الفيلسوف باكون والشاعر شكسبير

مشاهير الناس آلهة للناس في هذه الحياة، ولكنهم آلهة لا تُعبَد في أكثر الأحيان إلا بعد أن تلقى الممات، فمثلهم مَثَل تلك الجبال الشامخة؛ كالمقطَّم وجبل لبنان، فإنك إذا كنت قريبًا منها أو مقيمًا فوقها ظهرَتْ لك صغيرة منخفضة، ولا تظهر لك شامخة كبيرة إلا إذا بعدتَ عنها.

ومن أشهر هؤلاء المشاهير الذين رفعتهم الإنسانية بعد موتهم إلى أعلى عِلِّيِّين: الفيلسوف باكون؛ أشهر فلاسفة الإنكليز، والمؤلف شكسبير؛ أشعر شعرائهم. ويسرُّنا أن نترجم هذين الرجلين لما في ترجمتهما من الفوائد الفلسفية والأدبية، لا سيما إذا صيغَتْ بقالب بسيط سهل يحل أعقد عقد الفلسفة، ويجلو غوامضها، فيجعلها سهلة المنال لعقول الشيوخ والأطفال، كما قال صاحب الزبور عن أصول الحكمة.

ونبدأ أولًا بترجمة باكون؛ لأن للفلسفة حق التقدُّم.

(١) فرنسيس باكون

ترجمة باكون

هو الفيلسوف الشهير فرنسيس باكون؛ بارون دي فاردلام، وفيكونت دي سان البانس، وأحد وزراء المملكة الإنكليزية. وُلد في لندن من نقولا باكون؛ المحامي المشهور، في ٢٢ كانون الثاني من عام ١٥٦١، ولما بلغ السنة الثالثة عشرة من عمره دخل كلية كمبريدج، حيث تلقَّى العلم ثلاث سنوات، ثم أُلحق بالسفارة الإنكليزية لدى البلاط الفرنسوي، فزار باريس وباقي المدن الفرنسوية الكبرى، وأخذ يجمع شذرات عن حالة أوروبا في ذلك الزمان. وفي عام ١٥٧٩ توفي أبوه، فعاد إلى لندن، وكان المال الذي ورثه منه لا يقوم بحاجاته للنفقات الكثيرة التي كان يُنفقها تأييدًا لمركزه، فعمد إلى درس الحقوق، فنجح فيها نجاحًا سريعًا، فعُيِّن في عام ١٥٨٧ مستشارًا خاصًا للملكة إليصابات. وكان عصر هذه الملكة في إنكلترا شبيهًا بعصر لويس الرابع عشر في فرنسا من حيث النهضة العلمية والأدبية، وكفى عصر إليصابات فخرًا أن يكون قد نبغ فيه رجلان كباكون وشكسبير.

ولكن باكون رأى أنه لا يكسب من وظيفته لدى الملكة كسبًا يسدُّ نفقاته الطائلة، فرامَ احتراف المحاماة، وطلب وظيفة تُمكِّنه من الكسب فلم يُجب إلى طلبه، ولكن جاءه الكونت ديسه ووهبه أملاكًا ذات دخل كافٍ، فرضي باكون وسكت. ولكن لماذا وهبه الكونت هذه الأملاك؟ وهل إن الملكة هي التي أوعزَتْ إليه بأن يهبه إيَّاها؟ الله أعلم.

وفي عام ١٥٩٢، اختارته مقاطعة ميدلسه نائبًا عنها في البرلمان، فكان هذا الزمن أشد الأزمان عليه؛ لأن باكون كان فيه أشد اضطرابًا، فإنه كان تارة يتملَّق الشعب، وطورًا يتملق الوزارة، وآونة يبعث بقصائد المدح إلى الملكة إليصابات تزلُّفًا وتملُّقًا. وفضلًا عن ذلك فإنه اضطر أن يكتب يومئذٍ عريضة ببيان التهم التي وُجهت إلى الكونت ديسه الذي أحسن إليه. وبعد ذلك اشتدَّت الحاجة به حتى صدر الأمر بالقبض عليه وسجنه مرتين من أجل ديون عليه. ولم يسترِحْ من هذه المصائب حتى ارتقى جاك الأول إلى العرش. وبعضهم يزعم أن الملكة إليصابات كانت تقصد اضطهاده لتتخلص منه؛ بناءً على أسبابٍ سنذكرها فيما يلي.

ولما ملك جاك الأول قرَّب باكون إليه، ووهبه ما كان قد طلبه، فاحترف باكون المحاماة وكسب منها أموالًا طائلة، ثم تزوج بفتاة ذات غنى واسع، وتراكمت الرتب على رأسه، فجُعل في عام ١٦١٧ وزيرًا للعدلية، ثم جُعل في رتبة بارون وفيكونت. وسبب هذه النعم كلها نشره في أثناء ذلك كتبًا في الأدب والفلسفة وجَّهَتْ إليه أنظار الناس في جميع أقطار العالم، وجعلته في أعلى ذُرى المجد العلمي.

ولكن هذا الفيلسوف الذي هدم أساس الفلسفة القديمة بقوة عقله، ووضع أساسًا حديثًا للأدب والفلسفة، كان عاجزًا عن تدبير نفسه، وحفظ قواعد الأدب والفلسفة؛ فإنه لما عُيِّن وزيرًا للعدلية جعل يبيع بعض الوظائف بيعًا بالثمن لحاجته إلى المال الكثير بناءً على إسرافه. وكان يقبض كثيرًا من الأموال من أصحاب الدعاوي والقضايا ليُسرع في إنجاز قضاياهم. وجاءه يومًا صديقه وحاميه بكنكهام يسأله وظائف لصانعيه والمُقربين إليه، فاضطر إلى إجابته مُكرهًا، ولم يقدر على رفض طلبه. فبناءً على ذلك أخذ المظلومون يصرخون ويشكون، ورفعوا شكواهم إلى مجلس العموم، فأمر المجلس بإجراء تحقيق في هذه التُّهم، فثبت بعضها على باكون، فصدر الأمر بمحاكمته لدى مجلس اللوردات.

