ما كنا نؤمن به: النصوص المقدسة

في عالمنا هذا المعروف بنقصانه، من الممكن أن تدحض نقطة ما، غير أنه من المستحيل إقامة البرهان عليها إلى الأبد في يقين تام. إن كل ما نحن بحاجة إليه كي ندحض النقطة «ص» أن نعثر على عيب يشين المنطق الذي يربطها بمسببها الأصلي «س». ولكن إذا كانت «ص» و«س» و«ع» وكل ما يحيط بها من استدلالات واستنباطات تدلنا على الفرضية «أ» موجودة داخل مجال من التماسك التام، مستقل بذاته ومكتفٍ ذاتيًّا، فإن إجراء مزيد من التقييم قد يصير أمرًا لا علاقة له بالإيمان.

أمثولة حجر المغناطيس

الفرض النظري هو افتراض نبدأ به. من ثم فهو لا يزال في حاجة إلى إثبات، برغم أنه ليس في إمكان المرء استبعاد احتمال أن تأتي سلسلة منطقية مبتكرة تتيح لنا إما تأييده أو إبطاله من خلال فرضية نظرية مختلفة (يقول لايبنتس: «ينبغي على المرء ألا يلغي أي فرضية ضرورية، وجميع الفرضيات يجب أن تكون إما بُيِّنت من قبل أو على أقل تقدير وضعت في شكل فروض جدلية، وفي هذه الحالة يكون الاستنتاج الختامي هو أيضًا افتراضيًّا»). من الجائز أن تدعم جميع البيانات التي جمعناها فرضيتنا النظرية، غير أن الرب لا يقدم أي ضمانات بأن اكتشافاتنا غدًا سوف تواصل تأييد تلك الفرضية النظرية. لقد استحقت «حدود المشاهدة» فصلها الخاص بها وقد نالته؛ إذ كان من بين الأفكار الرئيسية للثورة الكوبرنيكية تلك التوسعة المضنية لمجال الرؤية الإنسانية، ولكن أصحاب التوجه العاطفي وحدهم من يمكنهم التظاهر بأن قصتنا مكونة من بديل مباشر للخطأ يعبر عن الحقيقة. على سبيل المثال، كان نيوتن قد افترض — على نحو منطقي إذا أخذنا في الاعتبار مستوى المعرفة العلمية السائدة في عهده وجودة أدوات القياس في ذلك العصر — أن الجاذبية وغيرها من القوى تعمل على الفور وفي كل مكان، بنفس الأسلوب وفي نفس الوقت. غير أنه بعد ما يقرب من قرنين من الزمان، بيَّن ماكسويل بالتجربة أن حجر المغناطيس لا يشد الحديد نحوه في الحال؛ فهناك فاصل زمني بين تقديم المغناطيس وبين حركة الحديد نحوه، وهذا الفاصل يمكن قياسه. وهكذا تصدَّعت فرضية نيوتن. حسنًا؛ لقد حلَّت الحقيقة مكان الخطأ! ولكن كم سيطول عمر الاستنتاج الفرضي لماكسويل دون أن يدخل عليه تعديل؟ من يمكنه الجزم؟

الرب يقدر، إن كان هناك إيمان به.

الاستثناء من المراجعة

معظمنا يتعلق بأي عدد من الفرضيات التي اعتبرناها مستثناة من المراجعة والتمحيص، التي لا تعني فحسب ما يصفها مرجع حساب التفاضل والتكامل القديم الذي أملكه بأنها «عبارة رسمية يفترض صحتها دون إثبات»، لكنه يعني كذلك أنها «مبنية على أساس من افتراضات معفاة من التعريف.» وهاك بعضًا منها: «سوف أظل أحبك إلى الأبد.» «بلادي دومًا على حق.» «جميع الناس خلقوا سواسية.» «ما أُدركه بحواسي من ظواهر مادية على نفس قدر الدقة المطلوب.» «للعلم الحق في البحث دون قيود في أي شيء.» «الله موجود.» إننا نضع تلك العبارات ضمن المبادئ الثابتة. من الجائز أن أنجح في حذف أيٍّ من تلك العبارات حسب قناعتي الشخصية دون أن أمسها ولو بخدش في تقديرك أنت. فبالرغم مما جاء به داروين، لا تزال نظرية الخلق باقية؛ وبالرغم من العداء للنازية، لا يزال بعض الألمان يواصلون الاعتقاد أن بلادهم «دومًا على حق». من الجائز أن ينكروا الهولوكوست، أو ربما كانوا يبررونها بأي معتقد آخر محصن ضد المراجعة، مثل عبارة «اليهود هم سبب تعاستنا.»

ويتناول هذا الكتاب فترة في تاريخ العلم كان التفكير خلالها يخضع، «بمنطقه الخاص»، للإيمان الديني. كانت تلك فترة طويلة، لكنها لا تعدو كونها فترة وانقضت؛ إذ مع مرور الزمن، تغيَّر موقف الكنيسة من علم الكونيات والفلك؛ وفي الوقت نفسه، تباينت الآراء المكتسبة كما هو متوقع. في عام ١٢١٥ نجد مجمع لاتران الرابع يهاجم مبادئ أرسطو، وبعدها بقرن وجَّه نيكول أورم النقد للعديد من حجج أرسطو فيما يتعلق بالحركة وغيرها من الأمور. لكنه بوجه عام، بمجرد أن أرست المسيحية لنفسها موضعًا آمنًا بالدرجة التي جعلت الكتابات الوثنية لا تمثل أي تهديد لها، بدأت تعتبر كون أرسطو ملائمًا. ونما هذا الانسجام حتى أضحى شبه تام. وحتى طبيعة كوكبنا الأرضي الأشبه بنقطة، التي ذكرها كلٌّ من بطليموس وكوبرنيكوس، تجد لها مناظرًا في النصوص المقدسة؛ ومن ثم يقول أوجستين: «أنت خالق السماء والأرض؛ مخلوقَيْن من نوعَيْن: إحداهما قريب منك، والآخر قريب من العدم.»

