كيف ينتهي الصراع؟

في نفس الوقت الذي كانت فيه الطائرة تحمل «أحمد» في طريقها إلى سلطنة عمان في أقصى جنوب الجزيرة العربية، كان «بو عمير» يَركب طائرة أخرى … ولكن في ظروف مختلفة تمامًا … فتح عينَيه فأحسَّ بألم هائل في رأسه … ولم يستطع حتى أن يمدَّ يدَه ليتحسَّس مكان الألم … فقد كان موثق اليدين … وملقًى على أرض الطائرة … وسمع حوارًا يدور بين اثنين بجواره فلم يَفتح عينَيه وظلَّ يُنصِت … ولكن الرجلان كفا عن الكلام.

وتذكر «بو عمير» ما حدث له … ذهب إلى مكتب «كريم» في التاسعة كما اتفقا ليركبا طائرة الحادية عشرة … واستقبله «كريم» بالترحاب وقضى بعض الوقت يصرف شئون مكتبه ثم اصطحبه ونزل إلى المطار … وهناك قال له إنه لم يجد تذاكر على الطائرة إلى عُمان … ولكنه حل المشكلة … فقد وجد طائرة خاصَّة مسافرة في نفس الاتجاه، عليها بعض عملائه من الأجانب. ولم يُمانع أصحاب الطائرة في اصطحابه و«بو عمير» إلى عُمان.

وتذكَّر «بو عمير» أنه شك في المسألة … ولكن سلوك «كريم» الودي معه … وإحساس المغامرة دفعاه إلى قبول ركوب الطائرة، ولكن لم يكد يمرُّ بباب الطائرة حتى هوت على رأسه ضربة قاسية سقط على أثرها مُغمًى عليه … وها هو الآن مُلقًى على أرض الطائرة لا يعرف ماذا ستأتي به الساعات المُقبلة.

مضت فترة من الوقت … وقرر أن يفتح عينَيه ويواجه الموقف. وشاهد على الفور حذاءً أمام وجهه مباشرةً … حذاءً أسودَ ضخمًا … وجوربًا رماديًّا … وساقين مغطاتَين بشعر أصفر غزير … وقال في نفسه … إنهما ليسا ساقَي «كريم» … إنهما لشخص أطول من «كريم» وأكثر قوة. وتحرَّك حتى استلقى على ظهره … وشاهد صاحب الساقين … وتذكَّر وصف الرجال الثلاثة الذين شاهدهم «أحمد» في فندق فينيسيا … ولم يشكَّ أن الرجل واحد منهم. كانت له سحنة المجرم المحترف.

والتقت عيناه بعينَي الرجل … ولاحظ فيهما نظرة باردة … وسمع الرجل يُنادي «كريم» … وأقبل «كريم» بعد لحظات يتدحرج بين الكراسي بكرشه الضخم وبذلته البيضاء … ابتسم «كريم» ابتسامة صفراء وقال: لعلكَ قضيت وقتًا طيبًا؟

لم يردَّ «بو عمير» فعاد «كريم» يقول: لقد شئتُ أن أُحييكَ بنفس الطريقة … فما زال أثرُ تحيتِك على رأسي. وتحسَّس «كريم» أثر ضربة «بو عمير» التي كان يضع عليها شريطًا لاصقًا ثم مضى يقول: لقد كنتَ تَبتسم كثيرًا في مكتبي … وكنتُ أعرف لماذا تبتسم … وقد جاء دوري لأضحك أنا أيضًا. ولعلك تعرف أن مَن يضحك أخيرًا يضحك كثيرًا.

ظل وجه «بو عمير» جامدًا … كان يُريد أن يعرف كيف كشف «كريم» حقيقته. هل رآه في تلك الليلة التي دخل فيها مكتبه … مُستحيل … لقد كان «بو عمير» مختفيًا في دورة المياه وكان «كريم» يوليه ظهره عندما ضربه «بو عمير» على رأسه.

ولعل «كريم» أدرك ما يفكر فيه «بو عمير» فقال: لقد نسيتَ أنت وزميلك أثناء زيارتكما مكتبي ليلًا أنني لستُ رجلًا مغفلًا … فقد كانت أجهزة التسجيل التي تعمل في مكتبي ليل نهار تسجل حديثكما.

وأحسَّ «بو عمير» بضيق شديد. لقد كان هو و«أحمد» يتحدَّثان بصوت مُرتفِع … واستطاعت أجهزة التسجيل أن تكشف شخصيته … بل تكشف تدخُّلهم في هذه المغامرة العجيبة التي لا يعرفان حتى الآن ما هي حقيقتها.

وقال «كريم»: والآن، أريد أن تقول لي ماذا تعرفون عن موضوع الستة.

لم يردَّ «بو عمير» فعاد «كريم» يقول بحدة: لقد أخذتم من مكتبي كشفًا بأسماء ستة أشخاص قضيت وقتًا طويلًا في البحث عنهم. فماذا تعرفون عنهم؟

مرةً أخرى ظل «بو عمير» صامتًا. وتبادل «كريم» مع الرجل الضخم كلمات ثم غادر مكانه عائدًا إلى أول الطائرة.

