الفصل الحادي عشر

وَهْم القانون والنظام

إن أحد أهم أسباب عدم رغبة عامة الناس في منح المجرمين فرصة لإعادة تأهيل أنفسهم أو توفير العلاج المناسب للسجناء المضطربين عقليًّا هو المنطق السائد للقانون والنظام. وهذا المنطق له العديد من الآثار السلبية على المجرمين المصابين بأمراض عقلية. فنظام المحاكم الذي لديه إصرار على تطبيق عقوبة قاسية على المجرم لن يضع على الأرجح في الاعتبار الحالة العقلية للمجرم أثناء اتخاذ القرار بشأن كونه مذنبًا أم لا وإصداره حكمًا عليه. وعندما يصل عدد كبير من السجناء المضطربين عقليًّا إلى السجون، ويعانون الظروف القاسية داخلها، لا تُقابَل شكواهم من القسوة والمعاملة غير اللائقة اللتين يتعرضون لها بقدر كبير من التعاطف.

لذا، إذا أردنا أن نُصلح سجوننا وأن يحصل المصابون بأمراض عقلية على رعاية ملائمة، فسنحتاج إلى أن نفهم سبب قبول عدد كبير من الناس بالمنطق المعيب للغاية الذي يستند إليه نظام السجون، وأن نرفض خطة إيداع عدد متزايد من المواطنين في مؤسسات شديدة القسوة، وأن نؤسس نهجًا أفضل للتعامل مع المشكلات المرتبطة بالجريمة والإعاقة العقلية.

(١) المنطق المعيب للقانون والنظام

يشير منطق القانون والنظام إلى أن عددًا معينًا من الأشخاص الطالحين في المجتمع هم المسئولون عن الجريمة والعنف. وإذا أمكن تحديد هوياتهم وحبسهم فترات طويلة للغاية، فسوف تصبح الشوارع آمنة للمواطنين الملتزمين بالقانون. والمنادون بفرض القانون بأسلوب أكثر صرامة، وإصدار أحكام أكثر قسوة، وتطبيق قانون اعتياد الإجرام (عند إدانة المجرم بثلاث جرائم أو أكثر) يرغبون أيضًا في إيقاف برامج التأهيل، وحرمان السجناء من نشاط رفع الأثقال في ساحات السجون والعلاج الجماعي وإمكانية الوصول للمحاكم وكل صور «التدليل» الأخرى. والمجتمع الذي يتبنى هذا المنطق لا يمكن أن يسمح لنفسه بالاهتمام بمعاناة السجناء المصابين بأمراض عقلية الذين يُحبَسون ويختفون عن أنظار عامة الناس.

لكنَّ هناك عيوبًا خطيرة في هذا المنطق. على سبيل المثال، من غير الممكن عمليًّا اكتشاف جميع العناصر الإجرامية، ناهيك عن إلقاء القبض عليهم. فنسبة كبيرة من جرائم العنف يرتكبها شباب لم يقضوا من قبل أية مدة في السجن، ولا يبدو أن العقوبات الأكثر قسوة ستردعهم عن ارتكاب أعمال عنف. بالإضافة إلى ذلك، لا تؤدي كل الجرائم وعمليات الاعتقال إلى الإدانة، ومن ثم يظل عدد هائل من المعتدين طلقاء في المجتمع، بغض النظر عن مدى صرامة نظام العدالة الجنائية.

والمشكلة الأكبر في منطق القانون والنظام هي الاعتقاد الساذج والخطير للغاية المتمثل في أنه بما أن قسوة حياة السجن وعدم الاستعداد للاستقامة يجعلان الأفراد الطالحين أكثر غضبًا وميلًا للتورط في أعمال إجرامية بعد إطلاق سراحهم؛ فإنهم لذلك يكونون أكثر خطرًا على المجتمع مقارنةً بأي وقت مضى؛ ولذلك يجب ألا نسمح لهم أبدًا بالخروج من السجن.

(١-١) إخفاء المدانين

يتحدث علماء الاجتماع عن خط فاصل بين الفقير الذي يستحق الرعاية وذلك الذي لا يستحقها. فنحن نؤمن بأن الأشخاص الذين يعانون إعاقات بدنية يستحقون إعانات الإعاقة والرعاية الطبية؛ لأنه من المفترض أن ما يعانونه من بلاء ليس لهم يد فيه. لكننا ننظر إلى المجرمين على أنهم لا يستحقون الإعانات الحكومية؛ وذلك لأنهم اختاروا الجريمة، ويجب أن يواجهوا العواقب بغض النظر عن مدى قسوتها وعدم إنسانيتها.

ويبدو أن السجناء المصابين باضطرابات عقلية قد نُقِلوا إلى فئة «غير المستحقين» للرعاية. فعندما يُدان شخص ما يعاني مرضًا عقليًّا خطيرًا بجريمة ما ويُودع السجن، تتوقف إعانات الإعاقة التي يحصل عليها، ويتم «إخفاؤه» في عالم وحشي لا يحصل فيه غالبًا على رعاية ملائمة، وسرعان ما تُنسَى معاناته. وعندما يدير عامة الناس ظهورهم لهؤلاء الأشخاص الموجودين خلف الأسوار، تتدهور الأحوال داخل السجون على نحو سريع للغاية، خاصةً فيما يتعلق بالسجناء المصابين بأمراض عقلية.

ويبدو كذلك أن المواقف التي تتخذ إزاء الأشخاص المحرومين من حقوقهم تختلف باختلاف الوضع الاقتصادي. ففي العصر الحالي الذي نعاني فيه وضعًا اقتصاديًّا غامضًا بالنسبة إلى الجميع عدا الأكثر ثراءً، ثمة نوع من عدم الأمان واسع الانتشار واتجاه سائد من الاهتمام بالذات وعدم الاكتراث بالآخرين الذين لا يمكنهم الاعتناء بأنفسهم، مثل المشردين والمهاجرين والأمهات المراهقات اللاتي يحصلن على إعانات اجتماعية، والمعاقين، والمجرمين بشكل خاص. وتعاطفنا مع «المعوزين» في أدنى مستوًى له.

