الفصل الأول: عصر الابتداع
(أ) الشعر
«لسنا نريد بلفظ الاتِّباع أن الأدب يستقي وحيه من الآداب اليونانية والرومانية القديمة فحسب، فذلك وحده لا يكون اتباعًا، لأن الأدب في عصر «اليصابات» كان يستوحي تلك الآداب القديمة، ومع ذلك فهو أدب ابتداعٍ خالص؛ وإنما نعني مجموعة من الخصائص مجتمعة؛ فالاتِّباعيون يعنون كل العناية باللفظ قبل المعنى، بالصورة قبل المادة؛ هم يكثرون من القيود التي يراعون فيها أن تكون مستمَدَّة من الآداب القديمة، ثم تكون البراعة عند الأديب أن يحافظ على تلك القيود؛ والشاعر الابتداعي يهتم بالمعنى وبالمادة التي يريد أن يعبر عنها، ثم لا يتقيد بشيءٍ حين يختار لنفسه أداة التعبير، لأنه حُرٌّ يختار أنسب أداة تُخرج المعنى الذي يريد إخراجه قويًّا سليمًا؛ أما الشاعر الاتباعي فيبدأ بالتسليم بضرورة صورةٍ معينة للتعبير، ثم يحاول أن يعرب عما في نفسه في حدود تلك الصور.
كان أدباء العصر الابتداعي «أفرادًا» بكل ما في الفردية من طيب وخبيث؛ هم «أفراد» بمعنى أن الواحد منهم لا يجري قلمه إلا بتجربته الشخصية الفردية الذاتية التي لا يشاركه فيها فردٌ آخر، ولتكن هذه التجربة النفسية بعد ذلك ما تكون؛ وثقوا بأنفسهم وأخلصوا لمشاعرهم، واستمعوا لخلجات نفوسهم، ثم أجروا كل ذلك في شعر ونثر لا يتهيَّبون شيئًا ولا يحول دونهم شيء؟ وهم «أفراد» بمعنى الفردية الهادم لأوضاع المجتمع، فليس للمجتمع ولا لأوضاعه وقواعده عندهم المكانة الأولى، فالفرد أولًا، وللجماعة أن تكون بعد ذلك أو لا تكون.
(١) صموئيل تيلر كولردج Samuel Taylor Coleridge (١٧٧٢–١٨٣٤م)
التحق «كولردج» بجامعة كيمبردج ولكنه غادرها ولم يظفر بدرجتها الجامعية، ولم يلبث أن تفرغ بجهده كله للأدب، ولم يشأ له الله أن يعيش في هدوء وميسرة، فما فتئ، شاعرنا قلق النفس جوَّالًا يكتنفه الغموض، يدمن على الأفيون إدمانًا يبلغ به حد الإفراط، ولم يكن على وجه الجملة مستقيم السيرة في حياته الخاصة، فما كان أبعد الفرق بين سلوكه وبين ما يبشِّر به من مبادئ الأخلاق! ولا عجب أن تراه يضع لنفسه الخطط فيما ينبغي أن يكتب، ثم تذهب الخطط الموضوعة هباءً لأن صاحبها لا يجد فراغ الوقت وهدوء البال اللذين يعينانه على تنفيذ ما يريد لنفسه!
انصرف «كولردج» ببعض جهده الأدبي إلى الصحافة التي ارتفعت أجورها عندئذٍ بحيث تكفيه موردًا يغنيه عن السؤال لولا اضطراب حياته، لكنه لم يتردد في قبول ما كان المريدون الأغنياء يبعثون به إليه من المنح، بل لم يتردد في كثير من الأحيان أن يلتمس منهم العطاء التماسًا، ومع ذلك كله ناء بحمل أسرته، فألقى بعبء زوجته على عاتق عديله «سَذِي»، وأخذ يضرب في أنحاء الأرض، آنًا في لندن وآنًا في غيرها، ثم ألقى عصاه آخر الأمر في لندن، حيث التفَّ حوله نفر من أدباء الشباب، أخذ يمدُّهم بالوحي حتى وافته منيته.
كان «كولردج» روحانيًّا في نظرته إلى الوجود، فالأشياء المادية عنده لا تنحصر حقائقها في مادتها، بل هي وسائل للتعبير عن روح الوجود الكامنة وراءها؛ فأنت تعلم أن الفلاسفة — منذ نشأة الفلسفة — ينقسمون شعبتَين، وكل فيلسوف إما أن ينتمي إلى هذه أو تلك؛ ففريق يرى أن الأشياء مركباتٌ مادية، وإن اختلف بعضها عن بعض في طريقة التركيب؛ وفريقٌ آخر ينفذ ببصره خلال سجف المادة البادية فيرى وراءها فكرةً أو روحًا اتخذت من هذه الأشياء التي نراها وسيلة للتعبير عن وجودها، ومن هذا الفريق كان أفلاطون. وبهذه النظرة الأفلاطونية أخذ «كولردج» ولم يكفه أن يأخذ بالعقيدة لنفسه، بل طفق يذيعها في كل ما يكتب من نثر، وكانت الفلسفة الألمانية — فلسفة كانْت مثلًا — أقرب ما تكون لهذه النظرة التي ارتضاها الشاعر لنفسه، فأخذ ينشر بين قرائه من الإنجليز شيئًا من آراء الفلاسفة الألمان، فيما يكتب لهم من سياسة ودين ونقدٍ أدبي وفلسفة؛ فضع هذا الأساس المشترك نصب عينك إذا أخذت تقرأ شيئًا من نثر «كولردج» يبدُ لك الكاتب وحدةً متجانسة على تباين الموضوعات التي أدار فيها الفكر وأجرى بها القلم، وإلا لألفيت مقالاته أشتاتًا يُعْوِزها اتحاد الروح والغاية كأنما كتبها رجالٌ عدة.
وتستطيع كذلك أن تلمس في نثره — وفي شعره — طابعَين آخرَين؛ أولهما دراسة لألفاظ اللغة ومآخذها، وثانيهما درايته بحقائق النفس البشرية، فهو — من حيث هذه الخاصة الثانية — يكاد يدرك بقوة البداهة ودقة الملاحظة ما ينتهي إليه العالم النفسي بعد بحث وتجريب.
ولسنا نريد أن نطيل الوقوف عند «كولردج» الناثر، لأنه قبل كل شيء شاعر، وشاعر من قادة الشعراء، وأعجب العجب في إنتاجه الشعري أنه يكاد كله أن يكون ثمرة عامٍ واحد، (١٧٩٧-١٧٩٨م) فكل قصيدة من جياد قصائده — التي خلَّدته شاعرًا — تم إنشاؤها أو وضع أساس بنائها في تلك الفترة الوجيزة من حياته، فحياته الشاعرة — على خلاف كثير من الشعراء — لم يتدرج إليها النضوج قليلًا قليلًا بحيث تستطيع أن تجد لتطورها بدايةً وختامًا يتخلَّلهما نموٌّ هنا وهبوط هناك مما تقتضيه عادةً ظروف البيئة وعوامل النفس ودوافعها إزاء تلك الظروف؛ إنما جاءه النضوج الشعري فجأة وزال عنه فجأة، كأنما هو الثمرة تبلغ تمام إيناعها في لحظة ثم لا تكاد تُيْنع حتى تلفحها السموم فتذوي. ولو قرنَّا هذه الظاهرة في شعره بما رويناه عن نثره، تبيَّن لنا أن الرجل كأنما آمن بأن رسالته في نشر المبادئ والأصول أكثر منها في الخلق والإبداع على أساس ما نشر من مبادئ وأصول. ولعل إيمانه بقدرته على قرض الشعر لم يكن شديدًا؛ فانتهى به ذلك إلى قصر في أمد شاعريته وقِلَّة في نتاجه الشعري على السواء، وما أبعد الفرق في ذلك بينه وبين صديقه وردزورث، وإن يكن الصديقان قد التقيا في وجهة نظر واحدة؛ كولردج يبسط أصولها، ووردزورث ينشئ القصيد على أساسها.
