الفصل العاشر

توصيات للعلاج وإعادة التأهيل

لا يمكنني إنهاء هذا الكتاب دون تقديم توصيات بشأن كيفية إصلاح ما ذكرته من جوانب سلبية للغاية في سجوننا، ولا سيما فيما يتعلق بالسجناء المضطربين عقليًّا. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: على أي مستوًى ستكون هذه التوصيات؟ فهل يكفي أن نقول إننا بحاجة إلى توظيف ضعف عدد الأطباء النفسيين العاملين في السجون أو ربما أربعة أضعافهم؟ نعم، هذا سيفيد إلى حدٍّ ما. فمن خلال هذه الخطوة، سيفحص الأطباء عددًا أكبر من السجناء المصابين باضطرابات خطيرة، وسيكون بإمكان الموظفين قضاء فترة أطول في التحدث معهم. لكن ذلك لن يغير من حقيقة تعرض الكثير من المرضى النفسيين للإيذاء وانتهاء الحال بالعديد منهم في الحبس العقابي. والاكتفاء بإعطاء أدوية لسجين يتعين عليه ألا يبرح زنزانته طوال اليوم بمنزلة علاج غير مقبول على الإطلاق للأمراض العقلية، ويسفر في النهاية عن اضطرابات عقلية أسوأ ويتسبب في خطر عام هائل.

يتبع تاريخ الحبس بالسجون نمطًا دوريًّا عادةً. فأولًا، استجابةً للأهوال والانتهاكات التي تشهدها فترة العقاب القاسي، تكون هناك موجة من الإصلاح بالسجون تزخر بالادعاءات المتفائلة لإعادة تأهيل المجرمين. وبعد فترة، ونظرًا لعدم الاهتمام أو ربما نتيجةً لتراجع التعاطف مع مخالفي القوانين أثناء فترة من عدم الأمان الاقتصادي، يحدث تدهور في أحوال السجون وانهيار في البرامج التي وُضعت في الأساس لما يُتوقع منها من إعادة التأهيل. وفجأة، يتم اعتبار هذه البرامج غير فعالة أو وصمها بأنها «مدللة للسجناء». ويلي ذلك فترة من التحكم المتسلط القاسي في السجون، يصحبها قدر كبير من السادية التي لا رادع لها من جانب الحرَّاس. وتنتشر الانتهاكات التي يتعرض لها السجناء. وفي النهاية، يتم تجاوز خط معين فيما يتعلق بما يقبله المواطنون الشرفاء، ويدق ناقوس الخطر، وتتصدر الصحف عناوين مثيرة، ويثور العامة مجددًا؛ ما يؤدي إلى مطالبات جديدة بالإصلاح.

وجودة برامج الصحة العقلية بالسجون تميل للتأرجح مع مواقف العامة بشأن إعادة التأهيل بوجه عام. فعندما يتم وقف البرامج التثقيفية وبرامج التدريب المهني، ويصاب معظم السجناء بالكسل والخمول، يقل بالتأكيد تمويل برنامج علاج الصحة العقلية على نحو كبير، ويصبح قاصرًا بشكل أساسي على وصف الأدوية للسجناء المصابين باضطرابات. وعندما تصبح إعادة التأهيل بوجه عام أولوية داخل المؤسسات العقابية، تزدهر جهود إعادة التأهيل والعلاج النفسي، ويحظى السجناء الذين يعانون اضطرابات نفسية بالدعم في سعيهم للاستفادة من كل برامج إعادة التأهيل والعلاج المتاحة.

بعبارة أخرى، عندما يكون هدف المؤسسات العقابية هو «الإصلاح» أو إعادة تأهيل المجرم، يُنظَر إلى رعاية الصحة العقلية المناسبة على أنها مكوِّن ضروري في مشروع إعادة التأهيل بمفهومه الأوسع. وعلى الجانب الآخر، عندما يكون العقاب القاسي هو الهدف الوحيد من الحبس — كما هو الحال إلى حدٍّ بعيد حاليًّا — يقل بوجه عام الإيمان بإمكانات إعادة التأهيل بالسجن، ويقل الاهتمام بحاجة السجناء الذين يعانون اضطرابات عقلية خطيرة وطويلة المدى إلى العلاج.

لقد وصلنا حاليًّا إلى مرحلة انتشرت فيها القسوة والوحشية داخل السجون، وصار العامة على وعي بمدى انتشار هذه الوحشية؛ لذا، فالتوقيت الآن مناسب لاقتراح توصيات لإحداث تغيير إيجابي.

•••

تتضمن توصياتي بتحسين خدمات الصحة العقلية داخل السجون وحل أزمة الصحة العقلية تغييرات على ثلاثة مستويات:
  • (١)

    لا بد من تحسين خدمات الصحة العقلية وبرامج إعادة التأهيل النفسي داخل السجون. وسأذكر فيما بعد عشرة مكونات أساسية لهذا التحسين.

  • (٢)

    نحن بحاجة إلى تغيير السجون كمؤسسات، بما في ذلك تجديد برامج إعادة التأهيل العامة وإنهاء استخدام وحدات الحراسة المشددة.

  • (٣)

    وأخيرًا، ثمة حاجة إلى إجراء تغييرات على المستوى المجتمعي. فيجب وضع نهاية للازدحام في السجون وصور التفرقة العنصرية في إصدار الأحكام، وعلينا أيضًا التوقف عن إرسال المدانين في جرائم المخدرات غير العنيفين والمجرمين المصابين باضطرابات عقلية إلى ساحات السجون مع القتلة والمغتصبين، ولا بد من إجراء تحسينات هائلة في نظام الصحة العقلية العامة.

سوف أذكر بعض البرامج النموذجية الموجودة بالفعل في الولايات المتحدة وجميع أنحاء العالم التي توضح أن ثمة أسلوبًا أفضل يمكن اتباعه في السجون. ومصير السجناء المصابين بأمراض عقلية يعتمد على التزامنا كمجتمع بتصور طرق أفضل لتحقيق العدالة الجنائية وتنفيذها.

(١) عشرة مكونات أساسية لأي برنامج صحة عقلية

يمكننا البدء بالمكونات الستة التي تحدد برنامج علاج الأمراض العقلية ذا الحد الأدنى من الملاءمة، وهي المكونات التي صاغتها المحكمة الإقليمية الفيدرالية في قضية رويس ضد إستيل عام ١٩٨٠، وتشمل إجراء فحص منتظم وعلاجًا يتضمن ما هو أكثر من العزل ويضم عددًا كافيًا من متخصصي الصحة العقلية لتقديم الخدمات الملائمة لجميع السجناء الذين يعانون اضطرابات عقلية خطيرة (انظر «الحد الأدنى من معايير الرعاية» في الفصل الثالث).

لكن هذه الصياغة في صورتها الأصلية أبعد ما تكون عن الملاءمة. على سبيل المثال، السجناء الذين يعانون «أمراضًا عقلية خطيرة» ليسوا وحدهم مَن يحتاجون إلى العلاج. فالسجناء، أيضًا، الذين لديهم مشكلات مع تعاطي المخدرات ومَن يعانون توارد التجارب القاسية على أذهانهم ونوبات الهلع الناجمة عن الاغتصاب يحتاجون كذلك إلى خدمات صحة عقلية عالية الجودة؛ ولذا، سوف أتوسع في توضيح المكونات الستة المحددة في قضية رويس، مع إضافة عناصر أخرى إليها لتصبح عشرة مكونات.

ما أعتقد أن المحاكم لا بد أن تطالب به هو نظام يقدم ما يلي:

(١-١) مستويات شاملة من الرعاية

أنظمة رعاية الصحة العقلية لا تعدو كونها أنظمة. فلا بد من وجود عنابر رعاية نفسية داخلية، وعيادات خارجية، وخدمات طوارئ، وبرامج علاج يومية، وتدبير علاجي للحالات، ومنازل انتقالية، وحياة مدعومة في المجتمع، وبرامج تدريب مهني، وما إلى ذلك. وبالمثل، لا بد أن تتضمن خدمات الصحة العقلية بالمؤسسات العقابية نظامًا شاملًا إذا أردنا تحقيق ما هو أفضل من تقديم الأدوية للسجناء وإيداعهم الزنزانات.

وهناك حد أدنى من المعايير للرعاية الصحية بالمؤسسات العقابية،1 وهي المعايير التي نشرتها كلٌّ من اللجنة الوطنية للرعاية الصحية في المؤسسات العقابية، والجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين، والجمعية الأمريكية للصحة العامة. وتُجري اللجنة الوطنية للرعاية الصحية في المؤسسات العقابية عمليتي تفتيش واعتماد للسجون والمؤسسات العقابية التي تلتزم بهذه المعايير. لكن هذه المعايير تكون مُجرَّدة للغاية عادةً. ومثال على ذلك هذه العبارة المقتبسة من معايير اللجنة الوطنية في نسختها الصادرة عام ١٩٩٧: «تتطلب السياسة المكتوبة والإجراءات المحددة وأدلة الممارسة الفعلية أن يكون لدى السجن ترتيبات مكتوبة لتوفير خدمات الرعاية بالمستشفيات والرعاية الجوَّالة المتخصصة للأمراض الطبية والعقلية في المرافق التي تفي بمتطلبات الترخيص الخاصة بالولاية فيما يتعلق بخدمات الرعاية بالمستشفيات.»2

عمليًّا، لا يمكن القول إن جميع السجناء الذين يحتاجون إلى العلاج بالمستشفيات والعيادات الخارجية يحصلون على هذه الخدمات. فقد اكتشفتُ أن الكثير من السجناء المصابين باضطرابات عقلية خطيرة يجلسون في زنزاناتهم في خمول وتكاسل دون رعاية نفسية مناسبة في سجون نالت التصديق. فما من إجراء قانوني يمكن أن يضمن توفير مستوًى مناسب من رعاية الصحة العقلية، وما من نظام تصديق مضمون ومؤكد. وفي الوقت الحالي، ليس هناك إلزام — بموجب قانون فيدرالي أو قانون يتعلق بإحدى الولايات — لأنظمة السجون بالحصول على تصديق. ومن الخطوات الإيجابية الأولى نحو تحسين خدمات الصحة العقلية بالمؤسسات العقابية إلزام جميع أنظمة السجون بتلبية الحد الأدنى من المعايير والحصول على التصديقات الموجودة حاليًّا.

ليس هناك ما يُلزِم أنظمة السجون بتقديم «علاج بالمحادثة» مكثف أو توفير إقامة طويلة المدى للسجناء الذين يعانون اضطرابات نفسية في مستشفيات مريحة. فهذه صور من الرفاهية تقتصر على مَن يستطيعون تحمل تكاليفها. لكن مثلما يملك الشخص المُشرَّد في المجتمع، الذي يعاني الهلاوس، الحق في الحصول على فحص نفسي دقيق، والأدوية متى كان ذلك ملائمًا، ودخول أحد مستشفيات مقاطعته عند الضرورة، والتدبير العلاجي لحالته ليصل إلى أفضل مستويات أدائه، يحق كذلك للسجين الذي يعاني اضطرابًا عقليًّا خطيرًا الحصول على مجموعة متنوعة من الخدمات التي تهدف إلى الحد من معاناته المباشرة وإعاقته طويلة المدى.

ومعظم السجون التي تجولت فيها تحتوي على عنبر داخلي للعلاج النفسي أو لديها تعاقدات مع أحد المستشفيات أو المراكز الطبية الجامعية القريبة منها لتقديم رعاية داخلية للمرضى. لكن هناك مشكلات في العديد من السجون، منها النقص النسبي في الأسرَّة، والقِصر الشديد في مدة الإقامة بالمستشفيات، ونقص ما يتمتع به موظفو الصحة العقلية في السجون من صلاحيات تمكنهم من إدخال السجناء، الذين يحتاجون إلى رعاية داخلية، إلى الوحدات الخاصة بهذه الرعاية.

أوصي هنا بمنح الأطباء النفسيين الذين يعملون في السجون «مزايا إدخال المرضى مباشرةً إلى المستشفيات». بعبارة أخرى، عندما يكتشف طبيب نفسي، يعمل في وحدات الحبس الاحتياطي أو في أحد السجون العامة، مريضًا يعاني ميولًا انتحارية أو ذهانًا حادًّا، ويرى أنه بحاجة إلى إدخاله المستشفى، يمكنه كتابة أمر بذلك وتمكين المريض من دخول المستشفى دون الحاجة إلى تقييم ثانٍ عند بوابة المستشفى من جانب موظفي قبول المرضى. بالإضافة إلى ذلك، لا بد من توافر الإجراءات التي تضمن عدم رفض السجين الذي هو بحاجة إلى دخول المستشفى؛ نظرًا لعدم كفاية الأسرَّة. وبالطبع، كل نظام سجون له مجموعة من المشكلات الخاصة به التي ينبغي العمل على حلها.

والسجناء الذين يعانون انهيارات انفعالية شديدة على نحو يتطلب دخولهم مستشفيات الأمراض النفسية سيحتاجون على الأرجح إلى أن يتم إيداعهم بيئة إصلاحية يتمتعون فيها بالحماية والدعم بعد خروجهم من هذه المستشفيات. وافتقار هؤلاء السجناء للبيئة الداعمة وتركهم يتصرفون كما يشاءون يجعلهم يقعون في المشكلات بتعرضهم للإيذاء أو بخرقهم للقانون. ويتوقف الكثيرون منهم عن الحصول على الأدوية الموصوفة لهم، ويعانون انتكاسات. وهؤلاء السجناء المضطربون عقليًّا يحتاجون إلى برامج علاج وسيطة، وأماكن يتمتعون فيها بقدر من الحماية من الخطر والدعم لجهودهم الهادفة لفهم أمراضهم العقلية وأسباب احتياجهم للالتزام بالعلاج. كما يحتاجون أيضًا إلى المشاركة في أنشطة اجتماعية هادفة وخاضعة للإشراف، مثل جلسات الإرشاد النفسي الجماعية، والفصول الدراسية، والتدريب المهني، والاستجمام الخاضع للإشراف.

