الفصل الأول: عصر الابتداع في النصف الأول من القرن التاسع عشر

(أ) الشعر

كان الأدب الفرنسي طوال القرن الثامن عشر — كما ذكرنا في الجزء الثاني من هذا الكتاب — أدبًا تطبيقيًّا أكثر منه أدبًا خالصًا؛ كان أدبًا أريد به أن يكون أداةً لغرض ووسيلةً لغاية، لا أن يكون في ذاته غرضًا وغاية؛ ذلك أن أقلام الكتَّاب والشعراء قد تناصرت إبان ذلك القرن على أن تنشر من الآراء والمذاهب ما ينتهي بالناس إلى ثورةٍ تحطم الأوضاع القديمة البالية. ووُفِّق أدب القرن الثامن عشر فيما أراد؛ إذ لم يكد يدنو ذلك القرن من ختامه حتى اشتعلت الثورة الفرنسية الكبرى، لكنها إذ اشتعلت نيرانها كانت كالقنبلة تفجَّرت ففتكت بالأعداء والأصدقاء على السواء؛ فتكت بأنصار الاستبداد الذين أُريدَ بها أن تفتك بهم، لكنها أحرقت مع هؤلاء بُناتَها؛ فقد بناها وسوَّاها نفر من الفلاسفة، أو من كانوا في تفكيرهم أقرب إلى الفلاسفة لأن العقل كان رائدهم فيما يكتبون، وكأنهم لم يدروا أنها حين تُشعل النار فيما حولها، ستمحو كذلك سيطرة العقل على أقلام الكتاب والشعراء لتُحلَّ محله على العرش حاكمًا آخر، هو الوجدان. وفي سيطرة الوجدان أساس الأدب الابتداعي؛ فلم يكن من الطبيعي للثوار أن يهاجموا أوضاع القرنَين الماضيَين في بلادهم، ثم يشفقوا على الأدب وحده دون غيره من سائر الأوضاع، فيتركوه على أسسه آمنًا مطمئنًا، بل ليذهب مع الذاهبين هذا اللون من الأدب الذي ساد فرنسا مدى قرنَين من الزمان، والذي تزمَّت في اتباع طائفة من القواعد شلَّت فيه الحركة وأماتت فيه النشاط، وليطلق أدباؤنا العنان لخيالهم لا يتقيدون من القواعد إلا بما تُمليه عليهم طبائعهم، وليستمدوا الوحي — لا من الأدباء الأقربين — بل من الأجداد السوالف، وأي أجداد؟ لا اليونان ولا الرومان إذ اختصَّ الاتِّباعيُّون هؤلاء بحبهم، ولسنا نريد اليوم أن نكون في ذلك أتباعًا للاتِّباعيين في حبهم وكرههم؛ ليستمد أدباؤنا الوحي من العصور الوسطى، حيث كانت للكنيسة سيادة، وحيث كان الإيمان يعمر القلوب، لكنك كثيرًا ما تجد وسط التيار الجارف في الأدب أو في الاجتماع رجلًا أو رجلَين يثبتان أقدامهما ويأبيان أن يجريا مع تيار الحوادث؛ وهكذا كان «شينييه»١ الذي أخذ ينشد شعره كأنما هو في جزيرةٍ معزولة لا يتأثر بمن حوله، فاتخذ «شينييه» اليونان مصدر وحيه لكنه مع ذلك أوقد الشعلة بضوءٍ جديد، ولهذا قدمناه في الجزء الثاني حلقة اتصال بين القديم والجديد.

(١) فرانسوا رينيه دي شاتو بريان Francois-René de Chateaubriand (١٧٦٨–١٨٤٨م)

اتخذت الحركة الابتداعية من «شينْييه» بداية، لكن البداية كانت مختلفة كل الاختلاف عن سائر الحركة كما أسلفنا؛ ﻓ «شينييه» اتباعيٌّ في صميمه لعنايته الشديدة بالصقل والتجويد، والحركة ابتداعية تُسلم زمامها للوجدان.

إذا استعرضت الأدب الفرنسي من أوله إلى آخره وجدت عاملَين يظهر أحدهما آنًا ويختفي آنًا ليظهر مكانه العامل الآخر، فإذا ما اجتمعا في أديب أو في طائفة من الأدباء كان الكمال؛ فأما أولهما فرغبةٌ في الدقة أضْفت على النثر الفرنسي خصائصه من حيث الوضوح وتوخِّي الصدق ومتابعة الواقع، وأما الآخر فميلٌ إلى زخرفة اللفظ والعناية به لذاته، فترى الأديب يحب اللغة التي يلهو بألفاظها على سنان قلمه، لا لأنه يريد أن يزيل معنًى عن صدره لا يطمئن إلا إذا أخرجه، بل لأنه يستمتع باللعب بالألفاظ نفسها، فيجد لذَّته في رصِّها على نحوٍ معلوم وتزويقها على صورةٍ معينة. وقد حدث لهذين العنصرَين أن اجتمعا في القرن السابع عشر فَحَدَّ المعنى من اللفظ وخدم اللفظُ المعنى في اتزانٍ عجيب، فنرى في أدب «راسين» و«لافونتين» واقعيةً تنشد صدق الأداء، لكنها تعرف كيف تستخدم من أجل ذلك لغةً جميلة تفتن القارئ بما فيها من روعة الفن، فلا يقال اللفظ الفخم لفخامته، ولكنه يقال لأن المعنى المراد يتطلَّبه. ذلك الالتقاء بين العنصرَين كان على أيدي فُحُول الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر، فلما جاء القرن الثامن عشر، ذلك القرن الذي كتب فيه الكتَّاب ونظم الشعراء لينشروا في كتابتهم وفي نظمهم مذاهبَ فكرية أرادوا لها أن تشيع بين الناس، تغيرت الحال، فلم تعد العناية بالفظ واجبة على الأديب، فلا عليه أن يستخدم هذا اللفظ أو ذاك، هذه العبارة أو تلك، ما دام المعنى واضحًا، ومثال هذا تراه في فولتير، وذلك هو ما وجده رجال الأدب الابتداعي عندما شبَّت الثورة الفرنسية، وجدوا واقعيةً ذهبت إلى حدِّ التطرف، فماذا تظنهم فاعلين؟ الثورة لقلب الوضع من النقيض إلى نقيضه، فلئن عُني أدباء القرن الثامن عشر بالمعنى وحده وبالواقع وحده، فلنذهب نحن اليوم إلى الطرف الآخر فلا نُعنى إلا بجمال العبارة وإلا بروعة الخيال. لم يقف الثائرون موقفًا وسطًا فيه اتزان واعتدال، لم يقلدوا أدباء الاتباع في القرن السابع عشر فيعدلوا القسمة بين اللفظ والمعنى، لأن الاتزان والاعتدال قلَّما تجدهما عند جماعةٍ ثائرة، وقد وجدت هذه الحركة الجديدة لسانها المعبر في «شاتوبريان».

وُلد «شاتوبريان» من أسرةٍ عريقة، ولو استثنينا زمالة أختٍ هزيلةٍ عليلةٍ رقيقة المزاج، صح لنا أن نقول إنه قضى طفولةً لا زمالة فيها، قضاها وحيدًا لا تصاحبه إلا الرياح والأمواج، وإلا المروج الفسيحة والغابات، فكانت العزلة التي تكتنفه وهو في داره، وظواهر الطبيعة التي تصادفه وهو خارج الدار، هما مصدرَي وحْيِه، بالإضافة إلى بعض الأدباء القدامى — مثل هوراس — الذين غذَّوا خياله بخيالهم.

بلغ السابعة عشرة فذهب إلى باريس، وطالع شيئًا من حياتها الأدبية، ثم غادر فرنسا إبان الثورة إلى أمريكا، فما إن سمع بقتل الملك لويس السادس عشر حتى عاد. ولما هدأت الحرب في أوروبا ذهب إلى لندن يعاني آلام الفقر، وهنالك أخرج باكورة آثاره الأدبية «مقال في الثورات»؛٢ فلقد كان القرن الثامن عشر يؤمن إيمانًا قويًّا بأن الإنسان في تطوره يسير نحو الكمال، وجاءت الثورة تعقد آمالها على هذا الكمال المنشود. أما «شاتوبريان» حين أصدر كتابه هذا، فلم يكن يؤمن برقي الإنسان في اجتماع أو سياسة أو دين، فلماذا إذن يخدع نفسه بآمال الثورة؟ لكنه سرعان ما نفض عن نفسه هذا اليأس، وصمم أن يُخرِج كتابًا آخر يستبشر فيه ويفرح، ويجعل الدين مصدر فرحه واستبشاره، ألم يقل رجال القرن الثامن عشر عن الديانة المسيحية إنها خرافة وجهل؟ فليُبيِّن هو للناس أنها عقيدة لها جمال فوق جلالها، ليُبيِّن لهم أنها معين لا ينضب للشعر والفن؛ ليُبيِّن لهم أنها ليست مجموعة من الشعائر الجافة بل عقيدةٌ حية. بهذا كله أخرج كتابه الثاني «عبقرية المسيحية»،٣ ومع ذلك قد تجد من النقاد من يعلقون على هذا الكتاب بقولهم إنه لا يزيد في إيمانه الحق بالمسيحية عن إيمان فولتير! إن ما حلله وشرحه فولتير بمبضع العقل الجاف، كساه «شاتوبريان» برداءٍ زاهي الألوان، وكلاهما معًا لا يعرف الإيمان الحق كيف يكون! ومهما يكن من أمر هذا الكتاب، فليست عظمته في رجاحة حججه التي يدافع بها عن المسيحية، إنما خطره في أنه رد العقيدة الدينية إلى حظيرة الفن، فهو حين مجَّد العاطفة الدينية على أساسٍ فني، كان كأنما كشف لونًا جديدًا من الجمال ينقص دولة الأدب، فكان بذلك بشيرًا بأهم عناصر المذهب الابتداعي في فرنسا. فالأدب الفرنسي كله منذ «رُنْسار» إلى «شينييه» كان يهدف إلى محاكاة الأقدمين في محاولة التعبير عن ألوان الحياة، وها هو ذا «شاتوبريان» يصيح بهم: فيمَ هذه المحاكاة للقدامى؟ لنكن فرنسيين في أدائنا، لنكن مُحدَثين في أدبنا، وإذن فلنكن مسيحيين في تمجيدنا للعقيدة وفي استحيائنا لأزهى عصور العقيدة، وهي العصور الوسطى. ولم يكن ذلك منه ثورةً دينية، إنما كان قبل كل شيء ثورةً أدبيةً فنية امتدت بعده إلى منتصف القرن التاسع عشر. وله في هذا الاتجاه نفسه كتاب «الشهداء»٤ الذي أخرجه ليكون مثالًا لهذا الفن الأدبي الجديد الذي يدعو إليه؛ الفن الأدبي الذي يستوحي المسيحية بدل أن يجعل مصدر وحيه العصور الوثنية بأساطيرها؛ فلا شك عنده في أن ديانة المسيح قد تُثير في صدر الأديب من العواطف، وتمده بأنماط من الشخصيات أرفع وأسمى من العواطف التي تثيرها في نفسه أساطير الوثنية وأنماط البشر الذين تمده بهم عصورها، فإن كان لأساطير اليونان والرومان أعاجيبها، فللعنصر الإلهي في العقيدة المسيحية ما هو أشد استثارة للعجب والإعجاب جميعًا.

لقد عُني «شاتوبريان» في أدبه بثلاثة أمور: المسيحية، والطبيعة، ونفسه. وها نحن قد حدثناك عن أثر المسيحية في أدبه، وعن تأثيره بها في آداب من جاءوا بعده حتى منتصف القرن. وأما وصفه للطبيعة، فقد جاء — كوصفه للمسيحية — رائع العبارة خلَّابها، ضحل الإيمان قليله! نعم، قد تقرنه بأديبٍ مثل «روسو» فتراه وصف الطبيعة بما لم يبلغه «روسو» سعةً ودقةً وزخرفة، ورغم ذلك ترى «روسو» في قليله وساذجه أشد منه إقناعًا لك بالطبيعة وجمالها؛ تقرأ عن الطبيعة فتتحرك نفسك لما تقرأ لأنك بصدد كائنٍ حي، وتقرأ «شاتوبريان» فترى زخرفة أقرب إلى عينَيك منها إلى قلبك وفؤادك.

و«شاتوبريان» من أكثر الأدباء تحدُّثًا عن نفسه؛ أرَّخ حياة نفسه في «ذكريات ما بعد القبر»،٥ وأراد بهذا الكتاب أن يُنشَر بعد موته (ولو أن الطابع نشره خطأً ضمن كتابٍ آخر في حياة الكاتب). وفي هذا الكتاب يتحدث الكاتب عن نفسه حديث المغرور يعلو بنفسه، ويعتدُّ بها بمقدار ما يزدري أعداءه. وهذا أيضًا تستطيع أن تقرنه بروسو، فلديه كل ما لدى روسو من اعتداد بالنفس، ثم لديه أروع ما يمكن لأديبٍ فرنسي أن يصوغه لك من عبارة، لكن ينقصه الإخلاص وأمانة الأداء؛ فبينا ترى «روسو» لا يخدع نفسه عن نفسه قط، تجد «شاتوبريان» لا يتورع عن ذلك مرارًا عدة؛ فهذا الكتاب الجميل يعطيك عن كاتبه تحفةً جميلة الصورة لكنها خاوية، يعطيك جوهرة تستوقف النظر لكنها ليست من الجوهر الحق؛ إنه يُريك من كاتبه صورة الكاتب البليغ لكنه لا يُطلعك منه على الإنسان الحي.

(٢) ألفونس دي لامارتين Alphonse de Lamartine (١٧٩٠–١٨٦٩م)

ذهب «شاتوبريان» وخلف وراءه أثرًا عميقًا؛ فهذا أدب القرن الثامن عشر الذي كان قد بلغ ختامه، يبدو إلى جانب أدبه المتدفق النابض بحرارة الحياة وقوة الخيال، نحيلًا هزيلًا باردًا خلوًا من المعنى. وقرأ الناس «شاتوبريان» فتبدَّى لهم عالمٌ فيه الطبيعة باهرة بفتنتها، وعلى بساط هذه الطبيعة الباهرة يختال الفرد من الإنسان أشم الأنف عامر القلب بالإيمان.

وأراد الله أن يصنع «لامارتين» في دولة الشعر ما صنعه «شاتوبريان» في عالم النثر؛ فلدى «لامارتين» الشاعر تجد ما تراه عند «شاتوبريان» الناثر من حب للطبيعة ومن إيمان بالعقيدة الدينية ومن اعتداد بفردية الإنسان.

