النوادر الخامسة

نوادر المأمون

المأمون والرجل

عاب رجلٌ رجلًا عند المأمون، فقال له: قد استدللنا على كثرة عيوبك بما تذكر من عيوب الناس؛ لأن طالب العيوب إنما يطلبها بقدر ما هي فيه، لا بقدر ما فيه منها، قال الشاعر:

أرى كل إنسان يرى عيب غيره
ويعمى عن العيب الذي هو فيهِ
وما خير من تخفى عليه عيوبه
ويبدلها بالعيب عيب أخيهِ

المأمون وسهل بن هارون

كان المأمون يستقبل سهل بن هارون، فدخل عليه يومًا والناس جلوس، وقد أسبلوا براقع الغفلة على وجوه الفطن، والفهم عنهم قد رحل، والتبلد فيهم قد قطن، فلما فرغ المأمون من كلامه أقبل سهل على الناس، وقال: ما لكم تسمعون ولا تعون؟ وتفهمون ولا تفهمون؟! وتشاهدون ولا تعجبون؟! والله إنه ليقول ويفعل في اليوم القصير مثل ما يفعله أبو مروان في الزمن الطويل، عربكم كعجمهم، وعجمكم كعبيدهم، لكن كيف يعرف الدواء من لا يشعر بالداء؟! فاستحسن المأمون منه ذلك، وأنزله منزلته الأولى.

أبو محمد اليزيدي والمأمون

كان أبو محمد اليزيدي ينادم المأمون، فغلب عليه الشراب ذات ليلة فغلبه، فأمر المأمون بحمله إلى منزله برفق، فلما أفاق استحى وانقطع عن الركوب أيامًا، فلما طال عليه ذلك كتب إلى المأمون:

أنا المذنب الخطاء والعفو واسع
ولو لم يكن ذنب لما عُرف العفوُ
سكرت فأبدى مني الكأس بعض ما
كرهت وما أن يستوي السكر والصحوُ
ولا سيما إذ كنت عند خليفة
وفي مجلس ما إن يجوز به اللغوُ

فلما قرأها المأمون وقَّع في الرقعة: «سر إلينا فقد عفونا عنك، فلا عتب عليك وبساط النبيذ يطوى معه».

أبو دلف والمأمون

دخل أبو دلف على المأمون، وقد كان عتب عليه ثم أقاله، وقد خلا مجلسه: قل أبا دلف وما عسيت أن تقول، وقد رضي عنك أمير المؤمنين، وغفر لك ما فعلت. فقال: يا أمير المؤمنين:

ليالي تدني منك بالبشر مجلسي
ووجهك من ماء البشاشة يقطرُ
فمن ليَ بالعين التي كنت مرة
إليﱠ بها في سالف الدهر تنظرُ

قال المأمون: لك بها رجوعك إلى مناصحته، وإقبالك على طاعته، ثم عاد إلى ما كان عليه.

المأمون ومدعي النبوة

ادَّعى رجل النبوة في زمن المأمون، فبلغه خبره؛ فأحضره إليه، ثم سأله: ما علامة نبوتك؟ فقال له: علمي بما في نفسك! فقال: وما في نفسي؟ فقال: تقول: إني كاذب. فحبسه ثم أحضره، وقال له: هل أوحي إليك شيء؟! قال: لا. قال: ولِمَ ذلك؟! قال: لأن الملائكة لا تدخل الحبس! فضحك منه وأطلقه.

المأمون والحسن بن سهل

لما ودَّع المأمون الحسن بن سهل قبل مخرجه من مدينة السلام قال له: يا أبا محمد، ألك حاجة تعهد إليَّ فيها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أن تحفظ عليَّ من قلبك ما لا أستعين على حفظه إلَّا بك.

ابن قتيبة والمأمون

قال سعيد بن مسلم بن قتيبة للمأمون: لو لم أشكر الله إلا على حسن ما أبلاني في أمير المؤمنين من قصده إليَّ بحديثه وإشارته إليَّ بطرفه كان ذلك من أعظم ما توجبه النعمة وتفرضه الصنيعة. قال المأمون: ذلك والله لأن الأمير يجد عندك من حسن الإفهام إذا حدثت، وحسن الفهم إذا حُدثت ما لا يجده عند غيرك.

