الفصل السابع

ضعف التواصل مع الأحباء

إن الزيارات المنتظمة من الأحباء تساعد السجناء على تحمل مدة عقوبتهم في السجن، والاحتفاظ باستقرارهم الانفعالي، وتجنبهم للمخالفات التأديبية، والتكيُّف مع الحياة في المجتمع بعد إطلاق سراحهم. لكن في غياب المستوى الجيد من الزيارات، يكون السجناء أكثر عرضة للاضطراب العقلي. والسجناء الذين يعانون أمراضًا عقلية خطيرة ومستديمة يزداد تدهور حالاتهم مع نقص التواصل مع الأحباء؛ ولذا، فإن السياسات العقابية التي تقلل من عدد الزيارات أو جودتها تزيد من تفاقم أزمة الصحة العقلية خلف القضبان.

إذا قارنا مثلًا بين سجين انقطع تمامًا عن أسرته وأصدقائه وسجين آخر يحظى بزيارات أسبوعية من زوجته وأطفاله، فلن يكون من الصعب علينا التنبؤ بالسجين الذي سيبقى بعيدًا على الأرجح عن المتاعب في أثناء حبسه — مع تساوي كافة العوامل الأخرى — والسجين الذي سيعاني في الغالب من انهيارات انفعالية، ويتعرض لمشكلات تأديبية، ثم يقع فريسة لعدم الاستقرار الأسري والمخدرات والجريمة عند عودته إلى المجتمع. وتشير الأبحاث إلى أن التواصل المستمر1 مع أفراد الأسرة طوال مدة البقاء في السجن يقلل كثيرًا من احتمالية إعادة إلقاء القبض على السجين وإعادته للسجن في السنوات التالية لإطلاق سراحه. ويشعر السجناء بقدر أكبر من الرضا والقدرة على المحافظة على سلامة قواهم العقلية، إذا ظلوا على اتصال وثيق بأحبائهم خارج السجن.

ويبدو، للأسف، أن هناك رغبة بين الكثير من المواطنين المحترمين في «إخفاء» المدانين بالجرائم من حياتهم؛ فيشعرون بالارتياح عند إدخال هؤلاء المجرمين السجون، ولا يرغبون في سماع أي أخبار عن هؤلاء الرجال والنساء بعد ذلك. ومع تراجع أو انعدام الاهتمام العام بالحفاظ على التواصل بين السجناء وأسرهم، تتمتع إدارات المؤسسات العقابية بحرية وضع سياسات جديدة تجعل الزيارات أكثر صعوبة، مع تجاهل ما يسفر عنه ذلك من محن ومشاق للسجناء وأسرهم ومجتمعاتهم.

(١) مزايا الزيارات الجيدة

إن مستوى جودة الزيارات أثناء مدة العقوبة التي يقضيها السجين ترتبط ارتباطًا قويًّا بقدرته على المشاركة في البرنامج الموجود داخل السجن والنجاح في التأقلم مع الحياة في المجتمع بعد انتهاء مدة حبسه. وفي المقابل، تؤدي قلة الزيارات الجيدة إلى زيادة احتمال وقوع السجين في مشكلات تأديبية أو إصابته بالأمراض العقلية.

(١-١) بعض المزايا

تشير الأبحاث، التي تتناول موضوع الزيارات والعودة للجريمة،2 إلى ارتباط واضح بين الأمرين. على سبيل المثال، تشير إحدى الدراسات إلى أن ٥٠ بالمائة من السجناء الذين لم يحظوا بزيارات من أفراد أسرهم أُلقي القبض عليهم من جديد في العام التالي لإطلاق سراحهم، و١٢ بالمائة منهم دخلوا السجن مرة أخرى. لكن ٧٠ بالمائة من السجناء، الذين تلقوا زيارات منتظمة من ثلاثة أشخاص على الأقل أثناء قضائهم مدة عقوبتهم في السجن، لم يُلْقَ القبض عليهم مجددًا في أثناء العام الأول من إطلاق سراحهم، و٢ بالمائة فقط منهم دخلوا السجن مرة أخرى.

تقلل الزيارات الجيدة كذلك من احتمالية تورط السجين في مشاجرات عنيفة. على سبيل المثال، أسرَّ إلي سجين يبلغ من العمر ثمانية وعشرين عامًا بأنه عندما لا تزوره زوجته بضعة أسابيع أو عندما يعجز عن الوصول إليها هاتفيًّا، يشعر بالغيرة ويظن أنها قد تعرفت على رجل آخر. يقول هذا السجين: «حينها يسوء خُلقي. تعلم ماذا أعني، أليس كذلك؟ أُكِنُّ الضغائن لِمن حولي، وأول شخص يصدر عنه أي خطأ تجاهي، أُوجه إليه اللكمات. وإذا تصادف كونه حارسًا، أقع في مشكلة عويصة؛ فيُلقَى بي في الحبس الانفرادي، وأفقد وظيفتي، ويضيفون مزيدًا من الوقت إلى مدة عقوبتي.»

أخبرني رجل آخر أيضًا بأنه بعد نقله من السجن الذي كان قريبًا من منزله إلى سجن آخر في الجانب الآخر من الولاية، أخبرته حبيبته بأنها لم يعد بإمكانها زيارته كثيرًا مثلما كانت تفعل من قبل، فبدأ يشعر بغيرة شديدة ويجد صعوبة بالغة في التحكم في غضبه. ويشير سجناء آخرون إلى أنهم يشعرون بضغط هائل بسبب عدم قدرتهم على البقاء على اتصال وثيق بأطفالهم. فصرَّح لي رجل أمريكي من أصل أفريقي يبلغ من العمر ثلاثين عامًا بأن والده كان في السجن أثناء نشأته، والعديد من الرجال الذين عاشت معهم أمه طوال تلك السنوات كانوا يعتدون عليه بالضرب، واغتصب أحدهم أخته أيضًا. والآن، بعد أن صار سجينًا وغير قادر على حماية ابنه (البالغ من العمر ثمانية أعوام) وابنته (سبعة أعوام)، وصارت زوجته تهدده بالانفصال عنه لترتبط برجل يمكنه أن يعولها ويعول طفليها، أصبح يشعر بقدر هائل من الخزي لتركه أبناءه بلا حماية مثلما فعل والده من قبل معه.