ولد «لامارتين» لأبوَين عُرفا بميلهما إلى الملكية في ذلك العصر الذي ثار فيه الناس على الملوك. وقضى طفولته في داره الريفية تحيط بها حقولٌ هادئة، وتنتثر حولها تلالٌ جميلة، وفي هذه البيئة الريفية الهادئة، وهذه الأسرة العريقة المحافظة، علَّمته أمه حب الإنجيل كما فتحت قلبه لبعض الآثار الأدبية مثل أدب «تاسو»٦ من أدباء النهضة في إيطاليا، ومثل «برناردان»٧ من أدباء فرنسا المحدثين، ثم شبَّ فقرأ «شاتوبريان» و«روسو» من الأدب الفرنسي، و«ملتن» و«بَيْرُن» من الأدب الإنجليزي؛ وكانت في طفولته وصباه تكتنفه روح اكتئاب لا تعرف المرح، فلما أن ارتحل في ربوع إيطاليا زالت عنه تلك الكآبة، ولكنها سرعان ما أسلمته إلى حبٍّ عميقٍ عنيف فيه كثير من الأسى، فحرك في نفسه ذلك الحب وهذا الأسى مشاعرَ رقيقةً دقيقةً تدفقت في شعرٍ بلغ الغاية في إخلاصه وبعده عن التصنُّع والتكلف. وبهذا الشعر الذي انبثق منه كما ينبعث عن الشمس ضوءها بات «لامارتين» شاعر عصره بين قومه، وترى في «رفائيل»٨ مثالًا لحبه اليائس الحزين.
كان «لامارتين» من ضباط الحراسة للويس الثامن عشر، ثم استقال ليأخذ في مناصب السلك السياسي، فهو الآن ملحق للسفارة الفرنسية في «نابلي»، وهو الآن يعمل في المفوضية الفرنسية في فلورنسة، ثم ترك مناصب السفارة وسافر في بلاد الشرق الأدنى بعد أن أخرج «أناشيدَ سياسية ودينية»،٩ وسجَّل ذكريات رحلته في كتاب «رحلة إلى الشرق»،١٠ وهنا عاد ليغامر في لُجَّة الحياة السياسية. وكانت خطته أول الأمر أن يظل في سياسته بعيدًا عن الأحزاب، فلما سئل عند أول دخوله مجالس النواب: «أين تريد الجلوس؟» أجاب قائلًا: «على السقف.» ليرمز إلى استقلاله في الرأي السياسي، لكنه أخذ رويدًا رويدًا ينحاز إلى جانب الحزب الديمقراطي؛ وختم حياته الشعرية ببعض آثاره الخالدة ومنها «جوسلان»١١ و«مَلَك يهوي».١٢

كان «لامارتين» رغم كل ما صادفه من عقبات في حبه وفي حياته السياسية وحياته المالية — إذ أفل نجمه في السياسة بعد سطوع وأصابه الفقر بعد ثراء — مستبشرًا بالحياة لأنه كان يحمل بين جنبَيه قلبًا مؤمنًا؛ فإذا ما أرسل البصر إلى الطبيعة من حوله لم يقع على ما فيها من خسيسٍ مرذول، كأنما خسيس الحياة ومرذولها أضأل من أن تراهما عين هذا الشاعر الذي طار عن الأرض وحلق في السماء؟ نعم كان «لامارتين» حزين القلب يشوب تفكيره ظل من الشك، لكنه لم يكن حزن الناقم المتمرد، ولا شك الثائر المخرِّب، إنما كان حزنه وكان شكه على كثير من الرقة والدعة؛ فحسبه أن يكون في الحياة ما فيها من عطف الأمومة ومن حب العاشقين ومن إيمان المؤمنين.

لم يكن «لامارتين» قويًّا في أدبه الوصفي بحيث يقدم لك الصورة ناصعةً جلية؛ فالصور التي تخرجها ريشته باهتة بعض الشيء، غامضة المعالم بعض الشيء، لكنه إذا ما وصف شعورًا ألمَّ به فهيهات أن يلحق به لاحق. ولم تكن نغمات شعره مما يستوقف الآذان، ولكنها كانت تغزو القلوب.

لم يكن شعر «لامارتين» في أخريات أعوامه من القوة كما كان شعره وهو في عنفوانه، فهو من هؤلاء الشعراء الذين يرتفعون إلى قمة المجد الفني، ثم ينحدرون هبوطًا مع هرم الشيخوخة وضعفها. أراد أن يبثَّ فلسفته في شعره فكان له هاتان الآيتان اللتان ذكرناها: «جوسلان» و«مَلَك يهوي» فهو في الأولى يدير القول حول قصة صديق له كان قسيسًا بهذا الاسم، نشأ من أسرةٍ فقيرة، ولجأ إلى العزلة في الجبال فرارًا من فظائع الثورة، ولم يكن قسيسًا بعدُ، ثم رافقه شابٌّ يدعى «لورنس» اضطهده الثائرون فلاذ بالفرار، ثم تبيَّن أن «لورنس» هذا كان فتاةً متخفية في ملابس الرجال، فانقلبت الصداقة بين الزميلَين غرامًا بين حبيبَين؛ وبعدئذٍ نُصِّب «جوسلان» قسيسًا، فافترق الحبيبان، لكن الفتاة لم تحتمل صدمة الفراق فغلبتها العاطفة على أمرها، وتعهدها الحبيب في ساعات احتضارها، ثم أودع جثمانها التلال ومجاري الماء التي شهدت الغرام بينهما. وهكذا وضع الشاعر في «جوسلان» مشاعره من غبطة وأسًى، معترفًا أنه حين أنشأ هذه القصة كان يحتذي «برناردان» في قصة «بول وفرجيني».

كانت قصة «جوسلان» قصيدةً كاملةً قائمة بذاتها، لكنها مع ذلك أنشئت بادئ ذي بدء لتكون فصلًا من قصةٍ أشمل، تكون الإنسانية بأسرها بطلها، كما أنشئت قصيدة «مَلَك يهوي» لتكون في تلك القصة الشاملة فصلًا آخر. وهذه القصيدة الأخيرة تمثل أدب الشاعر حين كان في طريقه إلى الضعف؛ فنحن فيها بين جبال لبنان حيث أحبَّ مَلَك فتاةً من البشر، فلبس لها لبوس البشر ليظفر بحبها، وبهذا أراد الشاعر أن يصوِّر هُويَّ الإنسانية كلها إذا ما أسلمت نفسها لشهوات حسِّها، كما أراد بالقصيدة السالفة «جوسلان» أن يصور الإنسانية في طموحها، إذ تستمسك بما يغذي النفس لا الحس، والروح لا البدن. ولقد قيل إن القصيدتَين تُصوِّران شعر «لامارتين» في صعوده نحو الكمال، وفي هبوطه إلى الضعف.

وسنسوق مثالًا لشعره قصيدته «البحيرة»:

هكذا نُساق كل يوم نحو شطٍّ جديد،
نساق إلى غير أوبة في ليلٍ سرمدي.
يا ليت شعري — والأيام نسبحها كبحرٍ مديد —
أنلقي المرساة يومًا واحدًا في بحرها اللجي؟

•••

أيتها البحيرة! ها أنا ذا — ولم تكد تدور بنا دورة العام —
ها أنا ذا بجانب الموج الحبيب الذي ودت لو تعود إليه،
انظري! ها أنا ذا أجلس على هذه الصخرة وحيدًا،
على الصخرة التي رأيتِها جالسةً عليها!

•••

هكذا غمغمتِ تحت عميق الصخور،
هكذا لاطمتِ جنبَيها فانتثرت رذاذًا،
هكذا ألقت الريح من أمواجك بالزَّبد
على قدمَيها الحبيبتَين.

•••

أتذكرين ذات مساء إذ سبحنا في الزورق صامتَين
بين موجك والسماء، لا نسمع على بُعد صوتًا
إلا إيقاع المجاذيف يغمسها أصحابها
في موجك المتناغم الألحان؟

•••

وإن هي إلا نبرات لم تعهد الأرض مثلها
ترفُّ من الشاطئ المسحور فتُسكتَ سائر الأصداء،
ويصغي الموج إلى صوتها الرخيم
إذ يجري بهذه الكلمات،

•••

قف أيها الزمان دورتك، ويا أوقات السعادة
رويدك لا تسرعي الخطى!
لننشق منك العبير وإنه لسريع الزوال؛
فأنت من أيامنا أحلاها عبيرًا.

•••

كلا يا زمان، فما أكثر البؤساء الذين رفعوا أكف الدعاء
لنسرع الخطى! فدُرْ يا زمان من أجل هؤلاء،
وفي غضون أيامك احمل ما يشقيهم من عناء،
وعن السعداء غضَّ الطرف، إنهم سعداء.

•••

لكني عبثًا دعوت أن أُمْهَل بضع دقائق،
إذ أفلت مني الزمان وأسرع،
فخاطبتُ ليلتي: «إذن فرويدكِ أبطئي.»
لكن أقبل الفجر وبدَّد ليلي
«هيا إلى الحب، وإلى الحب هيا! لا نُبْطِئَنْ،
وبهذه اللحظة الهاربة فَلْنَسْعَدَنْ؛
ليس للإنسان مرفأ فيرسو، بحر الزمان بغير شط،
إنه يجري، ونحن في جريه نمضي!»
يا لَغيرة الزمن! أيجوز لهذه اللحظات النشوى بالنعيم
حيث الحب قد أترع كئوسنا غبطةً وسعادة
أن تزول عنا مسرعة خطاها
كأنها في ذلك وأوقات الشقاء سواء؟

•••

ويْحي! أفلن نستطيع أن نخلف بعدنا أثرًا؟
ماذا؟ أماضون نحن إلى الأبد فلا إياب؟
وهذا الذي أعطاه الزمن ثم محاه
ألن يعود مرةً أخرى فيعطيه؟

•••

أيها الأزل، أيها العدم، أيها الماضي، يا هوةً سحيقةً ظلماء!
ماذا تصنعين بالليالي التي في جوفك تبلعين؟
انطقي! أأنت رادَّةٌ إلينا لحظات النشوة العظمى
التي كانت لنا فسلبتِها؟

•••

•••

أيتها البحيرة، ويا بُكم الصخور، ويا كهوف، ويا ظليل الغاب!
أُناديكِ أنتِ التي أغضى عنك الزمان فأبقاك، بل هو خالع عليك شبابًا بعد شباب،
احفظي من هذه الليلة، أيتها الطبيعة الجميلة، احفظي
على الأقل ذكراها!

•••

كلما سكن منكِ الماء أو اضطرب بهوج الرياح
أيتها البحيرة الجميلة، وفي جبينك هذا، المشرق الوضاح،
في هذا الصنوبر الأدكن، وفي هذه الصخور الغلاظ
التي تعترش فوق مياهك،

•••

كلما هبَّ عليك النسيم هامسًا أو لامسًا،
كلما صاتت جنباتك فردت جنباتك الأخرى الصدى،
كلما فضَّض ماءَك النجمُ اللامع
بخيوط من شعاعه الوضاء،

•••

كلما أنَّتْ رياح أو تنهد عود،
كلما عبق هواؤك بأريج وعبير،
مُرِي كل ما ترى العين أو يشم الأنف أو تسمع الأذن؛
مُرِي كل هؤلاء أن تقول «لقد كانا حبيبَين!»

(٣) فكتور هيجو Victor Hugo (١٨٠٢–١٨٨٥م)

إبان أعوام الثورة الفرنسية وفي ظل نابليون وخلال الأعوام التي تلت سقوطه، أوشكت فرنسا أن تنفق جهدها كله في الحرب والسياسة، وبذلك قضت من حياتها أربعين عامًا لم تشهد خلالها من الأدباء الأعلام إلا نفرًا قليلًا. لكنه لم يكد ينقضي ثلث القرن التاسع عشر حتى نهضت طائفة من الأدباء أعادت للأدب الفرنسي سالف مجده، وأقامت الدليل على أن اللسان الفرنسي لم يزل قويًّا. وكانت هذه الطائفة الجديدة الناهضة من الأدباء ترتبط كلها معًا برباط من مذهبٍ واحد، كما هي العادة المألوفة في تاريخ الأدب الفرنسي؛ أفرادها من الشباب المتحمس الذي ينظر إلى الماضي نظرة الساخر، ويُلقي ببصره نحو المستقبل فيرى أملًا يبهر الأنظار؛ فلم يترددوا في رفع علم الثورة على تقاليد الأدب الاتباعي بغية أن يمهدوا الطريق لمذهبٍ جديد يريدون له السيادة، وقد كُتب لهم آخر الأمر أن يظفروا بما أرادوا بعد لأيٍ ومجهود. ولم يكن التجديد الذي أرادوه تافهًا ولا ضئيلًا، إنما كان تحوُّلًا يمسُّ الصميم؛ لهذا أصبحت سنة ١٨٣٠م تاريخًا مشهودًا في تاريخ الأدب الفرنسي؛ فكل عبارة جرى بها قلم في فرنسا منذ ذلك التاريخ عليها طابع التحول الذي وقع في عام ١٨٣٠م. فما الذي حدث بحيث جعل من ذلك العام فاصلًا بين عهدَين؟

كانت المدرسة الابتداعية — وأعلامها «هيجو» و«دي فِنْي»١٣ و«جوتييه»١٤ و«إسكندر ديماس»١٥ و«دي ميسيه»١٦ — تسودها بلاغة اللفظ وحب اللغة لذاتها كما أسلفنا في ذلك القول؛ كانت تسودها العناية بالتعبير حبًّا في جمال العبارة، تلك العناية التي لم يكد يبدو لها أثر طوال القرن الثامن عشر حيث ساد العقل فسَادَ تبعًا لذلك النثر لما يحمل من معنًى وما يؤدي من غرض. فلما أن بدت في البلاد بشائر الابتداع في نثر «شاتوبريان» وفي شعر «لامارتين» بدت في الروح وحدها ولم تتناول قوالب التعبير؛ فهذان الأديبان كانا يكتبان بروحٍ ابتداعيةٍ جديدة، لكنهما مثَّلا تلك الروح في صور التعبير التقليدية القديمة، فكانا كمن يصبَّان خمرًا جديدًا في كئوسٍ قديمة. ثم جاء أدباء الحركة الابتداعية القوية التي ظهرت في نهاية الثلث الأول من القرن التاسع عشر، فصنعوا لأنفسهم كئوسًا جديدة ليصبوا فيها خمرهم الجديدة؛ جاءوا فابتكروا أنواعًا جديدة من صور التعبير ليلبسوها الروح الابتداعية الجديدة؛ أدخلوا أنواعًا جديدة من أوزان الشعر، وإن يكونوا قد أبقوا على كثير جدًّا من تقاليد العروض التي سادت الشعر الفرنسي في شتى عصوره فحرمته حرية الحركة وسهولة النمو. كان ما أدخلوه من الجديد قليلًا بالقياس إلى الكثير الموروث، ولكن لهذا القليل الجديد كل الخطر، فيكفي أن تقيم الدليل على أنك تستطيع أن تهدم قاعدةً من القواعد ومع ذلك تنشد شعرًا جميلًا. يكفي أن تقوِّض من البناء عمودًا واحدًا، فإذا لم ينهدم البناء كله أنقاضًا كان في ذلك كل البرهان على أن ذلك العمود المهدوم لم يكن من البناء في صميم جوهره. وتستطيع أن تُصوِّر لنفسك عمق الأثر الذي أحدثه هؤلاء الأدباء بخروجهم على بعض القواعد السائدة حين تعلم أن «فكتور هيجو» حين أراد أن يذكر شيئًا عن «سلم خفي» وحين بالغ في جرأته فوضع لفظة «سلم» في آخر بيت وبدأ البيت التالي بلفظة «خفي» هوجم من أنصار القديم هجومًا لا تبرره إلا أفدح الجرائم. إذا علمت إذن كيف كان أنصار القديم ينظرون إلى الخروج على القواعد، تبين لك أن «هيجو» حين فصل بين هاتين اللفظتَين فوضعهما في بيتَين متلاحقَين، كان زعيمًا لثورةٍ أدبية، لا لأن هذه الحادثة وأمثالها ذات خطر في نفسها، بل لأنها دليل على أن النظرية القائلة بوجوب اتباع طائفةٍ معينة من القواعد في الإنشاء الأدبي نظريةٌ خاطئة، وإذا أنت ألقيت عن عاتقك مذهبًا كهذا، فقد حررت نفسك تحريرًا الله أعلم بمنتهاه. وهذا ما صنعه زعماء الحركة الابتداعية في فرنسا — وهو شبيه جدًّا بما حدث في الحركة الابتداعية في إنجلترا — إذ زعموا أن طرائق التعبير لا تتوقف على قاعدة أو تقليد، إنما تعتمد أولًا وآخرًا على طبيعة الموضوع الذي يريد الأديب أن يعبر عنه.