ولئن كان الإنسان نزَّاعًا بفطرته إلى القَصص يُروى عن الكائنات الخارقة للطبيعة المألوفة، فتراه يُفتَن بما يُروى له عن الغيلان والجن والمردة — وعلى أوتار هذه النزعة الفطرية أنشد كولردج قصيدتَيه هاتين — إلا أن هذه الفطرة المغروزة في طبيعته لم تبقَ على حالٍ واحدة في مراحل الرقي العقلي؛ فالإنسان في العصر الحديث لا ينخدع بمثل ما كان ينخدع به الأجداد الأولون في سذاجتهم، وإذن فشاعر العصر الحديث إن أخذ نفسه بإشباع هذا الميل الفطري في الإنسان، فلا مندوحة له عن إتقان فنِّه وإرهاف حسِّه وخفَّة لمسه فيما يروي لنا من تهاويل، حتى تجوز خدعته الفنية على عقولنا التي دقَّ منطقها وشُحذت قدرتها على النقد، وها هنا نبوغ شاعرنا كولردج، وإنه ليقال — على سبيل الجد أو الفكاهة — إن إدمانه على «الأفيون» قد أكسبه هذه القدرة على ما يشبه الأحلام في الوعي، فيروي لك شيئًا لا تدري إزاءه أأنت بصدد حلم أو حقيقة.
وهاك شيئًا من قصيدة «كرستابل» التي لم يُتم الشاعر بناءها كما أراد له أن يكون؛ إذ أنشأ منها جزءًا وبعض جزء من أربعة أجزاء، وهذا الذي نقدمه إليك بداية الجزء الأول:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
وهكذا يمضي الشاعر في حكاياته عن «كرستابل» و«جيرالدين»، ولعلك قد أدركت ما زعمناه من أن عدوى إحساس الشاعر تمتد إليك فتسايره وأنت مخدوع عن وعيك، فلا تدري أهو حلم ما تقرأ أم أمر من الواقع! ولا بد لك أن تُعوِّض بخيالك ما لا بد أن تفقده الترجمة من حلاوة في اللفظ وإيقاع في الوزن والقافية. وعلى نفس هذا المنوال نسج آيته الكبرى «النوتي الهرم» وهاك مثالًا منها، وهو جزء من سبعة أجزاء.
(يقابل النوتي الهرم ثلاثة رجال من ذوي النخوة جاءتهم الدعوة إلى حفلة عرس فيستوقف أحدهم.)
•••
•••
(ضيف العرس تسحره عين النوتي العجوز ويرى نفسه مجبرًا على الوقوف ليستمع إلى حكاية.)
•••
•••
(يحكى النوتي كيف سارت السفينة تجاه الجنوب والريح مواتية والجو معتدل.)
•••
(يسمع ضيف العرس موسيقى الفرح لكن النوتي يمضي في حكايته.)
•••
(يعصف بالسفينة عاصفة تجذبها نحو القطب الجنوبي.)
•••
•••
(أرض الثلج وأرض الأصوات المخيفة حيث لا تقع العين على كائنٍ حي.)
(لبثت الحال كذلك حتى مرق من الضباب الثلجي طائرٌ بحريٌّ ضخم يدعى القادوس واستقبلوه بفرحةٍ كبرى واحتفالٍ عظيم.)
•••
(ها هو ذا الطائر يدل إلى أنه بشير بالخير، ويتبع السفينة في طريق عودتها صوب الشمال خلال الضباب والثلج الطافي.)
•••
(لكن النوتي العجوز غدر بالطائر البشير بالخير فقتله.)
وعلى هذا الغرار يمضي الشاعر في الأجزاء الباقية من القصيدة؛ ففي الجزء الثاني يُنبئنا بثورة البحَّارة على النوتي الهرم لقتله الطائر الذي جاءهم بشيرًا بالخير، لكن لم يكد الضباب ينقشع حتى نسي البحارة جرم زميلهم بل أيدوه فيما فعل، وبذلك التأييد كانوا شركاءه في جرمه. واستمر النسيم رُخاءً، ودخلت بهم السفينة في المحيط الهادي وسارت صوب الشمال تجاه الغاية المقصودة، ثم وقفت السفينة فجأةً كأنما بدأ الانتقام لموت «القادوس»؛ فقد كان يتابعهم روح من هذه الأرواح التي لا تراها العين ولكنها تسكن هذا الكوكب الأرضي الذي نعيش فيه؛ هنا أخذ البحارةَ الهمُّ من جديد، وألقوا بالتبعة كلها على زميلهم النوتي الهرم، وللدلالة على جريمته النكراء علقوا جثة الطائر القتيل حول عنقه. وفي الجزء الثالث من القصيدة ينبئنا الشاعر بأن النوتي الهرم أبصر بشيء في الأفق البعيد، فلما اقتربوا قليلًا خُيِّل إليه أنها سفينة، فأخذت الجميعَ هزةٌ من الفرح وشربوا اغتباطًا لهذه النجدة القريبة، لكنهم سرعان ما عاودهم الفزع؛ إذ تساءلوا: أيمكن أن تسير سفينة بغير ريح وتيار؟ وهكذا ذهب رجاؤهم أدراج الرياح وأخذوا يسقطون صرعى رجلًا في إثر رجل. وفي الجزء الرابع يُحدِّثنا الشاعر أن ضيف العرس الذي يستمع إلى قصة النوتي الهرم خشي أن يكون المحدث نفسه روحًا من هاتيك الأرواح، لكن النوتي الهرم طمأنه على حقيقة حياته وأنها جسد من لحم ودم، ومضى يقصُّ له حكايته: كيف ارتاع لجثث زملائه ملقاة إلى جانبه، بينما يرى خلائق المحيط حية! أفما كان الأجدر بتلك الحياة زملاؤه؟ لكن لعنة الله قد أصابته وقد لمسها في أعين هؤلاء الموتى. وطلع القمر وفي ضوئه الفضي شاهد النوتي الهرم بعض خلائق البحر في جمالها وجذلها، فدعا لها الله بدوام ذاك الجذل بالحياة. وما كاد يبدل نظرته إلى تلك الخلائق حتى انبسط لسانه بالدعاء، وسقط عن عنقه جثمان الطائر القتيل. وفي الجزء الخامس من القصيدة يقول الشاعر إن رحمة الله نزلت على النوتي الهرم غيثًا، وسمع أصواتًا وتبدَّت له في السماء أشباح، وسارت السفينة قدمًا، ودبَّت حركة الحياة في جثث زملائه الموتى! وفي الجزء السادس من القصيدة تأخذ النوتيَّ الهرم غيبوبةٌ روحية إذ يستوثق من وجود الملائكة معه تعينه، فها هي ذي قوةٌ ملائكية تدفع السفينة دفعًا نحو الشمال في سرعة تستحيل على البشر. ويعود النوتي الهرم إلى وعيه وتزول عنه اللعنة ويبصر بأرض بلاده تدنو في الأفق، وعندئذٍ تخرج أرواح الملائكة مرةً أخرى من أبدان زملائه الموتى، وتتبدَّى في هيئة من الضوء. وفي الجزء السابع والأخير يلتقي النوتي الهرم براهب، ويقدم توبته، وتكون كفارته أن يظل طول حياته مرتحلًا من بلد إلى بلد، فيكون مثالًا للناس يتعلمون منه أن يضمروا الحب والتقدير لخلائق الله جميعًا.
