الفصل الثامن

سيناريو الرهان الكبير في مقابل سيناريو الشيطان الذي تعرفه

هناك موضوع مشترك يكشفه الكثير من حالات استخدام تقنية سلسلة الكتل التي جرى تناولها، وهو أنه في الوقت الذي توجد فيه أمثلة كثيرة على المشكلات التي تواجهها الدول النامية والتي قد تلعب سلسلة الكتل دورًا مجديًا في حلها (وأمثلة أخرى لا تكون مجدية فيها بكل تأكيد)، فإن أكثر نقطة مُعوِّقة هي الحكومة. كيف سيكون رد فعل الحكومات تجاه نُظم الدفع الإلكتروني التي قد تخدش السيادة القومية على العملة، أو تقوِّض السيطرة على السياسة النقدية، أو على أقل تقدير، تمنع بعض محاسيب الأحزاب الحاكمة من انتزاع الرِّشَى؟ كيف سيتعاطى السياسيون مع حالة الاضطراب التي سيحدثها نظامٌ لا مركزي من شأنه أن يزيد من صعوبة الإبقاء على وظائفَ من أجل شبكاتهم من المحاسيب، فضلًا عن الحصول على مالٍ لمكافأتهم على الولاء لهم؟

في ضوء الطبيعة الحرِجة للموضوعات المعروضة في هذا الكتاب، لدينا قناعةٌ باستمرار الأفراد مستقبلًا في البحث عن حلولٍ مبتكرة وأن نُظم سلسلة الكتل ستصبح أفضل حلٍّ لمواجهة عدة مشكلاتٍ مهمة. سوف تُستخدَم سلسلة الكتل عندما تصبح النُّظم التي تتطلب الثقة ضعيفة، إلى جانب ضعف أو انعدام الظروف المواتية التي تهيئ لنظام تقليدي أو قديم ترسيخَ جذوره: بعبارة أخرى، عندما تصبح قيمة حلول سلسلة الكتل أكبر من القيمة التي تقدِّمها الطرق التقليدية.

هناك الكثير من الأمثلة التي نتصوَّر فيها تطبيق نُظم معتمدة على سلسلة الكتل رغم أن قواعد البيانات التقليدية كان من الممكن أن تحلَّ المشكلة تقنيًّا، على الأخص في الدول النامية.

لنأخذ تسجيل الملكية العقارية مثالًا لتوضيح السبب في استخدام سلسلة الكتل في وضعٍ قد تكون فيه قاعدة بيانات بخلاف ذلك حلًّا تقنيًّا ملائمًا تمامًا في سياق الدول المتقدمة. تمتلك المملكة المتحدة قاعدة بيانات قومية واختيارية لتسجيل الملكية يُطلق عليها إيموبيلايز، وذلك كما أوضحنا في الفصل السادس. تدير الشرطة قاعدة البيانات، بطريقةٍ تسمح لأي فردٍ بتسجيل الملكية عن طريق تحميل الصور وإثباتات الملكية وتسجيل التفاصيل الأساسية، مثل الأرقام التسلسلية. وإذا تعرَّضت دراجتك، أو كاميرتك، أو جهاز الكمبيوتر الخاص بك إلى السرقة، يمكن استخدام المعلومات المسجَّلة في قاعدة البيانات لمساعدة الشرطة في استعادة المسروقات والإسراع بالمطالبة بتعويض من شركة التأمين. ويمكن نقل مثل هذا النموذج بحذافيره إلى دولة نامية، مع تولي الشرطة إدارة قاعدة بياناتٍ مركزية.

مع ذلك، فإن إنشاءَ نظامٍ مثل هذا على سلسلة كتل، بكود مفتوح المصدر— مما يتيح لأي شخص فحص المعاملات والقواعد المشفرة — قد يساعد في بناء الثقة في النظام بوتيرة أسرع، لا سيَّما في الدول التي يُعد فيها الفساد والرِّشَى مشكلةً كبيرة. فربما لا يثق الأفراد كثيرًا في إدراج ممتلكاتهم الثمينة في قاعدة بيانات قد تطلع عليها هيئات الضرائب أو، في بعض البلدان، محاسيب الحزب الحاكم، والخارجون على القانون والعصابات الإجرامية. ربما يكون للشرطة أيضًا، على نحوٍ معقول تمامًا، مشاغل أكثر إلحاحًا من تطوير قاعدة بيانات مثل هذه.

