المتجردة

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «هنري بتايل»

هي عندي آية من آيات الكاتب، ومن خير ما أخرج للناس في التمثيل، فيها كثير جدًّا من الحق، وفيها كثير جدًّا من الدقة، وفيها كثير جدًّا مما يملأ القلوب رحمة ويبعث في النفس عاطفة الإشفاق الشديد، ومع ذلك فأنا أتردد التردد كله حين أريد أنْ أحكم عليها من الوجهة الخلقية، ولعل الخير هو ألا أحكم عليها من هذه الوجهة، وأنْ أترك القارئ يرى فيها رأيه، ذلك أنَّ الكاتب التمثيلي ليس مكلفًا في كل وقت أنْ يتخذ الأخلاق الكريمة غاية لما يكتب وغرضًا لما يضع من قصص تمثيلية، فقد يقصد الكاتب إلى إظهار صورة من صور الحياة واضحة جلية، وقد لا يتعدى قصده هذا الحد، قد يكون مصورًا فنِّيًّا لا أكثر ولا أقل، وهو في هذه الحالة قد يلائم الأخلاق الكريمة وقد لا يلائمها؛ لأن موضوع القصة أو الصورة التي أراد أنْ يظهر الناس عليها تلائم هذه الأخلاق أو تخالفها.

على أني أراني غير بعيد من القصد في هذا الحكم، فإن الكاتب التمثيلي أو القصصي الذي لا يقصد إلا إلى التصوير وحده، ولكن إلى التصوير الصادق الصحيح، من خير الدعاة إلى الأخلاق الكريمة والحاثين على الفضائل التي اتفق الناس على إيثارها، فليس وحده مرشدًا إلى الخير ذلك الذي يدعوك إليه ويدلك عليه صراحة دون رمز ولا إيماء، وإنما يرشدك إلى الخير ذلك الذي يظهر لك الحياة أو صورة من صور الحياة على حقيقتها واضحة جلية، بشعة أو جذابة، تاركًا لعقلك أنْ يحكم حرًّا مختارًا دون أنْ يقدم إليك هو ما ينبغي أنْ تحكم به، وإذا كان هذا حقًّا فليس يعنيني أنْ يكون الكاتب قد تعمد في هذه القصة خلقًا من الأخلاق أو فضيلة من الفضائل فدعا الناس إليها، وإنما الذي يعنيني أنْ تكون هذه الصورة التي قصد إلى تصويرها صادقة واضحة، وأنْ تكون من الصدق والوضوح بحيث تمثل للناس خلالًا يشعرون بالخير في النفور منها، ولست أشك في أنه قد وفق إلى هذا كل التوفيق، ثم يعنيني شيء آخر، هو أنْ تكون للقصة قيمة علمية، أو — بعبارة أوضح — قيمة تعليمية، أو — بعبارة أشد وضوحًا وجلاء — يعنيني ألا تشهد القصة أو تقرأها حتى تخرج منها بشيء جديد صحيح، لم تكن تعلمه قبل أنْ تقرأ القصة أو تشهدها، وقد وفق الكاتب لهذا أيضًا، ثم يعنيني أنْ تكون إلى هاتين الخصلتين مستثيرة للعاطفة باعثة لضروب التأثر الشديد، تحمل من يقرأها أو يشهدها على أنْ يشعر شعورًا قويًّا بالرحمة والإشفاق حينًا، وبالسخط والغضب حينًا آخر، وقد وفق الكاتب إلى هذا أيضًا، فكانت هذه القصة غريبة بين قصصه الكثيرة، فلعلك تذكر أني كنت أقول لك عن هذا الكاتب: إنه يعنى قبل كل شيء بإثارة العواطف واستحداث الجهاد العنيف بينها، وإنه يتخذ التمثيل وسيلة إلى العبث بحس الجمهور وعواطفه، وليس يعنيه إلا أنْ يرى هذا الجمهور متأثرًا شديد الاضطراب، هو كذلك في أكثر قصصه، ولكنه في هذه القصة يضيف إلى هذه الخصلة هذه الخصال التي أشرت إليها آنفًا، فهو يستثير العواطف القوية، وهو يصور فيصدق في التصوير، وهو يعلم القارئ شيئًا لم يكن يعلمه، وهو يظهر وجوهًا من الخير والشر ينتفع الناس بظهورهم عليها، ثم إني لم أذكر إلى الآن خصلة أخرى من خصال هذه القصة، هي الخصلة اللفظية، فلست أعرف للكاتب قصة بلغ فيها من جودة اللفظ ورقة الأسلوب، وخفة الروح، وسهولة الحوار، وقصره ما بلغه في هذه القصة، بل لقد بلغ من ذلك حدًّا أعتقد معه أنَّ من العسير جدًّا — إنْ لم يكن من المستحيل — أنْ تترجم بعض فصول هذه القصة إلى لغة أجنبية؛ لأن خصائص اللغة الفرنسية والعقل الفرنسي بلغت فيها من القوة والشدة حدًّا تستحيل معه الترجمة.