(٢) وليم وردزورث William Wordsworth (١٧٧٠–١٨٥٠م)
«وليم وردزورث» هو الذي شارك «كولردج» في إخراج ديوان الحكايات الوجدانية «المنظومة» التي تُعدُّ فاتحة العهد الابتداعي الجديد، لكنه مع ذلك يختلف عن شريكه كل الاختلاف؛ مات أبوه وهو يافع في الثالثة عشرة من عمره، وكانت أسرته حينئذٍ تعاني الضنك، ومع ذلك الْتمس الفتى طريقه إلى مدرسةٍ ثانوية فجامعة كمبردج، بل إن ما كانت تعانيه أسرة الشاعر من عُسر لم يحُلْ دون أن يستمتع بما لا يستمتع به عادةً إلا الأثرياء من فراغ وارتحال وانقطاع للدرس. وقد كان لإقامته في فرنسا إبان ثورتها أثرٌ عميق في نفسه، جعله بادئ الأمر يتعصب للمذهب الجمهوري، لكن هذه الحماسة سرعان ما بردت في نفسه وزال أثرها.
فقد كانت الثورة الفرنسية في أوائلها حين كان «وليم وردزورث» طالبًا في كمبردج فتأثر بتعاليمها كما تأثر سائر شباب جيله، وكان من الطبيعي أن يظهر ذلك الأثر في شخصيته وفي شعره. والعجيب أن حماسته للثورة في بداية الأمر ذهبت به إلى حدِّ التطرف، فلم يهزَّ نفسه — كما هزَّ نفوس غيره — إفراط رجال الثورة في حزِّ الرقاب وإراقة الدماء، بل كان يرى في كل ذلك قِصاصًا عادلًا لما نال الفقراء والضعفاء من عسف على أيدي الأشراف والملوك. ولم يجفل من إعلان رأيه بأنه إبان الثورة للحرية لا يمكن أن تكون حرية؛ إذ في فترة التحول تزكو الفضائل السياسية على حساب الفضائل الخلقية، لكنه رغم هذه الحماسة كلها في بادئ الأمر، لم يسعه في النهاية إلا أن يستنكر الطغيان العسكري وحُمَّى الغزو التي انتهت إليهما الثورة الفرنسية. نعم ظل الشاعر ثابتًا على مبادئه الأساسية من حيث قيمة الإنسان وما له من حقوق وما عليه من واجبات، لكن الذي انقلب في نفسه رأسًا على عقب هو رأيه في تطبيق تلك المبادئ وفي حكمه على رجال عصره وأحزابه السياسية والوسائل التي اتخذت لتنفيذ الدعوة إلى حرية الإنسان. ولما خابت آمال الشاعر في فرنسا الثائرة أن تُحقق له ما يريد للإنسانية، تحولت تلك الآمال إلى شيءٍ آخر تتعلق به؛ تحولت إلى وطنه إنجلترا فتعلقت بما فيها من تقاليد دامت مع الزمن وضربت بجذورها في قلوب الناس فطبعتهم على أسلوبٍ مقبول من الحياة المُتَّزنة. وقد كان هذا التحول العجيب من النقيض إلى نقيضه يكاد يشبه الارتداد المفاجئ من دين إلى دين، لكن الشاعر لم يعبأ بما قد يقوله الناس في هذا التغير السياسي السريع، بل لم يحاول أن يبرره لهم، إنما ترك لشعره أن يقصَّ على الناس قصة نفسه. لكن على الرغم من ذلك كله، ظل للثورة وحوادثها في نفسه ذلك الأثر الذي لا بد أن تتركه الهزات الإنسانية العنيفة في أصحاب النفوس القوية المرهفة، فقد شحذت فيه ذكاءه وإرادته مرتين؛ حين اعتنقها أولًا، وحين عاد إلى نفسه ثانيًا فغربل حوادث الثورة ليقبل منها ما يقبل ويرفض ما يرفض؛ ومن هذا كله خرجت شخصيته الفذة بارزة بكل ما آتاها الله من مواهب.
كان «وردزورث» مفكرًا فيلسوفًا، أخذ على نفسه أن يفكر لنفسه في أمانة وإخلاص، في كل ما يتعلق بالطبيعة والإنسان. ثم كان شاعرًا، أولًا؛ لأن موهبة الشعر جزء من طبيعته فلا يسعه إلا أن يشعر، وثانيًا؛ لأنه وجد في الشعر وسيلةً أخصب وأتمَّ للوصول إلى الحق فيما يعنيه من أمور الطبيعة والحياة الإنسانية، ثم لتبليغ ذلك الحق وتركيزه في أفئدة الناس، فالشاعر عنده مُعلِّم والشعر تعليم، ويقول: «كل شاعرٍ عظيم معلم، والذي أرجوه لنفسي هو إما أن أُعدَّ معلمًا أو ألَّا أُعد شيئًا على الإطلاق.» فما هو من الشعراء الذين يكتبون ليُمتِعوا، ولا هو من الشعراء الذين يرون أن الشعر تعبير عما ارتآه الآخرون ولكن في صيغةٍ أجمل، ولا هو من الشعراء الذين لا يمزجون نفوسهم كل المزج بما ينشئون وإنما يقفون إزاء خلقهم موقفًا أشبه ما يكون بموقف المتفرج، ولا هو من الشعراء الذين اضطربت في رءوسهم الفكرة ثم أبت عليهم ثورة نفوسهم أن تتبلور هذه الفكرة وتتحدد معالمها فتخرج شعلةً من غير صورة؛ بل لم يكن من الشعراء الذين ينظمون ليزيحوا عن صدورهم ما أثقلها من مشاعر، أو ليجتذبوا العطف على آمالهم وآلامهم؛ إنما وردزورث يقرض الشعر ليعلم الناس مذهبًا جديدًا، كان يقرض الشعر لأن الشاعر من طبيعة كل الأنبياء، وشعره وسيلة الأداء في نشر الدعوة، كان يقرض الشعر «ليُسرِّي عن المكروب كربته، ليضيف إلى ضوء النهار إشراقًا بأن يجعل السعيد في حالةٍ أسعد، ليعلِّم الشباب وذوي النفوس الحية من كل سنٍّ أن ينظروا وأن يفكروا وأن يشعروا، فيكونوا بذلك أقرب إلى عمل الفضيلة وكأنهم يعبرون عن أنفسهم.» تلك هي رسالة الشاعر كما عبر عنها بألفاظه.
ليس «وردزورث» شاعرًا وكفى، بل هو صاحب مذهبٍ جديد في الشعر، فصَّله تفصيلًا في مقدمةٍ طويلة قدَّم بها الطبعة الثانية من ديوان «الحكايات الوجدانية المنظومة»، والفكرة الرئيسية في مذهبه هي أن الشعر لا ينبغي أن تكون له ألفاظٌ خاصة به، وأنه يجب أن يُصاغ في أبسط عبارةٍ ممكنة كالتي يتفاهم بها عامة الناس في الريف البعيد عن عوامل المدنية التي قد تفسد نقاء العبارة، وأن جوهر الشعر في المادة المكتوبة، وليس للوزن أو القافية إلا أتفه الأثر في طبيعة الشعر، فهما عَرَضان لا يكونان جزءًا من جوهره؛ إذ جوهر الشعر هو التعبير عن تجربةٍ روحيةٍ عاطفية مرت بنفس الشاعر. وقد أخذ «وردزورث» ينشد الشعر على أساس مذهبه هذا، والعجيب أنه — في رأي بعض النقاد — لم يضعف في شعره إلا حين طبق مذهبه، وأنه لم يكتب قصيدةً ممتازة على منهاجه الجديد في الشعر؛ فكثيرًا ما كان الشاعر ينسى مذهبه ويطلق العنان لطبيعته الشاعرة فيبدع ويجيد، بل إن هذا الشاعر الذي أنكر أن يكون للشعر ألفاظٌ خاصة به، كان من أكثر الشعراء التزامًا للألفاظ الشعرية في قصائده! فلئن ذهب «وردزورث» مذهبًا في ألفاظ الشعر لم يخلص له في قصائده، فقد كان لمذهبه جانبٌ آخر أخلص له حتى النهاية، وذاك رأيه بأن جوهر الشعر في المعنى وحده، وكل ما عدا ذلك من بحور وأوزان وقوافٍ أعراض ليست من الجوهر في كثير ولا قليل.