ومع ذلك، فإن رأي الكنيسة فيما يتعلق بالمنطق العلمي الذي أعاد كون أرسطو إلى الوجود في المقام الأول ظلَّ أمرًا خارج نطاق التوقعات. يؤكد توماس كون أنه «قبل القرن العاشر ومرة أخرى بعد القرن السادس عشر» وهو تحديدًا القرن الذي ظهر فيه كوبرنيكوس، «كان نفوذ الكنيسة، في المجمل، مناهضًا للعلم.»

يقسِّم بطليموس وأرسطو العلوم إلى ثلاثة صنوف: علم لاهوتي، من خلاله يمكننا أن نأمل في فهم «السبب الأول وراء الحركة الأولى للكون»، ورياضي، يوجد «في جميع الكائنات سواء أكانت فانية أم باقية»، وفيزيائي أو مادي، يفحص «الأبيض، والساخن والحلو واللين، وكل تلك الأشياء». العلم اللاهوتي «ليس خاضعًا بحال للظواهر ولا خاضعًا للمنطق العقلي في الفهم» (بمعنى أنه «مستثنًى من المراجعة»)، والعلم المادي، بصرف النظر عن أفكارنا المعاصرة عنه التي تستبعد مركزية الأرض، «غير مستقر وغامض، حتى إن الفلاسفة لم يكن لديهم أمل على الإطلاق في التوصل لاتفاق»، وهو ما يجعل من علم الرياضيات الوحيد القادر على «منح ممارسيه معرفة أكيدة وجديرة بالوثوق مع الإيضاحات.»

وفوق هذا الثالوث، تفرض الكنيسة نفسها؛ فقبل ظهور كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» ببضع سنوات، يشرح نيقولا أوف كيوزا في حوار كان عنوانه «الرب المختفي»، ويشرح نيقولا أوف كيوزا ذلك التعبير شرحًا مسيحيًّا لأحد الوثنيين قائلًا:

إننا نعبد الحق ذاته، المطلق الذي لا يعتريه زيف، الأبدي الذي لا يحيط به وصف، لكن أنت، الخطَّاء فيما تفعله، لا تعبد الحق المطلق في حد ذاته، لكنك تعبده كما يتجلى في أعماله؛ أنت لا تعبد الوحدة المطلقة وإنما وحدة العدد والتعدد.

وهو ما لا يختلف كثيرًا على ما يبدو عن الساخن والحلو واللين ومثل تلك الأمور غير الثابتة والمبهمة.

لم يقتصر الأمر على أن يصبح الخروج على عبارة «الرب موجود» أمرًا لا يمكن النطق به (وخطير)، وإنما لم يكن هناك وقتئذ (مثلما هي الحال الآن) أي مبرر علمي لعدم الإيمان به.

لقد قلت: «وقتئذٍ مثلما هي الحال الآن.» تقول لنا «موسوعة القرن العشرين للكاثوليكية» إنه «مهما تطور علم الكونيات في المستقبل، فإن إيمان المرء بحقيقة أو خطأ حديث سفر التكوين عن وجود خلق من عدم، بناءً على الفهم الصحيح، لن يتأثر.» والموسوعة على صواب.

لكن وقتها لم تكن الحال تمامًا مثلما هي الآن؛ إذ إن الموسوعة تستشعر أنها مرغمة على إضافة عبارة «بناءً على الفهم الصحيح».

وقتئذٍ مثلما هي الحال الآن، «الرب موجود» كانت واحدة من تلك الافتراضات التي صارت مستثناة من المراجعة، ولكن لم تكن هناك عبارة «بناءً على الفهم الصحيح». «لقد صارت النصوص المقدسة صادقة حرفيًّا.»

حالة الشمس عندما دخل لوط إلى صوغر

من الممكن حتى لأكثر قراءات النص المقدس التزامًا بحرفيته أن تتوافق مع الاكتشافات العلمية مثلما يفهمها معظمنا الآن. على ما يبدو هناك ثلاثة أنماط من الآيات الفلكية (أو الكونية) في الكتاب المقدس؛ أولاها هي أكثرها شيوعًا. إنها وصف واقعي للظواهر السماوية أو علم الكونيات، مذكور بلغة ذلك الزمان قبل ظهور العلوم: «أشرقت الشمس على الأرض عندما دخل لوط إلى صوغر.» لسنا بحاجة لتفسير النص بأنه يعني أن الشمس تدور حول الأرض؛ فأي فلكي يمكنه الإشارة إلى شروق الشمس دون أن يُنعت بالحمق؛ كلمة شروق الشمس مثلها مثل أي فكرة أخرى تقال اختصارًا لتقريب المعنى. ومثلما علَّق كوبرنيكوس نفسه على تلك النقطة بالذات بالقول: «إننا نتكلم بالطريقة المعتادة للحديث التي نفهمها جميعًا.» وكتاب «عن دورات الأجرام السماوية» نفسه مليء بمثل تلك التعبيرات العملية مثل: «في حالة الأفق … أجزاء من العالم» بمعنى الكون، «تحدث بها حالات شروق وغروب فوقه.» العلم بديهيًّا لا يهتم بإنكار أن لوطًا أوى إلى صوغر بعد شروق الشمس.

