جرس منتصف الليل

نام «تختخ» بعد لحظاتٍ من دخوله إلى الفراش، ومضت الساعات وهو مستمتع بنومٍ هادئ … وعندما أشارت عقارب المنبه الذي في غرفته إلى منتصف الليل تقريبًا دقَّ جرس التليفون، فقام «تختخ» مفزوعًا من فراشه، وأضاع بعض الثواني قبل أن يمد يده ويرفع سماعة التليفون.

على الناحية الأخرى من الخط جاء صوت المفتش «سامي»: ألو، «تختخ» مساء الخير، هل أزعجتك؟

تختخ: نعم … أقصد قليلًا، ألم تعد إلى منزلك سوى الآن؟

المفتش: لقد سافرت إلى الإسكندرية بعد أن تركتني بدقائق؛ فقد ذهبت إلى الميناء لوضع ترتيبات مع شرطة الإسكندرية لإحكام الحصار حول الجاسوس، فقلبي يُحدِّثني أنه لن يُغادر مصر عن طريق الجو، ولكن عن طريق البحر.

تختخ: إنني أظن هذا أيضًا …

المفتش: هل هناك شيء جديد طلبتني من أجله؟

تختخ: نعم … لقد تصوَّرت أن الجاسوس سوف يتنكَّر؛ فهو واثق أن «عاطف» سيتصل بكم ويصفه لكم، وفي إمكانكم أن تحصلوا على صورةٍ تقريبيةٍ له بواسطة الرسم … لهذا أتصوَّر أنه سيعود إلى التنكُّر في شكل السيدة العجوز، فهو لا يتصوَّر أن أحدًا سيعرفه في هذه الحالة، أليس هذا معقولًا؟

قال المفتش بصوتٍ متعب: فعلًا … هذا معقول جدًّا، وكان لا بد أن نتوقَّعه، ولا أدري كيف فاتنا هذا؟!

تختخ: على كلٍّ لم يضع وقتٌ طويل، وقد رسمت صورةً للجاسوس وهو متنكِّر في ثياب السيدة العجوز، وهي جاهزة عندي الآن.

المفتش: لقد خلعت ثيابي، ولكن سأقوم لأرتديها مرةً أخرى وأحضر إليك.

تختخ: ألا يمكن الانتظار إلى الصباح؟

المفتش: إن كل دقيقة لها أهميتها الآن، والموضوع خطير … ولا يجب أن نُضيِّع أي وقت.

تختخ: سأكون في انتظارك على السلم الخلفي للفيلا، وسوف أُجهِّز لك كوبًا من الشاي يُجدِّد نشاطك.

المفتش: وبعض البسكويت إذا أمكن، فأنا لم أتعشَّ حتى الآن …

ارتدى «تختخ» روبًا فوق البيجامة، ثم نزل إلى المطبخ متسلِّلًا على أطراف أصابعه حتى لا يُحس به أحد، ثم دخل إلى المطبخ، حيث أشعل البوتاجاز وأخذ يُعد الشاي ببطء؛ فقد كان هناك وقت طويل قبل أن يصل المفتش.

انتهى «تختخ» من إعداد الشاي، ثم صعد مرةً أخرى إلى غرفة العمليات وهو يحمله على صينية، فوضعه على المكتب، ثم اتجه إلى الباب الخلفي للفيلا حيث فتحه، ووقف في الظلام ينتظر حضور المفتش. وبينما هو يقف على السلم أحسَّ بشيءٍ ناعمٍ يتمسَّح بقدمَيه، وصوت «زنجر» وهو يلف حوله ويتمسَّح به، فقال له وهو يربت على عنقه: لقد نسيتك تقريبًا يا «زنجر» ولم تشترك معنا في مغامراتنا الأخيرة.

أخذ الكلب يُهمهم في هدوء، وكأنه يحتج على إهماله وعدم إشراكه في المغامرات، ثم سمع «تختخ» صوت موتور سيارة في أول الشارع، وبعد لحظات كان المفتش يجتاز باب الحديقة الخلفي ويصعد السلم، ومدَّ يده يُسلِّم على «تختخ» ويدخلان في هدوء إلى غرفة العمليات يتبعهما «زنجر» وهو يهز ذيله مُرحِّبًا بالمفتش.

