الإنسانية بين الإصلاح والفوضى والثورة الاجتماعية
ولقد بدأنا هذا الكتاب وقصدنا أن نعرض فيه المناشط المنتجة، فلما دقَّت دراستنا واتسع مداها ظهر التباين بين الأغنياء الذين استولوا على المال وبين الفقراء الذين لا يملكون منه شيئًا، وعندئذٍ فقط، ظهر هذا التباين على الرغم من الخطة التي رسمناها لهذا البحث، تلك الخطة التي قررنا بها أين يقع هذا التباين من المنظر الذي نصوره، فاضطررنا تدريجًا إلى الاعتراف بأنه في خلال خمسة وعشرين قرنًا أو ما يقرب من ذلك توارت نُظُم الحكم القديمة وألوان الاستعباد والاستبداد التي كانت مسلطة فوق البشر، وأخذ يحل محلها تدريجًا سلطان القوة، وذلك لأننا استبدلنا المال بأساليب العنف السابقة، وكانت آخر خطوات هذا التحول، وهي التي وقعت في الثلاثة القرون الأخيرة، أسرع فترات التحول، حتى أصبحت أغلال المال تمتد من الأحراش إلى قمم الجبال، وأصبح الأثرياء اليوم حكامًا أقوياء يسيطرون على البشر ولا يرعون مصالحهم، ولقد بات القلم (وإلى جانبه دفتر القسائم المالية (الشيكات)) أقوى من السيف، وأصبح سِرُّ القوة في القدرة على التنبؤ بمجرى أثمان السلع؛ ويجوز ألا يكون الموسر هو الحاكم الفعلي في العالم، ولكنا لا نستطيع أن نتصور إمكان حكم بغيره، إذا استثنيت الروسيا السوفييتية. وعلى ذلك ترانا لا نتناول بالوصف دولابًا اقتصاديًّا عالميًّا وُضعت له خطة وبلغ من الكفاية حدًّا يصون معه الحياة البشرية ويوسِّع من نطاقها، بل أراني أصف أطرافًا متشابكة متفاعلة من الحياة الاقتصادية لم يُوضع لها تخطيط من قبل، ولم يدركها النظر قبل وقوعها، ولكنها مرتبط بعضها ببعض رباطًا قويًّا، وقد نمَت في القرن الماضي نموًّا سريعًا أشد السرعة، عجيبًا أشد العجب، غير أنها اليوم تسير نحو اضطرابٍ مخيف لم يسبق له مثيل قط؛ فلسنا نعالج نظامًا اقتصاديًّا كما ترى، ولكنه أزْمة حسابية في حياة الإنسان؛ أما ما كنا نرجو له أن يصبح نظامًا اقتصاديًّا عالميًّا فيتهدده الخطر في دور المال اليوم، ولا زلنا يحدونا في أعمالنا الأمل والإيمان بأن العالم لا يزال يُرجى له أن يتمخض عن نظام اقتصادي حقيقي، ولكنا لا نستطيع أن نجزم بهذا الأمل وذلك الإيمان جزم اليقين.
إن التحليل الذي أسلفناه في الفصول السابقة للدوافع الاجتماعية وللنظام الذي يسود العالم من حيث الإقراض، يتيح لنا الآن أن نصف العوامل الرئيسية في الأزمة العالمية الحاضرة في عبارة سهلة؛ فقد ازدادت قوة الإنسان وقدرته على الإنتاج زيادة جسيمة خلال المائة السنة الأخيرة، وتحطمت فواصل المكان على نحوٍ مكَّن الناس من أن يكونوا أقرب وأسرع تفاعلًا بعضهم مع بعض، ولكن لم يحدث إلى جانب هذا تعديل كافٍ في نظام النقد وفي نظام الملكية حتى ليجد الناس عند كل حَنِيَّة من حنايا الطريق عثرات من الحواجز التي تعترضهم، وهم ينوءون تحت عبء الديون التي ما تنفك تزداد قيمتها، كما يقف في وجوههم من الحوائل ما يعوقهم عن بلوغ الموارد الطبيعية بصفة عامة. إن إنتاج الثروة الحقيقية وتوزيعها على أساسٍ يمكن أن يُقال إنه أساس علمي، يعرقله تركيز الثروة المالية في أيدي طبقة قليلة متباينة من أناسٍ طُبعوا على حب التحصيل والكز، وأعني بهم الأغنياء المحدثين الذين لا يقيمون المشروعات إلا فيما يعود عليهم بالثروة، تلك الطبقة التي لم تُبْدِ حتى اليوم ما يدل على إدراكها لما عساه أن ينجم عن هذه الحالة الراهنة المضطربة القلقة من النتائج والأخطار.
