّ اهتمام رقم «صفر» وأجهزة الأمن بهذا اﻟ «هنتر سميث»؟ ولماذا تابعوه من الولايات المتحدة إلى كندا … ثم ألمانيا حتى وصوله بيروت؟

إلهام: لسبب بسيط، كما يقول تقرير رقم «صفر»، أن «هنتر سميث» دخل الولايات المتحدة بهذا الاسم … ولكن عندما وصل إلى ألمانيا تحوَّل إلى «هانز شميدت» … وقد جاء إلى بيروت بهذه الصفة … أي إنه يعيش تحت اسمين مختلفين. ورجل يعيش بهذه الطريقة معناه أنه يُخفي سرًّا.

أحمد: على كل حال المسألة تستحق البحث ما دام رقم «صفر» مهتمًّا بها … وما دمنا لسنا مشغولين بشيء معين … فلنُحاول معرفة ماذا يُخفي «هنتر سميث» أو «هانز شميدت»!

إلهام: أظنك لا تمانع أن نتغدى أولًا؟

أحمد: وليكن هذا في فندق فينيسيا … ألم يُرسل رقم «صفر» أوصاف «هانز»؟!

إلهام: في التقرير مُلحَق بكل أوصافه … عجوز في الخامسة والستين … نحيف ظاهر الحيوية والنشاط … سحنتُه ألمانية أكثر منها إنجليزية … يرتدي في العادة جاكيتًا أسود بأزرار نحاسية وبنطلونًا رماديًّا … وهذا يُعطيه طابع البحار … وقد طلب رقم «صفر»، كما يقول في تقريره، معلومات أكثر من السلطات الألمانية عن شخصية «هانز».

بعد دقائق كانا يَمران في الجراج … وكان «عثمان» ما زال يشرف على العمل في قسم السيارات الذي يعمل طول النهار … وروى له «أحمد» سريعًا ما جاء في تقرير رقم «صفر»، ثم ركب مع «إلهام» سيارةً انطلقت بهما إلى فندق فينيسيا الفاخر، وكلٌّ منهما يفكر في اللحظات القادمة.

قال «أحمد» وهو يركن السيارة بجوار الفندق الفخم: يعجبني في هذا الفندق الجو العجيب الذي يحسُّه الداخل إليه … إن كمية الرخام الضخمة التي رُكبت فيه تعطي الإحساس أنني أدخل معبدًا عصريًّا إذا صحَّ هذا التعبير!

قالت «إلهام» ضاحكة: ما هذه الفلسفة يا أستاذ؟

ورَدَّ «أحمد» مُبتسمًا: المهم أنني أحسُّ أننا لن نكتفي بالتسلية بشخصية «هنتر» هذا … بل سنعثر على سرٍّ كبير …

وكانت في انتظارهما على باب الفندق مفاجأة كاملة … فقد توقَّفَت إحدى السيارات الفخمة ونزل منها «هنتر سميث» بلحمه وشحمه … وبالجاكيت الكحلي ذي الأزرار النحاسية، وراقَبَه «أحمد» في فضول … كان مزموم الشفتَين، وشعره الفضي يتناثَر مع الهواء في رشاقة شاب في العشرين.

كان «أحمد» و«إلهام» يَسبقان «هنتر» في الصعود … وتوقف «أحمد» و«إلهام» وتركاه ومن معه يمرُّون أمامهما … ونظر «أحمد» إلى الرجلين الآخرين … كانا مُختلفَين تمامًا … طويلَي القامة … تبدو عليهما الشراسة … ومن الانتفاخ الواضح في جانب كلٍّ منهما … تأكد «أحمد» أنهما يحملان مسدَّسين ضخمين.

ودخل الرجال الثلاثة إلى الفندق … وأسرع «أحمد» و«إلهام» يختاران مائدة قريبة، ولكن بعد أن أدارا ظهريهما إلى الثلاثة حتى لا يروا وجهيهما … وفي نفس الوقت كانت المرآة الكبيرة التي بالحائط تكشف ما يفعله الرجال الثلاثة.

ولاحظ «أحمد» على الفور الاحترام الواضح الذي يُعامِل به الرجلان «هنتر» … وأدرك أن الرجل يفرض عليهما نفوذًا خفيًّا.

وفجأة لمح «أحمد» في المرآة «عثمان» ينظر هنا وهناك. وأدرك أنه يبحث عنهما … وقبل أن يتحوَّل «أحمد» شاهدهما «عثمان»، ثم اتجه إليهما مسرعًا. وسحب كرسيًّا وجلس … ثم مال على «أحمد» وقال هامسًا: بعد انصرافكما مُباشرةً أضاء النور الأحمر في قسم السيارات … وصعدت على الفور؛ فقد أدركت أن هناك تقريرًا من رقم «صفر». وقد تلقيت التقرير، ولأهميته حضرت إليكما.

كان «أحمد» يستمع وعيناه تُتابعان في المرآة ما يفعله الرجال الثلاثة، كان «هنتر» قد مال على المائدة وأخرج من جيبه قلمًا … وعلى ورقة صغيرة كان يَشرح شيئًا للرجلين الآخرين … وكانا يُتابعانه باهتمام بالغ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