طاهر ونادية

منذُ آلاف السنين كان حطَّابٌ فقيرٌ يعيش مع زوجته وطفلَيه طاهر ونادية في غابةٍ فسيحة الأرجاء.

كان الحطَّابُ يجدُّ كثيرًا فلا يكسبُ إلا القليل الذي كان يحمله إلى كوخه حيث يجلس حوله هو وزوجتُه وابنه وابنتُه فلا يكاد يُشبِع جوعَهم.

وفي إحدى السنوات، ضنَّت السماءُ بمائها، فبخلَت الأرضُ بخيراتها وقمحها، فاشتدَّ الضيقُ بين السكان ولم يجد الحطَّاب ما يُقدِّمه لأسرته، وعجَز حتى عن الحصول على الخبز الجاف! فأشفق من أن يرى طفلَيه يموتان جوعًا أمام عينَيه.

وذات ليلة أوَى إلى فراشه حزينًا جوعانًا، فلم تَذُق عينُه النوم، وبقيَ مستيقظًا يتقلَّب في فراشه مُبلبل الأفكار، يكاد الحزن يفتكُ بقلبه، فتحدَّث إلى زوجته لتجدَ له مخرجًا من هذا الضيق، فقال لها: «دبِّريني يا زوجتي العزيزة! ماذا يكون مصيرنا؟ وكيف نستطيع التغلُّب على هذا القحط؟ كيف يمكننا أن نُقدِّم لطفلَينا ما يُشبع جوعَهم بينما لا نجد لأنفسنا شيئًا نأكله؟»

كانت زوجةُ الحطَّاب الأولى، أمُّ الطفلَين، قد ماتت وهما لا يزالان صغيرَين ضعيفَين. فتزوَّج زوجته الثانية هذه لتقوم بتربية طفلَيه وترعى شئونه وشئون كوخه.

فأجابَت قائلةً: «لا أرى إلا أن نأخذَ الطفلين في الصباح الباكر، ونتوغَّل بهما إلى أقصى ما يُمكننا في الغابة .. إلى حيثُ تكون الأشجارُ كثيفةً متشابكة تحجُب الضوءَ وتُلقي على الأرض ظلامًا. ونُعطي كلًّا منهما كِسرةً من الخبز تُشغِله بعضَ الوقت، ونُوقد لهما نارًا يستدفئان بحرارتها .. ثم ننصرف إلى عملنا دون أن يَفطِنا إلينا، ونتركهما هناك وحيدَين .. وهكذا لن يجدَا طريقَهما ثانيةً إلى البيت ولن يُزعجَنا أمرُهما بعد اليوم.»

لم تكُن الزوجة يهمُّها من أمر الطفلين شيئًا. ولا تعرف لمحبة الأولاد معنًى أو تُقيمُ للعطف والشفقة وزنًا. غير أن الأب المسكين قال لزوجته: «ما هذا الذي تقولين يا زوجتي؟ كلَّا! وألف مرةٍ كلَّا! لا يمكنني أن أفعل ذلك! لا يمكنني أن أُصبحَ قاسيًا هكذا! فأترك طفليَّ في الغابة حيث تبتلعهما الثعابين الضخمة أو تفترسهما الوحوشُ الكاسرة، أو يقتلهما الخوفُ والجوع والبرد …!»

فقالت الزوجة: «ما هذا الكلام الفارغ أيُّها الأحمق؟ إذن فسنموت نحن الأربعة جوعًا، ومن الأفضل أن تحفرَ لنا أربعةَ قبورٍ. أليس من الخير أن يموت اثنان بدلًا من أربعة؟ يجب أن تعملَ وتفكِّر بعقلك لا بعاطفتك!» وهكذا استمرت الزوجة القاسية في تأنيب زوجها، حتى وافق أخيرًا على فكرتها.

