أشياء كثيرة … غير منظمة

عندما اجتمع الشياطين الستة في المساء … كان أربعة منهم قد نجحوا في مقابلة من ذهبوا للقائه. واثنان لم يَجدا الشخص المطلوب. وأخذ كل منهم يُقدِّم تقريره. وقالت «هدى» و«بو عمير» و«عثمان» إنَّ الأشخاص الذين تحدَّثوا إليهم رووا ذكرياتهم كلها. وليس بينهم من يُمكن الشك في أمره … أما «زبيدة» … فكانت تَحمل أهمَّ تقرير. هذا الرجل الذي رفض الحديث عن ذكرياته. وكان أهم ما في تقرير «زبيدة» ملاحظاتها عن الرجل وزوجتِه … وتذكَّر «بو عمير» شريط التسجيل وقال: ففي شريط التسجيل الثاني هناك حديث عن رجل رفض التحدُّث عن ماضيه … ربما كان هو نفس الرجل التي ذهبت إليه «زبيدة».

أحمد: على كل حال سنَنتظِر حتى ألتقي أنا و«عثمان» غدًا بالرجلين الباقيين، ثم نضع خطتنا. وفي ذلك الوقت أرجو أن تُرسل «إلهام» تقريرًا إلى رقم «صفر» بكل المعلومات التي حصلنا عليها.

بو عمير: إنني أتذكَّر اهتمام «كريم» بالمعلومات التي يَجمعها أعوانه إلى حدِّ أنه أمر أحدهم بأن يضرب الرجل إذا لم يُدلِ بأقواله، أليس من الأفضل فرض رقابة على هؤلاء الستة، لنرى ماذا سيفعل «كريم»؟

فكَّر الشياطين في هذا الاقتراح … وفي هذه اللحظة صدرت صفارة اللاسلكي المتقطِّعة وأضيئت في نفس الوقت اللمبة الحمراء في قاعة الاجتماع، وأسرعت «زبيدة» إلى قاعة اللاسلكي وغابت فترة ناقشَ فيها الشياطين اقتراح «بو عمير». واتفقوا على الانتظار حتى الغد حتى تتجمَّع لهم المعلومات عن الرجال الستة الذين يُحاول «كريم» الحصول على معلومات منهم … ثم ظهرت «زبيدة» تَحمل تقرير «رقم صفر» … وبدأت تقرأ:

من رقم «صفر» إلى «ش. ك. س»

«هنتر سميث» أو «هانز شميدت» ألماني له اسم ثالث هو «فالتر شميدت». كان يعمل في الأميرالية الألمانية برتبة كابتن بحري تحت رئاسة الأميرال «كارل ستروهيم». وقد تخصَّص «فالتر» في حرب الغواصات وكان ضمن المسئولين عن حرب الغواصات في المحيط الأطلسي … وقد أسر قرب نهاية الحرب العالَمية الثانية … وبقيَ في المُعتقَل خمسة أعوام. وبعد الحرب اشتغل في البحرية التجارية، وعن طريق التهريب حقق ثروة ضخمة مكَّنته من امتلاك أسطول للنقل البحري … وأصبح يعيش مُتنقلًا في مُختلف الموانئ. وقد قام أثناء الأعوام الأخيرة بعدة زيارات لموانئ مختلفة في أفريقيا وآسيا، وأمريكا الجنوبية … وفي كل مرة كان يبقى شهرًا أو أكثر في البحث عن شخص مجهول … ويبدو أنه جاء إلى بيروت للبحث عن نفس الشخص … وقد علمنا من مصادرنا في باريس أنه يَبني سفينة ذات مواصفات خاصة.

سكتَت «زبيدة» لحظات ثم قرأت: أردت أن أرسل لكم هذه المعلومات لوضعها في الأرشيف فقط. فليس هناك ما يُهمنا في موضوعه.

قالت «زبيدة»: انتهى التقرير.

أسرع «أحمد» يقول: لقد تأخَّرنا في إرسال تقريرنا إلى رقم «صفر» فإن المعلومات التي لدينا تطابق معلوماته. ولكننا نَعرف أن «هنتر» أو «هانز» أو «فالتر» سيعود إلى بيروت مرة أخرى كما سمعنا في التسجيلات … وأرجو أن تقوم «إلهام» فورًا بإرسال تقرير بمعلوماتنا كاملة إلى رقم «صفر» وتطلب منه الإذن لنا بالاستمرار في العمل للكشف عن ما يبحث عنه «هانز». فما دام قد وصل إلى بيروت، وما دام يقوم بنشاط غير مشروع فهو ضمن اختصاصنا.

قامت «إلهام» مسرعةً إلى صالة التقارير، بينما انفضَّ الاجتماع إلى وقتٍ آخر في الغد.