إذا نظرنا، على سبيل المثال، إلى موقفنا من التشرد، فسنجد أنه بدلًا من المطالبة بتوفير المزيد من المساكن المنخفضة التكلفة كي لا يضطر أحد إلى التشرد، هناك مطالبات بسنِّ مزيد من القوانين والقرارات الرسمية ضد المشردين كما لو كانت هناك رغبة في نفيهم خارج المدن. يجب أن نشير هنا إلى أن التشرد في حد ذاته لم يكن جريمة حتى تزايد ظهور المشردين الشحاذين عند ماكينات الصرف الآلي. فعندما شعر الناس المترفون بالانزعاج، حُبِس المشردون. وتتبارى المدن حاليًّا فيما بينها في إصدار قرارات رسمية لتجريم الجلوس أو النوم في الشوارع العامة، أو إقامة خيام في المتنزهات، أو التسول عند مخارج الطرق السريعة. وتجريم التشرد — الذي يُعَد أحد الأساليب التي يتخلص بها هذا المجتمع من الفقراء وعدد من الأشخاص المصابين بإعاقات نفسية — يمحي رسائل التذكير اليومية بالظلم البيِّن المتمثل في وجود حالات تشرد في أغنى دولة في العالم؛ وبذلك، تزداد أعداد السجناء بالسجون.

كقاعدة عامة، كلما ارتفعت مكانة الشخص على السلم الاجتماعي الاقتصادي، ازداد اهتمام عامة الناس بآلامه. فالقصة الإنسانية لممثل سينمائي أو مدير تنفيذي يعاني السرطان تتمتع باهتمام عدد أكبر بكثير من الناس، مقارنةً، مثلًا، بتقرير صدر حديثًا عن توصل الأبحاث إلى أن نسبة صغيرة فقط من الأشخاص الذين يخرجون من نظام الرعاية الاجتماعية ينجحون في الحصول على عمل. ويقل على نحو صادم أيضًا اهتمام عامة الناس بالعدد المتزايد للمشردين الذين يصابون بالالتهاب الرئوي والسُّل ويموتون في مدننا.

وكما هو الحال مع معاناة الفقراء في المجتمع، لا تحظى الصدمات المتكررة في حياة السجناء بقدر كبير من اهتمام عامة الناس. وعلى الرغم من أن المعالِجين يسارعون إلى التطوع بتقديم خدماتهم للناجين من أية كارثة طبيعية أو حادث إطلاق نار في المدارس لمنع إصابة الضحايا باضطراب توتر ما بعد الصدمة، فإن عددًا قليلًا للغاية من هؤلاء المعالِجين يتطوعون لدخول السجون للعمل مع النساء والرجال الذين تعرضوا للاعتداء على نحو متكرر منذ طفولتهم. وفي الواقع، عدد قليل للغاية من اختصاصيي رعاية الصحة العقلية يهتمون بالعمل في المؤسسات العقابية. وربما يرجع السبب في ذلك إلى معرفتهم بالمخاوف الأمنية التي تجعل عادةً التدخلات الطبية السريرية أمرًا صعبًا. وخدمات رعاية الصحة العقلية في السجون، التي تعاني نقص التمويل وتزايد الطلب عليها، لا يمكنها منح السجناء الذين تعرضوا لاعتداء من جانب الحرَّاس أو وقعوا ضحية للاغتصاب فرصة للتعبير عن معاناتهم. وعدد قليل للغاية فقط من السجناء يتمتعون بفرصة الجلوس مع معالج نفسي والتحدث معه عن الاعتداء البدني والجنسي الذي تعرضوا له وهم أطفال، أو العنف الأسري الذي عانوه وهم بالغون.

(١-٢) الخوف والانتقام

لماذا يستمر الناخبون في دعم الساسة الذين يطالبون بأحكام حبس أكثر قسوة ويوجهون قدرًا متزايدًا من الموارد العامة لبناء السجون وإدارتها على حساب جميع البرامج الاجتماعية الأخرى؟ المسألة لا تقتصر هنا على المنطق فحسب. فإذا أردنا بناء المزيد من السجون، فلا بد أن يقتنع عامة الناس اقتناعًا تامًّا بأن حبس «الطالحين» في المجتمع سيشفي الأمراض الاجتماعية التي نعانيها. ووفقًا للاقتراعات، فإن الجريمة والعنف هما المرضان الاجتماعيان اللذان يثيران معظم المخاوف العامة. وتأتي الرعاية الصحية، والإسكان، ومعاناة محدودي الدخل في مرتبة متأخرة على قائمة أولويات الناخبين.

وتركز عناوين الصحف الرئيسية وأكثر الأفلام رواجًا على جرائم العنف، بينما تؤدي البرامج التليفزيونية التي تتناول جرائم القتل والتشويه إلى تحفيز المشاهدين على الاتصال بهذه البرامج والإدلاء بمعلومات تتعلق بأماكن أشهر القتلة. ومن خلال تركيز وسائل الإعلام على أشد مخاوف الناس، يؤدي عرضها للجريمة والعنف إلى زيادة هذه المخاوف أكثر من اللازم مقارنة بالخطر الحقيقي الموجود في الشارع — تذكر أن معدلات الجريمة مستقرة أو انخفضت بضع درجات — وبالطبع هذا التضخيم يؤدي إلى زيادة عدد المشاهدين؛ ومن ثم، فإن الجمهور الذي أُثيرت لديه مخاوف غير عقلانية من المجرمين لا يمانع على الأرجح عند توجيه الأموال العامة للمؤسسات العقابية وتعرض السجناء لمعاملة وحشية.