المأمون والرجال الثلاثة

قال المأمون: ما عجزت عن جواب أحد قط مثلما عييت عن جواب ثلاثة. فقال بعض أصحابه: من أولئك يا أمير المؤمنين؟ قال: أما الأول: فرجل من أهل الكوفة، وسبب ذلك أن أهل الكوفة رفعوا قصةً يشكون فيها عاملًا عليهم، فقعدت يومًا، وقلت لهم: إن خاصمتموني كلكم مللت، ولكن اختاروا رجلًا منكم أتولى مناطقته ويقوم مقامكم. قالوا: قد اخترنا رجلًا غير أنه أصم، فإن احتمله أمير المؤمنين فهو لساننا! قلت: قد احتملته. وأحضروه، فلما مثل بين يديَّ قلت له: ما تقول؟ فقال: يا أمير المؤمنين، وليتَ علينا رجلًا ثلاث سنين، فاستأصل أموالنا، ويريد أرواحنا، ففي السنة الأولى: نفدت أموالنا، وفي السنة الثانية: بعنا ضياعنا، وفي الثالثة: خرجنا من ديارنا وأوطاننا للشرّ الذي نالنا والمسكنة التي حلت بنا. فقلت له: كذبت، وأنت أهل لذلك، بل وليتُ عليكم ثقةً عندي على أموالكم مأمونًا فاضلًا. فقال يا أمير المؤمنين: صدقت وبررت، وأنا كذبت وأفكت، وأنت خليفة الله في بلادنا وأمينه على عباده، فكيف خصصتنا بهذا العادل المؤتمن الفاضل ثلاث سنين ولم توله غير بلاده؛ فينشر عدله في البلاد، ويحيا به العباد كما انتشر علينا، ويفيض من عدله على رعيتك ما أفاض علينا؟! فضحكت، وقلت له: قم فقد عزلته عنكم. وأما الثاني: فأم الفضل، دخلت عليها لما كثر بكاؤها وحزنها على الفضل، فقلت لها: يا أم الفضل، لا تكثري البكاء والحزن على ذي الرئاستين؛ فأنا لك ولد مكانه. فاشتد بكاؤها، فأعدت عليها القول، فقالت: يا أمير المؤمنين، كيف لا أحزن على ولد أكسبني مثلك؟ فلم أجد كلامًا بعده، وخرجت من عندها. وأما الثالث: فإني أتيت برجل يدعي النبوة، فأمرت بحبسه، ثم تفرغت من شغلي، فأمرت بإحضاره، وقلت له: زعمت أنك نبي؟! قال: نعم. قلت: إلى من بُعِثت؟ قال: أوَتركتموني أُبعث إلى أحد؟! بُعثتُ الغداة وحبست نصف النهار! فقلت: من أنت من الأنبياء؟ قال: موسى بن عمران. قلت له: إن موسى كانت له دلائل وبراهين. قال: وما كانت براهينه؟ قلت: كان إذا ضمَّ يده إلى جيبه أخرجها بيضاء، وإذا ألقى العصا صارت حية. قال: نعم، إنما ذلك لأجل فرعون لما قال: أنا ربكم الأعلى. فإن شئت ترى ذلك قل كما قال فرعون؛ حتى أظهر لك الآيات. فضحكت من كلامه، وأمرت له بجائزة.

اليزيدي والمأمون

قال محمد اليزيدي النحوي: دخلت على المأمون يومًا وهو في حديقة له، ريانة أغصانها، غضة أوراقها في فصل الربيع، والدنيا قد تبرجت بثياب الرياض، وعنده جاريته منعم — وكانت أجمل أهل دهرها — تغنيه بهذه الأبيات:

وزعمت أني ظالم فهجرتني
ورميت في قلبي بسهم نافذِ
فنعم ظلمتك فاغفري وتجاوزي
هذا مقام المستجير العائذِ
هذا مقام فتى أضرﱠ به الهوى
أوليس عندكم ملاذ اللائذِ
ولقد أخذتم من فؤادي لبه
لا شلﱠ ربي كف ذاك الآخذِ

فطرب المأمون طربًا شديدًا، واستعادها الصوت مرارًا، ثم قال: يا يزيدي، هل شيء أحسن مما نحن فيه؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: وما هو؟ قلت: الشكر لمن خولك هذا الإنعام الجليل العظيم. فقال: أحسنت وصدقت. ووصلني بصلة، وأمر بإحضار مائة ألف درهم يتصدق بها، وكأني نظرت إلى البدر وقد خرجت وهي تُفرَّق.

