الفصل الثامن

الانتحار في السجون

يبلغ معدل الانتحار في السجون ضعف معدل الانتحار بين السكان عمومًا، ويزيد في الحبس الاحتياطي بنحو تسع مرات عن معدله بين السكان عمومًا، أو خمس مرات عن معدله في السجون. وهذا تقدير تقريبي؛ إذ يختلف المعدل اختلافًا كبيرًا من ولاية لأخرى. مع ذلك، فإن هذه الأرقام تشير إلى أن الانتحار يمثل خطرًا صحيًّا كبيرًا داخل المؤسسات العقابية.

ولديَّ، للأسف، الكثير من القصص الشخصية عن حالات انتحار سجناء. ففي كل مرة يُطلَب مني فيها تقديم رأيي بشأن جودة خدمات الصحة العقلية في أحد السجون، أطلب ملفات جميع حالات الانتحار التي حدثت مؤخرًا؛ سواء محاولات الانتحار أو الحالات التي انتهت بالوفاة فعلًا. وألتقي، بعد ذلك، بالسجناء الذين أتمكن من تحديد مواقعهم والذين حاولوا دون جدوى قتل أنفسهم. وفي الحالات التي تمكَّن أصحابها من الانتحار فعليًّا، تُجري المؤسسات الطبية عادةً «تشريحًا نفسيًّا»؛ أي فحصًا سريريًّا بعد الوفاة للحالة، فأطلب الاطلاع على تقارير هذه الفحوصات الخاصة بالعامين أو الأعوام الثلاثة الماضية. وتقدم محاولات الانتحار خلف الأسوار، في حال نجاحها أو فشلها، صورة لليأس بين السجناء، ونقدًا لاذعًا لسلوكيات الموظفين وأوجه الخلل المؤسفة لديهم فيما يتعلق ببرامج منع الانتحار.

(١) وباء مأساوي

على الرغم من أن الانتحار يمثل مشكلة كبيرة في السجون، فإن النماذج السائدة في كلٍّ من هاتين البيئتين العقابيتين مختلفة. لكنْ هناك نموذج آخر من الانتحار، وهو الانتحار الخفي الذي يُطلَق عليه أسماء أخرى، مثل شجار أفضى إلى موت أو محاولة هروب أسفرت عن موت السجين. وفهم الأسباب التي تجعل السجناء يصلون إلى درجة من الاكتئاب تدفعهم لقتل أنفسهم يمكن أن يساعد الموظفين في الحفاظ على مستوى اليقظة المطلوب لمنع حالات الانتحار.

(١-١) الانتحار في الحبس1

في أواخر سبعينيات القرن العشرين، وكنوع من رد الفعل على الدعاوى القضائية الجماعية التي وجهت اتهامًا بشأن قصور رعاية الصحة العقلية في العديد من سجون الولايات المتحدة، تحسر عدد هائل من المنشورات على المعدل المرتفع المُقلق للانتحار بين السجناء. ومن النتائج المذهلة التي تم التوصل إليها أنه على أقل تقدير تحدث نصف حالات الانتحار في الحبس الاحتياطي خلال الساعات الأربع والعشرين الأولى من الاعتقال، ونسبة كبيرة منها تحدث خلال الساعات القليلة الأولى منه. وهناك بعض الأدلة أيضًا على أن المحبوسين احتياطيًّا يكونون أكثر عرضة لإيذاء أنفسهم مقارنةً بالسجناء الصادر ضدهم أحكام. فالمحبوسون احتياطيًّا يجب عليهم التكيف مع صدمة الاعتقال والحرمان من الحرية والشعور بالخزي الناجم عن ذلك والاحتمال المخيف بقضاء الوقت خلف الأسوار.

وقد وضعت الجمعية الطبية الأمريكية، ووزارة العدل الأمريكية، والعديد من الولايات معايير للخدمات الطبية وخدمات الصحة العقلية في زنزانات الاحتجاز المحلية، بما في ذلك توجيهات واضحة بشأن أنواع الفحوصات التي تُجرَى على المحتجزين الواردين، وتدريب الموظفين الذين ينبغي عليهم الكشف عن السجناء المعرضين لخطر الانتحار. على سبيل المثال، نظرًا لأن نسبة كبيرة من حالات الانتحار في الحبس تحدث في زنزانات العزل، فمن الواضح أن العزل ليس وسيلة فعالة للتعامل مع السجناء الذين لديهم ميول انتحارية؛ ومن ثم يجب منعه. ويوصَى، بدلًا من ذلك، بالملاحظة المباشرة لهؤلاء السجناء، أو على الأقل المتابعة الدقيقة كل خمس عشرة دقيقة.

ومن الممارسات المعتادة حاليًّا في معظم السجون فحص المحتجزين الواردين للكشف عن أي علامات تشير إلى خطر وقوع حالات انتحار، بالإضافة إلى خضوع الموظفين غير المختصين في مجال الصحة العقلية للتدريب من أجل التعرف على السجناء المعرضين لهذا الخطر. ومع ذلك، ما زال معدل حالات الانتحار في السجون عاليًا. ويرجع أحد أسباب ذلك إلى أن الكثير من المقاطعات تتبنى بروتوكولات خطية مقبولة للفحص والوقاية، لكنها تفشل على نحو بائس في تطبيق هذه البروتوكولات.