سبق أن ذكرت خدمات أخرى أيضًا يحتاج إليها السجناء المصابون بأمراض عقلية. على سبيل المثال، يحتاج هؤلاء السجناء إلى متابعين لحالاتهم في أي مكان في السجن والتأكد من ابتعادهم عن المخاطر ومشاركتهم في البرامج التي ستساعدهم على الأرجح في الحفاظ على استقرارهم الانفعالي. ويحتاجون أيضًا إلى شخص يتولى إعطاءهم الأدوية، بالإضافة إلى طبيب نفسي يقضي وقتًا كافيًا في التحدث معهم، ويأخذ شكواهم بشأن الآثار الجانبية للأدوية على محمل الجد، ويراقب مستويات كيمياء الدم لديهم، ويكتب الملاحظات المناسبة في التقارير الخاصة بهم. كذلك لا بد من توافر عدد كافٍ من الاختصاصيين الاجتماعيين غير المُثقَلين بالأعباء للتحدث مع أسرة السجين وإجراء زيارات منزلية في حالات الطوارئ، كما يحدث عندما تعاني زوجة السجين أو طفله مشكلةً خطيرة، أو عندما يكون تدهور الحالة العقلية للسجين ناتجًا عن ضعف التواصل مع ذويه. ولا بد من توافر مجموعة متنوعة من طرق العلاج داخل السجون كي يتسنى توفير الخدمات التي يحتاج إليها السجناء ذوو الاحتياجات والإعاقات المختلفة.

(١-٢) منع الانتحار

نحن نعلم كيفية منع حالات الانتحار.3 وتشمل العناصر الأساسية في هذا الشأن تدريب الموظفين، ورفع درجة اليقظة، واتخاذ الإجراءات اللازمة للملاحظة المباشرة، ووضع برامج العلاج المناسبة للسجناء الذين يمثِّلون خطرًا وشيكًا. في أغلب الأحيان، لا يكون السجين الذي يفكر في الانتحار خاضعًا للعلاج. ويمكن تدريب موظفي السجون على البحث عن أدلة واتخاذ خطوات فعالة لمنع الانتحار.

بمجرد معرفة أن أحد السجناء يشكِّل خطرًا كبيرًا في ميوله الانتحارية، لا بد أن يتم عرضه على أحد متخصصي الصحة العقلية، كما يجب اتخاذ الاحتياطات اللازمة للتأكد بما فيه الكفاية من أنه لن يقتل نفسه. ونحن نعلم الأمور التي يجب الامتناع عن فعلها، فيجب عدم إيداع هذا السجين في الحبس الانفرادي. والمراقبة الدائمة تمثل مكوِّنًا أساسيًّا في العلاج.

من الممكن وصف أدوية للمرضى مثل الأدوية المضادة للذهان التي تُعطى للمريض الذي يعاني الأوهام ويسمع أصواتًا بداخله تأمره بقتل نفسه. ومثلما أوضحُ في الفصل الثامن، تتطلب الأدوية المضادة للاكتئاب بضعة أسابيع كي يظهر مفعولها، ولذلك من غير المقبول على الإطلاق أن يكتفي الطبيب النفسي الذي يزور السجين الذي لديه ميول انتحارية بمجرد الوقوف على باب زنزانته، ووصف دواء مضاد للاكتئاب له.

فالسجين يحتاج إلى شخص يتحدث معه بعمق ليتوصل إلى سبب اليأس الشديد الذي يعانيه. والتدخل باهتمام يمنح السجين شعورًا بأن هناك مَن يهتم به ويحاول مساعدته. وفوق كل ذلك، لا بد من وجود إصرار من جانب المديرين والموظفين والأطباء السريريين المتخصصين في الصحة العقلية على وضع برنامج قوي لمنع الانتحار.

(١-٣) العلاج الجماعي ومشكلات خاصة

إن العلاج الجماعي ضروري للسجناء الذين يعانون اضطرابات عقلية خطيرة، ويشمل على سبيل المثال لا الحصر المجموعات العلاجية التي تركز على حاجة السجناء المضطربين عقليًّا لفهم حالتهم المرضية والالتزام بأنظمتهم الدوائية.

علاوةً على ذلك، أثبت العلاج الجماعي وجلسات الإرشاد النفسي الجماعية التي تركز على مشكلات محددة — مثل تعاطي المخدرات، والعنف الأسري، ومشكلات تربية الأبناء — فعاليته الكبيرة مع مجموعة أكبر بكثير من المجرمين في السجون. لكن في معظم السجون التي تجولت فيها، هناك عدد قليل نسبيًّا من المجموعات العلاجية. ويبرر الأطباء النفسيون ذلك بانشغالهم الشديد بوصف الأدوية؛ ما يحول دون عقدهم للمجموعات العلاجية. كما يشير اختصاصيو علم النفس إلى أنهم يقضون معظم وقتهم في كتابة التقارير للمحاكم ومجالس إطلاق السراح المشروط. والعديد من موظفي الصحة العقلية يشكُون من أنهم غير مُدرَّبين تدريبًا كافيًا على أسلوب العلاج الجماعي.

لقد شهدتْ برامج العلاج من المخدرات والكحوليات تقدمًا هائلًا في السنوات الأخيرة، وتوضح الدراسات التي أُجريت حول النتائج المتحققة من هذه البرامج مدى نجاحها في مساعدة عدد كبير من الناس في تجنب المخدرات والكحوليات. هناك تقارير عن برامج علاج من الإدمان تحقق نجاحًا داخل السجون، لكن عددًا قليلًا نسبيًّا من أنظمة السجون تقدم برامج تثقيفية وعلاجية جادة للسجناء الذين لديهم تاريخ سابق من تعاطي المخدرات والكحوليات. لذا، يجب جلب الخبراء في مجال تعاطي المخدرات إلى السجون لتدريب الموظفين ووضع برامج متطورة تهدف للحد من احتمالات عودة السجناء إلى الإدمان على اختلاف أنواعه بمجرد خروجهم من السجون.

وبالمثل، فإننا نعلم من الدراسات التي أُجريت على النتائج المتحققة من المجموعات التثقيفية والعلاجية، التي تُدار جيدًا، أن تلك المجموعات تقلل من احتمالات العودة إلى الإجرام لدى مرتكبي جرائم العنف الأسري والاعتداء الجنسي. ولا أعني هنا أن المدانين بهذه الجرائم العنيفة يجب العفو عنهم بسبب اضطرابهم العقلي، ولا أن «يُدلَّلوا». وإنما يجب أيضًا ألا يُترَك هؤلاء السجناء ليقضوا مدة عقوبتهم دون أية فرصة للإصلاح من أنفسهم. فمهما كانت جسامة جرائمهم، فإن تركهم يعانون صدمات الحياة بالسجن دون أية فرصة للعمل على حل المشكلات التي يعانونها سيجعلهم يعودون على الأرجح إلى الجريمة بعد خروجهم من السجن. ومن شأن تقديم برنامج علاج جماعي جاد لهم يديره خبراء في المشكلات التي يعانونها أن يؤدي إلى انخفاض هائل في احتمالات عودتهم إلى الجريمة. نحن نعلم أن بعض الرجال الذين لديهم نزعة للعنف لن تجدي معهم مثل هذه الجهود، لكن علينا أن نفكر في كل الحالات التي سيُحدِث فيها هذا التدخل اختلافًا.

إن البرامج الإصلاحية الهادفة لإعادة تدريب الرجال على التعبير عن أنفسهم ووضع حل لخلافاتهم دون اللجوء للعنف تكون غالبًا برامج رمزية، في أفضل الأحوال. على سبيل المثال، يضيف القضاة في الكثير من الولايات إلى الأحكام التي يصدرونها في قضايا العنف الأسري والاعتداء الجنسي شرطًا بأن يخضع المُدان للعلاج قبل إطلاق سراحه من السجن. وفي الكثير من السجون شديدة الازدحام، يُؤجَّل تنفيذ هذا العلاج الإلزامي حتى العام الأخير من مدة عقوبة السجين. ويعني ذلك أن السجين سيتأثر معظم مدة عقوبته بثقافة السجن؛ الأمر الذي سيزيد على الأرجح من غضبه وسيعلمه فقط التصرف على نحو أكثر عنفًا، ثم يوضَع بعد ذلك في العام الأخير من حبسه في برنامج علاج جماعي للمتهمين بالضرب أو الاعتداء الجنسي في إطار الاستعداد لإطلاق سراحه من السجن. ليس مستغربًا، إذن، أن هذه المجموعات العلاجية تفشل في أغلب الأحيان. وكبديل عنها، يجب نقل التدخلات التي أثبتت نجاحًا في وضع حد للعنف لدى الرجال في المجتمع العادي إلى السجون بهدف وقائي وهو حماية جميع السجناء الذين هم عرضة لارتكاب هذه الجرائم طوال فترة بقائهم في السجون.

لا بد من توفير علاج للصحة العقلية أيضًا للناجين من جرائم العنف، وهناك العديد من هؤلاء الناجين في السجون. فلنا أن نفكر، مثلًا، في الإناث الناجيات من التحرش في طفولتهن ومن العنف الأسري في مرحلة المراهقة. من المعروف أن جلسات الإرشاد النفسي الجماعية فعَّالة للغاية في تعزيز تقدير الذات لدى السيدات، ومساعدتهن في تجاوز صدمات الماضي التي تعرضن لها، وتشجيعهن على اتخاذ خيارات أفضل عند مغادرتهن السجن. ويمكن للمجموعات العلاجية الخاصة بالناجين الذكور أيضًا تحقيق نتائج مشابهة.

والبرنامج العلاجي يمكن أن يساعد ضحايا الاغتصاب في السجن على التكيُّف مع نتائج الصدمة المروعة التي تعرضوا لها. وهذا البرنامج يمكن صياغته استرشادًا ببرامج العلاج الناجحة لحالات الاغتصاب والاعتداء الأسري الموجودة في المجتمع العادي. على سبيل المثال، يمكن تدريب موظفي الأمن والصحة العقلية على توفير مكان آمن للضحية لتتعافى فيه. وعلى الأقل، يمكن تدريبهم على تجنب إعادة تعريض الضحية للصدمة التي عانتها عن طريق إرغامها على تحديد هوية المعتدي أو إيداعها الحبس العقابي. فالسجناء الذين يعانون أعراض اضطراب توتر ما بعد الصدمة، يحتاجون إلى علاقة علاجية موثوقة يمكنهم من خلالها تجاوز صدمة الاغتصاب أو الصدمات المتعددة التي تعرضوا لها على مدار حياتهم.

وهناك حاجة أيضًا لأنواع أخرى من المجموعات. على سبيل المثال، يمكن لمجموعات التحكم في الغضب أن تكون فعَّالة للغاية، وكذلك المجموعات المُعدة لمساعدة السجناء على فهم دورهم كآباء وتجاوز حزنهم بشأن انفصالهم عن أحبائهم. وجلسات الإرشاد الجماعي من شأنها مساعدة السجناء، الذين تكون نتائج فحص فيروس نقص المناعة البشرية الخاصة بهم إيجابية أو المصابين بالإيدز، في تجاوز حزنهم ومجابهة أزمتهم. والخبرات الجماعية، سواء الهادفة للعلاج أو للتثقيف النفسي، تقدم للسجناء ممن لديهم الاستعداد بديلًا مهمًّا للعزلة التي تهيمن على الحياة داخل السجن.

(١-٤) برامج إعادة التأهيل النفسي4

لقد تحوَّل التركيز في برامج الصحة العقلية العامة من نموذج العلاج النفسي إلى نموذج إعادة التأهيل النفسي. ويكمن السبب وراء ذلك في أن العلاج النفسي باهظ التكلفة وغير فعال نسبيًّا مع مَن لديهم اضطرابات حادة ويعانون مشكلات تعاطي المخدرات. لذا، بدلًا من تقديم العلاج الطويل المدى للأشخاص الذين يعانون اضطرابات عقلية دائمة وخطيرة، أُغلِقت العيادات الخارجية ونُقِلت الموارد إلى أنظمة العلاج اليومي، والمنازل الانتقالية، وبرامج دعم الحياة المستقلة، والتدريب المهني، والتدبير العلاجي للحالات؛ وتلك هي المكونات الأساسية لإعادة التأهيل النفسي الحديث.

وتركز إعادة التأهيل النفسي على أهداف العملاء، وتقلل من أهمية الخصائص النوعية للأمراض النفسية لديهم. وبدلًا من تشجيع الأشخاص المصابين بإعاقات نفسية على استكشاف صدمات الطفولة والنزاعات الداخلية لديهم، تهدف إعادة التأهيل النفسي إلى مساعدة هؤلاء الأشخاص على «الحياة والتعلم والعمل» في البيئات المجتمعية التي يختارونها. ويكون التركيز على «مهارات الحياة اليومية»، بما في ذلك الالتزام بالأدوية وتجنب العقاقير المحظورة والكحوليات والأنشطة الإجرامية. وينسق مدبر علاج الحالة خدمات الرعاية المجتمعية للعميل ويتابع تقدمها وأماكن وجودها.

وهذا النوع من التفكير والبرامج يمكن ترجمته بشكل مفيد إلى ما أُطلِق عليه اسم خدمات الصحة العقلية «الوسيطة» داخل السجون. وهذا ما يحدث بالفعل في العديد من المؤسسات العقابية. فبدلًا من إطلاق سراح السجين من عنبر العلاج النفسي الداخلي مباشرةً إلى عموم السجناء، يمكن تحديد طوابق أو مجموعة زنزانات معينة لتكون بمنزلة مرافق رعاية نفسية وسيطة، ويمكن الإشراف على السجناء الموجودين فيها وهم يمارسون أنشطتهم اليومية إلى أن يتعلموا كيفية التوافق مع الآخرين، والحصول على أدويتهم، ومواصلة ممارسة الأنشطة البناءة. ويمكن لمدبر علاج الحالات تنسيق الخدمات المقدمة لهؤلاء السجناء ومتابعتهم طوال مدة عقوبتهم في السجن. ومع هذا النوع من برامج إعادة التأهيل النفسي الداعمة، يتمكن الكثير من السجناء، الذين كانوا سيصيرون على الأرجح ضحايا أو مقيمين دائمين في وحدات الحبس المشدد، من التمتع بحياة أكثر إنتاجية واستقرارًا داخل السجن؛ ومن ثم، يشهد سير المرض لديهم، وفرصهم في التكيُّف مع حياة المجتمع بعد إطلاق سراحهم تحسنًا كبيرًا.