ذكاء المأمون

كان عبد الله المأمون يقرأ على الكسائي — والمأمون إذ ذاك صغير — وكان من عادة الكسائي إذا قرأ عليه المأمون يطرق رأسه؛ فإذا غلط المأمون رفع الكسائي رأسه ونظر إليه؛ فيرجع المأمون إلى الصواب، فقرأ المأمون يومًا سورة الصف، فلما قرأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (الصف: ٢) رفع الكسائي رأسه، ونظر المأمون إليه؛ فكرر الآية، فوجد القراءة صحيحة، فمضى على قراءته وانصرف الكسائي، فدخل المأمون على أبيه الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت وعدت الكسائي وعدًا فإنه يستنجزه منك. قال: إنه كان التمس للقراء شيئًا ووعدته به؛ فهل قال لك شيئًا؟ قال: لا. قال: فما أطلعك على هذا؟ فأخبره بالأمر، فسرَّ من فطنته وحدَّة ذكائه.

المأمون والحائك

رفع صاحب الخبر إلى المأمون أن حائكًا يعمل العام كله لا يتعطل في عيد ولا جمعة، فإذا طلع الورد طوى عمله، وغرد بصوت، وقال:

طاب الزمان وجاءَ الورد فاصطبحوا
ما دام للورد أزهار وأنوار

فإذا شرب مع ندمائه غنى:

أشرب على الورد من حمراء صافية
شهرًا وعشرًا وخمسًا بعدها عددا

فلا يزال في صبوح وغبوق ما بقيت وردة، فإذا انقضى عاد إلى عمله، وأنشد:

فإن يبقني ربي إلى الورد أصطبح
وندمان صدق عارفين مقاميا

فقال المأمون: لقد نظر الورد بعين جليلة؛ فينبغي أن نعينه على هذه المروءة، وأمر أن يدفع إليه في كل سنة عشرة آلاف درهم.

يحيى بن أكثم والمأمون

قال يحيى بن أكثم: ماشيت المأمون يومًا من الأيام في بستان مؤنسة بنت المهدي، فكنت من الجانب الذي يستره من الشمس، فلما انتهى إلى آخره وأراد الرجوع أردت أن أدور إلى الجانب الذي يستره من الشمس؛ فقال: لا تفعل، ولكن كن بحالك حتى أسترك كما سترتني. فقلت: يا أمير المؤمنين، لو قدرت أن أقيك حرﱠ النار لفعلت، فكيف الشمس؟! فقال: ليس هذا من كرم الصحبة. ومشى ساترًا إياي من الشمس كما سترته.

المأمون والموبذ

حضر الموبذ عند المأمون وهو يكالمه؛ إذ وردت عليه خريطة من الحسن فيها أخبار العراق وموت ابن الموبذ، فقال المأمون: أحسن الله لك العوض وعليه الخلف. فأجابه بصالح الأدعية، فعجب المأمون وقال: أتدري ما أردت؟ قال: لا. قال: تعالَ إن ابنك مات. قال: قد علمت ذلك. قال: ومن أين علمت ذلك والخريطة الساعة وردت؟! قال: قد علمت ذلك يوم ولد وعلة موته وجوده.

نباهة المأمون

حكي أن أم جعفر عاتبت الرشيد في تقريظه للمأمون دون الأمين ولدها، فدعا خادمًا، وقال له: وجه إلى الأمين والمأمون خادمًا يقول لكل واحد منهما على الخلوة: ما تفعل بي إذا أفضت الخلافة إليك؟ فأما الأمين فقال للخادم: أقطعك وأعطيك. وأما المأمون فإنه قام إلى الخادم — بدواة كانت بين يديه — وقال: اسألني عما أفعل بك يوم يموت أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين؛ إني لأرجو أن نكون جميعًا فداء له. فقال الرشيد لأم جعفر: كيف ترين؟ فسكتت عن الجواب.