لم يستطع الطفلان أن يَناما تلك الليلة لأن الجوع كان يعضُّهما بأنيابه الحادة، فسمعَا ما دار بين أبيهما وزوجته من حديث، فأخذَت نادية تبكي في سكونٍ، ولكنَّ طاهرًا طمأنها وهوَّن عليها الأمر قائلًا: «لا تبكي يا ناديتي العزيزة! لا تخافي ولا تحزني؛ فلي طريقتي الخاصة التي ستُساعدك في الخلاص من كيد زوجة أبينا الشريرة.»

ما كاد الحطَّاب وزوجته ينامان، حتى قام طاهر من فراشه في سكونٍ، ولبس مدرعته، وتسلَّل من الباب الخلفي خارجَ الكوخ .. وكان القمر يَسطعُ بأشعته الفضية على المكان فتنعكس على الحصى المتناثر أمام البيت فيبدو لامعًا برَّاقًا.

انحنى طاهر وأخذ يجمع أكبر كميةٍ من الحصى الصغير ويضعه في جيوب مدرعته، ثم عاد إلى الكوخ وأقفَل الباب خلفه، وذهب إلى فراشه بجانب شقيقته، فهمس في أذُنها قائلًا: «لا تقلقي يا أختاه. نامي آمنةً مطمئنةً؛ فسوف لا يكون إلا ما ترغبين وتحبِّين.» ثم أغلق جفنَيه واستسلم للنوم.

قبل أن تخرج الشمس من مخْدَعِها في صباح اليوم التالي استيقظَت الزوجة، وذهبَت إلى فراش الطفلين وأيقظَتهما قائلةً: «قومَا أيهما الكسولان. إننا ذاهبون اليوم إلى الغابة لنحتطبَ.»

ثم قدَّمت لكلٍّ منهما لُقَيمةً من الخبز، وقالت: «هذا عشاؤكما .. ولا تأكلاه قبل ميعاد العشاء؛ فلن أعطيَكما غيرَه طيلةَ هذا اليوم.»

وضعَت نادية الخبز في جيب ردائها لأن جيوبَ طاهرٍ كانت مملوءةً بالأحجار الصغيرة البيضاء ثم سار الجميع نحو الغابة، وظلُّوا يمشون في طرقاتها، وطاهرٌ يتوقَّف من حين إلى آخر، وينظر خلفه نحو كوخِهم ويُسقط من يده حصاة، وتكرَّر منه ذلك عدة مرات حتى لاحظ أبوه كثرةَ وقوفه والتفاته خلفه، فقال له: «إنك تنظر خلفك بين آنٍ وآخر يا طاهر، فإلامَ تنظر؟ ولماذا تقف كثيرًا؟»

أجاب طاهر: «إنني أنظر إلى قطتي الصغيرة البيضاء، الواقفة فوق سطح منزلنا. إنها تُشيِّعُني ببصرها وتقول لي: وداعًا.»

فقالت زوجة أبيه: «يا لَكَ من طفلٍ أحمقَ، إن ما تراه ليس قطًّا، بل هو أشعة الشمس تنعكس على سقف الكوخ فتبدو لك تتحرك، فظننتها قطتك.»

لا شك أن طاهرًا لم يكن ينظرُ إلى قطَّته، بل كان يقف ويستدير حتى لا يراه أحدٌ وهو يُخرِج الحصى من جيبه ويرمي به في الطريق.

عندما بلغوا منتصف الغابة أمرَ الوالدُ طفلَيه أن يجمعَا بعضَ الأحطاب الجافَّة ليُشعلَ لهما نارًا يستدفئان بحرارتها. وهكذا كان الطفلان ينحنيان طول الطريق ويجمعان الأغصانَ الجافةَ الساقطة تحت الأشجار، ووجد طاهرٌ فرصةً يُخرج فيها الأحجارَ من جيبه ويرميها في الطريق دون أن يفطن إلى حيلته أبوه أو زوجتُه.