إن حالة عدم اليقين المهمة التي تحاول تلك السيناريوهات توضيحها لا تتمثل في إذا ما كانت تقنية سلسلة الكتل سوف تُطبق في البلدان النامية — إنها ستطبق بلا شك — إنما مَن الذي سيطبقها، وما تِبعات ذلك فيما يتعلق بكيفية استخدام التقنية، واحتمالية استخدامها من عدمه: هل ستتبنى المؤسسات المسيطرة الحالية — البنوك، والمؤسسات غير الحكومية، والشركات — تلك التقنيات الجديدة لحل تلك المشكلات، أم إنها ستسعى إلى الإبقاء على الوضع الراهن؟

نتصوَّر حدوث سيناريوهَين محتمَلين في السنوات المقبلة. السيناريو الأول، الذي سنُطلق عليه «الرهان الكبير»، هو سيناريو يطرح تبني الحكومات والشركات الكبرى في الدول النامية لتقنية سلسلة الكتل بُغية تحسين الخدمات العامة وتقديم خدمة أفضل لعملائها. في هذا العالم، قد تنشئ الشرطة، على سبيل المثال، قاعدة بيانات، تستفيد فيها من توظيف تقنية سلسلة الكتل لتعزيز الحوكمة وتعميقها.

في السيناريو الثاني، الذي سنطلق عليه «الشيطان الذي تعرفه»، تظل الحكومات وكبريات الشركات متشككة تجاه تقنية سلسلة الكتل. وهذا يترك المجال للمؤسسات غير الحكومية ورواد الأعمال لاستخدام هذه التقنية لحل المشكلات التي عجزت الحكومات عن مواجهتها.

بينما أن سيناريو «الرهان الكبير» هو عالَمٌ تساعد فيه تقنية سلسلة الكتل في تعميق الحوكمة، يُعد سيناريو «الشيطان الذي تعرفه» عالَمًا تُستخدَم فيه تقنية سلسلة الكتل للالتفاف على الحكومات والمؤسسات المحدودة القدرات التي قَنَعت بما توصَّلت إليه بدلًا من أن تتبنى تقنياتٍ جديدة.

سيناريو الرهان الكبير

في سيناريو الرهان الكبير، تتخذ الحكومات والشركات الكبرى في البلدان النامية خطوتين جديرتين بالملاحظة: إقرارهما بوجود مجموعة من المشكلات المرتبطة بالثقة، وتطلُّعهما إلى تبني تقنياتٍ جديدة، لا سيما سلسلة الكتل، لحل تلك المشكلات. هذا عالَمٌ تتطلع فيه الشركات، بمباركة الجهات التنظيمية الحكومية، إلى تطبيق تقنية سلسلة الكتل من أجل تقديم خدمات موضع ثقةٍ إلى عملائها، وتقفز فيه الحكومات قفزة نوعية تتجاوز بها التوجهات الحالية نحو الحكومة الإلكترونية لتتجه مباشرةً إلى تطبيق سلاسل الكتل من أجل تقديم خدمة آمنة، وجديرة بالثقة. الثمار المجنية من هذا السيناريو عظيمة، لكنه يحتاج إلى ما يمكن أن نسميه قفزةً إيمانية كبيرة. وكما هو الحال في أغلب القفزات الإيمانية، لا يحدُث سيناريو الرهان الكبير قفزة واحدة، إنما يحدث على هيئة سلسلة من التغييرات القانونية والتنظيمية المتزايدة تدريجيًّا التي تتضافر معًا لتمهِّد الطريقَ أمام سلسلة الكتل حتى تؤدي دورًا مهمًّا في الاقتصاد.