أراد الكاتب أنْ يصور لنا ضربًا من ضروب الحياة بين طائفة من طوائف الفرنسيين هي طائفة المصورين، وأنا زعيم لك بأنك لا تكاد تفرغ من قراءة هذه القصة حتى تلم إلمامًا صالحًا بشيء غير قليل من أخلاق هذه الطبقة من الفنيين، وألوان حياتهم، وما ألفوا فيما بينهم من اصطلاح، وما يشعر به كل منهم بالقياس إلى نفسه وإلى أصحابه، ولا تكاد تقرأ هذه القصة حتى تسأل نفسك: أليس من الحق أنه إذا امتازت الطوائف، وتكونت لها شخصية ظاهرة، فلا بد من أنْ تكون لها أخلاقها وخصالها ونظمها الخاصة، التي تميز بينها وبين غيرها من الطوائف من جهة، وتميز بينها وبين مجموع الأمة من جهة أخرى، وبعبارة واضحة: أليس هناك ضربان مختلفان من الأخلاق أحدهما الأخلاق العامة التي هي أخلاق الشعب جملة، والأخرى الأخلاق الخاصة التي هي أخلاق الجماعات المختلفة المتمايزة، فللمصورين أخلاقهم، وللعمال أخلاقهم، وللمعلمين أخلاقهم وهَلُمَّ جرًّا، وإذن فالأخلاق لم تهبط من السماء، ولم يبتكرها العقل ابتكارًا، ليست أثرًا من آثار الدين، وليست نتيجة من نتائج الفلسفة، وإنما هي مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية، ولكني أحس أني قد تعمقت وذهبت بك في الفلسفة إلى أمد بعيد، فلنعد إلى القصة، فهي أخف من ذلك روحًا وألذ عشرة.

•••

نحن في باريس، في قصر من قصور الفن الفرنسي، يجتمع فيه المصورون وأصحاب التماثيل ومن إليهم من أصحاب هذه الفنون، وفي هذا اليوم قدَّم المصورون آثارهم الفنية، وهم يستبِقون ليظفروا بالجوائز أو بالوسام الذي يمنح لأيهم تفوَّق في التصوير وقدم ما أعجب جمهور الممتحِنين، ونحن نرى جماعات المصورين شبانًا وشيوخًا وكهولًا، ونرى بينهم طائفة من النقاد، ونرى قليلًا من عامة الناس قد أقبلوا يشتركون في هذه الحفلة، ونرى بنوع خاص قليلًا من الفتيات اللاتي يعملن نماذج للمصورين، أقبلن يشهدن حظوظ هؤلاء المصورين من هذه المسابقة، وبين هذه الجماعات كلها أحاديث كثيرة مختلفة ليس إلى ترجمتها من سبيل، ولكنها كلها صور مصغرة من أخلاق هذه الطائفة من الفنيين، ولست تستطيع أنْ تمضي في هذا الفصل الأول دقائق دون أنْ تضحك وتغرق في الضحك؛ لأن لهؤلاء المصورين في جدهم وهزلهم لغة وأساليب وطرقًا من التصور مضحكة لذيذة حقًّا، ولكن الذي يعنينا من كل هذه الجماعات، ومن حركاتها العنيفة المتصلة رجل واحد، قد انتحى ناحية في المقصف ومعه فتاة وصديق له، وهو يريد أنْ يتجنب الحركة ويعتزل الضوضاء، وهو قلق مضطرب شديد القلق والاضطراب، وليست صاحبته أقل منه اضطرابًا، هذا الرجل هو المصور «برنييه»، وهذه الفتاة هي نموذجه «لولو» أو «لولوت» أو «لويز».