ثمة جدل قائم بشأن فائدة الزيارات الزوجية وأمنها. وتتم هذه الزيارات في منطقة محددة من السجن حيث يُترَك السجين مع ذويه وحدهم في مكان خاص أشبه بالشقة لبضع ساعات أو طوال الليل. وقد تشتمل الوحدة كذلك على مطبخ. وقد تكون هناك عدة غرف نوم لأسر السجناء الذين لديهم أطفال. وأربعون بالمائة من الزيارات الأسرية تشتمل على أفراد من الأسرة بخلاف شريك العلاقة العاطفية.

يقول المنتقدون لهذه الزيارات إن هذا النوع من الزيارات يعد نوعًا من «التدليل». ويشير بعض موظفي السجون إلى أنه يؤدي إلى مشكلات أمنية أو يستنزف قدرًا كبيرًا من وقت الموظفين. أما المناصرون لهذه الزيارات، فيردون على هذه الاعتراضات بقولهم إن هناك الكثير من المزايا لإبقاء السجناء على اتصال بذويهم، مع الإشارة إلى أن السجناء يجب أن يتمتعوا بميزة الزيارات الزوجية، فيجعلهم هذا الأمر أكثر رغبة في التعاون مع لوائح المؤسسة وبرامجها. وقد توصلت دراسة لبرنامج الزيارات الأسرية في كاليفورنيا3 إلى أن ٩٠ بالمائة من الموظفين أيدوا البرنامج. ولا شك أن وضع برنامج زيارات عائلية عالي الجودة يتطلب موارد معينة، لكن المزايا التي تتحقق من ورائه تفوق بكثير ما يحتاجه من تكاليف.

لو نظرنا، على سبيل المثال، إلى مسألة الاغتصاب في سجون الرجال، فسنجد أن الزيارات الزوجية ليست متكررة أو منتظمة بما فيه الكفاية لإشباع رغبات السجناء الجنسية بالقدر الكافي. لكن يخبرني موظفو السجون أن الرجل الذي يُسمَح له بزيارات زوجية من زوجته أو حبيبته حتى لو كانت متقطعة، يقل كثيرًا احتمال اشتراكه في أعمال عنف جنسية مع الرجال الآخرين. فربما تساعد الزيارات الزوجية الدورية الرجل في أن يظل مؤمنًا بأنه محبوب، أو لعلها تعزز من شعوره برجولته.

والتواصل مع الأحباء يساعد أيضًا السجناء في التطلع لليوم الذي سيُطلَق فيه سراحهم؛ الأمر الذي يفسر عدم شعورهم بالحاجة للدخول في مشاجرات أو المشاركة في أعمال عنف خطيرة. ولعل أهم فائدة لهذا الأمر هي الشعور الدائم بالألفة والحميمية. وتضع النساء السجينات في أغلب الأحيان أطفالهن في مرتبة أعلى من أولوياتهن، لكن الزيارات الأسرية المنتظمة لكل من الرجال والنساء على حدٍّ سواء تلعب دورًا مهمًّا ليس فقط بالنسبة إليهم، وإنما أيضًا بالنسبة إلى الجيل التالي من أسرهم. وليس من الحكمة من جوانب عدة حرمان السجناء من أسرهم وأصدقائهم. فالاتصال الوثيق بالأسرة والأحباء يخفف بالتأكيد من الدناءة والجنون واليأس لدى السجناء.

(١-٢) التواصل عن طريق المراسلات

باعتباري أحد المحررين الثلاثة لكتاب يتناول الرجال في السجن بعنوان «مواجهة الصفات الذكورية في السجن: سياسة العقاب القائمة على النوع الجنسي» (تيمبل يونيفرستي برِس، ١٩٩٩)، تراسلتُ مع سجناء/كُتَّاب من جميع أنحاء الولايات المتحدة. وردًّا على الإعلانات التي وضعناها في الدوريات، يُرسل السجناء نسخًا من قصصهم لنقيِّمها. ونراجع كتاباتهم ونتراسل معهم. وفي عدد كبير من الحالات، حتى لو لم تكن كتابة السجين ملائمة لوضعها في الكتاب، يكتب السجين إلينا مرة أخرى موضحًا أن كل ما يحتاجه حقًّا هو صديق. وينطوي طلبه عادةً على نوع من الإلحاح.

كتب أحد السجناء ذات مرة أنه من المستحيل الحفاظ على علاقة صداقة داخل السجن. وجميع أصدقائه القدامى قد توفوا، أو دخلوا السجن، أو نسوه تمامًا. والتماس الصداقة يصحبه عادةً مدح مبالغ فيه، مثل: «تيري، أنت الشخص الوحيد في هذا العالم الذي يمكنني الوثوق به.» وكتب لي رجل آخر: «أشعر، بل أعلم، أنك الشخص الذي من المستحيل أن يخون صديقه.» عندما أقرأ مثل هذه الخطابات، أشعر بمزيج من الحزن والخوف؛ الحزن للشقاء والوحدة اللذين يعبر عنهما هؤلاء السجناء، والخوف من علاقة صداقة لا تزال حديثة تمامًا وغير أكيدة، ومع ذلك لها هذا القدر من الأهمية بالنسبة إلى السجين. فهل سيتحول هذا الحماس والمبالغة إلى غضب إذا خذلتُه؟