لقد جازفنا في الفصل الثامن بتقسيم تقريبي لطبقات الإنسان، نعتقد أنه جليل النفع، فبيَّنا في وضوحٍ بأن الأساس الفكري الذي تقوم عليه طبقة الأغنياء وأصحاب النفوذ كما نعرفهم اليوم إن هو إلا أخلاط من أفكار وميول أنتجتها عقول ساذجة بدائية إلى حد كبير، وإذا استثنيت قليلًا من الأغنياء، وجدتهم لم يفعلوا إلا قليلًا لخلق الثروة التي بين أيديهم، فقد جمعوها جمعًا؛ وحيثما يتسع نطاق العمل أو يلتقي زعماء المال بعضهم مع بعض يبدو اللصوص والحمقى؛ ولا شك أن فكرة الأعمال الإنسانية موجودة إلى جانب فكرة التحصيل، وهي تنمو شيئًا فشيئًا، ولكن لا يغيبن عنَّا أنه إذا لم يكن للشئون البشرية غاية تقصد إليها فإن فكرة الإنشاء تزول، على الرغم من عوامل المقاومة القوية الداخلية الموروثة؛ وكل خطوة نخطوها نحو السيطرة على الحياة الاقتصادية سيطرة تقوم على وضوح الفكر وصفاء الذهن وتعني بصالح البشر عامة، فهي خطرة موجَّهة ضد هذه العوامل الدنيئة التي لا تقتصر على الأغنياء من أصحاب السلطان وحدهم، بل نراها في أنفسنا أيضًا وفي كل مَن له اتصال بالموضوع؛ وهذه الخطوات تتم عادة على نحوٍ زري غامض بطيء، مع أن الموقف الحاضر في حالة تستوجب علاجًا سريعًا لا تنجزه هذه التدبيرات الشائنة البطيئة الغامضة.
إن طبقة كبرى من الفقراء الزائدين عن الحاجة في المدنية الغربية ذات النظام الكسبي لا تفتأ اليوم تزداد زيادة سريعة، والنسبة بين هذه الطبقة وبين مجموع الناس ترتفع ارتفاعًا مطردًا يحتمل جدًّا أن يقف حائلًا منيعًا دون الوسائل العلمية التي يُراد بها تخفيف ضغط هذه الطبقة. إن ثَمَّ نزاعًا ينمو نموًّا مستمرًّا بين حاجات هذه الطبقة وحاجات الأثرياء، وحاجات هؤلاء أقل تبصرًا وابتكارًا من حاجات أولئك؛ وتميل غباوة الأغنياء أصحاب النفوذ إلى مقاومة المساعي المبذولة لتخفيف عناء المتعطلين ومعارضة صرف الإعانات وما إليها إلى الفقراء، كما تميل إلى عرقلة كل محاولة لتقصير مدة العمل في الأسبوع، ولزيادة عدد مَن يُحالون إلى المعاش، ولضروب القيود التي تُفرض لمنع استخدام الأيفاع والنساء والكهول، مع أن ذلك يجوز أن يستنفد كثيرًا من هؤلاء المتعطلين. أما غمار الشعب في الروسيا فيحدوه الأمل كما يؤكِّد معظم الباحثين، ولكن يلوح لنا أن أغبياء الأغنياء المحدثين يطمعون في تحطيم ذلك الأمل، وسيعمد هؤلاء الأغنياء الحمقى إلى روح الوطنية ينفثونها لبلوغ مأربهم، نعم سيعمدون إلى التنافس الدولي الذي يقوم على كواهل العمال وعنائهم، وسيتخذ الأغنياء من ذلك