(١-٢) الانتحار في السجن2

يُعَد الانتحارُ السببَ لما يزيد عن نصف عدد حالات الوفاة بين السجناء في الحجز. وفي عام ١٩٩٣، بلغ معدل حالات الانتحار ٢٦٫٤ حالة بين كل ١٠٠ ألف سجين في سجون ولاية كاليفورنيا، و٢٥ حالة بين كل ١٠٠ ألف سجين في سجون ولاية تكساس. وبلغ معدل الانتحار في السجون بهاتين الولايتين، وهما الولايتان الكبريان من حيث إجمالي عدد السجناء، نحو ضعف معدل الانتحار بين السكان عمومًا في ذلك العام. وفي نفس العام، بلغ معدل الانتحار في سجون ولاية جورجيا ١٠٫٨ بين كل ١٠٠ ألف سجين، وفي فلوريدا ٩٫٩، وهو المعدل الأقل إلى حدٍّ ما عن معدل الانتحار بين السكان عمومًا.

وعلى عكس المحتجز في الحبس قبل محاكمته، كان لدى المحبوس في السجن الوقت للتكيف إلى حد ما مع المصير الذي في انتظاره والمخاوف بشأن انفصاله عن أحبائه وبشأن قدرته على التأقلم مع حكم طويل المدة في بيئة سجن وحشية ذات نظام هرمي.

ولقد تحدثت مع العشرات من السجناء الذين أقدموا على محاولات جادة للانتحار لكنهم نجوا منها، وأخبروني بأسباب عديدة لأفعالهم المدمرة للذات. فقال لي أحد الرجال إن موعد إطلاق سراحه كان قد أوشك، وأضاف: «بدأت أشعر بقلق شديد بشأن ما سيحدث لي خارج السجن.» وهناك رجل آخر كان قد اكتشف أن نتيجة فحص فيروس نقص المناعة البشرية الخاص به جاءت إيجابية. ورجل آخر قطع شرايين رسغيه بعد أن اكتشف أن طلب إطلاق السراح المشروط الخاص به قد رُفِض، وقال لي: «سيطرت عليَّ فكرة أنني لن أتمكن من رؤية أطفالي أبدًا إلى أن يصيروا بالغين.»

مثلما أوضحت في الفصل السابع، يُعَد عدم التواصل أو ضعفه مع الأحباء أحد الأسباب التي يذكر الكثير من السجناء أنها الدافع وراء محاولاتهم الانتحار. فقد قام أحد السجناء، الذين التقيت بهم، بمحاولة انتحار جادة بعد أن سمع بأن ابنته البالغة من العمر اثني عشر عامًا قد تعرضت لحادث اغتصاب وحشي. وقد كان ثائرًا للغاية بشأن ألمها وبشأن عجزه التام عن أن يكون معها في وقت احتياجها له. وتحدثتُ أيضًا مع الكثير من السجناء الذين حاولوا الانتحار بعد علمهم بأن شريك حياتهم قد انفصل عنهم وارتبط بشخص آخر. والعديد من حالات الانتحار التي نجح أصحابها في الانتحار فعليًّا يرجع الدافع وراءها إلى الغيرة.

تحدثتُ كذلك مع سجناء أقدموا على محاولات انتحار جادة؛ لأنهم لم يتحملوا التهديدات البدنية التي يتعرضون لها كل يوم. وآخرون — يكاد يكون من المستحيل تقدير عددهم؛ نظرًا للخزي الذي يمنع الكثيرين منهم من التحدث في الأمر — تعرضوا للاغتصاب وتُرِكوا بعد ذلك محاصرين في معضلة هل كان ينبغي عليهم أن يشوا بالمغتصِب أم لا. وبالنسبة إلى آخرين، كانت فكرة عدم الاحتفاظ بوظيفة أو التمتع بأسرة خارج السجن أصعب مما يمكن تحمله. وهناك أيضًا السجناء الذين يقضون أغلب ساعات استيقاظهم في زنزانات مظلمة. فيصابون بالاكتئاب ويبدءون في الشعور بأنه ما من أمل أمامهم. والأسباب وراء كل حالة انتحار في السجن معقدة، والفروق بينها دقيقة.

يمثل السجناء الذين يعانون الذُّهان وغيره من الاضطرابات العقلية الخطيرة الأخرى نسبة كبيرة من حالات الانتحار في السجون. ويقتل هؤلاء السجناء أنفسهم أحيانًا استجابةً «لهلاوس آمرة». وهذه الهلاوس هي أصوات تأمر الشخص المضطرب بفعل شيء ما، مثل ارتكاب عمل عنيف. وعندما تأمره هذه الأصوات بقتل نفسه، يكون خطر الانتحار عاليًا للغاية. ويرجع ذلك إلى أن الأفراد الذين يعانون اضطرابات عقلية خطيرة ويستجيبون للهلاوس السمعية يكونون غير قادرين على التواصل الجيد مع مقدمي المساعدة للاستماع إلى نصائحهم أو إعطاء التزام بعدم فعل أي شيء مدمر للذات.

حتى وإن استطاع الطبيب السريري، لفترة قصيرة، لفت انتباه هذا الشخص، والوصول إلى اتفاق ما معه بعدم الاستجابة لرغباته الانتحارية، فإنه بمجرد أن يتركه هذا الطبيب وتعود الأصوات لتأمره بارتكاب عمل انتحاري، يترك هذا الشخص على الأرجح كل الالتزامات السابقة ويلبي أوامر الأصوات التي يسمعها. على سبيل المثال:

التقيت بالسيد آر إيه، وهو سجين من الأمريكيين الأصليين، في نهاية العشرينيات من عمره، في إحدى وحدات العزل الإداري. بدا ثائرًا، وكانت هناك غرابة في التحديق الواسع لعينيه من النوع الذي رأيته فقط لدى المرضى الذين يعانون ذهانًا حادًّا. سألته عن سبب احتجازه في العزل الإداري، فكشف لي عن رسغه الأيسر، حيث كانت هناك ندبة سميكة ناتجة عن تمزق أحدثه لنفسه. سألته عما حدث، فأخبرني أنه سمع أصواتًا تأمره بقتل نفسه. كان قد مرَّ على السيد آر إيه في إحدى وحدات العلاج النفسي المؤمَّنة ستة أشهر حيث حصل على أدوية مضادة للذهان قوية للغاية، عندما نقلوه إلى هذا السجن. يقول آر إيه: «كانوا بحاجة إلى السرير في مستشفى الأمراض النفسية، وكنت أول مريض يمكن الاستغناء عنه.»