لكن الخوف ليس السبب الوحيد وراء تمسك المجتمع بمنطق القانون والنظام. فثمة فكرة أخرى تُطرح دائمًا في وسائل الإعلام، وهي التوق للانتقام من جانب ضحايا الجرائم وأسرهم. ويعلق الطبيب النفسي كارل منينجر في عمله المميز عن العقاب وإعادة التأهيل على هذا الموقف لعامة الناس قائلًا: «يكمن السر الأعظم واللغز المحيِّر وراء عدم مبالاة عامة الناس الواضحة تجاه الجريمة والاقتراحات المتعلقة بمزيد من السيطرة على عالم الجريمة في الرغبة الدائمة في الانتقام.»1

روت لي إحدى الصديقات مؤخرًا عن تعرضها للسرقة في الشارع تحت تهديد السلاح. وهددها المجرم باغتصابها إذا لم تسلمه حقيبتها ومجوهراتها بأسرع وقت ممكن، وظلت تعاني كوابيس على مدى ليالٍ عديدة تحلم فيها بتعرضها للاغتصاب والقتل. ثم تحولت دفة حديثنا وبدأنا نتخيل أن الشخص الذي اعتدى عليها قد أُمسك به، وضُرب حتى أوشك على الموت، ثم سُلِّم للشرطة ليُودع السجن ويعرف شعور من يتعرض للاغتصاب.

والتخيلات المتعلقة بالانتقام أمر مفهوم على المستوى الشخصي. فهي توفر فرصة للتنفيس عن مشاعر الغضب واستعادة الشعور المفقود بالقدرة والسيطرة. لكن كسياسة اجتماعية، يكون دافع الانتقام مدمرًا للغاية؛ فالإبادة الجماعية، على سبيل المثال، تُبرَّر دائمًا بالانتقام من أعمال وحشية ارتكبها ضحايا هذه الإبادة أو أسلافهم. وقد يبدو أن السجون التي يعامل فيها السجناء بوحشية توفر مزيدًا من الأمان في الشارع وتُشبع الرغبة في الانتقام لدى ضحايا الجرائم العنيفة، لكنه صار من الواضح تمامًا أن المعاملة القاسية ونقص فرص إعادة التأهيل تزيد من احتمالية انفعال المجرمين بعد إطلاق سراحهم وتنفيسهم عن غضبهم المتزايد عن طريق مزيد من أعمال العنف.

إن الانتقام ليس بالسياسة الاجتماعية الجيدة. فالمواطنون الذين يرون في المجرمين مصدر خوفهم الوحيد ويجعلون الانتقام جزءًا محوريًّا من سياستهم الاجتماعية سرعان ما يكتشفون أن هذا النوع المستشري من الاستياء وانعدام الثقة يمكن أن ينتقل إلى جماعات أخرى في أي وقت. وعندما يسيطر الانتقام على عقلانية العامة؛ تتزايد الأنانية وانعدام الثقة، بينما تضعف معنويات المجتمع.

(١-٣) خلق مشكلة أكبر

ثمة خلل كبير في منطق القانون والنظام، وهو أنه عند التعامل مع السجناء بوحشية وتجاهل احتياجاتهم العاطفية، يصبحون أكثر غضبًا وتزداد احتمالية تكرارهم للأعمال غير القانونية التي أدت إلى دخولهم السجن، سيصبح بعضهم أكثر ميلًا للعنف. والمجرمون الذين كانوا مضطربين عقليًّا بالفعل عند دخولهم السجن سيصبحون أكثر اضطرابًا، والآخرون الذين كانوا مستقرين عاطفيًّا قبل دخولهم السجن سيُجن جنونهم.

وفي حين أنه من المهم أن نوضح أن السجناء المضطربين عقليًّا أكثر ميلًا للعنف من السجناء غير المضطربين، فإن هناك مجموعة فرعية من السجناء تمثل تهديدًا خطيرًا للغاية على الأمن العام، وهم السجناء الذين يجدون صعوبة في التحكم في انفعالاتهم ويقضون معظم مدة عقوبتهم في الحبس الانفرادي. فعند ازدحام السجون، يصبح السجناء خاملين نسبيًّا ويقضي عدد كبير منهم وقتهم في وحدات الحبس المشدد؛ ويرتكب عدد معين من السجناء السابقين — لكن ليس أغلبهم — جرائم مروعة سريعًا بعد إطلاق سراحهم. فهل من الحكمة إذن أن يوضع السجناء الذين لم يُدانوا بجرائم عنف والمصابون بأمراض عقلية والمجرمون العنيفون معًا في مؤسسات عقابية شديدة الازدحام ويتم معاملتهم فيها بوحشية؟

عندما كنت في ميشيجان لتقديم شهادتي في قضية كين ضد إدارة المؤسسات العقابية بميشيجان، علَّق مات ديفيز — وهو المتحدث الرسمي لهذه الإدارة — في الأخبار التليفزيونية على مخاوفي من أن السياسة المقترحة التي تحرم السجناء من معظم أغراضهم الشخصية سوف يكون لها آثار سيئة للغاية على صحتهم العقلية، وقال: «كان عليهم أن يفكروا في ذلك قبل ارتكابهم لجرائم السرقة والاغتصاب والقتل. فهذا ما فعله هؤلاء السجناء. هؤلاء السجناء ليست لهم هوية إنسانية. وإنما هم سجناء، وارتكبوا خطايا وآثامًا لا تُغتفَر في حق مواطني ميشيجان.»

لا شك أن السيد ديفيز، بصفته ممثلًا لإدارة مؤسسات عقابية كبيرة، على وعي بحقيقة أن أغلبية السجناء لم «يقتلوا أو يغتصبوا» أحدًا، ولا بد أنه يعلم أيضًا أن معاملة الناس على أساس أنهم ليس لهم «هوية إنسانية» لا يؤدي إلا إلى أنهم سيصيرون أكثر غضبًا وأقل التزامًا بالقانون. إن منطق القانون والنظام يدعو للمبالغة والانحراف في كل شيء.