في إحدى المرات، وبعد أن تراسلت مع أحد السجناء عدة أشهر، معلِّقًا على الشِّعر الذي كان يرسله إلي، ومرسلًا إليه طوابع، تأخرت إحدى رسائلي في بريد السجن. فتلقيت رسالة غاضبة من هذا السجين يخبرني فيها بأنه لا بأس من ألا أرغب في مراسلته مرة أخرى، لكن ينبغي علي إعادة إرسال كل أشعاره إليه. وسوينا سوء التفاهم، وتوصلنا إلى أن التأخر في البريد ربما رجع إلى بعض القصور وليس لأي تآمر — على الأقل في هذه الحالة — من جانب السلطات العقابية لإفساد المراسلات بيننا. لكن شدة الإحباط والمرارة التي تضمنتها هذه الواقعة، وغيرها من مثل هذه العلاقات، جعلتني أفكر بحذر في إيجابيات وسلبيات البدء في أية مراسلات مع أي سجين. وعندما أبدأ في الكتابة بانتظام إلى سجين ما، أحاول قدر الإمكان الإبقاء على التوقعات واقعية، ومن ثم تجنب إحباط السجين الذي يراسلني.

عند وضع هذه الأمور في الاعتبار، يمكن أن تكون المراسلة مع السجناء مفيدة للغاية، وأوصي بها. ففي واقع الأمر، إذا راسل عدد أكبر من الناس خارج السجن السجناء، فسيقل شعور هؤلاء السجناء بالعزلة، وربما سيبذلون مزيدًا من الجهد للتغلب على احتمالات عدم تمكنهم من التكيُّف بنجاح في المجتمع بعد إطلاق سراحهم.

(١-٣) الزيارات والمرض العقلي

كثيرًا ما اكتشفت في تواريخ السجناء، الذين أُصيبوا بالذهان أو انتحروا، أن نوعًا ما من الانفصال المتزايد عن أحبائهم أدى إلى انهيارهم. وفي بعض الأحيان، تهجر الزوجة الزوج المسجون، لكن في معظم الأحيان لا يكون سبب انقطاع الزيارات سوى عدم تمكن أفراد الأسرة من قطع المسافة الطويلة لزيارة السجين بعد نقله إلى سجن بعيد عن منزله.

ومثلما ذكرت في الفصل الخامس، تقع الكثير من النساء السجينات فريسة لحالة من الاكتئاب الشديد عندما يُنقلن إلى سجن يصعِّب من زيارات أطفالهن لهن. على سبيل المثال، تقول سجينة أمريكية مكسيكية تبلغ من العمر اثنين وثلاثين عامًا وتقضي مدة عقوبة بتهمة المخدرات في أحد السجون الفيدرالية: «عندما أرى أبنائي كل أسبوع في أوقات الزيارة، أعرف إن كانوا يحصلون على الرعاية المناسبة أم لا — أقصد أنني أعرف إن كانوا يحصلون على تغذية سليمة أو يتعرضون للضرب أو يتم تجاهلهم — لكن عندما يكون من غير الممكن رؤيتهم بانتظام، أبدأ في الشعور بالقلق على نحو أكبر، ويتحول هذا القلق إلى كوابيس، وأشعر بمدى حقارتي كأم، وبالخوف على أطفالي.»

يعي اختصاصيو الصحة العقلية جيدًا أهمية التواصل مع الأحباء. فمَن لا يتمتعون بعلاقات وثيقة يتعرضون لخطر أكبر للإصابة بالتدهور الذهاني أو الانتحار مقارنةً بمن ينعمون بهذه العلاقات، سواء داخل أسوار السجن أو خارجه. ففي المجتمع، عندما تبدأ حالة أحد المرضى في التدهور أو تتولد لديه الرغبة في الانتحار، قد يكون من المفيد للغاية التواصل مع أفراد أسرته، والتعرف على بعض الجوانب المسببة للضغوط في الأسرة، والتخفيف، إن أمكن، من بعض التوتر الحالي الصادر عن الأسرة. ويمكن تحقيق ذلك عن طريق بضع جلسات علاج الأزواج أو العلاج الأسري، أو بمجرد تواصل المعالِج مع أحد أفراد الأسرة المجافين؛ من أجل معرفة المزيد من المعلومات حول المريض وسبب هذا الجفاء.

أما في السجن، فيقل للغاية التواصل بين موظفي الصحة العقلية وأسر السجناء. وهناك بالطبع استثناءات. على سبيل المثال، في السجون التي تحتوي على الوحدات النموذجية الداخلية لعلاج المرضى النفسيين، يكون هناك عادةً اختصاصي اجتماعي في العنبر يبذل جهودًا للتواصل مع الأسرة لمعرفة الأخبار الواردة من المنزل التي قد تتسبب في انهيار السجين، وربما يطلب من أفراد الأسرة أيضًا المجيء إلى المؤسسة للمشاركة في العلاج الأسري. لكن في أغلب الحالات، يكون موظفو الصحة العقلية مثقلين للغاية بأعباء الحالات الكثيرة لديهم، فلا يقضون الكثير من الوقت في التواصل مع أفراد أسر السجناء. ومعظم السجلات الطبية السريرية التي قرأتها في السجون لا تذكر أي شيء عن العلاقات الأسرية الحالية. ولا يتضمن الكثير منها تاريخ الأسرة.

(٢) مشكلات سياسات الزيارة

لا ريب أنه عند دخول أحد أفرد الأسرة أو الأحباء السجن، تحدث تمزقات في حياة الأسرة وتنتج عن ذلك مشاق. ويُفترض أن ذلك جزء من العقوبة؛ فينفصل المجرمون عن المجتمع، ويشمل ذلك أسرهم. لكن هناك عقبات تقف في طريق الزيارات الجيدة تتجاوز ما هو متأصل في مفهوم الحبس ذاته. ولقد ذكرت الميل لوضع المؤسسات العقابية بعيدًا عن منازل السجناء. وهناك طرق أخرى أيضًا قد تتبعها أنظمة السجون — بل وتتبعها بالفعل — لجعل الزيارات أصعب مما ينبغي أن تكون عليه.

