الفصل الثاني

مذهبُ البديع ونشأةُ النقد المنهجي

(١) ابن المعتزِّ وقُدامة

«قال عبد الله بنُ المعتز رحمه الله: قد قدَّمنا في أبوابِ كتابنا هذا بعضَ ما وجَدْنا في القرآنِ واللغة وأحاديثِ رسول الله ، وكلامِ الصحابة والأعراب وغيرِهم، وأشعارِ المتقدمين، من الكلام الذي سمَّاه المحْدَثون البديع؛ ليعلم أن بشَّارًا ومُسلمًا وأبا نُوَاس ومَن تقيَّلَهم وسلَك سبيلهم لم يَسبقوا إلى هذا الفن، ولكنه كَثُر في أشعارهم فعُرِف في زمانهم حتى سُمي بهذا الاسم، فأعرَب عنه ودلَّ عليه. ثم إن حبيبَ بنَ أوسٍ الطائيَّ مِن بعدهم شُغِف به حتى غلَب عليه، وتفرَّع فيه، وأكثَر منه، فأحسَن في بعضِ ذلك وأساء في بعض، وتلك عُقبى الإفراطِ وثمرةُ الإسراف، وإنما كان يقول الشاعرُ من هذا الفن البيتَ والبيتين في القصيدة، وربما قُرئَت من شِعر أحدهم قصائدُ من غير أن يوجد فيها بيتُ بديع. وكان يُستحسَن ذلك منهم إذا أتى نادرًا، ويزداد حظوةً بين الكلام المرسَل، وقد كان بعضُ العلماء يُشبِّه الطائيَّ في البديع بصالحِ بن عبد القدُّوس في الأمثال، ويقول: لو أن صالحًا نثَر أمثاله في شِعره، وجعل بينها فُصولًا من كلامه؛ لَسبق أهلَ زمانِه، وغلَب على مدِّ مَيدانِه. وهذا أعدلُ كلام سمعتُه في هذا المعنى.»

في هذا النص الهام حقيقتان؛ أولهما: أن البديع لم يخترعْه أبو تمام، بل سبَقه إليه القرآنُ والحديثُ وشعرُ المتقدمين، وثانيهما: أن أبا تمام قد شُغِف بالبديع حتى غلَب عليه وتفرَّع فيه.

فأما أن البديع شيءٌ قديم اهتدى إليه الشعراءُ بقَريحتهم، وبحُكم طبيعة الشعر ذاتِه، فأمرٌ يحتاج إلى تفصيل؛ وذلك لأن الشعر إلى حدٍّ كبيرِ صياغة، وفي طريق هذه الصياغة تتركَّز عادةً أصالةُ الشاعر؛ إذ بفضلها يُقيم علاقاتٍ بين الأشياء، وكلما ازدادت كميةُ تلك العلاقات ودقَّتها وجِدَّتها وقوةُ إيحائها ازداد شعرُه جودة؛ فالليل «كالجمل تَمطَّى بصُلبِه … إلخ»، والبرق «كمصابيحِ راهب أمال السليط»، والحرب «تَهُرُّ الناسَ أنيابُها عُصْلُ» والرجل الشجاع «تسدُّ به لهَواتُ ثَغْر»، والصدرُ «يُريح الليلُ عازبَ همِّه»، كما يُريح الراعي الإبلَ إلى مَباءتِها، وفوارس تَغلِبَ «يُطعِمون الموتَ كلَّ هُمام»، وما إلى ذلك ممَّا يجده القارئُ في باب الاستعارة من كتاب ابن المعتزِّ السابقِ ذِكرُه.١

وإذن فالاستعارة أمرٌ أصيل في الشعر، بل نكاد نقول: إنها خيوطُ نَسجِه، وهي منه كالنحوِ من اللغة، وكما اطَّردَت اللغاتُ قبل أن يعرف متكلِّموها القواعدَ ويفطنوا إلى وجودها، كذلك صدَر الشعراء عن الاستعارة بفِطرتهم دون معرفةٍ نظرية ولا وعيٍ تحليلي لطرق استعمالها؛ ولهذا جاءت معظمُ الاستعارات القديمة صادقة؛ لأن ملَكة الشعر انتزعَتها من طبائع الأشياء، أو على الأصحِّ لأن الأشياء أمْلَتها على الشعراء دون أن «يصنعوا» هم شيئًا.

ولكننا إذا تركنا الاستعارةَ إلى وسائل مذهبِ البديع الأخرى تغيَّر الحكم؛ فالاستعارة كما قلنا هي لُباب الشعر، ولا كذلك «التجنيس» و«المطابقة» ورَدُّ «أعجازِ الكلام على ما تقدَّمَها» و«المذهبُ الكلامي»، وتلك هي — مع الاستعارة — الوسائلُ الخمس التي يُعدِّدها ابن المعتز، ويَقصُر عليها مميزاتِ مذهب «البديع»؛ أي المذهب «الجديد» الذي اتخَذه أبو تمامٍ مدرسةً له عن نظرٍ ووعيٍ وصَنعة.

فالتجنيس إما عبثٌ لفظي يعتمد على الاشتقاق ولا يستند إلى غير التداعي الشكلي؛ كقول الشاعر: «يومٌ خلَجْت على الخليج نُفوسهم»، وإما لعبٌ بالمعاني ومهارةٌ في استخدام مفردات اللغة المتَّحدة، أو المتقاربة في اللفظ والمختلفة في المعنى؛ كقول الآخَر: «إن لوم العاشق اللوم»، أو «جَلا ظُلماتِ الظُّلْم عن وجهِ أمَّة.»٢
والطِّباق مجردُ مقابَلاتٍ بين المعاني كأحداث الزمن التي «تردُ الشعور السُّود بِيضًا، والوجوه البيض سُودًا.»٣

وردُّ أعجاز الكلام على ما تَقدَّمها هو الآخَر حِلْيةٌ لفظية ولبقةٌ في طرق الأداء؛ كقول الشاعر:

سريعٌ إلى ابنِ العمِّ يشتمُ عِرضَهُ
وليس إلى داعي النَّدى بسَريعِ
وأمثالِ ذلك مما تتقابلُ فيه الألفاظ على اختلافِ موضعها، وفي مطلع البيت أو عَروضه أو حشْوِه.٤

والمذهب الكلاميُّ نوعٌ من الجدل العقلي، والقدرة على توليد المعاني، والدقة في المفارَقات، لم يرَ ابنُ المعتز بُدًّا من ذِكره كمَيزةٍ من مميزات الشعر الجديد، الذي يرى إمامُه أبو تمامٍ أن «الشعر صَوْب العقول»، وهو فيما نعتقد ليس من جوهرِ الشعر، بل ولا من جوهر التفكير المنتج.

ومع هذا، فإن تلك الوسائل الأربعة لم يحظرها أحدٌ على الشعراء، ونحن لا نقول إنها غريبةٌ عن الشعراء، أو يجب أن تكون غريبة؛ فهي من طرُق الأداء التي للشاعر الحقُّ في استخدامها، ولكننا نرى أنها ليست كالاستعارة، وما هي إلا مُحسِّنات لفظية أو طريقة من طرق التفكير الذي يَغلِبُ عليه العُقم. إنها أشياءُ ليست من جوهر الشعر ولا هي حتميَّةٌ فيه، وإنه وإن تكن هناك مجانَساتٌ ومطابقات جميلة موفَّقة دالة، فالذي لا ريب فيه أن الشعراء القدماء، وهم أساتذة الشعر العربي، لم يقصدوا إليها، ولا بحَثوا عنها، ولا اتخَذوا منها مذهبًا.

ونخلص من هذا إلى أن ابن المعتز في كتابه «البديع»، عندما أراد أن يُحصِيَ مميزاتِ المذهب «الجديد»، قد جمَع بين ثلاثة أشياء مختلفة بطبيعتها:
  • (١)

    الاستعارة التي هي عنصرٌ أصيل في الشعر.

  • (٢)

    طرقُ أداء تتعلَّق بالشكل ولا تمسُّ جوهر الشعر في كثير؛ وهي: التجنيس، والطِّباق، وردُّ العَجُز على الصدر.

  • (٣)

    مذهبٌ عقلي، هو المذهب الكلامي.

والآن لنتساءل: كيف أصبحَت هذه الوسائلُ خصائصَ للمذهب الجديد؟

للجواب على هذا السؤال، لا بدَّ من أن ننظر في حقيقةٍ عامة اشتركَت فيها كلُّ الآداب على السواء، هي مشكلةُ التقليد. نُعالجها علاجًا مختصرًا، مُرجِئين تفاصيلَها إلى باب السرقات.

وأول ما نُلاحظه هو أن الإسلام لم يُحدِث تغيُّرًا كبيرًا في تقاليد الشعر العربي؛ فنحن مثلًا نُلاحظ أن المسيحية قد حطَّمَت الأدب القديم خلال القرون الوُسطى تحطيمًا شِبهَ تام؛ وذلك لأنه كان نِتاجًا مباشرًا للديانة الوثنية، فلم تقبله المسيحية، كما لم يقبله الإسلام. ومن المعلوم أن القرون الوسطى لم تَعرف — في الشرق أو الغرب، عند المسيحيين أو عند المسلمين — من التفكير اليوناني إلا المستقلَّ عن المعتقَداتِ الدينية، أو الذي أمكَن فصلُه عنها، ولكن الأدب الجاهلي لم يكن كذلك؛ فهو — كما وصَلَنا — لا نكاد نجد فيه أثرًا لدِيانة العرب الوثنية؛ ولهذا نرى أن الإسلام لم يُحاربه، ولا تزال كتب الأدب التي بين أيدينا تحمل أصداءً لاختلاف المسلمين الأوائل في الحكم على الشعر ووجوبِ محاربته أو التسامُح فيه. وإذا كان من الثابت أن كلمةَ المسلمين قد اجتمعَت على محاربة الشعر الذي كان صادرًا عن روحٍ قبَلية تبعث الخصوماتِ القديمة، فإن هذا قد كان لأغراضٍ سياسية أكثرَ منها دينية. والسياسة لم تُحرك الشعوب، خصوصًا القديمة منها، ولا كان لها قطُّ ما للدين من تأثير؛ ولهذا نرى أن تلك المحاربة نفسَها لم تنجح إلا نجاحًا محدودًا، بحيث نستطيع أن نُقرر أن التقاليد الشعرية قد اطَّردَت عند العرب برغم ظهور الإسلام.