ولعل أعظم انقلاب تم على أيدي هؤلاء الابتداعيين هو ما يختص بألفاظ الشعر؛ فقد كان للشعر الفرنسي مجموعة من الكلمات لا يجوز له أن يجاوزها، ثم أخذت هذه المجموعة المحدودة تتناقص كلما تناقصت عبقرية الأديب. فليست ألفاظ اللغة كلها عند الشاعر سواء، إنما هي تنقسم طائفتَين، فألفاظٌ خسيسة لا يصح للشعر أن ينزل إلى دركها، وأخرى شريفة هي التي ينبغي أن تكون مجال الشعراء. ولا يمكن للفظة أن ترتفع إلى منزلة الشرف إذا هي دارت على ألسنة العامة ولاكتها أفواههم، أو إذا كانت لفظةً فنية تعبر عن معنًى خاصٍّ في دائرةٍ خاصةٍ من الناس؛ فإذا أراد الشاعر أن يعبر عن معنًى يقتضي لفظة من الألفاظ المحرمة وجب عليه أن يدور حول المعنى المراد بعبارةٍ كاملة لينجوَ من المحظور. صوِّر لنفسك أمثال هذه القيود التي غلَّ بها الشعراء الاتباعيون أنفسهم لتعلم كم كانت الثورة الأدبية عنيفة حين حطمت الفواصل بين خسيس اللفظ وشريفه! فقد كان لفتح باب اللغة على مصراعَيه أمام الأديب أثران؛ الأول أن انفسحت آماد القول فخرج الأدب الفرنسي من الغرفة المحبوكة المملوءة بالطُّرَف والتحف إلى حيث الهواء طلق والأفق فسيح. لكننا ينبغي أن نسارع في هذا الصدد إلى تذكير القارئ بما أسلفناه وهو أن طابع الأدب الابتداعي في فرنسا هو العناية باللفظ والبلاغة، لا الحرص على نقل الحقائق نقلًا أمينًا دقيقًا؛ لهذا لم تستخدم هذه الثروة اللفظية التي غمرت أرض الأدب في الاتجاه نحو الواقعية التي تعكس على صفحتها حقائق الدنيا كما هي، بل استخدمت هذه الألفاظ الجديدة لما فيها من ظلال وما توحيه من أثر؛ استخدمتها للزيادة من بلاغة القول لا للزيادة من المعنى وأداء الحق والواقع، لكن على مر السنين جاء الأثر الثاني لهذه الثروة اللفظية الجديدة؛ وهو أن اشتدت قدرة الأدب الفرنسي على تصوير الحق حين جاء عهدٌ سادت فيه الرغبة إلى مثل هذا التصوير.

كان القرن الثامن عشر — إذن — أعني ما قبل الثورة الابتداعية عصرًا يمجد العقل ويسعى في أدبه إلى التعبير عن الحقائق العامة في العلم والاجتماع والسياسة، وكان الفن الأدبي في ذلك العصر ميراثًا هبط إليه من القرن السالف وأخذ يتناقص على يدَيه، وأما الحركة الابتداعية التي أعقبته، والتي تم نضجها في نهاية الثلث الأول من القرن التاسع عشر فقد قررت للخيال حقه في حرية التعبير، كما قررت لشخصية الأديب، التي لا يشاركه فيها إنسان آخر، الحق في الإفصاح عن نفسها بما ترتئيه من الوسائل المؤدية إلى ذلك، فلما رد للخيال حقه الضائع أبى أن يستسلم للقواعد التي كان العقل قد فرضها على نفسه في القرنَين السالفَين. كان الأدب الاتباعي يرى من الواجب ألَّا تتداخل صور الأدب بعضها في بعض، فعجب أدباء الابتداع من هذا اللزوم لما لا يلزم؛ لماذا تحبس كل صورةٍ أدبية في حظيرة فلا تمتزج بأخواتها؟ لماذا لا تبيح للملحمة أو للرواية التمثيلية أن تمتزج بالقصيدة الغنائية فتأخذ عنها شيئًا من التعبير عن وجدان الشاعر؟ لماذا لا تأذن للمأساة أن تأخذ بنصيب من الملهاة فتخفف حدتها، وللملهاة أن تأخذ بنصيب من المأساة فتزيد من جدِّها؟ لماذا نحصر أنفسنا في حدود ما رسمه اليونان والرومان لأنفسهم من أوضاع كأنهم الخالقون ونحن العابدون؟ لماذا لا نغوص في كل عصور التاريخ فنأخذ من هذا ما يروعنا ومن ذاك ما يصادف منا الإعجاب؟ لئن كان عصر اليونان والرومان مصدر الشعر والشعور، فلقد كان العصر الوسيط الذي سادت فيه الكنيسة وصفَتْ فيه العقيدة المسيحية مصدر المعجزة والعاطفة الروحية؛ فلنمجد إذن آباءنا الذين عاشوا في هذا العصر الوسيط. وخلِّ عنك العقل ومنطقه وقيوده إذا ما ولجتَ بابًا من أبواب الخيال، فالخيال أدرى بما يلزم له من طرائق التعبير، وإذا أردت حقيقةً عامة عن بني الإنسان فحسبك أن تغوص في نفسك وخصائصها، وعن طريق نفسٍ واحدة ستجد سائر النفوس؛ فالصورة الذهنية قد تكون إلى جانب معناها في ذاتها رمزًا يرمز إلى ما عداها، وقد ترسم صورةً تاريخية لعهدٍ واحد فإذا بك ترمز بها إلى حقيقةٍ عامة تشمل كل الشعوب في سائر العصور؛ فليكن الفرد موضوعك، والخيال أداتك.

تلك كانت الدعوة التي بشَّر بها الابتداعيون وعلى رأسهم «فكتور هيجو» الذي ولد لأب كان في الجيش الفرنسي ضابطًا ممتازًا رحل بأسرته إلى إيطاليا وإسبانيا، ثم عاد إلى باريس، حيث التحق فكتور بإحدى مدارسها، فأخذت براعته تجري بالشعر وهو يافع يتلقى دروسه، فما إن بلغ العشرين حتى أصدر «أناشيد وأشعار مختلفة»١٧ وظفر براتبٍ شهري من لويس الثامن عشر فتزوج من فتاةٍ كانت رفيقة صباه. ومنذ ذلك الحين أخذت قصصه وأشعاره ورواياته التمثيلية تترى في تعاقبٍ سريع؛ فكان من الطبيعي لرجل له هذه العبقرية الممتازة وهذه الشخصية الأخَّاذة وهذا النشاط الجم الذي لا ينقطع أن يصبح زعيمًا لأدباء الابتداع. وفي سنته التاسعة بعد الثلاثين انتُخب عضوًا في المجمع العلمي، ثم غامر في بحر السياسة اللُّجِّيِّ يطفو على سطحه حينًا ويغوص إلى أعماقه أحيانًا، ويُطرد من البلاد آنًا ويعود إلى أرض الوطن آنًا، حتى وافته منيته فكانت جنازته من الفخامة والجلال بحيث خُيِّل للرائي أن فرنسا بأسرها حملت عبقريتها لتودعها أرض البانثيون (مقبرة العظماء).

ولم يكن «هيجو» غافلًا عن عظمته، بل كان من الاعتداد بمكانته بحيث رأى العظمة متمثلةً في نفسه، وجعل من نفسه لنفسه بطلًا كأبطال الأساطير؛ ﻓ «هيجو» الرجل يُمجِّد «هيجو» البطل. وكان رحب الصدر سمحًا كريمًا مع الناس أجمعين، إلا إذا آذاه إنسان في كرامته أو انتقص له من عظمته؛ فهنالك تجد البركان الثائر والليث الغاضب؛ إذ لم تكن تخالجه ذرة من شك في أنه الخير كل الخير، فمن عارضه كان بالضرورة شرًّا يجب أن يُقتلَع من جذوره.

كانت عيناه لا تدعان من تيار الحياة الدافق حوله صورة إلا أخذتاها، وكانت أذناه لا يفلت منهما صوتٌ ينطق به مَرُّ الهواء أو تلاطُم الموج، وكانت ألفاظ اللغة توحي له بما يكتب كأنها كائناتٌ حية تدور في رأسه وتتحدث إليه. فقبل أن تنعت «هيجو» بصفةٍ كائنةٍ ما كانت، يجب أولًا أن تصفه بهذه القدرة العجيبة التي أبداها في السيطرة على ألفاظ اللغة سيطرةً لم تعرف في آداب اللغات مثيلًا، قل ذلك عنه في غير تحفظ وأنت بمنجًى من الخطأ إذا استثنيت «شيكسبير»؛ فهو يخوض في غمر من الثروة اللغوية خوضًا، وتنساب بين شفتَيه الألفاظ انسيابًا، لا يجد في ذلك مشقة ولا عسرًا؛ فعلى الرغم من ضخامة إنتاجه وتنوعه، تكاد لا ترى صفحةً واحدة ليس فيها الدليل الناهض على هذه الصفة فيه؛ فكما ترسل الوردة عبقها إرسالًا لا جهد فيه، وكما يفيض عن الشمس ضوءها فيضًا، كذلك كانت ألفاظ اللغة تسيل على قلمه سيلًا تنتظمه براعة الفن وتمسك بقياده أنامل الفنان، فليس هو اللغو الفارغ الذي يصب الكلام صبًّا في غير وعي وعلى غير هدًى.

لقد أتى هذا الأديب في أدبه بالأعاجيب، فهو مستطيع أن يصوِّر أمام عينَيك أغرب ما يستطيع خيال أن يتصوره، وهو مستطيع أن ينفض عن الماضي غبار القدم فإذا هو أمامك في جلاله وجماله، وهو مستطيع أن يتغنَّى بألوان الجمال التي تبلغ من الدقة حدًّا يتعذر على غيره أن يدركه فضلًا عن أن يعبر عنه، وهو مستطيع أن ينشد على قيثارته أناشيد الحب رقيقةً حينًا، عنيفةً حينًا، وهو مستطيع أن يؤجِّج إنشاءه نارًا، وهو مستطيع أن يخفض في إنشائه الصوت ليكون صوتًا حزينًا. فلو قلت إن «هيجو» كان أعظم من أنشد الشعر الوجداني في فرنسا لما عدوت الحق، لأنه ربما كان أعظم من أنشد هذا الضرب من الشعر في آداب العالم كلها. ولعلَّه استمدَّ هذه القوة الجبارة في غنائه من امتزاج نفسه بما حوله، فهو بشعره هذا يعبر عن وجدانه ثم يعبر في الوقت نفسه عن أنغام العالم بأسره، وقد تردَّد صداها بين جنبَيه؛ فكأنما القصيدة من قصائده يغنِّيها الكون كله لا شاعرٌ واحد؛ ذلك لأن «هيجو» لم يعتزل تيار الحياة، بل امتزج به امتزاجًا جعل الحياة جزءًا منه.

ولو زعم «هيجو» أنه الأديب الفنان وكفى، لما وجد إنسانًا واحدًا يُنكر عليه ما زعم؛ لكن الغرور يخدع حتى «هيجو»! إذ ظن أديبنا العبقري أنه حين يكتب، فهو الفيلسوف وهو الأخلاقي وهو المتنبئ وهو المفكر وهو المؤرخ، ومن حقك أن تشك في أن الشاعر قد صدق حين زعم لنفسه هذا كله.

لم يبلغ «هيجو» ذروة كماله الفني طفرةً واحدة، إنما تدرج إليها في تطورٍ امتدَّ به أمدًا طويلًا؛ فهو بعد أن أصدر ديوان «الأناشيد» الذي أسلفنا ذكره، عقب عليه بديوانٍ آخر «أناشيد وحكايات منظومة»،١٨ وكانت سنُّه إذ ذاك أربعة وعشرين عامًا؛ وهو في هذين الديوانَين على شيءٍ من الانسياق لقواعد الماضي وأفكاره، ولكنك تلمس روح الأصالة فيهما تجاهد في مغالبة هذه الحوائل جهادًا دل على وجودها لكنه لم ينتهِ بنصرها نصرًا حاسمًا. ثم أخرج قصتَين نثريتَين كانتا بمثابة الإعلان عن اتجاهه الصريح نحو الأدب الابتداعي الذي لا تعرقله حوائل الماضي، ولما كان في عامه السابع والعشرين أصدر ديوان «مشرقيات»١٩ الذي جاءت قصائده بمثابة الدراسة في الفن الشعري الجديد كيف تصاغ مادته. وبعدئذٍ اتجه إلى المسرح، وفي المسرح كان جانب الضعف في المدرسة الابتداعية كلها.
نعم، كان الأدب المسرحي هو جانب الضعف في هؤلاء الأدباء الابتداعيين، ومع ذلك فقد شاء سوء الطالع أن يكون المسرح هو ميدان القتال بين الجديد والقديم! وإن في هذه الحقيقة وحدها لدليلًا على خاصةٍ يكاد يتفرد بها الشعب الفرنسي، وهي أن الشعب نفسه يساهم في المعارك الأدبية، ولا يتركها لأصحاب الأقلام وحدهم؛ فلم تكن مشكلة الابتداع والاتباع مسألةً يناقشها الأدباء والنقاد كما يناقش رجال الفن أمور فنهم فيما بينهم، بل كانت ميدان تنازُعٍ بين الناس، وكان ميدان التنازع أرض المسرح. ومن أوضح ما يوضح ضعف أنصار الأدب الابتداعي في المسرح، أنهم وضعوا لأنفسهم برنامجًا أرادوا أن يحققوه في أدبهم المسرحي، فكادوا ألا يحققوا منه شيئًا، وأول من وضع أسس هذا البرنامج هو «هيجو» نفسه في مقدمة روايته «كرمْوِل».٢٠ فلقد قيل إن الشعر في طفولة الإنسانية كان شعرًا وجدانيًّا غنائيًّا، وكان في شباب الإنسانية شعر الملاحم، أما في نضج الإنسانية واكتمال نموِّها فيجب أن يكون الشعر مسرحيًّا، والرواية المسرحية إن هدفت إلى شيء فذاك هو الحق الصراح، يجب أن تعرض لنا الرواية المسرحية أفراد الإنسان في تمام نضجهم الإنساني، ولهم كل ما ينتظر أن يكون لهم في هذه المرحلة من جمال ومن ثورة ومن فخامة ومن جلال، يجب أن تنقل لنا الرواية المسرحية حقائق الطبيعة نقلًا أمينًا، ومهمة الخيال فيها هي أن تنسِّق بين شتى العناصر في وحدةٍ متصلة الأجزاء؟ وليس من واجبها أن تقيِّد نفسها بقيود الماضي من حيث وحدة الزمان ووحدة المكان،٢١ إذ كل واجبها في هذا الباب أن تراعي وحدة العمل دون غيرها، فنشاط الأشخاص فيها يجب أن يكون موصول الحلقات، ولا عبرة بعد ذلك أكان مجال هذا النشاط مكانًا واحدًا أم أكثر من مكان، يومًا واحدًا أم أكثر من يوم، لكن تصوير الطبيعة الذي أراده «هيجو» لنفسه ولغيره من أدباء المسرح يستحيل أن يتحقق في نطاق المسرح على ضيقه، إنما مجال ذلك القصة؛ ومن هنا كان أساس الفشل.