(٢-١) التحرش بالزائرين

يخضع زائرو السجون للتفتيش المعتاد ويُطلَب منهم الوقوف في صفوف قبل دخولهم لزيارة ذويهم. ويستلزم الأمر قدرًا معينًا من التفتيش لأسباب أمنية. لكن في بعض الأحيان يجعل الموظفون الأمر أشد صعوبة على الزوار، عن طريق تعريضهم مثلًا للإهانات الفجة في أثناء مرورهم من البوابات أو إخضاعهم للتفتيش الذاتي وفحص المواضع الحساسة بأجسامهم قبل زيارتهم للسجناء. وقد يطول انتظارهم قبل أن يدخلوا السجن للزيارة، وتبلغ مدة انتظارهم عادة ساعة أو ساعتين.

وهناك قيود أخرى أيضًا؛ فيُفحَص بريد السجن ويُراقَب بعناية، وعلى نحو مبالغ فيه وغير قانوني أحيانًا. ويُحرَم السجناء من الزيارات إذا كانوا يخضعون للتأديب. ويُطلَب من الزائرين العودة إلى منازلهم إذا شعر الموظفون بأن ملابسهم غير مناسبة، أو أن هناك عددًا كبيرًا من الزائرين في ذلك اليوم وساعات الزيارة تنتهي قبل أن يحين دورهم. فتقود زوجة أو أم سيارتها لمسافة أربعمائة ميل لترى سجينًا، فيُقال لها إنها لا يمكنها زيارته في ذلك اليوم أو حتى اليوم الذي يليه. وتضطر للعودة إلى منزلها دون أن تتمكن من رؤية عزيزها. ويغادر هؤلاء الزائرون موقف السيارات عادةً غاضبين، وربما يتعهدون أمام أنفسهم ألا يتعجلوا بعد ذلك في القيام بمثل هذه الرحلة الطويلة. وبهذه الطرق وغيرها، ينفصل السجناء عن أسرهم وعن المجتمع؛ الأمر الذي يزيد من صعوبة بقائهم خلف الأسوار.

ونقل السجناء من مؤسسة عقابية إلى أخرى — الأمر الذي يحدث كثيرًا في السجون الشديدة الازدحام — يجعل من الصعب على السجين العادي تكوين علاقات دائمة مع السجناء الآخرين والبقاء على اتصال بأحبائه خارج السجن. بل إن بعض أنظمة السجون تحتوي على بعض المشردين. ويُنقَل بعض السجناء من سجن إلى آخر على نحو متكرر؛ ما يجعلهم يقضون فترات أطول من الوقت في الانتقال بالحافلات أو النوم في زنزانات المقاطعات المحلية في أثناء النقل مقارنةً بما يقضونه في زنزانات السجون. ويطلق السجين السابق دان مارتن على هذا الأمر اسم «علاج الحافلات».4 ويُعَد الاشتراك في أي نشاط هادف أمرًا مستحيلًا لهؤلاء السجناء. ويجن جنون الكثيرين منهم. وثمة شائعات عن أن الحرَّاس يستخدمون هذا النوع من «علاج الحافلات» كعقاب غير رسمي (ومن ثم غير قابل للاستئناف) للمدانين الذين لا يحترمونهم أو يغضبونهم. وبما أن السجين الموجود على الطريق لا يمكنه تلقي أي بريد أو مكالمات هاتفية، فمن الممكن إبقاؤه منقطعًا عن العالم على مدى أسابيع أو أشهر في أثناء نقله من سجن إلى آخر.

وفي بداية ثمانينيات القرن العشرين، زادت إدارة المؤسسات العقابية بكاليفورنيا من صعوبة زيارة السجين عن طريق إجراء عمليات تفتيش إجبارية لسيارات الزائرين عند دخولهم إلى ساحة انتظار السيارات في السجن. وفي إطار إعدادي لشهادتي في إحدى الدعاوى القضائية التي أقامتها أسر السجناء، التقيت ببعض السيدات اللاتي خضعت سياراتهن للتفتيش في ساحة انتظار السيارات بسجن سان كوينتن في أثناء هذه المدة. وأخبرني هؤلاء السيدات أنه بمجرد دخول السيارة بوابة ساحة انتظار السيارات، كان يُتحفظ على ركابها ويخضعون للتفتيش، حتى إذا لم يوافقوا على ذلك واختاروا المغادرة دون زيارة السجناء. وكانت هناك لافتة صغيرة عند مدخل ساحة انتظار الزوار توضح أن من يدخلون يخضعون للتفتيش، وهي اللافتة التي لا يلاحظها معظم الناس؛ لذا، حتى الزوار الذين لا يعلمون أنهم قد يتعرضون للتفتيش لا يُسمَح لهم بالاستدارة والمغادرة لتجنب هذا الإجراء.

وأُجبِر ركاب السيارات على الخروج منها والخضوع لتفتيش ذاتي، بالإضافة إلى تفتيش حقائبهم وممتلكاتهم. وبعد ذلك، تُقاد كلاب مُدرَّبة على شَمِّ رائحة المخدرات لفحص السيارة، بينما يفتش الحرَّاس تحت المقاعد وفي صناديق التابلوه وحقيبة السيارة. وتُترَك الكثير من سيارات الزائرين في حالة فوضى. وفي حالة اكتشاف أي شيء، يُلقَى القبض على الزائرين لانتهاكهم قوانين الولاية فيما يتعلق بزيارة السجن، ويُحرَمون من زيارة أفراد أُسَرِهم مدة طويلة.