وجاء العصرُ العباسيُّ وقد اتَّسعَت آفاق العرب بفضل احتكاكِهم بالشعوب الأخرى، وبفضلِ ترجمة الثقافات الأجنبية، فظهَر أناسٌ ينزعون إلى التجديد.

والواقع أن التجديد ممكنٌ على أساس القديم، وهذا ما يُثبته تاريخُ الآداب المختلفة؛ فالفَرنسيُّون مثلًا يعودون في القرن السابعَ عشر إلى التراث اليوناني يأخذون منه هياكلَ لأدبهم، وأحيانًا مادةً لذلك الأدب؛ فيتخذ راسين من أسطورة «فدر» وحُبِّها لابن زوجِها «هيبوليت» موضوعًا لإحدى مسرحيَّاته. ولما كان هذا العصرُ عصرَ الإنسانيات، فقد غيَّر الشاعرُ دوافعَ شخصياته مستبدلًا بإرادة الآلهة شهواتِ البشر، وبفكرة القضاء فكرةَ الجبر النفسي، وبذلك تخلَّصَ من الوثنية. وهذا هو المذهب الكلاسيكي المعروف.

ولكن هذا النوع من التجديد، بل الخَلْق، لم يعرفه العربُ لأنهم لم يتَّجِهوا هذه الوِجْهة، وأدبهم أدبُ جزئياتٍ وَحْدتُها البيت لا الفكرةُ ولا الأسطورة ولا الموقعة التاريخية. ولقد كان من هذا الشيءُ الكثيرُ الجميل؛ كأيام العرب القدماء وخُرافاتهم، ولكنهم لم يَستغلُّوا شيئًا منه، بل ولم نستغلَّه نحن حتى اليوم.

ولو أننا تركنا هذا الاتجاهَ في أدب الكليات، ونظرنا في الشعر الغنائيِّ الذي يُشبه الشعر العربي، لَوجَدنا في القرن الثامنَ عشر في فرنسا مذهبَ شينييه، الذي دعا إلى تجديدِ الشعر الفرنسي، فقال بيته المشهور: «لِنَقُل أفكارًا جديدةً في صياغةٍ قديمة»، وهو يريد بذلك أن نَصدُر في شِعرنا عن إحساسنا نحن وأفكارِنا، بل وما وصل إليه العلم الحديث، ولكن على أن تكون الصياغةُ على غِرار الصياغة القديمة. وتلك عنده هي الصياغةُ اليونانية التي تمتاز بالبساطة، والقَصْدِ إلى المعنى، والسهولةِ في التعبير، والخلوِّ من المُحسِّنات اللفظية التي شاعت فيما بعدُ عند اللاتين.

ولكن أمثال هذه المحاولةِ أيضًا لم يعرفها الشعرُ العربي؛ فأبو نُواس عندما كان يَسخر من تقليد مُعاصريه للقدماء بالبكاء على الديار التي لم يعودوا يرَونها، والتشبيب بهند أو دَعْد، لم يَدْعُ إلى التمسُّك بالصياغة القديمة كما فعَل شينييه، بل قصد إلى التجديد في المعنى والتجديد في العبارة على السواء. وها نحن نرى ابنَ المعتز يردُّ إليه تنميةَ الاتجاه نحو مذهبِ البديع الذي انتهى إلى أبي تمام.

ثم إن محاولتَه لم تنجح، وهو — فيما يظهر — لم يكن مؤمنًا بها، ولا جادًّا فيها، ولا قادرًا عليها، بدليلِ أنه لم يَصدُر عنها هو نفسُه إلا في بعض الأحيان، كما فعل في الخَمريَّات مثلًا. وأما مدائحه فقد قالها على نمطِ المدائح التقليدية؛ من بُكاء الديار، إلى وصف الرحلة. وهي على أيِّ حال لم تُكوِّن مذهبًا ثابتًا.

وإذن فالظاهرة التي سادت عند أصحاب مذهب البديع لم تكن الظاهرةَ التي يتحدثُ عنها شينييه؛ فهم لم يقولوا أفكارًا جديدة في صياغة قديمة، بل حاوَلوا بوجهٍ عامٍّ أن يقولوا الأفكارَ القديمة في صياغةٍ جديدة، وبخاصةٍ عند أبي تمام الذي لم يكَد يُجدد شيئًا في موضوعات الشعر، وإنما تجدَّدَت المعاني في القرن الرابع والخامس عند المتنبِّي وأبي العلاء.

يقول الآمِديُّ في الموازنة: «كان أبو تمامٍ مشتهرًا بالشعر، مَشغوفًا به، مشغولًا مدةَ عمره بتخميره ودراسته، وله كتبُ اختياراتٍ فيه مشهورةٌ معروفة، فمنها الاختيارُ «القبائلي الأكبر»، اختار فيه من كلِّ قصيدة. وقد مرَّ على يدَي هذا الاختيار، ومنها اختيارٌ آخَر ترجمته «القبائلي»، اختار فيه قِطَعًا من مَحاسن أشعار القبائل، ولم يورد فيه كبيرَ شيءٍ للمشهورين، ومنها الاختيار الذي تلَقَّط فيه محاسنَ شِعر الجاهلية والإسلام، أخَذ من كل قصيدة شيئًا، حتى انتهى إلى إبراهيم بن هرمة، وهو اختيارٌ مشهور معروفٌ باختيار «شُعراء الفحول»، ومنها اختيارٌ تلقَّطَ فيه أشياءَ من الشعراء المُقلِّين والشعراء المغمورين غيرِ المشهورين، وبوَّبَه أبوابًا وصدَّره بما قيل في الشجاعة، وهو أشهرُ اختياراته وأكثرُها في أيدي الناس، ويُلقَّب «بالحماسة»، ومنها اختيارُ المقطَّعات، وهو مبوَّبٌ على ترتيب الحماسة، إلا أنه يذكر فيه أشعار المشهورين وغيرِهم، والقدماءِ والمتأخِّرين، وصدَّره بذِكر الغزَل. وقد قرأتُ هذا الاختيار وتلقَّطتُ منه نُتَفًا وأبياتًا كثيرة، وليس بمشهورٍ شهرةَ غيره. ومنها اختيارٌ مجرَّد في أشعار المحدثين، وهو موجود في أيدي الناس. وهذه الاختيارات تدلُّ على عِنايته بالشعر؛ فإنه اشتغَل به وجعَله وُكْدَه، واقتصر في كلِّ الآداب والعلوم عليه، فإنه ما من شيءٍ كبير من شِعر جاهلي ولا إسلاميٍّ ولا مُحدَث إلا قرَأَه واطَّلع عليه.»٥

في هذا النصِّ ما يوجِّهنا نحوَ طريقة أبي تمام في التجديد وسبيله إليه.

فقد توفَّر هذا الشاعرُ على النظر في شِعر السابقين، وأراد أن يُجدد دون أن يستطيع الإفلاتَ من التقاليد الشِّعرية الثابتة، فكان موقفُه شبيهًا بما نراه في كافةِ الآداب في عصورها المتأخِّرة، عندما تستمرُّ الحياة العقلية لشعبٍ ما على اطِّرادها دون أن تجدَّ أحداثٌ فِكرية أو دينية أو سياسية أو اجتماعية من القوة بحيث تستطيع أن تُغير المناهج وتوقف الاتجاهات أو تقلبَها. وهذا واضحٌ في الآداب القديمة؛ حيث لم يكن النقدُ والتفكير النظريُّ قد تَكوَّنا بعدُ. وأما في الآداب الحديثة، فمن المعلوم أن مناهج الأدب وتياراته ومدارسَه قد تغيَّرَت أكثرَ من مرة تغيرًا قويًّا بحركاتِ تجديد ذاتية تدعو إليها أجيالُ الشعراء والأدباء المتلاحقة، صادِرين عن نظرٍ عقلي في تيارات الأدب عند سابِقيهم، ورغبتهم في تحويل تلك التيارات إلى نَواحٍ أخرى أقربَ إلى إحساسهم، أو أكثرَ تمشيًا مع مُلابسات حياتهم. وعلى هذا النحو خلفَت الرومانتيكية المذهبَ الكلاسيكي، وخلف الرمزيُّون الرومانتيكية وهكذا. بينما الآداب القديمة لم يحدث فيها شيءٌ من ذلك؛ لأن النقد كما قلنا لم يلعب فيها دورًا هامًّا؛ ولهذا سارت سَيرها المحتوم، وكلما تراخى بها الزمنُ ضعُفَت حيويتُها وازداد اعتمادُها على التقليد. ومن الثابت أن التقليد لا يمكن أن يتناول العناصرَ الأصلية بعصرٍ ما أو شاعرٍ ما، وإنما يتناول الأشياءَ الخارجية، وبهذا ينتهي إلى الصَّنعة اللفظية؛ يُسرِف فيها المجدِّدون ظانِّين أنهم يأتون بشيء «بديع». وهذا ما كان في تاريخ الآداب اليونانية واللاتينية؛ حيث انتهى الأدبُ اليونانيُّ في عهد الإسكندرية إلى الصَّنعة المتكلَّفة، فأسرَفوا في تجميل الأسلوب وحشوِه بأسماء الآلهة وأساطير الأقدمين دون أن يَستطيعوا إيداعها معانيَ إنسانيةً تُعطيها قيمةً حقيقية، فأصبح الشاعرُ منهم يتحدث عن الريف وعن الرُّعاة، وهو لم يرَ الريف ولا رعى شيئًا، وتخبَّطوا في وصفِ غرام السُّذَّج، وهم أعقدُ من ذنَبِ الضَّب؛ ومن ثَم جاء شعرهم في الغالب باردًا متكلَّفًا على نحوِ ما نرى عند كاليماكس مثلًا. وكذلك اللاتين في عصر الإمبراطورية المتأخِّر، فهؤلاء قد أرادوا تقليدَ الشعر اليوناني، فلم يأخذوا عن المتقدمين أمثالِ هوميروس وبُنْدار، بل أخذوا في الغالب عن شُعراء الإسكندرية، فجاء شعرهم تقليدًا لشعرٍ متكلَّفٍ لا أصالةَ فيه ولا صدق؛ ومن ثَم لم تكن له قيمةٌ كبيرة على نحوِ ما هو واضحٌ عند أوفيد وتيبيل وبروبرس وغيرِهم.