ويرد مناصرو القانون والنظام على المخاوف المتعلقة بإطلاق سراح السجناء الذين تعرضوا لمعاملة وحشية داخل السجون بقولهم: «هذا بالضبط ما نحاول إثباته، فالمجرمون أشخاص أشرار ومعظمهم بحاجة لحبسهم وعدم إطلاق سراحهم إلى الأبد.» بعبارة أخرى، سواء أكان ازدحام السجون ونقص برامج العلاج النفسي وإعادة التأهيل واللجوء للحبس المشدد تزيد جميعها من خطورة السجناء أم لا، فإن الحل في الحالتين لدى هؤلاء المناصرين هو قضاء المزيد من الوقت في السجن في ظل ظروف أكثر قسوة.

هذا الرد — شأنه شأن اقتراح السيد ديفيز بمعاملة السجناء على أنهم ليس لهم «هوية إنسانية» — يمكن أن يؤدي إلى وقوع كارثة. فهنا يتجلى الجنون في موقف المجتمع حاليًّا من السياسات العقابية. فإما أن نحتفظ بعدد هائل من السجناء خلف الأسوار لما تبقى من حياتهم، وإما أن ننشئ مؤسسات عقابية تسفر في الواقع عن مزيد من التهديدات للأمن العام.

وعليَّ أن أقرَّ هنا أننا كمصلحين تقدميين للسجون نضعف حُجتنا في كل مرة يظهر فيها تجاهلنا لمخاوف الناس الشديدة بشأن الجريمة، أو عندما نحاول الاستهانة بحقيقة أن هناك بالفعل بعض الأشخاص يرتكبون أمورًا شنيعة ويستحقون بقاءهم في السجون فترة طويلة من الوقت. فلا بد أن نولي مخاوف الناس الواقعية للغاية مزيدًا من الاهتمام. والقول إن السجناء يجب ألا يتعرضوا للمعاملة الوحشية أو إن مَن يعانون اضطرابات عقلية يجب أن يتلقوا علاجًا مناسبًا لا يعني أنه ينبغي تركهم يفلتون من العقاب. لكن قولنا إن ما نفعله بالسجناء يجعلهم أكثر يأسًا وتهديدًا للأمن العام ليس معناه أنه ينبغي حبسهم إلى الأبد.

(٢) المخطط الخفي وراء فكرة السجون

أي شخص يكلف نفسه عناء جمع الحقائق، ويتجنب الانحرافات غير الموضوعية الناتجة عن الخوف والرغبة في الانتقام، ويحلل بجدية الأسلوب الذي تُدار به السجون، سيتوصل إلى نتيجة مفادها أن هذه السجون قد صُمِّمت لتفشل. لا شك أن نجاح أو فشل أي مؤسسة يجب قياسه بناءً على مدى تحقق أهدافها. ولعل وضوح الفشل المتأصل في تصميم السجون يوضح سبب الإخفاق الذريع لنظامنا العقابي في «إصلاح» الأشخاص المودعين السجون. ولا شك أن استكشاف هذه المشكلة يجعلنا نتساءل عن المستفيدين من هذا الفشل. مَن أبصروا الخلل في منطق القانون والنظام يصلون في النهاية إلى تصور أكثر عقلانية لمنظومة مصالح تتربح من وراء السجون تعزز المنطق الخاطئ بهدف زيادة الأرباح والسلطة.

(٢-١) هل السجون مُصمَّمة لتفشل؟

نحن نعلم أن الازدحام الشديد في السجون يؤدي إلى ارتفاع معدلات العنف والانهيار النفسي والانتحار، لكننا نواصل الدفع بأعداد أكبر من الناس إلى داخل السجون. ونعلم أن برامج التأهيل المعدة جيدًا تساعد السجناء على الاستعداد للاستقامة بينما يسفر خمولهم عن عنف واضطراب انفعالي، ومع ذلك نستمر في حلِّ برامج إعادة التأهيل بالسجون. ونعلم أن السجناء الذين يشاركون في محاضرات جامعية يقل للغاية معدل عودتهم إلى الإجرام، ومع ذلك نمنع السجناء من استغلال منح بيل الفيدرالية للحصول على الدورات الجامعية. ونعلم أن التدخل الطبي النفسي السريع والفعال في حالات الانهيار النفسي الحادة يؤدي إلى نتائج أفضل ويخفف من وطأتها، لكن خدمات الصحة العقلية في مؤسساتنا العقابية تعاني مع ذلك قصورًا شديدًا؛ ما يجعل الكثير من السجناء المصابين بالذهان يضطرون للانتظار فترة طويلة كي يتم تشخيص حالاتهم وفترة أطول كي يُنقَلوا إلى وحدة داخلية للمرضى ذوي الحالات الخطيرة. ونعلم أن الزيارات الجيدة ترتبط ارتباطًا قويًّا بنجاح السجين في التكيف مع المجتمع بعد إطلاق سراحه، لكننا مع ذلك نضع السجون ذات الإجراءات الأمنية المشددة بعيدًا عن المراكز السكانية ونخلق حواجز بيروقراطية لا نهاية لها أمام الزيارات الأسرية التي يحصل عليها السجناء.

نحن نعلم كذلك أن الحبس الانفرادي في وحدات الحبس المشدد يؤدي إلى مشكلات حادة بالصحة العقلية، لكننا نواصل إرسال أعداد متزايدة من السجناء، بمن فيهم المصابون باضطرابات عقلية خطيرة، إلى وحدات الحراسة المشددة. ونعلم أن إطلاق سراح السجناء من وحدات الحبس الانفرادي مباشرةً إلى المجتمع يسفر على الأرجح عن فشلهم في التأقلم وربما أيضًا عن ارتكابهم جرائم عنف، لكننا مع ذلك نجبر عددًا متزايدًا من السجناء على الخروج من وحدات الحبس الانفرادي مباشرةً إلى المجتمع، مع قدر بسيط أو معدوم من التخطيط لما بعد إطلاق السراح.