أما بكنكهام والملك فإنهما خشيا عاقبة الأمر؛ لتداخُلِهما فيه، فأوعزا إلى باكون أن يتوارى فرارًا من المحكمة، ولكن باكون رفض القرار وقال إنه يستسلم إلى عدالة المجلس، فحاكمه مجلس اللوردات في ٣ أيار من عام ١٦٢١، وحكم عليه بغرامة قدرها ٤٠ ألف جنيه، وبتجريده من كل وظائفه، وقضى عليه بأنه غير أهل لأن ينوب في البرلمان بعد تلك الحادثة، ولا أن يولَّى منصبًا عموميًّا، وبألَّا يقيم في مدينة يقيم البلاط الملكي فيها، وبسجنه في سجن لندن، فسُجن باكون، ولكن الملك لم يُطِل مدة سجنه، بل عفا عنه وأعاده إلى لندن. ولما ارتقى الملك شارل الأول إلى العرش أعاد إلى باكون شرفه، وأرجعه في عام ١٦٢٥ إلى البرلمان، غير أن باكون لم يُضع هذه السنوات التي صرفها بلا عمل؛ لأنه انصرف في أثنائها إلى مراجعه كتبه الفلسفية وإتمامها. وهذه الكتب أساس مجده، ودعامة فخره، ولولاها لما كان شيئًا مذكورًا. وقد توفي باكون بعد مرور سنة على عودته إلى البرلمان؛ أي في ٩ نيسان من عام ١٦٢٦.

ولا يسعنا بعد ما تقدم من فساد تدبير باكون وسوء تصرفه إلا أن نُلقي هذا السؤال على القارئ: أيٌّ أوجب للاستغراب: إنزال فيلسوف عظيم كباكون نفسه في هذه المنزلة من أخذ الرشوة وإفساد الأحكام؟ أم قيام طبقة عالية من نفس الأمة الإنكليزية سورًا كثيفًا دون البلاط ومقربيه، حتى إن الملك نفسه يخافها ويداريها؛ لمعرفته بأنها تحمي شرف الدولة، وتمنع حدوث الشر فيها؟ لا ريب أن هذه الطبقة — طبقة النبلاء — هي التي حفظت إنكلترا إلى اليوم، ورفعت شأنها في أقطار الأرض، وإذا أسقطت الديمقراطية في إنكلترا هذه الطبقة العالية في هذا القرن أو الذي يليه، ولم تضع مكانها ديمقراطية حقيقية «لا سطحية» كالديمقراطيات التي في أوروبا اليوم، فإن إنكلترا تسقط يومئذٍ عن قمة مجدها سقوطًا حقيقيًّا.

آراؤه الفلسفية التي أحيَت الفلسفة

أما فلسفة باكون فقد تضاربَت الأقوال فيها؛ ففريق الفلاسفة الماديين يعتبرونه هو وديكارت زعيمين للفلسفة الحديثة، وواضعين لأصولها، وينزلون باكون في أسمى منزلة بين فلاسفة العالم. وفريق الفلاسفة الإلهيين — ولا سيما الكاثوليك — لا يرونه شيئًا مذكورًا، ولا يجدون في فلسفته — كما يقولون — إلا غموضًا. وقد طعن عليه زعيمهم جوزف دي ماستر الفرنسوي طعنًا شديدًا. أما الفلاسفة الإنكليز وعلماؤهم فلا يعرفون لهم زعيمًا ورئيسًا غير باكون مهما قيل فيه.

والسبب الذي جعل خصوم باكون يجترئون عليه، أن هذا الفيلسوف لم يضع فلسفة جديدة ولم يكتشف أمرًا جديدًا، ولكنه اقتصر على وضع قواعد فلسفية جديدة تنقض القواعد القديمة، فكأنه اقتصر على الهدم دون البناء. ولبيان ذلك نقول:

ميزان أرسطو: كانت الفلسفة قبل باكون وديكارت مبنية على الفلسفة اليونانية التي وضعها أرسطو، وهي المعروفة بالفلسفة المدرسية (سكولاستيك)، وكان يكفي أن يُقال: «قال أرسطو» لينحسم كل جدال، فكانت العقول خاملة لا تتصرف بشيء ولا تجترئ أن تُحدث شيئًا حذرًا من الخروج عن القواعد المقررة. وكان رأس هذه القواعد: «القياس»، وهو المعروف «بآلة أرسطو» أو ميزانه؛ لأن الحقائق لا تُدرك بدونه. مثال ذلك: إذا أخذت النار ووضعت فيها ماء فإن الماء يتبخَّر. فكرر هذه التجربة عدة مرات، فإذا تبخر الماء في كل مرة وجب أن تجزم بأن التبخُّر ناموس من نواميس الطبيعة، ثم إنك تقيس اللبن على الماء فتقول: بما أن اللبن سائل كالماء، فهو يتبخر أيضًا مثله. وبناء عليه تكون قد عرفت طبيعة اللبن من قياسه على الماء. هذا هو القياس.

فلما جاء باكون وجد أن هذه القواعد متضعضعة، فأخذ على نفسه إصلاحها، فكتب في ذلك عدة كتب؛ منها كتابه «الإصلاح العظيم» — وهو أهم كتبه، ولم يصدر منه سوى جزأين، وذلك في عام ١٥٩٧ — وكتابه «كتاب في الأدب»، وغيره من المؤلفات الفلسفية. وإليك خلاصة الآراء التي نشرها في كتبه:

رأيه في التمدُّن اليوناني وفلسفته: يحمل باكون في كتبه على الفلسفة السكولاستيك اليونانية حملات شديدة. ومن اعتراضاته أن كل ما يدرسونه اليوم؛ أي في أيام باكون، يُدرِّسونه بناءً على أقوال اليونان، ولا سيما أرسطو، مع أن اليونان لم يعرفوا شيئًا من نواميس الطبيعة، ولم يقرءوا شيئًا في كتابها السامي، فكيف يريد الفلاسفة تقييد العقل البشري بمعارف اليونان إذا كان هؤلاء لم يدرسوا الطبيعة نفسها؟ وفضلًا عن ذلك فإن اليونان أمة قديمة، وقد كان البشر في عصرهم في دور الطفولية ونحن الآن في دور الشيخوخة، فلمن نسمع؟ وممن نتعلم؟ من الأطفال أم من الشيوخ؟ فالواجب علينا إذًا أن نُطلق العقول من قيود فلسفة اليونان، ونترك كل واحد منا يمتحن الأمور بنفسه، ويشاهد نواميس الطبيعة بعينيه، ويزِن أحكامها بعقله. ومع ذلك، فإن الفلسفة اليونانية لم تُثمر شيئًا إلى الآن، ولم نحصل بواسطتها على فوائد ومنافع عملية، وكل ما استفدناه منها أنها تُعلمنا طرقًا سُفسطائية في الجدل تجعلنا لا نطلب الحقيقة في مباحثنا، ولكن حب الفوز والغلبة، فيجب تغيير هذه القاعدة التي جعلها العلم دُعامته، ووضع دعامة عملية جديدة له ليثمر ثمارًا عملية. وقد جرَّب اليسوعيون واستبدلوا دعامة أرسطو بدعامة جديدة فنجحوا في تعليمهم، فليجرب العلم ذلك أيضًا، فإنه لا بد أن ينجح.