محمد بن عمران والمأمون

لما بنى محمد بن عمران قصره إزاء قصر المأمون قيل له: يا أمير المؤمنين، باراك وباهاك. فدعاه، وقال: لم بنيت هذا القصر حذائي؟ قال: يا أمير المؤمنين أحببت أن ترى نعمتك عليَّ؛ فجعلته نصب عينك. فاستحسن المأمون جوابه وعفا عنه.

العباس بن الحسين والمأمون

قال العباس بن الحسين للمأمون: يا أمير المؤمنين، إن لساني ينطلق بمدحك غائبًا، وقد أحببت أن يستزيد عندك حاضرًا، أفتأذن يا أمير المؤمنين بالكلام؟ فقال له: قل فوالله إنك لتقول فتحسن، وتحضر فتزين وتغيب فتؤتمن. فقال: ما بعد هذا الكلام يا أمير المؤمنين أفتأذن بالسكوت؟ قال: إذا شئت.

المأمون وسوسن والجارية

كان للمأمون جماعة من المغنين وفيهم مغنٍّ يسمى سوسنًا عليه وسم جمال.

فبينما هو عنده يغني؛ إذ تطلعت جارية من جواريه فنظرت إليه، فعلقته، فكانت إذا حضر سوسن تسوي عودها وتغني:

ما مررنا بالسوسن الغض إلَّا
كان معي لمقلتيﱠ نديما
حبذا أنت والمسمى به أنـ
ـت وإن كنت معه أذكى نسيما

فإذا غاب سوسن أمسكت عن هذا الصوت وأخذت في غيره، فلم تزل تفعل ذلك حتى فطن المأمون، فدعا بها ودعا السيف والنطع، ثم قال: اصدقيني أمرك. قالت: يا أمير المؤمنين، ينفعني عندك الصدق؟ قال لها: إن شاء الله. قالت: يا أمير المؤمنين، اطلعت من وراء الستارة فرأيته فعلقته. فأمسك المأمون عن عقوبتها وأرسل إلى المغني فوهبها له، وقال: لا يقربنا.

المأمون والجاني

وقف رجل بين يدي المأمون وقد جنى جناية، فقال: والله لأقتلنك. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، تأنﱠ عليَّ؛ فإن الرفق نصف العفو. قال: وكيف وقد حلفت لأقتلنك؟! قال: يا أمير المؤمنين، لأن تلقى الله جانيًا خير لك من أن تلقاه قاتلًا. فخلى سبيله.

المأمون وجلساؤه

قال المأمون يومًا لبعض جلسائه: أنشدوني بيتًا لملك يدل على أن قائله ملك، فأنشده بعضهم قول امرئ القيس:

أمن أجل أعرابية حل أهلها
جنوبَ الحمى عيناك تبتدرانِ

فقال: ليس في هذا ما يدل على أنه ملك؛ فإنه يجوز أن يقول هذا سوقي حضري، إنما هذا بيت يدل على أن قائله ملك. وأنشد للوليد بن يزيد:

اسقني من سلاف ريق سليمى
واسق هذا النديم كأسًا عقارا

أما ترون إلى إشارته وقوله: «هذا النديم» فإنها إشارة ملك.

المأمون وعلوية المجنون

دخل علوية المجنون يومًا على المأمون وهو يرقص ويصفق بيديه ويغني بهذين البيتين:

عزيزي من الإنسان لا إن جفوته
صفا لي ولا إن صرت طوع يديهِ
وإني لمشتاق إلى ظل صاحب
يروق ويصفو إن كدرت عليه

فسمع المأمون والحاضرون ما لم يستمعوا قبلًا، وقال المأمون: ادنُ يا علوية ورددهما. فرددهما عليه سبع مرات، فقال المأمون: يا علوية خذ الخلافة وأعطني هذا الصاحب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