لماذا يستمر المجتمع في دعم منطق القانون والنظام مع أنه من الواضح أنه صُمم ليفشل؟ إذا انتقلنا للحظات إلى جانب آخر من السياسة العامة، فسنجد أن جوناثان كوزول يشير إلى أن المدارس الحكومية لا تفشل، وإنما تنجح، لكن علينا أن ندرك أن الوظيفة التي أُسست من أجلها هذه المدارس ليست هي توفير التعليم لجميع الأطفال، وإنما متابعة الأطفال، وتدريب الفقراء منهم على خفض توقعاتهم، وعلى إلقاء اللوم على غبائهم فيما يتعلق بوضعهم المتدني، بينما تعمل المدارس على إعداد طلاب الطبقة المتوسطة والعليا للنجاح في الجامعة وما بعدها.

وبالمثل، يبدو أن الأهداف في نظام السجون الحالي لا تتعلق بوقف الجريمة وإصلاح المجرمين، وإنما الهدف هو العكس تمامًا؛ فقد أصبحت السجون تجارة كبيرة للغاية! فمَن يجنون الأرباح من بناء المؤسسات العقابية وتزويدها بما تحتاج إليه، ويديرون السجون الخاصة، ويستثمرون في قطاع السجون يزدادون ثراءً عندما تفشل السجون في إصلاح السجناء وإعادة تأهيلهم.

وأصحاب المصالح الذين يعملون على التوسع في السجون يدركون بالتأكيد المشكلات المتأصلة في النظام العقابي الذي تتزايد قسوته باستمرار. ويعلمون أن حرمان السجناء المصابين بأمراض عقلية من الرعاية النفسية الملائمة وحبسهم في وحدات حبس انفرادي يجعلهم أكثر خطرًا عند إطلاق سراحهم. لكنهم يواصلون مع ذلك بناء السجون الجديدة ومعاملة السجناء بقسوة. وهدفهم واضح تمامًا؛ فهم يريدون حبس المزيد من الناس لمدد زمنية أطول؛ الأمر الذي سيعود عليهم بمزيد من الأرباح والسلطة، على الرغم من علمهم بأن ذلك لن يجعل شوارعنا أكثر أمانًا.

وعامة الناس بالطبع نادرًا ما يفكرون في مثل هذه الأمور. وفي السنوات الأخيرة، تحقق نجاح كبير في إخراس كل مَن قد يدفعوننا لإعادة النظر في توجهنا الداعم للأحكام الأكثر قسوة؛ ما جعل أي سياسي أو قاضٍ يفكر في الكشف عن حماقة السياسات العقابية الحالية يقلق بشأن تدمير فرصه في الفوز بأي انتخابات قادمة.

لكن عندما نفكر قليلًا في أوجه التناقض، مثل تلك التي ذكرتها بشأن السجناء الذين يعانون اضطرابات عقلية خطيرة، يتضح لنا أن السياسات العقابية الحالية قد صُممت لتفشل. ومَن يستفيدون من هذا الفشل لديهم من الوقاحة ما يجعلهم يستخدمون هذا الفشل ذاته — المتمثل في المعدل المتزايد للعنف والانهيارات العقلية في السجون، بالإضافة إلى تزايد معدل تكرار القبض على السجناء بعد إطلاق سراحهم — لتبرير إنفاقهم المزيد من الأموال على السجون!

(٢-٢) منظومة التربح من وراء السجون2

يمثل أصحاب المصالح الذين يتربحون من التوسع في السجون شبكة متداخلة. ولتحديد اللاعبين الرئيسيين في هذه المنظومة، ليس علينا سوى أن نسأل أنفسنا مَن سيسعده تزايد أعداد السجون والسجناء. هناك على الأقل سبع مجموعات واضحة سيسعدها ذلك:
  • (١)

    الساسة الذين يستخدمون خطاب القانون والنظام لكسب الأصوات والبقاء في مناصبهم وترهيب ناخبيهم وغيرهم من الساسة ليدفعوهم إلى دعم القوانين التي يؤيدونها، وجماعات المصالح الخاصة التي تجعل التوسع في السجون جزءًا من أجندة أعمالها. والشركات التي تجني أكثر الأرباح من التوسع في نظام السجون تمثل نسبة كبيرة من أهم المساهمين في تمويل حملات هؤلاء الساسة.

  • (٢)

    المسئولون الفيدراليون ومسئولو الولايات والهيئات الحكومية التي تهيمن على العدالة الجنائية والمؤسسات العقابية وتسعى لزيادة ميزانياتها وسلطتها. فعندما يكون هناك عنف في السجون، ويفشل السجناء السابقون في حياتهم ويلزم إيداعهم السجون من جديد، يمكن أن تبرر الجهات والإدارات التي يتبعونها مطالباتها بميزانيات أكبر.

  • (٣)

    موظفو السجون. على سبيل المثال، يُعَد اتحاد ضباط شرطة السجون بكاليفورنيا أحد أقوى الاتحادات وأهم جماعات الضغط في كاليفورنيا. يزيد مرتب الحارس عن ٥٠ ألف دولار في العام، وقد شارك اتحادهم بأكبر مساهمة في حملة إعادة انتخاب بيت ويلسون — حاكم ولاية كاليفورنيا سابقًا والمناصر للقانون والنظام — عام ١٩٩٤.

  • (٤)

    الشركات الخاصة والمقاولون الذين يجنون أرباحًا من بناء السجون وتشغيلها، بمن فيهم المطورون والمقاولون الذين يشيدون السجون والموردون الذين يوردون الأشياء إليها مثل الأغذية والملابس الموحدة والأسلحة ومعدات الأمن.