كان الحطَّاب وزوجتُه وولداه قد مشوا مسافةً غيرَ قصيرةٍ في وسط الغابة حتى وصلوا إلى مكانٍ تشابكَت أغصانُ أشجارها فحجبَت أشعةَ الشمس ولم تَنفُذ من بين أوراقها إلا القليل من شعاع استدار على أرض الغابة، فبدا كأنه قطعةُ نقود فضية.

جلس الأربعة يستريحون من عناء السير، وأخذ الوالدُ الأحطابَ وأشعل فيها النارَ، فتصاعد لهيبُها يتراقص في الهواء فيُضيء المكانَ ويبعث فيه الدفءَ. فقالت الزوجة: «والآن يا طفلَينا! ارقدَا بجانب النار واستريحَا؛ فإننا ذاهبان نحتطب، وعندما ننتهي من عملنا سنحضر لنعود بكما إلى البيت.»

وهكذا جلس طاهر ونادية بجانب النار، يتحدَّثان في مصيرهما عندما يُقبل المساء، وهل سيكون في استطاعتهما معرفة الطريق في الليل، ورؤية الحصى! ولما حان موعدُ العشاء، أخرجَت نادية الخبزَ من جيبها، فأكلاه.

بقيَ طاهر ونادية في مكانهما هذا مدةً طويلة حتى غلبهما النعاسُ فنامَا .. ولما استيقظَا كان الظلامُ قد خيَّم على الكون ولفَّ الغابة في ملاءةٍ سوداءَ قاتمةٍ.

ارتعدَت نادية من شدة الخوف، وقالت: «إلهي! كيف يمكننا الخروج من الغابة في ذلك الظلام الحالك؟»

ولكنَّ طاهرًا هدَّأ من خوفها، واقترح عليها أن ينتظرَا حتى يطلع القمر ويملأ الجوَّ ضياء؛ فعند ذلك يمكنه رؤيةُ الحصى في ضوء القمر؛ إذ ستنعكس عليه أشعتُه من بُعد، فيهديهما إلى الطريق.

أشرق القمر، وأخذ يعلو في صفحة السماء، وعندئذٍ أمسك طاهرٌ بيد نادية، وبدآ يرجعان من حيث أتيَا. وكان من السهل عليهما رؤية الحصى وهو يتألق من مسافة بعيدة كأنه من الفضة المصقولة.

استمرَّا الطفلان في سيرهما طول الليل، حتى وصلَا إلى البيت وقد كادت الشمس تخرج من خدرِ أمِّها. فطرقَا البابَ ففتحَته زوجةُ أبيهما، التي ما إنْ رأتهما حتى جُنَّ جنونُها وأرغَت وأزبدَت، وأخذَت تُؤنب الطفلين قائلة: «أيها الطفلان الشريران! لماذا لم تنامَا في الغابة حيث تركناكما؟ وكيف استطعتما العودة إلى البيت بهذه السرعة؟ لقد حسبنا أنكما لن ترجعَا ثانيةً.»

بقدر ما غضبَت الزوجة، كان الأبُ مسرورًا مغتبطًا؛ لأنه بات ليلتَه قَلِقًا على طفلَيه، وكان ضميرُه يعذِّبه على مطاوعتِه لزوجته، فيترك طفلَيه هكذا، مع أن الوحوشَ المفترسةَ التي لا تعرف الرحمة تَحْمي صغارَها وتدافع عنها بحياتها، فكيف بالإنسان الذي أعطاه اللهُ العقلَ وخصَّه بالتفكير!

مكث الغلام والفتاة مع أبيهما فترةً من الزمان .. بيدَ أنه حدث بعد ذلك أن شحَّ الطعامُ وعاد الأمرُ إلى ما كان عليه من قبل، وانتشرَت المجاعةُ في كل مكان، فقالت الزوجة لزوجها: «لقد انعدم كلُّ شيء، وليس بالبيت كسرةٌ واحدة من الخبز، ويجب إبعاد الطفلين حالًا. سآخذهما هذه المرة إلى مكان أبعد، ومن طريق ملتوية حتى لا يجدَا طريقَهما إلى البيت ثانية.»