لقد تأخر نقل التقرير السريري لهذا الرجل، فلم يستطع الحصول على الأدوية المضادة للذهان الخاصة به. وفي تلك الأثناء، أخذ السجناء الآخرون يسخرون منه لكونه «غريب الأطوار». وازداد ارتباكه شيئًا فشيئًا على مدار عدة أسابيع، ثم تشاجر مع سجين أهانه. كان يعتقد أن الحرَّاس انحازوا إلى السجين الآخر. أُلقي به في الحبس الانفرادي. وبحلول ذلك الوقت، كان قد مر على عدم حصوله على الأدوية ثلاثة أسابيع. وبانقطاعه عن جميع علاقاته الاجتماعية، صارت الأصوات داخل رأسه أعلى وبدأت تلومه على حماقته، ثم أخبرته بأن يقتل نفسه، فحاول فعل ذلك بشقِّ رسغه باستخدام قطعة معدنية كسرها من السرير. وبعد محاولة الانتحار، أُرسِل السيد آر إيه إلى المستوصف لمدة يومين، وتمت خياطة الجرح له. قال آر إيه: «بعد ذلك، جاء طبيب نفسي، وأعادني إلى نظام الأدوية الخاص بي.» صدرت ضده مخالفة تأديبية لمحاولته الانتحار، وأُعيد إلى العزل الإداري.

عندما التقيت بالسيد آر إيه، كان لا يزال تنتابه هلاوس على الرغم من حصوله على الأدوية، ولم يكن قد عُرض على أي متخصص من متخصصي رعاية الصحة العقلية منذ مجيء الطبيب النفسي لرؤيته في المستوصف ووصفه له الدواء المضاد للذهان قبل أسبوع من لقائي معه.

(١-٣) الانتحار الخفي

إن السبب الوحيد الذي يدفع أي شخص للانتحار هو عدم تمكنه من التوصل إلى بديل أفضل، مع الوضع في الاعتبار مدى يأسه والمأزق الحالي الذي يعانيه. فالشباب بالأحياء الفقيرة لا يعتقدون أن أمامهم فرصًا كثيرة في الحياة. وأعتقد أن هذا أحد أهم الأسباب التي تجعل هذه المجتمعات تعج بالمخدرات والجريمة والعنف، وغير ذلك من السلوكيات المنطوية على مخاطر شديدة. فلا يفكر الشباب في مستقبلهم كثيرًا على نحو واعٍ، ولا يفكرون كذلك بشكل جِدِّي في العواقب عند ارتكابهم أنواع الجرائم التي تؤدي بهم في النهاية إلى الحبس. وهذا النوع من التفكير يؤدي إلى الانتحار. فحرب العصابات بالأحياء الفقيرة، شأنها شأن حالات الشغب في السجون، تتضمن قدرًا هائلًا من الميول الانتحارية غير المُعلَنة.

وفي السجن، هناك العديد من الطرق التي يقتل بها المرء نفسه بطريقة لا تجعل أحدًا يشك أنه انتحر. ويفعل بعض السجناء ذلك لأن الدافع المدمر للذات الذي يقف وراء أفعالهم الخطيرة يكون لاشعوريًّا. ويختار آخرون عن وعي الموت، لكنهم يعتقدون أنه علامة على الجُبن، أو لا يرغبون في أن تعيش أُسرهم مع خزي انتحارهم، فيقومون بمحاولة هروب متهوِّرة وهم على علم بأن الحرَّاس سيطلقون عليهم النار ليقتلوهم. وقد يثيرون أيضًا شجارًا مع شخص قوي أو عضو في عصابة يعرفون أنه سيقتلهم. ومن السبل الأخرى التي يمكن للسجين أن يتأكد أنه سيموت من خلالها؛ تخلفه عن دفع ما عليه من أموال لأحد تجار المخدرات بالسجن، أو عدم دفع دَين مقامرة كبير.

والعديد من حالات الانتحار التي تتم بالفعل لا تُسجَّل على أنها انتحار؛ وذلك لأن الأفراد يموتون نتيجة حادث عنف، ولا تكون هناك أية أدلة واضحة على حدوث أي انتحار. في المجتمع، يمكن للفرد أن يقود سيارته بتهوُّر ويتعرض لحادث اصطدام يودي بحياته أو يطلق النار على الشرطة وهو يعلم أنهم سيطلقون عليه النار في المقابل. أما في السجن، فيمكن للسجين مهاجمة سجين أقوى منه، وهو يعلم جيدًا أن هذا السجين أو رفاقه سينتقمون منه ويقتلونه. ويمكنه، بدلًا من ذلك، إهانة أحد الضباط. وللأسف، لا تشمل إحصائيات الانتحار خلف الأسوار العدد الكبير من السجناء الذين ينتحرون عن طريق الدخول في شجار مع سجين أقوى منهم أو مع حارس مُسلَّح. والكثير من حالات الانتحار لا تُكتشف ولا تُسجَّل.

(٢) الفشل في منع الانتحار

تُشكل التقارير حول الانتحار خلف القضبان تقييمًا لا يقبل الجدل لجودة خدمات الصحة العقلية المُقدَّمة للسجناء. فقد يختلف الأطباء السريريون في تشخيص حالة سجين معين وفي تحديد أي المدانين يحتاج إلى العلاج، لكن عندما يقتل سجين نفسه لا يكون هناك مجال للنقاش حول حقيقة أنه كان من المفترض أن يحصل على تدخل سريري مكثف وفعال على نحو أكبر.