وتلك هي الظاهرة التي حدَثَت في القرن الثالثِ العباسي؛ إذ كان الزمنُ قد طال بالشعرِ العربي، وكانت الحضارة قد دعَمَت عملها في إضعاف قوة البداوة وأصالةِ الطبع عند العرب، وكان الاختلاطُ بالشعوب الأخرى قد أضعَف من حيويَّتِهم، فأضاف كلُّ هذا إلى فعلِ الزمن والتطور الذاتي لكلِّ ما في الحياة. وساعد على أن يصلَ بالأدب العربي إلى مرحلةِ الهَرَم. ولم تكن الثقافاتُ الأجنبية قد اختمَرَت بعدُ في النفوس، ولا استطاعت أن تهزَّها فتُجدِّد حياتها، ولو في تلك الحدود التي تستطيع فيها العناصرُ الدَّخيلة على حياة الشعوب الروحيَّة أن تُغير من عقليَّتِها. وإنما كان هذا الاختمار وتلك الهزَّة في القرن الرابع والخامس؛ حيث ظهَر المتنبِّي وأبو العلاء، فهما الثمرة الحقيقية لحركة الانتعاش الروحيِّ التي قامت على الثقافات الأجنبية، عندما تم امتزاجُها بالتراث العربي. ومن البيِّن أن حركة الخلق في هذين القرنَين كانت مؤقَّتةً عارضة، فلم يلبث تيَّار الدَّرْس والتحليل ووضع القواعد والعلوم أنْ طغى على كلِّ خلق، بل أفسده وانتهَت الحياة الروحية كلُّها إلى النُّضوب والتحجُّر فالموت.

وإذن فمذهب أبي تمام يعتبر مرحلةً ذاتية طبيعية في تاريخ الأدب العربي، والنقَّاد قد أصابوا بلا ريبٍ فاصلةَ الحق عندما أجمَعوا على إرجاع أصول هذا المذهب إلى بشار بنِ برد (م ١٦٧ﻫ)، فأبي نُوَاسٍ (م ١٩٨ﻫ)، فمُسلمِ بن الوليد (م ٢٠٨ﻫ)، ثم أبي تمامٍ (م ٢٣١ﻫ). وفي هذا يقول أبو بكرٍ الصُّولي، وهو من كبار المتحمِّسين للمذهب الجديد: «اعلم أعزَّك الله أن ألفاظ المحْدَثين منذ عهد بشارٍ إلى وقتِنا هذا كالمتنقِّلة إلى مَعانٍ أبدع، وألفاظٍ أقرب، وكلامٍ أرقَّ، وإن كان السبقُ للأوائل بحقِّ الاختراع والابتداء، والطبعِ والاكتفاء.»٦ وفي موضعٍ آخر: «ومَن تبَحَّر شعر أبي تمام وجد كلَّ مُحسِن بعده لائذًا به، كما أن كل مُحسن بعد بشار لائذٌ ببشارٍ ومنتسبٌ إليه في أكثرِ إحسانه.»٧ وفي موضعٍ ثالث قال أبو بكر: «وكنتُ يومًا في مجلسٍ فيه جماعةُ من أهل الأدب والعصبية لأبي نُواس حتى يُفرِطوا، فقال بعضُهم: أبو نواس أشعرُ من بشار. فرَدَدتُ ذلك عليه وعرَّفتُه ما جَهِله من فضلِ بشار وتقدُّمه، وأخْذِ جميعِ المُحدَثينَ عنه وأتباعِهم.»٨

السلسلة إذن متصلة، وبشارٌ هو أصلُ المذهب في رأي أنصار البديع، ومع ذلك فيُخيَّل إلينا أن أبا تمام قد أحدث تغييرًا كبيرًا؛ وذلك بأنْ جعل من هذا الاتجاه مذهبًا عامًّا.

ومن المعلوم أن كل مذهب عام ينتهي دائمًا إلى التكلُّف والغلوِّ والفساد. وهذا ما أحسَّه عن ذوقٍ صادقٍ كبارُ أدباء العصر؛ كابن المعتزِّ ثم الآمِدي، اللذَين أورَدْنا رأيَهما فيما سبق. ومن الواضح أن شعر أبي تمام صادرٌ عن صنعةٍ ووعي بما يفعل، وأن الطبع فيه ضعيفُ الحظ. وهو رجلٌ خبَرَ الشِّعرَ ودرَسَه في كافة عصوره منذ الجاهلية إلى عصره، كما تدلُّ مختاراتُه الست. وعندما تقوم في الشعر مذاهبُ نظرية، نرى دائمًا أنها لا تطغى إلا على الشعراء غيرِ الموهوبين، فهي «عكَّاز الأعمى». وأما الشاعر الأصيل، فإن المذهب لا يمكن أن يكون عنده إلا مجردَ اتجاهٍ عام؛ فالرومانتيكية أو الكلاسيكية مثلًا غيرُ موجودتَين بمبادِئهما المُحكَمة إلا عند الضعفاء من الشعراء والأدباء، وأما كِبارُهم فقد صدَر كلٌّ منهم عن طبعِه هو، ولم يكن للمذهب تأثيرٌ عليه إلا في التوجيه العام؛ لهذا نجد الكلاسيكيةَ الشكلية عند برادرون أكثرَ مما نجدها عند راسين، وكذلك الأمر في الرومانتيكية؛ فهي أوضحُ — كمذهبٍ — عند بريزيه Brizeux مثلًا منها عند موسيه.

وأبو تمامٍ قد طغى المذهبُ على طبعه إلى حدٍّ كبير؛ ولذلك كثر سقطُه وإن لم يخلُ شعرُه من الجميل الرائع في بعض الأحيان، بحيث يبدو لنا أن مذهبه كان أقوى من طبعِه، وأن صنعته كثيرًا ما أفسدَت ذوقه.

نظر أبو تمامٍ في الشعر القديم والحديث، وأراد أن يُجدد فلم يستطع إلا في الصياغة؛ وذلك لأنه كان مغلولًا بالتقاليد، والصياغةُ خيرُها أصيلٌ لا يمكن تقليدُه؛ لِغلَبة العناصر الشخصية العميقة الدفينة في لغةِ كل كاتبٍ أو شاعر، كطريقة نسجِه للعبارة، ومَنْحاه في الأداء، ثم نوعِ أسلوبه؛ حِسِّي أو مجرد، قوي أو رقيق، طويل النفَس أو قصيره. وفي هذا يقول بوفون: «إن أسلوب الرجل هو الرجل نفسُه.» ويقول علي بن عبد العزيز الجُرجاني فيُصيب شاكلةَ الصواب: «وقد كان القوم يختلفون في ذلك، وتتباينُ فيه أحوالهم، فيرقُّ شِعر أحدِهم ويَصلُب شعر الآخَر، ويسهل لفظُ أحدهم ويتوعَّر منطقُ غيره، وإنما ذلك بحسَب اختلافِ الطبائع وتركيب الخَلق، فإن سلامة اللفظ تتبع سلامةَ الطبع، ودماثة الكلام بقدرِ دماثة الخلق.»٩ كما يقول عن المحدَثين: «فإن رام أحدُهم الإغراب والاقتداء بمن مضى مِن القدماء لم يتمكَّن من بعضِ ما يرومه إلا بأشدِّ تكلف، وأتمِّ تصنُّع. ومع التكلفِ المقت، وللنفسِ عن التصنُّع نُفرة. وفي مفارقة الطبع قلةُ الحلاوة، وذَهاب الرَّونق، وإخلاقُ الدِّيباجة، وربما كان ذلك سببًا لطمس المحاسن، كالذي نجده كثيرًا في شِعر أبي تمام، فإنه حاوَل مِن بين المحدَثين الاقتداءَ بالأوائل في كثيرٍ من ألفاظه، فحصل منه على توعير اللفظ، وتبجَّح في غيرِ موضع من شعره، فقال:
فكأنما هي في السماع جَنادلٌ
وكأنما هي في القلوب كواكبُ

فتعسَّفَ ما أمكن، وتغلغَل في التعصُّب كيف قَدَر، ثم لم يرضَ بذلك حتى أضاف إليه طلبَ البديع، فتحمَّله من كلِّ وجه، وتوصل إليه بكل سبب، ولم يرضَ بهاتين الخَلَّتَين حتى اجتلبَ المعانيَ الغامضة، وقصَدَ الأغراضَ الخفية، فاحتمل فيها كلَّ غثٍّ ثقيل، وأرصَد لها الأفكارَ بكل سبيل، فصار هذا الجنسُ من شعره إذا قرَع السمع لم يصل إلى القلب إلا بعد إتعابِ الفكر، وكدِّ الخاطر، والحمل على القريحة، فإن ظَفِر به فمِن بعد العناء والمشقة، وحين حسَرَه الإعياءُ وأوهن قوتَه الكَلال. وتلك حالٌ لا تَهشُّ فيها النفسُ للاستماع لِحسَنٍ أو الالتذاذِ بمُستظرَف. وهذه جريرةُ التكلُّف. ولستُ أقول هذا غضًّا من أبي تمام، ولا تهجينًا لشعره، ولا عصبيةً عليه لغيره، فكيف وأنا أَدين بفضلِه وتقديمِه، وأنتحلُ موالاتَه وتعظيمه، وأراه قِبلةَ أصحاب المعاني وقُدوةَ البديع؟! لكن ما سمعتَني أشترطُه في صدر هذه الرسالة أنه يحظر إلا اتباع الحق، وتحرِّي العدل، والحكم به لي أو عليَّ، وما عدَوتُ في هذا الفصل قضيةَ أبي تمام، ولا خرجتُ عن شرطه.»