ذريعة يبررون بها صنوف القيود والحرمان التي يفرضونها على الطبقة الدنيا فرضًا يميلون إليه بالغريزة، مع أنه حمق لا حكمة فيه. إن مقاومة الأغنياء، الذين جاءتهم الثروة بالصدفة أو بالمغامرة، لإصلاح شئون التبادل وتعديلها إصلاحًا علميًّا، نقول إن هذه المقاومة للإصلاح سوف تستمر على مرأًى ومسمع من الطبقة المحرومة من عملها، وسيعمل ذلك على ازدياد العداوة الطبيعية القائمة بين مَن يملكون ومَن لا يملكون؛ فلن تنفك دور السينما، والصحف السيارة، وسائر الوسائل المتزايدة تعرض أمام أبصار مَن لا يملكون من حطام الدنيا شيئًا صورًا جلية واضحة تبيِّن لهم تفاوت الحظوظ بين الأفراد؛ هذا إلى أن العقيدة التي كانت تذهب إلى أن خضوع الفقراء لطبقة الأشراف الأثرياء والسادة مفروض بالقدر، أقول إن تلك العقيدة تنبذها العقول شيئًا فشيئًا، على الرغم من أن الفئة الخاملة من الموسرين المحدثين تبذل كل وسعها للاحتفاظ بها وبذلك يزيدون من الأسباب التي تستلزم زيادة الميل إلى الحرب بين الطبقات.
فهل يمكن أن تتمخض الثورة في النزاع القائم بين فريقي الأثرياء والفقراء، عن فئة قوية لها من الإرادة والذكاء ما تشرف به على النظام الاقتصادي الحديث المعقَّد؟ إن هذا سؤال لا بد منه حيال ما يتهددنا من تنازع الطبقات.
وليس من المعقول بغير شك أن يُنتظر من أناس حرمهم الأغنياء ذوو السلطان دقة المعرفة والتعليم، وليس لهم تجربة يعلمون بها كيف تُدار الحياة الاقتصادية أن يفهموا قوى الإنشاء في الدولة الحديثة أو أن يعطفوا عليها. إن الفقراء، والسوقة منهم على نحوٍ أخص، قد ورثوا كما ورث الأغنياء بعض آثار النفسية الزراعية الضيقة معدلة بعض الشيء، ويحتمل ألا يكون رد الفعل عندهم في جوهره رغبة في الإصلاح بقدر ما يكون مقاومة حمقاء يوجهونها نحو الأغنياء، كما يوجهونها نحو أساليب الإنتاج الحديث وآلاته، ونحو نظام المجتمع ووجهة سيره؛ فلسنا نتوقع منهم أن يراجعوا أو يصلحوا نظامًا لم يُتِح لهم قطُّ أن يفهموه؛ لأن ذلك فوق مستطاعهم ما دام تعليمهم على حالته الراهنة، ليس فيه آراء عن الإنشاء أو الإدارة للأسباب التي أسلفنا الإشارة إليها. وعلى ذلك فهم أميل إلى إظهار الرغبة في عرقلة النظام القائم وتحطيمه جملة واحدة، منهم إلى الرغبة في إصلاحه، إنهم يحيون على هامش الوجود حياة قذرة مضطربة شائنة، وتلك في رأيهم هي النظام القائم؛ ولذا تراهم يصرحون «بأن أية حالة أخرى خير من حالتهم الراهنة»، وفاتهم أن نُظُمًا أخرى كثيرة قد تكون أسوأ من النظام السائد.
