النار لا تحرق!

استيقظ الشياطين في الصباح، وهم يشعرون بنشاط كبير، حتى إنَّ «رشيد» قال: أتمنَّى الآن أن أخوض معركة أخرى مع «داندي»؛ فأنا في أتم لياقة.

ضحك «فهد» وقال: إن «داندي» يستمتع الآن بالحديد الموثق به يداه، والتحقيقات التي يُجريها رجال الشرطة معه، فمعركتُه معهم.

بسرعة كانوا جميعًا قد انتهَوا من شرب الشاي باللبن، وتناول قليلًا من الفاكهة وساندويتشًا صغيرًا، وفي دقائق كانوا يغادرون مقرَّهم الهادئ متجهين إلى حيث مدينة المنظمة … كانت المدينة تبعد عشرين ميلًا خارج مدينة «إنتويرب»، وكما قال التقرير إنها تمثِّل ما يُشبه ضيعة كبيرة. كان الصباح منعشًا، حتى إنَّ «عثمان» أخذ يُدندن بالأغنية السودانية التي يُحبُّها. إن الذي يرى الشياطين في هذه اللحظة لا يظن أبدًا أنهم في طريقهم إلى معركة شرسة. كانوا وكأنهم في رحلة صيد؛ فلم يكن أحد منهم يتحدث عن المغامرة. كانوا قد رتبوا كلَّ شيء أمس، ولم تكن هناك خطوة لم يستعدوا لها؛ ولهذا كانوا ينطلقون في مرح زائد.

نظر «أحمد» إلى عداد المسافات، فعرف أنه لا تزال هناك عشرة كيلومترات أخرى. فكَّر: هل يمكن أن تكون مدينة المنظمة بلا حراسة؟

أجاب في نفسه: من المؤكد أنَّ هناك حراسة، وهناك أجهزة إنذار مبكر.

نظر إلى الشياطين، وقال: علينا أن نكون حذرين في المسافة الباقية؛ فالمؤكد أن هناك حراسة، وربما تكون هناك أجهزة إنذار أيضًا.

ردَّ «فهد»: هذا ضروري، وعلينا أن نستخدم أجهزةَ التشويش؛ حتى لا تكشفَنا أجهزة الإنذار.

قال «عثمان»: إنَّنا ينبغي أن نترك السيارة قبل أن نَصِل إلى نصف المسافة الباقية، وأن نقطع الباقي مشيًا؛ فنحن خارج السيارة نكون أكثر حركة، ونحن داخلها نكون في سجن.

عَلَّق «أحمد»: هذه وجهة نظر صحيحة.

ثم أضاف: بجوار أننا لن ندخل المدينة نهارًا، والوقت أمامنا طويل.

عندما أعلن عداد المسافة أنَّ الباقي خمسة كيلومترات فقط، أوقف «فهد» السيارة على جانب الطريق، ثم قال: يجبُ أن نُخفيَها حتى نعود إليها مرة أخرى.

نظر حوله، كانت الحقول مُمتدة حتى نهاية البصر، وكانت هناك مجموعة أشجار على يمين الطريق.

همس رشيد: إنه مكان جيد لإخفاء السيارة.

نزل الشياطين بسرعة، وتقدَّم «فهد» بها حتى مجموعة الأشجار التي كانت تبعد مسافة كافية … وخبَّأها حتى لا تلفتَ نظرَ أحد. وعندما أوقفها في مكان مناسب عاد مسرعًا. انضم إليهم، وبدأت رحلتهم سيرًا على الأقدام، كان «أحمد» يُمسك ساعة صغيرة يقيس بها المسافة حتى لا يفاجئَهم أيُّ شيء في المكان. وعندما أشارت الساعة إلى المسافة الباقية، وكانت كيلومترًا واحدًا، قال: الآن نستعد، إن الخطوات القادمة سوف تحمل مفاجآتها.

وكان توقُّعُ «أحمد» صحيحًا تمامًا؛ فما كادوا يخطون عدة خطوات حتى كانت سيارة جيب تظهر أمامهم.

قال «أحمد» مبتسمًا: هذه تمامًا أولى المفاجآت.

ابتسم «رشيد» وعلَّق: إنها مفاجأة مبكرة.