  • (٥)
    شركات السجون الخاصة3 التي تتعاقد مع الولايات والمقاطعات لإدارة المؤسسات العقابية مقابل الحصول على أرباح. على سبيل المثال، شركة «كوريكشنز كوربوريشن أوف أمريكا» — وهي شركة هادفة للربح تتعاقد مع الولايات لإدارة المؤسسات العقابية — حصلت على التصنيف الخامس بين أفضل الشركات من حيث الأداء في بورصة نيويورك على مدار الأعوام الثلاثة الأخيرة. فقفز سعر سهم هذه الشركة من ٨ دولارات في عام ١٩٩٢ إلى ٣٠ دولارًا في عام ١٩٩٧. وقيمة جميع أسهم الشركة قفزت من ٥٠ مليون دولار عندما طرحت أسهمها للجمهور عام ١٩٨٦ إلى ما يزيد عن ٣٫٥ مليارات دولار في أكتوبر ١٩٩٧. وارتفعت أرباح الشركة بنسبة ٨١ بالمائة في عام ١٩٩٥ وحده. وكلما زاد عدد السجناء وطالت مدة بقائهم في السجون، زادت الأرباح وارتفعت قيمة الأسهم. وبالطبع، لكي تزيد الأرباح، لا بد أن تقلل هذه الشركات من مستوى الأمن وعدد موظفي الرعاية الصحية، وتخفض من المصروفات التي تنفَق على إعادة تأهيل السجناء المدمنين، والاستشارات العلاجية، وبرامج محو الأمية.
  • (٦)

    موردو القطاع الخاص للخدمات الصحية وخدمات الصحة العقلية بالسجون. كما هو الحال في شركات الرعاية الموجَّهة في المجتمع، يكون لدى موردي القطاع الخاص دافع مادي وراء تقديم عدد أقل من الخدمات الأقل تكلفة. ومن ثم، إذا اعتبِر سجين ما «مشاغبًا» وليس «مجنونًا» وأُودِع وحدة حبس عقابي، يقل عدد السجناء الذين يحتاجون إلى علاج نفسي.

  • (٧)
    الشركات الهادفة للربح التي تستغل عمالة السجناء.4 فتكتشف الكثير من الشركات أن السجناء يقدمون عملًا يمكن الاعتماد عليه بأجر منخفض للغاية. تمنع لوائح السجون السجناء من إبرام صفقات مباشرة أو التفاوض مع هذه الشركات بشأن شروط العمل، ويكون متوسط أجر السجين ٤٣ سنتًا في الساعة. ويكون لدى السجناء رغبة كبيرة في العمل، حتى مع الأجور المتدنية؛ وذلك لأنهم من دون عمل سيصابون بالخمول والانهيار.

لذا، ومع توسع نظام السجون، توصل العديد من الأفراد والمؤسسات إلى سبل لجني الأرباح والسلطة من هذه الظاهرة. وكانت النتيجة هي منظومة تتربح من وراء السجون تزدهر من خلال فشلها في «إصلاح» السجناء، مع تحقيقها نموًّا وجمعها أرباحًا ضخمة على حساب جميع الخدمات والأولويات العامة الأخرى.

(٢-٣) الواقع الاقتصادي

ينطوي نظام السجون على الكثير من المشكلات، مثل المعاملة الوحشية للسجناء والاعتداء على الكثيرين منهم والتمييز العنصري بحبس عدد كبير من المواطنين الشباب الملونين والإجراءات القاسية غير الدستورية اللازمة لتنفيذ هذا المخطط والعواقب الوخيمة التي تؤثر على الناس خارج السجون من أسر السجناء والجماعات التي ينتمون إليها والمجتمع بوجه عام.

يخاف الكثير من الناس خوفًا شديدًا من وقوع جرائم في الشارع، ولديهم قناعة كبيرة بضرورة الانتقام من المجرمين، وقد اعتادوا على معاناة السجناء بدرجة تجعلهم لا يسمحون للمجادلات المنطقية و«الإنسانية» أن تزحزحهم عن إيمانهم بفكرة حبس هؤلاء المجرمين وتجاهلهم وإهمالهم داخل السجون. لعل الجانب الاقتصادي لهذا الموقف هو الذي سيؤدي إلى قبولهم في النهاية لهذه المجادلات. ففي الوقت الذي يتسم فيه معدل الجريمة بالاستقرار النسبي، نواصل إنفاق نسبة متزايدة من الأموال العامة الشحيحة على السجون على حساب البرامج الاجتماعية المهمة الأخرى، مثل المدارس والصحة العامة.

على سبيل المثال، أنفقت ولاية كاليفورنيا ٣ بالمائة من ميزانيتها على السجون عام ١٩٨٠ و١٨ بالمائة منها على التعليم العالي. وفي عام ١٩٩٤، أنفقت الولاية ٨ بالمائة من ميزانيتها على السجون و٨ بالمائة على التعليم العالي. ومنذ عام ١٩٩٤، فاق الإنفاق على السجون الإنفاق على التعليم العالي بكثير. والإنفاق بجميع أنحاء الولايات المتحدة على السجون الحكومية ارتفع أسرع من أية فئة إنفاق أخرى في السنوات العشرين الماضية. وفي هذه الفترة الزمنية نفسها، تراجع الإنفاق على كلٍّ من التعليم الأساسي والطرق السريعة والرعاية الاجتماعية ورعاية الصحة العامة. ولا تقتصر الكارثة الاقتصادية على ذلك فحسب،5 فتقر وزارة العدل الأمريكية بأنه في مقابل كل ١٠٠ مليون دولار تنفقها الهيئات التشريعية بالولايات على إنشاء السجون الجديدة، يلتزم دافعو الضرائب بتسديد ما يزيد عن ١٫٦ مليار دولار على مدار العقود الثلاثة التالية لتشغيل هذه المرافق الجديدة.