فإذا نجحت الروسيا السوفييتية وازدهرت حالها، بل لو تمكَّنت من دوام وجودها واستطاعت أن تبدو في مظهرٍ من النجاح المعتدل، ستزداد هذه الرغبة في الثورة التي لا بد من وقوعها في شعوب المحيط الأطلسي، ويجوز أن تشتد المقاومة نحو أصحاب الأملاك لما يستولي على الناس من ذعر، قد يحدث هذا وقد تخف هذه المقاومة بفضل بصيرة نافذة يُؤتاها بعض الأثرياء فيرون ضرورة الإصلاح والتضحية الاقتصادية العظيمة. ولسنا ندري إلى أي حد سيرضى الأغنياء وأصحاب السلطان أن يفتحوا أعينهم ليروا حقيقة الأمر ويأخذوا بزمام الأمور، وإلى أي حد سيقنعون بالمقاومة والتعصب. نعم لا نستطيع أن نتكهن بهذا أو ذاك إلا بعد وقوعه، وعلى الأمر الواقع منهما سيتوقف كل ما قد يحدث من رقي أو انحطاط، ولا سبيل إلى الشك في أن الإصلاح سيلقى بعض المقاومة، وليس لدينا الإحصائيات التي تدلنا إلى أي حد بلغ الموسر الحديث من التهذيب، وإلى أي حد لا يزال عند الآراء البدائية؛ فأما الساذج من هؤلاء الموسرين فسيكتفي بالتعصب والمقاومة حتى يثور سفلة الناس وهم كثيرون، وما دامت هذه الفئة الساذجة موجودة بين الموسرين فلسنا نرتاب في أنها ستكون سببًا فعالًا في إثارة الفوضى والشغب في العالم بعد استثناء الروسيا، ونحسب أن ذلك سيدوم لبضع عشرات من السنين؛ فسيندفع الموسر المأفون إلى استخدام امتيازاته كلها التي يستمتع بها في المجتمع، من قضائية وإدارية وحزبية، وسيدفعه إلى ذلك حرصه على مالِه المجموع لعله يصون هذه الأكداس الوضيعة بين يديه، وسيمضي في استخدام نفوذه كله ليضغط على عوامل المقاومة، إلى أن يجيء اليوم الذي تسود فيه روح الخدمة العامة والنظام السياسي الصحيح، وعندئذٍ لا يتمكن من بلوغ مأربه؛ ولكن إن حدث هذا فلا يلبث أن يطفو على سطح المجتمع فئة من اللصوص الذين لا يختلفون عن هؤلاء الموسرين السذج في شيء، وسيلجأ أولئك اللصوص إلى وسائل العنف المرذول، وسينشدون حاكمًا قويًّا يبسط سلطانه على الناس ويتزعم الشباب وينظم صفوف المعارضين الناقمين وما أكثرهم، فضلًا عن الحمقى من الموسرين، وسيعمد أولئك الطغاة مع مَن يتبعهم من الملايين إلى تقويض النظام والقانون اللذين تكوَّنا على مر الدهور؛ وهنا سيجد العاقلون المصلحون أنفسهم بين ألسنة من نيران الغفلة والخرافة والفزع وتخاصم الطبقات، ولكنهم سيحاولون وهم في جحيم هذه العوامل أن يقيموا دعائم العالم الحديث؛ ونحن إذا أنكرنا رأي الأستاذ سودي بأن الموسرين يميلون إلى الشر بصفة عامة، فلن نستطيع أن ننكر أن كثيرًا من الأغنياء والمغامرين الأشداء يتصف بالخمول، وينجم عنه الخطر الشديد كما كانت الحال في أسرة رومانوف الزائلة.
ولن يسعنا إلا الاعتراف بأن المدنية المادية قد يُصاب سيرها بالجمود بل بالتقهقر خارج حدود الروسيا البلشفية تقهقرًا لا يقل خطرًا عما حدث بين عامي ١٩١٤م، ١٩١٨م بل يزيد؛ ولئن كانت ثقة الناس بالعدالة العامة، أعني بالقانون، تنمو فهي تنمو نموًّا بطيئًا تُدْرَك خطاه، فإذا زالت هذه الثقة انحطت الحياة الإنسانية عما هي عليه الآن، فإن لم يفرض القانون احترامه على الناس يصبح الخارجون عليه أبطالًا، والناس إذا لم يروا في القانون سبيلًا إلى السعادة جنحوا إلى تحطيمه، فإن حدث هذا جاء يومٌ تسطو فيه على الأثرياء عصابات من اللصوص تستدر عطف الناس، وساد الحكم الدكتاتوري وكثُر مَن يزعمون أنهم منوطون بتخليص الشعوب، وعندئذٍ ترى اللصوص والساسة من طبيعة واحدة، ويتعذر قيام حكومة ثابتة متزنة، وصيانة الحرية العامة في الرأي والابتكار.