ولا يعني ذلك أن كل حالات الانتحار يمكن منعها. فالسجناء، في المعتاد، يواجهون مستقبلًا مظلمًا للغاية، ويخبرني الكثيرون منهم أنهم يفكرون جديًّا في الانتحار. والشخص الذي لديه نية حقيقية لقتل نفسه قد لا يلتمس العلاج أو يخبر أحدًا بما يخطط له. لكن عندما يطلب سجينٌ يعاني حالة اكتئاب قابلة للعلاج المساعدةَ، ولا يتلقى الرعاية الملائمة، ثم يقتل نفسه، فإن مقتله سيمثل تحذيرًا بشأن صور القصور في رعاية الصحة العقلية في السجن أو منظومة السجون التي ينتمي إليها. وحتى لو لم ينتبه موظفو رعاية الصحة العقلية إلى اكتئاب السجين الذي لديه ميول انتحارية، فإن العدد الكبير من حالات الانتحار يعطينا فكرة عن تزايد حالات البؤس وفقدان الأمل في بيئة السجن التي تزداد قسوة.

(٢-١) حالات يمكن منعها

الانتحار قرار لا رجعة فيه. فإذا قررتُ أن مريضًا ما ليست لديه ميول انتحارية خطيرة، وسمحتُ له بمغادرة العيادة أو المستشفى، ثم اتضح أنني كنت مخطئًا وقتل هذا المريض نفسه بالفعل، فلن تكون هناك فرصة أخرى للتراجع في هذه المأساة.

وبعد الانتحار، يصير من الواضح عادةً الخطأ الذي حدث. على سبيل المثال:

ينتظر أحد السجناء حتى يحلَّ الظلام على فناء السجن. وعند محاصرة الحرَّاس للسجناء لإعادتهم إلى زنزاناتهم، يتوجه هذا السجين نحو السور الخارجي ويبدأ في تسلقه. يأمره الحارس الموجود في البرج عبر مُكبِّر الصوت بالنزول إلى الأرض ورفع يديه لأعلى. فيتجاهل السجين الأمر، ويستمر في التسلق. يطلق الحارس النار من بندقيته ليصيب السجين الذي يسقط على الأرض.

يخبر السجين الحرَّاس الذين يتوجهون إليه مشهرين بنادقهم نحوه أنه آسف على عدم إصابتهم الهدف؛ فقد كان يفضل الموت. وبعد علاج جراحه في مستشفى السجن، يودع السجين الحبس الانفرادي بإحدى وحدات العزل الإداري. ويُستدعَى طبيب نفسي لرؤيته في الزنزانة. ويستمر لقاؤه بالطبيب فترة قصيرة، ويسجل الطبيب في تقريره أنه يمثل خطرًا كبيرًا على نفسه، وأنه سيعود في اليوم التالي لرؤيته. وفي تلك الليلة، يشنق السجين نفسه في زنزانته ويموت.

بعد ستة أشهر من وفاة هذا السجين، ذهبت إلى المحكمة الفيدرالية لتقديم شهادتي بشأن الارتفاع المثير للقلق في معدلات الأمراض العقلية الخطيرة والانتحار بين السجناء في ذلك السجن. وسألني القاضي عن رأيي بشأن انتحار السجين الذي حاول تسلق السور، فقلت له إنه يبدو من الواضح أنه كان هناك قصور شديد في العلاج الذي تلقاه ذلك المريض، وأن وفاته كان من الممكن منعها. فقد قال السجين بوضوح إنه يريد أن يموت، لكنه تُرِك في زنزانة حبس انفرادي دون احتياطات للانتحار. زاره طبيب نفسي، وقيَّم خطورة حالته تقييمًا صحيحًا، لكن الرجل لم يُنقَل إلى مستشفًى للأمراض النفسية أو وحدة داخلية لعلاج المرضى النفسيين. وعلى الرغم من أن اعتزام الطبيب النفسي رؤية السجين في اليوم التالي كان يمثل تدخلًا كبيرًا نسبيًّا من جانبه — إذ نادرًا ما كان يرى أي مريض قبل مرور شهر بين الزيارتين — لم تكن تلك خطة علاجية مناسبة لرجل عُرف أنه معرض لخطر انتحار هائل.

كان القاضي قد استمع بالفعل إلى العديد من قصص الانتحار والاتهامات بالقسوة واللامبالاة من جانب موظفي السجن. وفيما يخص هذه الحالة تحديدًا، سألني القاضي عما إذا كنت ألقي باللوم على الطبيب النفسي. فقلت له إنني أعتقد أن هذه الحالة تعكس إنهاكًا حادًّا في مؤسسة تعاني من الازدحام الشديد، حيث إن مستوى الرعاية النفسية داخلها غير ملائم إلى حدٍّ بعيد. ولا شك أنه في المجتمع العادي، كانت ستُرفَع قضية على الفور ضد الطبيب المعالج بتهمة سوء ممارسة المهنة لو حدثت حالة انتحار بعد أن تنبأ بها الطبيب ولم يفعل شيئًا لمنعها. لكن المرجح أن ذلك الطبيب النفسي افترض أنه على الرغم من وجود وحدة لعلاج المرضى النفسيين داخل السجن، فسيكون من المستحيل نقل المريض إليها. فلا يكون هناك عادةً أية أسرَّة متوافرة في تلك الوحدة الشديدة الازدحام، وقد رفض موظفو قبول الحالات على الأرجح آخر خمسة مرضى أشار هذا الطبيب النفسي بنقلهم إلى وحدة قبول المرضى بقسم الطوارئ.