اقتربَت السيارة التي كانت تُقلُّ أربعةً من الرجال الأشداء. وعندما توقَّفَت قال الرجل الجالس بجوار السائق: هذه منطقة ممنوعة، لعلكم لم تقرءوا اللافتة الموجودة على أول الطريق.

ابتسم «أحمد» وقال: صباح الخير يا سيدي، الحقيقة أنه لم يلفت نظرَنا شيءٌ.

سأل الرجل: من أيِّ اتجاه أتيتم؟

أجاب «أحمد»: من اتجاه الشرق.

قال الرجل: إنَّ اللافتات موجودة في كل اتجاه، عليكم أن تعودوا من حيث أتيتم.

قال «أحمد» مبتسمًا: هل هي منطقة عسكرية؟

أجاب الرجل: إنها شيء يُشبه ذلك، ولا داعيَ لكثرة الأسئلة.

ثم رمقهم بنظرة طويلة، وأضاف: أنتم شبابٌ صغار، ويبدو أنكم غرباء.

قال «أحمد»: هذا صحيح، ونحن في رحلة.

فجأة تردَّد جرس، ورفع الرجل سماعة تليفون. أخذ يُنصت قليلًا ويهزُّ رأسه، في نفس الوقت الذي كانت فيه ملامحُه تتغير إلى مزيد من القسوة، وعندما وضع السَّماعة دون أن ينطق بكلمة واحدة نظر إلى بقية الرجال، فقفز اثنان من السيارة، كان كلٌّ منهم يحمل مسدسًا مدلًّى من وسطه.

ابتسم «أحمد» وقال: هل هناك شيء يا سيدي؟

قال الرجل في غلظة: سوف تعرفون هناك.

أشار أحد الرجلين لهم أن يركبوا السيارة، فابتسم «أحمد» وهو يقول: إنها لا تتسع لنا جميعًا.

ردَّ الرجل: سوف تركبونها.

نظر «أحمد» إلى الشياطين، ثم قال: لا بأس أيها الأصدقاء، علينا أن نُحاول ذلك!

تقدَّم الشياطين، وقفزوا في السيارة الجيب، فلم يَعُد فيها مكان لأحد، لكنَّ الرجلَين اللذين كانَا على الأرض دفعَا الشياطين بقوة ثم قفزوا خلفهم، لم يكن أحدٌ من رُكَّاب السيارة يستطيع الحركة الآن، وكان ذلك في صالح الشياطين. تحرَّكَت السيارة في بطء. نظر «أحمد» إلى المجموعة نظراتٍ فهموها، كان «رشيد» يجلس خلف السائق مباشرة عندما أعطى «أحمد» إشارة بعينَيه.

خرجَت يدُ «رشيد» في قوة إلى السائق، فلم يستطع السيطرةَ على عجلة القيادة. في نفس اللحظة كان «فهد» و«عثمان» قد أمسك كلٌّ منهما برجل وقفزَا بهما من السيارة. أمَّا «أحمد» فقد أمسك القائد بقوة، فظلت السيارة تتأرجح حتى توقَّفت، وكانت هذه فرصة «رشيد» الذي ضرب السائق بقوة مرة أخرى.

وبذلك كانت هناك معركتان؛ واحدة في السيارة، بين القائد و«أحمد»، وبين السائق و«رشيد»، والأخرى على الأرض، بين «فهد» و«عثمان» والرَّجلين. استطاع قائد المجموعة أن يُمسك ذراع «أحمد» ثم جذبه بقوة، إلا أنَّ «أحمد» وضع قدمه في الحاجز بين قسمي السيارة، فأصبح من الصعب على القائد أن يُكمل جذْبَه إليه. أمَّا السائق فشعر بأن رأسه يدور من ضربتَي «رشيد»؛ فقد استطاع «رشيد» أن يقفز به من السيارة، ثم يُسدد له ضربة قوية أطاحَت به.

فجأة، كان «عثمان» و«فهد» قد أنهيَا معركتهما، وانضمَّا إلى «أحمد». جذب الاثنان قائدَ المجموعة بعنف، فسقط بينهما على الأرض. شعر «أحمد» بأنَّ ذراعه تؤلمه، لكن لم يكن هناك وقتٌ لذلك، ولم تمضِ عشرُ دقائق حتى كان الشياطين قد أنهوا المعركة.