ولقد قام فعلًا في مختلف أنحاء العالم دكتاتوريات قد لا تكون مشروعة، قامت بسبب العداوة بين الطبقة العليا من الأغنياء الجاهلين ذوي النفوس الوضيعة، وبين الطبقة السفلى من غمار السوقة الجاهلة الوضيعة؛ والمعهود أن الأغنياء وأصحاب السلطان من المحدثين والقدماء على السواء، هم الذين ينشدون الدكتاتورية الحربية لأنفسهم ولبلادهم، ولم يشذ في هذا إلا الروسيا التي سارت في اتجاه آخر؛ إذ استبدت بالسلطة عامة الناس (أو قد يكون ستالين اسمًا يصح أن يُطلق على هذا الكائن العجيب؛ أي على عامة الناس)، وتستند الدكتاتورية في كثير من الحالات على نظام معيَّن كالفاشست في إيطالية والاشتراكية في الروسيا، وفي حالات أخرى ترى الدكتاتورية صورة من السطو الصريح، فإن ما يتبعه ستالين من التشدد في إبعاد منافسيه وناقديه يحصر الرقابة الحزبية في الروسيا حصرًا يحولها استبدادًا فرديًّا في وقت قصير؛ وفي الصين نظام اسمه «كومنتانج» يحاول بكل فروعه وذيوله أن يكون معقول الدعائم، وأن يستند إلى أساس فكري وطني إنشائي تجاه اللصوص المغامرين وتجاه الاستثمار الأجنبي الذي لا يعرف الرحمة.
وفضلًا عن هذه المظاهر الكبرى لعدم المساواة، وما نراه من السيطرة على أمم ومناطق بأسْرها، فإن هنالك تحويرًا ظاهرًا شاملًا يجري في أرجاء العالم كله ويتناول وجهة نظر الناس إلى الإجرام، وأساس هذا التحول شك يتسع مداه (عند الجماعات التي انتُزعت منها أملاكها) في النظام القضائي القائم من حيث الروح والغاية، ولا يرجع ذلك إلى زيادة في إجحاف القانون، بل إلى نقد الرجل العادي الذي ازداد حدة وقلَّ استسلامًا. والواقع أن القانون لم ينحط، بل تقدَّم، عما كان عليه، غير أنه لم يتقدم بنفس السرعة التي سارت بها زيادة الشك والقلق؛ فترى الرأي العام لا يؤيد ما يترتب على القانون لأن عامة الناس لا تفهمه ولا تشترك فيما يطرأ عليه من ألوان التعديل؛ ومما يلاحظ أن القانون لا يقوم بدعايةٍ يثبت بها أنه سائر مع العصر الحديث، مع أن هذه الدعاية واجبة؛ نعم واجب القانون أن يستبعد أردية القضاة وشعورهم المستعارة وثيابهم المزركشة، ويخرج من أبنيته القوطية الخادعة ووقاره المصطنع، وأن يبرز أعماله في وضح النهار، واجب القانون أن يساير الأفكار الحديثة السائدة في المجتمع، وأن تكون مشكلاته التي يُعنى بحلها هي نفسها المشكلات التي تقع في الحياة السائرة. ومن العبث ألا يعلن القضاء عن شيء يمتع جمهور المعاصرين سوى الحوادث الجنائية.
إن عامة الناس تفقد شيئًا فشيئًا إيمانها القديم بأن النظام الاجتماعي كما يمثله القانون في مصلحتها، وكذلك تفقد ثقتها في قيمة المال وفي أمانة المصارف، وفي ضمان أي ضرب من ضروب الادخار والاستثمار، وقصارى القول أن الناس يتخلصون من أوهامهم فيما يتصل بالنظام الاجتماعي، تلك الأوهام التي لبثت تلعب بعقولهم طوال العصور حتى يومنا هذا؛ فما أشد وما أسرع ما يتعرض له الناس من فقد الثقة واضمحلال الحياة الشريفة المطمئنة بسبب المظاهر الحديثة لاضطراب النقد والإقراض؛ ويميل تقلب قيمة النقد بعامة الناس إلى العقيدة بأن الحكومات تستطيع الغش بل تريده، وحينئذٍ يحاول كل إنسان الغش والسلب كلما مكَّنته من ذلك شجاعته وقدرته، وبين الناس رأي يذيع، مؤداه أن استلهام المرء لضميره ضرب من الغفلة، كما شيع بينهم ضروب المخاتلة. وعلى الجملة، فإن المَثل الأعلى للأخلاق الاقتصادية قد تقوَّضت أركانه.