كانت عبقرية «هيجو»، بل عبقرية أدباء الابتداع قاطبة، في الشعر الوجداني؛ فالشعر الوجداني الذي تنحصر كل مهمته في التعبير عن عواطف الأديب نفسه، عواطفه الفردة التي يتميز بها عن سائر أهل الأرض جميعًا؛ الشعر الوجداني الذي تنحصر مهمته في هذه الفردية هو صميم الحركة الابتداعية في الأدب؛ لذلك تجد «هيجو» في مسرحياته فاشلًا إلا فيما تحتوي عليه تلك المسرحيات نفسها من مقطوعات تعبر عن وجدان الشاعر! فهو حين أخرج روايته «هِرْناني»، ومُثِّلت في «المسرح الفرنسي» أحدث ضجة بل أحدث معركةً حقيقية بين جدران المسرح إبان تمثيلها، كان يناصره فيها جماعة من الشبان ويعارضه قوم ممن استمسكوا بالتقاليد المسرحية، ودوَّى في المكان صوتٌ قائل: «اقتلوه!» ولعلك من هذا وحده تستطيع أن تقدِّر ما بلغته حماسة القوم في النزاع الأدبي القائم، وما بلغته رواية «هيجو» الأولى من البعد عن التقاليد. وقد كان يكون هذا التجديد محمدة لولا أنه لم يكن في حلبة الأدب المسرحي من فرسانها. وتوالت رواياته المسرحية ثم انتهى أمرها جميعًا إلى الفشل.

نعود إذن إلى شعره الخالص؛ فقد صدر له بعد ديوان «المشرقيات» ديوانٌ آخر عنوانه «أوراق الخريف»٢٢ الذي جاء آيةً في الشعر الوجداني، فها هنا بثَّ الشاعر ذكرياته وهواتف قلبه وأمنيته في حياةٍ هادئة، وها هنا أبدى الشاعر عطفه على كل عنصر من عناصر الطبيعة مؤداه الهدوء والقرار، كما أبدى عطفه على الإنسانية كلها وإيمانه بالله وأمله في الخلود. ثم أصدر «أغاني الشفق»٢٣ وفيه ارتيابٌ وهَمٌّ وقلق، فهو ساخط على الحاضر كما يراه متمثلًا في ملكيةٍ ضعيفة، ممجد لشيئَين يراهما جديرَين بكل إجلال، نابليون في الماضي القريب، وطغيان قوة الشعب في المستقبل المرجو طغيانًا يثل عروش الملوك؟ وبعد ذلك ظهر له «أصوات باطنة»٢٤ استأنف فيه شعائر ولائه وتمجيده لنابليون من جهة، ورجاءه في أن يقوى سلطان الشعب من جهةٍ أخرى. وهنا أدار «هيجو» أذنَيه إلى الطبيعة، فصدر له ديوان «البقرة»٢٥ الذي رمز به إلى أمومة الطبيعة للكائنات الحية جميعًا ورعايتها لهم، وهو يمضي بعدئذٍ في ديوان «أضواء وظلال»٢٦ لينبئنا أن الطبيعة ليست أمًّا رءومًا وكفى، بل هي كذلك معلمة للنفس مُهذِّبة للقلب توحي له بما توحي. وكان الشاعر قد بلغ عندئذٍ عامه الأربعين تقريبًا، ثم صمتت قيثارة شعره الوجداني نحو ثلاثة عشر عامًا خاض خلالها بحر السياسة المتلاطم الأمواج، وفي هذه الفترة لاقى ما لاقى من أحزان وكوارث؛ فابنته وزوجها لقيا حتفَيهما مغرقَين، وهو أصابه النفي! ومن أروع ما أنشأه في نهاية هذه الفترة قصيدة «ألوان العقاب».٢٧
ثم عادت قيثارته إلى الغناء، فأخرج «التأملات»٢٨ في عدة أجزاء ضمَّن قصائدها الأولى ذكرياتُ ماضيه، ثم عقب على هذه بأحزانه على ابنته، ثم ختمها بمجموعةٍ رائعة امتزج فيها الظل والنور، فهو مُشرقٌ مرةً، كئيب النفس مرةً. وبعدئذٍ اضطلع الشاعر بإنتاجٍ فنيٍّ عظيم تطلَّب منه كل ما وهبه الله من نبوغ في الشعر الوجداني، إذ أراد أن يعرض صورًا متفرقة من تاريخ الإنسانية كلها، فصدر الجزء الأول من «أسطورة القرون»٢٩ وعمره سبعة وخمسون عامًا. وهو في هذه الآية المجيدة الخالدة ينشر أمام ناظرَيك حياة الإنسانية منذ ظهرت حواء إلى أن يُنفَخ في الصور يوم الحساب؛ فتنشرح صدرًا لما تراه هنا وتضيق صدرًا لما تراه هناك، لأن الإنسانية في تاريخها تُبشر بالأمل مرةً وتبعث على اليأس أخرى؛ فهذا عظيم بلغ قمة المجد، وهذا مجرم تتبعه القصاص. والأمل الأكبر على كل حال هو في مجموعة الشعب، فلئن برهن الملوك على أنهم طغاة، والقساوسة على أنهم أشرارٌ مناكيد فليكن بطل الملحمة كلها هو الشعب بأسره، لا هذا الفرد ولا ذاك. لقد جاءت «أسطورة القرون» دعامةً للدعوة الديمقراطية، ثم ما هو إلا أن أخرج الأديب للناس كتابًا آخر، ليكون للديمقراطية دعامةً أخرى، ذلك هو كتاب «البؤساء»٣٠ وكان له من العمر إذ ذاك ستون عامًا، والكتاب أقرب إلى أن يكون ملحمةً نثرية منه إلى أن يكون قصةً بالمعنى الدقيق، فالبطل طريد المجتمع لكنه يحمل بين جنبَيه نفسًا أبيَّة، وكل صفحة من الكتاب تستوقف منك النظر والسمع والحواس جميعًا، فالكاتب يؤرخ لك مرةً، ويقصُّ عليك مرةً، ويصف ثالثةً، ويغني رابعةً، ويتفلسف خامسةً، وهكذا دواليك تتوالى عليك الصور شتى كأنك في حلمٍ يثير فيك الفزع.

جاوز الشاعر الستين، فالسبعين، فالثمانين، وآثاره تترى تباعًا. ونحن إذ نقدم لك «هيجو» في صفحاتٍ نُحسُّ كأنما نحاول أن نصبَّ البحر الخضمَّ في كوب. وحسبنا أن نقول إن دولة الشعر تفخر أن كان بين أعلامها «فكتور هيجو».

وهاك بعض أمثلةٍ من شعره:

لو كانت أشعاري مُجَنَّحَةً؛
مجنحة كأنها عصفور،
إذن — في حسنها ورقَّتها —
لودَّتْ إلى بستانك الأغنِّ تطير.

•••

لو كانت أشعاري مجنحةً؛
مجنحة كأنها الروح،
لطارت إلى دارك السعيدة دفئًا
كأنها شرر في الهواء يلوح.

•••

لو كانت أشعاري مجنحةً؛
مجنحةً كأنها الحب،
لما انفكت في صفائها وولائها
نحو دارك تسري، سعدُها القُرب.
وهذه قصيدةٌ أخرى عنوانها «ما دمت قد وضعت شفتيَّ»:٣١
ما دمتُ قد وضعتُ شفتيَّ على كأسكِ المترعة؛
ما دمتُ قد أسندتُ على كفيكِ شاحب جبهتي؛
ما دمتُ قد تنفستُ أريجًا ذكيًّا
عبقت به روحكِ عطرًا هو الآن في ظلمة القبر؛

•••

ما دمتُ قد نعمتُ بالإنصات إليكِ تُحَدِّثين
بكَلِمٍ يفيض له القلب معقل الأسرار؛
ما دمتُ قد رأيتُ العبرات، ما دمتُ قد شهدتُ البسمات
على فمكِ إذ هو إلى فمي، وعلى عينيكِ إذ هما إلى عينيَّ؛

•••

ما دمتُ قد رأيتُ على جبهتي الشعاع ساطعًا
من نجمكِ — وا أسفاه! — نجمكِ الذي غرب إلى الأبد؛
ما دمتُ قد رأيتُ في تيار دهري قد سقطَتْ
ورقة وردٍ قطفتُها من دهرك؛

•••

ففي مكنتي الآن أن أقول للأيام التي أسرعت خطاها:
اذهبي! إلى الأبد اذهبي! فهيهات أن تزيديني هرمًا!
امضي بأزهارك التي ذبلت أوراقها؛
إن في طوية نفسي زهرةً هيهات أن تُقطَف،

•••

في استطاعتكِ أن تَرُجِّي من الفؤاد إناءً
أترعتُه ليرويني، لكنكِ لن تُسيلي منه قطرةً واحدةً؛
اصنعي ما شئتِ، ففي الفؤاد شعلة لن تستحيل رمادًا!
اصنعي ما شئتِ، ففي القلب غرام لن يمحوه نسيان!
وهذه قطعةٌ أخرى عنوانها «القبر والوردة»:٣٢
قال القبر للوردة:
«ماذا صنعتِ يا زهرة العشاق
بقَطْرٍ به الفجرُ رواكِ؟»
فقالت الوردة للقبر:
«وأنت ماذا صنعتَ بالأولى هبطوا
جوفكَ الذي لا يني الأجسادَ يلتقط؟»

•••

وقالت الوردة: «أيها القبر البهيم
من ذلك القَطْر أصنع — لا أرى —
شهدًا شهيًّا وعنبرًا!»
قال القبر: «يا وردةً شائكة،
كل روح هنا قدمَ
صيَّرتُه من ملائكة السما.»

(٤) ألفرد دي فني Alfred de Vigny (١٧٩٧–١٨٦٣م)

ربما جاز لنا أن نقسِّم خصائص الأدب الابتداعي قسمَين؛ فهو أدبٌ يميل إلى التنوع والخصوبة وسعة الأفق وارتفاع النفس من جهة، وهو أدبٌ يختص الفرد بكل عنايته من جهةٍ أخرى. وقد ظهرت هاتان الخاصتان معًا في أدب «فيكتور هيجو»، ثم انشعبتا منفصلتَين عند اثنين من زملائه، في «ألفرد دي فِنْي» عُني بالأولى، وعني «ألفرد دي ميسيه» بالثانية.

التحق «دي فني» بالجيش ضابطًا، فتبع في ذلك مهنة أبيه، ولكنه أديبٌ مطبوع، فلم يكن مناصٌ من أن يقرأ أدبًا وأن ينتج أدبًا؛ فعبَّ من الأدب اليوناني القديم عبًّا، كما قرأ العهد القديم من الكتاب المقدس، ودرس ما كتبه فلاسفة القرن الثامن عشر. ولم يكد يبلغ الفتى عامه الثامن عشر حتى أنشأ قصيدةً رائعة عنوانها «عروس الغابة»٣٣ وهي تفوح بأريج اليونان، فجاءت القصيدة مبشرةً بالروح اليوناني الذي ظهر واضحًا في شعر «شنييه» الذي أسلفنا الحديث عنه. وبعد ذلك بأعوامٍ أربعة أصدر أول دواوينه، ثم أعقبه بعد أربعة أعوامٍ أخرى بديوانٍ ثانٍ أطلق عليه «أشعار قديمة وحديثة»٣٤ ضمنها قصيدته الرائعة «موسى»٣٥ الذي صوَّره صاعدًا جبلًا وقد تجسدت في شخصه العزلة كما تمثل فيه عبء العبقرية الباهظ؛ فالعبقرية عبءٌ يضطلع به العبقري. وكان الأمل الذي يتردد في نفس موسى، وهو في عزلته تلك، أن يختاره الله إلى جواره، فقد أدى رسالته وبقي على من بعده أن يسيروا بالشعب في الطريق الذي رسمه.
ولما بلغ «دي فني» الثلاثين من عمره، غادر الجيش وتزوج من سيدةٍ إنجليزية، وأخذ يقرأ الأدب الإنجليزي في شغفٍ أغراه بنقل بعضه إلى الفرنسية، فترجم عن شكسبير روايتَيْ «عطيل» و«تاجر البندقية»، ومُثِّلت الأولى في جوٍّ صاخب من تصفيق الشبان الذين حملتهم الثورة الأدبية الابتداعية على تيارها الدافق. ومما هو جدير بالذكر هنا أن لفظة «منديل» وردت في هذه الرواية ونطق بها الممثلون على المسرح، فما كان أشأمه من يوم عند أنصار القديم أن يروا الأدب المسرحي قد تهدَّمت أركانه ودخلت فيه ألفاظ لم تكن من النخبة الشريفة التي كان لها وحدها حق الدخول في المسرح! كيف جاز لأديب وكيف جاز لممثل أن يستخدم لفظًا كهذا تواضع العرف الأدبي على ألَّا يُستخدم؟! لكنها الثورة الأدبية الابتداعية تقوِّض من أوضاع القديم حجرًا بعد حجر، ومن ورائها الشبان المتحمسون يُصفِّقون إعجابًا. وأخرج «دي فني» روايةً تمثيلية عنوانها «تشاترتون»٣٦ صادفت في عالم المسرح نجاحًا عظيمًا، وإن يكن نجاحها ذاك في رأي النقاد اليوم أكثر مما تستحق. ومضت سنوات عشر بعد «تشاترتون» فعُيِّن «دي فني» عضوًا في المجمع العلمي الفرنسي، وقد كانت تلك الرواية بمثابة قمة صعوده، لم يكد يخرج بعدها شيئًا سوى طائفة من جيد قصائده.
كان «دي فني» بين زملائه وأترابه فريدًا وحيدًا، لا يتأثر في قليل أو كثير بأدب معاصريه، بل لا يمزج نفسه بنفوس معاشريه، كأنما استطابت تلك النفس الفريدة أن تعيش من برجها العاجي في عزلة عن الناس؛ واكتفى من دنياه بأفكاره وخواطره يجعل منها عالمًا خاصًّا له يحيا بين جنباته، على نحوٍ كاد معه أن يرى شيئًا من الخطيئة في أن يخرج تلك الأفكار والخواطر في أدب يقرؤه سواه. ﻓ «دي فني» لم ينظر إلى الحياة نظرة المتفائل، شَخَص إليها ببصره فما وقع منها البصر على شيءٍ يسحره ويفتنه، ولم يرَ في مستقبل الحياة من الرجاء ما يُعوِّض نقصها الراهن؛ فمستقبلها يبدو له معتمًا كحاضرها. فبهذا اليأس انكمش شاعرنا في قوقعته لا يريد من حياته شيئًا، لكن ذلك اليأس لم ينتهِ به إلى ثورة من غضب ومقت، بل كانت نتيجته شعورًا بالإشفاق على بني الإنسان، مَن صنع منهم الخير ومَن صنع الشر على السواء، وأخذ ينثر يأسه هذا في أدبه، ففي «غضبة شمشون»٣٧ عبَّر عن يأسه من الحب الصحيح، وفي «جبل الزيتون»٣٨ جعل المسيح يبحث عن الله عبثًا، وعلى مقربة منه يهوذا متخفيًا ليعبر على لسانه عن يأسه من الدين. وماذا ترجو من شاعر ينظر إلى الأرض فلا يراها — كما يراها غيره — أمًّا رءومًا بل قبرًا تسوَّى فيه الأجساد جثثًا هوامد؟ ومع ذلك كله فليس هو بالناقم على السماء ولا بالساخط على الأرض ولا بالمتمرد على ما أريد للإنسان، فعليه أن يلاقي حتفه إذا ما جاءه الأجل راضيًا بقضاء الله فيه كما قال في آيته الرائعة «موت الذئب»٣٩ إذ قال عن الذئب الذي تعقَّبه الصائدون حتى أوردوه منيته: إنه لاقى الردى صامتًا، فكان بذلك كأنما يعبر عما كُتب للإنسانية جميعًا أن تلاقيه. كان «دي فني» بين معاصريه الأدباء مفكرهم الهادئ الرصين، فإن أزلت عن شعره ازدهار الألوان وأنغام الألفاظ، بقي لك فكره الخالد.
وهاك مثالًا من شعره؛ جزءًا من قصيدة «البوق»:٤٠
أُحبُّ صوت البوق يرنُّ في جوف الغابة إذا أمسى المساء،
أُحبه إن كان نعيًا لصيد يتهدده الخطر،
أحبه إن كان وداعًا لصائد يردده خافت الأصداء،
وتحمله ريح الشمال من ورقة إلى ورقة فوق الشجر.