من الواضح أن ثمة جوانب مشتركة عديدة بين إعادة التأهيل النفسي والبرامج التي يتضمنها المبدأ العام لإعادة التأهيل بالسجون. فبرامج إعادة التأهيل العامة بالسجون، التي تشمل التثقيف وعلاج تعاطي المخدرات وفرص التدريب المهني، يجب توفيرها لجميع السجناء الذين لديهم الحافز لاستكمالها، بينما تقتصر إعادة التأهيل النفسي على الأشخاص الذين يعانون مشكلات نفسية. مع ذلك، فإن النوعين من برامج إعادة التأهيل يشتركان في مبادئ عديدة. على سبيل المثال، يهدف كلاهما إلى زيادة مهارات العملاء ومساعدتهم في الحفاظ على أعلى مستويات الجودة التي يمكنهم الوصول إليها في الحياة والإنتاجية. وكلاهما يستفيدان من الإرشاد النفسي والتدريب لمساعدة العملاء في التغلب على ما يعانونه من نقاط ضعف وإعاقات.

وبرامج إعادة التأهيل النفسي تحقق أفضل نتائجها في المؤسسات العقابية التي تقدم أيضًا مجموعة كبيرة من برامج إعادة التأهيل العامة. والسبب واضح؛ ففي المجتمع، تستخدم برامج إعادة التأهيل النفسي الموارد الموجودة بالفعل، بما في ذلك برامج الكليات المجتمعية، والمصانع التي لديها استعداد لتعيين عمَّال يعانون اضطرابات نفسية، والشقق المنخفضة الإيجارات، والجهات التي تقبل متطوعين مضطربين نفسيًّا، وما إلى ذلك. وكلما زاد عدد هذا النوع من البرامج، زادت الفرص المتاحة أمام مدبري علاج الحالات والموظفين في المنازل الانتقالية لإشراك عملائهم في أنشطة هادفة. وبالمثل، في السجون التي تتضمن فصولًا دراسية جامعية وورش عمل صناعية، يمكن لموظفي رعاية الصحة العقلية اتخاذ الترتيبات اللازمة لضم السجناء الذين يعالجونهم إلى أحد هذه الفصول أو إلى أحد أماكن التدريب، ويمكن أن يشرفوا بعد ذلك على أنشطتهم ويساعدوهم على النجاح فيما يقومون به من أنشطة ضمن البرنامج الأشمل لإعادة التأهيل داخل السجن.

(١-٥) برامج الصحة العقلية للسجناء المضطربين المُخلين بالنظام

ثمة مشكلة كبيرة في إدارة وعلاج السجناء الذين يتم اعتبارهم «مجانين» و«مشاغبين». وأفضل هنا استخدام مصطلح هانز توخ في وصف هؤلاء السجناء بأنهم «مضطربون مُخلِّون بالنظام».5 فمعظم أنظمة السجون تفتقر إلى برامج وبيئات العلاج المناسبة لهؤلاء السجناء. على سبيل المثال، يُرفَض دخول السجناء في معظم سجون الولايات إلى وحدات العلاج النفسي الداخلية إذا كان لديهم سجل بأعمال عنف متكررة ارتكبوها فيما مضى. وينتهي الحال بهؤلاء السجناء عادةً في وحدات الحراسة المشددة، حيث تسفر الظروف القاسية والخمول القسري عن تفاقم الاضطرابات العقلية التي يعانونها؛ ما يؤدي إلى مزيد من السلوكيات المخلة بالنظام من جانبهم، وبقائهم مددًا أطول في الحبس المشدد.

وتمثل هذه المجموعة من السجناء تحديًا صعبًا بالنسبة إلى موظفي السجون وموظفي رعاية الصحة العقلية على حدٍّ سواء. فيقضي أغلب السجناء مدد عقوباتهم، ثم يُطلَق سراحهم يومًا ما. لكنهم إذا تُرِكوا في زنزاناتهم إلى أن تنتهي مُدد عقوباتهم الأساسية، فسوف يتورطون على الأرجح في مشكلات فور إطلاق سراحهم من السجن. ومثلما ذكرت في الفصل الثالث، هذه المجموعة من السجناء «المجانين» و«المشاغبين» يحتاجون إلى برنامج مُعد لهم خصوصًا يوفر لهم الحراسة الأمنية اللازمة لمنع العنف، وكذلك العلاج الضروري للحد من العزلة والانتكاس. وهم بحاجة أيضًا إلى سبيل يمهد لهم الخروج إلى البيئة الاجتماعية، وهو الذي ييسره ويشرف عليه الخبراء في مجال الجناة الذين يتسمون بالعنف.

وهذا النوع من الاهتمام والتخطيط يحتاج إلى موارد. فالسجين المضطرب المخل بالنظام يتطلب عددًا أكبر من الموظفين — وليس أقل — مقارنةً بالسجين الذي تسهل إدارته. ولعل هذا هو السبب وراء إيداع أعداد كبيرة من السجناء ذوي الاضطرابات النفسية داخل زنزانة واحدة كبيرة، والاكتفاء بإعطائهم أدوية للعلاج النفسي. لكن التوفير قصير المدى في وقت الموظفين لا قيمة له؛ لأن إيداع السجناء ذوي الاضطرابات العقلية داخل زنزانة واحدة كبيرة لا يسفر إلا عن زيادة غضبهم وتدهور حالتهم النفسية؛ وبذا فهم يشكِّلون مشكلة إدارية أكبر على المدى الطويل، ومن ثم يستنزفون المزيد من موارد السجون، ويمثِّلون في النهاية تهديدًا أكبر على الأمن العام.

ويؤيد توخ استخدام «نظرية التعلم الاجتماعي» مع السجناء المضطربين المخلين بالنظام، بدءًا من تحليل نمط سوء السلوك لدى السجين. فلماذا يتصرف سجين أو مجموعة من السجناء على نحو مخل بالنظام؟ هل هناك مشكلة هيكلية في الوحدة التي يوجدون فيها، مثل تقديم وجبات غير صحية لهم؟ هل هناك ضابط معتدٍ محدد في نوبة معينة يثير غضبهم؟ هل تحدث حالات الإخلال بالنظام بعد حرمان السجناء من الوقت المخصص لهم في ساحة السجن؟ هل يحتاج السجين إلى أدوية علاج نفسي؟ هل عرف السجين مؤخرًا أن زوجته على علاقة بشخص غيره وتخطط للطلاق منه والحصول على حضانة أطفالهما؟ بتوزيع عدد أكبر من الموظفين في السجون، يمكن الكشف عن هذه الأنماط السلوكية ووضع استراتيجيات للعلاج.

(١-٦) مراجعة النظراء وضمان الجودة

ليس من الممكن وضع مجموعة ثابتة من التوجيهات تضمن جودة خدمات الصحة العقلية وملاءمتها في جميع المؤسسات العقابية. ويُعَد التصديق أو الاعتماد تذكيرًا مفيدًا بوجود معايير بالفعل، لكن هذه المعايير لا تكون ذات قيمة إلا بصلاح نوايا الأشخاص الذين من المفترض أن يفوا بها. ومن بين سبل زيادة محاولة أية مؤسسة بإخلاص الوصول إلى المعايير المقبولة إجراءُ مراجعة نظراء صادقة وفعَّالة، وإدارة برنامج لضمان الجودة.

وتتطلب مراجعة النظراء اجتماعات بين النظراء لمراقبة جودة العمل المهني. فيجتمع الأطباء بالمستشفيات بانتظام كلجنة لتقييم عمل كل طبيب في فريق العمل. وتراجع لجنة النظراء الأسئلة المتعلقة بالأداء المهني للطبيب، مثل الأسئلة التي تفرضها حالات الوفاة التي يمكن الحيلولة دون حدوثها. والطبيب المخطئ قد يحصل على توبيخ من اللجنة، أو حكم مع إيقاف التنفيذ، أو يلزم عليه الخضوع لإشراف طبيب آخر، أو توصي اللجنة بألا يُمنَح الطبيب تجديدًا للمزايا المهنية التي يتمتع بها.

وبوجه عام، تقتصر مداولات لجان مراجعة النظراء على جودة ممارسة كل طبيب. لكن عند النظر في أداء وملاءمة برنامج بأكمله، يُجرَى نوع آخر من الفحص الذاتي. ومن الأمثلة على ذلك حدوث تفشٍّ للعدوى بالبكتيريا العنقودية في أحد عنابر المستشفى، ووفاة العديد من المرضى نتيجة لذلك. في هذه الحالة، ستعقد إدارة المستشفى اجتماعًا يحضره الأطباء وأعضاء هيئة التمريض وغيرهم من موظفي العنابر، وستضع هذه المجموعة بأكملها خططًا للتحكم في الوباء ومنع تكرار حدوثه في المستقبل. وعلى الرغم من أن الغرض من هذا الاجتماع هو ضمان الجودة، وهو الغرض ذاته من مراجعات النظراء، فإن التركيز في هذا الاجتماع ينصب على تفشي العدوى، وليس بالضرورة التساؤل عن أخلاقيات أو كفاءة موظف معين. ولا يقتصر الاجتماع في هذه الحالة على فئة مهنية معينة.

وجميع الخطط الفعلية لتوفير خدمات الصحة العقلية المناسبة تتضمن تقديرات تقريبية. فكم عدد أسرَّة المرضى الداخليين المصابين بأمراض نفسية التي يحتاج إليها سجن يشتمل على ٥٠٠٠ مدان؟ لا يوجد رقم محدد؛ إذ لا بد من وضع الكثير من العوامل في الاعتبار. على سبيل المثال، يعتمد عدد أسرة المستشفيات المطلوبة على أنواع الخدمات المتوافرة للسجناء خارج عنابر العلاج النفسي. وفي السجون، التي تتضمن عددًا كافيًا من الموظفين بما يسمح بمنح اهتمام جيد بجميع السجناء الذين يحتاجون إلى رعاية، قد تكون الحاجة إلى أسرَّة المستشفيات منخفضة نسبيًّا. فعندما لا يكون المستشفى هو المكان الوحيد الذي يمكن للسجين التحدث فيه مع معالج متخصص؛ يحصل الكثير من السجناء على المساعدة فيما يتعلق بمشكلاتهم الانفعالية التي يعانونها قبل أن يصلوا إلى نقطة الانفجار، ويلزم إدخالهم المستشفى.

عندما يسألني أي قاضٍ عن الحلول الممكنة لصور القصور في أحد أنظمة توفير رعاية الصحة العقلية بالسجون، أوصي بتضمين مراجعة نظراء على أعلى مستوًى وإجراء لضمان الجودة، بالإضافة إلى تكليف هذه اللجان بمهام معينة، مثل تحديد عدد الأسرَّة اللازمة في المكان الذي تعمل به. لكنني أضيف سريعًا شرطًا واحدًا، وهو أن لجنة ضمان الجودة لا تكون ذات قيمة إلا بقدر إخلاصها والتزامها بضمان رعاية عالية الجودة. فمن السهل على أية مؤسسة لا تفي بالحد الأدنى من المعايير إعداد لجنة لضمان الجودة ومراجعة النظراء يقتصر دورها على اعتماد الأوراق الخاصة بالبرنامج الحالي؛ ومن ثم، يأخذ فريق التصديق، الذي يراجع محاضر اجتماعات اللجنة، انطباعًا خاطئًا بأن المؤسسة تلبي المعايير. وهذا الموقف غير المكترث ذاته، الذي يؤثر سلبًا على الخدمات السريرية للمرفق، يمكن أيضًا أن يؤثر سلبًا على استعداد فريق العمل لتنفيذ أعمال هادفة لضمان الجودة.

يجدر بنا هنا أن نشير إلى الشركات الخاصة الهادفة للربح التي تتعاقد لإدارة السجون وما بها من خدمات صحية وخدمات صحة عقلية. فينطوي هذا الأمر على خطر أصيل؛ وهو أن الشركات الخاصة تسعى إلى تحقيق أقصى أرباح ممكنة عن طريق ترشيد الإنفاق وزيادة عدد الأشخاص الذين تتعاقد على إدارتهم. وعندما تُترجم هذه الاستراتيجية إلى تراجع في عدد الموظفين والخدمات المتعلقة بالصحة العقلية، يعاني السجناء المصابون باضطرابات عقلية ضررًا بالغًا. وعندما يُدفَع للمتعهد الخاص «على أساس كل فرد» لتقديم خدمات رعاية الصحة العقلية (أي أتعاب شاملة تعتمد على عدد السجناء بالسجن)، يكون لدى الشركة الحافز المادي لتشخيص عدد أقل من السجناء المضطربين عقليًّا وتقديم قدر أقل من العلاج الشامل. وعندما يُدفَع لشركة السجون الخاصة مبلغ معين من المال عن كل مدة يقضيها السجين في السجن، يكون لديها حافز لجعل السجناء يفشلون في تقويم أنفسهم بحيث يعودون إلى السجن ويقضون مدد عقوبات أطول. كم كنت أتمنى أن تكون هذه الحيل المريبة مجرد أوهام، لكننا للأسف رأينا بالفعل ما يدل على أن الشركات الخاصة تجني أرباحًا من فشلها الممنهج في إصلاح السجناء. وعلى الرغم من أنه قد لا يكون من الإنصاف أن نطلب من لجان ضمان الجودة ومراجعة النظراء تولي العبء الكامل لمراقبة الشركات الخاصة لضمان عدم تهاونها في جودة الخدمات السريرية بهدف تحقيق أقصى أرباح ممكنة، فإن اللجان التي تراعي ضمائرها يمكن أن تسيطر بحق على بعض من هذه الانتهاكات.

والمراقبة الخارجية المستمرة من جانب المحاكم أو هيئات الرقابة المستقلة تكون دائمًا فكرة جيدة. ومتى توافرت الفرصة، على سبيل المثال في السجون القريبة من المراكز الطبية التابعة للجامعات، يكون من الأفكار الجيدة أيضًا جعل الموظفين المهنيين الذين يعملون بالسجون وفريق العمل الطبي الجامعي يعقدون اجتماعات معًا بهدف إجراء مراجعة النظراء وضمان الجودة.

(١-٧) استمرار الرعاية

إن خطط الرعاية لما بعد الخروج من السجن والتواصل بين موظفي رعاية الصحة العقلية بالسجون ونظرائهم في المجتمع من الأمور التي هناك حاجة ماسة إليها. فأغلبية السجناء، بمن فيهم مَن يعانون اضطرابات عقلية حادة ودائمة، سيقضون في النهاية مدة عقوبتهم الكاملة، ثم يُطلَق سراحهم. والبعض سيُعاد إرساله إلى الهيئات العلاجية المجتمعية أو المؤسسات العقابية. ليس من المفيد تقديم رعاية ممتازة لهم في السجون، ثم إطلاق سراحهم دون علاج أو خدمات دعم في الخارج. وكجزء من خطة العلاج داخل السجن، لا بد أن يبقى الاختصاصيون الاجتماعيون أو غيرهم من اختصاصيي التواصل على اتصال بأُسر السجناء، والعمل مع الهيئات ذات الصلة في المجتمع، وبذل كل ما في وسعهم لتيسير الانتقال السلس إلى حياة ما بعد إطلاق السراح في المجتمع. ولا يكون برنامج العلاج في السجن عمليًّا حقًّا إذا لم يقدم خدمات شاملة لفترة ما بعد إطلاق السراح من السجن.