كان «وردزورث» مستكشفًا لشيءٍ جديد، وشأنه في كشفه الجديد شأن سائر رجال الكشف عن الجديد بكل ضروبه، وذلك أن نبوغه الحقيقي هو أنه رأى ما لم يره غيره على الرغم من وجوده أمام الأعين جليًّا واضحًا، وما إن يوجِّه المستكشف إليه أعين الناس حتى يروه في وضوح ويعجبون معه كيف ظل مستترًا خافيًا. وبكشفه الجديد فتح «وردزورث» عالمًا جديدًا من الفكر ومتعة الشعور، وتستطيع أن تعد شعره علامةً ترمز إلى بداية شوطٍ جديد في مراحل الفكر والأخلاق من تاريخ البشر. ولكنه أمام هذا الخلق المبتكر الجديد لم يكن له مندوحة عن تغيير أذواق الناس حتى يتذوَّقوه، وتعليمهم الفن الذي يرون به فنه ويحكمون عليه؛ لأن الناس لم يكونوا على استعدادٍ نفسي لهذا الانقلاب، فلما رأوه يلتمس أسمى مشاعر الإنسانية وأعمقها وأدقَّها في توافه الأشياء وأبسط الألفاظ والأساليب لم يسيغوه، بل زادوا على ذلك أن جعلوا منه موضوعًا للهزؤ والسخرية.
الحق، والحق وحده، رائدك إن أردت أن تقول شعرًا، وليس في الحق تافه وعظيم؛ الحق هو القانون الأول في تكوين الشعر الصحيح، تلك هي الدعوة التي حمل لواءها «وليم وردزورث»، وقد أفلح في أن يهدي القراء والشعراء على السواء إلى هذا النهج القويم؛ ومن هنا كانت طريقته في اختيار موضوعاته التي يقول فيها الشعر، فقد تعلم كيف يرقب الطبيعة في كل ظواهرها ومظاهرها، وكيف يرى فيها ذخرًا لا نهاية له ولا حدود؛ ذخرًا من أشياء تلمس صميم القلب فتنطق اللسان بالشعر، لقد أحب وردزورث الطبيعة حبًّا بلغ به حد العبادة، فهو يمجد شوامخ الجبال وهوج العواصف كما يقدس الزهرة النحيلة تهزُّها الريح.
«أ – ب – ب – أ» «ﺟ – د – د – ﺟ –» «ﻫ – و – ﻫ – و – ﻫ – و»
•••
•••
•••
وهاك أسطرًا من قصيدته الكبرى «المقدمة»:
(٣) رُبرت سَذِي Robert Southey (١٧٧٤–١٨٤٣م)
«ربرت سَذِي» زميلٌ معاصر «لكولردج» و«وردزورث» لكنه كان — بغير شك — دونهما قدرة ونبوغًا. ومهما يكن من أمر منزلته بالقياس إلى زميلَيه ففي شعره أجزاء بلغت من الروعة حدًّا يدعو إلى الإعجاب، وقد كان لشعره أثرٌ غير قليل في عصره، وهو يمثل نزعات ذلك العصر تمثيلًا صادقًا دقيقًا.
مات عنه أبوه وهو صغير، فكفله خاله وأرسله إلى جامعة أكسفورد، غير أنه غادرها دون أن يظفر منها بدرجة، وتزوج وهو في سنٍّ صغيرة وليس أمامه الأمل المزدهر في رزق يسمح له ولأسرته بالعيش الرغيد، فارتحل إلى البرتغال حيث أقام زمنًا، وهنالك اشتدت صلته بالأدب الإسباني، وما هو إلا أن شغف حبًّا بالأدب وتوفَّر عليه بمجهوده كله؛ وما كان ليستطيع ذلك بغير موردٍ ثابت للرزق، فأجرى عليه زميل له في الدراسة مبلغًا من المال يعينه على العيش. وقد لبث «سَذِي» أربعين سنة من حياته متفرغًا للأدب، قانعًا بدخلٍ ضئيل، ومع ذلك استطاع — رغم هذا العسر — أن يجمع مكتبةً زاخرة، وأن يعنى بتربية أبنائه، لا بل يعنى إلى جانب ذلك بأسرة «كولردج» — عديله — الذي كثيرًا ما كان يحمل عبئها؛ وكان «سَذِي» متصل الإنتاج الأدبي، وإن لم يعد عليه أدبه إلا بالقليل، ومات بعد أن قضى بضعة أعوام لم يكن فيها موفور الصحة العقلية.
وهاك مثالًا من «ثعلبة»:
•••
•••
•••
(٤) وولتر سكُتْ Walter Scott (١٧٧١–١٨٣٢م)
لم يكد شاعرنا يخرج قصائده الكبرى حتى توطدت حياته الأدبية، وأخذ أدبه يدرُّ عليه مالًا كثيرًا، وجاءته قصائده بدخلٍ كبير، لكنه لا يقاس إلى ربحه من قصصه التي ظلت أعوامًا عدة تكسبه كل عام شيئًا يقع بين خمسة عشر ألفًا وعشرين ألفًا من الجنيهات. وقد أنشأ لنفسه دارًا جميلة واشترى حولها أرضًا فسيحة الأرجاء وأُنعم عليه بلقب «سير» وزوَّج أكبر أبنائه من فتاةٍ غنية من أسرةٍ نبيلة، وانفتحت أمامه السبيل إلى غايته التي كان ينشدها ويتمناها، وهي أن يؤسس أسرة تعدُّ بين كرام الأسر، لكنه لسوء حظه شارك القائمين على طبع كتبه في تجارتهم فانتهى أمره إلى إفلاس، وصمم «سكُتْ» ألا يرضى لنفسه بهذه الخاتمة، فضاعف مجهوده في الإنتاج ليردَّ عن نفسه دَينًا بلغ مائة ألف من الجنيهات أو يزيد، وقد أفلح فيما أراد، لكن مجهوده أضناه وأصابه بشلل ومسٍّ من جنون، ثم عاجلته بعد ذاك منيته.
ولكي نقدر شعر «سكُتْ» قدره الصحيح — بل لكي نقدر شعر شاعر على الإطلاق — ينبغي لنا أن ننظر إليه من وجهتَين؛ الأولى وضعه في عصره ومقدار تأثيره فيمن عاصروه ومن أعقبوه، والثانية قيمته الذاتية الباقية على وجه الزمان بغضِّ النظر عن بيئته وعصره. فأما من وجهة النظر الأولى فتكاد لا تجد من الشعراء من يضارع «سكُتْ» في عمق أثره، فقد كان يتعذر — لولاه — أن يتحول الذوق الأدبي السائد إذ ذاك إلى الاتجاه الجديد، ولولاه لقضي على شعر قادة الابتداع وأعلامه: «كولردج» و«وردزورث» و«شلي» و«كيتس» أن يظل طويلًا دون أن يجد من الناس من يسيغه أو يزنه بميزانه الصحيح. وربما اعترضك في ذلك ناقد بقوله: إن من الخطأ أن تعوِّل كثيرًا على حكم جمهور القراء، فليس هناك كبير خطر إن أسرع الناس إلى تقدير الشاعر أو أبطئوا؛ إذ ما دام لشعره قيمةٌ فنيةٌ ذاتية، فلا بد أن يفرض هذا الشعر نفسه فرضًا على القراء إن عاجلًا وإن آجلًا. وهذه النظرة في النقد الأدبي صحيحة إلى حدٍّ كبير، لكنا لا نستطيع أن نغضَّ من شأن رجل يفلح في توجيه الناس توجيهًا صحيحًا، لأنه إذا سلم ذوق الناس في الأدب تهيأت الفرصة لنوابغ الشعراء أن يظهروا.