•••

لطالما جبت وحيدًا في ظلام الليل إذ الليل انتصف،
فسرَّني صوت البوق حينًا، وأحيانًا صوت البوق أبكاني!
إذ تمثلت في صوته أصوات عصرٍ سلف
أطلقتْ نُذُرًا بوشيك موت لأبطال وشجعان.

•••

أيها الجبل اللازوردي! أيها البلد الحبيب!
إيه يا صخور «فرازونا» ويا رءوس «ماربوريه»
يا مساقط الماء اكتسحت معها أحمال الجليد،
ويا جبل البرانس بالمنابع والأنهار والسيول تجري في حواشيه!

•••

يا جبالًا أثلجت وأزهرت فتربع فوق عرشها فصلان؛
عرش له الثلج هامٌ والمرج موطئ الأقدام،
ها هنا يطيب المقام، ها هنا تُنصِت الآذان
لصوت البوق البعيد يرنُّ حزينًا حلو النغم.

•••

رُبَّ مسافرٍ حين سكن الهواء
هزَّ الليل بصوتٍ قوي،
بنشيده المنغوم اختلط الثغاء
من حملٍ رنَّ بجرسٍ معدني.

•••

لم يفرَّ الظبي هاربًا بل ظل مُصغيًا،
جمد الظبي فوق التل واستقر،
وفي هدير الماء إذ تحدَّر داويًا
امتزجت شكاته بنشيد عهدٍ غَبَر.

(٥) ألفرد دي ميسيه Alfred de Musset (١٨١٠–١٨٥٧م)

«دي فني» و«دي ميسيه» نقيضان، فلئن كان الأول بين زملائه المفكر الرزين الهادئ، فقد كان الثاني بمثابة الطفل المدلَّل رعونةً وغرامًا وجاذبيةً وجريًا وراء الشهوات، لكنه مع هذا كله كان الشقي العاثر الجد، وكان شعره سجلًّا لهذه المشاعر المتقلِّبة وهذه الحالات النفسية المختلفة التي تعتريه آنًا بعد آن، وهذا الحب الذي كان دائمًا ينتهي به إلى الفشل، وهذا اليأس الذي تولَّاه آخر الأمر.

أبوه هو الذي أرَّخ له «روسو» وإذن فقد تشرَّب الأدب منذ نعومة أظفاره عن أبٍ أديب، فلما أن شبَّ تلفَّت حوله فإذا المجد السياسي الذي ازدهر على يدَي نابليون قد انقضى، وإذا بالإيمان الديني الذي كان ذات يوم يعمر القلوب قد مضى؛ فماذا بقي حيًّا بين الأحياء يستمسك به؟ بقي له الشعر، فهذا هو شعر «شينييه» يُطبع ويُنشر، وهؤلاء هم «لامارتين» و«هيجو» و«دي فني» يفتحون أمام خياله المتوثب آفاقًا فسيحة الأرجاء، وهذا شاعر الإنجليز «بيرن» قد خلف للناس «تشايلد هارلد» و«دون جوان»، فإن كانت هذه الثروة الشعرية كلها أمام عينَيه، وإن كان الله قد خلقه شاعرًا، فليمرح إذن في جو خلقه الله ليعيش فيه.

كان «دي ميسيه» شاعرًا من شعراء الابتداع، مدفوعًا إلى ذلك بفورة شبابه، أكثر منه بعقيدة وإيمان؛ فقد تجمَّعت فيه خصائص الشباب على نحو ما تجمعت في «بيرن» من قبله، فكنت تراه في عامه التاسع عشر شابًّا مستهتِرًا ساخرًا شكاكًا أفاكًا؛ وبهذه الروح أنشأ الشعر أول الأمر، لكن بعض هذا الشعر الأول جاء جيد الإنشاء، وكان لبعض مقطوعاته وأبياته من الرشاقة ما يذكر بخير الشعر وأجوده. ثم مرَّ الشاعر بعد ذلك الشطر الأول من حياته الشاعرة في دور انتقال انتهى به إلى ما خُلق له، فلم يكن «دي ميسيه» ابتداعيًّا خالصًا تذهب به الحماسة إلى الاتجاه الجديد مذهبًا ينكر معه الأعلام القدامى؛ فلئن أُعجِب ﺑ «هيجو» فقد أُعجِب كذلك من الاتباعيين القدماء ﺑ «راسين»، فشاعرنا كانت له شخصيته الفذة التي تأبى أن تذوب في هذه المدرسة أو تلك. نعم لم يكن «دي ميسيه» من الأساطين القادة، وكانت لقدرته وموهبته حدودها، لكنه أراد ألَّا يشرب إلا من كوبه الصغير، وألا يستوحي إلا نفسه؛ وكان ما احتوى عليه ذلك الكوب حبًّا وشبابًا ممزوجَين بشيء من دواءٍ مرير.

ففي عامه الثالث بعد العشرين كان مع الكاتبة القصصية الفرنسية «جورج ساند» — وسنحدثك عنها في فصلٍ تالٍ — كانا معًا في ربوع إيطاليا، وها هنا اعتراه يأس بعد ما كان قد ملكه من غرور، وها هنا عرف كيف تكون الحياة قاسية على الأحياء، عرف ذلك لا بقوة خياله بل بدرسٍ من الواقع الذي يخوض فيه ويعانيه، ولكنه لم يلبث أن عاوده شيء من طمأنينة النفس، واستيقظ من الشاعر نبوغه الحق، فلم يعد ذلك الشاب الذي إن أخذه اليأس فعن رعونة الشباب، وإن رقَّ حسُّه فعن ضعف وانحلال، كلا بل أخذ الآن يغني غناءً قويًّا ينبعث من أعماق قلبه، ويوحي به ما يصادفه في إيطاليا من لذة وألم، وبهذه الروح أنشد «الليالي»؛٤١ فكأنما الألم الذي عاناه وهو في إيطاليا قد أنضج فيه الشاعرية، وأنطق لسانه بأجود قصائده.
على أن عظمة «دي ميسيه» هي لا شك في رواياته التمثيلية، فهو في رواية «الكوب والشفاه»٤٢ يصور صاحب العاطفة الشهوانية الجامحة وقد أراد أن يهتدي إلى طهر الحياة ونقائها فلم يوفَّق، وفي «نامونا»٤٣ يمثل الحب وقد أخذ يُغري فريسته بمغريات الشهوة ومثيراتها؛ ثم أراد في روايته التاريخية «لورنزاشيو»؛٤٤ أن يحاكي شيكسبير فكان له منه شيء ثم خانته قدرته المحدودة أن يبلغ مداه، وأطول قصصه النثرية «اعتراف ابن العصر»٤٥ الذي «تقيَّأ الحق على صفحاته» — على حدِّ تعبيره — وخلاصة الكتاب أن يبين أن حياة الدعارة منتهية بصاحبها إلى تشاؤم بالحياة كلها. وله كذلك طائفة من القصص القصيرة تُعدُّ من أبرع ما أنتجه الخيال في هذا الباب.
على أن «دي ميسيه» قد وازن آخر الأمر بين رهافة الحس ورجاحة العقل، بين العاطفة الهوجاء والعاطفة الرشيدة في «أهواء ماريان»٤٦ وفي «ليس في الحب مهاذرة»٤٧ وغيرهما، مما أقام به الدليل على أن الفن الابتداعي يستطيع بشيء من الاتزان أن يبلغ المثل الأعلى للفن الاتباعي في آنٍ معًا؛ ففي هذه الآثار الأدبية التي أنتجها أخيرًا التقى جلال الاتباع بجمال الابتداع، وتَقابَل العقلُ والقلب، وأدنانا الشاعر من شيءٍ شبيه ببعض ما جادت به قريحة الفنان الأكبر «شيكسبير».

ومن شعره:

أغنية

إذا المرء لم يسعده نجمه،
فضاع الأمل،
وغاض الجذل،
وأراد دواءً يزول به همُّه،
فالموسيقي دواؤه،
والجمال شفاؤه.

•••

ما أبعد الفرق في قوة الفعل
بين وجوه الملاح
وبين عُدَّة وسلاح!
خير ما في الحياة من فضل
نغمٍ حلوٍ حنون
أحبه السالفون.
وهذه قصيدةٌ أخرى له عنوانها «في امرأةٍ ماتت»:٤٨
كانت جميلةً، ذلك إن كان «الليل»
كما صورته ريشة «أنجلو»
نائمًا في محرابه المظلم
جامدًا، يعدُّ جميلًا.

•••

كانت محسنةً، ذلك إن كفانا
من الإحسان أن تنفتح الكف وتعطي،
لا يرى الله عطاءها ولا يقول فيه قولًا،
كانت محسنةً إن عُدَّ الذهب الذي لا رحمة فيه إحسانًا،

•••

كانت تفكر، ذلك إن كان اللغو الفارغ
يقال في صوتٍ منغمٍ رخيم
كأنه خرير الماء،
إن كان ذلك تفكيرًا وتعبيرًا.

•••

كانت تصلي، ذلك إن كانت العينان الجميلتان
تصوَّبان نحو الأرض آنًا،
وتصعدان نحو السماء آنًا،
مما يجوز أن يُعدَّ صلاة.

•••

كانت تبتسم، لو كانت الزهرة
التي يتفتح كمها
تنفرج إذا ما مسَّها
الهواء البليل الذي يمضي عابرًا فينساها.

•••

كانت تبكي، لو كانت كفُّها
الموضوعة باردةً على قلبها،
تحسُّ مرةً واحدة — وهي التي في جسد من طين —
بقطرات الندى ساقطة من السماء،
كانت تحب لو لم تقف كبرياءها
حارسًا على قلبها العقيم فيحول بينه وبين الحب،
كأنه المصباح نوقده إلى جانب اللحد،
فضوءُه لا يهدي من رقد فيه.

•••

إنها ماتت دون أن تحيا،
لم يكن لها من الحياة إلا صورة الحياة،
سقط الكتاب من كفَّيها
دون أن تقرأ من الكتاب شيئًا.

(٦) ثيوفيل جوتييه Theophile Gautier (١٨١١–١٨٧٢م)

بلغ الشعر الوجداني الذي يعبر فيه الشاعر عن نفسه أقصى مداه في شعر «ميسيه» وها نحن أولاء نصادف شاعرًا آخر من شعراء الابتداع يتخذ لابتداعه طريقًا آخر غير الطريق التي سلكها «ميسيه». فها هنا عند «جوتييه» نجد شاعرًا لا يُنطِق بشعره دخيلة نفسه، بل يُخضِع نفسه للموضوع الخارجي الذي يستوقف حواسَّه والذي يستثير فيه قول الشعر؛ ﻓ «جوتييه» حين يكتب الشعر بمثابة عينٍ ترى ويدٍ تلمس؛ إذ هو يتخذ من نفسه أداة تخدم الشيء الخارجي، فالشيء الذي يدور عنه القول هو هنا صاحب السلطان.