(١-٨) السرية والحصول على الرعاية

إن السرية مسألة مهمة للغاية. فالعُرف السائد بين السجناء من الرجال يجعل من الصعب عليهم الاعتراف بأن لديهم مشكلات، ويقلل أيضًا من عدد مَن يزور منهم الطبيب النفسي للتحدث عن هذه المشكلات؛ ولهذا السبب لا يحصل اختصاصيو رعاية الصحة العقلية، الذين يتجولون بين زنزانات السجناء ويسألونهم إن كانوا يريدون التحدث معهم أم لا، إلا على عدد قليل للغاية من الردود الإيجابية. لكن إذا اتُّبِعت الإجراءات اللازمة لضمان حصول السجناء، الذين يريدون التحدث، على موعد سري تمامًا مع الطبيب السريري والتحدث معه في خصوصية، فسوف يستفيد عدد أكبر بكثير من السجناء من خدمات الصحة العقلية الاختيارية.

ولا يكون دائمًا بإمكان اختصاصيي الصحة العقلية بالمؤسسات العقابية التعهد للسجناء بأن المحادثات بينهم ستظل سرية. ففي العديد من الحالات، يلزم على هؤلاء الاختصاصيين إبلاغ موظفي الأمن والإدارة عما يُقال أمامهم، كما الحال عندما يصرِّح لهم سجين ما بشيء يتضمن تهديدًا لأمن السجن. لكن الاختصاصي الذي يحاول تقديم المساعدة بإمكانه أن يَعِد السجين بأنه سيكون صريحًا معه بشأن اللوائح الأساسية المتعلقة بالسرية، وبأنه سيتبع القواعد الأخلاقية فيما يتعلق باتخاذ قرار حول ما يتم الإبلاغ عنه والشخص الذي سيتم إبلاغه. ويمكن للسجين، بعد ذلك، أن يقرر ما يمكن أن يقوله دون خوف لمقدم الرعاية.

وتظهر مسألة السرية عادةً في العلاج الجماعي. فعندما يقابل السجينُ الطبيبَ النفسي في لقاء خاص، يمكنه أن يتوقع منه الحفاظ على شيء من السرية بينهما، لكن الموقف يكون أكثر تعقيدًا مع السجناء في العلاج الجماعي. فهل يمكن للسجين الوثوق بالسجناء الآخرين فيما يتعلق بالحفاظ على أسراره؟ وإذا اعترف أنه خائف من مجرم قوي معين، أو قَلِقٌ بشأن أن تكون زوجته على علاقة برجل آخر، فهل سيفشي أحد الأعضاء الآخرين في المجموعة سره في ساحة السجن؟ لكن قادة المجموعات الأكْفاء يتمتعون بأساليب تمكنهم من مساعدة السجناء على تجاوز مثل هذه المشكلات المعقدة، وتجاوز هذه المشكلات في كثير من الأحيان يُعَد جزءًا مهمًّا من العلاج. فتعلم الثقة في الآخرين، والتمييز على نحو جيد لتحديد الوقت الذي يجب فيه عدم الوثوق بهم، هو مهارة اجتماعية مفيدة داخل السجن وخارجه على حدٍّ سواء.

(١-٩) الفصل بين الصحة العقلية ومسائل الانضباط

ثمة درجة معينة من الاستقلالية لا بد أن يتمتع بها موظفو رعاية الصحة العقلية عن موظفي الأمن لكي يتمكنوا من تقديم علاج يتسم بالإنسانية. لا شك أن الأمن من الاعتبارات الرئيسية في المؤسسات العقابية. وموظفو رعاية الصحة العقلية أنفسهم لا يمكنهم القيام بعملهم إذا لم تتمتع المؤسسة بالأمان. لكن في كثير من الأحيان يكون الروتين مُقيِّدًا لدرجة تجعل موظفي الأمن يتحكمون في الموقف حتى عندما تكون تصرفات السجين لا تمثل تهديدًا خطيرًا لسلامة أي شخص وناتجة بوضوح عن حالته النفسية؛ لذا، يحتاج كلٌّ من موظفي رعاية الصحة العقلية وموظفي الأمن إلى التوصل إلى نوع من التعاون لا يجعل المخاوف الأمنية تتحكم على نحو كامل في الاعتبارات العلاجية.

في بعض الأحيان، يجب على موظفي الخدمات السريرية مقاومة إرادة ضباط الأمن. على سبيل المثال، ليس مقبولًا من الناحية الأخلاقية أن يخبر الطبيب السريري المتخصص في الصحة العقلية السجين الذي تعرض للاغتصاب بأنه لن يحصل على علاج إلا إذا ذكر أولًا اسم الشخص الذي اعتدى عليه. عندما يستخدم موظفو السجن هذا الأسلوب للتشجيع على الوشاية بالسجناء الآخرين، يكون الطبيب السريري المتخصص في الصحة العقلية ملتزمًا من الناحية الأخلاقية بالاعتراض بشدة على هذا الأمر.

وعندما تكون السلوكيات الصادرة عن السجناء المضطربين عقليًّا — مثل محاولات الانتحار، وتشويه الذات، وخرق القواعد، بل وحوادث العنف البسيطة أيضًا — ناتجة عن الاضطرابات العقلية التي يعانونها، فيجب عدم التعامل مع هذه السلوكيات بشكل كامل على أنها مخالفات انضباطية تتطلب عقابًا. لكن في كثير من الأحيان، يُعاقَب السجناء على هذه الأفعال المُخلة بالنظام، ولا يوضع في الاعتبار مطلقًا أن هذه الأفعال قد تكون مجرد انعكاس لحالة ذهان وشيكة أو حاجة لاهتمام نفسي مباشر.

ولا يعني ذلك أن موظفي السجون يجب أن يتغاضوا عن السلوكيات غير المسموح بها من جانب السجناء المضطربين عقليًّا، وإنما يعني أن هذه السلوكيات يجب التعامل معها في سياق خطة علاج تتضمن اهتمامًا خاصًّا بالمسائل الأمنية. ويجب ألا يُسمَح ببقاء السجين المضطرب عقليًّا فترات طويلة في الحبس المشدد، فعند ظهور إنذار تأديبي بعد الوفاة عقابًا على أفعال مدمرة للذات في تقرير سجين نجح في الانتحار، نرى كيف يمكن أن يصبح الأسلوب العقابي مناقضًا للعلاج وجائرًا.

(١-١٠) التدريب المتبادل، بما في ذلك التدريب على الجوانب الثقافية الحساسة

لكي يتمكن موظفو رعاية الصحة العقلية من الحفاظ على أمنهم وتقديم خدمات فعَّالة، لا بد أن يعوا المبادئ التي توجه عمل موظفي السجون. وموظفو السجون لا بد أن يكون لديهم أساس قوي من فهم مبادئ الطب النفسي وعلاج الصحة العقلية؛ كي يتمكنوا من فهم العدد الكبير من السجناء الذين يعانون اضطرابات عقلية، والتدخل بفعالية للتعامل معهم. وضابط السجن يكون عادةً أول مَن يلاحظ انهيار السجين الانفعالي الوشيك أو ميله للانتحار. والطبيب السريري المتخصص في الصحة العقلية يكون عادةً أيضًا أول مَن يدرك أن السجين، الذي تلقى عقابًا، يعاني في الواقع اضطرابًا شديدًا ويتطلب علاجًا نفسيًّا طارئًا. وبالإضافة إلى التدريب المتبادل، لا بد من وجود تعاون وثيق بين مختلف أنواع الموظفين في المؤسسة العقابية.

ونظرًا لوجود تنوع هائل بين السجناء فيما يتعلق بالعِرق والثقافة، يحتاج جميع الموظفين إلى الخضوع لتدريب مكثف حول قضايا التنوع العرقي والحساسية الثقافية. فقد سمعت مرارًا وتكرارًا من السجناء — حتى عندما لا يتهمون أحدًا بالعنصرية السافرة — أن الموظفين يجهلون على نحو هائل خلفيتهم العرقية ولا يكترثون بثقافتهم. وعلى الرغم من وجود الكثير من برامج التدريب على كيفية التعامل مع التنوع العرقي في المجتمع وتحقيقها نجاحًا كبيرًا في التدخل للحد من التمييز في أماكن العمل العامة والخاصة، فإن جميع أنظمة السجون التي تجولت فيها لم تقم بأية محاولات جادة لإشراك أعداد كبيرة من موظفيها في هذا النوع من التدريب. ولا يمكن تقديم خدمات صحة عقلية عالية الجودة داخل السجون دون الاهتمام الجاد بقضايا التنوع العرقي والثقافي.

•••

يؤسفني أن أعلن أننا بحاجة لإنفاق المزيد من الأموال لتأسيس خدمات صحة عقلية ملائمة خلف القضبان. والمبدأ الذي ينطبق هنا هو أن إنفاق بعض الأموال مقدمًا يعني إنفاق قدر أقل على المدى البعيد. وحبس شخص مريض عقليًّا مثال عملي جيد على هذا المبدأ. فنظام الصحة العقلية العام في المجتمع يعاني آثار عمليات خفض كبيرة في الميزانيات؛ ما يتطلب إغلاق الكثير من وحدات العلاج الخارجية وتقليص مدد المكث في المستشفيات ومنازل الإقامة الانتقالية. لكن هذه التخفيضات في الميزانيات تمثل ادخارًا زائفًا. فإذا سُمِح للمريض بزيارة معالج نفسي على نحو منتظم، أو قضاء المزيد من الوقت في التحدث مع طبيب نفسي، أو البقاء في منزل انتقالي فترة أطول بما فيه الكفاية ليدرك نقاط القوة لديه، فسيقل احتمال عودته إلى وحدات العلاج النفسي الداخلية أو إلقاء القبض عليه. ونظرًا لأن خدمات رعاية المرضى الداخلية باهظة التكلفة للغاية، فإن تكلفة علاج المريض العقلي الذي أُعيد إدخاله المستشفى عدة مرات في عام واحد أعلى بكثير من توفيرٍ منخفض التكلفة لأماكن إقامة في منازل انتقالية على مدار عام كامل.

ومقارنة التكاليف التي يتضمنها تشغيل النظام العقابي الحالي بتكاليف العلاج النفسي والعلاج الفعال بالأدوية توضح مدى الحمق في حبس المجرمين المصابين بأمراض عقلية في سجون شديدة الازدحام وقاسية الظروف. وإذا خالف مريض عقلي لا يحصل على العلاج الملائم القانونَ وحُبِس، فإن تكلفة إجراءات المحاكمة والسجن تفوق بكثير التكلفة التي كان من الممكن أن تتضمنها خدمات الصحة العقلية المجتمعية المناسبة التي كان من شأنها أن تُجنب هذا الشخص السجن. وتكلفة المنزل الانتقالي في المجتمع تبلغ حوالي ٦٨٠٠ دولار سنويًّا، وتكلفة العلاج النفسي الخارجي الداعم ونصف الشهري حوالي ٢٠٠٠ دولار كل عام، وتكلفة العلاج بالميثادون حوالي ٣٩٠٠ دولار كل عام. ولك أن تقارن بين إجمالي هذه المبالغ وتكلفة الحبس، التي تتجاوز ٣٠ ألف دولار في العام في حال كانت هناك حاجة لأي نوع من الحراسة المشددة أو الرعاية النفسية.

وبتطبيق هذا المبدأ نفسه في السجون، فإن تحسين خدمات الصحة العقلية بداخلها سيحتاج بالتأكيد إلى نفقات، لكن إذا حال العلاج المناسب دون إرسال عدد كبير من السجناء المصابين بأمراض عقلية إلى وحدات الحبس الانفرادي أو اعتقالهم مرة أخرى بعد إطلاق سراحهم، فستعتبر هذه الأموال استثمارًا جيدًا للغاية، وستؤدي إلى توفير مبالغ ضخمة على المدى البعيد.

(٢) تغييرات في نظام السجن بالكامل

لا تؤدي أيٌّ من التوصيات التي قدمتها فيما يتعلق بخدمات الصحة العقلية إلى الحد من الآثار السلبية للخمول ونقص الزيارات على الصحة العقلية للسجناء في السجون. وأي قدر من التطوير في خدمات الصحة العقلية داخل السجون لن يزيل آثار الممارسة التدميرية المتمثلة في إيداع السجناء المصابين بأمراض عقلية وحدات حبس عقابي مشدد. فلكي يحظى السجناء المصابون بأمراض عقلية بفرصة أفضل للحفاظ على استقرارهم والنجاح في محاولاتهم التكيُّف مع الحياة في المجتمع بعد إطلاق سراحهم، لا بد من إجراء تغييرات كبيرة في الأسلوب الذي تُدار به السجون. على سبيل المثال، يجب تعزيز برامج التثقيف وإعادة التأهيل، ويجب كذلك تحسين جودة الزيارات، والتوسع في حقوق السجناء، ووضع نهاية لوحدات الحراسة المشددة. وسيفيد كذلك تحسين الصحة العقلية للسجناء في تحويل السجون الكبيرة إلى وحدات أصغر حجمًا.

(٢-١) تعزيز برامج إعادة التأهيل والتثقيف

أوضحت فيما سبق أوجه الاختلاف بين إعادة التأهيل النفسي وإعادة التأهيل العام في السجون، وأشرت إلى الجوانب التي يتداخل فيها الاثنان. ومن الواضح أن عملية إعادة التأهيل النفسي لا يمكن أن تكون فعَّالة مع السجناء الذين يعانون اضطرابات عقلية خطيرة إلا إذا قدم نظام السجن التشجيع والدعم لجميع أنواع إعادة التأهيل. والمرضى الذين يخضعون لإعادة التأهيل النفسي يمكن أن يستفيدوا من برامج إعادة التأهيل العام وهم يعدون أنفسهم للتكيف مع الحياة في المجتمع بعد إطلاق سراحهم.