وكلما ازداد مستوى اهتمام الطبيب النفسي، ازداد تألمه من قصور الخدمات التي يقدمها ومن عدم قدرته على إزالة أسباب شكاوى السجناء. وفي حالتنا هذه، أقنع الطبيب النفسي نفسه على الأرجح بأنه يقدم أفضل علاج ممكن في ظل الإمكانيات المتاحة؛ فهذه الطريقة الوحيدة التي يمكنه من خلالها العودة إلى منزله في نهاية اليوم والنوم ليلًا. لقد كان ذلك الطبيب يعاني من حالة إنهاك شديد، كما هو حال الكثير من الأطباء السريريين غيره في مثل هذا الموقف. ولقد أوضحت للقاضي أن إبعاد المرء لنفسه عن المرضى وتجاهله معاناتهم واحتياجاتهم بمنزلة مؤشرات على حالة من الإنهاك قد أصابت مقدمي الخدمات العامة. وألقيت باللوم على الدولة والنظام العقابي بالكامل؛ نظرًا لأن ظروف الازدحام الشديد ونقص خدمات رعاية الصحة العقلية الملائمة من المشكلات المنتشرة على مستوى النظام بالكامل. انتقلنا، بعد ذلك، إلى حالة الانتحار التالية في القضية.

في معظم هيئات الصحة العقلية في المجتمع، شأنها شأن برامج الصحة العقلية بالمؤسسات العقابية، يقدم «التشريح النفسي» الذي يُجرَى بعد حدوث واقعة الانتحار فرصة لإعادة تقييم نقاط القوة والضعف في نظام تقديم خدمات الصحة العقلية. فيجتمع موظفو رعاية الصحة العقلية، ويفحصون الحالة، ويراجعون السجل الطبي السريري للمنتحر، ويكتبون تقريرًا يتضمن توصيات لتحسين برنامج منع الانتحار. وفي المؤسسات العقابية، يُعيَّن شخص ما من إدارة المؤسسات العقابية بالولاية أو من المكتب الفيدرالي للسجون لمراجعة كل حالة انتحار، ويُرسَل تقريره من المكتب المركزي إلى موظفي السجن. وفي الأوضاع المثالية، تكون المأساة بمنزلة فرصة مهمة لتحديد أوجه القصور في البرنامج وإصلاحها.

وفي بعض الأحيان، يكون هناك عدد كبير من حالات الانتحار في سجن أو نظام سجون معين، وتوصي عمليات التشريح النفسي والمراجعات الرسمية بإجراءات معينة. على سبيل المثال، في الكثير من الأنظمة، يكون أول إجراء يوصَى باتخاذه هو توفير مزيد من التدريب لموظفي السجون لتحديد أزمات الانتحار والاستجابة لها. وتتفاوت جودة مراجعات ما بعد الوفاة من مؤسسة عقابية لأخرى. ولقد توصلت إلى أنه في بعض السجون التي تشهد عددًا كبيرًا من حالات الانتحار، ثمة انخفاض في مستوى جودة إعداد السجلات الطبية السريرية قبل الوفاة، مع عدم التعامل مع توصيات عمليات التشريح النفسي بجدية. لكنني أجريت أيضًا تحقيقات في سجون وأنظمة سجون اتخذت فيها الإدارة وموظفو رعاية الصحة العقلية مسألة حدوث سلسلة من حالات الانتحار على محمل الجِدِّ، وقامت بإعادة هيكلة جذرية لبرنامج الصحة العقلية الخاص بها لتجنب حالات الانتحار التي يمكن منعها في المستقبل.

(٢-٢) مجرد تلاعب

في عدد كبير من حالات الانتحار التي قمت بالتحقيق فيها، تضمنت ملاحظات الموظفين في الأيام السابقة للانتحار اتهامات للسجين بأنه يتلاعب بهم فحسب. ولقد سألت السيد آر إيه عن هذا التلاعب، وأخبرني بأن ثمة حقيقة في هذا الاتهام. ففي بعض الأحيان، يضطر أن يقول إنه لديه ميول انتحارية ويعاني اضطرابًا لكي يحصل على اهتمام الطبيب النفسي. يجب أن نشير هنا إلى أن هذا الرجل يحصل على أدوية مضادة للذهان وتنتابه هلاوس تأمره بقتل نفسه. وإذا كان سيضطر للتظاهر بأنه يعاني أزمة انتحارية لكي يُعرض على الطبيب النفسي، فلك أن تتخيل مدى صعوبة حصول شخص لم تُشخَّص حالته بالذهان على مساعدة.

لقد راجعت حالة في سجن ذي إجراءات أمنية متوسطة في ولاية كاليفورنيا في بداية تسعينيات القرن العشرين حيث وقف السجين على سريره، وربط إحدى شراشف السرير في فتحة تهوية السخان بالسقف، وعقدها وربطها على شكل أنشوطة حول عنقه. وذكر العديد من ضباط الأمن في وقت لاحق أنهم مرُّوا على الزنزانة ورأوا ذلك الرجل وهو يقف على سريره مع وجود إحدى شراشف السرير المعلقة من فتحة السخان معقودة حول عنقه، لكنهم لم يفعلوا شيئًا؛ لأنهم اعتقدوا «أن السجين كان يتظاهر بمحاولة الانتحار كي يحول دون نقله الوشيك إلى سجن بيليكان باي.» وأخيرًا، قفز السجين من على سريره وعُثِر عليه ميتًا نتيجة الشنق.