وفي الموضع الثاني، يصادف المرء الخيال المحض؛ ففي «سِفر الرؤيا»، مسألة النجوم السبعة التي في اليد اليمنى للمسيح أمر خارج نطاق العلم والتاريخ وأي شيء آخر علمناه منذ الأزل. والمسيحي سواء أكان ملتزمًا بحرفية النص أم لا، يظل لديه حرية منطقية في الإيمان بأن قوانين الفلك والفيزياء التي ظل في الإمكان الوثوق بها حتى يومنا هذا، سوف تصل إلى نهاية، «في» نهاية المطاف. فليس في استطاعة العلم إثبات أنها لن تصل إليها. كل ما يستطيع العلم أن «يتكهن» به — بناءً على ملاحظة مسبقة، وهو ما تعتبره النصوص الدينية أمرًا غير ذي صلة — أنه لن يصل إلى نهاية. هذا هو ما تريد «الموسوعة الكاثوليكية» الوصول إليه عندما ترى أن «المرء ليس في مقدوره أن يقول أي شيء عن بدء الخلق من المنظور اللاهوتي بالرجوع إلى التليسكوب، ولا بإمكان المرء الاستعانة بالفلك لتقديم نسخة منقحة من سفر التكوين …» ماذا لو أن الأرض والشمس تبادلتا الأدوار يومًا ما عندما دخل لوط إلى صوغر؟

وأخيرًا، هناك لحظات يصبح الكتاب المقدس فيها مجازيًّا، مثلما حدث عندما رأى يوسف في المنام الشمس والقمر والأحد عشر نجمًا ساجدين له، وهو ما لامه عليه والده بقوله: «وهل سنسجد لك أنا وأمك وإخوتك؟» كيف يمكن لنا أن نستبعد من اعتبارنا إمكانية أن يكون شروق الشمس عندما دخل لوط إلى صوغر مجرد رواية مجازية مثل تلك؟

للأسف، بالرغم مما يبدو لي من أن تلك الفئات الثلاث تمثل حلًّا عمليًّا، فإن استدلالاتي الشخصية حول الموضع الملائم لكلٍّ من تلك الفقرات في الفئة المناسبة لها ربما تكون مختلفة عن استدلالات قارئ آخر؛ فعندما يخبرنا سِفر أيوب أن الرب بدأ في خلق الأرض ووضع حجر أساسها عندما «ترنَّمت كواكب الصبح معًا»، فإنني أميل لاعتبار هذا جزءًا من السؤال الممتد للرب الذي وجَّهه لأيوب: «أين كنت أنت عندما حدث كل هذا؟ كيف تجرؤ على الظن بأنك تعلم شيئًا؟» وعلى أي حال، لماذا وجب عليَّ أن أظن أنني أعلم أي شيء عن خلق الأرض؟ من المؤكد أن الرب كان يستعمل المجاز هنا — وهو مجاز جميل — حتى يمكننا أن نبدأ في فهم ضآلة ما «نستطيع» فهمه (وإلى أي مدًى هو ضئيل). هذا هو الأسلوب الذي أتبعه عندما أحاول شرح أمر ما عمليًّا كان أو ميكانيكيًّا أو علميًّا لطفل صغير: إن السيارة تحتاج إلى بنزين؛ لأنها عطشى الآن، والبنزين هو الشيء الوحيد الذي يمكنها شربه، وإذا لم تحصل على البنزين، فسرعان ما ستصاب بالتعب ولن تكون قادرة على أن تقلَّنا إلى البيت. كيف لا يمكن لمثل تلك التفسيرات أن تسهم في مبدأ الاختيارية الأرسطية؟ السيارة عطشى ونجوم الصباح شَدَتْ معًا. لكن هذا ليس سوى تفسيري المنفرد، ومن ثم المتواضع؛ قد يستنتج شخص آخر أن النجوم قد شدت بالفعل.

«أشرقت الشمس على الأرض عندما دخل لوط إلى صوغر.» بالنسبة لي هذا حديث مجازي، أما في رأي مارتن لوثر، فهذه حقيقة حدثت حرفيًّا.

النص العلمي يؤكد على حقيقته الحرفية الخاصة به. عندما يكتب كوبرنيكوس أن الأرض تدور حول نقطة ما في الفضاء قريبة للغاية من الشمس، فإنه يطلب منا أن نتقبل هذا الأمر تحديدًا لا أكثر، ولا أقل. وتعليقًا على مقدمة أوزياندر يوجز أحد الفلكيين ما كتبه كوبرنيكوس قائلًا: «عند قراءة كلماته في كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» طيلة صفحاته، لا يخالج المرء أي شك في أنه آمَنَ بإمكانية، بل وحتى باحتمالية، كون منظومته واقعًا ماديًّا.» واقعًا بالمعنى الحرفي للكلمة أنكره أوزياندر زورًا.

النتائج الاستقرائية لتلك الاعتبارات على النحو التالي:
  • فرض نظري: «من الجائز أن تكون الحقيقة الواردة بالنصوص المقدسة حرفية أو مجازية.»
  • فرض نظري: «ليس من الممكن للحقيقة العلمية إلا أن تكون حرفية وحسب.»
  • نتيجة منطقية: «من ثم، عندما يكون المنطق العلمي مبنيًّا على دليل مذكور في النصوص المقدسة، فإنه لا بد أن يصر، سواء أكان الإصرار صوابًا أو خطأً، على الحقيقة الحرفية لذلك الدليل.»