في صباح اليوم التالي اتَّصل «كريم» برقم تليفون قسم الأجهزة الإلكترونية في المقر السري وطلب الحديث إلى «سرور» … وأسرع «سرور» بتلقِّي المكالمة، وقال «كريم»: لقد عثرت لكم على مكانٍ مُمتاز لافتتاح فرع لشركتكم.

سرور: وأين هذا المكان؟

كريم: في سلطنة عمان. فالحكومة هناك مهتمة بإدخال أحدث الآلات في دواوين الحكومة. كما أن عددًا كبيرًا من الشركات لديهم طلبات كثيرة لشراء الآلات الحاسبة الإلكترونية وغيرها من الأدوات الحسابية. وقد عثرتُ على مبنًى محترم بإيجار معقول.

سرور: شكرًا جزيلًا يا أستاذ «كريم» … سأبحث الأمر مع الشركاء هنا، وسوف أتصل بك خلال ساعة على الأكثر.

أسرع «سرور» إلى حيث كان الشياطين يتناولون إفطارهم، وأخطرهم بحديث «كريم». وسرعان ما انتهوا من إفطارهم … وجلسوا يتناولون الشاي في قاعة الاجتماعات.

ثار جدل طويل بين الشياطين حول قبول عرض «كريم» … بعض الشياطين وجدوا أن لا فائدة من الاستمرار في موضوع المقر … وبعضهم رأى أنها فرصة للاقتراب من «كريم» أكثر ومعرفة أسراره.

ورفع «أحمد» يده وطلب أخذ الأصوات. وكانت الأغلبية مع فكرة مسايرة «كريم» إلى حد السفر إلى عمان. وأشار «أحمد» إلى «سرور» بما وافقت عليه الأغلبية. وأسرع «سرور» يتصل ﺑ «كريم» وحدد موعدًا للقائه بعد نصف ساعة مع «بو عمير».

عندما وصل «سرور» و«بو عمير» إلى مكتب «كريم» استقبلهما أروع استقبال، وابتسم «بو عمير» مجاملًا، ولكن في الحقيقة كان يبتسم لأن «كريم» لم يكن يتصور أن زائر الليل الذي ضربه على رأسه كان هو «بو عمير» نفسه. وزادت ابتسامته اتساعًا عندما لاحظ أن «كريم» يضع شريطًا لاصقًا على صلعته اللامعة … على أثر الضربة القاسية التي تلقاها من «بو عمير».

وزيادة في السخرية قال «بو عمير» مشيرًا إلى رأس «كريم»: ماذا حدث يا أستاذ «كريم»؟

قال «كريم» وهو يهزُّ رأسه بأسف: كنتُ أمر بجوار عمارة تحت الإنشاء وسقطت على رأسي قطعة من الطوب كادت تقضي عليَّ.

وجلس الثلاثة، وقال «كريم»: أؤكِّد لكما أنها فرصة ذهبية. دور كامل من خمس غرف يُطلُّ على الخليج، وستدفعان نحو ثمانية آلاف ليرة لبنانية كمُقدَّم … والإيجار نحو ٤٠٠ ليرة شهريًّا فقط!

سرور: إنه عرض طيب حقًّا.

كريم: إنني مسافر الليلة إلى هناك، وأود أن يصحبني أحدكما … فمن الأفضل إلقاء نظرة على المكان.

فكَّر «بو عمير» بسرعة، وقال في نفسه إنهم ما داموا قد اتفقوا على مسايرة «كريم» فلا بأس برحلة إلى عُمان … مكان جديد بالنسبة للشياطين … ومتابعة نشاط «كريم» في هذه الأمكنة لعلهم يكشفون عن حقيقة هذا الذي يجري في الخفاء.

قال «بو عمير»: سأسافر معك؟

كريم: عظيم جدًّا … الطائرة في الحادية عشرة ليلًا. هل تحب أن أنتظرك في المكتب هنا في التاسعة وأحجز أنا تذكرة لك؟

بو عمير: اتفقنا.

وغادر «بو عمير» وسرور مكتب «كريم» بعد أن أوصلهما إلى الباب، وما كاد الباب يغلق خلفهما حتى أطلق «بو عمير» ضحكة حبسها طويلًا. وبالطبع كان «سرور» يعرف سبب ضحكه. فإن الطوبة التي زعم «كريم» أنها سقطت على راسه لم تكن إلا مسدس «بو عمير» شخصيًّا.

وعندما عادا إلى مقر الشياطين، كان «أحمد» قد التقى بالرجل الخامس. وكان «عثمان» قد التقى بالرجل السادس، وكان تقرير كلٍّ منهما عن اللقاء لا يحمل جديدًا. وتقرَّر سفر «بو عمير» مع «كريم» على أن تقوم «زبيدة» و«عثمان» بمراقبة فيلَّا «جوزيف سليم» … ومتابعة ما يحدث فيها.