مثلما ذكرت في الفصل الثالث، يتظاهر عدد معين من السجناء بأعراض انفعالية؛ أملًا في نقلهم إلى وحدة علاج نفسي حيث يكون من الأيسر لهم قضاء مدة عقوبتهم. ومن الصحيح أيضًا أن عددًا معينًا من الأشخاص الذين يحاولون الانتحار من أجل جذب الانتباه إليهم في الأساس، ينجحون في النهاية في محاولاتهم ويموتون. ونظرًا لارتفاع معدلات الانتحار خلف القضبان، يستلزم الأمر إجراء فحص دقيق لتحديد السجناء المعرضين حقًّا للخطر. ولا شك أن رأي ضابط الأمن — الذي لم يتلقَّ أي تدريب يُمكِّنه من التعرف على حالات الانتحار المحتملة — بشأن كون السجين الذي تبدو عليه ميول انتحارية يتلاعب أم لا؛ ليس تقييمًا ملائمًا لاحتمال حدوث الانتحار فعليًّا من عدمه.

وإذا لم يتنبه الموظفون بما فيه الكفاية لاحتمال حدوث انتحار، ولم يأخذوا «صرخات طلب المساعدة» من جانب السجناء على محمل الجِدِّ، فحتى السجناء الذين لديهم ميول انتحارية خطيرة سيضطرون للتلاعب بشكل أو بآخر إذا لم يحصلوا على الانتباه الذي يحتاجون إليه. بعد قراءة العشرات من تقارير التشريح النفسي في المؤسسات العقابية بالعديد من الولايات، توصلت إلى نتيجة مزعجة وهي أن السجلات الطبية السريرية لمعظم السجناء، الذين تمكنوا في النهاية من الانتحار، تضمنت ملاحظة واحدة على الأقل قبل احتضارهم تشير إلى أنهم «يتلاعبون».

وتسعى الأبحاث التي تتناول حالات الانتحار إلى التوصل إلى عوامل الخطر التي يمكن ملاحظتها قبل وقوع الانتحار، وبذلك يمكن للموظفين تحديد الحالات التي تنطوي على مستويات عالية من الخطورة والتدخل للحيلولة دون حدوث أية وفيات. أما فيما يتعلق بالانتحار في السجون، فالأبحاث واضحة للغاية. إن الأغلبية العظمى من السجناء الذين يقتلون أنفسهم يكونون ممن يودعون الحبس الانفرادي، ويكون لديهم تاريخ سابق من اعتلال عقلي خطير، كما يكونون قد سبق لهم أن أقدموا على محاولات انتحار. ويخبرنا الباحثون أيضًا أن الشخص الذي ينجح في الانتحار يكون قد سبق وصفه بالمتلاعب، وقد تلقى قبيل وفاته أخبارًا سيئة من منزله، وتصرف على نحو غريب أو غير معهود، وأخبر شخصًا ما بأنه يفكر في الانتحار.

الأساس الذي يجب أن يسترشد به كلٌّ من موظفي رعاية الصحة العقلية وموظفي الأمن على حدٍّ سواء هو أن يتعاملوا مع صرخات السجناء طلبًا للمساعدة على محمل الجِدِّ دائمًا إلى أن يثبت العكس. لكن عندما نرى الموظفين يقفون كالمتفرجين مع زيادة حالات الانتحار في الحبس الانفرادي بين السجناء الذين لديهم تاريخ سابق من المرض العقلي وحاولوا من قبلُ الانتحارَ، ونرى أيضًا أن الموظفين يستمرون في وصف هؤلاء السجناء بالمتلاعبين، بل وإصدار عقوبات ضدهم أيضًا بقضاء مدد أطول في الحبس المشدد بسبب سلوكياتهم المدمرة للذات، فعلينا أن نشك إن كان هؤلاء الموظفون يهتمون حقًّا بمنع الانتحار.

(٢-٣) النهج العقابي

يتعلق جزء من مشكلة المؤسسات العقابية بتوجه عقابي لدى موظفي السجون يقلل من انتباههم للعلامات التي تدل على حالات الانتحار الوشيكة. فمن الصعب التعاطف مع سجين مكتئب عندما يشعر الموظفون بأنه يتصرف على نحو سيئ للغاية ويستحق عقابًا صارمًا. على سبيل المثال:

في أثناء جولة لي بإحدى وحدات السجون ذات الإجراءات الأمنية المشددة مع كبير الأطباء النفسيين بالسجن، سألته عن برنامج منع الانتحار. أوضح لي الطبيب أنه يضع السجناء المعرضين لخطر انتحار كبير في «زنزانة هادئة». وسألته عن سجين رأيته وكان عاريًا ومستلقيًا على ظهره على أحد الأسرَّة والقيود حول بطنه، وأطرافه الأربعة مقيدة في أركان السرير (وهو ما يعرف باسم «التقييد الخماسي»). فأجابني بأن هذا السجين لديه ميول انتحارية، وأنه سوف يُبقي عليه مقيدًا هكذا إلى أن يقرر هذا السجين أنه لن يقتل نفسه. كتبت في تقريري عن هذا السجين قائلًا: «إن السجين المصاب بالذهان أو الذي لديه ميول انتحارية ستتدهور حالته أكثر بسبب التوتر الذي يسببه له هذا النوع من العلاج. وعلى الرغم من أن الأعراض قد تختفي مؤقتًا لمجرد أن السجين يرغب في الهروب من العلاج، فإن حالة الذهان الكامنة أو نزعة تدمير الذات لدى السجين تسوء على الأرجح.»

في كثير من أنظمة السجون، تُعامَل محاولة الانتحار كنوع من خرق القواعد، وتُفرَض عقوبة عليها. ولا شك أن سياسة اتهام السجين الذي يحاول الانتحار بخرقه للقواعد مناقضة تمامًا لكل ما نعرفه من واقع الممارسة والبحث السريريين بشأن تقييم احتمالات الانتحار والتعامل معها.