أخذ «بو عمير» يُحاول معرفة الوقت. لقد ركب الطائرة في العاشرة مساءً … فما هي الساعة الآن؟ وأخذ يتقلَّب محاولًا النظر إلى ساعة الرجل الضخم الذي كان يَحرسه. واستطاع أن يعرف أنها الثانية بعد منتصف الليل. إذن فقد مضت أربع ساعات منذ كان في مطار بيروت … ولعلهم الآن قد تجاوَزُوا الكويت … ولا بد أن الطائرة نزلت في الكويت ثم أقلعت. وفجأة خطر له خاطر مخيف. ماذا لو كانت الطائرة ليست مسافرة إلى عُمان أصلًا؟ أن تكون في طريقها إلى دولة أخرى حيث لا سبيل للاتصال بأحد … إنَّ هذا يعني نهايته!

بعد لحظات جاء «كريم» ومعه رجل آخر. أدرك «بو عمير» على الفور أنه الزعيم؛ فقد كان يرتدي ملابس البحارة، نفس الوصف الذي يَعرفه. وأشار الزعيم إلى الحارس فأسرع هذا يفكُّ وثاق «بو عمير» … ثم جاءوا له بكوب من العصير شربه عن آخره. فقد كان في غاية العطش.

قال الزعيم: أنت أسيرنا الآن. وقد قال لي «كريم» أنك تعرف شيئًا عن عملنا، وأودُّ أن تتصرف كرجل وتقول لنا ما تعرف. وإلا …

وأحس «بو عمير» بالدم يغلي في عروقه … يتصرف كرجل! وهل هو طفل؟! وأدار بصره في الوجوه المحيطة به، ثم تجاوَزها إلى الرجل الذي كان يجلس في مقعد قريب … رجل عجوز يُشبه النسر. وتذكر وصف «زبيدة» للرجل الذي يَسكُن الفيلَّا قرب خلدة … إنه هو … إذن فقد ضربت عصابة «هانز» كل العصافير. واعترف بينه وبين نفسِه أنهم أدَّوا عملهم جيدًا …

عاد «هانز» يُحدِّثه … وظل «بو عمير» صامتًا … كان يعرف مدى حرج موقفه … إنه الآن ليس فقط بين أعدائه بلا أمل في أية مساعدة … ولكن فوق السحاب … حيث يُمكن القضاء عليه دون أي خوف. ولكنه بالطبع لم يفكر لحظة واحدة أن يعترف. فليس بين الشياطين اﻟ «١٣» من يمكن أن يضعف أمام أي تهديد!

عاد ينظر إلى الرجل الذي يُشبه النسر وتذكر اسمه، «جوزيف سليم»، الرجل الذي يرفض الحديث عن ذكرياته … عن ماضيه. وفي هذه الذكريات وهذا الماضي تكمن الحقيقة التي ودَّ «بو عمير» أن يعرفها بأي ثمن … حتى ليعرف ما الذي أتى به إلى هذا المكان … فوق السحاب.

عاد «هانز» يقول: ماذا كنتَ تفعل في مكتب «كريم» … ولماذا الاهتمام بأسماء الرجال الستة؟!

ومرةً ثالثة لم يردَّ «بو عمير».

مال عليه «هانز» وقال: اسمع يا بني، إننا نَطير الآن فوق الخليج. فإذا لم تتحدث خلال نصف ساعة، فسوف أُلقِي بك في البحر!

ومضى «هانز» وترك «بو عمير» يفكر. في إمكانهم طبعًا أن يهبطوا بالطائرة إلى ارتفاع مُنخفِض ثم يُلقوا به إلى المياه، ولن يكون له أي أمل في النجاة.

وأخذ ينظر إلى ساقي الحارس ويُفكِر: هل يُمكن أن يقوم بعمل ما للسيطرة على الطائرة؟! إن عدد الركاب في الأغلب ستة … الطيار ومساعده، زعيم العصابة «هانز» ومساعداه، «كريم»، ويبقى «جوزيف». فهل يُمكن أن ينضمَّ إليه … إنه رجل عجوز، ولكن آثار القوة ما زالت باديةً عليه.

وأخذ يتقلب ببطء شديد في مكانه وينظر إلى الحارس. كان ضخمًا كالثور … وكان مسدسه الضخم يتدلى من حزامه … لو استطاع أن ينقضَّ على ساقي الرجل ويجره فربما يسقط وربما استطاع أن يصل إلى المسدس قبله … وبالمسدس يمكنه أن يسيطر على الطائرة.

ونظر إلى «جوزيف سليم» … والتقت نظراتهما … كانت نظرة طويلة كأنَّها حديث صامت بين صديقين … وأحسَّ «بو عمير» من هذه النظرة أنه في إمكانه أن يعتمد على «جوزيف».