ولقد ذكرت أيضًا أن وجود برامج تثقيفية جادة في السجن6 هو العامل الذي يرتبط بقوة بفرص السجناء للنجاح في تقويم أنفسهم. فبعض السجناء يحصلون على دورات من معلمين — يعملون في المؤسسات العقابية مقابل أجر أو كمتطوعين — بينما يحصل سجناء آخرون على هذه الدورات عبر البريد. وفي الوقت الذي يتراوح فيه معدل العودة للإجرام بعد ثلاثة أعوام لدى جميع السجناء بين ٤١ و٦٣ في المائة، يتراوح هذا المعدل لدى السجناء الذين يكملون شهادة التخرج المكافئة أو عددًا كبيرًا من الدورات الجامعية أثناء الحبس بين ٥ و٢٠ في المائة. لكن مِنح بيل الفيدرالية للسجناء، التي مكَّنتهم من الحصول على دورات جامعية، أوقفتها الحكومة الفيدرالية عام ١٩٩٤. ونحن بحاجة إلى إعادة هذه المنح للسجناء، وكذلك اتخاذ إجراءات أقوى لزيادة عدد السجناء الذين يشاركون في فصول الدراسة الثانوية والجامعية. والسجناء المصابون بأمراض عقلية، الذين يمكنهم التركيز والحصول على هذه الدروس، يخبرونني بأن فرصة الدراسة والشعور بالإنجاز الذي ينبع من استكمال دورة جامعية يعززان من تقديرهم لأنفسهم، ويساعدانهم في تجنب المشكلات.
ثمة جدل محتدم حول فاعلية برامج إعادة التأهيل العامة بالسجون.7 فالمنتقدون لهذه البرامج يزعمون أنها لا تجدي نفعًا، إذ يقولون: «هؤلاء الأشخاص لا يقدِّرون قيمة العمل النزيه.» أما مناصروها، فيزعمون أن هذه البرامج لم تُمنَح أبدًا الفرصة المناسبة؛ فالتمويل الذي تحصل عليه منخفض للغاية. ومع الزيادة الرهيبة في أعداد السجناء منذ عام ١٩٨٠ وتبني موقف الشدة تجاه المدانين، يكون الأمر بمنزلة انتحار سياسي لأي حاكم أو مُشرِّع أن يذكر تحسين برامج إعادة التأهيل في السجون.

في عام ١٩٧٤، نشر أحد الباحثين البارزين في علم الجريمة ويدعى روبرت مارتينسون استقصاءً شاملًا لدراسات الصحة العامة المتوافرة، توصل فيه إلى نتيجة مفادها أن تأثير برامج إعادة التأهيل على معدلات العودة للإجرام لا يكاد يُذكر. وكان تصريح مارتينسون بمنزلة ذريعة كان يحتاج إليها بشدة المُشرِّعون ومديرو المؤسسات العقابية الذين لديهم النية للحد من برامج إعادة التأهيل. لكن بعد خمس سنوات، تراجع مارتينسون في استنتاجه السابق بعدم جدوى برامج إعادة التأهيل، وأقرَّ بأن بعض برامج إعادة التأهيل بالسجون ذات جدوى بالفعل فيما يتعلق بخفض معدل العودة للإجرام، إذا صُمم برنامج على نحو جيد لفئات معينة وكانت هناك متابعة ملائمة داعمة بعد إطلاق سراح السجين. بعبارة أخرى، إذا اكتفينا بمجرد الربط بين معدل الإجرام العام ووجود أي نوع من برامج إعادة التأهيل في السجون، فإن إعادة التأهيل لن تؤدي إلى انخفاض في المعدل العام للعودة إلى الإجرام. لكننا إذا نظرنا لنتائج برامج معينة بالنسبة إلى مجموعات فرعية محددة من السجناء — مثل البرامج التثقيفية للسجناء الذين لديهم الدافع لها أو التدريب المهني للجناة الشباب الذين لا يتمتعون بالمهارات اللازمة — فسنجد أن المشاركة في برامج إعادة التأهيل لها تأثير إيجابي للغاية على معدلات العودة للإجرام لهذه الفئات الفرعية.

لا ريب أن بعض المجرمين المتمرسين في الإجرام لا يهتمون بتغيير أساليبهم في الحياة؛ ولذا لا يكون لمشاركتهم في برامج إعادة التأهيل أي أثر على معدل عودتهم للجريمة. لكن الكثير من السجناء يرغبون للغاية في أن يستقيموا، وينتهزون كل الفرص المتاحة لهم لتحسين احتمالات تحقيق ذلك. وتوصل باحثون آخرون إلى أنه حتى مع الأحداث الجانحين، كلما سارعنا بحل مشكلات السلوك، كانت النتيجة أفضل، وكلما قضى المعالِجون فترة أطول مع الحدث الجانح، ازداد التقدم الذي يحرزه هذا الحدث. ومع جميع المجرمين، يؤدي استخدام أكثر من أسلوب في العلاج إلى نتيجة أفضل من الاعتماد على أسلوب واحد. وكلما توافر عدد أكثر من البرامج للمجرمين بعد إطلاق سراحهم، تحسن تكيفهم في المجتمع. مع ذلك، فقد تجاهل المُشرِّعون المحافظون الأبحاث الأكثر تنقيحًا، واستمروا في الاقتباس من بحث مارتينسون الأول الذي من المفترض أنه أثبت الفشل التام لجميع جهود إعادة التأهيل.

من العوامل الأخرى التي تجعل من تقييم كفاءة برامج التأهيل أمرًا صعبًا التناقض المتأصل في عملية التمويل. يعتقد عامة الناس اعتقادًا ساذجًا أن البرنامج الناجح سيستمر؛ لذا، إذا توقف أحد البرامج، فلا بد أنه لم يكن ناجحًا. لكن في واقع الأمر، هذا لا ينطبق على العديد من البرامج الحكومية والبرامج غير الهادفة للربح. فأنا أعرف العديد من البرامج المجتمعية التي وضِعت لحماية الشباب الذين يعانون اضطرابات من التورط في مشكلات مع القانون عن طريق توفير مرشدين وتعليم وتدريب مهني لهم. لكن عند تقديم طلب لتجديد التمويل بعد ثلاث سنوات، رُفِض هذا الطلب. وقدم المدير التنفيذي لأحد هذه البرامج التماسًا للهيئة الفيدرالية المعنية، لكن قيل له إن الهيئة تدرك نجاح البرنامج، لكن عليها توزيع مواردها المحدودة على نطاق ضيق للغاية؛ ما يجعلها غير قادرة على توفير التمويل لأي برنامج يتجاوز نطاق مشروع السنوات الثلاث التجريبي. وبالمثل في السجون، أُجبرت برامج إعادة التأهيل التي حققت نجاحًا هائلًا على التوقف، ليس بسبب فشل أي منها؛ وإنما بسبب التوجهات السياسية ومقتضيات التمويل.

ومن الانتقادات الشديدة أيضًا للأبحاث التي تناولت كفاءة إعادة التأهيل بالسجون عدم وضعها في الاعتبار الآثار السلبية للازدحام والظروف القاسية في السجون. فمثلما لا يتمكن الأطفال بالأحياء الفقيرة، الذين يتعرضون للصدمات، من الانتباه وتعلم دروسهم، كذلك لا يتمكن السجناء الذين يتعرضون لصدمات هائلة من المشاركة بفعالية في برامج إعادة التأهيل. فالسجين الذي يتوجب عليه النوم في مهجع مؤقت مليء بالضوضاء، والسجين الذي وقع ضحية للاغتصاب داخل السجن، والأم السجينة القلقة على طفلها، والسجين الذي يُحرَم من حقه في زيارات ذويه له على نحو ملائم، والسجين الذي يعاني اضطرابًا عقليًّا حادًّا، كل هؤلاء السجناء يعجزون عن الاستفادة المثلى من برامج إعادة التأهيل. ويرجع السبب الرئيسي وراء فشلهم في تحقيق ذلك إلى ضغوط الحياة الشديدة داخل المؤسسات العقابية القاسية وشديدة الازدحام أكثر من رجوعه إلى قلة التحفيز أو الاهتمام بتطوير الذات.

وأخيرًا، نصل إلى مشكلة عدم الاستمرارية وغياب المتابعة في البرامج القائمة بالفعل. فتدريب السجين على مهنة معينة أمر جيد. لكن إذا لم يتمكن هذا السجين من العثور على عمل بعد إطلاق سراحه، أو لم يحظَ بإشراف كافٍ بعد خروجه من السجن كي يبقى بعيدًا عن المخدرات وطرق الإجرام السابقة، فسيضيع كل هذا التدريب هباءً، وسرعان ما سينتهي الحال بهذا السجين خلف القضبان من جديد. لذا، فإن برامج إعادة التأهيل لا تكون ذات قيمة إلا إذا ارتبطت بخدمات شاملة بعد إطلاق سراح السجين، ويشمل ذلك الجهود الحثيثة لمساعدة السجناء السابقين في التغلب على وصمة السجن والعثور على عمل هادف.

(٢-٢) تحسين الزيارات

سبق أن أشرت في الفصل السابع إلى أن الزيارات الجيدة تساعد السجين على تجنب المشكلات في أثناء فترة حبسه وترتبط ارتباطًا قويًّا بنجاحه بعد إطلاق سراحه. وينطبق هذا بشكل خاص على السجناء الذين يعانون اضطرابات عقلية خطيرة ومستمرة. كما أوضحتُ، فإن بعض الآليات المتأصلة في نظام السجون تجعل من الزيارات أمرًا صعبًا. وهذه الآليات يجب إعادة النظر فيها كي يتمكن السجناء وأحباؤهم من التمتع بزيارات جيدة.

يجب إيداع السجناء مؤسسات عقابية قريبة من أماكن إقامتهم؛ كي تتمكن أسرهم من زيارتهم. ولا بد من مدِّ ساعات الزيارة متى كان ذلك ملائمًا كي يزيد عدد الزيارات، خاصةً من أجل الأطفال. ويجب تقليل عدد السجناء الذين يودعون وحدات الحبس المشدد ويُجبَرون على حضور الزيارات من وراء زجاج وهم مكبلون بالقيود. ويجب السماح كذلك للسجناء بارتداء ملابسهم الشخصية أثناء الزيارات. ويجب التوسع في برامج الزيارات الزوجية أو العائلية لتشمل عددًا أكبر من السجناء وأسرهم. ويجب تقديم تصاريح مؤقتة للسجناء الذين لا يشكِّلون خطرًا فيما يتعلق بالهروب من السجن ويظهرون تعاونًا في برنامج السجن الخاص بهم؛ للذهاب إلى منازلهم لزيارة أسرهم. والسجناء، الذين يتورطون في مشكلات، يجب عدم إيداعهم سجونًا بعيدة عن أسرهم، فتواصل السجناء مع الأشخاص الذين يحبونهم يساعدهم على التحكم في حالاتهم الانفعالية والتكيُّف مع ضغوط الحياة في السجن؛ ولذا، يجب على موظفي السجون تيسير أفضل مستوًى ممكن من الزيارات لكل سجين بكافة السبل الممكنة.

(٢-٣) الاهتمام بحقوق السجناء

كلما ازداد شعور السجناء بأنهم يتعرضون لمعاملة ظالمة، ازداد الشغب والعنف في السجون. فيمكن أن يكون مأمور السجن قاسيًا، ويضع إجراءات انضباطية صارمة لكنها عادلة، وفي هذه الحالة سيتقبل السجناء هذه القسوة على نحو جيد نسبيًّا. لكن إذا كانت اللوائح تعسفية، وكانت لجان الاستماع تحكم دائمًا لصالح ضباط الأمن، ويتحتم على السجناء الملونين المثول أمام لجان استماع ومجالس استئناف أعضاؤها كلهم من البيض، فسيشعر السجناء بأنهم محرومون من الاستماع العادل إليهم، وبأنهم «ليس لديهم ما يخسرونه»، وسيقل لديهم الحافز لاتباع القواعد وتجنب العنف.

لذا، فإن الإجراءات الانضباطية بالسجون بحاجة إلى أن يعاد النظر فيها. ويجب أيضًا الإعلان بوضوح عن اللوائح المتبعة، متى كان ذلك ممكنًا. ويحتاج السجناء، كذلك، إلى ملاذ يمكنهم اللجوء إليه عند شعورهم بأنهم يُتهَمون ظلمًا. وأعضاء لجان الاستماع يجب أن يكونوا ممثلين لنفس التنوع العرقي والثقافي للسجناء الماثلين أمامهم، ويجب أن تتضمن هذه اللجان أيضًا عددًا لا بأس به من الأعضاء غير العاملين بالسجن، مثل السجناء والسجناء السابقين. ولا بد أن يتمكن السجناء أيضًا من رفع دعوى دفاع عن أنفسهم بالاستعانة بمحامٍ خارجي متى كان ذلك ملائمًا، أو على الأقل بمساعدة محقق في الشكاوى أو مناصر للسجناء لا يتبع مأمور السجن أو يتحيز لموظفيه. وفيما يتعلق بلجان إطلاق السراح المشروط، يوصي دكتور ليجي دايلي8 بأن يكون ٥٠ في المائة من أعضاء هذه اللجان من السجناء السابقين، وهذه فكرة رائعة.

علينا أيضًا إعادة النظر في الاتجاه الذي شهدته السنوات الأخيرة نحو الحد من وصول السجناء إلى المحاكم. ويأخذ هذا الأمر صورًا عدة، لكن أحد الأمثلة عليه هو البند الذي يتضمنه قانون إصلاح مقاضاة السجون ويلغي التنازل عن أتعاب رفع الدعاوى القضائية للسجناء المعوزين. وأغلب السجناء في الواقع معوزون، ومن ثم فإن هذا البند يعني بشكل أساسي أنه حتى إذا كانت هناك فرصة كبيرة لنجاح قضيتهم، فلن يتمكنوا من الوصول إلى المحاكم. ليس ذلك سوى مثال واحد فقط على الكثير من التغييرات الحديثة في القانون التي تقلل من حصول السجناء على تعويض عادل في تظلماتهم. والأثر العام لذلك هو زيادة الشعور باليأس بين السجناء؛ الأمر الذي يقلل من الدافع لديهم للبقاء بعيدًا عن المشكلات. وزيادة شعور السجناء بالعدالة وحصولهم على تعويضات عن تظلماتهم من شأنه تحسين علاقاتهم مع موظفي السجون، ومساعدتهم في الحفاظ على الهدوء داخل السجن، والتقليل من التوتر الذي يؤدي إلى الكثير من حالات الانهيار العاطفي والانتحار، ومساعدتهم في التأهب للتكيف مع حياة المجتمع بعد إطلاق سراحهم والنجاح في تحقيق ذلك.