ونحن نستطيع أن نعتمد على أقوال هؤلاء النُّقاد: ابن المعتزِّ والآمِدي وعلي بن عبد العزيز الجُرجاني في تحديدِ مذهب أبي تمام ومذهب أصحاب البديع كلِّهم، وهذا التحديد هو أهمُّ مشكلةٍ في بحثنا؛ وذلك لأن النقد العربيَّ قد قام في القرنَين الرابع والخامس حول تلك الخصومة الشديدة بين أنصار الحديث وأنصار القديم، ووَفقًا لعناصرها تحدَّدَت وسائلُه واتجاهاته. وتلك حقيقة واضحة؛ إذ لو أن أبا تمام كان قد جدَّد الشعر العربيَّ كلَّه لَما رأينا النقَّاد جميعًا يتَّخذون من تقاليد الشعر القديم مَقاييسَهم. وهم في ذلك يتَّفقون، سواءٌ أكانوا من أنصار القديم أم من أنصار الحديث؛ فالصولي يَرجع إلى القدماء ليستشهدَ بهم كما يرجع الآمدي، فاختلافهم ليس في المعاني الجديدة — وهم جميعًا يَقبلونها — وإنما هو في تحوير المعنى القديم، أو في تغيير طريقة العبارة عنه، وجواز هذا أو عدم جوازه، وانحطاطه في الجودة عمَّا سبَق أو تفوُّقه.

ومع هذا، فنُقَّادنا الثلاثة لا يكتَفون بالحديث عن محاولةِ أبي تمام تجديدَ الصياغة، بل يُضيفون إلى ذلك «اجتلابه للمعاني الغامضة، وقصده إلى المعاني الخفيَّة»، فهل هذا صحيح؟ وهل جدَّد أبو تمام في المعاني؟

الواقع أن أبا تمامٍ — كما قلنا — قد سار باتجاهِ بشار وأبي نُواس ومُسلمٍ إلى درجةِ المذهب، فأحسَّ الشعراءُ والنقاد بأنَّ شيئًا جديدًا قد حدَث، ولكنهم — كما يقول ابنُ المعتز١٠ — لم يعرفوا خصائصَ هذا المذهب معرفةً نظرية تحليلية، وإن أحسُّوا بأن شيئًا جديدًا قد طرَأ على الشعر.
وجاء ابنُ المعتز فكتب كتابه عن «البديع»، فكان عملُه هذا حدثًا عظيمَ الأهمية في تاريخ النقد العربي؛ وذلك لأمرين:
  • (١)

    تحديدُه لخصائصِ مذهب البديع.

  • (٢)

    تأثيره في النقادِ اللاحقين له.

ومن الواضح أن كل مذهبٍ شعري أو أدبي لا يستقرُّ ويأخذ الأدباءُ في مناقشته والتحمُّسِ له أو ضده حتى يُصاغ في مبادئَ نظرية؛ وذلك لأنه لا يكفي أن يصدر عنه الشعراءُ أو الكتَّاب ليتميزَ كمذهب. وهذه حقيقةٌ بيِّنة في تاريخ كلِّ المذاهب الأدبية؛ فهي لم تُصبح مدارسَ لها أنصارٌ وتلاميذ ولها خصوم، إلا عندما وضَحَت أصولها وحُلِّلت وعُرِضَت. ونحن نُلاحظ أن الأدباء أنفُسَهم كثيرًا ما يتولَّون هم — في العصور الحديثة — بسْطَ مذاهبهم في كتبٍ أو مقالات أو مقدِّمات لمؤلفاتهم. وأما القدماء فلم يكونوا يفعلون ذلك، وإنما تولَّاه النقاد، وكانت أولُ محاولة من هذا النوع في تاريخ الأدب العربيِّ هي محاولةَ ابن المعتز؛ فقد أخَذ يبحث عن خصائصِ مذهب البديع، وحاول أن يُحصيَها في الجزء الأول من كتبه (من ١–٥٨)، وكان هذا — فيما يبدو — من أكبرِ الأسباب التي مكَّنَت للخصومة بين أنصار القديم وأنصار الحديث؛ إذ أصبحَت مبادئُ المذهب معروفةً محدَّدة. والناظر في موازنة الآمدي، أو في «أخبار أبي تمَّام» للصُّولي، أو في «وساطة» الجرجاني، أو في غيرِها من كتبِ الأدب؛ يجد أن ابن المعتزِّ قد أثَّر على هؤلاء جميعًا، ولو لم يكن له من فضلٍ غيرُ تحديد الاصطلاحات، لَكفاه ذلك ليتمتَّع في تاريخ النقد العربي بمكانة هامة.

وذلك لأن كل دراسةٍ لا بدَّ لها من اصطلاحات. وهذه ليست مسألةَ ألفاظٍ أو مسألةً ثانوية؛ ففي الاصطلاحات عادةً تتركز مبادئُ كل علمٍ أو فن. ولكَمْ من مرة في التاريخ البشري نشأَت علومٌ جديدة بفضل خلقِ اسم لها يدل على موضوعها ومناهجها! ونحن لسنا في حاجةٍ إلى الإكثار من الأمثلة على ذلك؛ فعلم الاجتماع — في نشأته الحديثة — مبنيٌّ إلى حدٍّ بعيد على تحديد الاصطلاحات، وكذلك علم الدلالة Semantique في الدراسات اللُّغوية؛ فقد استقلَّ هذا النوع من البحث، وأخذ موضوعُه يتحدد ومِنهاجه يتَّضح منذ أن خَلَق العالِمُ الفرنسي بريال Breal هذا اللفظَ في أواخر القرن التاسعَ عشر.

وإذن فابنُ المعتز قد ساعد على خلق النقد المنهجيِّ بتحديده لخصائصِ مذهب البديع، ووضعِه اصطلاحاتٍ لتلك الخصائص، وعنه أخذ مَنْ جاء بعده.

خَلْقُ هذه الاصطلاحات حادثٌ جديد في القرن الثالث الهجري، وهو حادثٌ له أهميته كما رأينا، فمِن أين أتى ابنُ المعتز بتلك الاصطلاحات؟

يقول ابن المعتزِّ إنه لم يسبقه إلى ذلك أحد، وإنه قد ألَّف كتابه سنة ٢٧٤ هجرية، ولكننا نعلم أن حنين بن إسحاق (م ٢٩٦ﻫ) قد ترجم كتاب «الخطابة» لأرسطو؛ مما يدلُّ على أن هذا الكتاب قد عرَفه العرب، وليس بغريبٍ أن يكونوا قد أحاطوا بموضوعه قبل ترجمة حنين.١١

ومع ذلك نستطيع أن نَرجع إلى نصِّ أرسطو نفسِه، فنجدَه في الجزء الثالث من كتابه يتحدَّث عن «العبارة»، وفيه يذكر الاستعارةَ والطِّباق والجِناس، وردَّ الأعجازِ على ما تقدَّمَها. وهذه أربعةٌ من الخمسة التي ميَّز بها ابنُ المعتز مذهبَ المحْدَثين، وأما الخامس، وهو المذهب الكلامي، فذكَر ابن المعتز نفسُه أنه قد أخذه عن الجاحظ. وهو في الواقع ليس مِن خصائص الصياغة الجديدة، بل هو منهج عقلي.