في إحدى الحالات، تمَّ العثور على علبة جعة صدئة متجعدة في حقيبة سيارة قديمة، وحُرِمت زوجة السجين وطفله من زيارته مدة عام كامل. وفي حالة أخرى، أُلقي القبض على أم سجين في منتصف العمر لحيازتها مواد مخدرة ومحاولتها تهريب هذه المواد إلى داخل السجن، وذلك بعد أن اكتشفت الكلاب بالشم عُقبًا صغيرًا لسيجارة ماريجوانا في صندوق تابلوه السيارة. وكان قد ترك الابن الأصغر لهذه الأم عقب السيجارة هذا في ذلك المكان في آخر مرة اقترض منها السيارة.

وتفتيش سيارات وشاحنات الزوار في ساحة انتظار السيارات لم يساعد على الإطلاق في ردع وصول المخدرات إلى داخل السجون. فهل من المنطقي أن يجلب أي زائر علبة جعة صدئة أو عقب سيجارة ماريجوانا من صندوق التابلوه إلى داخل السجن؟ لكن متوسط معدلات الزيارة في السجون التي يُفعَّل فيها هذا النوع من التفتيش شهد تراجعًا حادًّا. وتمكن محامو السجناء من إثبات أن عمليات التفتيش لم تكن ضرورية لأسباب أمنية، وإنما تشكل حرمانًا قاسيًا وغير معتاد للسجناء، وتمَّ التوصل إلى تسوية تضمنت توقف عمليات تفتيش السيارات.

وبدأت مؤخرًا كاليفورنيا والعديد من الولايات الأخرى في الطلب من الزائرين الخضوع لعمليات تفتيش بالأشعة السينية قبل دخولهم منطقة الزيارة في سجون معينة. ومن جديد، سواء أكان تأثير هذا النوع من التفتيش على تهريب المواد المحظورة أمرًا مشكوكًا فيه أم لا، فإنه من دون شك له تأثيره في الحد من الزيارات. على سبيل المثال، يقلق الكثير من الزوار المحتملين من الآثار الصحية المترتبة على التعرض للإشعاع.

(٢-٢) الزيارات في ظل الإجراءات الأمنية المشددة

إن زيارة السجناء الموجودين في العزل التأديبي غالبًا ما تكون أكثر صعوبة، وهذا أمر مؤسف للغاية؛ نظرًا لأن هذه المجموعة تحديدًا هي التي تحتاج إلى زيارات جيدة فعليًّا أكثر من معظم السجناء الآخرين، إذا كانوا سيكبحون جماح ما لديهم من عدوانية ويقضون مدة عقوبتهم في سلام وعلى نحو بنَّاء. لكن كل خطوة تُقرِّب أي سجين من إيداعه طويل المدى الحبس الانفرادي تتضمن مزيدًا من الانخفاض في جودة تواصله مع أحبائه وانتظام هذا التواصل.

وكلما زادت المخالفات التأديبية التي يقوم بها السجين، ارتفع المستوى الأمني الذي يُفرض عليه، ويعني ذلك عادةً نقله إلى سجن أبعد من السجن المحلي. فالسجناء الذين ينتمون إلى منطقة ديترويت الحضرية ويصدُر ضدهم عدد معين من الإنذارات التأديبية في أي سجن، يُودعون سجن الإجراءات الأمنية المشددة في مقاطعة ماركيت التي تبعد مسافة كبيرة جدًّا عن ديترويت، بالرغم من وقوعهما في ولاية واحدة؛ وهي ولاية ميشيجان. والسجناء من فيلادلفيا يُودعون مؤسسة الولاية العقابية في مقاطعة جرين، التي تبعد بالسيارة نحو ست ساعات. وبالمثل، يقع أعلى سجن في كاليفورنيا من حيث الإجراءات الأمنية، وهو سجن بيليكان باي، في الشمال الغربي من الولاية على مسافة بعيدة للغاية من سان دييجو ولوس أنجلوس، وهي المدن التي تمثل موطن معظم سجناء بيليكان باي. وأوضح لي أحد السجناء الأمريكيين من أصل أفريقي من وسط جنوب لوس أنجلوس أنه يرغب في رؤية ذويه، وأنهم اعتادوا زيارته عندما كان في انتظار المحاكمة بأحد السجون المحلية، وحتى عندما سُجِن في مدينة تشينو بجنوب كاليفورنيا. لكن منذ أن نُقِل إلى سجن بيليكان باي، لم يعد يلتزم أحد بالمجيء لزيارته سوى أمه، وحتى هي لا تتمكن غالبًا من قطع كل هذه المسافة.

وبمجرد أن يُودع السجين وحدة عزل، فإنه يخسر ميزة «زيارات التواصل». فالسجناء المحبوسون في معظم وحدات الحراسة لا يمكنهم رؤية الزوار إلا عبر لوح زجاجي سميك ويلزم عليهم التحدث معهم عبر الهاتف. وهناك احتياطات أمنية أخرى تشمل أشد أنواع التفتيش للزائرين ومزيد من تكبيل اليدين والتقييد للسجناء في أثناء قيادتهم إلى أماكن الزيارة ومنها.

يتوقف السجناء عن تخيل مستقبل لهم وسط أسرهم، فلا يكتبون إليهم كثيرًا. وتتألم زوجاتهم وأطفالهم من ذلك، ويقل تواصلهم معهم. ويصاب السجين بعد ذلك بالاكتئاب أو الغضب الشديد. وتقل قدرته على الالتزام بالقواعد، ويزداد احتمال دخوله في شجارات. وتكون النتيجة مفارقة مؤسفة؛ وهي أن السجناء الذين يُنظر إليهم باعتبارهم لديهم مشكلات في الانضباط يُودعون سجونًا تبعد كثيرًا عن محل إقامتهم؛ ومن ثم يحظون بعدد أقل من الزيارات الجيدة. لكن مع تراجع التواصل الجيد مع الأحباء؛ يزداد شعورهم بالإحباط والغضب ويدخلون في شجارات أسوأ. والسجناء الذين يجدون صعوبة شديدة في التحكم في أنفسهم، يُحرَمون من أهم مصدر — أي أحبائهم — قد يساعدهم على التحكم في أنفسهم على نحو أفضل.