وأما قيمة شعره الذاتية فليست موضع شك، وإن يكن بعض النقاد أميل إلى وضعه في الصف الثاني من الشعراء؛ فالرجل شاعر لا ريب في صدق شاعريته ولو أنه في سوق الحكاية أنبغ منه شاعرًا، فلو قارنته بالشعراء الأربعة الأعلام في حركة الابتداع: «كولردج» و«وردزورث» و«شلي» و«كيتس» لحِرتَ في كثير من المواضع أيهم أجود شعرًا، على أنه إذا ما كانت القصيدة حكايةً منظومة فلن تتردد لحظةً واحدة في تفضيل «سكُتْ» عليهم جميعًا من حيث براعة الرواية، وفضلًا عن ذلك كله فشاعرنا من الشعراء القلائل الذين سرعان ما يدور شعرهم على ألسنة الناس؛ ففيه ما يقربه من قلوبهم ويحببه إلى نفوسهم، وليس ذلك على الشاعر بقليل.
وفيما يلي مثال من قصيدة «آخر المنشدين»، وهو بمثابة المقدمة للقسم الأول من القصيدة:
(٥) جورج جوردن بيرن George Gordon Byron (١٧٨٨–١٨٢٤م)
ولد «بيرن» لأبٍ عربيد وأمٍّ بلغت من حدة الطبع حدًّا لا يكاد يُحتمَل. وقد ورث لقب اللوردية وهو لم يزل طفلًا، ثم أضاف إلى مجد الحسب طلعةً جميلة لولا ظلعٍ يسير؛ فأحسَّ وهو في مدرسته الثانوية شموخًا وكبرياء لهذا اللقب الذي يحمله دون سائر الطلاب، وكان مشتعل الذكاء، ملتهب المواطن، قُلَّبًا لا يستقر على حال، فقد عرف الحب وهو في الثامنة من عمره، فلما كان طالبًا في المدرسة الثانوية أحب فتاةً تكبره، وتزوجت من سواه، فلم ينقطع تفكيره في حبيبة قلبه التي لم يظفر بها، وأخذ ينشد فيها الشعر.
ولم ينبُه ذكر شاعرنا في دولة الأدب وحدها، بل اشتد نفوذه في دوائر المجتمع، حتى أصبح فيها «ضرغامًا» — فقد كان يُنعت بهذه الكُنية بين عارفيه — فهو وسيم الطلعة جميل الهندام معنيٌّ برشاقته وفخامة مظهره، ولبث نجمه يسطع في تلك الدوائر الاجتماعية ما أقام في إنجلترا قبل أن يغادرها إلى أوروبا مرةً أخرى. وقد أنشأ في تلك الأعوام قصصه الشرقية التي حاول فيها أن يقتفي أثر زميله «سكُتْ» وهذه القصص الشرقية حكاياتٌ منظومة اتخذ منها ستارًا ليحكي قصة حياته خلال الفترة التي كان فيها «ضرغام» المجتمع في بلاده. وفي ذلك كتبت زوجته بعد انفصالها عنه إلى صديقة لها تقول: «إن الأنانية هي المحور الرئيسي في خياله، فمن العسير عليه أن يُشعِل قوةَ خياله موضوعٌ لا تتمثل فيه شخصيته وأهواؤه.» وقد صدقت؛ فقصائده كلها تعبير عن حياته ومغامراته ومشاعره وخواطره، رغم ما تكلَّفه من عناء في إخفاء ذلك بما ابتكره من أسماء يتنكَّر وراءها.
وعندئذٍ كانت الحرب قائمةً بين تركيا واليونان، فتحمس الشاعر لأهل اليونان الذين يجاهدون في سبيل حريتهم، وقصد إلى بلادهم يريد القتال في صفوفهم، فنالت منه حمى الملاريا هناك ومات في أبريل سنة ١٨٢٤م.
هذا مثال من قصيدته «حلم»، وتقع القصيدة في تسعة أقسام؛ والمثال الآتي بعض جزأيها الأول والثاني:
١
٢
وهذه قطعة عن «البحر» نختارها من آيته الخالدة «تشايلد هارولد»:
•••
•••
•••
•••
•••
(٦) بيرسي بيش شلي Percy Bysshe Shelley (١٧٩٢–١٨٢٢م)
تزوج شلي من فتاةٍ صغيرة كانت صديقةً لأخته، وأخذ يتنقل بها في الريف حيث واصل الكتابة والقراءة، وبخاصة قراءة «جُدْون» الذي طفق يراسله ويجاهد في نشر مبادئه؛ ثم أرادت له المصادفة أن يلتقي بابنة ذلك الفيلسوف «ماري جدون» وكان إذ ذاك قد ملَّ زوجته التي رفضت أن تحيا معه حياة الأخت بعد أن ملأت «ماري» مكانها من قلب الشاعر؛ ولم يلبث شلي أن سافر مع حبيبته «ماري» إلى سويسرا، وهنالك التقي بهما «بيرن» ثم عاد معها إلى إنجلترا بعد قليل.
ومات شلي غريقًا في إيطاليا على إثر عاصفةٍ هوجاء، وأُلقي في النار ما طوح به ماء البحر من جسده على أرض الشاطئ؛ ووضع رماد جثمانه إلى جوار مثله من جثمان صديقه «كيتس» في «مكان له من الجمال ما يحببك في الموت».
وهذا مثال من قصيدته «ألاستر، أو روح العزلة»:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
(٧) جون كيتس John Keats (١٧٩٥–١٨٢١م)
وهذه أمثلة من شعره:
ففي قصيدة «أنديميون» قال عن الجمال هذه الأسطر:
وهذه قصيدةٌ أخرى عنوانها «أغنية للخريف»:
•••
(ب) القصة
(١) وولتر سكُتْ
إنك لا تستطيع أن تستعرض القصة في مراحل نموها دون أن تذكر «وولتر سكُتْ» الذي دفعها إلى الأمام دفعةً قوية؛ فهو الذي خلق القصة التاريخية خلقًا بعد أن لبثت ما يقرب من ألف عام تحاول الظهور محاولاتٍ كانت تنتهي دائمًا بالخيبة والفشل، وهو الذي عرف كيف يجعل الخصائص القومية لأمة من الأمم محورًا أساسيًّا للقصة. ولو عُرض الأشخاص الذين خلقهم خيال الأدباء — في كل العصور — في متحف لوجدت «سكُتْ» قد خلق منها عددًا لا يجاريه في كثرته أديبٌ آخر إلا شيكسبير، ثم هو يفضل شيكسبير في كثرة ما صوَّر من مناظر في قصصه. وكان له أعظم الفضل في رفع القصة إلى مستوى الأدب الرفيع؛ إذ جاء وهي على شيء من الزراية، توضع في منزلةٍ أدنى من سائر الصور الأدبية، ولا يحاولها إلا قلة من الأدباء ويقرؤها الناس في شيء من التخفِّي والاستحياء، فتركها وهي — بفضله — في منزلةٍ واحدة مع سائر ضروب الأدب احترامًا ودَرًّا للمال وخصوبة في الإنتاج.