ولكن قبل هدم هذه القاعدة القديمة يجب إنشاء «ترتيب» جديد للعلم أصولًا وفروعًا لوضع أصول كل فرع منه على الترتيب، وبناء على ذلك وضع باكون «الترتيب» المنسوب إليه، وعليه يعتمد العلماء.

الترتيب المشهور بترتيب باكون: قسَّم باكون قوى نفس الإنسان في هذا الترتيب إلى ثلاثة أقسام: «الذاكرة، والتصور، والعقل»، وجعل أصول العلم وفروعه تتفرع من هذه الكلمات الثلاث، فمن «الذاكرة» يُشتق التاريخ، ومن «التصوُّر» يُشتق الشعر، ومن «العقل» تُشتق الفلسفة.

ثم إن باكون يأخذ «التاريخ، والشعر، والعقل» كُلًّا بمفرده، ويُفرِّع منه فروعه، فالتاريخ: طبيعي وبشري، والطبيعي يشمل درس الطبيعة ما فوق وما تحت من علم الهيئة (علم الفلك) والجيولوجيا والجغرافيا إلخ. والتاريخ البشري: يشمل التاريخ الديني، والتاريخ الاجتماعي (غير الديني)، وتاريخ الأدب والفنون. وأما الشعر فإنه يكتفي بقسمته إلى ثلاثة أقسام، وهي: الشعر للوصف، والشعر للروايات، والشعر للأمثال. وأما الفلسفة فهي ثلاثة فنون: فن معرفة الله، وفن معرفة الطبيعة، وفن معرفة نواميس الإنسان، ثم يفرع باكون من كل واحد من هذه الفروع فروعًا عديدة يضيق المقام دونها، ولو أتينا عليها كلها لوجد القارئ أنه لا يبقى أصل للعلم ولا فرع خارج هذه الدائرة.

ميزان باكون ضد ميزان أرسطو: فبعد وضع باكون هذا الترتيب للعلم، وشرحه كل أصوله وفروعه شرحًا كافيًا وافيًا، وجَّه همته إلى وضع قاعدة لبنائه، فقال بوجوب ترك قواعد اليونان وأرسطو والاعتماد على العقل في ذلك البناء. وكانت قاعدة أرسطو تقضي — كما تقدم الكلام — بأن كل أمر يُجرب عدة مرات ويُفضي إلى نتيجة واحدة يجب أن يُعدُّ ناموسًا طبيعيًّا. وقد ذكرنا مثال ذلك في تبخير الماء وقياس اللبن عليه. أما باكون فإنه قال إن التجربة والامتحان إلى ما شاء الله حتى لا تبقى زيادة لمستزيد، واستئناف التجربة في كل جزء من أجزاء المادة، ومطاردة الأسرار الطبيعية إلى أبعد مكامنها، وثانيًّا: عدم الاكتفاء بالامتحان الإيجابي، بل إجراء امتحان سلبي معه، مثال ذلك: بخِّر الماء بالنار يتبخَّر، فأعِد التجربة عدة مرات تجده يتبخَّر دائمًا. هذا هو الامتحان الإيجابي. أما الامتحان السلبي فهو أن تأخذ بخار ذلك الماء وتُبرده، فإذا عاد ما كان العمل صحيحًا، وجاز لك أن تعد التبخُّر ناموسًا طبيعيًّا.

وإليك مثلًا آخر، وهو: اضرب ٢ في ٢ في ٢، فإن الحاصل ٨، ولكن إياك أن تعتقد أن الحاصل هو ٨ قبل إجراء الامتحان السلبي، أي قسمة هذا العدد على ٢ ثم قسمة الخارج على ٢ أيضًا وهلم جرًّا. ولا يخفى أن ذلك يهدم قياس أرسطو من أساسه؛ لأنه يوجب عليك في المثل الذي تقدم عن الماء واللبن أن تأخذ اللبن وتفصحه بنفسك فحصًا إيجابيًّا وسلبيًّا عدة مرات بدلًا من قياسه على الماء، وألَّا تعتمد إلا على مشاهدتك وامتحانك. ويُعرف هذا الامتحان بامتحان باكون، وقد أطلق به واضعه عقول العلماء والفلاسفة من قيود الماضي، وأعدَّ للعلم ميدانًا فسيحًا قرن فيه المعرفة بالعمل، فنشأَتْ عنه الاكتشافات والاختراعات التي عرفتها في عالم العلم والصناعة والزراعة، فكأنه روح الحرية بُثَّ في العقل والعلم فأحياهما معًا.

باكون وحجر الفلاسفة: ويعتقد باكون اعتقادًا غريبًا، فإنه يرى — كما تشهد بذلك عدة سطور من كتبه — أن غرض العلم والفلسفة البحث عن حجر الفلاسفة؛ أي المادة التي تحول المعادن إلى ذهب، وهو لا يذهب هذا المذهب طلبًا للذهب، ولكن استنادًا إلى درسه المادة، فإنه رأى من درسه المادة الطبيعية أن أصلها واحد، وأن المادة التي صُنعَ منها الحصى شبيهة بالمادة التي رُكِّبَ منها الذهب؛ ولذلك يقول: إننا متى حصلنا على المادة المشتركة بين جميع المواد (وهي ما يسمونه حجر الفلاسفة)، فإننا نتحقق حينئذٍ من أن أصل المادة واحد، ونقدر بسهولة على تحويل أي معدن كان إلى ذهب.

اعتقاد باكون بالله وبالنفس

هذا ما رأينا إثباته عن أكبر فلاسفة الإنكليز فرنسيس باكون، ومنه يرى القارئ أنه لم يكتشف أمرًا جديدًا عظيمًا، ولكنه هدم عالمًا قديمًا. وسبب شهرته الواسعة أنه قادم في زمن كانت فلاسفته مستعدة لخلع نِير أرسطو، وكان أعلاهم صوتًا وأقدرهم على ترجمة ما في نفوسهم، فنجح النجاح الذي مرَّ ذكره.

بقي علينا أن نذكر معتقد هذا الفيلسوف فنقول إنه كان يؤمن بالخالق — سبحانه — وله في ذلك كلمته المشهورة: «القليل من العلم يُبعد الإنسان عن الله، والكثير منه يُقرِّبه إليه.»