إذا كان هدف السياسات العقابية هو الحفاظ على السلام والصحة العقلية في السجون ومساعدة السجناء على أن يصلحوا من أنفسهم وأن يصبحوا مواطنين ملتزمين بالقانون، فإن التوجه نحو زيادة التضييق في الزيارات التي يتلقاها السجين كلما ارتفع المستوى الأمني الذي ينتمي إليه يؤدي إلى نتائج عكسية تمامًا. ولا شك أن طلبات الحصول على ميزانيات أكبر للمؤسسات العقابية في الولايات المتحدة لبناء وحدات سجون أكثر تشديدًا في الإجراءات الأمنية تصحبها دائمًا تقارير مثيرة عن تزايد العنف بين السجناء. ويبدو أن إدارات المؤسسات العقابية لديها مصلحة مالية في جعل السجناء يفشلون؛ إذ سيتمكنون بذلك من تبرير بناء المزيد من السجون والحصول على ميزانيات تشغيلية أعلى.

(٢-٣) سجين ووالدته5

تقدَّم سجين أبيض يبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا ويُدعَى كيه آر وأمه بالشهادة في إحدى الدعاوى القضائية الجماعية الفيدرالية ضد إدارة المؤسسات العقابية في كاليفورنيا. وتعلقت الدعوى بمشكلات الازدحام الشديد وغيرها من صور «العقوبة القاسية وغير المعتادة». وقد سُئِل كيه آر وأمه عن التجربة القاسية التي عانيا منها أثناء حبس الابن في سان كوينتن. كان كيه آر قد أُدين بالسرقة. لم يكن هناك سلاح ولم يُستخدَم أي عنف في الجريمة؛ إذ سلمت الضحية محفظتها التي احتوت على ٣٨ دولارًا للسارق. وعقابًا على هذه الجريمة الأولى له، حُكِم عليه بالسجن وقضى مدة كبيرة من عقوبته في العزل الإداري. ولم يرتكب كيه آر أية مخالفات تأديبية أثناء وجوده في السجن، لكنه وضِع في العزل الإداري فقط بسبب سلسلة من الإجراءات التافهة في عملية التصنيف. وعند سؤاله عن نوعية الزيارات التي سُمِح له بها أثناء وجوده في الحبس الانفرادي، كان جوابه على النحو التالي:

جواب: كانت زيارات غير تواصلية؛ إذ يوضَع السجين في مكان أشبه بزنزانة صغيرة، به نافذة زجاجية وهاتف، ويجلس الزائر على الجانب الآخر ومعه الهاتف.
سؤال: هل كنت تُقيد بأي شكل من الأشكال؟
جواب: نعم، فكانت توضَع حول خصري السلاسل، ويأخذونني من الزنزانة إلى مكان الزيارة ويضعونني في المكان الأشبه بالزنزانة الصغيرة التي أشرت إليها، ثم يفكون عني القيود وسلاسل الخصر.
سؤال: هل كان بإمكان زائريك رؤيتك وأنت مقيد في السلاسل؟
جواب: نعم، كان بإمكانهم ذلك.

سأله المحامي بعد ذلك، عن حالته الانفعالية بعد إيداعه الحبس الانفرادي دون تمارين رياضية واقتصار الزيارات الخاصة به على الزيارات غير التواصلية على مدى ثمانية عشر يومًا.

جواب: لقد شعرت بالإهانة الشديدة، وبعدم قدرتي على الخروج وممارسة التمارين. كان جسدي يتألم، لكن الأمر كان مهينًا حقًّا؛ لأنك تخرج لزيارة ذويك ويرونك في الأغلال والقيود، الأمر أشبه بالإذلال.

سؤال: في أثناء الزيارات غير التواصلية، هل كان بإمكانك التواصل مع أسرتك؟

جواب: ليس بدرجة كبيرة.

سؤال: ما صور الكبت التي تعرضت لها؟

جواب: لم يكن بإمكاني التحدث عن الخروج من السجن أو الحصول على مساعدة؛ وذلك لأن الهواتف كانت تحت المراقبة. فأنت لا تدري إن كان ما ستقوله خطأً أم لا، وإن كان الموظفون سينتزعون منك الهاتف لأنك قلت شيئًا ليس من المفترض أن تقوله. ولا تعرف ما ينبغي عليك قوله، فيما عدا: «كيف حالك؟ تبدو أفضل حالًا بكثير.»

عانى كيه آر في النهاية انهيارًا عصبيًّا، وصار يحاول الانتحار أثناء وجوده في وحدة العزل الإداري في سان كوينتن. وبعد خضوعه للفحص النفسي للحالات الطارئة، وضِع على لائحة التدابير الاحترازية لمواجهة حالات الانتحار عدة أيام.

تقدمت والدة كيه آر أيضًا بشهادتها في المحكمة. وبعد أن وصفت أوقات الانتظار الطويلة في صفوف الزائرين وعمليات التفتيش الذاتية التي تسبق الزيارات، سُئِلت عن الاختلافات بين الزيارات التواصلية وغير التواصلية. وأجابت من منصة الشهود قائلةً: «الزيارات غير التواصلية مؤلمة للغاية؛ لأن الشعور بالشخص العزيز عليك والتواصل معه جزء مهم من تشجيعه. لكن في هذه الزيارات، ثمة حاجز بينك وبينه. لم نكن نشعر بالارتياح. وقيل لنا إنه ينبغي علينا عدم التلفظ بأي شيء لا نرغب في أن يسمعه أي شخص آخر. وقضينا وقتًا طويلًا نعقد محادثات بسيطة عبر الهاتف لا علاقة لها بأيٍّ من المشكلات القائمة.»