ولقد حدثناك عن رواية «فيكتور هيجو» «هرناني» كيف جاءت فاتحةً لعهدٍ جديد تصدم أنصار القديم حين تحطم لهم بعض القواعد التي قدَّسوها والتي ظنوا أن لا أدب بغيرها، وذكرنا لك كيف كان الشعب نفسه يشترك في جوف المسرح في المعركة الناشبة بين أنصار القديم وأنصار الحديث؛ فقد كنتَ تسمع تصايحًا وتراشقًا بالسباب أحيانًا بين هؤلاء وهؤلاء. ولكي نقدم لك صورةً دقيقة لإخلاص «جوتييه» للمذهب الابتداعي الجديد، نروي لك أن صديقًا شاعرًا طلب إليه أن يحضر ليساهم في المعركة الدائرة رحاها حول «هرناني» فأقسم «جوتييه» بالجمجمة التي قيل إن الشاعر الإنجليزي «بيرن» كان يشرب فيها الخمر، إنه لن يتخلف عن الأخذ بنصيبه في مظاهرة الجديد؛ وفي هذا القسم وحده ما يكفيك دلالة على روح الشاعر الذي نقدمه الآن؛ ﻓ «بيرن» رمزٌ قوي لروح الابتداع، وشربه الخمر من جمجمة علامةٌ واضحة لحياة ترسل نفسها مع العاطفة دون العقل. هكذا أخلص «جوتييه» الولاء لمذهب الابتداع، بحيث اتخذ من «مشرقيات» «هيجو» دستوره في الشعر، و«هيجو» في «المشرقيات» لم يجعل غاية من فنه إلا الفن لذاته، وترك لنفسه الحبل على الغارب تفيض بما يملؤها، لا يراقبها في فيضها إلا ضوابط الفن وحدها. وعلى هذا النحو أخرج «جوتييه» أول دواوين شعره «أشعار»٤٩ وكان له من العمر إذ ذاك تسعة عشر عامًا، ثم أخرج «ملهاة الموت»٥٠ وفيه يسوق صورًا نواصع من «رفائيل» لامارتين و«فاوست» جيته، و«دون جوان» بيرن، ليقيم بها البرهان على أن المعرفة والمجد والفن والحب كلها عبث لا جدَّ فيه.
شغل «جوتييه» نفسه بالنقد الأدبي حينًا وبالنقد الفني حينًا، فهو اليوم في مسرح وهو اليوم في متحف، ليسمع ويرى ثم ينقد، وكان في نقده أقرب إلى أن يقدم لقارئه آثار ما يسمع وما يرى منه إلى أن يصدر له أحكامًا. وأروع ما كتبه في النقد الأدبي هو ما اختص به بعض أدباء القرن السابع عشر، ونشره في مجلدٍ واحد مع دراسته للشاعر «فيون»٥١ بعنوان «الشوامخ».٥٢

ولما بلغ التاسعة والعشرين من عمره، شدَّ رحاله إلى إسبانيا فإيطاليا فالجزائر فالقسطنطينية فروسيا فاليونان، وهو في كل هذه الرحلات ينقل عينَيه فيما يصادفه فكأنما هو يرى في كل شيء فتنةً في اتساق الألوان. لقد كان العالم في رأيه مجالًا للعين ترسل في جنباته البصر لتشهد هذا الجمال اللوني، فهو لم يسافر أسفاره تلك ليدرس الحياة، بل سافر ليرى «بديع صنع الباري». نعم سافر ليرى، حتى إذا ما عاد وأرجعت له ذاكرته القوية ما رأى، أخذ يرسم للقارئ صورة بما حباه الله من قدرةٍ عجيبة على وعي ألفاظ اللغة واستعمالها في مواضعها الصحيحة، بحيث يقرأ القارئ فكأنه يرى ما كان قد رآه الكاتب، فلا تنحرف الصورة في موضع ولا يخبو لونها في موضع، بل هي كاملةٌ زاهية في كل جوانبها على السواء، فهو في إنشائه مصوِّرٌ يستخدم الألفاظ والقلم مكان ريشة الفنان وألوانه. وليس المعجم في عُرفه مجموعة من ألفاظ رُصَّ بعضها إلى جانب بعض على نظامٍ معلوم، إنما هو صندوق من جواهر يسطع لونها ويتلألأ بريقها، ومهمته أن يختار من هذا الكنز الحقيقي جوهرةً من هنا وجوهرة من هناك ليصوغها الصياغة بمعناها الحرفي الذي يفهمه الجوهري حين ينسِّق أحجاره الكريمة تنسيقًا يرضي قواعد الفن.

وكتب «جوتييه» قَصصًا يخاطب به الطبقة الوسطى، وقد وُفِّق فيما كتب من حيث جودة الفن والصياغة، أما محصوله الفكري فليس مما يميز نابغًا من أوساط الناس، فآراؤه فيما عدا نظراته في الأدب والفن، لا ترتفع كثيرًا عن آراء هؤلاء. وقد كان في حكاياته محبًّا للصور الغريبة التي تثير في قارئه العجب والدهشة، وخير ما أنتجه في هذا الباب «الضابط فراكاس»٥٣ وهي حكاية عن جماعة من الممثلين الجوَّالين في عهد لويس الثالث عشر.

و«جوتييه» في شعره — كما هو في نثره — صائغ يصوغ اللفظ الجميل في سبكٍ جميل، فليس همَّه أن يثبت خواطره ومشاعره، كلا فهذه فردية عُرف بها غيره من أدباء الابتداع، أما هو فيريد وصف الشيء لا وصف ما يدور في نفسه؛ إنه اختار لنفسه موقف الرسام والصائغ؛ فهذه هي الحياة يتلاطم موجها حوله، لكنه لا يريد منها شيئًا لأنها ليست غايته، غايته الأولى والأخيرة أن يرى بعينَيه لا بقلبه، وأن يرسم لقارئه ما رآه مزخرفًا جميلًا؛ وبهذا كان «جوتييه» حلقة اتصال بين مدرسة الابتداع التي عُنيت بنفس الأديب، وبين مدرسة ستتلوها تجعل عنايتها أدبًا موضوعيًّا.

وهاك مثالًا لشعره قصيدة «الفن»:٥٤
ألا إن آية الفن تزداد بهاءً
إن اقتضت صناعتها عناءً
فيه عنف،
شعرًا، نحتًا، زخرفة ورسمًا،

•••

القيود السخيفة لا ترضيها،
فلكي تمشي مشيةً أنتِ أهل لها
يا ربة الفن،
فالبسي حذاءً على قدر رجليك.

•••

ازدري القوافي إن أفرطتْ في يسرها
كأنها النعل فاضت الحد في حجمها
فجاءت طرازًا،
كل قدم تستطيع لها لبسًا وخلعًا.

•••

أيها المَثَّال لا تختر من الطين
ما لكل غمزةٍ خفيفةٍ يلين
تحت إبهامك؛
إذ روحك في الأفق البعيد تهيم.

•••

بل غالب بفنِّك صُلبَ المرمر؛
فبالصخر القوي الأعسر
والأندر
تخلد واضح القسمات.
… … … …
أيها الرسام اطَّرح أصباغ الماء،
ثبِّت ألوانك في قوة وبهاء
وإن وهنَتْ.
وسُلِّط عليها لهيب الفن.
… … … …
كل شيء فانٍ، إلا الفن المكين؛
فباقٍ وحده إلى أبد الآبدين،
فتمثال
يحيا بعد مدينة تفنى بأسرها،

•••

رُبَّ وسام قل زخرفه
يراه العامل الحفَّار وهو يجرفه
في التراب؛
عن صاحب الصولجان يحدث،

•••

الآلهة بجلالها تفنى،
وجيِّد الشعر لا يفنى
بل يخلد
أبقى على الدهر من قطع المعدن؛

•••

فيا صاحب الفن، صقلًا ورقمًا،
واجعل منك عابر الحلم
ينطبع
فوق صم الجلاميد.

(ب) القصة

كان الأدب القصصي خلال القرن التاسع عشر سجلًّا أمينًا لما شهده العصر من نزعاتٍ شتي؛ فمن أراد من الناس أن يعود إلى الماضي الزاهر، ففي القصة أداته، ومن أراد منهم أن يقصر نفسه على الحاضر المحيط به يصوِّره كما يقع، ففي القصة ميدانه، ومن أراد منهم أن يكون الأدب تعبيرًا عن مشاعر الأديب وخواطره، وأن تكون مهمة الأديب هي أن يصبَّ على الورق ما يجيش به صدره، ففي القصة كذلك مجالٌ فسيح؛ وإذن فستجد بين قِصص هذا العصر، قَصصًا تاريخيًّا، وقَصصًا يصور الواقع، وقَصصًا يعبر عن وجدان الأديب.

أما القصص التاريخية فقد بدأت في هذا العصر الذي نقدمه إليك، على يدي «دي فني» — الذي حدثناك عنه في قسم الشعر الذي سلف — ثم على يدي «هيجو» في قصته المشهورة «نوتردام دي باري»٥٥ ولو أن روعة هذه القصة في نصوع خيالها ودقة شاعريتها لا في قيمتها التاريخية، ثم انتهى هذا النوع من القصة إلى يدي «اسكندر ديماس»٥٦ فبلغ عندئذٍ حدًّا بعيدًا من الكمال يتمثل في قصته المعروفة «الفرسان الثلاثة»٥٧ التي يستحيل أن يقرأها قارئ ثم يُنكر عليها ما تضطرب به من حياةٍ نابضة وحركةٍ دائمة، وما يسطع فيها من خيال وابتكارٍ أصيل، وليقل المؤرخون في صدق حقائقها التاريخية ما يشاءون؛ فحسبنا أن يُتخذ التاريخ إطارًا تُصَبُّ فيه هذه الحياة الدافقة. وقد رزق الله «ديماس» ذهنًا حيًّا نشيطًا مبتكرًا، هو في ابتكاره للصور والمعاني أسرع من يده في إثبات ما ابتكر على الورق؛ فذلك المعين المليء ما كانت لتستطيع يدٌ واحدة أن تفرغ ما فيه، لهذا استخدم طائفةً كبيرة من المعاونين يكتبون له ما يخلق فكره، لعلهم بكثرة أيديهم العاملة مستطيعون أن يلحقوا بهذا الذهن الجبار الذي يطيرا طيرًا. ولقد قيل إن هذه الجماعة التي أخذت تعمل تحت إشرافه أخرجت ألفًا ومائتي قصة، لم يكن معظمها أدبًا صحيحًا، إنما استحال الأدب بضاعةً تخرجها آلات لتسد حاجة الأسواق. وجمع «ديماس» من وراء ذلك مالًا طائلًا بدَّده بغير حساب ولا حذر، ومات فقيرًا ينفق عليه ابنه ويحميه.

(١) ستندال Stendhal (١٧٨٣–١٨٤٢م)

بهذا الاسم المستعار كتب «هنري بيل»٥٨ الذي لم يصادف إعجاب معاصريه، لكن الرجل كان يؤمن بقيمة فنه، وآمن معه بها أعلام القصة مثل «مِرِيميه»٥٩ و«بلزاك»؛٦٠ فتنبأ لنفسه بأن أدبه سيجد التقدير الذي كان به جديرًا، حين ينصرم الشطر الأكبر من القرن التاسع عشر. وصدقت نبوءته، ففي نحو التاريخ الذي حدده كانت قصصه موضوع الدرس وموضع الإعجاب؛ فقال عنه «تين»٦١ — وهو من فطاحل النقد في عصره — إنه أعظم من عرف أسرار النفس البشرية من أدباء القرن التاسع عشر جميعًا.

لُقِّن «بيل» أيام طفولته وجوب أن يكتم في نفسه أحاسيسه، فيبدو في الناس بوجهٍ لا ينمُّ عما يدور في طويته، فكأنما تعلم بذلك أن يضرب بين نفسه وبين الناس حجابًا كان له مصدر شقاء في صغره، ثم كان عاملًا قويًّا على العزلة الموحشة في كبره. وقد خدم في جيش نابليون بجد، وكان يضع عليه ستار الهدوء الذي وافق طبيعة تكوينه، ثم أحسَّ في نفسه ميلًا شديدًا إلى إيطاليا؛ مناظرها وأهلها وموسيقاها وفنِّها، فاختارها مستقرًّا ومقامًا، كما اختار لغذائه العقلي فلاسفة القرن الثامن عشر الذين وجد في مذهبهم المادي ما يتفق مع وجهة نظره، فقد كان يرى أن ما ينسب إلى الله عبث كعبث الأطفال، وفي ذلك قال «إن العذر الوحيد الذي يشفع لله ما يصنع هو أنه غير موجود.» وفي رأيه أن هدف الإنسان الأخير هو المتعة في هذه الحياة، فما كان أشد إمتاعًا من غيره كان أفضل، والإنسان أناني بطبعه ولا ينبغي له أن يقاوم في نفسه هذه الأنانية لأنها قانونه الذي يحيا بمقتضاه. ولقد مجَّد في نابليون تمثيله للقوة، ففي شخصه تجسدت رغبة الإنسان في النفوذ والسيطرة.

ويرى «بيل» أن الإنسان خير موضوع لدراسة الأديب، فهو في كتابه «عن الحب»٦٢ يبحث هذه العاطفة بحثًا تحليليًّا دقيقًا وينفذ إلى صميمها ما وسعته قدرته على التفلسف والتأمل، وهي قدرةٌ محدودة على كل حال، لم تبلغ ما قد يبلغه الفلاسفة. ورأيه في النقد الأدبي — وهو رأي مهد به الطريق إلى «تين» — هو أن الأديب حاصل جمع الظروف التي أحاطت به، فادرس نشأته ووسطه وتربيته وسائر العوامل التي أثرت فيه دراسةً دقيقة يكن لك كل ما تريد من أدبه وما يحويه من عناصر. وبهذا الرأي نفسه تأثر في كتابته للقصة، فهو في أدبه القصصي يتتبع هذه العناصر المتفرقة التي تتجمع في نفس هذا أو ذاك من الناس وتكون له عاطفته أو إرادته وطرائق سلوكه. ومن قصصه «الأحمر والأسود»٦٣ وبطلها رجل من طبقةٍ دنيا استبدل بالرداء الأحمر رداء القساوسة الأسود ليصنع تحت ستاره ما يريد من نفاق وتضليل وغدر وإجرام. ولعله بذلك يشير إلى المخرجَيْن اللذين بثت خلالهما الإنسانية في عهده نشاطها وحيويتها، فقد أجرت هذا النشاط وهذه الحيوية في الحروب النابليونية، ثم أعقب ذلك حركةٌ رجعية أرادت أن تسترد ما أضاعته تلك الحروب. وفي قصة «راهبة بارما»٦٤ يصور لنا إيطاليا إبان القرن التاسع عشر وما عُرف به أهلها عندئذٍ من طبائع وأخلاق، وقد أجرى في هذه القصة وصفًا لمعركة «ووترلو» التي مُني فيها نابليون بالهزيمة التي قضت عليه، وجاء الوصف حيًّا صادقًا لأن كاتبه خاض المعركة جنديًّا محاربًا.

لم يكن ﻟ «بيل» قدرة الفنان الممتاز في مرونة الخيال، وإنما انحصرت كفايته في صدق نظراته التحليلية التي تعتمد على القوة العاقلة في الكاتب، ولا شك أن لهذه النظرات الصادقة قيمتها، لكنها في النهاية لا تكوِّن قصةً من الطراز الأول.

(٢) جورج سان George Sand (١٨٠٤–١٨٧٦م)

وهذا كذلك اسمٌ مستعار لامرأةٍ تسمى «لوسيل أورور»٦٥ كانت مثالًا في أدبها القصصي للاتجاه الوجداني الذي يريد من الأدب تعبيرًا عن شخصية الأديب لا أكثر ولا أقل. فإن كان «ديماس» يصور العصور السالفة، وإن كان «بيل» يرسم الواقع من حوله، فهذه الكاتبة تتخذ من القصة أداة للتعبير عن نفسها. ونحب أن نلفت نظر القارئ إلى أنه قد لا يكون ثمة تعارض بين أن تصوِّر الواقع حولك إذ تصوِّر نفسك، بل إن ذلك ما حدث لكاتبتنا هذه، وما يحدث في معظم الحالات التي يحاول فيها الأديب أن يعبر عن نفسه؛ فالعبرة بطريقة التصوير، فإن صورتَ الدنيا الواقعة كما هي لا كما تتأثر بها أنت فأنت واقعي النزعة والاتجاه، أما إن صورتَ دنياك كما يتردد صداها في نفسك فأنت من أدباء الوجدان، ومن هؤلاء كانت «جورج سان» في الشطر الأخير من حياتها الأدبية.