حزن الحطَّاب ولم يشأ أن تنفِّذ زوجتُه ما انتوَت عملَه، واقترح عليها أن يقتسمَا ما عندهما من طعام، مهما كان قليلًا، مع الطفلين حتى يأتيَهما الفرجُ من عند الله. ولكن الزوجة رفضَت أن تستمع إلى توسُّلاته، وأصرَّت على رأيها، حتى وافق أخيرًا على خطتها ضد رغبته.

وكما حدث من قبل، سمع الطفلان ما دار بين أبيهما وزوجتِه القاسية من حديث، وانتظرَا حتى انتهى الحديثُ ونام الزوجان. فتسلَّل طاهر على أطراف أصابعه ليُحضرَ بعضَ الحصى. ولكن الزوجة الشريرة كانت قد فطنَت إلى حيلة الغلام، فأغلقَت الباب بالمزلاج والقفل، وأخذَت المفتاح معها، فلم يستطع الصبيُّ الخروج، وعاد إلى فراشه بجوار نادية.

عندما علمَت نادية بفشل أخيها في الحصول على شيء من الأحجار، حزنت وأخذَت تبكي من شدة خوفها، غير أن طاهرًا طمأنها بقوله: «لمَ هذه الدموع الغالية يا عزيزتي؟ ثقي بالله العلي القدير فلا بد من أنه سيرعانا ويساعدنا؛ فنحن لم نخطئ في حقِّ أحدٍ، ولم نقترف إثمًا ضد هذه اللعينة، بل هي المذنبة في حقنا .. وإن مع العسر يسرًا، إن مع العسر يسرًا.»

هدأت نادية لكلمات شقيقها، ودخلَت الطمأنينةُ إلى قلبها، فاستسلمت لأمر الله، ونامت حتى أيقظَتها زوجةُ أبيها وحثَّت الطفلين على الإسراع بالذهاب معها إلى الغابة وأعطَت كلًّا منهما كسرةً من الخبز أصغر من ذي قبل.

اقتادَت المرأة الطفلين إلى الغابة، وتوغَّلَت بهما ما شاء لها أن تتوغَّل، تلفُّ من هنا، وتدور من هناك .. وكان طاهر طولَ الطريق يُفتِّت لقمتَه ويرمي بالفُتات في الطريق .. وأخيرًا وصلوا إلى مكانٍ بعيد حيث أشعلَت لهما نارًا وأمرَتهما بالنوم، وبألَّا يَبرحَا مكانهما حتى تعودَ إليهما بعد أن تلتقيَ بأبيهما، وينتهيا من الاحتطاب.

تَعِب الطفلان من طول الطريق وهما جائعان، فرقدَا بجانب النار ثم استيقظَا في منتصف الليل، فاقتسمَت نادية لقمتَها مع طاهر. وماذا تنفع هذه اللقمةُ أو عشراتٌ مثلها لطفلٍ واحد؟ فما بالُنا لطفلين؟

كان القمرُ قد بدأ يعلو على الأفق، ويُرسل أشعةً فضية خافتة رقيقة، فتهدِّئ النفوس الصاحية، وأمَلَ طاهر أن يجدَ طريقَه إلى الكوخ بواسطة فتات الخبز التي ألقاها في الصباح.

فلما ارتفع القمر في كبد السماء، نهض الطفلان وأخذَا يسيران، وطاهر ينظر إلى الطريق ويُبحلق جيدًا فلا يجد أثرًا لفتات الخبز! لقد أكلَتها آلافُ الطير الساكنة في أشجار الغابة! ولكنَّ طاهرًا بعد أن أدرك هذه الحقيقة، كتمَ الأمرَ عن شقيقته حتى لا يدخلَ اليأسُ إلى نفسها، وصار يُطَمئنها بأنهما سيعودان بسرعةٍ إلى البيت.