في وقت لاحق، نُقِل كيه آر إلى سجن ذي إجراءات أمنية منخفضة، وحصل على زيارة تواصلية من أمه وابنته البالغة من العمر خمسة أعوام. وحتى وقت هذه الزيارة، طلب كيه آر من والدته أن توضح لابنته سبب عدم إمكانية قيامها بزيارته بأن تكذب عليها وتخبرها بأنه كان مريضًا للغاية. ووصفت أمه أول زيارة تواصلية معه قائلةً:

انتظرنا أكثر من ساعة تقريبًا، وحاولت لفت انتباهها بعيدًا عن أي شيء له علاقة بالسجن. إنها تعيش في قاعدة عسكرية، ولم يكن للضباط أو للأشياء الموجودة في السجن أهمية لها. وفجأة، لا أعلم لماذا، نظرتُ عن يميني حيث مكان الزيارة الرئيسي، ورأيت ابني وهو يسير ناحيتنا من هذا الاتجاه. استدرت إلى سارة، وقلت لها: «ها هو والدك.» فقالت لي: «إنه ليس مريضًا!» وانطلقت ركضًا ناحيته. لكنه لم يجرِ ناحيتها. ووقف في الصف، فوصلتْ إليه. شعرنا بابتهاج شديد. كان هناك الكثير من البكاء والمشاهد الانفعالية وما إلى ذلك، لكننا تمكنا من قضاء وقت الزيارة في مكان عادي يمكنه فيه أن يتواصل مع ابنته جسديًّا وأن يتحدث معها.

سؤال: هل كان لتلك الزيارة التواصلية تأثير على ابنك؟

جواب: نعم، لقد كان في أفضل حالاته ربما بسبب هذه الزيارة. لقد كانت مهمة للغاية بالنسبة إليه. وبالطبع، كان بإمكاننا لمسه أيضًا. وتحدثنا كثيرًا، وقلنا كل ما يمكننا التفكير فيه، وهمسنا وتحدثنا، وشعرنا بارتياح كبير لعدم شعورنا بالقلق مما كان يحدث أو من أن يتنصت علينا أحد أو أي شيء من هذا القبيل.

قضى كيه آر شهرًا واحدًا فقط في الحبس الانفرادي. ولك أن تتخيل حال السجناء الذين يُحكَم عليهم بمدة غير محددة في هذا الحبس! فإذا كان كيه آر قد أُصيب باضطراب انفعالي وصارت لديه ميول انتحارية بسبب التوتر النفسي، فما مقدار التوتر الذي سيتعرض له شخص أسير الحبس الانفرادي فترة أطول بكثير؟

(٢-٤) السجناء الذين يرفضون الزيارات

التقيت بعدد كبير من السجناء في السجون ذات الإجراءات الأمنية العالية والمشددة، يختارون، مثل كيه آر، عدم تلقي زيارات من عائلاتهم. فالآباء من السجناء قد يرفضون زيارات أبنائهم لهم؛ لكيلا يروهم وهم مكبلون بالقيود. على سبيل المثال، سألت في إحدى المرات رجلًا أسود يقضي مدة عقوبته في سجن إنديانا ذي الإجراءات الأمنية المشددة في مدينة ويستفيل إن كانت أسرته تجيء لزيارته كثيرًا أم لا. فقال لي مؤكدًا: «لا يأتون أبدًا!»

فسألته: «لماذا؟ هل يرجع السبب إلى المسافة التي ينبغي عليهم قطعها؟»

فأجابني: «لا، فهم لا مانع لديهم من القيادة ساعة كاملة إذا تطلب الوصول إلى هنا ذلك، لكنني لا أريدهم أن يروني على هذا الحال.»

سألت ذلك الرجل عما يعنيه، فأوضح لي أنه في كل السجون الأخرى التي سُجِن فيها، يرتدي السجناء ملابسهم الشخصية ويتلقون زيارات تواصلية، لكن في هذا السجن ذي الإجراءات الأمنية المشددة، فإنهم يرتدون بذلة السجن، ويُجبَرون على قضاء وقت الزيارة في مكان مغلق يتحدثون فيه عبر الهاتف مع زائريهم. وواصل حديثه قائلًا: «لقد واجهت صعوبة في أن أوضح لأبنائي سبب دخولي السجن. ولا أريدهم أن يتذكروني وأنا مكبل بالأغلال وأرتدي ملابس السجن هذه.»

يحمل الكثير من السجناء الذين يودعون وحدات الحراسة المشددة مثل هذه المشاعر. فهم مفتقدون لزوجاتهم وآبائهم وأطفالهم، لكنَّ كبرياءهم يجعلهم يرفضون زيارات أُسرهم. وفي ميشيجان، تضمن استطلاع الرأي الذي أرسلته للسجناء في قضية كين ضد إدارة المؤسسات العقابية بميشيجان السؤال التالي: «هل فقدان متعلقاتك وملابسك الشخصية سيغير من قدرتك على التواصل مع أسرتك وأصدقائك؟» فالسياسة الجديدة التي تعرضت لها هذه القضية كانت من شأنها أن تفرض قيودًا كبيرة على متعلقات السجناء وتجبرهم على ارتداء زي موحد. فيما يلي بعض الردود المعتادة التي حصلت عليها من بعض السجناء الذكور:
  • لا أرغب أن يراني أطفالي وأسرتي وأنا بملابس السجن.

  • سيؤثر ذلك بالسلب على مشاعرهم أثناء الزيارة.