فأما الاستعارة metaphora فقد تحدث عنها أرسطو في أكثرَ من موضع من «الخَطابة»، كما أنه يُحيل على ما قاله عنها في كتابه «الشعر» فيقول (ج٣، باب٤): «التشبيه استعارة؛ وذلك أنه قليلُ الاختلاف عنها، فعندما يقول الشاعرُ عن رجل «انطلَق كالأسد» يكون هذا تشبيهًا، وأما عندما يقول: «انطلقَ هذا الأسدُ» فيكون هذا استعارة». ويقول في موضعٍ آخَر: «لقد شرَحنا في الشعر — كما قلنا — قيمةَ كلِّ هذه الاصطلاحات، وفصَّلْنا أنواع الاستعارة، وقلنا إنها أهمُّ شيء في الشعر والنثر.» (ج٣، باب٢)، وبالرجوع إلى كتاب الشعر نجده يقول: «الاستعارة هي نقلُ اسم شيءٍ إلى غيره، فتنقل من الجنس إلى النوع، أو من النوع إلى الجنس، أو من النوع إلى النوع، أو تنقل بحُكم المشابهة. فالنقل من الجنس إلى النوع أقصد به أن تقول مثلًا: ها هي سفينةٌ واقفة؛ وذلك لأن الرُّسوَّ نوعٌ من أنواع الوقوف. ومن النوع إلى الجنس كأن تقول: حقًّا لقد أتى أوليس بآلافٍ من الأعمال الجميلة؛ وذلك لأن «آلاف» معناها «كثير»، وقد استعملها الشاعرُ محلَّ «كثير». ومن النوع إلى النوع مثل: «وقد استنفد حياته بحد السيف» … وذلك لأن استنفد هنا معناها «قطع»، و«قطع» معناها «استنفد»، وكِلا الفعلَين يدلُّ على طريقةٍ مختلفة للإزالة.
وأنا أقصد ﺑ «علاقة المشابهة» كلَّ الحالات التي يكون فيها اللفظُ الثاني بالنسبة إلى الأول كالرابع بالنسبةِ إلى الثالث؛ لأن الشاعر يستخدم الرابعَ بدل الثاني، والثانيَ بدل الرابع. ولْنضرِبْ أمثلة: فالرابطة التي بين الكأس وديونيزوس هي نفس الرابطة بين الدرع وأريس؛ ولهذا يقول الشاعر عن الكأس إنها درع ديونيزوس. وعن الدرع إنها كأس أريس» (الشعر، ٢١–١٤٥٧٨).١٢

وابن المعتز يُعرِّف الاستعارة (ص٢) بقوله: إنها «استعارة الكلمة لشيءٍ يُعرَف بها من شيء قد عُرِف بها.» وهذا التعريف يكاد يكون تعريفَ أرسطو السابقَ ذِكرُه: «الاستعارة هي نقلُ اسم شيءٍ إلى غيره.»

ويقول أرسطو في تحليل الجمل: «أجزاء الجملة إما تتكون من التقسيم أو من المطابقة، فهناك تقسيمٌ في مثلِ قولنا: «كم أدهشني أولئك الذي قرَّروا هذه المجتمعات الرسمية، وأولئك الذين أنشَئوا هذه الألعابَ الرياضية … إلخ!» وهناك مطابقة عندما نضع الضدَّ في مقابلة ضدِّه، أو عندما تجمع بين الضدَّين في جملةٍ واحدة مثل: «لقد نفعوا هؤلاء وأولئك، مَن بقي ومَن تبِعَهم، وأعطَوْا هؤلاء من الممتلكات أكثرَ مما كان لديهم، وتركوا لأولئك في بلادهم ما يكفيهم»، ﻓ «بقي» و«تبع» «وممتلكات أكثر» و«ممتلكات كافية» أضداد. أو عندما تقول: «كثيرًا ما يُخطئ الحكماء ويُصيب الحمقى».» (ج٣، باب٤).

وابن المعتز عندما يتحدث عن الطِّباق يقول: قال الخليل رحمه الله: طابَقْت بين الشيئَين إذا جعلتَهما على حَذْوٍ واحد، وكذلك قال أبو سعيد؛ فالقائل لصاحبِه: «أتيناك لتسلك بنا سبيلَ التوسع فأدخلتَنا في ضِيق الضمان» قد طابَقَ بين السَّعة والضِّيق في هذا الخطاب … إلخ. ومن الواضح أن هذا مثَلٌ عربي لنفس المبدأ الذي حلَّله أرسطو، بحيث يلوحُ لنا أن ابن المعتزِّ — على الأرجح — كان يعرف تحليلَ أرسطو لهذا الوجه من البديع، وأنَّ لفظة طِباق ما هي إلا ترجمةٌ لِلَّفظة اليونانية.

والذي يبدو لنا هو أن العرب قد فهموا تعاريفَ أرسطو لتلك الأوجُه، ثم اختلفوا في ترجمة الاصطلاحات أو وضعِها للدلالة على ما فهموا. وهذا ما يُفسر اضطرابَ تلك الاصطلاحات، وعدمَ اتفاقهم عليها في العصر الذي نتحدث عنه؛ أي في أوائل عهدِهم بتلك العلوم، والشواهد على ذلك كثيرة؛ نورد منها ما ذكَره الآمديُّ في الموازَنة (ص١١٧)؛ إذ يقول بعد أنْ عرَّف الطباق: «وهذا باب، أعني المطابق، لقَّبه أبو الفرَج قُدامة بن جعفرٍ في كتابه المؤلَّف في نقد الشعر «المتكافئ»، وسمَّى ضربًا من المجانس «المطابق»، وهو أن تأتيَ الكلمة سواءً في تأليفها واتفاق حروفها، ويكون معناها مخالفًا؛ نحو قول الأفوَهِ الأزدي:

وأقطع الهَوْجَلَ مُستأنسًا
بِهَوجلٍ عَيرانةٍ عَنْتريس
و«الهوجل الأول» الأرض البعيدة، و«الهوجل الثاني» الناقة العظيمةُ الخلقِ «الموثَقة» … وما علمتُ أن أحدًا فعَل هذا غير أبي الفرَج؛ فإنه وإن كان هذا اللقبُ يصحُّ لموافقتِه معنى الملقَّبات، وكانت الألفاظ غيرَ محظورة، فإني لم أكن أحبُّ له أن يخالف مَن تقدَّمه، مثل أبي العباس عبد الله بن المعتزِّ وغيره ممن تكلم في هذه الأنواع وألَّف فيها؛ إذ قد سبَقوه إلى اللقب وكفَوْه المئونة. وقد رأيتُ قومًا من البغداديِّين يُسمون هذا النوع من المجانس «المماثل»، ويُلحِقون به الكلمة إذا تكررَت وترددَت؛ نحوُ قولِ جَرير:
تزَوَّد مثلَ زادِ أبيك فينا
فنِعم الزادُ زادُ أبيك زادَا
(وبابه قليل).»

وفي مِثل هذا النصِّ ما يدلُّ على أن العلماء والنقَّاد لم يكونوا قد استقروا بعدُ على تحديد معاني تلك الألفاظ، وإن تكن الاصطلاحات التي ذكَرها ابنُ المعتز هي التي قُبِلَت في الغالب عندما استقرَّ علماء البلاغة على تحديداتهم.

والجناس تامًّا وناقصًا هو ما يُسميه أرسطو بالمشابهة Paromoiwsis، والتام عنده ما يكون في الكلمتين كِلتيهما، وذلك عندما تكون الكلمة في أول الجملة؛ كقولنا: argon gar elaben argon rar’autou (أعطاه أرضًا أرضاء)، فاللفظان argon اتفقا لفظًا واختلفا معنًى «أرض وجدباء». والجناس الناقص يكون بين أواخر الجمل، وهو أشبهُ بما يُسميه العرب «السجع». ومن الواضح أن ردَّ الأعجاز على ما تقدَّمَها هو نوعٌ من الجناس (راجع: ج٣، باب٩).

وإذن فأرسطو قد تحدث عن هذه الأوجُه الأربعة التي رأى فيها ابنُ المعتز مميزاتٍ لمذهب البديع. وإن يكن هذا لا يسلب ابنَ المعتز فضْلَه؛ وذلك لأنه لم يأخذ عن أرسطو إلا مجردَ التوجيه العام، والفطنة إلى طريقة تحليل هذه الظواهر التي طبَّقَها على اللغة العربية، باحثًا عن الأمثلة في القرآن والحديث وشعر المتقدمين والمتأخرين.

ثم إن ابن المعتز لم يقتصر على التعريفات والتقاسيم، بل عدَّاها إلى نقد المعيب من كلِّ وجهٍ من أوجه البديع التي ذكَرها. وهو في هذا أيضًا يُشبه أرسطو الذي نجده في نفسِ الفصل الثالث من «خَطابته» ينتقد ما في بعض الأمثلة من عيوب.

وأخيرًا نرى ابن المعتز يُضيف إلى هذه الأوجه الأربعة خاصيةً خامسة، فيقول (ص٥٣): الباب الخامس من البديع، وهو مذهبٌ سمَّاه أبو عمرٍو الجاحظُ المذهبَ الكلامي. وهذا بابٌ ما أعلم أني وجدتُ في القرآن منه شيئًا، وهو يُنسَب إلى التكلُّف — تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيرًا — ويضرب لذلك من الشعر أمثلة:

لكلِّ امرِئٍ نفسان نفسٌ كريمةٌ
وأخرى يُعاصيها الفتى ويُطيعُها
ونفسك من نفسَيْك تشفعُ للنَّدى
إذا قَلَّ مِن أحرارهنَّ شفيعُها

ثم قول أبي تمام:

المجدُ لا يَرضى بأن تَرضى بأن
يَرضى المؤمِّلُ منك إلا بالرِّضى

ويقول: «وبلَغَنا أن إسحاق بن إبراهيم رأى حبيبًا الطائيَّ يُنشد هذا وأمثالَه عند الحسن بن وهبٍ فقال: يا هذا، شدَّدتَ على نفسك.»

وهذه الخاصية تُلقي ضوءًا قويًّا على مذهب أبي تمام؛ فلقد قلنا فيما سبق: إن تجديده كان في الصياغة، وإنه لم يُجدد في المعاني. وهذه حقيقةٌ فطن لها ابنُ المعتز؛ وذلك لأننا نستطيع أن نقسم المميزات الخمس — كما أشَرنا فيما سبق — إلى ثلاثةِ أنواع:
  • (١)
    الاستعارة: وهذه أصيلةٌ في الشعر كما يقول أرسطو؛ ولهذا جعَلها البلاغيون من البيان.
  • (٢)
    الطباق والجناس وردُّ الأعجاز على تقدُّمِها: وهذه مُحسِّنات لفظية وضَعها البلاغيون فيما بعدُ في باب البديع عندما أصبح البديع عِلمًا قائمًا بذاته.
  • (٣)
    المذهب الكلامي: وهذا مأخوذٌ باعتراف ابن المعتز عن الجاحظ، أي عن المعتزلة وعلماء الكلام.