ولكنهما لم يجدَا الطريق، واستمرَّا في سيرهما بقيةَ الليل، وطول اليوم التالي حتى أمسى المساءُ وغابَت الشمس، وأوَت الطيور إلى عشاشها فلم يستطيعَا السير خطوةً واحدة؛ إذ نال منهما التعبُ كلَّ منال، وعذَّبهما الجوعُ الشديد؛ فلم يكن معهما طعام سوى بعض الثمار التي عثرَا عليها أثناء سيرهما، متدليةً من الأشجار البرية.

رقد الطفلان تحت شجرة، واستغرقَا في نوم عميق من كثرة التعب والإعياء. ولم يستيقظَا إلا في ضحى اليوم الثالث لفراقهما منزل أبيهما. فاستأنفا السير حتى حفيَت أقدامهما وأنهكهما التعب. ومع ذلك فلم يقتربا من البيت، بل على العكس كانا يبتعدان عنه ويتوغلان في الغابة أكثر فأكثر. وكان طاهر يعلم أنه إن لم تأتهما المعونةُ من عند الله، فإنهما سيموتان جوعًا ما في ذلك شك.

استيقظ الطفلان من نومهما ذات صباح، وقد صعدَت الشمس إلى وسط السماء، فرأيَا طائرًا أبيضَ كالثلج يغرِّد مرحًا فوق غصنٍ صغير، وكان تغريده حلوًا رقيقًا، فنسيَا آلامهما ووقفَا يُنصتان .. وبعد أن انتهى من غنائه العذب، أخذ يطير أمامهما بطيئًا منخفضًا، والطفلان يتبعانه من قرب، حتى وصل إلى منزل صغير، فحطَّ فوق سقفه. فلما اقتربَا من المنزل، وجدَا أنه مبنيٌّ من الخبز والكعك وأن النافذة مصنوعة من الخبز.

رأى طاهر ونادية هذا الكوخَ فحمدَا ربَّهما إذ أدركَا أن العناية الإلهية ترعاهما، وأن الله لا بد أرسل إليهما هذا الطائر ليدلَّهما على مكان الطعام حتى لا يموتَا جوعًا وسط الغابة التي لا يعرفان أولها من آخرها، فقال طاهر: «هيا بنا يا نادية ندخل هذا المنزل ونأكل من الخبز والكعك حتى نشبع .. سأبدأ أنا بقطعة من السقف، أما أنتِ فتستطيعين أن تأكلي قطعة من النافذة. لا بد أن طعمَها سيكون لذيذًا.»

دخل الطفلان الكوخ، وهما يتلفَّتان حوالَيهما حذرًا، ثم صعد طاهر إلى السقف وكسر قطعة منه فالتهمها، فإذا بطعمها حلوٌ لم يسبق أن ذاق مثلَه. وأمسكَت نادية مصراعَ النافذة وكسرَت منه جزءًا وأكلَته .. ولكنهما لم يلبثَا أن سمعَا صوتًا ينادي من الداخل: «مَن ذا الذي يطرق الباب؟»

فأجاب الطفلان: «إنها الريح.» ثم مضيَا يأكلان غير مهتمين بذلك السائل؛ لأنهما كانَا جائعَين والطعام كان لذيذًا .. فكسر طاهر قطعةً أخرى من السقف، كما كسرَت نادية قطعةً ثانية من النافذة، وأخذَا يمضغان الخبز والكعكَ جيدًا.

وبينما الطفلان يأكلان، إذ انفتح الباب الداخلي، وتقدَّمت نحوهما عجوزٌ شمطاء .. فذُعر الفتى والفتاة وأسقطَا ما بأيديهما، ووقفَا مذهولَين قد ألجمَ الخوف لسانَيهما .. فقالت العجوز: «مرحبًا بكما أيها الطفلان العزيزان! ما الذي جاء بكما إلى هنا؟ إنني أعيش هنا وحيدة، ويُسعدني أن أجدَ مَن يؤنِسُني في وحدتي .. لا تخافَا ولا ترتعشَا، فستدخلان معي الآن وتمكثان في منزلي كأنكما طفلاي.»