النتيجة المنطقية الأخيرة مسئولة عن جزء كبير من المأساة التي حلت بالمبادئ الكوبرنيكية.

«لقد أعانته البصيرة الروحية»

لمَّا كانت الكنيسة هي التي لعبت دور الشر في قصة كوبرنيكوس، فقد وجب علينا توخِّي الحذر حتى نتحاشى افتراض أن علم الفلك الوارد بالنص المقدس لعب بالمثل دورًا أحمق وخيم العواقب.

كان من بين معاصري كوبرنيكوس باحثٌ من ميلانو كتب رسائل بحثية عن كل شيء، من السموم إلى بطليموس، ومن الأثير إلى نيرون، ومن الأحلام إلى السلوكيات الأخلاقية، ومن العذراء إلى البول. يقدم هذا الباحث تعريفًا «لجانب من جوانب المعرفة يسمى «البرهان»؛ لأنه مشتق من النتيجة المبنية على سبب ما.» من الممكن أن نتفق أنا وأنت بطريقتنا الخاصة على عدم مركزية الأرض. ويُكمل الباحث حديثه قائلًا: «بيد أنه، في مجال الفهم هذا، كنت أتوصل لفهم من خلال المعالجة البارعة أكثر من معاونة البصيرة الروحية لي في كثير من الأحيان.»

ما هي الحقيقة البديهية إذن، إن لم تكن نمطًا عقليًّا جميلًا؟ ربما يمكن الاستدلال على التأثير الإيجابي للأمور الفلكية المتعلقة بالكتاب المقدس بالحقيقة القائلة إن كبلر — بالرغم من أنه اعتنق نظرية كوبرنيكوس التي صارت وقتها معادية للرأي الديني والمنادية بأن الأرض تدور حول الشمس — دعا للإلهام الآتي في التفكر في الأوضاع النسبية للشمس والنجوم والفضاء الواقع بينها: الأب والابن والروح القدس. «سوف أتتبع هذا التشبيه خلال ما سيلي من بحثي الكوني.»

أما بالنسبة لكوبرنيكوس نفسه، فإنه يبرر جسارته في المناداة بمركزية الشمس على أساس لا يتلاءم مطلقًا مع كوننا عديم الإله؛ وهو أساس «المواءمة»: «في مركز كل شيء تستقر الشمس؛ إذ مَن ذا الذي يرغب في وضع ذلك المصباح المنير لمعبد شديد البهاء في موضع آخر أو أفضل من ذلك الموضع الذي منه يمكنه إضاءة كل ما حوله في آن واحد؟» ثم يمضي في حديثه معلنًا في حماس: «كم هو بديع صنع الرب أعظم وأروع فنان!» لِمَ لا نعتبر كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» في حد ذاته عملًا من الأعمال الفلكية المتعلقة بالكتاب المقدس؟

أربعة وعشرون قرنًا منذ بدْء الخلق

ومع ذلك، أكرِّر أنه «عندما يكون التبرير المنطقي العلمي مبنيًّا على دليل مذكور في النصوص المقدسة، فلا بد أن يصر، سواء أكان الإصرار صوابًا أم خطئًا، على الحقيقة الحرفية لذلك الدليل.» لهذا السبب كان من الشائع جدًّا خلال عصر كوبرنيكوس أن يكتب أحد العلماء شيئًا أشبه بتلك المقولة: «لقد أوجزت مجمل تاريخ ٢٤٥٤ عامًا منذ بدء العالم» حتى الآن (حوالي عام ١٥٧٠) «على نحو أكثر إيجازًا مما تستحق ضخامة المادة.» أغلب الباحثين في عصري هذا يقدرون تاريخ الأرض في حدود ٤٫٥ مليار عام، بناءً على ملاحظة ونظريات علمية لم تُتح لكامنيتس ذلك المارتني اللوثري التَّقي الذي اقتبستُ عبارته لتوِّي. ولكن لو أننا تمكَّنا من تعريف كامنيتس بالسجل الحفري وباقي السجلات الأخرى، هل كان سيتفاعل على نحو مختلف عن العلماء الأفذاذ الذين رفضوا النظر من خلال عدسة تليسكوب جاليليو؟ وكما يحذرنا، «منطقنا يسمو بنفسه استنادًا إلى معرفة الرب.»

في الوقت نفسه، فإن حرفية النص المقدس، المشتقة (حسبما يأمل المرء) فحسب من أقصى تبجيل للرب وأرفع درجة من تواضع المنطق المنطوي على حب، تصنع تأويلاتها الخاطئة الخاصة بها، وبالمثل تسمو بنفسها، استنادًا إلى معرفة الرب. «أشرقت الشمس على الأرض عندما دخل لوط إلى صوغر.» مَن نحن حتى نصرَّ على أن هذه المقولة تعني أن الشمس تدور حول الأرض؟ مَن نحن لكي نكون على يقين من أننا نفهم كلمات الرب؟١

بديهيات علم فلك الكتب المقدسة

لقد قيل إن بقاء الأرسطية الصارمة على قيد الحياة لما يقرب من ألفَي عام لم يكن نتيجة «الأمور المتعلقة بالمبدأ الفلكي في حد ذاته، وإنما الاستيعاب الدائم لهذه العقيدة داخل الآراء الدينية الراهنة.» في حقيقة الأمر، عزَّزت كلٌّ من النصوص المقدسة والأرسطية موقف بعضها بعضًا على نحو مبهر.