يعني بذلك أن من درَس نواميس الطبيعة ونظام الكائنات درسًا صحيحًا لا يسعه إلا أن يُعجب بذلك الترتيب البديع، الكائن في كل شيء، حتى في ذرَّات الرمل ونقط الماء وأوراق النبات، وحينئذٍ يسلِّم بالطبع من غير بحث ولا سؤال بوجود صانع حكيم، ويقول مع فنلون وفولتير عن تشبيه الأرض ونظام كائناتها بساعة وُجدت دائرة في رمل الصحراء: «هل يُمكن وجود هذه الساعة من غير ساعاتي؟»

وكان باكون يعتقد بوجود النفس أيضًا، ويقول إن من قواها علم الغيب؛ أي معرفة الحوادث قبل حدوثها، والتأثير في نفس أُخرى إذا تسلطت عليها، كما يحدث في التنويم المغنطيسي.

هذا ما نقوله عن باكون، فلننتقل الآن إلى شكسبير:

(٢) وليم شكسبير

تمهيد في فن الروايات

اشتُقَّت الروايات من أصل ديني؛ أي إنها وُضعَت حين نشأتها لغرض ديني، فإن الفُرس والآشوريين واليونان كانوا يمثلون بها قصص آلهتهم، ولكن لما قامت النهضة اليونانية في الأدب والفلسفة والشعر، خرجَت الروايات من الحيز الديني إلى الحيز الاجتماعي، فنبغ في هذا الفن كثيرون من اليونان أخصهم: أشيل، الذي يُلقبونه: أبا التراجيدية اليونانية، وقد أخذ عنه موليير وراسين وكورنيل وغيرهم من الروائيين. وقد ارتقى هذا الفن عند الرومانيين أيضًا، ومن مؤلفيهم: بلوت، وترانس؛ الشاعران الهزليَّان الشهيران.

أما النهضة الأوروبية في هذا الفن فهي حديثة العهد، وقد كان شأنها في ذلك شأن النهضة الروائية اليونانية والرومانية؛ أي إنها كانت في بدء أمرها عبارة عن تمثيل ديني، وذلك أن رجال الدين المسيحي كانوا يمثلون الأعياد المسيحية التي يعدونها اليوم تمثيلًا. وكان هذا التمثيل على نوعين: نوع مُحزن، ونوع مُضحك. ومن النوع المحزن تمثيل رواية صلب السيد المسيح في جمعة الآلام، بما فيه من المحاكمة أمام بيلاطس، وصعود السيد إلى الجلجلة، ووقوف النساء يبكين لصلبه. ومن النوع المضحك تمثيل العادات والتقاليد الدينية؛ كحادثة اليهودي التائه، وحادثة برباس، ونطق أتان بلعام. ومما يُستغرب ذكره أنهم كانوا إذا راموا تمثيل حادثة الأتان جاءوا بحمارة حقيقية إلى مكان الاحتفال؛ أي المعبد، وجعلوا يُعالجونها لتصرخ، وكانوا يُنشدونها قصيدة، منها:

غنِّي يا جلالة الحمارة
يا أيها الفم الجميل غني
فنقدم لك كفاية من التبن
وقدر ما تطلبين من الشعير

وكان بعضهم يُنشد هذا النشيد والشعب يُجاوب عليه بفرح وابتهاج بلازمةٍ ملازمة.

ولمَّا اعتاد الشعب هذا التمثيل ألِفه، فتألفت منه جمعيات للقيام به في أيام الآحاد والأعياد في خارج المعابد، فكان الشعب يُقبل على حضور هذا التمثيل ويشترك فيه، وكانت الروايات مكتوبة بشعرٍ عامي. وقد رُوي أن أحدهم كان يمثل الصَّلب، فصلَب نفسه بالفعل لإتمام الشبه، وكاد يلقى حتفه لو لم يتداركه رفاقه. ولما تمادى الشعب الفرنسوي في هذا التمثيل، أصدر البرلمان في ١٧ تشرين الثاني من عام ١٥٤٨ قرارًا بمنع تلك الجمعيات من التمثيل الديني وإباحة ما سواه. ومنذ هذا الحين دخل التمثيل في دور جديد، وانتقل من الحيز الديني إلى الحيز الاجتماعي، ونشأ من الكُتاب والشعراء: شكسبير، وكوث، وشيلر، وراسين، وكورنيل، وموليير، وفولتير، وفيكتور هيغو، ودوماس الكبير والصغير، وهين، وغيرهم، فأبلغوا بمؤلفاتهم هذا الفن إلى المقام السامي الذي صار إليه في أوروبا في هذه الأيام.

وقد قابل الإمبراطور غليوم الممثل الفرنسوي الشهير كوكلين الكبير، فقال له إنه من أنصار الروايات وكُتَّابها؛ لأنه يعرف ما لهم من الفضل والتأثير في آداب الأمة وفي أخلاقها. وكفى ذلك شهادة بفائدة فن التمثيل إذا أجاد مؤلفوه وممثلوه، وكان غرضهم نشر الآداب والسرور معًا في المسارح، لا إثارة عواطف العامة والحاضرين بمناظر وأقوال تشبه فقاقيع الصابون بسرعة زوال تأثيرها.

ولا ريب أن في ترجمة شكسبير من هذا الوجه عبرة وفائدة لجميع محبي هذا الفن الجميل.

ترجمة شكسبير

وُلد وليم شكسبير من أب تاجر في قرية سترتفورد، القائمة على أيفون، في ٢٢ نيسان من عام ١٥٦٤، وكان له إخوة ثلاثة، فدخل معهم في إحدى المدارس المجانية، وتلقَّى فيها شيئًا من اللغة اللاتينية، ولكن لم تأتِ عليه السنة الثالثة عشرة حتى أخرجه أبوه من المدرسة لاختلال أشغاله التجارية، واستخدمه في أحد البيوت التجارية. ومن ذلك يظهر أن شكسبير لم يتلقَّن في المدارس شيئًا من الدروس العُليا التي ظهرت ثمارها في رواياته بعد ذلك.

ولما بلغ شكسبير السنة الثامنة عشرة اقترن بفتاة عمرها ٢٦ عامًا، وتُدعى مس حنة هاتاواي، وقيل إنها كانت عشيقته. وبعد انقضاء ستة أشهر على زواجهما، ولدت له هذه الزوجة ابنة، وبعد ثلاث سنوات ولدت له توءمين، فدعاهما: همنت، وجوديت. ولكن الأولاد جاءوه بالضيق إلى البيت؛ لأنه لم يكن يكسب من خدمته شيئًا يُذكر، ففرَّ من سترتفورد في عام ١٥٨٣ وعُمْره ٢١ عامًا. ولمَّا صار بعيدًا عن أهله رامَ الصيد والقنص في الأحراج التي حُرم الصيد فيها، فطلبه الخُفراء للقبض عليه، ففرَّ من وجههم وسار مشيًا إلى لندن، وانخرط في سلك الممثلين فيها.