ربما يُعد توجُّه كينيا نحو تبني تقديم الخدمات المالية من خلال الهاتف المحمول هو أقرب مثال إلى شيء مماثل لهذا في بلدان العالم النامي، والذي أحدث تأثيرًا ممكن إثباته. على عكس أغلب الدول، لا سيَّما الدول النامية التي قنَّنت بشدة شبكات الهواتف المحمولة المنشأة حديثًا فيها، فإن كينيا أفسحت مجالًا رحْبًا لشبكات هواتفها المحمولة حتى تختبر نماذج جديدة لتقديم كلٍّ من خدمات الاتصالات والخدمات المالية. أصبحت الآن النُّظم التي تقدم الخدمات المالية بالهاتف المحمول أمرًا شائعًا عبر بلدان العالم النامي، لكن تظل كينيا معروفة بأنها أحدُ الرواد الأوائل في هذا المجال.

مع ذلك، يُعد تبني تقنية سلسلة الكتل قفزة إيمانية أكبر. أُدخلت الخدمات المالية التي تتم بالهاتف المحمول لحل مشكلة واحدة محددة، ألا وهي تبادل الأموال في الاقتصادات التي تواجه إمكانية وصول محدودة إلى الخدمات البنكية وتواجه أحيانًا سيولةً نقدية محدودة. لكن تُعد سلسلة الكتل بنيةً تحتية جديدة لحل الكثير من المشكلات المختلفة. وفي هذا السياق، يشبه تبني تلك التقنية تبني تقنية الهواتف المحمولة بوصفها حلًّا لعدة مشكلاتٍ في وقت واحد.

كيف يبدو سيناريو الرهان الكبير على أرض الواقع؟ بينما تتطور التقنيات المعتمِدة على سلسلة الكتل، تجنح النُّظم المحسَّنة الخاصة بالهوية، وتسجيل الملكية، وغيرها من حالات الاستخدام إلى تقليل الحواجز التي تحول دون المشاركة في الاقتصاد الرسمي. وإلى جانب الوسائل المبتكَرة للتصنيف الائتماني والتطورات المستمرة في الخدمات البنكية الرقمية، هناك فرصة قائمة أمام الخدمات المالية حتى تصل بمستوًى أكبر من الكفاءة والفاعلية إلى القطاع المحروم من الخدمات البنكية. في غضون ذلك، تُعجِّل النُّظم المعتمِدة على سلسلة الكتل من تنفيذ نموذج الحكومة الإلكترونية وضمان أمانه، ممَّا يزيد من سهولة تحدي الشركات الجديدة للشركات الكبيرة، ويزيد ديناميكية الاقتصاد وإنتاجيته. وتسهم العملات المشفرة والاستخدام الواسع لنُظم الدفع الرقمي في خفض تكلفة المعاملات، والحد من فرص حدوث فساد، وتوفير بديل لأوجه القصور الموجودة في العملات القومية الحالية. وتخلق نُظم التوثيق والتسجيل الموثوق فيها بيئةً أساسية تقلل من الحواجز التي تقف أمام دخول السوق وتدفع إلى ظهور نماذج أعمال جديدة.

تدعم تقنية سلسلة الكتل بدورها اتجاهَين كبيرين آخرين: توسُّع شركات الدفع بالهاتف المحمول الحالية في قنوات التجارة الإلكترونية، وتقليل التكاليف على الشركات الساعية إلى تبني استراتيجياتٍ فعالة اقتصاديًّا تركِّز على تطوير منتجاتٍ جديدة للفقراء. إن توسعة مجال الاقتصاد الرسمي يمكِّن الحكومات في سيناريو الرهان الكبير من توسيع الوعاء الضريبي في الوقت نفسه الذي تحسِّن فيه التقنية المعتمدة على سلسلة الكتل من مستوى تقديم الخدمات، وعملية التصويت في الانتخابات، ممَّا يقلل من المخاطر السياسية.