أما الرجل فمتوسط العمر أدنى إلى الشباب منه إلى الكهولة، جميل الطلعة، حسن الطبع، يظهر أنَّ له في التصوير مقدرة ممتازة، وهو قد قدم في هذه المسابقة صورة امرأة متجردة، صورها تصويرًا خلفيًّا، وهو يود لو ظفر بالوسام، ولكنه شاب، فهو لا يطمع في الوسام، وإنما يطمع في أنْ يظفر من أصوات المحكمين بعدد لا بأس به، وينازعه مصور آخر شيخ، ولكن هذا الشيخ بغيض إلى جمهور المصورين، وأما هذه الفتاة «لولوت» فقد قلت إنها نموذج المصور «برنييه» وهي فتاة جميلة جدًّا، فقيرة جدًّا، أو قل: إنها معدمة بائسة كأضرابها من النماذج، قد اشتغلت نموذجًا لطائفة من المصورين، ولكنها اشتغلت عند اثنين يعنياننا بنوع خاص، أحدهما المصور «روشار» اشتغلت عنده سنتين، وكان بينها وبينه حب، فكانت له خليلة، ثم انصرفت عنه إلى «برنييه» هذا، فأقامت عنده، وشاركته في حياته، وكانت في الوقت نفسه خليلته ونموذجه في التصوير، وليست هذه الصورة التي يقدمها اليوم إلا صورة هذه الفتاة، وهي تحب المصور حبًّا شديدًا، وقد تكلفت ضروبًا من العناء لتسهل عليه الحياة، وهي الآن ترجو أنْ يكون له من الفوز ما يكافئ شيئًا من هذا العناء الذي تكلفته، فقد جاعت وجاع صاحبها، وضيَّقَتْ على نفسها وعلى صاحبها في كل شيء إيثارًا للاقتصاد، ومع ذلك فهما مدينان للبان بمقدار ضخم من المال، فلو فاز صاحبها اليوم لاستطاع أنْ يبيع صورته، فيؤديا دينهما ويرفها على نفسهما، والمصورون يصوتون ويصوتون، وكلما فرغوا من تصويت ظهر أنَّ الحظ مسعد «لبرنييه»، فأمله يشتد ولكن خوفه يشتد أيضًا، والناس من حوله يشجعونه ويؤيدونه ويمازحونه ويمازحون صاحبته، وما يزالون كذلك حتى يبلغوا التصويت الأخير، فإذا الفوز لصاحبنا «برنييه»، وإذا هو قد نال الوسام بكثرة قليلة جدًّا، ولكنه نال الوسام وأصبح مظهرًا من مظاهر المجد الفرنسي في التصوير، وتغيرت حياته كلها فانقطعت الصلة بينه وبين الفقر، واتصلت بينه وبين الثروة، وسيقصد إليه منذ اليوم أشراف الناس وأغنياؤهم يشترون آثاره بالأثمان الضخمة، وقد بدأ ذلك فأقبل إليه تاجر من تجار الصور فساومه صورته هذه، وانتهت بهما المساومة إلى ٦٠٠٠٠ فرنك، وبينما هما يتساومان كانت «لولوت» دهشة ذاهلة لا تكاد تصدق ما تسمع، ستون ألف فرنك بعد هذا البؤس الشديد، فسيؤدي إذن دين اللبان، وسيعيشان عيشة ناعمة، وستشتري قلنسوة طالما رغبت فيها وعجزت عنها.

ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فإن الحكومة الفرنسية نفسها تريد أنْ تشتري هذه الصورة، وأنْ تعرضها في متحف «لوكسمبرج»، فليس لابتهاج الفتاة حد، فلا ينبغي أنْ تنسى أنَّ الصورة تمثلها، فقد أصبحت إذن شيئًا رسميًّا سيعرض في متحف من متاحف الدولة، حتى إنَّ أحد أصحابها يمازحها فيقول: يجب أنْ تسعدي، فسيعرض ظهرك في متحف «لوكسمبرج»، فإذا مضى عليه شيء من الدهر انتقل إلى متحف «اللوفر»، يجب أنْ تسعدي، فقد أصبحت أثرًا من هذه الآثار الفنية الخالدة، وما كانت «لولوت» تحلم بأن الدهر قد ادخر لظهرها مثل هذا الحظ، ولكن هناك ما هو أجَلُّ من هذا خطرًا؛ فقد احتال المصور الفائز في أنْ يخلص من أصحابه ومهنئيه ليخلو لحظة إلى صديقته ونموذجه «لولوت»، فهما يتقارضان أحاديث الحب، ويذكران بؤسهما، ويقصان من أخباره شيئًا كثيرًا مؤلمًا، فتذكر هي أنها اضطرت ذات يوم مع أمها إلى التماس الصدقة في الشوارع، ويذكر هو أنه كثيرًا ما قضى الأيام جائعًا لا يتبلغ إلا بكثرة من الخبز، وقد تقاسما هذا البؤس وأقبلت الثروة، فيجب أنْ يتقاسماها وهو لا يريد أنْ يعيشا خليلين، وإنما يريد أنْ يعيشا زوجين، فإذا سمعت هذا بلغ بها الابتهاج حدًّا يشبه الذهول، ثم تطلب في سذاجة ورفق أنْ يكون هذا الزواج في الكنيسة؛ لأنها تحب أنْ يبارك القسيس زواجهما، وينصرف العاشقان وليس لسعادتهما ولا لأملهما في الحياة حد.