ولدت لأبٍ ضابط من أسرةٍ عريقة في خدمة الجيش، وأمٍّ من الطبقة الدنيا، فاجتمعت فيها خصائص الطبقتَين العليا والدنيا على السواء. وقد قضت أولى سنيها في بيت جدتها في الريف حيث الغابات والأزهار والمروج والنجاد المعشوشبة والوهاد الباسمة بخضرتها، وحيث الحقول تمتد فيها آثار المحراث خطوطًا خطوطًا، وحيث الزارعون في حياتهم الساذجة يحرثون الأرض ويروونها، ويجمعون الحصاد ويخزنونه، ويجتمعون في المساء ليستمعوا إلى حكايات فيها البساطة وفيها ما يشبع العقول التي تصدق الخرافة؛ ومن ذلك كله تلقت الكاتبة أول دروسها. فلما أُرسلت في عامها الثالث عشر إلى باريس لتبدأ حياةً دراسيةً منظمة في أحد الأديرة، كان ذهنها قد اختزن محصولًا ثمينًا يصلح للقصة حين تبدأ في كتابة القصة، وأخذت تغذي عقلها بقراءةٍ واسعة المدى منوَّعة الألوان، فقرأت فيما قرأته شعرًا وتاريخًا وفلسفة، لا تضع لقراءتها خطةً أو نظامًا، ولا تملُّ القراءة مهما يكن موضوعها؛ قرأت ﻟ «شاتوبريان» كتابه «عبقرية المسيحية» ثم قرأت «روسو» و«بيرن». فلما بلغت من العمر ثمانية عشر عامًا تزوجت من رجلٍ لم يصلح لها زوجًا؛ إذ لم يكن يعمر قلبه تلك المشاعر، ولا رأسه تلك الخواطر التي كان لا بد منها لتجعل منه زوجًا ملائمًا لها، وأنجبت منه طفلًا وطفلة، وبعدئذٍ لم تستطع الحياة معه فظفرت منه بطلاقها، واعتزمت أن تعيش على فنِّها وأدبها في باريس.

فها هي ذي تارةً ترسم الطيور والزهور لتُزيِّن بها علب السجائر فتكسب من وراء ذلك رزقها، وها هي ذي طورًا تعمل في الصحافة فيعوزها بعض الصفات العقلية التي لا بد منها للصحفي، لم يكن في مستطاعها أن تلجم قلمها فيكتب النُّتف القصيرة؛ لأن خيالها ذو جناحَين قويَّين عريضَين إذا ما رفَّ مرةً واحدة وجدته يحلق سامقًا ولا يستطيع الوقوف إلا وقد امتلأت من الصحيفة بعض أعمدتها. ثم ها هي ذي تدلي بدلوها في القصة، وهي المجال الذي كُتب لها أن تجول فيه وتصول؛ فاشتركت مع زميل لها يدعى «ساندو»٦٦ في إخراج قصة «وردي وأبيض»؛٦٧ فإن كان اسم زميلها «ساندو» فلماذا لا تطلق على نفسها «سان» ليتم التوافق بين الاسمين؟ ثم إن كان عددٌ عظيم من الرجال في ريفها الذي نشأت فيه قد تسمَّوا باسم «جورج» فلماذا لا يكون لها هي الأخرى هذا الاسم مثلهم؟ وإذن فلتطلق هذه المرأة التي لبست ثياب الرجال، على نفسها اسمًا من أسماء الرجال، وليكن اسمها فيما بعدُ «جورج سان».

أرأيت الينبوع ينبثق فيه الماء دفَّاقًا في غير عناء لأن طبيعته هي أن يدفق الماء؟ كذلك كانت «جورج سان» في إنشائها لقصصها؛ تجلس إلى مكتبها في الساعة العاشرة، وذهنها خالٍ لا يكاد يشتمل على تخطيطٍ تقريبي لما يُكتب، لكنها تُجري القلم على القرطاس، فتستدعي الصور بعضها بعضًا، ويظل القلم يسيل بالقصة سيلًا حتى الساعة الخامسة، كأنما القصة تكتب نفسها، وكأنما فضل الكاتبة هو أن تمسك بالقلم بين أناملها، وعلى القلم أن يرسم لنفسه الطريق! وهكذا دواليك كل يوم، جلوس إلى مكتبها في العاشرة وكتابةٌ موصولة تنبثق من قلمها انبثاق الماء من ينبوعه حتى الساعة الخامسة. وتصوير إنشائها على هذا النحو قد يوهمك أن أدبها آليٌّ يخلو من الفن ويعوزه التفكير، وحقيقة الأمر في إنشائها هي أن القصة في يدها كانت تنمو كأنها الكائن الحي يبدو بذرةً صغيرة ثم يظل آخذًا في النمو حتى يورق ويترعرع وينتج الثمار. هكذا كانت «جورج سان» تبدأ وليس في ذهنها من قصتها إلا نواة لا يكاد يكون لها شكل وصورة، وما تزال تنمو على تتابع الصفحات يومًا بعد يوم فإذا بها قصةٌ كاملة.

كانت «جورج سان» بادئ ذي بدء تقتفي أثر «روسو» و«شاتوبريان» وكان موضوع قصصها الحب وما يحيط به من عواطف؛ وأخرجت من القصص في هذا الموضوع «إنديانا»٦٨ و«فالنتين»٦٩ و«ليليا»٧٠ و«جاك»٧١ وأخذت في هذه القصص تدافع عن العاطفة وما ينبغي أن يكون لها من الحق في التعبير عن نفسها. وهذه القصص الأربع وجدانية بثَّت فيها الكاتبة أسرار قلبها الجريح، فمن الإجرام أن يتم زواج — كزواجها — بغير حبٍّ صحيح، ومن الطغيان أن يستبد الرجل وأن تُستعبد المرأة. لكل إنسان فرديته وشخصيته وإنسانيته، رجلًا كان أو امرأة؛ تلك هي صرخة «جورج سان» التي بعثتها مدويةً في قصصها الأولى التي عرفت كيف تصهر تجاربها الشخصية بشواظ من لهيب خيالها فتحيلها قَصصًا غراميًّا جميلًا.
في تلك القصص الأولى كان خيالها قويًّا، لكن فكرها لم يكن قد عمق تياره بعدُ، كلا ولا كانت ديباجة أسلوبها قد قوي نسجها، ومع ذلك فأنت لا بد مصادف فيها بين آونة وأخرى فقرةً أو صفحة ترتفع في رقَّة شاعريتها ودقة وصفها إلى أعلى مدارج الكمال. فلما أخرجت طائفةً أخرى من قصصها: «أندريه»٧٢ و«سيمون»٧٣ و«موبرا»٧٤ كانت قدماها قد رسختا في الفن وأناملها قد ثبتت على القلم؛ وها هنا انفتحت نوافذ نفسها للعالم من حولها، فبدل أن تبثَّ أنينها وشكواها في قصصها، أخذت تتلقَّى من الدنيا الخارجية الدوافع والمؤثرات والآراء والأفكار. واختلط في عقلها شيء من الشعور الديني بشيء من الحماسة نحو النهوض بالإنسانية قاطبة، مع ميلٍ إلى المذهب الاشتراكي الذي بدا لها أداةً صالحة لما أرادته للإنسانية من نهوض، وبهذا الرأي وهذا المذهب الاجتماعي أخرجت قصص «جان»٧٥ و«طحان أجريبو»٧٦ و«خطيئة مسيو أنطوان»٧٧ و«كونسويلو»٧٨ وها هنا تجد الفكرة غالبة على الفن القصصي؛ فالكاتبة تريد أن تنشر مذهبًا، ولا تقصد قبل كل شيء إلى متعة القارئ، وبهذا انتقلت إلى مرحلةٍ ثانية من أدوار حياتها الأدبية.
ثم انتقلت بعد هذه المرحلة الثانية إلى مرحلةٍ ثالثة، فهي الآن لا تريد أن تقصر القصة على تجاربها الشخصية في حبها وزواجها كما فعلت في المرحلة الأولى، ولا تريد أن تجعل قصصها أدوات لنشر مذهبٍ اجتماعي كما فعلت في المرحلة الثانية، إنما أرادت أن تعود إلى مجالِي الريف لتزور الفقراء في دُورهم المتواضعة وتريك كيف يحيا هؤلاء، ثم لتسايرك في مماشي الريف وحقوله وعلى مشهد من مناظره. ولم يكن التغنِّي بمباهج الريف مألوفًا في الأدب الفرنسي، لكن هذه الكاتبة وجدت تلك المباهج كامنةً مستقرة في أعماق نفسها تجمعت هناك منذ أيام الطفولة الأولى، فأخذت تجري ذكرياتها على سن قلمها أدبًا رائعًا. ومن قصص هذا العهد «بركة الشيطان»٧٩ و«فرانسوا اللقيط».٨٠

وكأنما أرادت «جورج سان» ألا تسدل ستار حياتها على قصص الفقر والبؤس، فانتقلت في آخر مراحلها إلى ربوع العِلْية تصورها إلى جانب تصويرها لأبناء الريف السذج. وكانت تقدمت بها السنُّ وفاض منها كأس التجارب، وازداد قلبها رقةً ووداعةً، فطفقت تكتب القصص لتروي لأحفادها الصغار، ثم تكتب القصص للناس عامة وكأنهم في عينها حفدةٌ صغار أيضًا تروي لهم القصص على النحو الذي تروي به الجدة حكاياتها على الحفدة الصغار. وكان أكثر الناس استدرارًا لعطفها أهل الريف، وأصحاب الفنون، وأجدر الأنماط البشرية بدراستها الرجل الذي يجد من طبيعته ميلًا إلى الركون إلى امرأةٍ أقوى منه شخصيةً لتكون له دعامة، والفتاة التي يتوسط عمرها بين الطفولة والمراهقة. وأسلوبها في قصصها سلسٌ دفَّاق لا تعترض مجراه الصخور والجنادل، فيه اتساقٌ صوتي في غير تكلف ولا تعقيد، وهو يصور الجمال في صفاء وهدوء كما يصور المنظرَ الريفيَّ الجميلَ نهرٌ رائقٌ ساكن.

(٣) أونوريه دي بلزاك Honoré de Balzac (١٧٩٩–١٨٥٠م)

«جورج سان» و«بلزاك» تعاصرا في كتابة القصة، وكانت الأولى وجدانية الأدب، بمعنى أنها تعبر عن نفسها، فإن صورت الواقع بما وهبها الله من دقة في الملاحظة، صورته كما وقع في نفسها، وكان الثاني واقعي الأدب، إلا أن واقعيته كانت تنتابها الأحلام والأشباح آنًا بعد آن.

ولد «بلزاك» لأبٍ درس القانون، فاختار لابنه الطريق عينها. ودرس الابن القانون كما أراد له أبوه، لكنه صمم أن يجعل قلمه مصدر رزقه. وكان يلُوح له وللناس بادئ ذي بدء أن هذا الرجل بما أوتيه من قوة وقدرة وإرادة مستطيعٌ أن يشقَّ طريقه في يسر إلى الثروة والشهرة في آنٍ معًا. لكن الثروة والشهرة مطلبان كثيرًا ما يستعصيان حتى على ذوي القوة والقدرة والإرادة، وقد استعصيا حينًا على «بلزاك»، فكنتَ تراه يحاول هذه الصناعة مرةً وتلك الصناعة مرةً، ولا يكاد يصيب شيئًا مما يريد؛ فها هو ذا يخرج روايةً تمثيلية عنوانها «كرُمْوِل»٨١ فيسخر منها كل من رأى مخطوطها ولم تجد طريقها إلى المطبعة سهلًا مُعبَّدًا، ثم ها هو ذا يخرج القصص، لا ليقبل الناس على قراءتها، بل لتطوى في غمر من النسيان؛ فليكن إذن ناشرًا لا كاتبًا ليكسب القوت، وليكن طابعًا، فيعود عليه النشر وتعود عليه الطباعة بعبءٍ ثقيل من الدَّين؛ وبلغ من عمره العام الثلاثين، فأصدر قصةً تقوم على أساس من التاريخ على النحو الذي تراه في قصص الكاتب الإنجليزي «وولتر سكُتْ»؛ عنوانها «الثائر الأخير»،٨٢ فصادفت عند الناس شيئًا من القبول.

وما هو إلا أن وجد «بلزاك» نفسه محوطًا بالجو الذي يستطيع أن يتنفس فيه، حتى واصل الكتابة للصحف تارةً وللكتب طورًا، وتستطيع أن تقول إن «بلزاك» منذ أخذ القلم يجري بين أصابعه إلى اليوم الذي لاقى فيه منيته، كان يحيا مع ناسٍ خلقهم له خيالُه على غرار الواقع؛ فقد كان له أصدقاءُ قليلون، لأنه لم يجد للأصدقاء متسعًا من الوقت؛ إذ كاد لا يغادر مكتبه إلا إلى سريره، فهو يأوي إلى فراشه مع الغروب ليستيقظ إذا ما انتصف الليل، فيشرب قدحًا أو قدحَين من القهوة ليحرك بهما نشاط ذهنه، ثم يكتب، فإذا بالصفحات تمتلئ واحدةً بعد واحدة لا يكاد كاتبها يتنبه إلى نفسه حتى ينتصف النهار، وعلى هذا النحو قضى عشرين عامًا حتى أضناه الجهد ففارقته الحياة.

كان إحساس الكاتب بالحياة قويًّا ناصعًا، يدرك من تيارها بلمحةٍ واحدة كل ما يمكن لِعَين الرائي أن ترى، ولقلم الكاتب أن يصف ويحلل؛ فكل حواسه منصرفة إلى الواقع حوله، وكل عواطفه تدور حول الأشياء التي تراها الأبصار وتمسُّها الأيدي؛ وكل همه هذا المجتمع الإنساني وما يحركه من دوافع، هذا الميدان الذي يعترك الناس فيه تنازعًا على بقائهم، هذا الصراع الذي لا ينقطع ولا ينتهي سعيًا وراء المال وقوة السلطان، هذا الجهاد الذي ينتهي إلى النصر حينًا وإلى الهزيمة حينًا. هذه الإرادة القوية الكاسحة التي تبدو في بعض الأفراد فتنثر عن طريقها الضعاف يمينًا ويسارًا، وتدوس الصرعى تحت أقدامها وهي ماضية في سبيلها. هذا الطموح بما يقتضيه من صفاتٍ نبيلة وصفاتٍ خسيسة في آنٍ معًا، وما يتطلبه من شهامة البطولة آنًا ومن قسوة الطغيان آنًا؛ هذا هو ما صرف إليه «بلزاك» كل انتباهه ليستخرج منه العوامل المحرِّكة فيضفي عليها ثوبًا من خياله ويقدمها للناس قَصصًا رائعًا؛ فما رأته عيناه وما خلقه خياله لا يضيع منهما ذرةٌ واحدة، إذ يجريهما على قلمه، فإذا القارئ يحسُّ أنه يرى بعينه وبخياله ما وقع للكاتب.

لكن عبقرية «بلزاك» لم يكن قوامها إحساسًا رقيقًا دقيقًا، بل كانت على كثير من الغلظة والخشونة، فليس هو الكاتب الذي تبادره النكتة الفطنة أو يسارع إليه اللفظ الذي يقتضي الذوق الاجتماعي أن يقال في مناسبةٍ معينة. وليس هو الكاتب الذي يقف طويلًا ليناقش نفسه الحساب على ما يقول ويفعل، أو الذي يحاول أن يكون خافت الهمس رقيق اللمس فيما يكتب. وليس هو الرجل الذي تضعه في وسط من علية القوم فيزن تقاليده وزنًا دقيقًا يرضى عنه ذلك الوسط وأوضاعه؛ ولهذا كله تراه في إنشائه يقذف عبارة بعد عبارة كأنه يرمي في كومة مهوشة حجرًا فوق حجر، فالأدب عنده — فوق أنه فنٌّ جميل يستمتع به الفنان — أداة لجلب الشهرة وكسب المال.