(٢-٤) وضع حد للحبس المشدد طويل الأمد، بما في ذلك وحدات الحراسة فائقة التشديد

إن إيداع أعداد متزايدة من السجناء وحدات الحراسة المشددة لا يعد وسيلة فاشلة فحسب في الحد من العنف في السجون، وإنما يزيد في الواقع من هذا العنف والاضطراب العقلي. ونحن نعلم أن عددًا كبيرًا من السجناء المضطربين عقليًّا ينتهي بهم الحال في وحدات الحبس المشدد بالسجون. وهؤلاء هم السجناء المضطربون عقليًّا الذين ينفعلون تعبيرًا عن غضبهم بدلًا من كبته والاختباء في زنزاناتهم. ونعلم أيضًا أن الوقت الذي يقضيه السجين في الحبس المشدد يؤدي إلى أضرار انفعالية ويزيد من درجة الاستياء لدى الغالبية العظمى من السجناء، ولا سيما السجناء المعرضين للانهيار النفسي.

وحتى عندما تكون هناك أوامر من المحكمة بإبعاد السجناء المضطربين عقليًّا عن وحدات الحبس الانفرادي، كما هو الحال في سجن بيليكان باي، يبقى عدد كبير منهم فيها. ويرجع أحد أسباب ذلك إلى أن السلطات العقابية تميل لتفسير خرق القواعد والعنف من جانب السجناء المضطربين عقليًّا على أنهما علامتان تدلان على «سوء خُلق» هؤلاء السجناء، وليس «جنونهم». ومن الأسباب الأخرى أيضًا وراء ذلك افتقار عمليتي الفحص والمراقبة الخاصتين بالصحة العقلية للجودة؛ ما يؤدي إلى عدم ملاحظة علامات الانهيار النفسي الوشيك. وعلى أية حال، فإن حقيقة انتهاء الأمر بالكثير من السجناء المضطربين عقليًّا في وحدات الحراسة المشددة بجميع أنحاء الولايات المتحدة يُعَد سببًا كافيًا لإغلاق هذه الوحدات. لكن من الأسباب الأخرى أيضًا لذلك تَسبَّب هذه الوحدات عادةً في حدوث أضرار انفعالية لدى السجناء ممن ليس لهم تاريخ سابق من المشكلات النفسية.

ونحن نعلم من الأبحاث النفسية أن العقاب لا يجدي نفعًا إلا إذا وزِّع على نحو عادل، وخُصِّص لسلوكيات معينة، وكان فوريًّا وقصير المدى على نحو يعزز الدافع للتغيير الإيجابي. ففي الماضي، عندما كان يتم إيداع أي سجين الحبس الانفرادي مدة عشرة أيام أو شهر بعد التورط في شجار أو اكتشاف أداة حادة معه، كانت هذه العقوبة تنجح في التخلص من هذه السلوكيات غير المرغوب فيها لديه. ولا أعني إثارة الحنين للماضي؛ وإنما أريد أن أوضح أن الحبس الانفرادي صار مكانًا للتعذيب على أيدي مأموري السجون وحرَّاسها الساديين. الفكرة هنا هي أنه في حال تكافؤ كل المتغيرات الأخرى، تكون فرص نجاح العقوبات قصيرة المدى في تحسين السلوكيات هي الأفضل. لكن عندما يُحكَم على السجناء بالحبس المشدد أعوامًا في المرة الواحدة، يفقدون الأمل في الخروج من ذلك المكان. ويتزايد الغضب بداخل السجين، ويشعر بأنه ليس لديه ما يخسره، وسرعان ما ينفجر غاضبًا عندما يعتقد أنه يتعرض لمضايقات من أحد ضباط السجون أو من سجين آخر. وعندما يخرج السجناء من وحدات الحراسة المشددة، يملؤهم الغضب عادةً ويشعرون بالغربة بسبب عزلتهم في وحدات الحبس؛ ما يجعلهم ينتهي بهم الحال أكثر سوءًا في خُلقهم، وأكثر اضطرابًا وعنفًا، بالإضافة إلى زيادة احتمالية خرقهم للقانون مقارنةً بحالهم قبل دخولهم الحبس الانفرادي.

وبعد غلق وحدات الحراسة المشددة، سيتعين علينا ابتكار أسلوب أفضل للتعامل مع السجناء الذين يدخلون في شجارات ويحدثون شغبًا على نحو متكرر. وسينبغي علينا أيضًا التوصل إلى وسيلة للتعامل مع العصابات. وكل ذلك ما كان ليصير بهذه الدرجة من الصعوبة لو أن الازدحام في السجون كان أقل، وكان هناك عدد أكبر من برامج إعادة التأهيل، ومستوًى أفضل للزيارات، وإجراءات تأديبية أكثر عدلًا. ومع القيام بكل هذه التغييرات، سيتمكن موظفو السجون في كل حالة يتورط فيها السجين أكثر من مرة في مشكلات من البدء في إجراء تقييم دقيق لتظلمات هذا السجين، ووضع خطة فعالة مصممة خصوصًا للتعامل مع السجين على نحو أكثر فاعلية؛ وبذلك لن تكون هناك حاجة للحبس المشدد طويل الأمد.

(٢-٥) إقامة مؤسسات أصغر حجمًا9

إن المؤسسات العقابية الكبيرة التي تحتوي على الآلاف من السجناء تكون عادةً بمنزلة الكوابيس. يتحرك الموظفون في الأرجاء من مبنى زنزانات إلى آخر، دون أن يتمكنوا فعليًّا من التعرف على مجموعة معينة من السجناء. ويتنقل السجناء من مكان إلى آخر، فلا يتمكنون أبدًا من إقامة علاقات من الثقة المتبادلة مع أي شخص. ولا يتمكن مأمور السجن من معرفة ضباط السجن الذين يعملون تحت إمرته، ناهيك عن عدم معرفته بجميع السجناء لديه.

فلتتخيل للحظة ما يمكن أن يحدث إذا قُسِّمت السجون إلى وحدات لا يتعدى الحد الأقصى لعدد السجناء فيها ٥٠٠ سجين، وكل وحدة من هذه الوحدات الصغيرة لها مأمور ومشرف عام معنيان بها فقط، بالإضافة إلى مجموعة من الموظفين الذين لا يعملون إلا في هذه المؤسسة، بمن فيهم أطباء الصحة العقلية الممارسون. تخيَّل أيضًا أن جميع السجناء يبقون في هذه المؤسسات طوال مدة حبسهم. ستكون هناك وحدات عزل إداري وصور أخرى من «الحبس المشدد» أيضًا، لكن السجين لا يبقى فيها بشكل دائم. وإذا حدث ذلك، فستُتاح الفرصة للسجناء والموظفين لمعرفة بعضهم البعض، وسيتم التعامل مع كل المشكلات داخل السجن.

لا ريب أنه في حال وجود موظفين ساديين ومأمور سجن غير مكترث، لا يمكن لحجم المؤسسة العقابية أن يضمن تقديم برنامج إنساني. لكن عندما يكون هناك مأمور سجن ملتزم بإعادة تأهيل السجناء، أو على الأقل توفير بيئة كريمة لهم ليقضوا فيها مدة عقوبتهم، فسيكون لدى الموظفين المبدعين فرص لحل المشكلات معًا في مؤسسة أكثر قابلية للإدارة. فيمكن أن يعقد موظفو السجون وموظفو رعاية الصحة العقلية لقاءات معًا للتوصل إلى أفكار بشأن كيفية إدارة السجين المضطرب عقليًّا، والسجين المشاكس، والسجين المُغتصِب، والسجين المحتمل وقوعه ضحية للاغتصاب. وستُتاح الفرصة للجميع لمعرفة بعضهم بعضًا، وسيكون هناك حافز لدى الجميع للتوافق معًا ومحاولة حل كل المشكلات التي تظهر.

(٣) التغييرات في نظام العدالة الجنائية بأكمله

إننا بحاجة إلى قائمة جريئة من الرغبات، هذا إذا أردنا حقًّا تصور نظام عدالة جنائية أكثر فعالية وإنسانية. ومن الواضح أننا بحاجة للتعامل مع المشكلات الاجتماعية التي تجعل من الجريمة والعنف أمراضًا مستوطنة في مجتمعنا. كمجتمع، علينا الاهتمام بالحال البائس للتعليم العام في الأحياء الفقيرة، وقلة فرص التوظيف الجيدة للشباب المعوز، ومشكلة الفقر، والحاجة الماسة لتوفير سكن مناسب منخفض التكلفة، واستعادة شبكة الأمان الاجتماعي التي كانت تقدمها برامج الخدمة الاجتماعية. وعلينا أيضًا إنهاء العنصرية المنتشرة التي تتجلى في زيادة أعداد السجناء الملونين. ويجب أن نعزز كذلك من نظام الصحة العام ونقوم بتطويره.

ولقد اقترحت اللجنة الوطنية للعدالة الجنائية10 قائمة مدروسة من الإصلاحات للمشكلات الكبيرة وصور عدم المساواة التي يعانيها نظام العدالة الجنائية الأمريكي، وتشمل:
  • المطالبة بقرار رسمي مدته ثلاث سنوات لإيقاف بناء السجون الجديدة.

  • التعامل مع مشكلة تعاطي المخدرات باعتبارها مشكلة صحية عامة، وليست مشكلة جنائية.

  • القضاء على صور الانحياز العرقي والتمييز العنصري في نظام العدالة الجنائية.

  • الحد من العنف عن طريق تطبيق استراتيجيات الصحة العامة وإقرار تشريعات جديَّة للتحكم في الأسلحة.

  • الحد من الفقر عن طريق الاستثمار في الأطفال والشباب والأُسر والمجتمعات.

يوصي جون إروين وجيمس أوستن أيضًا بتقليل عدد السجناء في السجون عن طريق تقصير مدد الأحكام بشكل عام. ويوصي جيروم ميلر بما يلي:
  • إيقاف الحرب على المخدرات وما يرتبط بها من عمليات ضبط للمجرمين وهم في حالة تلبس، ومن اعتمادٍ على الوشاية في جمع المعلومات.

  • إبعاد أكبر عدد ممكن من المجرمين الشباب عن طائلة نظام العدالة الجنائية.

  • وضع سياسات إجرائية إيجابية هادفة لموظفي هيئات العدالة الجنائية.

  • تعزيز برامج التثقيف والتوظيف والخدمة الاجتماعية.

  • تحمل المجموعات الكاملة من السجناء الشباب الذين نعتبرهم «معاندين»، وعدم التخلي عنهم.

أدعم هنا بقوة التوصيات المقدمة من اللجنة الوطنية وجون إروين وجيمس أوستن وجيروم ميلر، وأعتقد أن التغييرات التي يوصون بها سيكون لها أثر إيجابي للغاية في التخفيف من معاناة المجرمين المضطربين عقليًّا.

وسوف أعلق على بعض العناصر الأساسية، وهي: وضع بدائل لحبس الجناة المضطربين عقليًّا والمدانين في قضايا المخدرات الذين لم يدانوا في أي جرائم عنف، ووضع حد لصور التمييز العنصري في نظام العدالة الجنائية وللازدحام الشديد في السجون، وتوجيه نسبة كبيرة من مصادرنا للتعامل مع المدانين الشباب.

(٣-١) وضع بدائل للتعامل مع الجناة المصابين باضطرابات عقلية11

تنطوي هذه التوصية على جانبين؛ أولًا: نحن بحاجة للتعامل مع التغيرات في سياسة الخدمة الاجتماعية والقانون، وهي التغيرات التي أدت في السنوات الأخيرة إلى انتشار الاعتقالات والحبس للأشخاص الذين يعانون اضطرابات عقلية خطيرة ودائمة. وثانيًا: يجب أن نقدم عقوبات بديلة للأفراد المضطربين عقليًّا الذين يخرقون القانون.

أوضحت في الفصل الثاني من هذا الكتاب بعض التغيرات التي شهدها القانون وسياسة الخدمة الاجتماعية، التي أدت إلى حبس عدد كبير من المجرمين المضطربين عقليًّا. فإخراج المرضى من المؤسسات العلاجية كان من المفترض أن يؤدي إلى إقامة مراكز مجتمعية لرعاية الصحة العقلية قادرة على تقديم خدمات ملائمة للمصابين بأمراض عقلية الذين لم يعودوا يقيمون في مستشفيات الدولة. لكن ميزانية خدمات الصحة العقلية الحكومية شهدت انخفاضًا كبيرًا منذ ذلك الحين. وتُرِك عدد كبير من المواطنين المصابين بأمراض عقلية في المجتمع على غير هدًى، ودُمِّرت كذلك شبكة الأمان الخاصة بهم جراء وقف برامج الخدمة الاجتماعية، وتورط عدد منهم في المشكلات.

وهنا تحدث التغييرات في القانون. هناك قدر أقل من التعاطف اليوم مع خارقي القانون، ولا سيما المدانين في جرائم عنف؛ ومن ثم تزايد عدد الأفراد المضطربين الذين يتورطون في مشكلات ويدخلون السجن. وإذا أردنا الحد من معاناة السجناء المصابين بأمراض عقلية في السجون، فلا بد أن نحسِّن على نحو كبير نظام الصحة العقلية الحكومي، ونبدل التقليصات التي شهدتها الخدمة الاجتماعية في العقدين الأخيرين بزيادات، ونعيد التفكير في المشكلات القانونية التي تنطوي عليها مسألة إعادة إرسال خارقي القانون المضطربين عقليًّا إلى السجون. فمن الواضح أن المجتمع قد أخرج المرضى المصابين بأمراض عقلية من مؤسسات العلاج النفسي، ووضع نسبة كبيرة منهم في السجون.

يعتقد بعض الأطباء الممارسين العاملين في مجال الصحة العقلية أنه ينبغي إعادة فتح مستشفيات الأمراض العقلية الحكومية كي تتمكن هذه الفئة من المرضى من تجنب المشكلات. ويقترح آخرون وضع أنظمة أفضل لرعاية الصحة العقلية في المجتمع. وفي كلتا الحالتين، نحن بحاجة إلى إعادة النظر في أولوياتنا الاجتماعية وإدراك أن خفض الميزانيات الخاصة بخدمات الصحة العقلية الحكومية لا يؤدي إلا إلى توسع في ميزانية المؤسسات العقابية، ويسفر عن قدر كبير من المعاناة والعجز لدى الأفراد الذين يعانون اضطرابات عقلية خطيرة وينتهي بهم الحال في السجن.