عندما خلق الرب الأرض، منحنا السيادة الصريحة عليها، وأمرنا أن «نكون منتجين وأن نتكاثر؛ لنملأ الأرض ونخضعها لنا.» وهو بالتأكيد لم يمنحنا السيادة على السماء، بل على النقيض تمامًا. ومع ذلك، وُضِعت الأجرام السماوية هناك لمنفعتنا وتوجيهنا؛ إذ إن الرب خلقها في الوجود بأن أمرها: «لتكن أنوارٌ في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل، وتكون لآيات وأوقات» — مثال ذلك، لا تَبِع الحبوب أثناء فترة ظهور هلال شهر جديد — «وأيام وسنين. وتكونَ أنوارًا في جلد السماء لتنير على الأرض.» ويبدو أننا لا نقترب منها (انظر لما وقع لبناة برج بابل)، ولا حتى نعبدها بأي حال؛ إنها ببساطة خدام الرب: «أنت صنعت القمر لتحديد مواقيت الشهور، والشمس تعرف موعد مغربها.» ومثل تلك التأكيدات تعزِّز:
القاعدة البديهية ١: «أننا نسكن أرضًا مركزية بالنسبة للكون لا تتحرك ومن حولها تدور الأجرام السماوية الملحقة عليها في مواضعها المحددة سلفًا.»

في سِفر أيوب، تُذكَر بعضٌ من صفات الرب: فهو الواحد «المزعزع الأرض من مقرِّها فتتزلزل أعمدتها. الآمر الشمس فلا تشرق ويختم على النجوم.» أنا أفهمها على أن الشمس تشرق ما لم يأمرها الرب بخلاف ذلك — وهي إشارة أخرى دالة على أنها خاضعة له — وأن الأرض لها موضع يمكن أن تتزعزع من عليه. وبالمثل، عندما يحذِّر المسيح حوارييه من اليوم الآخر — «سوف تظلم الشمس، ولن يشعَّ القمر سناه، ولسوف تتساقط النجوم من السماء» — تبدو السماء التي ستتساقط النجوم منها تبدو وكأنها موضع آخر من المواضع التي تأتمر بأمر الرب. مثل تلك الآيات تُلمِّح إلى وصف كوني ربما كان محددًا مثله مثل وصف جغرافية الأرض، ولكن من الواضح أنه ليس لنا حق معرفته.

(من الواضح أن الكنيسة تعرف حق المعرفة؛ إذ إن الأب تولوساني، الذي اقتبسنا له مقولة تهاجم كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» لخرقه قواعد أرسطو للحركة، يخبرنا بأن «كوبرنيكوس كان سيتكلم بالصدق، لو أنه وافق علماء اللاهوت على أنه يوجد فوق المتحرك الأول» الذي يدور فوق كرة النجوم الثابتة مباشرةً «أعلى فلك وهو ثابت، ذلك الفلك الذي يسميه علماء اللاهوت جنة الخلد».)

النتيجة البديهية ١: «واحد من تلك الأجرام الدوارة هو الشمس.»

من بين «البراهين» الواردة في النصوص المقدسة على ذلك الأمر، تبرز الآية الجميلة الواردة في سفر الجامعة: «الشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق.» مرة أخرى، يبشِّر سِفر أشعيا أن الرب ببعثه لعلامة، سوف يؤخر الظل على قرص الشمس بمقدار عشر درجات. «وهكذا تراجعت الشمس على القرص بمقدار الخطوات العشر التي تأخرتها.» ويبلغنا النص المقدس من جديد أن الرب «يجعل شمسه تشرق على الأشرار وعلى الخيِّرين، ويرسل المطر إلى من يقيمون العدل ومن لا يقيمونه.» المطر حرفيًّا يسقط بالفعل، والجمع بين سقوط المطر والشمس المشرقة يجعل ذلك التعبير الأخير أكثر حَرفية أيضًا.

وأخيرًا، إليك الفقرة الشهيرة في سفر يوشع التي وبَّخ بها مارتن لوثر كوبرنيكوس داعيًا عليه بأن ينزل به الرب اللعنات:

حينئذٍ كلَّم يوشع الرب، وقال أمام عيون إسرائيل: «يا شمس دومي على جبعون، ويا قمر على وادي أيلون.» فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه. فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل.

النتيجة البديهية ٢: «المواضع المحددة سلفًا للأجرام السماوية عبارة عن أفلاك كروية أو أصداف.»

بعد نحو مائتي عام من مولد المسيح، يكتب راهب إيريني قائلًا في معرض «إثبات التعاليم الرسولية»: إن «الأرض محاطة بالسماوات السبع، التي تسكن فيها القوى ورؤساء الملائكة»: الحكمة، والفهم، والإرشاد، وهلم جرًّا، نزولًا إلى «هذه السماء الدنيا التي تعلونا، تمتلئ خوفًا من هذه الروح، التي تنير السماوات.» وقبل عام ٥٠٠ ميلاديًّا بوقت قصير، يفترض القديس ديونيسيوس الأريوباغي الزائف وجود تسع مراتب «للهرم السماوي». أيُّ امرئ سمع من قبل عن أفلاك بطليموس الثمانية قد يجد هذا المخطط مألوفًا على نحو مريح. وغنيٌّ عن القول أنه في المراتب العليا، أو في المراتب السماوية حسبما يجب عليَّ القول، يجد المرء «السمو فوق كل نقيصة أرضية»؛ إذ إنها شديدة القرب من الرب؛ كيف يمكن لأي نفس تقيَّة أن تؤمن بأن الكمال يتناقص كلما اقتربنا من الرب؟ ولما كنا نحن بعيدين كل البعد عن الكمال، إذن فمن المؤكد أن الأجرام السماوية لا بد أن تكون أكثر كمالًا وإتقانًا ومثالية منا. إن بطليموس وأرسطو يؤكدان على هذا بالضبط.