أمسكَت السيدةُ العجوز بيدِ كلٍّ من طاهر ونادية، وقادَتهما إلى داخل منزلها حيث كانت تنتظرهما مائدةٌ حوَت صنوفَ الأطعمة الشهية، فهذا لحمٌ ساخن يتصاعد منه البخارُ فيملأ الجوَّ رائحةً تُسيل اللعابَ، وهذه خضرٌ، وذلك أرزٌ، وتلك فاكهة مختلفة الأنواع والألوان، وهذه حلويات أتقنَ الطاهي إعدادَها .. كما كان هناك إبريقان من اللبن الطازج الدسم.

جلس الطفلان إلى المائدة، وأكلَا كفايتَهما، وشربَا اللبن فبدءَا يشعران بالسعادة، وبأن شقاءَهما قد انتهى وذهب إلى غير رجعة .. وبعد ذلك أخذَتهما السيدةُ إلى حجرة في الداخل كان بها سريران صغيران نظيفان جميلان، فامتلأ قلباهما سرورًا وغبطة.

حقًّا كان يبدو أن السيدةَ العجوز طيبةُ السريرة، يفيض قلبُها عطفًا وحنانًا، ورحمةً وإحسانًا، ولكنها في الواقع كانت شريرة. كانت ذئبًا في ثوبِ حَمَل؛ فقد بنَت هذا البيت من الكعك والخبز كي تُغريَ الأطفالَ الجياعَ الذين يضلُّون طريقَهم في الغابة، فما إن يُصبحوا في قبضة يدها حتى تقتلَهم وتَطْهوَهم ثم تأكلَهم. كانت ساحرةً لعينة، تتحوَّل إلى طائرٍ أبيض لتقودَ فريستَها إلى ذلك الشَّرَك.

استيقظَت العجوز في الصباح التالي قبل أن يستيقظَ الطفلان، وتسلَّلَت إلى حجرتهما وأخذَت تُمتِّع نفسَها برؤيتهما وهما نائمان، وتقول في نفسها: «ما أطيب هذان! ما ألذ لحمهما! يا لَهما من صيدَين رائعَين سوف آكلهما!»

مدَّت العجوز يدَها وجذبَت طاهرًا بشدة خارجَ الفراش، وساقَته إلى كوخ صغير خارجَ منزلها، ثم أغلقَت عليه الباب. وعادَت إلى الحجرة، وأخذت تهزُّ نادية حتى قامَت من نومها مذعورةً تنتفض، ثم قالت لها: «ما هذا الكسل؟ استيقظي واذهبي إلى القناة المجاورة، فأحضري لي بعضَ الماء، ثم اطبخي لأخيك غذاءً شهيًّا. يجب أن يظلَّ في ذلك الكوخ حتى يسمنَ، وعندئذٍ أذبحه وآكله.»

«يا لهول تلك الكلمات! .. تذبحه، وتأكله! ما هذه العجوز التي كانت تتظاهر بالطيبة أمس؟ أهكذا يكون مصيرنا؟ يا لَه من مصير مشئوم! الويل لزوجة أبينا، إنها هي التي أوقعَتنا في تلك المصيبة التي لا نستطيع منها فرارًا.» هكذا أخذَت نادية تفكر، والدموع تنهمرُ غزيرةً ساخنة على خدَّيها الناعمَين.

لم تكن هناك فائدة من دموع نادية، فكان لا بد لها من أن تفعل ما أمرَتها به العجوز القاسية. فأخذَت الجرَّة وملأَتها من الغدير، ثم أعدَّت ألوانًا كثيرة من الأطعمة الشهية لطاهر، ولكنها لم تَذُق منها شيئًا، ولم تُعطها المرأةُ الشريرة طعامًا، إلا ما يكاد يُمسك عليها الرمق.