    فهل «المذهب الكلامي» هذا قد استطاع أو يستطيع أن يُجدد معانيَ الشعر؟ ذلك ما لا نظنُّه، وإنما هو تكلُّف في التفكير كما يقول ابنُ المعتز بحق، بل هو أدنى إلى أن يكون تكلفًا في العبارة ذاتِها، وإن ساق هذا التكلُّفُ إلى تخريج المعاني المعروفة إلى ما يُشبه الجِدَّة.

    والواقع أن أبا تمام لم يكن غريبًا عن مَباحث المتكلِّمين ومَناهجهم في التفكير، ولدينا في كتاب «أخبار أبي تمام» للصُّولي فصلٌ هام بعنوان «ما رواه أبو تمام» (ص٢٤٩–٢٥٨) يُثبت ذلك. وهو فصل عظيم الأهمية؛ وذلك لأنه يجمع طائفةً من الأقوال التي هي أقربُ إلى التفكير الفلسفي الذي يعتمد على العبارة أكثرَ من اعتماده على الفكرة في ذاتها. وأبو تمام هو الذي ينقل هذه الأقوال؛ مما يدلُّ على حِرصه على أمثالها. من ذلك مثلًا ما يرويه عن الوليد بن يزيدَ إذ حدَّثه رجلٌ فكَذَبَه، فعلم يزيدُ أنه قد كذَبَه، فقال له: «يا هذا، إنك تَكذِبُ نفسَك قبل أن تَكذِب جليسَك.» وقوله: حدثني شيخٌ من الحي قال: كان فينا رجلٌ شريف فأتلف مالَه في الجود، فصار يَعِدُ ولا يَفي، فقيل له: أصِرتَ كذابًا؟ فقال: «نُصرة الصِّدق أفضَت بي إلى الكذب.» وقوله: وصف ابن لسان الحمرة قومًا بالعِيِّ فقال: «منهم مَن ينقطع كلامه قبل أن يصل إلى لسانه، ومنهم مَن لا يبلغ كلامه أذُنَ جليسه، ومنهم من يقتسر الآذانَ فيحملها إلى الأذهان عبئًا ثقيلًا.» وكذلك: تكلم رجلٌ في مجلس الهيثم بن صالح فهذر ولم يُصب، فقال: «يا هذا، بكلام أمثالك رُزِق الصمتُ المَحبَّة.» وسمعتُ أعرابيًّا يصف قومًا لبسوا النعمة ثم عَرُوا منها، فقال: «ما كانت نعمة آل فلان إلا طيفًا ولَّى مع انتباههم.» وقال رجل يومًا لرقْبة بن مَصْقلة العبدي: ومن أيِّ شيء كثر شكُّك؟ فقال: «من محاماتي عن اليقين.» و«إن الصبر عن المحبوب أشدُّ من الصبر على المكروه.» و«إنما تَمدح السكوتَ بالكلام، ولا تمدح الكلامَ بالسكوت، وما أنبأ عن شيء فهو أكثرُ منه.» و«الصمت مَنامُ العقل، والنطق يقظتُه، ولا منام إلا بيقظة، ولا يقظة إلا بمنام.»

وهذه كلها أقوالٌ تدلُّ على المهارة في التعبير واللعب على الأفكار، أكثرَ من دلالتِها على أصالة الفكر، أو القدرة على الخلق، أو إصابةِ الحق، أو الحرص عليه. وهي قريبةُ الشبَه بأقوال المتكلمين وفلاسفة المنطق الشكلي.

والناظر في شعر أبي تمام قد يعثر بأثرٍ للفلسفة اليونانية؛ كاستخدامه لبعض الاصطلاحات في قوله:

صاغَهم ذو الجلالِ من جوهر المجْـ
ـدِ وصاغ الأنامَ مِن عرَضِهْ

فالجوهر والعرَضُ أخذهما طبعًا من أرسطو.

وإلى جانب هذا، نجد عددًا كبيرًا من المعاني الكلامية التي رأى النقادُ فيها ضُروبًا من الإحالة والتعسُّف، وهي بعدُ لا تتم إلا عن تفكيرٍ لفظي سقيم، بحيث نستطيع أن نُقرر أن مذهب أبي تمام كان قبل كلِّ شيء مذهبَ صياغة، وأنه لم يكَدْ يخرجُ على المعاني والأغراض المعروفة المتوارَثة. وكان لهذه الحقيقة أثرٌ كبير في بقاء النقد عربيًّا يقوم على تقاليد الشعر واللغة، ولا يأخذ عن العلوم البلاغية الجديدة غيرَ المصطلحات.

وإذن فأبو تمام لم ينقل الشعر العربيَّ تلك النقلة التي تمَّت فيما بعدُ عندَ رجلٍ كأبي العَلاء، وهذا أمر يمكن فَهمُه بسهولة؛ فالفلسفة الإغريقية لم تكن بعدُ قد هُضِمَت، وكان العربُ حديثي عهدٍ بها، وقد استخدموها أولَ الأمر في مناقشة حقائق الدين وتدعيمها والمحاجَّة فيها. وكان من الطبيعي أن لا تمتدَّ إلى الشعر إلا فيما بعدُ عندما دخلَت في تيارات التفكير العام.

وهذه الحقائق تُفسر لنا نموَّ العلوم البلاغية؛ فقد جاء أبو تمام ومدرسته بنوعٍ جديد من الصياغة الفنية، وقد تُرجِمَت كتب أرسطو عن الخَطابة ثم عن الشعر، فوجَدوا فيها منهجًا لدراسة مذهب البديع، الذي هو ألصقُ بالشكل منه بالموضوع، وكانت في هذا محنةُ تلك الدراسات، وإن تكن لحُسن الحظ لم تمتدَّ إلى النقد الأدبي الذي ظلَّ — كما قلنا — يعتمد على الذوق، وإن أصبح ذوقًا مُسبَّبًا قائمًا على دراسةٍ واستقصاءٍ ومنهج.

(٢) قُدامة بن جعفر

والناظر في كتاب قُدامة (٢٧٥–٣٣٧ﻫ) يجدُ الاتجاه البلاغيَّ الشكلي الذي انتهى بذلك العلم إلى التحجُّر.

وتأليفُ هذا الكتابِ في ذاته هو بناءُ هيكل منطقي، تَصوَّره قدامةُ بعقلِه المجرَّد. ولقد جارى قُدامةُ هذا العقلَ الشكلي إلى نهاية شوطه، غيرَ ناظرٍ إلى حقائق الشعر ولا متقيِّدٍ بها. وليس كذلك ابنُ المعتز؛ فكتاب البديع ينقسم إلى قسمَين كبيرين؛ الأول (من ١–٥٨): وفيه يُحصي المؤلفُ خصائصَ المذهب الجديد الخمسَ التي ناقَشناها فيما سبق، وفي الجزء الأخير (من ٥٨–٧٧): يذكر «بعض محاسن الكلام والشعر، ومَحاسنها كثيرةٌ لا ينبغي للعالِم أن يدَّعيَ الإحاطة بها حتى يتبرَّأ من شذوذِ بعضِها عن عِلمه وذِكره، وأحبَبنا لذلك أن تكثرَ فوائدُ كتابنا للمتأدِّبين. ويعلم الناظر أنَّا اقتصَرْنا بالبديع على الفنون الخمسة اختيارًا من غيرِ جهل بمحاسنِ الكلام، ولا ضيقٍ في المعرفة.» أي إنه يورد محاسنَ الكلام الأخرى التي لم يلجأ إليها أصحابُ البديع بنوعٍ خاص، ولا اتخَذوا منها مبادئَ لمذهبهم. وهو يذكر من ذلك: (١) الالتفات. (٢) الاعتراض. (٣) الرجوع. (٤) الخروج من معنًى إلى معنًى. (٥) تأكيد المدح بما يُشبه الذمَّ. (٦) تجاهُل العارف. (٧) هَزْل يُراد به جِد. (٨) حُسن التضمين. (٩) التعريض والكناية. (١٠) الإفراط في الصفة. (١١) حُسن التشبيه. (١٢) إعنات الشاعر نفسَه في القوافي. (١٣) حُسن الابتداءات.

وهو وإن كان قد أخذ في كتابه بمنهج في التأليف، فقسَّم الكتابَ كما رأينا إلى قسمَين، وتتبَّع في الكلام على كل وجهٍ من الأوجُه التي ذكَرها خُطةً ثابتة على نحوِ ما نراه يفعل عند الكلام على خصائص مذهبِ البديع الخمس؛ إذ يبدأ بذِكر الخاصية، ثم يُورد أمثلةً لها من القرآن، يُتبِعُها بأمثلةٍ من الحديث الشريف وأقوال المتقدِّمين، ثم من الشعر القديم، وينتهي بالشعراء المحْدَثين، ويُعقب كلَّ ذلك بذِكر ما عِيبَ من استعمالاتِ كل وجه؛ أقول برغم وضوحِ المنهج عنده والخُطة المنطقية في التفكير، فإن ابن المعتزِّ غيرُ قُدامة.

ابن المعتز يبدأ تفكيرَه من الوقائع والنظر فيها، وهو عربيٌّ صميمٌ سليمُ الذوق، يعرف الشعرَ العربي ويتذوقه. وإذا كان للفلسفة تأثيرٌ عليه، فإنها لم تستعبِدْه ولا أفسدَت نظرتَه إلى الشعر كما لم تَبعد به عن الحقائق؛ فمنطقه منهجٌ في التأليف، ومنهج في التفكير. وأما قُدامة فعقليته شكليةٌ صِرفة، وهو لا يبدأ بالنظر في الشِّعر، بل يُكوِّن أولًا هيكلًا لدراسته ويُحدد تقاسيمه، أو إن شئتَ فقل: إنه يصنع قطعةَ أثاثٍ هندسيةَ التركيب، ثم يأخذ في مَلْء أدراجها.