القاعدة البديهية ٢: «الأجرام السماوية تدور بإرادتها.»

لم تُذكر مطلقًا في الكتاب المقدس القوى المحركة وحالة الوعي لدى الأجرام السماوية، غير أننا نعلم بالفعل من سِفر أيوب أن النجوم تترنَّم، سواء أكان يقصد بذلك المعنى الحرفي للكلمة أم لا، وهو ما يؤيد المبدأ الأرسطي المنادي بالحركة الإرادية للأجسام الطبيعية. فضلًا عن ذلك، لو أن النجوم افتقرت إلى الإرادة فلربما كنا أُرغمنا على هجر علم التنجيم — وفي تلك الحالة كيف كان سيتأتى للمستشارين الملكيين تحديد أفضل لحظة لشن الحروب وما على شاكلتها من الأمور المتعلقة بإدارة شئون الدول؟

يعبِّر بطليموس من جانبه عن وجهة نظر ذات صلة جوهرية بالأمور الفلكية الواردة في النصوص المقدسة:

تلك النظرية الرياضية الخاصة من شأنها أن تمهد السبيل في يسر لعلم اللاهوت؛ إذ إنها وحدها من الممكن أن تستهدف ذلك العمل الثابت والمستقل، والأمر المقرب للغاية من ذلك العمل هو السمات المتعلقة بالترجمات وترتيبات الحركات، المنتسبة لتلك الكائنات السماوية العاقلة التي تتحرك وتُحرَّك معًا، لكنها خالدة ومذهلة.

يستخدم القديس أوجستين حقيقة معروفة؛ وهي أن الزيت يطفو دائمًا على سطح الماء كمثال على القاعدة الأرسطية القائلة إن «الجسم يسعى بوزنه للوصول إلى موضعه الخاص به»، وهو ما يماثل بدوره المبدأ الوارد بالنصوص المقدسة: «الراحة موضعنا. وحبنا يرفعنا إلى هناك، والروح الطيبة تسمو بوضاعتنا من بوابات الموت.»

القاعدة البديهية ٣: «الأجرام السماوية أكثر اكتمالًا من الأرض؛ إذ إنها أبدية وقريبة من الرب.»

مثلما يقول الكورنثيون لنا: «ليست كل الأجسام سواءً … فهناك أجسام سماوية وهناك أجسام أرضية؛ لكن المجد الذي يناله السماوي غير ذلك الذي يناله الأرضي.» (بغض النظر عن أن الكورنثيين مضوا قدمًا بعد ذلك فميَّزوا الشمس عن القمر، وفرَّقوا بين النجوم.)

هذا يساعدنا في «إثبات» الفكرة الأرسطية من أن التغير والفساد أمور أرضية، وأن النجوم والكواكب والقمر تتشكل من عنصر ما خامس يتسم بالخلود، ربما هو الأثير.

نتيجة بديهية (قاعدة الكمال): «مسارات الأجرام السماوية تتبع مسارات هندسية تامة الإتقان؛ إذ إنها خالدة وقريبة من الرب؛ ومن ثم فإن الأفلاك دائرية.»

لقد اتخذ بطليموس موقفًا ملائكيًّا بالفعل في هذا الصدد، حيث يبلغنا أننا «نؤمن بأن الهدف الذي يجب أن يتبناه عالم الرياضيات هو أن يبين للناس أن جميع الظواهر السماوية هي نواتج لحركات منتظمة ودائرية.» ويعزز منطقه هذا ويبرهن عليه حكمة سليمان (١١–٢١): «لكنك رتبت كل شيء بمقدار وعدد ووزن.»

القاعدة البديهية ٥: «الرب موجود فعلًا.»

إن كان كذلك، فأين هو؟

يقال في المسيحية إن الرب خلق كل الأشياء، في حين أنه في الوثنية ثمة أرباب متعددون نشئُوا من الماء أو من الأرض ذاتها؛ ومن ثم، فهو أعظم من الكل، وفوق الكل، وهو الأول والآخر. ولو كان موجودًا في مكان ما، فالأحرى بنا أن نبحث عنه في السماوات. من الممكن أن يكون عرشه في جنة الخلد وراء أعلى فلك في الكون، وهو مبرِّر آخر كي لا نُعارض فكرة كرة النجوم الثابتة.

يصف أحد المؤرخين كون ما قبل المسيحية بأنه «جمهورية شاسعة الأرجاء من الأرباب والبشر والحيوانات والنباتات والأشياء، يدرك كلٌّ منها طبيعته ويخلد للراحة في مكان معين له؛ إذ إن الأشكال الأبدية تجسد نفسها إلى الأبد في صورة مادة جديدة وفق نبض إيقاع الحياة والموت.» بصرف النظر عن الاستعاضة القسرية بالإله الواحد عن الآلهة، فإن الكون الأول الذي ورد في النصوص المقدسة كان له شخصية حيوية بالمثل. فما الذي يمكن أن يكون أقرب للأرسطية من هذا؟

الغموض

«النصوص المقدسة صادقة حرفيًّا.» كلٌّ من الكاثوليك والبروتستانتيين متفقون على ذلك، لكن البروتستانتيين يمضون لما هو أبعد من ذلك، في حين أن الكاثوليك يصرون على أن النص المقدس لا يعتريه النقصان فحسب، وإنما أيضًا (كما يفسر أحد اللوثريين الذي يختلف في الرأي) «في تلك الأمور التي يحويها، يكون المعنى مبهمًا وغامضًا …»

بعبارة أخرى، النصوص المقدسة ليست هي فقط المستثناة من المراجعة والتمحيص، بل وتُستثنى كذلك تأويلاتها المبنية على مرجعية ذاتية للسلطة الدينية المعاصرة.