(٣-٢) إبعاد المدانين في جرائم المخدرات والجرائم التي لا تتضمن عنفًا عن السجون

ليس كل مَن يُدان بارتكاب جريمة ما يجب إيداعه السجن. فلا حاجة لإيداع الشخص الذي يتعاطى عقاقير محظورة قانونًا السجن إذا لم يكن أُلقي القبض عليه وهو يسرق من أجل الحصول عليها أو وهو يبيعها بكميات كبيرة. في الواقع، عند عقد مقارنة بين مدمني المخدرات الذين يدخلون السجون ولا يشاركون في أي برامج لعلاج إدمان المخدرات، ومجموعة مماثلة من المدمنين الذين يخضعون لبرنامج مُدار جيدًا لعلاج إدمان المخدرات في المجتمع، فسنجد أن نسبة أكبر بكثير من السجناء السابقين يرجعون إلى المخدرات بعد عام واحد من إطلاق سراحهم.

والنمو الهائل في أعداد السجناء بالسجون في العقدين الأخيرين يرجع في المقام الأول إلى حبس المدانين في قضايا المخدرات، الذين يكون أغلبهم غير مدانين في أي جرائم عنف. والحبس لا يقلل من تعاطيهم للمخدرات، لكن عند عدم مشاركتهم في أي خدمات إعادة تأهيل هادفة وتعرضهم للإيذاء من الحرَّاس والسجناء الآخرين، تقل للغاية فرصهم في البقاء بعيدًا عن المخدرات والتحول إلى مواطنين منتجين بعد إطلاق سراحهم. والبدائل المجتمعية للحبس فيما يتعلق بالمدانين في قضايا المخدرات فعالة للغاية حاليًّا، ويجب أن تأمر بها المحاكم وأن يتم توفيرها لهذه الفئة من المدانين.

(٣-٣) وضع حد لصور التفرقة العنصرية في نظام العدالة الجنائية بأكمله

هذه مهمة صعبة. فوضع حد لصور التفرقة العنصرية في الاعتقالات والإدانات والقوانين التي تحكم جرائم المخدرات والعقوبات أمر ضروري للغاية كي نحقق تحسنًا حقيقيًّا في القضاء على معاناة السجناء المضطربين عقليًّا. ولا شك أن السبيل الوحيد لفعل ذلك هو إجراء تغييرات شاملة في السياسة الاجتماعية والقانون، الأمر الذي سيتطلب بدوره تعديلًا للأولويات الاجتماعية. على سبيل المثال، علينا إصلاح جوانب القصور في المدارس بالأحياء الفقيرة، وفرص التوظيف البائسة التي تواجه الشباب في هذه الأحياء حاليًّا. وكل هذه الأمور خارج نطاق ما نتناوله في هذا الكتاب، لكن لك أن تتخيل — فيما يتعلق بالصحة العقلية للسجناء الملونين — إلى أي مدًى ستقل الأسباب التي تؤدي إلى الاكتئاب وجنون الارتياب والرغبة في الهروب، إذا كانت هناك مساواة حقيقية بين جميع الأجناس تحت مظلة القانون.

(٣-٤) إنهاء الازدحام خلف القضبان

تضاعف عدد السجناء في السجون أربعة أضعاف منذ عام ١٩٨٠. ونحن نعلم أن الازدحام مرتبط بتزايد انتشار العنف والانتحار والتدهور النفسي. وفي أثناء هذه الفترة ذاتها، اشتدت الحرب على المخدرات، وازداد تفكك برامج إعادة التأهيل في السجون وتدفق المدانين المضطربين عقليًّا إلى السجون. وقد استخدِمت زيادة العنف في السجون كحجة لتفسير حبس أعداد متزايدة من السجناء فترات طويلة في وحدات الحراسة المشددة. ومن الواضح أن وضع حد للازدحام في السجون سيكون له دور إيجابي في التوصل إلى حل للمشكلات الأخرى.

لقد طرحتُ توصيات بالفعل للمساعدة في الحد من الازدحام. فإذا وُجِّه عدد كبير من المدانين المضطربين عقليًّا إلى المؤسسات العلاجية، فسيقل عدد السجناء بالسجون، بالإضافة إلى تراجع درجة إعاقته النفسية. وإذا وُجِّه المدانون في جرائم مخدرات لا تتضمن عنفًا إلى برامج تهدف إلى مساعدتهم في التغلب على إدمان المخدرات في المجتمع، فسوف يقل عدد المودعين بالسجون أكثر فأكثر.

علاوةً على ذلك، فإن ما يتراوح بين ١٥ و٢٠ في المائة من السجناء يدخلون السجن حاليًّا لانتهاكهم شروط إطلاق السراح المشروط. وفي كثير من الحالات، يتضمن هذا الانتهاك مخالفات بسيطة للغاية. على سبيل المثال، تشترط الكثير من إدارات إطلاق السراح المشروط إجراء اختبارات بول دون سابق إنذار للكشف عن المخدرات أو الكحوليات، وعندما تكون النتيجة إيجابية، يكون الشخص المُطلَق سراحه قد انتهك شروط إطلاق سراحه ويُعاد إيداعه السجن. وبما أننا نعلم أن الوقت الذي يقضيه السجين في السجن لا يساعده على الابتعاد عن المخدرات والكحوليات، فإن هذه السياسة غير منطقية ولها نتائج عكسية. فلماذا لا يتم توجيه هؤلاء الأفراد الذين تكون نتائج اختبارات البول الخاصة بهم إيجابية إلى برامج علاج إلزامية للإدمان في المجتمع؟ يمكن أن يقلل ذلك أيضًا من أعداد السجناء بالسجون.

هناك العديد من السبل الأخرى التي يمكن من خلالها تقليل عدد السجناء بالسجون؛ لذا، علينا أن نعيد النظر في جميع القوانين وقواعد إصدار الأحكام، وأن نقيم نظام عدالة جنائية أكثر منطقية وعدلًا وإنسانية. كان معدل الجريمة في معظم الفئات مستقرًّا نسبيًّا في الربع الأخير من القرن العشرين. ولا أحد يعلم إن كان الانخفاض في هذا المعدل في السنوات القليلة الماضية ناتجًا عن تغيرات في سياسات العدالة الجنائية أم مجرد انعكاس لديموغرافيات السكان. على سبيل المثال، قلَّ عدد السجناء الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين ستة عشر وخمسة وعشرين عامًا في الوقت الحالي؛ وهذه الفئة العمرية هي المسئولة عن زيادة معدل انتشار الجريمة. لكن على الرغم من هذا المعدل المستقر للجريمة، شهد معدل الحبس زيادة ثابتة.

وعلى الرغم من وجود عدد معين من المجرمين المتمرسين في عالم الإجرام، الذين ينبغي التحفظ عليهم لحماية المجتمع من شرورهم، ليس من الممكن أن يكون قد زاد عدد هؤلاء الأشخاص منذ عام ١٩٨٠ بمعدل أربعة أضعاف. لكن من الواضح أن معدلات الحبس ترتبط على نحو أكبر بالأولويات الاجتماعية مقارنةً بارتباطها بمعدلات الجريمة. ففي العقدين الأخيرين، هدفت سياساتنا الاجتماعية إلى «إخفاء» قطاعات كبيرة من السكان، بما فيها الأعداد الكبيرة من الفقراء والملونين؛ لذا، فإننا بحاجة لمراجعة أولوياتنا الاجتماعية وقواعد إصدار الأحكام الخاصة بنا. وعلينا كذلك التقليل بقدر كبير من عدد الأشخاص الذين نودعهم السجون.

(٣-٥) توجيه الموارد لإعادة تأهيل المدانين الشباب

يشير كل مَن أعرفهم ممن يعملون مع المدانين الشباب إلى أن البرامج والتدخلات التي يقومون بها تتسم بالفعالية. لم أركز على هذه الفئة من المدانين في هذا الكتاب، لكنني سأضيف هذه التوصية هنا؛ لأنها واضحة للغاية ومهمة إذا أردنا حقًّا جعل نظام العدالة الجنائية أكثر عدالة وفعالية. عندما يسمح التمويل الكافي للمعالِجين والمرشدين النفسيين والمنظمين المجتمعيين (الذين يقومون بتنظيم جلسات جماعية يحاول خلالها الشباب حل مشكلاتهم معًا) بالتدخل للحد من عنف العصابات وتعاطي المخدرات وانتشار الجريمة بين الشباب، تكون النتائج مذهلة. وعلى النقيض من ذلك، عندما يُودع المدانون الشباب المؤسسات العقابية، يتعرض الكثيرون منهم للصدمات ويعرفون أن خياراتهم قاصرة على حياة الجريمة والعنف.

إذا نظرنا مثلًا إلى تاريخ حياة افتراضي لمدان بالغ مضطرب عقليًّا؛ فسنجد أنه تعرض لسوء المعاملة والهجر في طفولته على الأرجح، وأغلب الظن أنه فشل في المدرسة وتحول إلى عالم الجريمة والمخدرات بدلًا من أن يعثر على وظيفة ذات قيمة. ومع الضغط الإضافي الذي تعرض له جراء البطالة وتعاطي المخدرات ونقص الدعم الأسري والوقوع في مشكلات مع القانون، تعرض هذا الشاب لأول أزمة نفسية في حياته عندما كان في نهاية مرحلة المراهقة أو بداية العشرينيات. وسواء أكان هذا الانهيار الأول قد حدث في مؤسسة عقابية أم في المجتمع، فبعد إصابته بمرض عقلي حاد ودائم صار هذا الشاب يعاني مستويات أعلى من الخلل الوظيفي، وانتهى به الحال مدانًا في جريمة وحاصلًا على حكم بالسجن مدة طويلة.

إذا فكرنا للحظات بشأن الوقت المناسب الذي يمكن لتدخلنا أن يكون أكثر فاعلية فيه من أجل مساعدة هذا الشاب على تجنب حياة الجريمة والحبس، فمن الواضح أنه كلما تمكَّنا من فعل ذلك مبكرًا، كانت فرصنا في مساعدته أفضل. فلو أنه تم تحويل هذا الشاب بعدما مَثُل أمام المحكمة وهو في سن المراهقة إلى برنامج مجتمعي يعمل على إصلاح عيوبه في التعلم ويتدرب فيه على العمل؛ لكان بإمكانه الانضمام إلى القوة العاملة وتأسيس حياة بناءة لنفسه في المجتمع. ربما ظل يعاني انهيارًا انفعاليًّا، لكن حالته كانت ستُكتشف سريعًا وكان سيحصل على الرعاية النفسية اللازمة لمساعدته على إعادة الاستقرار لحياته والعودة إلى العمل. على الجانب الآخر، لو أنه أُودع السجن في نهاية مرحلة المراهقة، فإن عجزه النفسي كان سيسفر بالتأكيد عن تعرضه للإيذاء وكان سيودع وحدة حبس مشدد، وربما كان العلاج النفسي الذي سيحصل عليه داخل السجن غير مناسب. الغرض من هذا المثال الافتراضي هو توضيح أن الاهتمام المبكر بالمشكلات التي يعانيها شاب مدان في جريمة، وتحويله إلى برنامج خارج المؤسسات العقابية، والبدء السريع في تقديم خدمات الصحة العقلية له عند الضرورة، كل ذلك يزيد بشكل هائل من احتمالية أن يصبح هذا الفرد في النهاية مواطنًا مُنتِجًا وملتزمًا بالقانون.

•••

لقد استعرضتُ بعض التغييرات في الأولويات والسياسات الاجتماعية التي من شأنها تحسين الأوضاع في سجوننا على نحو كبير، بالإضافة إلى تخفيف المعاناة عن المدانين المضطربين عقليًّا. ويمكن إضافة الكثير من التوصيات الأخرى لهذه القائمة من التغييرات. لكن ما أريد توضيحه هو أننا بحاجة للبدء في إجراء تغييرات على المستويات الثلاثة جميعها؛ فالوضع المأساوي في سجوننا يحتاج إلى تحرك عاجل.

(٤) بعض البرامج النموذجية

ليس هناك نظام سجون مثالي على حد علمي؛ فمعظم السجون الأمريكية تعاني الازدحام الشديد، وتقدم فرصًا قليلة للغاية لإعادة التأهيل، وتتسم فيها خدمات الصحة العقلية بالقصور الشديد، وتتضمن وحدات حراسة مشددة تسبب ذهانًا. ومع ذلك، توجد داخل هذه الأنظمة الزاخرة بالعيوب بعض المحاولات الجريئة لإقامة برامج إنسانية ومبتكرة وفعالة. وحتى إذا فشلت هذه المحاولات في نهاية المطاف، فمن الجدير دراسة الخبرة التي نحصل عليها بتعاملنا مع الفئات الفرعية من السجناء كي نتمكن من تحديد أنواع البرامج الفعالة في إعادة تأهيل هؤلاء السجناء، والتخطيط لليوم الذي ستسمح فيه سياسات عدالة جنائية أكثر منطقية للهيئات العقابية بالاستفادة من النماذج لإقامة أنظمة سجون أفضل. ومن المفيد كذلك البحث عن نماذج فعالة خارج الولايات المتحدة الأمريكية.

(٤-١) البرامج النموذجية في السجون الأمريكية

ثمة استثناءات للسياسات القاسية السائدة في السجون الأمريكية حاليًّا، إذ تعكس بعض البرامج النموذجية مستوًى متميزًا من الاكتراث باحتياجات السجناء. لكن معظم البرامج النموذجية صغيرة للغاية بحيث لا يمكنها الوصول إلى أغلبية السجناء. وفي كثير من الأحيان، تتوقف هذه البرامج النموذجية بمجرد أن تبدأ في تحقيق أثر إيجابي، ويكون ذلك غالبًا لأسباب غير واضحة. وفي الوقت نفسه، تعاني السجون من استقبال أعداد هائلة من السجناء الجدد، والازدحام الناتج عن ذلك يعيق كل الجهود الرامية لإعادة تأهيل السجناء.