شد «بو عمير» عضلاته التي تيبسَّت من رقدته الطويلة على الأرض الصلبة. ورفع بصره في هدوء شديد إلى الحارس … وأحسَّ بقلبه يخفق بشدة … فقد كان الثور الضخم يُقاوم النعاس.

تحرك «بو عمير» أكثر ليرى بقية مَن في الطائرة … ووجد «هانز» يجلس في المقدمة وبجواره «كريم» وخلفهما الحارس … وكانوا جميعًا يُعطونه ظهورهم. واستجمع كل قوته ومدَّ ذراعيه بسرعة البرق ثم جذب ساقي الحارس بشدة فارتطم رأس الرجل بالمقعد، وقفز «بو عمير» على صدره وجذب المسدس، ووقف بينما سقط الحارس على الأرض عند قدميه.

كانت سقطة الحارس كافية لأن يقف الرجال الثلاثة … فصاح «بو عمير»: سأُطلِق الرصاص عند أي حركة.

ودون أن ينظر إلى «جوزيف» قال له: جرِّدهم من أسلحتهم.

وقف الرجل العجوز بنشاط لم يتوقَّعه «بو عمير» … وأسرع إلى الرجال الثلاثة وجرَّدَهم من مسدساتهم دون أن يُحاول أيٌّ منهم أن يفعل شيئًا.

قال «بو عمير»: ناوِلني مسدَّسين … ضعهما بجانبي. وخذ المسدس الثالث، وادخل إلى كابينة القيادة، واستدعِ مساعد الطيار!

كان الرجال الثلاثة يَرمقُونه بعيونٍ يَتطاير منها الشرر، ولكن ما بدا في عينَي «بو عمير» كان كافيًا لأن يجعلهم يكتفون بالنظر دون مُحاولة للهجوم عليه.

بعد لحظات ظهر مساعد الطيار وخلفه «جوزيف» شاهرًا المسدس. وقال «بو عمير» موجهًا حديثه لمساعد الطيار: أين نحن الآن؟

ردَّ الرجل: على بُعد ساعة من عمان.

بو عمير: نحن إذن ذاهبون إلى عُمان حقًّا؟

الرجل: هذه هي وجهتنا من البداية.

بو عمير: أستاذ «جوزيف»، ادخل معه كابينة القيادة، وراقب ما يحدث ولا تتردَّد في إطلاق النار عند أول بادرة منه أو من الطيار … حتى أتفاهم مع هؤلاء، ثم عُد بعد ربع ساعة لنرى ما سنفعل.

دخل الرجلان الكابينة وقال «بو عمير»: والآن يا سيد «هانز» ما هي الحكاية بالضبط؟

لم يردَّ «هانز» … بل ظل يتأمل «بو عمير» لحظات ثم قال: اسمع يا بني … إن فرصة نجاتك من هذا الموقف هي واحد في المليون … فنحن نركب طائرة بحرية سوف تَنزل في مكانٍ مُعيَّن، وهناك من هم في انتظارنا.

بو عمير: دعك من هذا الكلام … وقل لي ما هي الحكاية بالضبط فسوف أطلب من الطيار الهبوط في مطار عُمان.

هانز: اسمع … إنني أعرض عليك مليون ليرة لبنانية لتتصرَّف بتعقُّل.

بو عمير: لعلَّني أقبل إذا قلت لي ما هي الحكاية بالضبط … وعلى كل حالٍ فمِن المُمكن أن أسأل «جوزيف».

ضغط «هانز» على أسنانه ثم قال: وإذا لم أقل؟

بو عمير: ببساطة جدًّا سوف أُسلِّمك إلى الجهات المسئولة في عُمان وأُعرفهم ماضيك.

ابتسم «هانز» وقال: إنهم يعرفون عني ما يكفي لاستقبالي أعظم استقبال … أما أنت فسوف لا يُصدقك أحد … فإنني أتردد على هذه الأماكن منذ خمسة أعوام … وكذلك «كريم» …

بو عمير: إنك تعرض مبلغًا ضخمًا جدًّا … فمن أين لك هذا كله؟

هانز: ليس مُهمًّا أن تعرف.

بو عمير: إنني مهتمٌّ أن أعرف أكثر من اهتمامي بالمبلغ الضخم الذي تعرضه.

ردَّ «هانز» في تصميم: لن أقول لك!

ثم جلس «هانز» ببساطة ووضع ساقًا على ساق، وأخذ «بو عمير» يفكر فيما قاله «هانز». ماذا يمكن أن يفعل الآن؟!

ومضت الدقائق بطيئة. وظهر «جوزيف» ومعه مساعد الطيار مرةً أخرى، وقال «بو عمير»: أستاذ «جوزيف» … ما هي الحكاية بالضبط؟!

قال «جوزيف»: إذن أنت لا تعرف لماذا كل هذا؟

بو عمير: لا أعرف سوى أنَّ أمورًا غير قانونية تحدث … وأنني يجب أن أتدخل من أجل العدالة.

أشار «جوزيف» إلى مساعد الطيار لينضمَّ إلى الثلاثة … ثم اختار كرسيًّا جلس عليه وبدأ يروي القصة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