أخذ المفتش — الذي بدا متعبًا — يرتشف الشاي ويقضم البسكويت وهو يستمع إلى «تختخ»، ثم قدَّم له «تختخ» الصورة التي أجرى عليها التعديلات بالأقلام والفرشاة قائلًا: هذه الصورة أقرب ما تكون إلى العجوز التي شاهدتها صباح أمس في الأهرام، وتبعتها حتى فقدت أثرها عند سينما مترو. وأعتقد أننا يجب أن نُوزِّع هذه الصورة مع الصورة الثانية، فسوف يكون من المفيد أن نُضيِّع على الجاسوس أية فرصة لخداعنا.

أخذ المفتش يتأمَّل الصورة فترة ثم قال: إنني أتوقَّع بالطبع أن تكون الصورة بعيدةً إلى حدٍّ ما عن شكل الجاسوس؛ فالصورة الأولى رسمناها من ذاكرة «عاطف»، وقد أضفت إليها الرتوش من ذاكرتك، فكلها صور من الذاكرة.

تختخ: للأسف إن هذا صحيح.

المفتش: ولكن على كل حال ليس أمامنا حل آخر، وهذه الصورة يجب أن تُوزَّع من الآن بعد طبع نسخ منها على جميع المطارات والموانئ في الجمهورية، حتى لا يُفلت الجاسوس.

تختخ: إنك تبدو متعبًا، ومن حقك أن ترتاح فترة …

المفتش: ليس في عمل الشرطة راحة، ولكني سوف أُعطي نفسي إجازةً أسبوعًا على الأقل إذا نجحنا في القبض على الجاسوس رقم ٣٣٣.

أخذ «زنجر» يهز ذيله ويدور حولهما، فقال «تختخ»: إن «زنجر» معترض على استبعاده من المغامرات الأخيرة، ومن الواجب علينا أن نجد له دورًا.

المفتش: معه حق.

تختخ: بالمناسبة، هل أستطيع غدًا أن أزور الشقة التي كان يُقيم بها الجاسوس؟ إنني لم أتمكَّن من تفتيشها جيدًا اليوم، وقد يكون من المفيد أن ألقي عليها نظرةً أخرى.

المفتش: من الممكن طبعًا أن تزورها، وقد وضعنا على باب المنزل مُخبرًا خاصًّا اسمه «مخيمر»، وسأعطيك ورقةً له ليسمح لك بالدخول.

وقدَّم «تختخ» للمفتش ورقةً كتب عليها إذنًا له بدخول شقة الجاسوس الهارب، وبعد دقائق غادر المفتش الفيلا كما دخلها من الباب الخلفي دون أن يشعر به أحد من النائمين، ثم دوَّى صوت الموتور في هدوء الليل، ومضت السيارة بعيدًا تحمل المفتش.

عاد «تختخ» إلى غرفته وبجواره «زنجر»، ونظر إلى المنبه وكانت الساعة قد تجاوزت الواحدة صباحًا، ولكنه لم يجد في نفسه أي ميلٍ إلى النوم، فأمسك كتابًا عن الجاسوسية في الحرب العالمية الثانية، وانهمك في قراءته، ثم تذكَّر أن غدًا هو أول يوم في شهر أغسطس، ويعني هذا أن إجازته على شاطئ البحر ستبدأ غدًا، ولا بد من أن الأسرة قد جهَّزت الحقائب، وقام ونزل إلى الصالة، وفعلًا وجد الحقائب مرصوصةً في الصالة، فأسرع يُعِد حقيبته الصغيرة حيث وضع فيها بعض الكتب وأدوات الصيد، ثم صعد إلى غرفته وأخذ يُحاول النوم فترةً حتى استطاع في النهاية أن ينام.

عندما استيقظ «تختخ» في اليوم التالي، علم أن أسرته ستقوم برحلة إلى مرسى مطروح في الواحدة بعد الظهر، حيث يقضون الليلة في الإسكندرية، ثم يواصلون السفر في اليوم التالي. فكَّر تختخ قليلًا، وكان هناك وقت يكفي للذهاب إلى منزل الجاسوس لتفتيشه والعودة؛ وهكذا اصطحب معه «زنجر» ثم أسرع يستقل القطار إلى مصر القديمة، حيث كان يقع منزل الجاسوس، وقابل المخبر «مخيمر»، وأعطاه رسالة المفتش «سامي» ففتح له الباب.

كان المنزل يقع بجوار السور الذي يُحيط بقضبان القطار، وواجهته تطل على الشريط، ومدخله من شارع يمكن رؤيته من القطار.