وبعد أن صرف شكسبير مدة في التمثيل جمع جوقًا وتولَّى إدارته. أما الروايات التي كان يُمثلها فكان بعضها من الروايات القديمة، يتصرف بها جريًا مع ذوق العصر، وبعضها من تأليفه. ويُقال: إن أول رواية ظهرت من قلمه كان ظهورها في عام ١٥٩١؛ أي بعد انقضاء ٨ سنوات على فراره من وطنه. وقد قال شُرَّاح هذه الرواية إن شكسبير أظهر فيها من المعرفة بعادات الطبقات الاجتماعية يومئذٍ، والتلميح إلى بعض الحوادث العصرية اللندنية ما وجَّه الأنظار إليه، ودلَّ على عظيم استعداده. نقول: فهل كانت تلك السنوات الثماني التي صرفها في لندن كافية لجعل ذلك الفتى الطائش، الذي لم يتلقَّن علمًا في المدرسة، في ذلك المقام من المعرفة والاستعداد؟

ومنذ هذا الحين بدأَتْ شمس شهرة شكسبير تطلع في سماء الأدب، فصار له أصدقاء في البلاط، ورغبَت الملكة إليصابات في حضور إحدى رواياته، فمُثِّل في البلاط إحداها في ليلة عيد الميلاد من عام ١٥٩٧، فأعجب الملكة هذا الجوق ووعدته بحمايتها، فازدادَتْ بذلك شهرته انتشارًا.

وكان المال يرد عليه مع الشهرة لكثرة مكاسبه من رواياته، فعاد شكسبير إلى وطنه سترتفورد، فوجد أحوال عائلته في اختلالٍ تام، فتلافى تلك الحالة، وزاد على ذلك أن ابتاع أحسن قصر في المدينة سنة ١٥٩٧، ثم أخذ يبتاع كثيرًا من الأراضي ويؤجِّرها للفلاحين من أبناء وطنه، فضلًا عما كان يُقرضهم إياه من الأموال تحسينًا لأحوالهم، ولكنه مع مساعدتهم على هذا الوجه كان شديد الوطأة عليهم فيما يختص باستيفاء أمواله، وكثير التفنُّن في طرق كسب المال؛ ولذلك يتخذ فلاسفة العمران شكسبير مثلًا حينما يرومون بيان المزايا التي خُصَّتْ بها الأمة الإنكليزية، من حيث المعرفة بطرق الكسب والتزام هذه الطرق، فإنهم يقولون إن أسمى رجالهم فكرًا لا يُهملون الأمور المادية، ويطلبون الكسب من كل وجوهه المشروعة. أما الفرنسويُّون فإنهم يغارون من هذا القول؛ لأنهم مشهورون بعدم اعتدادهم بالمال، وتفضيلهم الشرف والمجد عليه؛ ولذلك يذكرون شاعرهم فيكتور هيغو كلما ذكر الإنكليز شكسبير؛ لأن فيكتور هيغو كان شبيهًا بشكسبير من حيث الجمع بين سمو الفكر والمعرفة بطرق الكسب.

وفي عام ١٦٠٣، توفيت الملكة إليصابات التي كانت حامية لصاحب الترجمة، فلم يخسر صاحب الترجمة شيئًا بوفاتها؛ لأن الملك شارل الأول شمله بعنايته وحمايته، فأبرز يومئذٍ شكسبير أفضل رواياته، وهي: «كما تريد»، و«هملت»، و«أوتلو»، و«مكبث»، و«الملك لير»، فبلغ بها شكسبير ما لم يبلغه في إنكلترا شاعر ولا مؤلف لا قبله ولا بعده. ولكن بعد هذه الروايات الجميلة خمد فكر المؤلف أو فرغت جُعبته، فصار يكتب فصولًا متقطعة. وفي عام ١٦١١، أحسَّ بحاجته إلى الراحة، فعاد إلى وطنه سترتفورد، فزوَّج ابنتيه سوسان وجوديت، وانصرف إلى إدانة الأموال وشراء الأراضي حتى أدركَته الوفاة في ٢٣ نيسان، أو ٣ أيَّار من عام ١٦١٦ وعمره ٥٢ عامًا فقط، فدُفن في كنيسة سترتفورد. ويُقال إن وفاته كانت بسبب السُّكر، وهو حديث خُرافة على الأصح.

أما عائلة شكسبير فقد انقرضَتْ بعده؛ إذ مات كل أولاده وحفدته دون أن يتركوا عقبًا، ولكن من ترك مؤلفات كمؤلفاته فإن اسمه لا ينقرض ما دام الإنسان إنسانًا.

مؤلفات شكسبير ومواضيعها

وهذه المؤلفات كثيرة يضيق المقام دون ذكرها بالتفصيل، فنكتفي بالاختصار، فنقول إنه ظهرت بين عام ١٥٩١ وعام ١٦١١؛ أي بين السابعة والعشرين من عمره والسابعة والأربعين، فيكون شكسبير قد اشتغل بعد سن الأربعين سبع سنوات فقط، ولا يخفى أن سن الأربعين هي السن التي تنضج فيها مواهب الإنسان، وتبلغ فيها قوى نفسه أشُدَّها، فيظهر حينئذٍ بما خلقه الله من القوة.

وكانت أولى رواياته رواية «شقاء ضائع في الحب»، مثَّلها في عام ١٥٩١، وهي التي أشرنا إليها آنفًا، وموضوعها غرامي هزلي انتقادي. وتَلَتْها رواية «كريم فيلونه» في سنة ١٥٩١ أيضًا، وقد أخذ موضوعها من رواية هزلية قديمة. وكذلك رواية «الخطأ». أما رواياته المحزنة (التراجيدية) فقد كانت أُولاها رواية «روميو وجوليت»، وقد مثَّلها في عام ١٥٩٢ بعد رواية الخطأ، فكان لها تأثير عظيم ولا سيما في السيدات؛ لِما حوته من العواطف الرقيقة التي يتبادلها الحبيبان روميو وجوليت. وفي عام ١٥٩٢ أيضًا، وضع روايته التاريخية «هنري السادس»، ثم تلتها في عام ١٥٩٣ رواية «ريشار الثالث»، التي وردَتْ فيها العبارة المشهورة المذكورة بالتفصيل في روايات «نهضة الأسد»، وهي: «عليَّ بجواد! عليَّ بجواد، فإنني أهب مملكتي لمن يُعطيني جوادًا.» وفي عام ١٥٩٤ أبرز روايته «طيطس أندرونيكوس»، وبعضهم يرى أن هذه الرواية لم تكن من قلمه. وفي عام ١٥٩٤ كتب رواية «تاجر البندقية»، ومدارها على رجل إسرائيلي يقرض الأموال، ثم كتب رواية «الملك حنا» في عام ١٥٩٤، ورواية «لوكريس». وكلتا الروايتين نتيجة دخول المبادئ اليونانية إلى إنكلترا في تلك الأيام. وفي عام ١٥٩١ و١٥٩٤ مثَّل «الشذرات أو المقاطيع»، وهي رواية ودادية أظهر فيها فضل الصداقة على الحب. ومما قاله فيها عن لسان صديق يُوبِّخ صديقه لأنه خطف عشيقته:

خذ كل حب لي أيها الصديق. نعم، خذه كله، وقل لي الآن: ماذا زاد على ما كان عندك؟ اعلم أن كل حب لي وكل خير لي ليس لي فيه شيء؛ لأنه لك من قبل أن تأخذه، وأنا أصفح لك عن سرقتك، أيها اللص اللطيف، وإن كنت قد سلبتني كل ما ملكَتْ يداي.

ومما يجب ذكره هنا أن شكسبير كان يُشير بهذا الكلام على ما يظهر إلى اللورد سوتنتون أو اللورد بمبروك؛ لأنهما فعلا تلك الفعلة. أما المرأة ذات العينين الدعجاوين التي ورد ذكرها في هذه الرواية فلم يُعرف لها خبر.

وفي عام ١٥٩٥ أبرَزَ روايته الجميلة «حلم في إحدى ليالي الصيف»، فكانت خير ذيل «لمقاطيعه» التي تقدم ذكرها. وإليك ما قاله في هذه الرواية البديعة في وصف الحب:

ولمَّا رأى كوبيدون الملكة العذراء تناول سهمًا ورشقها به. أما أنا فتبعتُ السهم بنظري، فوجدته قد طاشَ وانطفأ في نور القمر الطاهر الذي كان يحف بها؛ ولذلك نجت العذراء المكللة من الحب، وأتمَّتْ سيرها وهي تفكِّر أفكارًا طاهرة، غير أنني بحثت عن المكان الذي وقع السهم فيه، فوجدت أنه وقع على زهرة صغيرة من أزهار الغرب كانت بيضاء اللون كاللبن، فجعلها السهم حمراء من شدة الطعنة، وتسمي العذارى هذه الزهرة: زهرة لا تنسني.

وفي عام ١٥٩٥ برزت روايته «كل ما حسنت خاتمته فهو حسن»، وفيها قصة امرأة باسلة تكره الاستسلام إلى حوادث الحياة، وتُنشئ لنفسها مركزًا باجتهادها ونشاطها. وفي العام التالي ١٥٩٦ مثَّل رواية من أحسن رواياته، وفيها أظهر أنه يكره إعطاء المرأة حقوق الرجال. ومن قوله عن لسان النساء: «لماذا نرى أجسامنا ضعيفة، وأعضاءنا واهنة لا تحتمل متاعب الحياة واضطرابات العالم؟ الجواب: لأن أجسامنا وأعضاءنا يجب أن تكون على اتفاق تام مع عاداتنا وحالة نفوسنا الداخلية.»

وفي عام ١٥٩٧ أبرز شكسبير رواية «هنري الرابع»، وفي عام ١٥٩٨ رواية «هاذيات وندسور»، وفيها طبيب فرنسوي يتكلم باللغة الإنكليزية كلامًا مُشوَّهًا مُضحِكًا، وكاهن فرنسوي يقول أقوالًا مُضحكة، وفي عام ١٥٩٩ وضع «هنري الخامس». ومنذ هذا الحين بدأت أحاسن رواياته.

فوضع أولًا رواية: «عناء كبير بشيء صغير»، ومدارها على رجل آلَى على نفسه أن يكره النساء، وامرأة لا تطيق رؤية الرجال، ولكن الرواية تجعلهما بطرق مضحكة يحب بعضهما بعضًا في النهاية حُبًّا شديدًا. وبعد هذه الرواية، ظهرت روايته «الليلة الحادية عشرة»، وذلك في عام ١٦٠٠، ومدارها على امرأة تتزيَّا بزي رجل وتخدم حبيبها وتحميه وتسهر عليه على غير علم منه، وهي بذلك تُمثل الحب الخفي السكوت، الذي يكمن في النفس كُمون النار في حجارة الزناد.

وفي عام ١٦٠١ برزَتْ رواية «يوليوس قيصر»، وأهم ما فيها وصف أخلاق بروتوس قاتله وصفًا بديعًا، وفي عام ١٦٠٢ مثَّل «هملت»؛ أشهر رواياته. وهي رواية فلسفية تسمو عن مدارك الشعب، ومع ذلك فقد طرب الشعب الإنكليزي لها أشد طرب، واختارها على ما يُقال على جميع رواياته. ومدار هذه الرواية على فتى يكره الحياة لمصابه بأمه التي قتلت أباه لتستبد بالملك بعده. ومن ينسى صراخه في وسط أحزانه ويأسه وهو يستعد للانتقام: «لله يا ملاذَّ الحياة! كم تظهرين لي فارغة باردة!» وهذه الحالة هي نتيجة استغراق الفكر والهم كل عواطف النفس وإيباسها إيباسًا.

وبعد «هملت»، كتب شكسبير «تروالوس وكريسيدة»، وذلك في عام ١٦٠٣. وقد وصف في هذه الرواية حرب تروادة، وجعل مدارها على حب فتًى صادق في حبه، وفيها تقول إحدى نسائها:

ليست السعادة واللذة إلا في الطلب، ومتى بلغ الطالب غرضه منَّا فكل شيء قد ذهب. فلتعلم ذلك الحبيبات؛ فإن التي لا تعلم ذلك لا تعلم شيئًا. إن الرجال يخضعون ويذلُّون لنا قبل استيلائهم علينا، ولكنهم يصيرون أسيادًا لنا بعد الاستيلاء.

وفي عام ١٦٠٤، كتب شكسبير «قياس للقياس»، ثم كتب في هذا العام أيضًا روايته: «أوتلو»، فأبرز فيها كل قوى نفسه؛ ولذلك قالوا إنها أبلغ رواياته وإن كانت «هملت» أشهرها. ومدار «أوتلو» على حب شديد يغار من نسمات الريح من جهة، وعلى الخيانة من جهة أخرى، ولكن الحب لا يُجيز لنفسه أقل شكوى ولا ضجر مع معرفته خيانة الحبيب له. وتلك غاية في الحب ما بعدها غاية.