لننظر في مثال شراء دراجة بخارية، وهو المنتج الرئيسي الأول الذي يشيع شراؤه بين الأسر في الدول النامية. حتى إن كان للمشتري تاريخ ائتماني رسمي صغير، ففي سيناريو الرهان الكبير يُشكِّل استخدامه للأموال الرقمية والهوية القومية المعتمدة على سلسلة الكتل الأساسَ الذي يعتمد عليه البنك في التوصل إلى قرار مستنير فيما يتعلق بإعطائه قرضًا. وبعد أن يحصل المشتري على قرض، يستمر في بناء تاريخ ائتماني. ولأن عملية الشراء قد وُضِعَت في إطار رسمي ورُبطَت بالهوية الرقمية للمشتري، يصير من السهل على الحكومات أن تفرض ضريبةَ قيمة مضافة على عملية الشراء، ممَّا يوسِّع من الوعاء الضريبي. إن إدخال القنوات الرقمية هذه يقلِّل أيضًا من الحواجز التي تمنع البنك من تقديم خدماتٍ إلى عملائها مثل مثال المقترِض لدينا، وعليه تزيد إيرادات البنوك وهوامش أرباحها. يترتب على هذا تقديم البنوك لمزيد من القروض، ممَّا يدعم النمو الاقتصادي، وتحقيقها لمزيد من الأرباح، ممَّا يزيد من الضرائب التي يدفعها الفرد. يُحتفَظ إلكترونيًّا بملكية الدراجة البخارية في سجل ملكية معتمِد على سلسلة الكتل. وأخيرًا، عندما يصبح صاحب الدراجة البخارية مستعدًّا لبيعها وشراء سيارة، يمكن لمشتري الدراجة البخارية المستعملة أن يستخدم سجل الملكية هذا للتحقق من ملكية الدراجة البخارية، وممَّا إذا كان القرض الأصلي الممنوح لشراء الدراجة البخارية لا يزال غير مسدَّد.

إن الانتقال من الدفع بالعملة النقدية إلى الدفع الرقمي بالعملة المشفرة يسهم أيضًا في الحد من مخاطر التعرض للسرقة ويدعم إجراء المعاملات. من آسيا الوسطى حتى أفريقيا الوسطى، تُجرى كثيرًا عمليات شراء كبيرة برزمٍ ضخمة من الأوراق النقدية ذات فئات منخفضة. تستلزم العملية في كثير من الأحيان قطع السفر لعدة ساعات للوصول إلى البنك من أجل الحصول على العملات الورقية في المقام الأول. في مالاوي، على سبيل المثال، تصل قيمة أكبر فئة لورقة نقدية إلى ٢,٧٥ دولار أمريكي؛ لذا فحتى شراء دراجة بخارية مستعملة ربما يتطلب أكثر من ١٥٠ ورقة نقدية. وفي بعض المجتمعات المالاوية الأكثر تقدمًا اقتصاديًّا، مثل قرى صيد الأسماك على الجزر في بحيرة مالاوي، قد يحتاج مشترٍ محتمَل إلى السفر لخمس ساعات ذَهابًا وأخرى إيابًا، على عبَّارة أسبوعية من العهد الاستعماري والتي تتأخر كثيرًا، من أجل سحب المال اللازم لشراء الدراجة البخارية. إن صعوبة الحصول على أموال نقدية تعقِّد المعاملات وأحيانًا تحول دون إجرائها. لهذا تعتبر العملات المشفرة والعملات الرقمية الأخرى بديلًا جذابًا بلا شك، ووجود دعمٍ رسمي للعملات المشفرة سيساعد في تشجيع مشغلي شبكات الهواتف المحمولة والبنوك على تسهيل توصيل هذه التقنية إلى قطاع أوسع من الناس.1

سيناريو الشيطان الذي تعرفه

مثلما أن سيناريو الرهان الكبير هو مجموع خياراتٍ صغيرة كثيرة، يتكشف سيناريو الشيطان الذي تعرفه أيضًا بأسلوبٍ متسلسل. فبدلًا من تبني شيء جديد، تتمسك الحكومات والشركات الكبيرة بالنُّظم، والتقنيات، والأساليب الحالية: «الشيطان الذي نعرفه خيرٌ من الذي لا نعرفه.» تطرح الحكومات تدريجيًّا تشريعات واسعة النطاق تضيِّق الخناق على استخدام العملات المشفرة وتقنية سلسلة الكتل بغرض «حماية» عامة الناس من تقلبات أسعار العملات المشفرة والاستجابة إلى الحالات العديدة الواضحة لاستخدام العملات المشفرة من أجل التهرب من الضرائب، والتحايل على عمليات السيطرة على العملات الأجنبية، وغسل الأموال، وتقويض دور الدولة بأي طريقة أخرى في إدارة سياسية نقدية فعَّالة. هذا التضييق التشريعي في دول منبوذة، مثل فنزويلا وزيمبابوي، من شأنه أن يؤدي فقط إلى القضاء على سبيل محتمَل لمنع الانهيار الاقتصادي. تُستشعر هذه الضرورة أيضًا بوجه خاص في دول مثل نيجيريا وكينيا، حيث تمثل عملة البتكوين نسبة كبيرة نسبيًّا من الناتج القومي الإجمالي.2