من الواضح أن منطق القانون والنظام ما هو إلا حماقة من المنظور الاقتصادي. لكننا إذا أردنا تجاوز هذا «المنطق» وما يبرره من زيادة كبيرة في معدلات الحبس، فسنحتاج إلى خطة بديلة.

(٣) خطة ناجحة

فيما يتعلق بسياسة العدالة الجنائية، نحن أمام مفترق طرق. وإذا سلكنا الطريق الخاطئ، فسيكون من الصعب للغاية الرجوع فيه. فإذا واصلنا إنفاق الأموال على السجون وإيداع أعداد كبيرة من المواطنين منخفضي الدخول السجون ليتعرضوا بداخلها لمعاملة وحشية، فسنواجه بذلك كارثة اجتماعية. والأشخاص الذين نودعهم السجون ليقضوا حياتهم فيها سيتمثل رد فعلهم تجاه إنكار إنسانيتهم في الغضب والمقاومة. وسيزيد الغضب والجنون والجريمة، وستُفرَض أيضًا عقوبات أكثر قسوة. وكل تجديد أمني داخل المؤسسات العقابية ستزداد تكلفته، وسيؤدي إلى ضرورة إنفاق نسبة أكبر من الأموال العامة على السجون. والناجون من السجن سيقل احتمال نجاحهم في حياتهم بعد إطلاق سراحهم، وسيعود عدد أكبر منهم للمخدرات والجريمة. ولن تكون الشوارع أكثر أمانًا، وإنما ستصبح المنظومة المتربحة من وراء السجون قطاعًا أقوى في اقتصادنا ونظامنا السياسي على نحو سيجعلها تهزم أية معارضة لمخططاتها المريبة.

ونتيجة لذلك، ستقل الموارد العامة المخصصة للرعاية الصحية والتعليم وخدمات حماية الأطفال والمكتبات وصيانة الطرق … إلخ. وقد قال أندرو يونج6 — كما لو كان يتصور هذا السيناريو — عند زيارته لسجون جنوب لوس أنجلوس بعد الاضطرابات التي أثارتها تبرئة الضباط الذين ضربوا رودني كينج: «لا يمكنكم احتجاز ما يكفي من الرجال لتحظوا بالسلام!»

•••

على الجانب الآخر، إذا رفضنا تنفيذ منطق القانون والنظام كي نتفادى نتائجه المأساوية، فلا بد من أن نتخذ الخطوات التالية لتعديل نظام السجون المدمِّر الذي شاهدناه في السنوات الأخيرة:
  • (١)

    يجب أن نكسر حاجز الصمت حول الأهوال التي تشهدها سجوننا باستمرار. ولا بد أن نعرف ما يحدث داخل هذه السجون، ثم نعلن للجميع عن هذه الأخبار السيئة. فلا يمكننا أن نسمح باستمرار صور الوحشية والقسوة التي وصفتها فيما يتعلق بالسجناء المضطربين عقليًّا. ويجب أن يطالب الناس بالسماح بدخول الصحافة إلى السجون ومقابلة السجناء والموظفين. وبعد ذلك، يجب الضغط على الصحافة وغيرها من وسائل الإعلام لتغطية هذه الأحداث.

    علاوة على ذلك، على جميع فروع الحكومة البدء في إجراء تحقيقات لتحديد السبب وراء معاناة الكثير من السجناء اضطرابات عقلية خطيرة، وسبب قسوة الظروف في السجون وافتقارها للإنسانية، وما يمكننا فعله لضمان توفير العلاج الملائم للأمراض العقلية. ويجب أيضًا تمكين لجان المراجعة المؤلفة من المواطنين وَجِهات المساعدة القانونية ذات التمويل الجيد وغير الهادفة للربح والمؤسسات الرقابية من إجراء تحقيقات متزامنة والتأكد من أن التحقيقات الحكومية دقيقة وصادقة، وتؤدي إلى إصلاحات مهمة.

  • (٢)

    يجب أن نقيِّم جوانب الفشل في نظام الصحة العقلية العام خارج السجون، ونصحح ما يعانيه هذا النظام من خلل ونحن نبذل أقصى جهودنا للإبقاء على الأشخاص الذين يعانون أمراضًا عقلية حادة ومستديمة خارج السجون.

  • (٣)

    يجب أن نغيِّر مواقفنا تجاه المجرمين — فهم لا يزالون بشرًا — وتجاه الأفراد الذين لديهم ميل للإجرام، بمن فيهم المشردون وأصحاب الدخول المنخفضة والمهاجرون والمصابون بأمراض عقلية خطيرة والملونون. وفيما يتعلق بتجريم الأفراد ذوي الاضطرابات العقلية، يجب أن نعيد النظر في التوجه السائد في النظام القضائي بعدم الاهتمام بحالة المجرمين العقلية عند إدانتهم وإصدار الأحكام عليهم. ولا أعني هنا ضرورة تبرئة جميع هؤلاء المجرمين، وإنما أشير فقط إلى أن وضع الحالة العقلية في الاعتبار يجب أن يؤدي إلى إحالة نسبة كبيرة من المدانين الذين سبق لهم الإصابة باضطرابات عقلية خطيرة إلى برامج علاج آمنة.

  • (٤)

    علينا إصلاح السجون وتغييرها لتصبح مؤسسات تحترم الحياة الإنسانية والحقوق الدستورية لجميع المواطنين. ومثلما أوضحت في الفصل العاشر، تتمثل أهم هذه التغييرات في إعادة تأسيس برامج تثقيف وإعادة تأهيل هادفة، وبذل أقصى الجهود لتعزيز معدل تكرار الزيارات وجودتها، ووضع نهاية لوحدات الحراسة المشددة وغيرها من صور الحبس المشدد والحبس الانفرادي طويل المدى، وبذل الجهود المشتركة لزيادة العدالة في جلسات الاستماع التأديبية وتصنيف السجناء. وبطبيعة الحال، نظرًا لأن المدانين المصابين بأمراض عقلية يعانون قدرًا هائلًا من الآلام، وتتفاقم إعاقاتهم عندما يُتركون دون عمل أو نشاط في سجون شديدة الازدحام، وعندما يتم إيداعهم وحدات الحراسة المشددة، فإن هذه الإصلاحات سيكون لها فائدة كبيرة بالنسبة إلى المدانين المصابين بأمراض عقلية.