يبدأ بتعريف الشِّعر فيقول: «إنه قولٌ موزون مقفًّى يدلُّ على معنًى؛ فقولنا: «قول» دالٌّ على أصل الكلام الذي هو بمنزلة الجنس للشعر، وقولنا: «موزون» يفصله ممَّا ليس بموزون؛ إذ كان من القول موزونٌ وغيرُ موزون، وقولنا: «مُقفًّى» فصلٌ بين ما له من الكلام الموزون قَوافٍ وبين ما لا قوافيَ له ولا مَقاطع، وقولنا: «يدلُّ على معنًى» يفصل ما جرى من القول على قافيةٍ ووزن مع دلالةٍ على معنًى، مما جرى على ذلك من غيرِ دلالة على معنًى» (ص٣).

وهذا القول وإن لم تكن له علاقةٌ بنظرية أرسطو في «الشعر» وتعريفه له بأنه «محاكاةُ الطبيعة»، إلا أنه تطبيقٌ واضح لتعريفاته الشكلية التي تعتمد على المقولات.

وإذ فرَغ قُدامة من تعريف الشعر على هذا النحو الذي لا يدلُّ على الشعر في شيء؛ يقول: إنه ليس من الاضطرار أن يكون ما هذا سبيلُه جيدًا أبدًا، ولا رديئًا أبدًا، بل يحتملُ أن يتعاقَبه الأمران؛ أي إن القول الموزون المقفَّى الدالَّ على معنًى فيه الجيدُ وفيه الرديء، بل وفيه المتوسط، كما يقول المؤلف، وإذن فلا بدَّ من النظر في أسباب الجَودة والرداءة؛ ليكونَ الكتاب «نقدًا للشعر» كما عنْوَنه المؤلف. وهنا يضع المؤلفُ خُطةَ الكتاب، فيذكر أن عناصر الشعر أربعة:
  • (١)

    اللفظ.

  • (٢)

    الوزن.

  • (٣)

    القافية.

  • (٤)

    المعنى.

وهذا كله موجودٌ في تعريفه؛ «فالقول» هو «اللفظ»، والموزون هو «الوزن»، و«المقفَّى» هو «القافية»، و«الدال على معنًى» هو «المعنى»، ولكنه يعرف التحليل والتركيب، وإذن فلا بدَّ له أيضًا من الكلام عن ائتلافِ بعض هذه الأسباب (العناصر) إلى بعض. وهذه المعادلة تُعطيه أربعة ائتلافات:
  • (١)

    ائتلاف اللفظ مع المعنى.

  • (٢)

    ائتلاف اللفظِ مع الوزن.

  • (٣)

    ائتلاف المعنى مع الوزن.

  • (٤)

    ائتلاف المعنى مع القافية (ص٧). وهذا هو كل الكتاب، هو قطعة الأثاث التي أشَرنا إليها.

ويأخذ المؤلف في مَلء الأدراج فيبدأ بالأربعة المفردات:
  • (١)

    نعت اللفظ بأن يكون سهلَ المخارج من مواضعها، عليه رونقُ الفصاحة مع الخلوِّ من البشاعة، مثل أشعار يوجد فيها ذلك وإنْ خلَت من سائر النُّعوت للشعر، ويُورد أمثلة.

    وهنا يظهر لنا حُمقُ هذه النظرة؛ فهو لكي يدلَّ على جمال اللفظ يأبى أن يكون في الأبيات التي يُورِدُها شيءٌ من نُعوت الشعر غير «سهولة المخارج من موضعِها ورونق الفَصاحة.» وإنما هو المنطق الشكلي، وحرصُه على التقاسيم المصطنَعة، وانصرافه عن مُعالجة الأشياء كوَحْدة.

  • (٢)

    ونعت الوزن بأن يكون سهلَ العَروض من أشعار يوجد فيها، وإن خلَت من أكثرِ نعوت الشعر، مع ذكر أمثلة.

  • (٣)

    ونعت القوافي بأن تكون عَذْبة الحرف سَلِسة المخرَج، وأن تقصد ليصير مقطعُ المِصْراع الأول من البيت الأول من القصيدة مثل قافيتها، مع أمثلةٍ للتصريع.

  • (٤)

    وأخيرًا ينتهي إلى المعاني. وهنا يرى جودةَ المعنى في أن يكون موجَّهًا للغرض المقصود غيرَ عادٍ عن الأمر المطلوب. ولما كانت المعاني لا عداد لها، فإنه يردُّها كلَّها إلى المديح والهجاء والنَّسيب والمراثي والوصف والتشبيه. ويأخذ في الحديث عن هذه الأغراض المختلفة، فيتحدَّث عن المدح مُجيزًا فيه المبالغة، مؤكدًا أنها من جَمال الشعر. وهو يَرجع المدح إلى الإشادة بصفاتٍ أربع هي: العقل والشجاعة، والعدل والعفَّة. ولكلٍّ من هذه أقسام؛ فمن أقسام العقل: ثقافة المعرفة والحياء والبيان والسياسة والكفاية والصَّدْع بالحُجة والعلم والحِلم عن سَفاهة الجهَلة، وغير ذلك مما يَجري مَجراه. ومن أقسام العفَّة: القناعة وقلة الشرَهِ وطهارة الإِزار وغير ذلك مما يجري مجراه. ومن أقسام الشجاعة: الحماية والدفاع والأخذ بالثأر، والنكاية في العدو، والمهابة، وقتل الأقران، والسَّير في المَهامِهِ الموحِشة وما أشبهَ ذلك. ومن أقسام العدل: السماحة، ويُرادف السماحةَ التغابُن، وهو من أنواعها، والانظلام، والتبرُّع بالنائل، وإجابة السائل، وقِرى الأضياف وما جانسَ ذلك. وهذه الصفاتُ الأربع تأتلفُ طبعًا بعضُها مع بعض، فيحدث من ذلك ستةُ أقسام: فمِن تركيب العقل مع الشجاعة يحدث الصبرُ على الملمَّات، ونوازلُ الخطوب، والوفاءُ بالإيعاد. وعن تركيب العقل مع السخاء: إنجازُ الوعد وما أشبهَ ذلك. وعن تركيب الشجاعة مع السخاء: الإتلافُ والإخلاف وما أشبهَ ذلك. وعن تركيب الشجاعة مع العفَّة: إنكارُ الفواحش، والغَيرة على الحُرَم. وعن السخاء مع العفة: الإسعافُ والإيثار على النفس وما شاكلَه. ثم يوردُ الأمثلةَ لكل ذلك. وفي هذا الكلام الطويل المملِّ ما يدلُّ على طريقة قدامة في نقدِ الشعر وبُعده عمَّا ادَّعاه؛ فهذه فلسفة أرستطاليسية ومزيجٌ من المنطق والأخلاق المعروفة عند المعلِّم الأول. ثم ينتقل من المدح إلى الهجاء — وأمر الهجاء سهل؛ فهو ضدُّ المديح، وكذلك الرثاء؛ فهو مدحُ الميت واستبدالُ كان بيكون. ثم يتحدَّث عن التشبيه، وهنا يأخذ عن خَطابة أرسطو (الجزء الثالث) قولَه: «إنما يقع التشبيهُ بين شيئين بينهما اشتراكٌ في معانٍ تعمُّهما ويوصَفان بها، وافتراقٌ في أشياءَ ينفرد كلٌّ منهما بصِفتها. وإذا كان الأمر كذلك، فأحسنُ التشبيه هو ما وقَع بين الشيئين اشتراكُهما في الصفات أكثرُ من انفرادهما فيها حتى يُدنَى بهما إلى حال الاتحاد» (ص٢٧). وهذا مأخوذٌ من مثل قول أرسطو: «يجب أن تكون الاستعارة والتشبيه — لأنه يُسوِّي بينهما في هذا الحكم — قائمةً على التناسب، وأن تكون متبادَلةً مأخوذةً من الأشياء التي من نوعٍ واحد» (ج٢، باب٤). وهو كلامٌ مبتذَل لا يَعْدو مدلولَ اللفظ. وهو كذلك ينعت الوصف بأنه: «ذكر الشيء بما فيه من الأحوال والهيئات. ولما كان أكثر وصف الشعراء إنما يقع على الأشياء المركَّبة من ضُروب المعاني؛ كان أحسنهم مَن أتى شعرُه بأكثر المعاني التي الموصوفُ مركَّبٌ منها، ثم بأظهَرِها فيه وأولاها حتى يَحكيَه بشِعره، ويُمثله للحِسِّ بنعتِه.» وكذلك النسيب «ذكر خَلق النساء وأخلاقهن، وتصرُّف أحوالِ الهوى به معهن.» ويُفرِّق بين الغزل والنسيب بأن: «الغزَل هو المعنى الذي إذا اعتقده الإنسانُ في الصَّبْوة إلى النساء نسَبَ بهن من أجله، فكأنَّ النسيب ذِكرُ الغزَل، والغزلُ المعنى نفسُه، والغزل إنما هو التصابي والاستهتار بمَودَّات النساء.» وبذلك ينتهي قُدامة من الكلام على المعنى كما ينتهي من المفردات الأربع.

وهو قبل أن ينتقل إلى الحديث عن المركَّبات الأربع يورِدُ «ما يعمُّ جميعَ المعاني الشعرية من مُحسنات»، وهو يُحصيها في سبعة أوجُه:
  • (١)

    التقسيم.