•••

فإذا كان الفصل الثاني فقد مضى على هذا كله حين من الدهر، فاقترن العاشقان، وأقبلت الثروة على «برنييه» إقبالًا شديدًا، فأصبح مصور الملوك والأمراء، وغير نظام حياته كلها، واتخذ لنفسه بيتًا فخمًا يشبه القصر وأثثه بفاخر الرياش وبديع الزينة، واتخذ عادة أغنياء الناس وأشرافهم، فاعتزم أنْ يستقبل الزائرين مساء السبت من كل أسبوع، وأنْ يحيي في هذا المساء حفلات الرقص والموسيقى، وهو اليوم يبتدئ أول حفلة من هذا النوع، وبينما تغير هو تغيرًا شديدًا، فقد ظلت امرأته على ما كانت عليه من سذاجة وجهل واستمساك بحياتها الأولى، فهي مغتبطة بحياتها الجديدة، ولكنها ليست مطمئنة فيها، وهي تجهل التقاليد جهلًا شديدًا، يؤلم زوجها ويخجله في كثير من الأحيان وأصحاب زوجها وأصدقاؤه يرون ذلك، ويشفقون على صديقهم، ويلومونه بأنه تزوج هذه المرأة الفقيرة التي خرجت من الطبقات المنحطة، ومنهم من يغلو في ذلك، فينصح له بأن يخلص من هذه المرأة، ويتخذ له زوجًا غنية تلائم حياته الجديدة، وهو لا يستطيع أنْ يفكر في هذا؛ لأنه يحب هذه المرأة، ويريد أنْ يفي بالعهد، ويذكر أنها كانت شريكة بؤسه، فيريد أنْ تكون شريكة سعادته، ولكنه مع ذلك ضيق الذرع بها، فهو ينافق ويتكلف الحب حين لا يشعر في حقيقة الأمر إلا بالإشفاق أو شيء كالإشفاق، هو لا يحتفظ لها بذلك الحب القديم، وآية ذلك أنه بدأ يخونها، وبدأ يخونها مع امرأة ألمانية إسرائيلية ضخمة الثروة، باهرة الجمال، أقبلت إلى فرنسا فاشترت لها زوجًا من الأستقراطية الفرنسية المفلسة، اشترت لها زوجًا له لقب الأمير، فاتخذت لقبه، وهو شيخ فان، هو لا يضايقها، وإنما يترك لها الحرية كلها! لا يعنيه إلا أنْ يعيش عيشة تلائم مقامه ولقبه، وقد طلبت هذه الأميرة إلى صاحبنا المصور أنْ يصورها، وجلست للتصوير مرة ومرة، فكانت الرغبة، ثم كان الحب، ثم كانت الخيانة، وهو يخفي هذا الحب على زوجه، ولكنه تسلم في هذه الليلة حين كان يستقبل أصحابه وزائريه كتابًا من الأميرة تنبئه بزيارتها، فهو قلق وَجِل ويقبل صديقه له، فينبئه بأن سعيه في وزارة المعارف ليس بعيدًا من الفوز، ذلك أنَّ صاحبنا المصور أصبح يستحي أنْ يظهر الناس في متحف من متاحف باريس على امرأة عارية، فهو يريد أنْ تنقل هذه الصورة من باريس إلى متحف من متاحف الأقاليم النائية، والوزارة تمانع في هذا، وهو يتحدث إلى صديقه إذ تقبل «لولوت»، وقد سمعت كل شيء، فيسؤها رأي زوجها ويؤلمها؛ لأنها سعيدة بأن تعرض في متحف من متاحف باريس، وهي ترى هذه الصورة في هذا المتحف رمزًا لسعادتهما، وهي تكره أنْ يغير شيء في هذا الرمز.

ويشتغل القوم بلهوهم، وإذا الأميرة قد أقبلت وخلت إلى المصور، فهما يتحدثان في الحب وألوانه، ويذكران مواعيدهما وآمالهما، ويكادان يتجاوزان الحديث إلى غير الحديث، ولكن «لولوت» قد أقبلت وكأنها سمعت من الحديث شيئًا، فلا تكاد تقبل حتى يلقاها العاشقان لقاء حسنًا ولكنه متكلف، أما هي فتلفت زوجها إلى أنه قد أهمل زائريه، فإذا انصرف الرجل وخلت المرأتان كان بينهما موقف مؤثر، ذلك أنَّ «لولوت» تتحدث إلى الأميرة في صراحة مخالفة لما ألف الناس من ذوق وتقاليد، تزعم لها أنها تحب زوجها حبًّا شديدًا، وأنَّ زوجها يحبها أيضًا، وأنَّ من الإثم أنْ تعمد امرأة مهما تكن إلى هذا الحب فتسيء إليه، أما الأميرة فتسمع هذا الكلام مبتسمة، لا غاضبة ولا خائفة، وإنما تهون على هذه المرأة المسكينة في شيء من السخرية مُرٍّ شديد المرارة، ثم تظهر من العطف عليها والرفق بها ما يملأ قلبها اطمئنانًا، ثم تبالغ الأميرة في هذا، فتتخذ هذه المرأة صديقة وتنزع حلية كانت في صدرها، فتضعها في صدر هذه المرأة، وهما إذن صديقتان، وقد أمنت «لولوت» كل مكروه، ولكن أمد هذا الأمن ليس طويلًا، فلا يكاد هذا الموقف ينتهي حتى يتبعه موقف آخر يعيد إلى نفس «لولوت» ما كان فيها من اضطراب، تنظر فإذا عاشقها القديم «روشار» قد أقبل، فإذا سألت زوجها عن ذلك قال: دعوته بين الذين دعوتهم من الزائرين.