ولقد وجدت في عدد ليس بقليل من الملفات الأمنية الخاصة بالسجناء المتوفين ملاحظةً دُونت بعد وفاتهم تفيد بأن هذا السجين أو ذاك قد انتهك قاعدة السجن التي تحظر محاولة الانتحار. يا له من أمرٍ غريب! لكن هذا ليس الخلل الوحيد. فالمدانون، الذين يحاولون الانتحار وينجون من هذه المحاولات، لا بد من أن يمثُلوا أمام جلسة استماع بتهمة محاولتهم قتل أنفسهم، ويُحكم عليهم عادةً بقضاء مدة في الحبس الانفرادي. بالإضافة إلى ذلك، ونظرًا لأن الحكم يتضمن على الأرجح حرمان السجين من أوقات الترفيه التي يستحقها مقابل ما عمله من أيام أو نظرًا لحسن سلوكه، فإن الحكم يتضمن أيضًا تمديدًا لمدة العقوبة الكلية التي يقضيها السجين في السجن. بصفتي طبيبًا نفسيًّا، يفزعني هذا الانتشار الواسع النطاق لهذه الممارسة في المؤسسات العقابية. على سبيل المثال:

السيد إن إم، وهو سجين أمريكي من أصل مكسيكي في أحد السجون ذات الإجراءات الأمنية المشددة في ولاية كاليفورنيا، أرسل إلى محاميه خطابًا يوم ٢٥ سبتمبر عام ١٩٩١، واصفًا له محاولة انتحاره التي أقدم عليها يوم ٣٠ يوليو من نفس العام. كان قد نُقِل إلى سجن جديد ذي مستوًى أمني أعلى قبل محاولته الانتحار ببضعة أيام. ظل السيد إن إم يأخذ جرعات قوية نسبيًّا من الأدوية المضادة للذهان والمضادة للاكتئاب على مدار عدة أعوام، لكن الطبيب النفسي الذي التقى به في مقابلة تقييم قصيرة المدة عند دخوله ذلك السجن الجديد قرر أنه ليس بحاجة إلى الأدوية ومنعه منها. اشتكى السجين للمساعد الفني الطبي، الذي أخبره بأنه ليس بيده ما يمكنه فعله. لم يستطع السجين النوم من دون الحصول على الأدوية الخاصة به، ولم يستمع أحد إلى شكواه بشأن الهلاوس التي تدفعه إلى الانتحار. وبعد بضعة أيام، قطع رسغه بشفرة حلاقة ممزقًا أحد العروق وأوشك على تمزيق الشريان.

بعد خياطة الجرح في مستشفى السجن، وضِع السيد إن إم على قائمة مراقبة حالات محاولة الانتحار. وعاد يحصل على الأدوية التي كان يأخذها قبل نقله. وبعد بضعة أيام، نُقِل إلى وحدة العزل الإداري، وهي المكان الذي حُكِم عليه بالبقاء فيه كعقاب له على محاولته الانتحار. وأُضيف، كذلك، ثلاثون يومًا إلى حكم الحبس الصادر ضده. وكتب قائلًا إنه يشعر برغبة أكبر في الانتحار بعد سماعه الأخبار عن الحكم الصادر ضده بقضاء مدة أطول في الحبس الانفرادي.

شعر موظفو الرعاية الطبية أن شكوى هذا السجين من الهلاوس التي تحثه على قتل نفسه ليست سوى «تلاعب» من جانبه. وقد يكون ذلك هو السبب وراء عدم إرسالهم إياه إلى وحدة الأزمات النفسية، ثم سماحهم لمسئولي السجن بمعاقبته بالحبس الانفرادي بعد محاولته الانتحار. في حقيقة الأمر، من غير الوارد أن يتمكن موظفو رعاية الصحة العقلية من منع نقل السجين إلى وحدة حبس مشدد دون أي تغييرات في السياسة أو في سلوك موظفي الأمن. لكن الإيقاف السابق للأدوية النفسية التي كان يحصل عليها السجين لعب دورًا مهمًّا بالتأكيد في محاولته الانتحار.

(٣) الحاجة إلى اليقظة والاهتمام

ليس هناك دواء لعلاج الرغبة في الانتحار. ومضادات الاكتئاب تستغرق عدة أسابيع كي يبدأ مفعولها. ونحن نعلم أن مَن يعانون اكتئابًا حادًّا لا يتخذون خطوات فعلية تجاه الأفكار التي تراودهم بشأن الانتحار حتى يبدأ الاكتئاب في الاختفاء، وتصبح لديهم الطاقة اللازمة لمتابعة خططهم المهلكة التي كانت تراودهم بينما كان يمنعهم الاكتئاب من ذلك بسبب ما يسببه من خمول. وعندما طرحت إدارة الأغذية والأدوية الأمريكية عقَّار بروزاك ليُوصَف من قِبل الأطباء لمرضاهم على نطاق واسع، اعتُبرت العديد من حالات الانتحار بمنزلة آثار جانبية لهذا العقَّار الذي لم يكن قد مضى على تسويقه وقت طويل. لكن بروزاك لم يكن «السبب» وراء حالات الانتحار. وإنما ما فعله هو أنه أخرج هؤلاء المرضى من حالات الاكتئاب الحادة التي كانوا يعانونها، ومن ثم أثبت فعاليته كمضاد للاكتئاب. لكن كان من المفترض مراقبة هؤلاء المرضى؛ نظرًا لأنه من المعروف أن مَن لديهم ميول انتحارية لا ينفذون رغباتهم في إيذاء أنفسهم إلا بعد اختفاء خمولهم الناتج عن الاكتئاب.