وبعد «أوتلو»، برزَتْ «مكبث»، وذلك في عام ١٦٠٥، ومدارها على درس سيكولوجي في تأثير الرذيلة والجناية في نفس مجبولة على الفضيلة. وفي عام ١٦٠٦، برزت روايته «الملك لير»، وموضوعها مصائب وفظائع تصيب شعبًا بأسره. وهي من أفضل رواياته أيضًا. وبعدها ظهرت في عام ١٦٠٧ «تيمون الأثينوي»، و«بريكليس»، ولكنهما أحط من الروايات الكبيرة التي تقدم ذكرها، لا سيما وأن شكسبير ارتكب فيهما كثيرًا من الأغلاط فيما يختص بتاريخ اليونان، لاقتباسه تفاصيله من الكتب الخرافية التي كانت تُطبع يومئذ. وفي عام ١٦٠٨، مثَّل رواية «أنطونيوس وكليوباترة» و«كوريولن». وفي عام ١٦١٠ «سمبيلين». وفي عام ١٦١١ «حكاية الشتاء»، والرواية البديعة التي ختم بها مؤلفاته، وهي «الزوبعة»، كأنه قصد جعلها مسك الختام.

شهرة شكسبير في العالم ومناظروه

وإذا كان في العالم كاتب يصدُقُ فيه قول شاعرنا العربي:

لا يعرف القوم الفتى إلا إذا
قضى فيُعطى حقه تحت الثرى

فإنما ذلك الكاتب هو وليم شكسبير؛ صاحب الترجمة، فإن مُناظِريه من الكُتاب لم يعرفوا له فضلًا كبيرًا في حياته؛ لأنهم أخذوا عليه الابتداع في التأليف وترك الاتِّباع. ومما كانوا يأخذونه عليه عدم مراعاته وحدة السياق في رواياته، وما دروا أن ذلك الاختلاف كان سرًّا من أسرار نجاحها، وهكذا الناس في التأليف وسواه، متى كانوا لا يُحسنون الابتداع لضعف قواهم، أو لألفة أذواقهم للقديم البالي، انقلبوا على المبتدع ونادوا بفضيلة الاتباع.

ولكن شمس شكسبير لم يَطُل انحجابها بهذه السحب في إنكلترا أكثر من قرنين، فإنه ما أتى آخر القرن الثامن عشر حتى سكتت جميع أصوات المنتقدين، ولم يبقَ غير المعجبين والمستحسنين، وبذلك انتصر اسم شكسبير انتصارًا تامًّا.

أما أوروبا فإنها كانت أسرع من إنكلترا في إعطاء شكسبير حقه؛ ففي عام ١٦١٤؛ أي قبل وفاته بسنتين، انتشرت شهرته في ألمانيا. وفي عام ١٧٦٧، وضع لسنغ فوق كورنيل وراسين اللذين كانت أوروبا تُعجب بهما في ذلك الزمان. وفي عام ١٧٦٢ ترجم ويلند كل رواياته، واقتبس منها «كوث» المشهور في سنة ١٨٠١ رواية روميو وجوليت، وأخذ شيلر رواية مكبث، وكتب هنري هين كتبه عن «أبطال روايات شكسبير». أما فرنسا فقد كان فولتير أول مترجميه فيها سنة ١٧٣١، وقد قال في الكلام الذي بسطه للجمهور الفرنسوي عنه: «إنه كورنيل لندن، ولكنه مجنون كبير، ومع ذلك فله أقوال بديعة في غاية السمو.» أما شاتوبريان فإنه كان يقول إنه لا «يذوقه»؛ أي لا يستحسنه.

ولكن لمَّا جاءت مدام دي ستايل وقالت ما قالته عنه، انتصر اسم شكسبير، وأقبل الجمهور الفرنسوي عليه. وقد أجمع الناس اليوم على أن شكسبير أعظم مؤلفي الروايات في العالم، والصفة التي يُميزونه بها عن باقي المؤلفين ما ظهر منه من سعة الاطلاع في كل شئون الحياة. فإذا مثَّل ملكًا مثلًا عرف ما يختلج في نفس الملك، وإذا مثَّل صعلوكًا عرف ما يُناجي الصعلوك به نفسه. وقِس على ذلك باقي حالات البشر من الحب والبُغض، والرذيلة والفضيلة، والحلال والحرام، والغِنى والفقر، وكل ذلك مكتوب بأسلوب يسحر الألباب. وبذلك كان لشكسبير تأثير عظيم في فن الروايات، وفي الحركة الأدبية في جميع أقطار العالم، لا في إنكلترا فقط. وقد نُقلَتْ بعض رواياته إلى اللغة العربية.

(٣) هل كان باكون كاتب روايات شكسبير؟

ولكن كأنه قُدِّر لشكسبير ألَّا يكمل مجده أبدًا، فإنه قام منذ مدة عدة من أنصار باكون يزعمون أن الروايات التي تقدَّم ذكرها ليست من تأليف شكسبير، وإنما كان هذا ممثلًا لها فقط، وإذا سألتهم: فمن ألَّف إذًا تلك الروايات البديعة؟ فإنهم يُجيبون أن مؤلفها هو الفيلسوف باكون.

وبناء على ذلك تألَّف في إنكلترا حزبان عظيمان أكبر من حزبَي المحافظين والأحرار: أحدهما ينتصر لباكون، والآخر ينتصر لشكسبير، ولكن أنصار شكسبير أشد غضبًا، وأنكى سهامًا، وأفرغ صبرًا من رفاقهم الباكونيين؛ لأن هؤلاء هم المهاجمون.

أما الأدلة التي يتخذها الباكونيُّون لإثبات أن باكون هو الذي كتب روايات شكسبير، فهي كثيرة؛ منها: أولًا: أن شكسبير لم يتلقَّن في المدرسة دروسًا تجعله قادرًا على كتابة روايات فلسفية ساميَة كتلك الروايات، بل كان من أصله رجلًا جاهلًا، ولم يذكر التاريخ عنه شيئًا. ثانيًا: أن في أكثر تلك الروايات تلميحًا وإشارات إلى حوادث الطبقات العالية في لندن، ولا سيما حوادث حياة باكون التي مرَّ تفصيلها. وقد سألت الملكة إليصابات شكسبير غير مرة إذا كان أحد يساعده في تلك الروايات. ثالثًا: أن باكون كتب إلى أحد أصدقائه كتبًا خصوصية يقول له فيها إنه يؤلِّف تلك الروايات ويدفعها إلى شكسبير ليُمثلها باسمه. هذه بعض أدلة الباكونيين. وأما الشكسبيريُّون فإنهم يقولون لهم: إن أقوالكم هذه مزاعم لا أدلة؛ فهاتوا شهودكم إن كنتم صادقين.