(٢) جين أوستن Jane Austen (١٧٧٥–١٨١٧م)
تصغر هذه الكاتبة معاصرها «سكُتْ» بأربعة أعوام فقط، لكن لم يكتب لها أن يمتد بها الأجل بقدر ما امتد به؛ إذ ماتت ولها من العمر اثنان وأربعون عامًا. ولئن عُدَّ «سكُتْ» أبًا للقصة في القرن التاسع عشر، فلا شك أن «جين أوستن» أمٌّ لها؛ فكلاهما كان للقصة واضعًا للأسس، مقيمًا للدعائم. فبينا ترى «سكُتْ» قد طرق بقصصه كل الأبواب الممكنة، ثم مضى في بعضها إلى حدٍّ بعيد من الجودة والإتقان، ترى زميلته «أوستن» قد تناولت بنجاح — يوشك ألَّا يقل عن نجاحه — أبواب القصة التي لم يمسَّها «سكُتْ» إلا مسًّا رفيقًا.
«كنيسة نورثانجر» موضوعها قصة فتاةٍ جميلةٍ ذكية ظنها أحد الأغنياء وارثة فرحب بها وأغدق عليها من كرم وفادته إغداقًا رجاء أن تكون زوجة لابنه، فلما تبين له فقرها طردها من منزله طردًا عنيفًا. و«سلامة إدراك ودقة إحساس» تدور حول شخصيتَين مختلفتَين لأختَين شقيقتَين، إحداهما على شيء من الرعونة تستجيب لدوافع العاطفة بغير احتكام للعقل، والأخرى هادئة تُحكِّم إدراكها العقلي في شتى أمورها، تركهما أبوهما في عُسر فعاشتا مع ذوي قرباهما الأغنياء. وأساس القصة مقارنة بين الأختَين في مختلف المواقف. والدرة العصماء بين هذه القصص كلها، قصة «كبرياء وتعصب» وهي قصة فتاةٍ طَموحٍ أبية النفس أحبها شابٌّ غني، لكنها نبذته في كبرياء لما لمسته فيه من ازدراء لأهلها وذويها. وهكذا تمضي الكاتبة في قصصها جميعًا تُصوِّر لنا الفقراء على اختلاف صورهم وهم يخالطون الأغنياء لتُرينا كيف يفكر الأغنياء وكيف يعيشون. وهي تختار أبسط الموضوعات لقصصها، لكنها حين تجري الحوار أو تحلل الأشخاص تُبدي براعة قل أن يكون لها نظير. ولو لم يكن في قصتها حبكة لكفاها جودة مثل ذلك الحوار البارع وهذا التحليل الدقيق. ويتميز أسلوبها بشيء من السخرية الرفيقة التي لا تفارق قلمها، وقد يأخذ عليها الناقدون أحيانًا أنها تقسو في بعض المواضع في سخريتها. ومهما يكن من أمر هذه الكاتبة القديرة، فقد وجهت أدب القصة توجيهًا جديدًا حين بينت في وضوح وقوة أن الحياة اليومية المألوفة المعروفة إذا أجاد الفنان ملاحظتها والاختيار من أجزائها، كانت له معينًا خصيبًا لا ينضب، للقصة في أعلى مراتبها.
(ﺟ) المقالة
على الرغم من هذا المجهود الجبار الذي بذله «سكُتْ» و«جين أوستن» ربما لم تكن للقصة المنزلة الأولى في عالم النثر في الثلث الأول من القرن التاسع عشر. وربما كنا أدنى إلى الصواب إذا جعلنا تلك المنزلة الأولى للمقالة التي وجدت مجالًا خصيبًا في الصحف الأدبية التي كثرت في ذلك العهد لتسدَّ حاجة عند القراء. ولم تكن المقالة عريقة الأصول في الأدب، فقد رأينا في الجزء الثاني من هذا الكتاب، ونحن نؤرخ لمونتيني في الأدب الفرنسي، كيف خُلقت المقالة خلقًا على يدي «مونتيني» في القرن السادس عشر، لكن العجيب في أمرها أنها حين ولدت جاءت كاملة الخلق والتكوين، وأخذت — منذ ظهرت في عالم الوجود — توسع من نطاقها من حيث الموضوعات التي تعالجها، فكانت مجالًا لتحليل الشخصيات، ومتنفَّسًا للأديب يبثُّ فيها مشاعره وخواطره، وميدانًا للنقد الأدبي، ووسيلة للإصلاح الاجتماعي. وهكذا لبثت المقالة طوال القرنَين السابع عشر والثامن عشر أداةً طيِّعة في يد الأديب يتخذها لكل موضوع شاء أن يكتب فيه، ومن حسن حظها أن تناولتها أيدي فحول الأدباء فضمنت لها القوة وطول البقاء. فلما كان الثلث الأول من القرن التاسع عشر — وهو العهد الذي نحن الآن بصدده — تعهدتها طائفة من الأفذاذ، حسبنا أن نذكر منهم الأربعة الأعلام: «لام» و«هَنت» و«هازِلت» و«دي كِوِنسي».
(١) تشارلز لام Charles Lamb (١٧٧٥–١٨٣٤م)
هو لندني المولد والنشأة والإقامة، تلقى بعض التعليم المدرسي ولم يبلغ في شوطه إلى غايته؛ إذ أُريد له أن يُستخدَم في إحدى الشركات الكبرى، لكن حياته اضطربت بسبب جنونٍ موروث لم يبلغ في حالته حدَّ الجنون الكامل إلا فترةً قصيرة، ثم كانت علامته بعد ذلك شذوذًا في سلوكه، غير أنه كان أشد ظهورًا في أخته «مارية» حيث انتهى بها إلى قتل أمها في ثورة من ثورات جنونها. وأخذت هذه الثورات الجنونية تنتابها على فترات تزداد قصرًا كلما تقدمت بها السن. وكانت «مارية» تقيم مع أخيها «تشارلز» الذي أحبها حبًّا شديدًا، ولم يتزوج حرصًا على راحتها.
اتخذ لام المقالة أداة للتعبير عن نفسه، واتخذ من شخصٍ خيالي يرمز به إلى نفسه أطلق عليه «إليا»، محورًا تدور حوله أفكاره وخواطره وذكرياته وتأملاته. وهو في كل ما كتب سواء أكان ذلك تعليقًا على كتاب أو على شخص صادفه في حياته أو على وضع من أوضاع المجتمع؛ إنما كان يعبر عن صدى هذا الشيء أو ذاك في نفسه هو دون أن يجعل هذه النظرة الذاتية صريحةً مباشرة. لكن النظرة الذاتية في أدبه لها خصائص يتميز بها عن سواه، فكل أديبٍ ذاتيٌّ فيما يكتب إلى حدٍّ ما، لكن ليس كل أديب ذاتيًّا بمعنى أن يشقَّ نفسه شطرَين، شطر منهما ينقد شطرًا آخر نقد الحذر البصير الذي لا يغيب عن ذهنه قط ما يقع فيه الإنسان من خداع، إذ يحكم على الأشياء وفق هواه فيخطئ أحيانًا وهو لا يدري بخطئه لأن هواه قد أعماه. وبهذا الأسلوب الذاتي المحايد عادت المقالة إلى ما كانت عليه عند أول خلقها على يدي «مونتيني».
ومع ذلك فلم يكن «لام» في مقالته صورةً مكررة من «مونتيني»، بل ظل بينهما هذا الفارق الذي جعل لكلٍّ منهما شخصيته في أدبه؛ «مونتيني» يحلل نفسه تحليلًا أقرب جدًّا إلى ما يصنعه عالم النفس إذ يردُّ المركب إلى عناصره الأولية، ثم هو يستخرج العبرة لعلها تكون درسًا يقوِّم الأخلاق، أما «لام» فلا يجعل همه هذا التحليل ولا ذلك التقويم إنما أراد شيئًا واحدًا، هو أن يمتع نفسه بما يكتب وأن يمتع قارئه بما يقرأ، وهو في ذلك فنانٌ مطبوع، إن أراد أن يرهف حسَّ قارئه أو أن يعلو بنفسه، اصطنع لذلك سبيلًا غير مباشرة بحيث لا يحسُّ قارئه أنه إزاء معلم يؤدِّبه.