حتى لو لم تكن تقنية سلسلة الكتل هي الشيء الذي تستهدفه التشريعاتُ بوضوح، فإن افتراض مقاومة المسئولين يدفع الشركات والمؤسسات المالية الوطنية في الدول النامية إلى عدم اختيار الاستثمار في الحلول المعتمِدة على سلسلة الكتل. وعوضًا عن ذلك، تقلِّد تلك الجهات نموذجَ الثقة المركزية المتَّبع في الدول المتقدمة. ومع الإقصاء الظاهري لخطر المنافسة من جانب نماذج الأعمال الجديدة المعتمِدة على سلسلة الكتل، تصبح الشركات الكبيرة تحت ضغط أقل للابتكار والتحسين.

في غضون ذلك، يواصل عامة الناس في الاقتصادات النامية استخدامَ تقنية سلسلة الكتل لحل مشكلات فعلية في حياتهم اليومية، متبنين حلولًا تقنية من دول خارجية ليتكيفوا مع انعدام الثقة في مجتمعاتهم. على سبيل المثال، ربما يصبح شائعًا شيئًا فشيئًا في بنجلاديش ونيجيريا، المصنفتَين ضمن أكثر دول العالم صعوبة في تسجيل الملكية، أن يسجِّل الأفرادُ أملاكَهم باستخدام منصات أصول رقمية مقرها في الدول الغربية، بدلًا من النُّظم المركزية الرسمية الموجودة في بلادهم، أو على الأقل إلى جانبها.

بينما تواصل تقنية سلسلة الكتل تطورها، تزداد الصعوبة أمام الحكومات للاستمرار في القيود والضوابط الاقتصادية التي تفرضها. ومع غياب القدرة على الاعتماد على مؤسسات رسمية محل ثقة، يظل جانب كبير من النشاط الاقتصادي في كثير من الدول النامية في إطار الاقتصاد غير الرسمي، ويسمح توفُّر نُظم محل ثقة غير حكومية للنشاط الاقتصادي هذا بأن يزداد تعقيدًا. هذا يقوِّض من قدرة الحكومة على فرض ضرائب، ويقوِّض كذلك من قدرة النُّظم المالية على تأدية دور الوسيط الائتماني للاقتصاد الفعلي، وذلك نظرًا للاحتفاظ بعددٍ أكبر من الأصول على هيئة عملات رقمية على نحوٍ واضح على الأرجح بدلًا من الاحتفاظ بها في البنوك.

تأمَّل معنا نفس عملية شراء الدراجة البخارية السابقة الذكر في عالم سيناريو الشيطان الذي تعرفه. ففي حين أن المشتري لديه سجل مالي معقول خاص بمعاملاته المتنوعة بعملات مشفرة وبأموال إلكترونية على الهاتف المحمول، إلا أن نقص الدعم الرسمي لهذه القنوات الرقمية يعني أن هذا السجل لا يمكن أن يَعتد به بنكٌ محلي كأساس للحصول على قرض. بدلًا من ذلك، يُجبَر المشتري على أخد عدة قروض غير مضمونة من منصاتٍ تقنية مالية مستعدة لاستخدام هذا السجل المالي من أجل التوصل إلى قرار بشأن الإقراض. ومن دون هوية رقمية قومية، من الصعب على أي فرد سوى المقترِض نفسه أن يقيِّم إجمالي مديونيته، ممَّا يزيد من خطر الإفراط في الاقتراض. تعوِّض الجهات المُقرِضة هذا الخطر برفع نسب الفائدة. ثم تُصْدر القروض على هيئة عملاتٍ مشفرة وأموال إلكترونية على الهاتف المحمول والتي يمكن سحبها نقدًا من وكلاء محليين، رهن توفُّر أوراق نقدية فعلية.