وبينما كان الفريقان في هذا الجدال إذا بصوت رنَّان من أميركا يقول: «قد وجدت الدليل الذي لا يُردُّ على أن باكون هو الذي كتب روايات شكسبير.»

فالتفت الجميع، فأبصروا مسز غالوب الأميركية قادمة من نيويورك إلى لندن، وبيدها مفتاح ذلك السر. وهذه السيدة تقول إنها وجدته في كتب باكون. وإليك التفصيل:

من المعلوم أن باكون هو الذي وضع أصول المخابرات الخفية بالأرقام التي تستخدمها الدول في مخابراتها الرسمية، وكل من وقف على نسخ من الطبعة الأولى التي نُشرت من كتبه في حياته وجد في بعض صفحاتها أرقامًا عديدة مختلطة اختلاطًا لم يظهر الغرض منه. فلما وقفت مسز غالوب على تلك الأرقام قام في نفسها أن تستعمل الأرقام السرية التي وضعها باكون في قراءة هذه الأرقام المختلطة في كتبه الأولى، فجربت ذلك، وعند أول تجربة صاحت كما صاح أرخميدس: «وجدتها، وجدتها.»

ذلك أن مسز غالوب تقول إنها استخرجَتْ بواسطة مفتاح الأرقام السرية من تلك الأرقام المختلطة العبارة التالية:

إن أمي الحقيقية هي الملكة إليصابات، وأنا وارث العرش الحقيقي. تعقَّب تاريخي السري المنشور بالأرقام في كتبي تجد فيه أسرارًا عظيمة، لو بُحتُ بأحدها لباتت حياتي في خطر.

التوقيع: فرنسيس باكون

فلما ظفرَتْ مسز غالوب بهذا التفسير الغريب استأنفَت القراءة بالمفتاح السري الذي وجدَته، فاستخرجَتْ من أرقام أخرى في مكان آخر العبارة التالية: «إن فرنسيس دي فاردلام هو الذي ألَّف كل الروايات التي نُشرَتْ إلى الآن بأسماء مارلو، وغرين، وبيل، وشكسبير.»

ولمَّا نشرت مسز غالوب هذا الاكتشاف قامت له الجرائد الإنكليزية وقعدت، وانبرى الشكسبيريُّون يوسعون الباكونيُّون طعنًا وتقريعًا حتى غصَّت الجرائد بمناظرات الفريقين، ولكن الطعن والتقريع لا يقومان مقام الدليل والبرهان؛ ولذلك رأى أحد مراسلي جريدة التيمس امتحان أقوال مسز غالوب، فأخذ الصفحات التي زعمَتْ هذه السيدة أنها اكتشفَتْ فيها تلك الأقوال، وصار يبحث في أرقامها بواسطة المفتاح السري الذي ذكرَته ويضيق المقام عن بيانه. ولا يخفَى أن ذلك عمل شاق لما فيه من جمع الأرقام المختلفة الشكل، فضلًا عما يستغرقه من الوقت. ولما فرغ هذا المراسل من عمله ظهر له أنه ينقص الفقرة الأولى التي ذُكر فيها باكون ابنًا لإليصابات مائة حرف إيطالي، لتكون كلماتها منطبقة كل الانطباق على الكلمات التي ذكرتها مسز غالوب، وينقص الفقرة التالية التي ذُكر فيها أن باكون مؤلف روايات شكسبير ١١٩ حرفًا إيطاليًّا، ليكون المعنى تامًّا، كما ذكرَتْه هذه السيدة.

فاستنتج كل واحد من الفريقين من هذا الامتحان نتيجة تؤيد رأيه؛ فالشكسبيريُّون قالوا إن هذا الاكتشاف باطل لنقص الحروف، والباكونيُّون قالوا إن هذا الاكتشاف صحيح؛ لأن باكون لم يكن يُطلب منه أن يذكر سرَّه كاملًا، فإذا ترك بعض حروف ناقصة، فإنما ذلك من خوفه أن يكتشف أحد هذا السر في حياته.

وتأييدًا لهذا الزعم يقول الباكونيُّون إن باكون كان ابنًا للملكة إليصابات من اللورد ليستر، وإنها عندما وضعته ألقت به إلى المحامي نقولا باكون — الذي تقدمت الإشارة إليه — بعد أن شملته بالنعم، فتبنَّاه نقولا باكون وسمَّاه باسمه. ولمَّا شبَّ هذا الغلام ظهر أنه نابغة عصره، فدارته الملكة في بدء الأمر وسهرت عليه، ولكنه لما درى بأنه ابنها انقلبَتْ عليه وصارت تروم التخلُّص منه؛ لأن وراء أمره أمورًا سرية أخرى — نُضرب صفحًا عن ذكرها — فكبر هذا الأمر على فرنسيس باكون، وأخذ يكتب روايات يُلَمِّح فيها بحوادث حياته وحوادث البلاط ويدفعها إلى ممثلي عصره كشكسبير وغيره. وكان قد ورث عظمة النفس من أمه وأبيه، فطلب العُلا من طريق العلم والفلسفة، فنبغ فيهما وكتب كل الكتب المنسوبة إليه وإلى رجال النهضة الأدبية الإنكليزية في ذلك العصر؛ كشكسبير وماريو وبيل وغرين. فبناء عليه يكون فرنسيس باكون ملكًا وابن ملك، من حيث النسب ومن حيث العقل، والوارث الحقيقي للعرش الإنكليزي. فليحذر جلالة الملك إدوار على عرشه من ورثة باكون، وليُطأطئ الفلاسفة والعلماء والأدباء رءوسهم أمام ملك العلم والأدب والشعر والفلسفة الذي اجتمع فيه هوميروس وأفلاطون وإليصابات وغرين وشكسبير.

هذا ما يزعمه الباكونيُّون. ولا ريب أن باكون جدير بهذا الشرف العظيم، ولكنهم لم يثبتوه له بحجة قاطعة لا تقبل الرد. بقي لتمام هذا البحث أن نقول إن كثيرين من أعاظم الإنكليز، وفي جملتهم بيرون وبالمرستن وبيكنسفيلد وبريت وكلريدج وإيمرسن، يعتقدون أن الروايات المنسوبة لشكسبير ليست من قلمه، استنادًا إلى أن شكسبير كان أجهل من أن يؤلِّف مثلها. ولا تزال الحقيقة ضائعة بين الفريقين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