(٢) لي هنت Leigh Hunt (١٧٨٤–١٨٥٩م)
(٣) وليم هازلت William Hazlitt (١٧٧٨–١٨٣٠م)
هو في النقد أعظم من زميلَيه «لام» و«هنت»؛ بل إن شئت فقل إنه من أئمة النقد في آداب العالم كلها. ربطته الصلات بكولردج كما ربطت غيره من أدباء العصر، فكان لكولردج أعمق الأثر في توجيهه وإشعال نبوغه، كما صنع بكل من اتصل به. وعاش «هازلت» حياةً فيها كثير من المتعة لكن تنقصها السعادة، فقد تزوج مرتين، وساء حظه فيهما معًا؛ إذ اختلف مع الأولى اختلافًا أدى إلى الطلاق، وهجَرَته الثانية بعد زواجها منه بأمدٍ قصير، ولعله المعيب في كلتا الحالتين، لأنه كان معروفًا بحدَّة طبعه التي ضاق بها حتى أخلص الأصدقاء. وكان يهاجم الناس عن طبع يميل إلى المشاكسة بداعٍ وبغير داعٍ، بل حمله ذلك الطبع المشاكس على الخوض بنقده وهجومه في أدب الأسبقين فضلًا عن المعاصرين. وكانت تنقص «هازلت» الدراية التامة بالآداب واللغات الأجنبية، لكنه رغم هذه النقائص كلها، أنتج في نقد الأدب الإنجليزي مجموعة من المقالات والمحاضرات تكاد لا تجد لها نظيرًا؛ ولهذا كان في عصره كاتبًا يُحسَب حسابه، ومن العجيب أنه لم يلقَ كل هذا التقدير عند الجيل الذي تلاه، لكنه عاد بعدئذٍ إلى الصعود في نظر الأجيال التالية، ولعله حتى اليوم لم يوضع بعدُ موضعه الصحيح.
«هازلت» فردي في روحه، بحيث وقف إزاء العالم موقف التحدي والمصارعة في السر والعلن، فكل ما تواضع عليه الناس من رأي وعقيدة أصابته طعنات نقده التي لم تصدر عن جهلٍ عابث، بل صدرت عن رجل أوتي من نفاذ البصيرة وصواب الحكم قسطًا موفورًا. وإن شئت أن تتخيله فصوِّر لنفسك رجلًا بلغت به الكبرياء حدًّا مفرطًا، واعتدَّ بنفسه اعتدادًا حدا به أن يستهين بسواه، بل أن يمقت غيره من أفراد الإنسان، ولم تكن له هذه النفس السمحة ولا هذا الصدر الرحب الذي ييسر على نفسه طريق الحياة، لكنه مع ذلك كان إذا ما أراد نقدًا ضبط من نفسه جماحها واتَّزن في حكمه على نحوٍ يدعو حقًّا إلى كل إعجاب. فهو بهذا ثنائي الشخصية تراه على لون في حياته وعلى لونٍ آخر في نقده، ولعل في هذا الازدواج مصدر شيء من خصوبته وإن يكن بغير شك مصدر تعاسته وشقائه. وهو على أي الحالَين صاحب نظرةٍ نقَّادة، من طبعه أن ينقد ما يصادفه، وهو في هذه الثورة أو ما يشبه الثورة صنيعة الثورة الفرنسية ووليد دعوةٍ قوية الأصداء إلى تحكيم العقل في كل الأمور والاهتداء بهديه؛ وهو من هؤلاء الرجال الذين يرون أن «الحياة عقيدة وجهاد» أعني أنه يعتقد بصواب المبدأ النظري ثم لا يلين بعد ذلك في جهاده في سبيل ما اعتقد صوابه.
وإنه لمما يبدو تناقضًا في القول أن نزعم أنه من رجال الأدب الابتداعي — والأدب الابتداعي أَميَل إلى الأخذ بالعاطفة — ثم نزعم في الوقت نفسه أنه يسلم قياده لأحكام العقل. لكن هذا التناقض الظاهر ربما زال لو أضفنا إلى هذين الزعمَين تحديدًا، فاحتكامه إلى العقل هو في تبيُّن الحدود التي ينبغي أن تقف عندها العاطفة؛ أعني أنه يسلم بضرورة أن يترك الإنسان نفسه على سجيتها في التأثر بالأشياء والحكم عليها بالفطرة واللقانة، على ألَّا يجاوز ذلك الحدود المشروعة.
كان «هازلت» ناقدًا للأدب وناقدًا لأوضاع الحياة في آنٍ معًا، وهو في نقده مطبوع بصراحةٍ عجيبة، صراحة مصدرها ثقته بنفسه؛ فلا يعبأ في قليل أو كثير أجاء رأيه مستطابًا عند الناس أم مريرًا. وهو في تبيُّنه للعيوب لا يصطنع التحليل بقدر ما يلجأ إلى الإدراك المباشر، فعينه الفاحصة لا تخطئ ما يريد أن يراه؛ ولذلك تحس وأنت تسايره في أيما طريق شئت كأنما يلفتك الرجل لفتاتٍ مفاجئةً متداركة، تقلب لك آراءك التي ألِفْتها رأسًا على عقب، ويزيح عن عينَيك الغشاوة التي تريك ظواهر الأشياء حقائق ثابتة. وقد تمدحه على صنيعه لك، وقد تسبُّه وتلعنه لأنه سيُريك رغم أنفك الحقائق المرة عن بعض الأشياء، وليس الإنسان على استعداد دائمًا أن يصغي إلى الحق.
وكذلك ترى هذه اللفتات المفاجئة القوية في نقده الأدبي، فهو — بحركةٍ واحدةٍ سريعةٍ ماهرة — يجد نفسه في صميم الشخصية التي هي موضوع نقده، لا يحاور في ذلك ولا يداور؛ ثم هو يتدرج في خروجه من ذلك الصميم الذي وقع عليه شيئًا فشيئًا؛ فإذا بك ترى المعالم والقسمات في جلاء ووضوح. وكثيرًا ما كان يقع على جانبٍ خفي من نفس الأديب الذي يكون موضوع بحثه، حتى ليُخيَّل إليك أنه يهتدي في ذلك بهذه الأساليب التي يستخدمها أصحاب التحليل النفسي في هذه الأيام فيبرزون بها ما خفي عن العيون. على أنه بغير شك لم يكن معصومًا من الخطأ، فقد يضل بسبب تعصبٍ سابق لرأي بذاته. ومن أمثلة خطئه في الحكم أنه لم يرَ في «شلي» شاعرًا مُجيدًا. لكنه على كل حال من أقل النقاد ضيقًا في الأفق وجريًا مع الهوى، وفضله عظيم في تحليل كثير من شخصيات شيكسبير، فهو من المعجبين بأدب النهضة عامة، وإن يكن من العسير عليك أن تجد له عصرًا معيَّنًا أو شاعرًا خاصًّا أو مدرسة بذاتها تنسبه لها، فهو مادح أينما وجد ما يستحق المدح، مهاجم أنَّى صادف ما يستثير الهجوم.