وفي السابعة مساءً، كان «عثمان» و«زبيدة» في طريقهما إلى فيلَّا «جوزيف» قرب خلدة على شاطئ البحر … وفي الثامنة والنصف كان «سرور» يقود السيارة تحمل «بو عمير» إلى مكتب «كريم» … بعد أن اتفق «بو عمير» على شفرة معيَّنة يتحدث بها إلى الشياطين إذا وقع على معلومات جديدة.

وصلت «زبيدة» و«عثمان» إلى قرب الفيلَّا … ولاحظا على الفور أنها مُظلمة. وكان الوقت مبكرًا، ولا يمكن أن يكون «جوزيف» وزوجته قد ناما … واقترب «عثمان» و«زبيدة» من الفيلَّا على حذر … كانت الريح تهبُّ من ناحية البحر. وكان في الإمكان الاستماع إلى أي صوت يصدر من الفيلَّا … وهكذا ظلا يقتربان حتى وضع «عثمان» أذنه على باب الفيلَّا دون أن يسمعا أي صوت … وبدت الريبة تداخل الشياطين. وقرر «عثمان» اقتحام الفيلَّا ومعرفة ما يحدث بداخلها.

قالت «زبيدة» هامسة: لا تنس أن هناك كلبًا ضخمًا في الداخل.

قال «عثمان»: أظن أنه لا أحد في الداخل على الإطلاق … لا كلب ولا إنسان. فالفيلَّا صامتة صمت القبور.

وأخرج «عثمان» من جيبه الخلفي محفظة صغيرة بها كل الأدوات الدقيقة التي تفتح أي شيء مُقفل … وبدأ يعالج إحدى النوافذ. وفي دقائق قليلة كان قد فتحها، ثم شهر مسدسه، ودخل … ووقفت «زبيدة» في الخارج للمراقبة.

غاب «عثمان» فترة في الداخل … ثم عاد لاهث الأنفاس، وقال: لا أحد في الداخل مطلقًا …

زبيدة: ولا الكلب؟!

عثمان: ولا الكلب!

زبيدة: هل يعني هذا أن «جوزيف» وزوجته قد هرَبا؟

قال «عثمان»: أو خُطفا!

زبيدة: شيء مذهل … إن الأحداث تتوالى بسرعة … والآن ماذا نفعل؟

عثمان: لا شيء إلا العودة سريعًا إلى المقر وإخطار الشياطين بما حدث.

وهكذا استقلَّا السيارة وانطلقا عائدَين … كانت الساعة العاشرة تقريبًا عندما وصلا إلى المقر السري … ولم يكد «أحمد» يسمع ما حدث حتى قال: لقد بدأت مرحلة العنف في هذه المغامَرة الهادئة … وبسرعة قفز يلبس ثيابه وقال: إنني مسافر.

زبيدة: إلى أين؟

أحمد: إلى عمان … عسى أن ألحق بالطائرة.

زبيدة: ولكن «كريم» يَعرفك!

أحمد: لن يعرفني بعد وضع شارب مُناسب، وباروكة شعر، ونظارة سوداء …

إلهام: ولكن لماذا تسافر؟ إن الأحداث تقع هنا؟!

أحمد: لقد انتقلت الأحداث من هنا … وقلبي يُحدثني أن رحلة «كريم» المفاجئة إلى عمان ومعه «بو عمير» ليس لها علاقة بالأجهزة الإلكترونية ولا غيرها، إن «كريم» أذكى مما تصوَّرنا.

وبعد لحظات كان «أحمد» يقفز في سيارة يقودها «عثمان» … ويأخذان طريقهما إلى المطار.

وقال «عثمان» فجأة: إنك لم تحجز تذكرة!

قال «أحمد» مبتسمًا: لقد حجزت تذكرة منذ اتَّفق «كريم» مع «بو عمير» على السفر. فهذه المسألة لا يمكن أن تمرَّ ببساطة.

عثمان: شيء مُدهش!

أحمد: المدهش أكثر أن أجد «بو عمير» في الطائرة.

عثمان: لا أفهم ما تقصد.

أحمد: سوف ترى.

قفز «أحمد» من السيارة، وأسرع يقدم أوراقه وتذكرتَه إلى رجال جمرك المطار. وقبل إقلاع الطائرة بدقائق قليلة كان يقفز إليها مسرعًا.

وقبل أن يفكر في أي شيء كانت الطائرة قد أغلقت أبوابها، ودارت المحركات وانطلقت في الجو تحمله إلى عُمان … وقام يطوف بالطائرة ناظرًا إلى الركاب … وتحقَّق ظنُّه … فلم يكن بين ركابها «بو عمير» ولا «كريم».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