  • (٢)

    صحة المقابلة.

  • (٣)

    صحة التفسير.

  • (٤)

    التتميم.

  • (٥)

    المبالغة.

  • (٦)

    التكافؤ.

  • (٧)

    الالتفات.

والتقسيمُ والمقابلة سبق أن أورَدْنا النصَّ الذي يتحدث فيه أرسطو عنهما عند دراسته لبناء الجملة في باب «العبارة». والمبالغة هي hyperbole اليونانية، والتكافؤ هو ما يُسميه ابن المعتزِّ بالطباق، وقد فَطِن الآمديُّ إلى ذلك في النص الذي أورَدْناه فيما سبَق، والالتفاتُ تحدَّث عنه ابنُ المعتز أيضًا.
وينتهي قدامةُ إلى الحديث عن المركَّبات لِينعتَ ائتلاف اللفظ مع المعنى، ويُعدِّد أنواعَه، فيذكر:
  • (١)

    المساواة.

  • (٢)

    الإشارة.

  • (٣)

    الإرداف.

  • (٤)

    التمثيل.

وينعت ائتلافَ المعنى والوزنِ كما ينعت ائتلافَ القافية.

وإذ فرَغ من ذِكر محاسن المفردات والمركبات يأخذ في ذكرِ مَعايب كلٍّ، فيذكر عيوبَ اللفظِ والوزنِ والقافية والمعاني بأنواعها، ثم يفصل بين المفردات والمركَّبات بذِكر العيوب العامة للمعاني، وبذلك يأتي هذا الفصلُ مقابلًا لمُحسِّنات المعاني العامة. فيتحدث عن «فساد الأقسام، وفساد المقابلات، وفساد التفسير والاستحالة والتناقض، ومخالفة العُرف، والإتيان بما ليس في العادة والطبع، وأن ينسب إلى الشيء ما ليس له.» وأخيرًا ينتهي إلى عيوب المركَّبات فيذكر عيوبَ ائتلاف اللفظ والمعنى؛ ومنها: «الإخلال، والزيادة في اللفظ مما يُفسد المعنى، وهو عكس الإخلال»، وعيوب ائتلاف اللفظ والوزن: «كالحشو والتثليم والتذنيب والتغير والتعطيل»، وعيوب ائتلاف المعنى والوزن: «ومنها المقلوب والمبتور»، وعيوب ائتلاف المعنى والقافية: «منها أن تكون القافية مُستدعاةً قد تُكلِّف في طلبها، وأن يُؤتى بالقافية لتكون نظيرةً لأخواتها في السجع، لا لأن لها فائدةً في معنى البيت.» وبذلك ينتهي الكتاب.

وإذن فنقد الشعر مكوَّن — كما هو واضح في الكتاب الذي لا فِهْرِسْت له لسوءِ الحظ — من ثلاثةِ فصول:
  • (١)

    الفصل الأول: من ص٣ إلى ص٢٨، وفيه يُعرِّف قدامةُ الشعر ويرسم خُطةَ الكتاب.

  • (٢)

    الفصل الثاني: من ص٢٨ إلى ٦٤، وفيه يذكر مُحسنات الشعر في مفرَداتِه ومركَّباته.

  • (٣)

    الفصل الثالث: من ص٦٤ إلى آخر الكتاب، أي ص٨٩، وفيه عيوب الشعر مُفرَداتِه ومركَّباته.

ولقد حرَصْنا على تلخيص الكتاب ليرى القارئُ إلى أي حدٍّ لم نَعْدُ الحقيقة عندما قلنا إن كتاب قُدامة لم يؤثِّر لحُسن الحظ تأثيرًا كبيرًا في النقد، وكل ما له من فضلٍ هو وضعُ عددٍ من الاصطلاحات وتحديدُ بعض الظواهر. ومع هذا، فالذين أخَذوا بأقوال قدامة وتقاسيمِه التعليمية الشكلية ليسوا النقَّادَ كالآمدي والجرجاني، وإنما علماء البلاغة في القرون التالية.

وإذن فمُحاولة قدامة ظلت شكلية عميقة، وهي لم تدخل يومًا ما في تيار النقد العربي. ولئن كان النقادُ لم يَجهلوه بدليلِ ورود اسمه غيرَ مرةٍ في كتبهم؛ فإنهم لم يكادوا يتأثَّرون به، وإنما تأثروا بكتاب «البديع» لابن المعتز؛ فهذا الكتاب هو كما ذكرنا مبدأُ حركة النقد في أواخر القرن الثالث وخلال القرن الرابع كلِّه، وهو الذي وجَّه النقد الوجهةَ التي سنراها.

كتاب ابن المعتز هو الذي حدَّد خصائص مذهب البديع وفصَلَها عمَّا عداها من الطرُق البلاغية كما قلنا، وبذلك فطن النقادُ إلى هذا الاتجاه الجديد في الشعر، وعرَفوا بطريقةٍ تحليلية ما فيه من جديد. وكان لهذا أثرٌ بعيد في مؤلفاتهم وطريقةِ تناولهم للنقد على نحوٍ منهجي. ولا أدلَّ على ذلك من أن نرى رجلًا كالآمديِّ يتكلم في أبوابٍ منفصلة من الموازنة عمَّا لدى أبي تمامٍ والبُحتُريِّ من استعارات وجِناس وطِباق، وكذلك فعَل علي بن عبد العزيز الجرجاني، كما سنرى.

ثم إن ابن المعتز قد ردَّ هذه الأوجُهَ البديعية إلى أصول التراث العربي؛ فهو يبدأ — كما رأينا — بذكر الاستعارات والجناس والطباق التي ورَدَت في القرآن والحديث وأقوالِ المتقدمين وشعرائهم، ثم يربط أبا تمام بسلسلة بشارٍ ومسلمٍ وأبي نُوَاس الذين أخَذوا يجنَحون إلى الإكثار من استخدام هذه الوسائل. وكان لهذا أعظمُ الأثر في توجيه النقد وجهةً تاريخية، وحملِ النقاد على اتِّخاذ التقاليد في الشعر مقاييسَ لهم. وكان مِن أثر ذلك أنْ عظُمَت عنايتهم بدراسةِ مسألةٍ تَشغل الجانب الأكبر من كتبهم، وهي مسألة (السرقات) وأخْذِ السابق عن اللاحق، وما زاد هذا على ذاك أو انحطَّ فيه عنه. وهذه كلُّها اتجاهات، وإن كنَّا لا نُنكر أنها طبيعية بحكم نوع الشعر العربي نفسِه ومنهجه الذي طغى عليه التقليدُ حتى بين يدَي أبي تمام وأصحابه، إلا أننا لم يزلَّ لا نَعدو الحقيقةَ التاريخية عندما نُقر لابن المعتز بفضل توجيه النقد تلك الوجهات، وإيضاح سبُله أمام النقاد.

والآن وقد اتضح أمامنا منهجُ أصحاب البديع وتأثير ذلك في نشأة النقد. هل نستطيع أن نقول: إن كتاب «البديع» لابن المعتز وكتاب «نقد الشعر» لقدامة قد خطَوَا بالنقد خطوةً إلى الأمام، أو إنهما من كتب النقد العربي؟

ذلك ما لا يمكن القول به؛ فالنقد كما عرَفْنا هو «فنُّ دراسة الأساليب»، ومن الواضح أن هذين الكتابَين لا يتناولان نقْدَ الشعر نقدًا موضوعيًّا، وإنما هما كتابان عِلميان قصَدا إلى إيضاح مبادئَ ووضعِ تقسيمات؛ فهما خِلْوٌ من النقد الذي يتناول الأبياتَ ذاتَها، فينظرُ فيها من جميع نواحيها لفظًا ومعنًى، ووزنًا وشاعريَّة، على نحوِ ما نرى الآمديَّ يفعل في مُوازَنته. وفي الحقِّ إن النقد العربي لم يُخلف غيرَ كتابَي «الموازنة» و«الوساطة»؛ ففيهما نجد النقدَ بأدقِّ مَعاني الكلمة؛ إذ يتناول الكتابُ الأول شِعرَ أبي تمام وشِعر البحتريِّ ينقدهما نقدًا دقيقًا مفصَّلًا؛ نقدًا منهجيًّا، كما يتناول الثاني المتنبِّيَ بالنظر في شعره، وتفصيلِ ما له من فضل، والردِّ على خصومه أو التماسِ الأعذار له.

ومع ذلك، فإن قولنا هذا لا يذهب بما سبق أنْ قرَّرنا لابن المعتز من فضلٍ في تحريك النقد وتوجيهه. ويكفيه أنه بكتابه هذا قد حدَّد للخصومة بين القدماء والمحدَثين أهدافَها؛ إذ وضح خصائص ذلك المذهب الجديد الذي اقتتل حوله أدباءُ القرن الرابع كلُّهم.

١  كتاب البديع، لعبد الله بن المعتز، كرتفوفسكي، سنة ١٩٣٥، ص٢–٥.
٢  البديع، ص٢٥–٣٦.
٣  نفس المصدر، ٣٦–٤٧.
٤  نفس المصدر، ٤٢–٥٣.
٥  الموازنة، ص٢٣.
٦  أخبار أبي تمام، ص٢٦.
٧  نفس المصدر، ص٧٦.
٨  نفس المصدر، ص١٤٢.
٩  الوساطة، ص٤٣.
١٠  البديع، ص٥٨.
١١  لدينا من هذه الترجمة نسخةٌ بالمكتبة الأهلية بباريس، وقد حصَلَت مكتبة جامعة القاهرة على صورةٍ فوتوغرافية منها، وإن تكن غيرَ واضحة.
١٢  ديونيزوس = إله الخمر، وأريس = إله الحرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