(٤) تومس دي كونسي Thomas De Quincey (١٧٨٥–١٨٥٩م)
عرف «دي كونسي» في نفسه القدرة على الإنشاء؛ ثم نفد ماله الموروث، فأخذ يكتب كتابة لا تنقطع مدى أربعين سنةً من حياته. وفي أخريات أيامه جمع كثيرًا مما كتب وأعاد طبعه، فكان لنا بذلك أكبر مجموعة في الأدب الإنجليزي من أدب المتفرقات وأكثرها تنوعًا؛ فقد كان هذا الأديب يجمع في نفسه دقة التحقيق العلمي وسعة الاطلاع، وكانت له قدرة على القصص، وموهبة نادرة المثال في العرض والتلخيص، فضلًا عما امتاز به من فكاهة ونبوغ في الأسلوب المنمق المزخرف الذي لن تجد من يفضله فيه، ذلك إن وجدت من يجاريه. وكان يعلم أنه موهوب في هذا الضرب من الكتابة، لكنه أخطأ فظنَّ أن مثل ذلك النثر المزوَّق أعلى منزلةً من النثر السلس المتدفِّق. ومهما يكن من أمر فإنه إنما يحتل مكانه في تاريخ الأدب لأنه في طليعة من غيروا مجرى النثر الأدبي في القرن التاسع عشر، فجعلوه نثرًا مزخرفًا بعد أن كان ساذجًا عاريًا من كل تنميق. وقد وجد «دي كونسي» في ميدان الأحلام مجالًا فسيحًا لنثره، وهذه حقيقة لها مغزاها الواضح ودلالتها القوية؛ إذ لبث النثر الفني مائة وخمسين عامًا لا يريد لنفسه شيئًا فوق أن يكون أداة للتعبير عن شئون الحياة العملية، وها هو ذا ينتقل بمَثَله الأعلى إلى ميدانٍ آخر، فصار على يدي «دي كونسي» أداة للخيال قبل أن يكون وسيلة للتعبير عن الواقع. ولا شك في أن هذه نتيجةٌ طبيعية لمذهب «وردزورث» في الشعر — الذي أسلفنا الكلام عنه — بأن جوهر الشعر في المعنى لا في طريقة الأداء؛ فقد يكون الكلام شعرًا حتى إن خلا من الوزن والقافية؛ فكان من أثر هذه الدعوة أن رأينا بعض أنصار المدرسة الجديدة يكتبون الشعر منثورًا، أو قل يكتبون النثر ليكون شعرًا.
(د) ضروبٌ أخرى من النثر
آثرنا أن نقسم الحديث في النثر قسمَين، فقسم للمقالة أسلفناه، وقسمٌ آخر لضروب النثر الأخرى التي ظهرت فيما كان يؤلَّف من الكتب على اختلاف موادها، وذلك لأن الأسلوب في الحالتَين مختلفٌ أشد اختلاف، فما أساغه الذوق في المقالة لم يكن ليسيغه في الكتاب. فقد كان يتعذَّر على «دي كونسي» — مثلًا — أن يجد ناشرًا لكتابه «اعترافات مدمن في الأفيون» لو أنه أخرجه كتابًا كاملًا، فلولا أنه نشره في الصحف الأدبية منجَّمًا في مقالات لما وجد سبيله إلى المطبعة. فقد اختار أدباء المقالة في العصر الذي نؤرخه — الثلث الأول من القرن التاسع عشر — الأسلوب المنمق لمقالاتهم، وكان هذا التنميق في الأسلوب علامة التجديد، لكن مثل هذا الأسلوب لا يصلح في كتابٍ طويلٍ متصل؛ لهذا كان للنثر في ذلك العهد أسلوبان مختلفان: أسلوب للمقالة وأسلوب للكتاب، وسنختار اثنين من أصحاب الأسلوب الثاني لنسوقهما مثالًا للنثر الأدبي في غير المقالة، وهما: «سَذِي» و«ماكولي».
(١) سَذِي Southey
(٢) ماكولي Macaulay (١٨٠٠–١٨٥٩م)
ليس الصواب كل الصواب أن يُحشر «ماكولي» في زمرة أدباء الابتداع بغير تحفظ، فهو في حقيقة أمره مرحلةٌ وسطى بين ذلك العهد وما تلاه؛ فهو ربيب أعوام سادت خلالها في إنجلترا الفلسفة العملية النفعية التي تقيس العمل بمقدار ما يعود به على الناس عامة من خير، وكان لهذا الاتجاه الفكري أكبر الأثر في «ماكولي» إذ جعله يُؤْثِر أحكام العقل المنطقي وينشد في الظواهر تتابع الأسباب ومسبباتها، بل إن معيار الحق عنده هو ما يسود الظواهر من اطراد ينمُّ عن انسياق للقواعد، ولذلك أثره في كتابته للتاريخ، فلم يكن بالمؤرخ الذي يتعقب الوثائق بحثًا عن الحقائق، بل كان يقرأ عن العصر الذي يؤرخ له، ثم يكوِّن فكرةً واتجاهًا عقليًّا إزاءه، ثم يُنسِّق كل ما يكتبه عن ذلك العصر وفق هذه الفكرة وهذا الاتجاه العقلي؛ يثبت ما يؤيده ويمحو ما ينفيه؛ فوراء تاريخه رجل له نزعاته وأفكاره وآراؤه يريد أن يعبر عنها فيما يكتب من التاريخ. وفي رأيه إذا لم يُكتَب التاريخ ليكون درسًا لقارئه ففيمَ يكتب؟ فلا غرابة أن يرفضه المؤرخون المحترفون، وأن يرحب به الأدباء؛ لأنه رجل لم تَعنِه الحقيقة في ذاتها بقدر ما عنته آثارها في نفسه ونفس قارئه؛ ولهذا تراه يرسل لقلمه العنان فيختار ما يعجبه من الصور ليبلغ أعمق ما يمكن أن يبلغه من أغوار قارئه.
ولكنك تخطئ لو ظننت أنه شطح مع خياله في كتابة التاريخ إلى حدٍّ يقربه من القصة، فتاريخه تاريخٌ يتوخَّى الصدق في الرواية، على نحو يختلف بعض الشيء عن طريقة المؤرخ المحترف، فهو يبحث عن الوثائق والشواهد التي تعينه على تصوير إطار وبطانة تبرز عصره الذي يتناوله بالوصف إبرازًا واضحًا. وهو ممتاز في قدرته على وصف أوضاع الحياة وعلى أن يحيط الأشخاص والحوادث بجوٍّ نابض بالحياة، بحيث يستحيل عليك أن تقرأه دون أن تمتزج نفسك بحياة العصر الذي يقدمه إليك، وذلك كله يرجع إلى قدرته على النفاذ إلى قلب الشخص أو صميم الحادثة فيفهمها على حقيقتها ويُفهمك إياها.
له كتاب عن تاريخ إنجلترا يُصوِّر عصر الانتقال من القرن السابع عشر إلى القرن الثامن عشر، وله مقالات — كل مقالة بمثابة كتابٍ صغير — عن بعض رجال الأدب ورجال التاريخ، وهو أبرع في مقالاته منه في تاريخه؛ لأنه على كل حال مقيَّد في كتابة التاريخ ببعض القيود التي هو منها طليق حين يؤرخ لشاعر أو كاتب، على أن أسلوب الحديث فيهما متشابه، والمادة في «المقالات» أضحل منها في «التاريخ» وهو كثيرًا ما يبعد فيها عن الصواب في أحكامه، لكنه إذا كتب عن أديب صادف هواه فهنالك تجده في أعلى ذراه.
ولا يمكن الحديث عن «ماكولي» دون أسلوبه وخصائصه، فهو دفَّاقٌ سلسٌ واضح تكثر فيه المقابلة كما يكثر فيه القول القصير القوي؛ مرةً تطول معه الجمل ومرةً تقصر وتتركز كأنها الأمثال السائرة، وهو على كل حال يُعنى أكبر العناية بهندسة بنائه بحيث يخرجه متَّزنًا متَّسقًا، هنا عبارةٌ طويلة يقابلها هناك عبارةٌ طويلة مثلها، وفي هذا الجانب استعارة تقابلها في الجانب الآخر استعارةٌ مثلها وهكذا. ويؤخذ عليه جمودٌ في طريقة تفكيره وتعبيره؛ فهو يمضي في كل ما يكتب على صورةٍ واحدة وضع فيها كل ثقته، ولا نظنه قد وقف مرةً ليناقش نفسه الحساب فيرى إن كان في ذلك مخطئًا أو مصيبًا.