– وكيف فعلت ذلك وأنت تعلم ما كان بيني وبينه! إنما أردت إذلالي!

ثم تخلو إلى هذا الرجل فتلومه؛ لأنه قَبِلَ الدعوة وأقبل إلى هذا البيت، وكان الذوق والرفق يقضيان عليه ألا يفعل، أما الرجل فيجيبها في رفق وصدق بأنه إنما أقبل سعيدًا مغتبطًا ليراها سعيدة مغتبطة، وأنه مستعد أنْ ينصرف وألَّا يعود إذا كان هذا يرضيها، فتجيبه، نعم! فينصرف الرجل وقد أكد لها في لهجة صادقة مؤثرة أنه كان أحبها حبًّا صادقًا، وأنه لا يزال يذكر هذا الحب ويتمنى لها كل سعادة، أما هي فقد عظم اضطرابها، فهي تشعر بأنها وحيدة، وكأن الناس جميعًا يأتمرون بها، ألم تسمع أنَّ زوجها يريد أنْ يبعد صورتها من باريس؟ ألم تحس أنَّ بين زوجها وبين الأميرة شيئًا يشبه الحب؟ ألم تنكر زيارة هذا العاشق القديم؟ ثم لا تمضي دقائق حتى يظهر أنَّ الناس يأتمرون بها حقًّا، أخذوا ينصرفون ومن بينهم الأميرة، وأخذ الزوج يعين الأميرة على لبس معطفها، فانتهز هذه الفرصة للمغازلة، فهو يطلب قبلة إلى صاحبته، وهي تقول له: بل تَنَسَّمْنِي، فهذا يكفيك إلى غد، وهو يَتَنَسَّمُهَا ولكن «لولوت» من ورائه قد رأت وسمعت، وإذا هي تصرخ صرخة منكرة، وقد انتزعت معطف المرأة فألقته على الأرض، والتفت الناس جميعًا ومن بينهم الأمير الذي كان قد أقبل يقود زوجه، فإذا هذا الأمير قد أقبل على زوجه في هدوء وهو يقول: إنَّ هذا لمؤلم أيتها العزيزة، وكان من الحق أنْ تربئي بنا عنه، ثم يقدم إليها ذراعه وينصرفان، أما «لولوت» فقد سقطت على الأرض واجتهد زوجها وصديق له حتى صرفا الناس، وأقبل الرجل على امرأته يرد إليها الحس والحركة، فإذا أفاقت أخذت تبكي بكاء مرًّا، وأخذ هو يهون عليها ويعتذر إليها، ولكنها مغرقة في البكاء لا تسمع له، وإنما تردد هذه الكلمات: ما أشد هذه الوحدة! ما أشد هذا الألم!