فتح «تختخ» النوافذ، ثم أخذ يُفتِّش بدقة غرفةً غرفة، ولكنه لم يرَ شيئًا ذا أهمية في المنزل كله، إلَّا بعض الملابس الداخلية للجاسوس، فقرَّر أن يأخذها معه وفي ذهنه فكرة؛ أن يشم «زنجر» هذه الثياب فقد يعثر على صاحبها مصادفة … وقال «تختخ» في نفسه: من يدري لعلها تكون ضربة حظ موفقة، ونصل إلى الجاسوس. وهكذا وضع الملابس في كيسٍ أحضره من المطبخ، وأخذ «زنجر» وانطلق إلى الشارع بعد أن شم «زنجر» الثياب. وعلى المحطة وطوال الطريق كان «زنجر» يجري هنا وهناك، فكان «تختخ» يظن أنه عثر على الجاسوس، فيقوم بالجري خلفه، ولكن دون أن يعثر على أي شيء … إلَّا معاكسة بعض الكلاب.

وصل «تختخ» إلى المعادي، واتجه إلى منزله، وكانت الساعة قد أشرفت على الحادية عشرة، ووالده ووالدته والشغَّالة منهمكون في تعبئة السيارة، فقال والده: إنك لم تساعدنا في شيءٍ مطلقًا هذا العام، وتبدو منشغلًا كأنك مسئول عن كل مشاكل العالم.

قال «تختخ» وهو يحمل حقيبةً ثقيلة: إنني طبعًا لن أحل مشاكل العالم … ولكني فعلًا مشترك في حلها …

وبعد أن تمَّ إعداد السيارة حضر الأصدقاء «محب» و«نوسة» و«عاطف» و«لوزة»، ووقفوا مع «تختخ» يتحدَّثون ويتمنَّون له رحلةً موفقة، وقام «تختخ» بالاتصال بالمفتش «سامي» يسأله عن آخر الأخبار، فقال المفتش: ليس هناك أخبار جديدة، إلَّا أن «وفيق» بدأ يتحسَّن تدريجيًّا، وقد نستطيع استجوابه غدًا. أمَّا بالنسبة للجاسوس فليس هناك جديد عنه، وقد وُزِّعت صورته وهو متنكِّر مع صورته الأخرى على مختلِف الأماكن التي يمكن أن يتردَّد عليها أو يحاول السفر منها.

وبعد فترة وعندما أشرفت الساعة على الواحدة تحرَّكت السيارة يقودها والد «تختخ»، ووقف الأصدقاء الأربعة يُلوِّحون بأيديهم ﻟ «تختخ» … وﻟ «زنجر» أيضًا الذي كان يُخرج رأسه من نافذة السيارة ويُطلق نباحًا مرحًا؛ لأنه هو الآخر سيستمتع بالرمال والبحر بعيدًا في مرسى مطروح.

شقَّت السيارة طريقها بصعوبة في شوارع القاهرة المزدحمة، ثم بدأت تُسرع عندما بدأ الطريق الزراعي إلى الإسكندرية، وكان والد «تختخ» سائقًا ماهرًا، فمضت السيارة كالسهم على الطريق، ووصلوا إلى طنطا، وقرَّروا قضاء بعض الوقت في الاستراحة لتناول الشاي …

كان «تختخ» مستغرقًا في أفكاره لا يكاد يتكلَّم، وكان يُفكِّر في أن هذه أول مغامرة يشترك فيها ثم لا يشهد نهايتها. ومضت فترة الراحة ثم تحرَّكت العربة مرةً أخرى، تحملهم جميعًا إلى الإسكندرية، فوصلوا إليها في نحو الساعة الرابعة، واتجهوا إلى سيدي جابر حيث توجد شقة لهم يؤجِّرونها شتاءً وصيفًا …

انهمكت والدة «تختخ» والشغَّالة في تنظيف المنزل، في حين ذهب والده إلى السوق لشراء بعض الطعام، أمَّا «تختخ» فقد اختار أن يجلس في الشرفة مع «زنجر» يُفكِّر، ثم قرَّر أن ينزل ليتمشَّى مع الكلب على الكورنيش؛ فقد كان يحب هواء البحر والأمواج وهي تطارد بعضها بعضًا، ثم تتلاشى على الصخور. فمشى يملأ رئتَيه من النسيم و«زنجر» يجري حوله يتقدَّمه حينًا ويتأخَّر عنه أحيانًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