أخذ كلٌّ منهم ثيابَ أحدِ الرجال، ورغم أنَّها كانت ضخمة إلا أنهم استطاعوا أن يتصرفوا فيها وأن يلبسوها. في نفس الوقت الذي قيدوا فيه الرجال، وأخفَوهم بين المزروعات، قفز «رشيد» إلى عجلة القيادة في السيارة، وقفز بقية الشياطين فيها، ثم أخذوا طريقهم في اتجاه المدينة، بعد قليل ظهرَت بوابة، كان عليهم عبورها، ضغط «رشيد» لاسلكي السيارة، فانفتح باب البوابة ومرُّوا في هدوء، وفجأةً اصطدمَت أعينُهم بالمدينة، مدينة ضخمة بيضاء اللون تحوطها الخضرة من كل مكان.

قال «أحمد» بسرعة: علينا أن نُحيطَ المدينة بالمواد الحارقة؛ فهي مليئة بالمواد الكيماوية، ولو اشتعل حريقٌ فإنَّ إطفاءه يُصبح صعبًا.

اتجه «رشيد» بالسيارة إلى مكان انتظار السيارات خارج المدينة، ثم غادروا السيارة، اتجه اثنان جهة الشرق، واثنان جهة الغرب، وحددوا النقطة التي سوف يلتقون فيها. كان «أحمد» و«فهد» في اتجاه الشرق، و«رشيد» و«عثمان» في اتجاه الغرب. أخرج «أحمد» من حقيبته زجاجة صغيرة، ثم بدأ يرش مسحوقًا لاصقًا يتمدد باستمرار؛ ولذلك فإنه كان يرش في مسافة ويترك الأخرى، ثم يتمدد المسحوق ليصنع في النهاية خطًّا … متصلًا يحوط المدينةَ كلَّها. استغرقَت العمليةُ خمسَ ساعات، حتى إنهم عندما التقَوا مرة أخرى كانت المدينة داخل حزام من المسحوق اللاصق الشديد الانفجار. كان النهار قد اقترب من نهايته، فقال «أحمد»: نحتاج لبعض الراحة حتى يدخل الليل. إن عملية رش المسحوق كانت شاقة فعلًا.

انضم الأربعة إلى بعضهم، واختفَوا داخل حزمة من نباتات السافانا. أخرج «أحمد» خريطة للمدينة، ثم بسطها أمام الشياطين، وحددوا منافذ الدخول وأماكن العلماء.

قال «أحمد»: أحسن وقت هو ساعة العشاء؛ فسوف يكون العلماء جميعهم في مكان واحد.

مرَّت لحظة قبل أن يقول: إنَّ مساكن العلماء كما هو واضح على الخريطة تقع في نهايتها … إنني أُفكر في الدخول إلى حيث يوجد د. «جوفير»، إنه يستطيع أن يُساعدنا تمامًا.

سأل «فهد»: هل تتحرك الآن؟

رَدَّ «أحمد»: إنَّ هذا هو أنسب وقت.

أضاف بعد لحظة: عندما أنتهي من لقاء د. «جوفير» سوف أُرسل لكم رسالة.