«الحق أننا نعلن ونشهد ونقول إنه من الضروري تمامًا لكل آدمي، كي يحظى بالخلاص، أن يخضع للأسقف الروماني.» أُطلقت تلك الكلمات عام ١٣٠٢، قبل لوثر بزمن طويل، على لسان البابا بونيفاس الثامن. في زمن كوبرنيكوس، عندما أصابت دعوى الإصلاح التي كان لوثر رأس حربتها وحدة الإمبراطورية المسيحية التي يقودها الرومان بجرح غائر بنفس القدر الذي أصاب به كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» الكون الوارد في النصوص المقدسة، كان لا بد كرد فعلٍ أن يزداد إنكار الاتهامات بالغموض الموجهة إلى النص المقدس.

يقال أول من أُنزلت به عقوبة الإعدام جزاء الهرطقة كان المفكر الغنوصي بريسيلان. فكم عدد أولئك الآخرين الذين تعرضوا للهلاك منذ ذلك الحين جزاء محاولتهم كشف النقاب عن هذا الغموض بطريقتهم الخاصة؟

قبل مولد كوبرنيكوس بنصف قرن، يواجه أحد أتباع المفكر الديني يان هوس، ويُدعى جيروم من مدينة براغ، مستنطقيه وهو مكبل بالأغلال، وينطق بقوة بما يعد في أيامنا هذه من أهم أصول العقيدة العلمية: «أثبتوا لي أن ما قلتُه أمامكم خطأً، وأنا أتعهد إليكم بكل تذلل وخشوع أن أرتد عنه.»

وكان الجواب: «ألقوا به في النار! إلى النار!»

وذهب بالفعل إلى ألسنة النيران، بعد عام من السجن في غياهب الزنازين في ظروف قاسية من التعذيب. وعشية إعدامه، تجاسر على معارضة كاردينال فلورنسا قائلًا له إن الكتاب المقدس ذاته هادٍ أفضل من تأويلات الباباوات. رفض الكاردينال ما قاله في غضب. ثم حرقوا جيروم حيًّا.

لم يكن جيروم، بالمناسبة، عالمًا، ناهيك عن عدم كونه عالم فلك. كان خطابه أكثر علانية من خطاب كوبرنيكوس؛ ومن ثم أكثر تهديدًا. ولو أنه أذعن لتأويلات الباباوات حتى وإن كان يكتب دونما اهتمام في الوقت نفسه هراءه عن مركزية الشمس، فلربما كانوا تركوه حيًّا.

بعد عامين من نشر كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» لكوبرنيكوس، عقد مجمع ترنت اجتماعًا.

وفي عام ١٨٩٤ يخبرنا أسقف روتنبورج قائلًا: «لا شك في أن أصل المجامع اشتُق من «المجمع الرسولي» الذي عُقِد في أورشليم نحو عام ٥٢؛ ولكن علماء اللاهوت غير متفقين على ما إذا كان الأمر بتشكيلها إلهيًّا أم بأمر من سلطة بشرية.»

هناك ثمانية أنواع من المجامع؛ أعلاها العالمي أو المجمع المسكوني. ويأتي الأساقفة وأصحاب المقام الرفيع التابعين لهم من جميع أنحاء العالم لحضورها، بناءً على استدعاء البابا أو ممثله الرسمي لهم. وكما يمكن أن نتخيل، لا بد أن تكون هناك أزمة تستدعي الدعوة لانعقاد مجمع مسكوني، كهرطقة خطيرة أو صدام بين اثنين من الباباوات المتشاحنين أو النظر في شيء من الإصلاح الجذري. وأيًّا كانت القرارات التي تتوصل إليها المجامع المسكونية فإنه تصير لها قوة القانون الساري على جميع الكاثوليك، وتعد معصومة من الخطأ. عُقد المجمع المسكوني الأول في نيقية عام ٣٢٥ بعد الميلاد؛ وكان مجمع ترنت المنعقد وقتها إما السادس عشر، لو أننا نعد فقط المجامع المؤكد انعقادها، وإما التاسع عشر.

وجاءت الدورة الرابعة لانعقاد المجمع في الثامن من فبراير ١٥٤٦، التي تناولت سؤالًا لا يبعد كثيرًا عن الفلك الوارد في النص المقدس: «هل من الواجب إعادة التأكيد على الطبيعة القانونية الكنسية لجميع أسفار الكتاب المقدس سواء بمراجعة أو بدونها؟» وتبين أن هناك انقسامًا في النقاش؛ غير أنه، وكما هو متوقع، كانت الغلبة في النهاية لإعادة التأكيد، دون مبالغة في عملية المراجعة …

لم تعد هناك نسخة معتمدة سوى ترجمة القديس جيروم، أو الترجمة اللاتينية للكتاب المقدس، خاصة وأنه يوجد كمٌّ هائل من الطبعات الأخرى.