كانت العجوزُ تذهب كلَّ صباح إلى الكوخ الصغير الذي سجنَت فيه طاهرًا وتقول: «أخْرِج إصبعَك يا طاهر لأرى هل سمنتَ أم لا تزال نحيفًا.» ولكنَّ طاهرًا كان يُخرج لها في كل مرة قطعةً من العظم، فما تتحسَّسها بيدها حتى تحزن وتقول: «ما هذا؟ إنني أُطعمك جيدًا، ومع ذلك فلا تزال نحيفًا!»

وكانت العجوزُ ضعيفةَ البصر، لا تكاد ترى موطئ قدمَيها.

مرت الأيام بطيئة متثاقلة حتى اكتملَت أربعة أسابيع. ومع ذلك فكانت العجوز ترى أن طاهرًا لم يسمن، وأنه ما زال نحيفًا هزيلًا، فنفد صبرُها ولم تستطع الانتظار أكثر من ذلك، فصاحَت غاضبةً: «أسرعي الآن يا نادية، وأحضري جرَّةً من الماء؛ فلن أصبر بعد ذلك. لا بد من أن أذبحَ طاهرًا سواء سَمِن أو لم يَسْمَن، وأطهوَه وآكلَه.»

اقشعر بدنُ الفتاة عند سماع ذلك القرار، وأخذَت تبكي وتتضرَّع إلى الله قائلة: «أي ربِّ: ومنك الرحمة، ومن خَلْقِك الظلمُ. كم كنتُ أفضِّل أن تفترسَنا الحيواناتُ الكاسرة في الغابة إذ كنتُ، على الأقل، أموتُ معه! ربَّاه! تحنَّن علينا، وساعِدْنا فأنت مُعين مَن لا معين له، وناصرُ الضعفاء والمظلومين، وملجأ اليتامى والبائسين.»

أصبح الصباح، وبدأَت الشمس تعلو على الأفق، وكان على نادية أن تملأ جرةَ ماءٍ من القناة وتُحضرها إلى الكوخ، وتوقد نارًا كما أمرَتها العجوزُ اللعينة. ولكن المرأة قالت لها: «يجب أن نخبزَ بعض الخبز؛ فإن حرارةَ الفرن شديدة. اذهبي وتأكَّدي من أن الفرن صالحٌ لتسوية الخبز.»

كانت العجوز الماكرة تقصد بذلك أن تذهب الفتاةُ المسكينة إلى مكان الفرن، فتفتح بابَه لترى درجة حرارته، وعندئذٍ تدفعها داخلَه وتُغلق عليها البابَ، فتُشوَى، وبذلك تستطيع أن تأكلَها هي وطاهرًا في يوم واحد.

أدركَت الفتاة ما يدور برأس المرأة الشمطاء، فقالت لها: «لا أدري كيف أفعل هذا يا أماه! .. كيف يمكنني أن أدخل إلى الفرن وأختبر حرارته.»

فنظرَت إليها العجوز شزرًا، والشَّرَرُ يكاد يتطاير من عينَيها، وقالت: «يا لكِ من حمقاء! إن الفتحةَ واسعةٌ جدًّا! انظري، حتى أنا أستطيع أن أمرقَ منها!»

ومن شدة غضب العجوز، لم تكن تدري ماذا هي فاعلة؛ فما إن انتهَت من كلامها حتى نهضَت إلى الفرن ووضعَت رأسَها في الفتحة .. وفي أسرع من لمح البصر، استجمعَت نادية كلَّ قواها، ودفعَت العجوز إلى داخل الفرن وأغلقَت عليها الباب.

أسرعَت نادية بعد ذلك إلى الكوخ، ففتحَته وأخرجَت طاهرًا، وقالت له: «لقد أصبحنا أحرارًا يا طاهر! إن العجوزَ الماكرةَ قد ماتَت.» وقصَّت عليه ما حدث بينهما.