عندما يجمِّع المشتري الرصيد المطلوب لشراء الدراجة البخارية، فإنه يكون قد فعل ذلك باستخدام مزيج من العملات المشفرة، والأوراق النقدية الفعلية، والنقود الإلكترونية على الهاتف المحمول. يتفقَّد المشتري ملكية الدراجة البخارية باستخدام منصة تسجيل أصول رقمية معتمِدة على سلسلة الكتل مقرها في أوروبا والتي توفر خدمة مجانية للمستهلكين في الدول النامية خاصة بتسجيل أصول ذات قيمة منخفضة (حسب معايير الغرب). عند إتمام الشراء، يسجِّل المالك الجديد الدراجة البخارية باسمه على المنصة الأجنبية نفسها. ولأن عملية الشراء الفعلية للدراجة البخارية تتم في إطار غير رسمي، لا تُدفَع أيُّ ضرائب. بدلًا من ذلك، تفرض الحكومة ضرائب معاملات على منصات التقنية المالية ومقدمي الخدمات المالية بالهاتف المحمول التي تقع تحت نطاق سيطرتها.

كما هو الحال في عالم سيناريو الرهان الكبير، تتيح تقنية سلسلة الكتل عملية شراء دراجة بخارية ربما لم يكن لها أن تحدث بغير ذلك، ممَّا يزيد من رفاهة المالِك الجديد ويحسِّن من فرصه الاقتصادية. ولكن، بينما تتيح تقنية سلسلة الكتل في سيناريو الرهان الكبير إتمام عملية الشراء هذه من خلال قنواتٍ رسمية، فإنها في سيناريو الشيطان الذي تعرفه تدفع المقترِض إلى الالتفاف على القنوات الرسمية لشراء الدراجة البخارية وتسجيلها.

أين سيتكشَّف هذان السيناريوهان؟

في كلٍّ من سيناريو الرهان الكبير والشيطان الذي تعرفه، تعني مزايا سلسلة الكتل استمرارَ نمو حصة الاقتصاد الذي تُمكِّنه سلسلة الكتل. لكن الفارق الرئيسي يتمثَّل فيما يلي: في سيناريو الرهان الكبير، تتبنَّى الحكومات والشركات الاقتصادَ الذي تمكِّنه سلسلة الكتل، وبما أن الاقتصاد الجديد المبني على تقنية سلسلة الكتل ينمو، فستنمو كذلك حصة الاقتصاد الرسمي، ممَّا يخلق حلقة مثمرة. في المقابل، في سيناريو الشيطان الذي نعرفه، توجد تقنية سلسلة الكتل على نحو رئيسي في الاقتصاد غير الرسمي، ممَّا يخلق حلقة مفرغة يُقوَّض فيها دور المؤسسات الضعيفة الحالية نظرًا إلى اتجاه الأفراد نحو اختيار بدائل جديدة غير رسمية معتمِدة على سلسلة الكتل.

أيُّ هذين السيناريوهين سيتحقق؟ بلا شك كلاهما سيتحقق، لكن في أماكنَ مختلفة نظرًا لأن كل دولة تستجيب بطريقتها الخاصة تجاه هذه التقنية الجديدة التي ربما يكون لها تأثير تحويلي هائل. سوف تتبنى الحكومات الطموحة سيناريو الرهان الكبير، في حين سيلتزم كثيرٌ من الحكومات التزامًا شديدًا بسيناريو الشيطان الذي نعرفه، مما يحرِم مواطنيها، ويحرمها هي نفسها، من المزايا السياسية والاقتصادية الأوسع التي تستطيع سلسلة الكتل أن تقدمها. للأسف، بدأنا نرى دلائل في بعض الدول — أبرزها نيجيريا — على تبني أسلوب الشيطان الذي تعرفه. ثمة دور بالغ الأهمية هنا في انتظار المؤسسات الحكومية الدولية، والمنظمات غير الحكومية، والقادة الدوليين، والشخصيات المؤثرة لدعم التحوُّل الدائم الذي أتاحته التقنية لعالمٍ تحافظ فيه الشفافية على نزاهة مجال الأعمال وتخضع الحكومة فيه للمساءلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