يحتوي كل نظام سجون على مشروعاته المفضلة وبرامجه النموذجية. ويخضع القبول في هذه البرامج عادةً لقيود صارمة. على سبيل المثال، مثلما ذكرت في الفصل الخامس، يحتوي نظام سجن النساء بكاليفورنيا على برنامج إقامة في المجتمع يمكن للسجينات الحوامل الاستفادة منه حتى يضعن حملهن ويتمتعن بفرصة التعرف على أطفالهن. لكن الاشتراك في هذا البرنامج يقتصر فقط على السجينات اللاتي ينتمين للمستوى الأمني المنخفض، كما أن الأماكن فيه محدودة للغاية. في واقع الأمر، معظم السجينات لا يشعرن على الإطلاق بوجود هذا البرنامج. لذا، على الرغم من أنه أمر جيد للغاية أن يضع نظام سجن كاليفورنيا برنامجًا يسمح لعدد قليل من السجينات بإنجاب أطفالهن خارج أسوار السجن، فمن القسوة حرمان نسبة كبيرة من السجينات الحوامل داخل السجن من هذه الفرصة.

أسست السجينة/الكاتبة كاثي بودين12 برنامجًا للأمهات في سجن بيدفورد هيلز بنيويورك يُسمَّى «الأمومة عن بُعد». وتقود بودين مجموعات للسجينات الأمهات مُصمَّمة على غرار المجموعات الهادفة لرفع الوعي لدى النساء التي ظهرت في نهاية ستينيات القرن العشرين. في هذه المجموعات، تتحدث النساء عن شعورهن بالعجز والخزي والذنب تجاه عدم وجودهن مع أطفالهن. ويروين قصصًا عن الانتهاكات التي يتعرضن لها والتعجيز الذي يعانينه. ويمنحن أنفسهن القوة عن طريق استماع بعضهن لقصص البعض، وقبول بعضهن البعض على الرغم مما قد تكون عانته وفعلته كلٌّ منهن في الماضي. ويتحدثن عن مشاعرهن كأمهات وكيف يمكنهن أن يصبحن أمهات أفضل، حتى من داخل السجن.
من الأمثلة الأخرى أيضًا على البرامج النموذجية مشروع سجن سانتا كروز13 للنساء الذي أسسته كارلين فيث ومتطوعون آخرون في مؤسسة كاليفورنيا الإصلاحية للنساء في سبعينيات القرن العشرين. اكتشف القائمون على المشروع أن السجينات أكثر ذكاءً بكثير مما يفترضه السجَّانون. فجاء متوسط نتائج معدل الذكاء للسجينات في اختبار ستانفورد بينيه ١١٠، وهو ما يزيد بدرجة ملحوظة عن المتوسط لدى جميع المواطنين. قدم القائمون على المشروع دورات تدريبية، وتوصلوا إلى أن السيدات شاركن بحماس، وأن عملية التعلم ساعدتهن في قضاء مدة عقوبتهن دون التورط في أية مشكلات. وذكر المعلمون كذلك أنهم تعلموا الكثير في أثناء عملهم مع السجينات.

وأوضح البحث الذي أجرته فيث على النتائج أن ٥ في المائة فقط من السجينات اللاتي استكملن الدورات التدريبية بنظام الساعات عدن للسجن بعد خمسة أعوام من إطلاق سراحهن، في حين أنه يعود نحو ٧٠ في المائة من النساء اللاتي لم يشاركن في هذه الدورات إلى السجن خلال هذه الفترة. ومثلما يحدث في أغلب الأحيان، أوقفت السلطات العقابية البرنامج في النهاية. فخضعت إدارة المؤسسات العقابية في كاليفورنيا لضغوط الحرَّاس الذين ادعوا أن البرنامج استهان بسلطتهم، وطردوا مشروع سجن سانتا كروز للنساء من مؤسسة كاليفورنيا الإصلاحية للنساء.

هناك كذلك تعاون بين إدارة المؤسسات العقابية في واشنطن14 وجامعة واشنطن لإنشاء برامج نموذجية لإدارة السجناء الذين يعانون أمراضًا عقلية خطيرة ومعالجتهم. على سبيل المثال، أقامت المؤسسة والجامعة مركزًا علاجيًّا للسجناء ذوي الحالات الحادة بعض الشيء في جزيرة ماكنيل حيث يعمل الأطباء النفسيون المجتمعيون مع موظفي المؤسسات العقابية على تصميم برامج علاجية تلبي الاحتياجات الأمنية.

من جهود التعاون الأخرى بين إدارة المؤسسات العقابية بواشنطن وجامعة واشنطن «برنامج التقييم المتنقل»، الذي يتضمن فريقًا مكوَّنًا من أربعة موظفين من مؤسسات أخرى، ينتقلون إلى السجن الذي يوجد به سجين مضطرب عقليًّا يتسبب في شغب. يجري الفريق زيارة ويقيِّم الموقف. بعد ذلك، وحيث إن هذا الفريق مكون من أشخاص من خارج المؤسسة لم يسبق لهم إدارة السجين المعني المخل بالنظام، يوصي هذا الفريق بخطة إدارية تتضمن نصائح حول وضع السجين في بيئة علاجية خاصة بأمراض الصحة العقلية أو إيداعه وحدة حبس عقابي. والزيارة التي يقوم بها فريق متنقل مكون من موظفين من مؤسسات أخرى يضفي بعض الموضوعية على المواقف التي استعدى بها هذا السجين الموظفين المحليين، ولا يشعر هؤلاء الموظفون بأي نوع من التعاطف معه. وينعقد الأمل في أن يساعد علم الموظفين المحليين بإمكانية استدعائهم فريقًا زائرًا متنقلًا إلى أي سجن على تجنب الإنهاك والإحباط.

هناك أيضًا بعض البرامج النموذجية الواعدة التي تعد جزءًا من البدائل المجتمعية للحبس وبرامج ما بعد إطلاق السراح من السجن، ولا سيما تلك المخصصة للمدانين من الشباب. وأفضل هذه البرامج تشمل التعاون بين مقدمي رعاية الصحة العقلية في المجتمع وموظفي رعاية الصحة العقلية في المؤسسات العقابية، والفِرق المتعددة التخصصات التي تقدم مجموعة متنوعة من الخدمات، والاتصالات بين جهات التدريب الوظيفي والمؤسسات التعليمية في المجتمع، والدعم من جهات تنفيذ القانون والمحاكم للجهود التي تهدف لإحالة المجرمين غير العنيفين الذين يعانون أمراضًا عقلية إلى بيئات علاجية خارج المؤسسات العقابية.

وهناك العديد من البرامج النموذجية المثيرة للإعجاب. وأتمنى أن يستغل نظام السجون بأكمله يومًا ما المعرفة المجمعة لهذه البرامج لتأسيس نهج أفضل تسير عليه المؤسسات العقابية.

(٤-٢) النماذج العالمية15

ينبغي أن نتذكر دائمًا أن كل دولة لها أسلوبها الخاص بها في التعامل مع الإجرام والعدالة الجنائية. وتتنوع معدلات الجريمة وممارسات إصدار الأحكام، وكذلك المواقف العامة تجاه الأهداف الاجتماعية للسجن. ومع ذلك، من خلال دراسة البرامج وسياسات المؤسسات العقابية التي تعمل على نحو جيد على ما يبدو، يمكننا تصور تحسينات جيدة يمكن أن تُطبق في المؤسسات العقابية بالولايات المتحدة الأمريكية.

على سبيل المثال، يبدو النهج الذي تتعامل به الدنمارك مع السجون مستنيرًا للغاية. فيرى الدنماركيون أن السجون ليست سوى فرع من فروع الخدمات الاجتماعية خاص بالمواطنين الذين ضلوا طريقهم. وينظرون للجريمة في سياق التعليم والتوظيف والفرص الاجتماعية والاقتصادية. وعلى الرغم من أنهم لا يؤمنون بأن السجون فعالة في إعادة تأهيل المجرمين، فإن لديهم التزامًا صارمًا بتوفير بيئة آمنة وإنسانية للأشخاص الذين حُكِم عليهم بقضاء مدة في السجن كعقوبة على جرائمهم.

والأحكام في الدنمارك أقصر بكثير عادةً مقارنة بنظيراتها في الولايات المتحدة. على سبيل المثال، المدانون بجرائم السطو والسرقة يُحكَم عليهم في المتوسط بقضاء أربعة إلى ستة أشهر في السجن، بينما يكون المتوسط في الولايات المتحدة أربعة وأربعين شهرًا في جرائم السطو، وسبعة وثلاثين شهرًا في جرائم السرقة. وعلى عكس الأمريكيين، لا يعتقد الدنماركيون أن ظروف السجن القاسية تؤدي إلى ردع الجريمة، ولديهم فكرة تفاؤلية بأن أغلبية المجرمين سيستقيمون في حياتهم إذا مُنِحوا فرصة ثانية.

وتختلف السجون الدنماركية أيَّما اختلاف عن السجون الأمريكية؛ فهي أصغر كثيرًا من السجون الأمريكية. وبينما يحتوي السجن الواحد في الولايات المتحدة عادةً على عدة آلاف من السجناء، يقتصر عدد السجناء في أيٍّ من السجون الدنماركية على نحو مائتين. ويعتقد الدنماركيون أن صغر حجم السجون يمكِّن السجناء والموظفين من تعرُّف بعضهم على بعض، والتوصل إلى سبل بناءة لتسوية الخلافات بينهم. ولا شك أن مستوى العنف منخفض للغاية بين موظفي السجون والسجناء في الدنمارك.

ومن الجوانب المثيرة للإعجاب حقًّا في فلسفة المؤسسات العقابية بالدنمارك مفهوم إيداع سجين واحد في كل زنزانة. فيعتقد الدنماركيون أن أي سجين يحتاج إلى خصوصية ومكان يهرب فيه من بيئة السجن المليئة بالتوترات؛ كي يتمكن من إعادة تقييم حياته ويصلح من نفسه. ويُسمَح للسجناء أيضًا بتزيين زنزاناتهم؛ ما يعني أن السجون في الدنمارك ليست بنفس القدر من الكآبة التي يتسم بها الكثير من السجون الأمريكية.

وإلى جانب تحمل مسئولية الأمن في السجون، يعمل موظفو السجون كذلك موجهين ومعلمين واختصاصيين اجتماعيين. ويضطلعون بمسئولية الإشراف على السجناء وتدريبهم على المهارات التي افتقروا إليها عند ارتكابهم لجرائمهم. ويُتوقع من السجناء أن يعملوا ويحضروا الفصول المدرسية؛ فالتكاسل ليس مسموحًا به في السجون الدنماركية.

ومن السمات الأخرى للسجون الدنماركية الدعم الذي يقدمه الموظفون لاستمرار الروابط الأسرية والمجتمعية. فمتى كان ممكنًا، يوضَع السجناء في مؤسسات عقابية بالقرب من منازلهم. ويتم تشجيع الأسر على زيارة ذويهم في السجون. ويُسمَح كذلك بالتسريح المؤقت للسجناء كمكافأة على حسن السير والسلوك. ويُجرِّب الدنماركيون الآن نظام «السجون المفتوحة» الذي يُرسَل فيه السجناء من المستويات الأمنية المنخفضة إلى المجتمع للعمل أثناء النهار، ثم يعودون إلى السجن ليلًا للمبيت.

تتبنى دول أخرى أيضًا برامج نموذجية، حتى لو لم يتمتع نظام السجون بأكمله داخلها بنفس القدر من التنوير الذي يتمتع به نظام الدنمارك. على سبيل المثال، في نظام السجون المكسيكي، الذي يتضمن مؤسسات عقابية قاسية ذات إجراءات أمنية مشددة، توجد مستوطنة تريس مارياس العقابية المخصصة للمدانين الفيدراليين الذين يقضون مدد عقوبة طويلة جدًّا. يمكن في هذه المستوطنة لأسر السجناء الانضمام لذويهم على إحدى الجزر الثلاث المكوِّنة للمؤسسة، ويُمنَح السجناء فرصًا مهنية وترفيهية على درجة عالية من الإنسانية، ويتمكنون من المحافظة على مهاراتهم الاجتماعية وروابطهم الأسرية وهم يعدون أنفسهم لإطلاق سراحهم في النهاية.

تتمتع هولندا كذلك بأحد أقل معدلات الحبس مقارنةً بأية دولة صناعية متقدمة أخرى. وتلتزم هذه الدولة بمنع الازدحام في السجون. وكما يفعل الدنماركيون، يتمسك الهولنديون بقاعدة إيداع سجين واحد في كل زنزانة؛ لأنهم يؤمنون بأن السجناء — كغيرهم من المواطنين — لهم الحق في الخصوصية والراحة.

هذه بعض الأفكار المستمدة من دول أخرى. ولا تتمتع أيٌّ من الدول التي ذكرتها بسجل مثالي في هذا الشأن. وليس من المناسب كذلك مقارنة معدلات العودة للإجرام فيما بينها؛ وذلك لأن معدلات الجريمة الإجمالية تختلف اختلافًا كبيرًا من دولة لأخرى. لكن من المفيد دائمًا الاستعانة بالأفكار الناجحة. لك أن تتخيل فقط منح السجناء زنزانات خاصة بهم وحدهم في سجون أصغر حجمًا وغير مزدحمة، وتمتعهم بزيارات جيدة من أحبائهم الذين يعيشون على مقربة منهم، ومشاركتهم في التدريب المهني والبرامج التثقيفية، وحصولهم على نصائح من الحرَّاس الذين يثقون بهم. يا له من تناقض هائل بين هذا الوضع وبين ما يحدث في الولايات المتحدة! فكم سيقل عدد الانهيارات الانفعالية التي تحدث خلف القضبان إذا نُفِّذت هذه الرؤية، وكم سيزيد عدد السجناء الذين سيتمكنون من الاستقامة في النهاية بعد خروجهم من السجن!

•••

إن برامج علاج الصحة العقلية وإعادة التأهيل بالمؤسسات العقابية لن تنجح إلا إذا أراد واضعو السياسات وموظفو السجون وعامة الناس لها النجاح. فإذا أراد المجتمع علاج السجناء فيه وإعادة تأهيلهم، وإذا تمكَّن المُشرِّعون من التصدي للفئة الأعلى سلطة وصوتًا التي تنادي بأحكام أكثر قسوة وتُشكك في جدوى إنفاق الأموال على السجون والشرطة، وإذا صار عامة الناس أكثر سماحةً، فقد يشهد نظام المؤسسات العقابية عهدًا جديدًا تمامًا. في الفصل الأخير من هذا الكتاب، سأناقش المنطق المعيب للقانون والنظام؛ ذلك المنطق الذي يعيق تقدمنا. كذلك سوف أقدم تصورًا للرؤية التي نحتاج إليها لتحقيق هذا التقدم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