  • (٥)

    نظرًا لأنه ليس من الممكن أن نمنع تمامًا حبس المجرمين المصابين بأمراض عقلية، ولأن عددًا معينًا من السجناء سيجن جنونهم داخل السجون حتى لو تغلبنا على أسوأ صور الاعتداء في السجون، يجب علينا أن نؤسس برامج علاج شاملة وعالية الجودة للصحة العقلية داخل السجون. ولقد أوضحت خطة لتحقيق ذلك في الفصل العاشر.

  • (٦)

    يجب أن ننقل التغييرات في نظام العدالة الجنائية التي أوضحتها في الفصل العاشر إلى حيز التنفيذ. ويأتي على قمة أولويات هذه التغييرات إحالة الأشخاص الذين لم يرتكبوا جرائم خطيرة أو عنيفة — مثل مَن يُقبَض عليهم في جرائم متعلقة بالمخدرات ولا تتضمن ضحايا — إلى برامج خارج السجون، مثل برامج إلزامية لعلاج تعاطي المخدرات في المجتمع. وتأتي على رأس القائمة أيضًا ضرورة إنهاء التمييز العرقي في إصدار الأحكام والقضاء على نمط إصدار أحكام أطول في مدتها وأشد قسوة على الملونين كعقوبة لهم على كافة أنواع الجرائم تقريبًا.

  • (٧)

    إذا أردنا تحقيق إصلاح حقيقي في نظام العدالة الجنائية، يجب أن نهتم بمعاناة مَن تجاهلناهم في السابق. وبدلًا من إيداع الفقراء السجون، يجب أن نبذل ما في وسعنا للقضاء على الفقر، والبدء في محاولة جادة لإعادة تأسيس شبكة الأمان الاجتماعي التي عملنا على تعزيزها خلال سنوات «الحرب على الفقر».

مثلما ذكرت في الفصل العاشر، يمكننا أن نبدأ في محاربة المشكلات الاجتماعية عن طريق الاهتمام بمشكلات الشباب المضطرب. لقد قارن الباحثون في مؤسسة راند7 بين تكاليف الحبس وفعاليته وتكاليف برامج التدخل المبكر وفوائدها على الشباب المعرض للخطر، وتوصلوا إلى أن التدخل المبكر أكثر فاعلية وأقل تكلفة من الحبس. لذا، نحن بحاجة إلى وضع برامج تثقيف وتدريب مهني أفضل في الأحياء الفقيرة. فلماذا لا نزيد من استثماراتنا في الشباب — من خلال الإرشاد النفسي مثلًا وجلسات حل المشكلات الجماعية لمساعدتهم في البقاء بعيدًا عن المخدرات والعصابات — لكي نوفر الكثير من الأموال التي تُنفَق على السجون؟

إن جميع مَن تحدثت معهم ممن يعملون مع الشباب المضطرب — بمن فيهم السجناء السابقون الذين يمثلون نسبة كبيرة جدًّا بين المرشدين النفسيين الذين يساعدون الشباب المضطرب، وهو ما يثير الإعجاب — يشيرون إلى أنه من الممكن تحقيق مكاسب هائلة. والمرشدون النفسيون المخلصون في جميع المجتمعات المنخفضة الدخول في الولايات المتحدة يحاولون مساعدة الشباب على إدراك حقيقة أن المرء لا يحقق في النهاية إلا ما يتصوره لنفسه؛ لذلك ينبغي عليهم استهداف ما هو أعلى من الموت أو السجن.

يمثل السجن اعتداءً على قدرة المرء على التصور والتخيل. فكل ما يراه أي سجين في مستقبله هو قضبان حديدية وشجارات في ساحة السجن ووحدات حبس انفرادي أكثر تأمينًا وصرامة. ما الذي يحفزه إذن لحضور فصول دراسية أو تعلم أية حرفة؟ التقيت سجينًا أمريكيًّا من أصل أفريقي، كان يصلح حائطًا لحق به الضرر بسبب الأمطار، وقد لخص لي هذا الأمر قائلًا: «إن أي مقاول لن يستأجر شخصًا أسود أُدين من قبلُ ولديه سجل يتعلق بتعاطي المخدرات، بينما يوجد الكثير من البيض الذين لا علاقة لهم بالمخدرات أو الإجرام يبحثون عن عمل في مجال الإنشاءات.» ولذا، فإن هذا الرجل تخلى عن أية فكرة تتعلق بتحسين حاله. وكلما ازدادت أحوال السجون سوءًا، قلَّ احتمال احتفاظ السجناء برؤية إيجابية عن مستقبلهم. يجب تشجيع السجناء على استعادة أسباب الأمل، واسترجاع قدرتهم على تصور مستقبل بنَّاء.

إنه لمن الحماقة الشديدة مواصلة حبس عدد كبير من الأفراد، ومعاملتهم بوحشية، والإلقاء بهم في نفس المؤسسات التي يوجد فيها من يعانون اضطرابات عقلية خطيرة. ومن خلال تصوُّر مجتمع يحل مشاكله الاجتماعية ككل دون العمل على «إخفاء» عدد كبير من أفراده وإلغاء مواطنتهم، يمكننا أن نمضي قدمًا في وضع خطة منطقية ومنخفضة التكاليف وإنسانية لإدارة سجوننا وتوزيع خدمات الصحة العقلية على الأفراد الذين يعانون اضطرابات نفسية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