خرج طاهر يقفز من شدة الفرح، وعانق شقيقتَه وراحَا يرقصان طربًا؛ إذ لم يكن هناك داعٍ للخوف أو الفرار.

دخل الشقيقان المنزلَ، وأخذَا يشاهدان ما به من أثاث وأدوات وأمتعة، فإذا بهما يجدان في كل ركن به صناديقُ مملوءةٌ بالذهب والماس والياقوت والزمرد واللآلئ وغيرها من مختلِف أنواع الجواهر.

ملأ طاهر جيوبَه ذهبًا وجواهر من كل صنف، قائلًا: «هذه أفضل من الحصى؛ فسبحان مغيِّر الأحوال.»

وقالت نادية: «وأنا أيضًا سأملأ جيوبي منها.»

بعد أن امتلأَت جيوب الشقيقين بالكنوز، اقترح طاهر على شقيقته أن يرحلَا من الغابة المسحورة بأقصى ما يمكنهما من سرعةٍ، فأخذَا حقيبةً وضعَا فيها بعضَ الطعام، وخرجَا يضربان في طرقاتِ الغابة.

لم تمضِ ساعتان حتى وجد الطفلان أنفسهما أمام نهر واسع، فقال طاهر: «كيف يمكننا أن نعبر هذا النهر؟ إنه فسيح واسع، وليس فوقَه جسرٌ يمكن أن نمرَّ عليه.»

فأجابت نادية: «كما أنني لا أرى فيه أيَّ زورق! ولكن ها هي ذي بطةٌ كبيرة تُقبل نحونا، فلو سألتها لساعدتنا على عبور هذا النهر.» ثم أخذَت تُغنِّي بصوت رخيم:

أيتها البطة الجميلة
أيتها البطة السمينة
يا أطيب ما رأت عيني
وأحلى بطة في المدينة
هل تفعلين فينا جميلًا
نحفظه لك طويلًا؟
فاحملينا فوق الظهرا
واعبري بنا ذا النهرا
أيتها البطة الجميلة
أيتها البطة السمينة!

فلما سمعت البطة ذلك الغناء، وأدركت ما ينطوي عليه من مديح وثناء أرادت أن تُبرهن على أنها أطيب مما يعتقدان، فأسرعَت إلى الشاطئ أمامهما. وعندئذٍ صَعِد طاهر فوق ظهرها وطلب من شقيقته أن تركب هي أيضًا، ولكن نادية قالت له: «هذا حِملٌ ثقيلٌ على هذه البطة اللطيفة، ولا يجب أن نُرهقَها جزاء معروفها. فاذهب أنت أولًا وبعدئذٍ تعود البطة فتساعدني على العبور.»

عبرَت البطةُ النهر وطاهر فوق ظهرها حتى أوصلَته إلى الجانب الآخر، ثم عادت فحملت نادية واجتازَت بها النهر سالمة.

ما إن بلغ الشقيقان الجانب الآخر للنهر، حتى مضيَا في سبيلهما إلى أن وصلَا إلى بقعة في الغابة يعرفانها جيدًا، وأبصرَا بيتَ أبيهما على مسافة بعيدة، فأخذَا يَعْدُوان حتى بلغاه، فدفعَا الباب فإذا أبوهما يجلس وحده حزينًا كئيبًا.

رفَع الوالدُ بصرَه فإذا بطفلَيه يضعان أذرعهما حول عنقه ويقبِّلانه.

كانت الزوجةُ الشريرة قد ماتَت، ولم يستمتع الحطاب بالسعادة لحظة واحدة منذ أن رحل طفلاه، وكان يبحث عنهما كلَّ يوم دون جدوى.

أفرغ الطفلان كلَّ ما معهما من الذهب والجواهر في حجر أبيهما. وبذا انتهى الشقاء وكتب اللهُ السعادةَ والهناءة لذلك البيت والأسرة التي تعيش فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