•••

فإذا كان الفصل الثالث فقد تقدم هذا الحب الآثم حتى أصبح حقيقة واقعة لا ينكرها العاشقان، وإنما يريدان أنْ يجعلاها أمرًا شرعيًّا، أما الرجل فيريد أنْ يطلق امرأته، وأما المرأة فتريد أنْ تطلق زوجها، ثم يكون بينهما الزواج بعد ذلك، ونرى في أول الفصل الأمير قد قبل الطلاق، على أنْ تدفع له امرأته مقدارًا ضخمًا من المال يكفي لحياته ومنزلته، وهي مستعدة لأن تؤدي إليه كل ما أراد، ولكن «لولوت» ترفض الطلاق، وقد أقبلت إلى الأمير تريد أنْ تتخذه حليفًا، حتى إذا اتفقا على رفض الطلاق لم يتمكن هذان الآثمان مما يريدان، ولكن الأمير قد قبل الطلاق وهو يسخر من زوجه، ومن الزوجية، وهو يحتقر الجماعة ونظمها وأخلاقها، ولا يحفل إلا بشيء واحد، هو ما بقي من حياته على نحو يعصمه من الفقر والإفلاس والانحطاط عن منزلته ومنزلة آبائه، وهو ينصح لهذه المرأة ألا تتشدد، وينذرها بأن نتائج التشدد سيؤذيها دون أنْ تنفعها، فتنصرف المرأة مزدرية لهذا الشيخ ساخطة على النظام الاجتماعيِّ شقية بحظها، ولكنها رأت زوجها مقبلًا إلى بيت الأميرة فعادت، وما كان الزوج يلقى الأميرة حتى يكون بينهما حديث مؤلم حقًّا، ولكنه آية من آيات الفن؛ ذلك أنَّ هذا الرجل يشعر بأن حبه آثم وبأنه مقبل على جريمة، ويحاول ما استطاع أنْ ينصرف عن هذه الجريمة، ولكنه لا يستطيع؛ لأنه لا يكاد يرى الأميرة حتى يفقد عزمه وقوته على المقاومة، وإذا هو ألعوبة في يدها، أما هي فترضى منه هذا الشعور وتحمده له ولكن إلى حد، فهي تحبه أيضًا، وهي لا تضحي بهذه المرأة، أليست تريد أنْ تمنحها من المال ما يضمن لها حياة سعيدة صالحة! ويشتد الحوار بينهما حتى تغضب الأميرة، ولكنه غضب خاص، غضب يراد به استثارة الحب والشهوة، وهي تبلغ من ذلك ما تريد، حتى إذا استوثقت أنها قد أضرمت الرجل إضرامًا نهضت فألقت معطفها، وظهرت في ثوب كله ترغيب واستغواء، فيدنو الرجل منها، يشمها ويقبلها ويضمها، وإذا الباب قد فتح وظهرت «لولو»، فلا تكاد تظهر حتى يظهر معها الكاتب ومهارته المعروفة في تغير المواقف والعبث بالعواطف، فانظر إلى هذه المرأة مغضبة ساخطة، قد استطاعت أنْ تضطر هذين العاشقين إلى أنْ يسمعا كل ما أرادت أنْ توجه إليهما من سبٍّ ولوم، ثم انظر إليها قاضية تأخذ بالعدل، وتريد أنْ تعرف ما قدر لها بين هذين العاشقين، فهي أيضًا عاشقة ولحبها الحق في الحياة، ثم هي زوجة ولها حقوق الزوجات، ثم انظر إليها ضارعة قد جثت أمام عدوتها تستعطفها وتترضاها، وتطلب إليها أنْ تترك لها زوجها، ثم انظر إلى هذه العدوة قد اضطربت كلها لهذا الموقف، فخيرت الرجل بينهما، أما الرجل فلا يختار، وإنما يريد أنْ يخرج مع زوجه ليفرغ من هذا الموقف المؤلم، أو يريد أنْ يصرف زوجه ولكن زوجه قد رأت وفهمت، فانظر إليها قد اقتنعت بضعفها، واستيقنت أنَّ الشر واقع لا محالة، فأذعنت وأقبلت إلى المائدة، وكتبت بيدها طلب الطلاق، ودفعت الكتاب إلى زوجها وانصرفت.