  • سأشعر بالخزي؛ لذا فإجابتي هي نعم.

  • نعم، فسيشعرون بأنني لست بحاجة إليهم. فهم يفعلون الأشياء من أجلي ليظهروا لي حبهم.

  • نعم؛ لأنني قد حُرِمت بالفعل من رفقتهم، والآن لن يصير بإمكاني الحصول على الأشياء التي تبقيهم في ذاكرتي.

  • نعم؛ لأن هذا الأمر سيفتح الباب لكثير من الأمور التي سيتعين عليَّ إيضاحها، مثل سبب انزعاجي أو ارتدائي نفس الملابس دائمًا.

وفيما يلي عدد من الإجابات المعتادة من السجينات:
  • نعم، فلا أرغب في أن يروني بهذا الحال.

  • أرسلت إليَّ أسرتي أشياء ساعدتهم على أن يشاركوني وجدانيًّا هذه التجربة. وسيكون من الصعب جدًّا أن أخبر أمي البالغة من العمر تسعين عامًا بأنها لا يمكنها إرسال شيء بسيط يعبر عن حبها لي. ولا يمكنني مقابلتها دون أن أرتدي الملابس التي أرسلتها إليَّ.

  • نعم، فهم يظهرون حبهم لي بإرسال الأشياء التي أحتاج إليها حقًّا، وسأفقد كل ذلك.

  • وجودنا في هذا المكان يشق علينا وعلى أسرنا. فلدينا أطفال لا يفهمون سبب عدم عودتنا إلى المنزل، وإرغامنا على لقائهم في الزيارات بملابس السجن سيزيد من ارتباكهم.

وكتبت سيدة تبلغ من العمر واحدًا وخمسين عامًا، وهي أم لديها اثنان من الأبناء، ولديها أحفاد، تقضي خمسة عشر عامًا عقوبة في سجن ذي إجراءات أمنية منخفضة، ولا يجوز لها أن تطلب إطلاق السراح المشروط قبل مضي ثلاثة أعوام:

من الصعب جدًّا على أسرنا وأطفالنا أن يرونا في هذا الموقف. وأنا متأكدة أن هذه السياسة ستغير من رغبتي في رؤية أبنائي وأحفادي. من الأمور التي يتم تشجيعنا على فعلها هي إعادة إرساء روابطنا الأسرية وتحسين قدرتنا على التواصل والتصرف على نحو مسئول ومثمر. وبالنظر إلى تنفيذ هذه السياسة ضمن سياسات أخرى كثيرة جدًّا، يبدو الأمر كما لو كان هدف إدارة المؤسسات العقابية هو إلقاء من يقعون في أيديهم في السجون ونسيانهم بعد ذلك. لم تعد المكالمات الهاتفية سرية بعد الآن، ولم يعد يُسمَح للأشقاء بالتواصل، وأصبح أفراد الأسرة يُعامَلون كما لو كانوا محبوسين عند زيارتهم لأحبائهم. يبدو أن الحاجة لفرض العقاب الكامل والتفنن في الوسائل التي من شأنها منع السجناء من العودة للإجرام قد طغت على الهدف الأساسي للسجن، وهو مساعدة الفرد على إعادة بناء حياته.

(٢-٥) تأثير قلة زيارة السجناء على المجتمع نفسه

ليس السجناء وحدهم مَن يعانون قلة الزيارات. فمن العواقب المأساوية الأخرى المترتبة على زيادة أعداد السجناء ومحاولة «إخفاء» المجرم عن المجتمع؛ تدمير الأُسر. فبالنسبة إلى السجناء، رجالًا كانوا أم نساءً، لا تسير حياة أطفالهم على ما يرام في غيابهم. نحن نشهد مأساة واسعة الانتشار تحدث بين الأجيال، يدخل فيها الأب أو الأم السجن، ويقع الابن أو الابنة فريسة المخدرات والجريمة والفشل المزمن، بل وربما يصل به الحال إلى السجن يومًا ما.

ليس من المفيد على الإطلاق لأي مجتمع إدخال عدد كبير من شبابه إلى السجن. ولنا أن نفكر مثلًا في تأثير زيادة أعداد السجناء في المناطق الفقيرة بمجتمع الأمريكيين من أصل أفريقي. فهناك من يتحدث عن «القيم الأسرية» والواجب الأخلاقي المُلزم للرجال بتنفيذ وعودهم لزوجاتهم وأطفالهم. لكن مع وجود ما يزيد عن ٣٠ بالمائة من الرجال الأمريكيين من أصل أفريقي ضمن الاختصاص القضائي لنظام العدالة الجنائية، يوجد عدد كبير من الأمهات المعيلات والأسر التي يغيب عنها الأب أو الأم، وعدد قليل من الرجال.

وإذا عاد السجين السابق إلى المجتمع وهو في حالة أشد من الغضب والاضطراب الانفعالي والانفصال عن أسرته نتيجة لنقص الزيارات الجيدة، فسوف يعود على الأرجح إلى حياة المخدرات والجريمة؛ وربما أيضًا سيتجه إلى جرائم أكثر عنفًا من تلك التي ارتكبها قبل دخوله السجن.

•••

إن القيود المفروضة على الزيارات الجيدة لها أثر ضار للغاية على صحة السجناء العقلية. وسوء التواصل يزيد بلا شك من سوء حالات الاكتئاب. والسجناء المعرضون — بسبب المرض العقلي — للانفعال وخرق القواعد واللجوء للعنف يفقدون التأثير الإيجابي الذي يمكن أن يحققه لهم تواصلهم الوثيق مع أفراد أسرهم. ليس مصادفةً إذن أن يحدث عدد كبير من حالات الانتحار في السجن؛ نتيجة لفقدان التواصل مع الأحباء، وهو الأمر الذي سأتناوله في الفصل التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