وفجأة قفز من بينهم، بينما كانت أضواء لمبات الكهرباء قد بدأت تنتشر في المدينة، كانت هناك بوابة قريبة، التصق بجوار السور الذي يحوط المدينة، ألقى نظرة سريعة فوجد الحارس يقف في يقظة كاملة. أخرج كُرة دخان صغيرة، ثم دفعها برفق في اتجاه الحارس … لحظة ثم بدأ الحارس يسعل، كانت فرصة؛ فقد قفز بسرعة، ثم ضربه ضربة جعلَته يصطدم بالحائط خلفه، جرَّه إلى داخل حجرته الصغيرة التي تقع بجوار البوابة، ثم نزع ملابسه ولبسها بسرعة، قيده وأدخله دورة المياه، وأغلق باب الحجرة واحتفظ بمفتاحها، ثم مشى في خطوات هادئة في اتجاه مساكن العلماء. قابله بعضُ العاملين، فرفع يدَه يحيِّيهم … وردوا التحية. ابتسم في نفسه؛ فالأمور تمشي بشكل طيب. عند بوابة المساكن كان هناك أحد الموظفين اقترب منه في هدوء، وعندما وقف أمام مكتبه أسقط كرة دخان بينما كان يتحدث إليه، لحظة ثم أخذ الموظف يسعل. انتهز «أحمد» الفرصة، وسحب الدفتر الذي أمامه. عرف أنَّ مسكن د. «جوفير» هو الغرفة رقم «٩٨». قفز بسرعة، كان ظلام الليل قد أحاط المدينة، وبدأت أنوارها تلمع في بعض الأماكن فيها. تقدَّم بسرعة في اتجاه المبنى الذي تقع فيه الغرفة «٩٨»، وعندما دخله كانت مفاجأة؛ فقد وجد نفسه وجهًا لوجه أمام د. «جوفير»، نظر له الرجل في دهشة، إلا أنَّ «أحمد» جذبه من يده في رفق إلى داخل غرفته، وبسرعة شرح له كلَّ شيء. كان الرجل ينظر إليه في دهشة، وقد ملأَت وجهَه ابتسامةٌ طيبة، وفي دقائق كان قد اتفق معه على كلِّ شيء، ثم خرج معه في هدوء. اتجه د. «جوفير» إلى المطعم في الوقت الذي اتجه فيه «أحمد» إلى البوابة، لكن المسألة لم تكن سهلة؛ ففجأة تردَّدَت صفارات الإنذار، وخرج الحراس من كل مكان. التصق «أحمد» بجدار أحد المباني ووقف يرقب. كانت المدينة قد انقلبَت رأسًا على عقب. فجأة هبط شيءٌ ثقيل على كتفه. التفتَ بسرعة فوجد عملاقًا يُمسك بكتفه. لم يُضِع وقتًا، قفز بقوة واصطدم بالعملاق الذي تأرجح، وكانت هذه الحركة كافية لأن يقفز «أحمد» في الهواء يضربه بقوة، فأوقعه على الأرض، وقبل أن يستعيدَ توازنه للوقوف كان قد قفز مرَّة أخرى، ونزل على العملاق، فصرخ العملاق من الألم. في نفس اللحظة كان «أحمد» قد أخرج حبلًا ينتهي بخطاف، ثم رمى به في براعة، فاشتبك في نهاية السور، وفي رشاقة صَعِد بسرعة حتى أصبح خارج المدينة، وعندما لامسَت قدماه الأرض أعطى إشارة للشياطين، ثم أرسل رسالة سريعة إلى رقم «صفر»، فجأة شاهد النار تجري في المسحوق اللاصق بسرعة رهيبة، وارتفع لهيب النار إلى ما فوق السور، حاصرَت النار المكان فأصبح وكأنه النهار. جرى بسرعة في اتجاه الشياطين الذين كانوا يحرسون البوابة، وفجأةً ملأَت وجهَه سعادةٌ غامرة؛ فقد شاهد العلماء يخرجُون من البوابة، وفي مقدمتهم د. «جوفير»، في نفس اللحظة سمع أزيز طائرات، وامتلأ الفضاء بطائرات … الهليوكوبتر التي هبطَت في الضوء الذي كان يملأ المكان. وقف الشياطين ينظرون إلى رجال الشرطة وهم يدخلون المدينة … في الوقت الذي كان العلماء يتجهون إلى الطائرات، ووقعَت عينَا «أحمد» على العالِمَين العربيَّين. في نفس اللحظة … وصلَته رسالة من رقم «صفر» يهنئ الشياطين بنجاح مغامرتهم، ويطلب منهم العودة سريعًا، بينما كان هناك عددٌ كبير من العاملين في المنظمة يخرجون مكبَّلين بالحديد في حراسة الشرطة.

فجأة هدأ اشتعال النار، وساد المكانَ هدوءٌ عميق لم يقطعه سوى صوت الطائرات التي بدأت تحلِّق في طريق العودة. تقدَّم أحد رجال الشرطة وحَيَّا الشياطين تحيةً عسكرية وهو يقول: إنني من رجال الأمم المتحدة، لقد صنعتم شيئًا رائعًا.

تبادلوا التحية، ثم أخذوا طريقَهم إلى إحدى سيارات الشرطة التي قامت بتوصيلهم إلى سيارتهم. وعندما استقلوها أخذ «عثمان» يُغنِّي أغنيته السودانية المفضلة، بينما السيارة تقطع الطريق في هدوء.

وقال «أحمد»: إنَّ المسحوق اللاصق أعطى نتيجة هائلة؛ فهو يصنع نارًا لا تحرق.

وضحك الشياطين وهم يشتركون مع «عثمان» في الغناء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