•••

فإذا كان الفصل الرابع فنحن في مستشفى من مستشفيات باريس، نشهد في حجرة من حجراته «لولوت» في سرير المرض، ولكننا نعلم أنها بارئة لا خطر عليها، ذلك أنها انصرفت عن زوجها إلى بيتها وقد بلغ منها اليأس أقصاه، فأرادت أنْ تقتل نفسها، ولكن يدها اضطربت فأخطأت القلب وأصابت الرئة، واستطاع الطبيب أنْ ينجيها، وأخذت الحياة تعود إليها، وأخذ الأمل يعود مع الحياة، فهي قد كلفت أختها أنْ تتبع زوجها وتتبين ما بينه وبين الأميرة من صلة، وقد أقبلت أختها فتنبئها بأن الصلة قائمة متينة بين العاشقين، فهي إذن يائسة وهي إذن ستألم، ولكن الأميرة قد أقبلت تعودها وتحمل إليها أزهارًا، فإذا خلت إليها سألتها العفو والمغفرة، وأعلنت إليها أنها سترد إليها زوجها، وأنهما قد اتفقا على ذلك، ولكنها لا تثق بشيء من هذا ولا تطمئن إليه، ويقبل الزوج وتنصرف الأميرة، فيحدثها بمثل ما تحدثت به الأميرة، وتفهم من حديثه أنه يريد أنْ يحتفظ بالزواج ويعيش معها، ولكن عيشة الأصدقاء والإخوان، لا عيشة الأحباء والعاشقين، أما هي فلا تسمع ذلك إلا أَلِمَتْ له؛ لأنها تحب؛ ولأنها ترى أن ليس لحبها صدًى في نفس زوجها، وما تزال بزوجها حتى يغضب ويحنق، ويعلن إليها أنه مستعد لأن يضحي بكل شيء عطفًا عليها ورفقًا بها، فهو لا يملك غير هذا، وكيف تريده على الحب وهو لا يملك هذا الحب! وهل الناس يحبون لأنهم يريدون أنْ يحبوا! ثم ما يزال بها حتى تظهر له شيئًا من الرضا، فينصرف على أنْ يعود بعد حين، ولا تكاد تخلو إلى نفسها حتى تشعر بألم وضيق في التنفس، وإذا هي تريد الهواء وتريد الضوء وتريد الحياة، فتعينها الممرضة حتى تترك السرير وتفتح لها النوافذ، فإذا دخل الضوء والهواء ابتهجت لهما، ولكن زائرًا قد أقبل، هو عاشقها القديم «روشار»، أقبل لأنه علم بكل شيء، وتردد على المستشفى يتعرف أخبارها منذ كانت الحادثة، وهو الآن قد علم من الطبيب أنها بارئة، وأنها تستطيع أنْ تخرج من المستشفى متى أرادت، وهو يعلم أنها تعسة، وأنَّ شفاءها لم ينته بعد، وأنَّ هذين العاشقين سيتخذانها جسرًا إلى سعادتهما، وهو يحبها، وهو لم ينسَ ذلك الحب القديم، وهو لا يريد إلا أنْ يفي لها، ويحملها إلى ذلك البيت الذي نشأ فيه حبهما القديم، في ذلك البيت تتم شفاءها، وفي ذلك البيت تستقبل الصحة والحياة، فإن أرادت أنْ تمضي لوجهها فلن يمسكها.

– نعم! إني لأريد الصحة، وإني لأريد الحياة.

– احملني. وما أسرع ما تحمل إلى عربة تنتظر وقد أمرت أنْ يرسل متاعها إلى بيت «روشار».

•••

إلى هنا تنتهي القصة في التمثيل، ولكنك تريد أنْ تعرف ماذا يكون من أمر الزوج، فيقصه عليك الكاتب لتقرأه لا لتشهده على المسرح، يقبل الزوج فلا يرى زوجه، فإذا تبين الخبر أخذه شيء من الوجوم، وأخذ يحدق في السرير يتبين مكان زوجه وشكل جسمها في الفراش، ثم ينظر فإذا أزهار على السرير، فيأخذ منها زهرة ينظر إليها، ثم يحملها إلى فمه، وإذا هو يبكي!

مارس سنة ١٩٢٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