يقترح كاردينال مدينة خاين الإسبانية ألا يُسمح إلا للدكاترة ورجال الدين بالتعليق على النصوص المقدسة، غير أن اقتراحه رُفض بشدة؛ فالنصوص المقدسة للجميع. وأشعر بالسعادة لذلك.

والآن، ماذا عن التقاليد؟ يقترح أسقف كيودجا اعتبار تعاليم الكنيسة مجرد قوانين، وليست وحيًا، غير أن هذا الاقتراح يثير غضبًا عارمًا. يوجز نص تاريخي قديم هذا الأمر بقوله: «نظرًا لأن الترخيص بالتأويل صار أعظم الشرور اليوم … فقد أُوصي بحظر تأويل النص المقدس على خلاف ما ترضى عنه الكنيسة والإجماع من الباباوات بالموافقة والرضا …»

وإلا — حسبما قرر المجمع بأسلوب أكثر كياسة — فإن المجمع الكنسي «يبدي احترامه بمشاعر متكافئة من التقوى أو التبجيل، لجميع الكتب؛ سواء من العهد القديم أو العهد الجديد … وكذلك للتعاليم المذكورة، إضافة إلى تلك المتعلقة بالإيمان والأخلاقيات، حسبما أملاها المسيح، أو الروح القدس، وحُفظت في الكنيسة الكاثوليكية عن طريق الأجيال المتعاقبة.»

وفي ترقُّب لظهور جيروم آخر، فُرِضت العقوبات القانونية القياسية جزاءً للعصيان.

قطعت الشمس بالفعل ما يفوق السبعة آلاف ميل بكثير

من وجهة نظري الشخصية، تبدو تلك الإجراءات غير منصفة إلى حد بشع. إنني أومن بحرية الفكر والتعبير عن الذات، أما أصحاب المقام الرفيع الذين حضروا مجمع ترنت فلم يكونوا يؤمنون بذلك. لكن تذكَّر أن هذا كان في مصلحتهم. لقد كانوا أوفياء لافتراضاتهم النظرية، لا بدافعٍ من الولاء وحسب، ولكن أيضًا لكون هذه الافتراضات بالنسبة لهم بمنزلة علمهم؛ فقد كانت صحيحة من الناحية المنطقية. إننا إذا قلَّلنا من شأن قدرة أولئك الرجال على التعامل مع الكم والكيف بنفس العقلانية التي نتعامل نحن بها معهما، فإننا سوف نحذف بذلك جزءًا جوهريًّا من القصة.

في توقيت ما يقترب من عام ٧٢٥ ميلاديًّا، في صومعة رطبة بنورثمبرلاند، يذكر القديس بيد المبجل الرأيَ الإيماني المقبول؛ وهو أنه لما كان الرب في سِفر التكوين يقسِّم اليوم إلى جزأين متساويين هما الليل والنهار، «فقد وجب علينا أن نؤمن بأن بداية العالم حدثت تحديدًا في وقت الاعتدال عندما يتساوى الليل والنهار.» ويختلف بيد في الرأي؛ إذ إنه يشير إلى أن الضوء خُلِق قبل خلق الأجرام السماوية بثلاثة أيام، التي لولاها ما كان هناك ما يسمى بالاعتدالين. دعونا نُسَمِّ بيد عالمًا. إنه يأخذ مشاهداته (يدرس النص المقدس)، ويؤوِّل ما يلاحظه، ثم يستنبط استنتاجاته بناءً على ذلك.

بعدها بتسعة قرون، يُظهر الكاردينال روبرتو بيلارمينو قدرته هو أيضًا على الحساب والاستنباط:

أنا نفسي تملَّكتني ذات يوم الرغبة في معرفة الفترة الزمنية التي تستغرقها الشمس أثناء غروبها وراء البحر، في بداية الغروب بدأت أتلو مزمور «ارحمني يا الله»، وبالكاد قرأته مرتين قبل أن تنتهي الشمس من الغروب تمامًا. إذن الأمر يستوجب من الشمس أن تجري بسرعة تزيد كثيرًا على ٧٠٠٠ ميل في الفضاء خلال تلك الفترة القصيرة. من ذا الذي يصدق هذا ما لم يكن هناك منطق ما ليبيِّنه؟

آه، منطق ما! كم كان منطق بيلارمينو قويًّا! إنه يتوصَّل إلى استنتاجاته عن طريق المنطق. ها هو يهدِّد فوسكاريني، رسول جاليليو، بعد نحو اثنين وسبعين عامًا من وفاة كوبرنيكوس قائلًا: «كما تعلم، فإن مجمع ترنت يحظر تفسير النصوص المقدسة على أي نهج يخالف الرأي العام للباباوات المقدسين …» ومن عساهم يكونون هؤلاء؟ سوف يخبرنا الكاردينال عن هذا الأمر حالًا بقوله: «الجميع متفقون على تفسير «النصوص المقدسة» حرفيًّا باعتبارها تعلِّمنا أن الشمس في السماء وأنها تدور حول الأرض بسرعة هائلة … عليك أن تفكر إذن، بحصافتك، إن كانت الكنيسة يمكنها التسامح في مسألة تفسير النصوص المقدسة على نهج يخالف تفسير الباباوات المقدسين وجميع المعلقين المعاصرين، سواء أكانوا لاتينيين أم يونانيين.»

للأسف، كان هذا التفسير المخالف، هو بالضبط ما جمعه كوبرنيكوس في كتابه «عن دورات الأجرام السماوية».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