وتُعَد المراقبة والمحادثة العلاج الوحيد الفعال للأشخاص الذين لديهم ميول انتحارية خطيرة. والتواصل البشري معهم هو التدخل المهم في هذه الحالات، بينما تلعب الأدوية دورًا ثانويًّا؛ لذا، يجب حظر عزل السجناء الذين لديهم ميول انتحارية. فالمرء بإمكانه أن يقتل نفسه في «زنزانة خالية تمامًا» من أي شيء، أو «غرفة مبطنة الحوائط». فالسجين الذي يُترَك بلا ملابس أو فراش يمكن أن يضرب رأسه في الحائط أو يبتكر وسيلة أخرى أكثر غرابة للموت. ولا بد من وجود مراقبة مباشرة، إذا أردنا منع حوادث الانتحار. ففي مستشفيات الأمراض النفسية، يُنقَل المرضى الذين لديهم ميول انتحارية إلى غرفة قريبة بما فيه الكفاية من وحدة التمريض حيث يراقبهم اختصاصيو التمريض باستمرار. وهناك برامج فعالة تطبق في بعض السجون حيث يوضَع السجناء الذين من المحتمل أن تكون لديهم ميول انتحارية في زنزانات قريبة بما فيه الكفاية من وحدة الحارس كي يخضعوا طوال الوقت للمراقبة. ويخضع الحرَّاس كذلك لتدريب مكثف على كيفية الحيلولة دون وقوع حالات انتحار.

وسياسة تفقد السجين كل خمس عشرة دقيقة تُعَد خيارًا ثانيًا مقبولًا أيضًا، لكن عند تنفيذها «بضمير»! فقد زرت سجونًا تُسجَّل فيها جميع ملاحظات الزيارات التفقدية التي تُجرى كل خمس عشرة دقيقة خلال نوبة عمل كاملة مع نهاية النوبة. وعندما سألت أحد ضباط السجن ذات مرة: هل كانت الملاحظات تُجرَى بالفعل كل خمس عشرة دقيقة؟ قال لي: «لا، ليس في الواقع. فنحن ننشغل. وأنا عن نفسي، أقوم بهذه الملاحظات كلما أمكنني ذلك، لكن تكون هناك عادةً أمور خطيرة أخرى ينبغي التعامل معها؛ لذلك، أعود في نهاية اليوم، وأسجل ملاحظة عن كل خمس عشرة دقيقة لتجنب المشكلات.»

إن مخاطر الانتحار مرتفعة في السجون، ومنع حالات الانتحار لا بد أن يمثل أولوية كبرى لدى موظفيها. ولكي ينجح أي برنامج لمنع حالات الانتحار في السجون، فلا بد من وجود موظفين لديهم ضمير يقظ وغير منشغلين على نحو بالغ بشأن ما إن كانوا ضحية لتلاعب من جانب سجين معين أو لا، ولا يعانون إنهاكًا يمنعهم من التعاطف مع السجين المكتئب والمسارعة إلى مساعدته.

•••

لقد تناولت في الجزء الثاني من هذا الكتاب بعضًا من سمات الحياة في السجون التي تتسبب للسجناء في آلام ومعاناة لا داعي لهما، وتزيد عادةً من سوء الاضطرابات العقلية والإعاقات النفسية التي يعانونها. وتشمل هذه السمات انتشار العنصرية، وعدم الاكتراث باحتياجات النساء الخاصة، والتحرش الجنسي، والاغتصاب، وقلة الزيارات الجيدة، وحالات الانتحار التي يمكن منعها. ليس من المفترض بالطبع أن تكون مدة العقوبة في السجن ممتعة، لكن درجة القسوة والوحشية التي تهيمن على السجون الأمريكية حاليًّا ليست جزءًا ضروريًّا أو مفيدًا من العقاب. كذلك لا طائل من وراء تجاهل الحاجات العاطفية للسجناء والقصور في علاج الصحة العقلية لمن يعانون اضطرابات عقلية. والتشريعات الجنائية المتشددة والسياسات العقابية الخرقاء، بالإضافة إلى نقص الرعاية والوحشية الصريحة من جانب موظفي السجون، كل ذلك يسفر عن أضرار انفعالية لا حدود لها لدى السجناء وأُسرهم، ويجعل شوارعنا أكثر خطورة.

وفي الجزء الثالث، سأقدم توصياتي بشأن تحسين أحوال السجون والتخفيف من معاناة المصابين بأمراض عقلية خلف الأسوار. سأتناول في الفصل التاسع كيف أن الدعاوى القضائية يمكن أن تكون فرصة قيِّمة لإلقاء الضوء على أسوأ صور الانتهاكات ولفت الانتباه إليها، بالإضافة إلى علاج بعض الممارسات القاسية التي تجعل الحياة في السجون لا تُطاق، وتزيد من وطأة المعاناة النفسية للسجناء الذين يعانون أمراضًا عقلية. لكنني سأناقش، أيضًا، حدود ما يمكن أن تحققه الدعاوى القضائية، خاصةً عند تركيز المحاكم والتشريعات على رفع مستوى التشديد في التعامل مع المجرمين. وفي الفصل العاشر، سأقدم بعض التوصيات العملية لتحسين برامج العلاج وإعادة التأهيل في المؤسسات العقابية، لكن مكاسب هذه التحسينات لن تكون ذات قيمة إذا لم نُحسِّن من الأسلوب الذي تدار به السجون، ونراجع أولوياتنا وسياساتنا الاجتماعية. أما الفصل الأخير، فسأعرض فيه منطق القانون والنظام الذي تقوم عليه بعض أسوأ السياسات العقابية حاليًّا، وسأعلق على حماقة ذلك المنطق ونوع الرؤية التي نحتاج إليها لتغيير الأمور إلى ما هو أفضل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