كان لزامًا علينا، ونحن نبسط هذه الصورة الشاملة لحياة العالم الاقتصادية والاجتماعية، التي ما تنفك توسِّع من نطاقها، أن نتناول هذه الدلائل والعلائم التي تدل على فساد المجتمع؛ ونحن نضيف إلى الصورة التي صوَّرنا فيها الأثرياء المحدثين بإنفاقهم وتبديدهم إنفاقًا وتبديدًا أقرب ما يكونان إلى الحمق والانحلال، عددًا عظيمًا من المناجم والمصانع التي تغلق أبوابها، والمزارع التي تقفر من محصولها وجموع العمال المتعطلين الذين يزدادون شيئًا فشيئًا، والذين يتسكعون في أركان الطرقات ساخطين غاضبين؛ فهؤلاء قد وثقوا بأصحاب الأملاك راجين أن يسلك هؤلاء بالحياة سبيلًا قويمة، ولكن أصحاب الأملاك قد خيَّبوا رجاءهم، أضف إلى هذا أن عصابات الإجرام يتكاثر عددها، وأن عوامل النظام تفقد ما لها وما فيها من ثقة. هذه هي العلائم الظاهرة التي تدل على تحوير عميق يجري في رءوس مئات الملايين من البشر. وبدهي أن شعور الناس بضرورة خضوعهم آخذ في النقص، وأن إيمانهم بوجوب الحياة الشريفة قد زال، كما أن شعورهم بالإخفاق الذي أصابهم بغير حق يزداد شدة، ورغبتهم في اختطاف اللذة وأسباب الهناءة قبل أن تفلت من أيديهم تشتد وتقوى؛ وقد لا تكون هذه التغيرات هي كل ما حدث أو معظمه، ولكنها هي التي تثير أشد عوامل القلق. ولقد طغت على أرجاء الأرض موجةٌ عصفت بالعقائد وأسباب اليقين والثقة التي كانت فيما مضى ركيزةً تنهض عليها الأعمال التقليدية الثابتة في نظام المجتمع، والتي كانت سببًا في دوام ذلك النظام، وواجبنا أن نوازن بين ما أصاب الأخلاق الاجتماعية من تدهور بسبب الحالة الاقتصادية والنقدية والمالية، وبينما تم من الأعمال الإنشائية العظيمة في المائة السنة الأخيرة؛ فقد تكون هذه الظواهر مخاضًا لا بد منه قبل أن يتولَّد انسجام عقلي لا نستطيع أن نتنبأ به الآن؛ فإن ملايين العقول التي نراها اليوم حائرة مضطربة جشعة مفكرة غاضبة ثائرة متهمة طامحة، وإن هذا الخضم الزاخر من ألوان الشقاء، قد تجتازه الإنسانية يومًا، وقد تمحوه موجةٌ لا نكاد اليوم ندرك كنهها فضلًا عن أن نسبر غورها؛ وها هي ذي السِّنما والصحافة والإذاعة اللاسلكية ترحِّب بكل مَن يستخدمها ممن يأنسون في أنفسهم القوة والشجاعة في استخدامها أمام هذه العوامل القوية. لقد باتت لدينا كل الوسائل من الآراء والمعارف التي تعيننا على توجيه مئات الملايين من العقول شطر الوفرة التي لم تُستثمَر بعد، وشطر استخراج ما يمكن استخراجه من ثمار الحياة الشهية الجلية التي تقع منا قاب قوسين، وفي مقدورنا أن ندفع تلك الموجة المطهرة دفعًا حتى نمحو ما يلاقيه الناس من بؤس، ولست أشك في أن العالم في فجر عصر تمتزج فيه رغبات الإنسان وحوافزه، وتتعاون، ويشذب بضعها بعضًا؛ وإن هذا ليتم في قوة عنيفة لم نعهدها قطُّ من قبل.