ولعل ذلك يفسر لنا ناحيةً من أدب «بلزاك» فقد أخطأت عيناه ملامح الطبقة العليا من المجتمع، ولم يدرك من حياة الأشخاص رقيقها ورشيقها؛ فليس في وسع خياله — مثلًا — أن يصور لك سيدة من اللائي يجعلن رشاقة الحركة ورقَّة النبرة لُبَّ الحياة وصميمها، أما مجاله الصحيح فالطبقتان الوسطى والدنيا بما فيهما من صخب وجهاد. ذلك هو المحيط الذي وجَّه إليه دراسته فدرس كل نواحيه؛ الشارع والبيت والغرفة، فهذه كلها يهتم لها كما يهتم بمن يسكنها وينشط فيها من الناس، لأنها القوقعة الطبيعية التي ينمو فيها الكائن الحي الذي هو بصدد تحليله وتشريحه، هي التي تحدُّ تصرفه وتُشكِّله فيصبح على النحو الذي نراه. وقد خلق «بلزاك» بقوة خياله ما يقرب من ألفَي شخص، كل واحد منهم كامل الخلق والتكوين، وكثيرًا ما يجعل في الفرد مركزًا واحدًا تصدر عنه كل أفعاله، كحب المال أو الطموح إلى الشهرة، أو السعي وراء القوة، أو هذه الغريزة أو تلك من غرائز الإنسان التي تهبط به إلى مستوى الحيوان. لكن الفرد يعيش في وسط من الأحياء والأشياء يؤثر فيها ويتأثر بها، فلا بد عند تصويره من وضعه في بيئته التي يستمد منها القوة والتي يكافح فيها ويجاهد.

كانت الأعوام العشرة الممتدة بين ١٨٣٠ و١٨٤٠م، أي حين كان الكاتب بين الثلاثين والأربعين من عمره، أخصب فترة في حياته الأدبية من حيث الجودة، ففيها أنتج آياته «جلدٌ مشغول»٨٣ و«يوجين جرانديه»٨٤ و«البحث عن المطلق»٨٥ و«الأب جوريو»٨٦ وغيرها، وقد أطلق على هذه المجموعة من قصصه «الملهاة البشرية»،٨٧ لأن «بلزاك» أراد أن يصنف قصصه في مجموعات تضم كلٌّ منها المتشابهات. وهذه الرغبة منه في التبويب هي في الحقيقة فرع عن رغبةٍ أعمَّ وأشمل في أن يجعل من أدبه سجلًّا شاملًا لشتى نواحي الحياة الاجتماعية في عصره: الحكومة والكنيسة والجيش والقضاء والطبقات الاجتماعية؛ العليا منها والوسطى والدنيا على السواء، وأهل الريف وأصحاب الفن ورجال الصحافة والأدباء والممثلون والتجار على اختلاف طبقاتهم، والمجرمون، إلى آخر ما يمكن أن يُعدَّ هيئةً بذاتها من هيئات المجتمع وطبقاته. ثم أراد «بلزاك» أن يحرك هؤلاء الأشخاص والجماعات في مناظرَ مختلفٌ ألوانها، فمنها الريفي ومنها ما يصور مناظر باريس، ومنها ما يحيط به جو السياسة أو جو القتال، أو جو الحياة الفردية الخاصة، ثم يقرن هذا كله بدراساتٍ فلسفية في العواطف الإنسانية وتحليله. فقد حاول «بلزاك» أن يكون إلى جانب أدبه فيلسوفًا، لكن آراءه الفلسفية كانت ضحلةً أو كانت محاكاةً لغيره لا أصالة فيها.

(٤) بروسبيه مريميه Prosper Mérimee (١٨٠٣–١٨٧٠م)

عندما بسطنا في مواضعَ مختلفة مما سلف عناصر الأدب الابتداعي، حاولنا أن نُبرز من بينها عنصرًا يكاد يكون لها أساسًا ومحورًا، وذلك هو التعبير عن فردية الأديب الكاتب، ثم قلنا إن هذه الفردية المتمثلة في الأدب هي التي تجعله وجدانيًّا أو غنائيًّا، سواء أكان الأثر الأدبي قصيدةً أم قصة. أما إن وصف الأديب الأشياء كما هي، لا يجعل من نفسه عنصرًا إلا بالحد الأدنى الذي يجعل الكتابة أدبًا، فذلك أدبٌ واقعيٌّ اتباعي في صميمه. لكن هل يستحيل أن يكون الأدب ابتداعيًّا دون أن يكون وجدانيًّا؟ ألا يمكن أن يكتب الأديب الابتداعي أدبًا موضوعيًّا خالصًا، يكتم فيه وجهة نظره وينظر بين الفينة والفينة إلى الناس نظرة سخرية واستعلاء؟ ذلك هو ما حاول أن يصنعه «مريميه» في قصصه.

كان «مريميه» من هؤلاء السادة الذين صقلهم التهذيب الاجتماعي؛ فأنت قد ترى الرجل سيدًا مصقولًا بفطرته كأنما هذَّبته يد الله، وقد ترى الرجل مصقولًا بتطبعه لا بطبعه هذَّبته التربية والوسط الاجتماعي لا الفطرة والغريزة. و«مريميه» من هذا الفريق الثاني، هو رجل كأنما صُقل صقلًا صحيحًا لا خطأ فيه، كما تُركَّب الجملة وفق قواعد النحو والصرف؛ ومثل هذا الرجل الذي هُذِّب هذا التهذيب لا ينبغي له أن يبدي للناس انفعاله إذا انفعل، ولا أن يعبر عن عاطفة له إذا أحسَّ بها تجيش في صدره، ولا أن تأخذه الحماسة لفكرة أو شيء مهما تكن الفكرة ومهما يكن الشيء، لأن التحمس فيه انفعال يضطرب معه الاتزان المطلوب؛ ولا ينبغي أن يكون له عقيدة تملك عليه فؤاده، ولا بد له أن يعلو على الضعف البشري بكافة نواحيه، فلا يبدو في صورة العاجز المحتاج، وله إن أراد أن ينظر للحياة نظرة العابس المتشائم على شرط أن يهيمن على تشاؤمه هذا فلا يحميه بحرارة الإيمان، وله إن أراد أن يسخر من الناس، على شرط أن تكون سخريةً مقنعة. وإن حدث لمثل هذا الرجل — الذي هذَّبته التربية هذا التهذيب — أن يكون أديبًا، فلا بد أن يكون أديبًا أنيقًا في تفكيره وتعبيره؛ فلا يكتب قط ما يثير في القارئ ضحكةً عالية، ومع ذلك فيستطيع بقوة فنِّه أن يجعل من الأثر الأدبي موضوعًا للضحك والسخرية؛ ومثل هذا كان «مريميه».

كان ﻟ «مريميه» خيالٌ خصبٌ قوي، وبصيرةٌ نافذة إلى أعماق الناس فترى مكوناتهم وعناصر شخصياتهم، كما كانت له أنامل الأديب الفنان. ومما أنتجه «كارمان»٨٨ و«كولومبا»٨٩ وكلٌّ منهما بمثابة قطعةٍ وصفية لجانب من جوانب النفس البشرية، جاء فيها الكاتب بالحق الذي هداه إليه صدق نظره؛ والأدب فيها موضوعيٌّ ابتداعي في آنٍ واحد؛ فهو موضوعي لأنه يوهم القارئ أن لا شأن للكاتب بما يحدث لأشخاص القصة، فلا هو يُسَرُّ بسرورهم ولا هو يحزن لحزنهم، كأنما هو عالمٌ أثري يحفر الأرض ليُخرج منها المخلفات فيعرضها في متحف كما هي، وهو ابتداعي — لا لأنه يعرض نفس الأديب كما عهدنا في الأدب الابتداعي — بل هو ابتداعي بمعنًى معكوس، بمعنى أن الأديب يحاول أن يُسدل على نفسه قناعًا حتى لا يراها القراء، لكن «مريميه» لم يستطع أن يظلَّ قابضًا على عنان نفسه لا يبديها لقرائه؛ فقد ظهرت بعض عواطفها جلية في «خطابات إلى مجهولة».٩٠

(ﺟ) التاريخ والنقد

(١) أوغسطين ثييري Augustin Thierry (١٧٩٥–١٨٥٦م)

تغيرت كتابة التاريخ في فرنسا إبَّان القرن التاسع عشر لما تغيرت وجهة النظر الفلسفية عند الفرنسيين؛ فقد كان القوم قبلئذٍ يأخذون بفلسفاتٍ تزدري العصور الماضية وتنظر إلى آرائها وأفكارها نظرها إلى الخرافة. أما في هذا العهد الجديد فقد تغيرت وجهة نظرهم وأصبحت فلسفتهم أن يأخذوا من كل عصر ما يروق من فلسفته، مهتدين في هذا الاختيار بالذوق ودليل القلب أكثر منهم بالعقل والمنطق؛ ولهذا أخذوا ينظرون إلى ديانات الأقوام المختلفة نظرة عطف وتقدير، لا يعميهم الهوى ولا يُصمُّ التعصب آذانهم. كذلك أداروا أعناقهم إلى العصور الوسطى وعقائدها وأفكارها، بعد أن كانت هنالك قطيعةٌ فكرية بين العصر الحديث وتلك العصور، على اعتبار أنها عصورٌ مظلمة لا خير فيها ولا غَناء. وكان رائد الطريق في ذلك التجديد في الأدب التاريخي هو «ثييري» الذي قرأ صفحات من أدب «شاتوبريان» فوجدها مترعةً بشعور العطف على العصور الماضية، فأوحت له تلك الصفحات بما ينبغي هو أن يؤديه، ثم قرأ فيما بعدُ «وولتر سكُتْ» الأديب الإنجليزي الذي كتب القصة التاريخية فبلغ بها حد الكمال، فركزت في نفسه العقيدة بأن التاريخ لا بد أن يُكتب على نحوٍ جديد يستخدم قوة الخيال، فهذه المهازل التي يخرجها الناس ويسمونها تاريخًا تحرج الصدر وتثير النفس، فكاتبو التاريخ إما ينقصهم العلم فهم عُميٌ عن الحقائق لا يبصرونها، أو ينقصهم الخيال فيرصُّون لك الحقائق رصًّا لا تصوير فيه؛ وإذن فلا بد له أن يقدم للناس طريقة جديدة في كتابة التاريخ، فيها العلم بالحقائق وفيها إبداع الخيال في الوصف والتصوير.

على هذا الأساس أصدر «ثييري» «خطابات في تاريخ فرنسا»٩١ ثم عقب عليه ﺑ «تاريخ غزو إنجلترا»٩٢ وفي كلا هذين المؤلفَين وُفق الكاتب توفيقًا عظيمًا في تطبيق طريقته، فلو كان الماضي عظامًا رميمًا في أيدي سواه من المؤلفين، فقد أحيا هذا المؤرخ عظام الماضي وهي رميم؛ إذ كانت له موهبةٌ عجيبة في فهم النصوص القديمة، استطاع بها أن يلمس من خلال سطورها حياة الأقدمين كأنها حياته هو التي يعيشها ويحياها. وما إن جاوز هذا المؤرخ الأديب عامه الثلاثين بعامٍ واحد حتى فقد البصر بين الوثائق والكتب، فعاونه أخوه، وعاونه أصدقاؤه، وعاونه كاتمو سره، ثم عاونته امرأة أخلصت له الحب وكانت له فيما بعدُ شريكة حياته؛ عاونه هؤلاء جميعًا على المضي في عمله، فأصدر «قصص عن الميرفنجيين وعصورهم»٩٣ ثم «مقال في تاريخ تكوين السُّلطة الشعبية»٩٤ أصدر هذين وهو ضرير؛ ولم تحدَّ هذه الإصابة في بصره من رغبته في التجويد، بل ازداد الرجل عناية بتجويد ما يكتبه، فيُقنعه أن يقضي يومه كله في كتابة خمسة عشر سطرًا أو عشرين، ما دام يستطيع بهذه الأناة أن يوضح فكرته وأن يتقن عبارته؛ وكأنما المصائب إذا انفتح لها الطريق توالت واحدة في إثر واحدة، فها هو ذا يصاب بالشلل وتتمكن منه الإصابة رويدًا رويدًا، ومع ذلك جعل لفكره اليد العليا على جسده وما فيه من علل، ومضى ينشد لنفسه وللناس صور الحق والجمال. وذات صباح — والصبح في الفلق لم يزل — استيقظ الرجل وأيقظ من أملى عليه إصلاحًا لعبارة في كتابه عن «غزو إنجلترا» وقد كان يعدُّ لطبعةٍ ثانية؛ وشاء الله أن يختاره إلى جواره في ذلك اليوم نفسه، كأنما أراد أن تكون الرغبة في التجويد وبلوغ الكمال آخر ما يهتم له في حياته وأول ما يهتم له من شئون الحياة. ولم يكن «ثييري» بين المؤرخين المحدثين في فرنسا أغزرهم مادة ولا أجودهم أسلوبًا، لكنه كان رائدهم في الطريق الجديد.

(٢) فرانسوا جيزو Francois Guizot (١٧٧٧–١٨٧٤م)

«جيزو» مؤرخ لكنه نفسه يُكوِّن جزءًا من تاريخ أمته؛ وعنده أن واجب المؤرخ ذو شعبٍ ثلاث: أولاها تحقيق الوقائع، وثانيتها تصنيف هذه الوقائع تصنيفًا يدرج الأشباه منها تحت قانونٍ واحد من مجموعة القوانين التي ينحلُّ إليها بناء المجتمع وآلته، وثالثتها وصف الوقائع وصفًا يجعلها واضحةً ناصعة أمام عين القارئ؛ وكانت عبقرية «جيزو» في قدرته على التحليل والتعليل، فليس هو بصاحب الخيال الذي يسلكه في عداد الطراز الأول من رجال الفن، وليس هو بالذي يتغلغل في الحياة فيرى ظلالها وأضواءها ولا هو بالكاتب الذي يمتاز بجودة الأسلوب، لكنه مفكِّر، يدرك حياة العصور السالفة عن طريق الأفكار التي سادت في تلك العصور، تقرؤه فلا تجد صورًا حية كالتي تُنتظر من قلم الأديب، ولا تجد قلوبًا نابضةً بالعواطف التي تستوقف نظر الرجل الذي تسيطر فيه العاطفة، بل تجد المجتمع قد انحلَّ أمامك إلى عناصر وخيوط، وتراك قد سايرت الكاتب حتى بلغت من بين هذه العناصر تلك الأسس التي عليها يقوم بناء المجتمع كله، وتلك الدوافع الكبرى التي تكمن وراء تيار الحياة.

وأشهر كتبه «تاريخ عام للمدنية الأوروبية»٩٥ و«تاريخ المدنية في فرنسا»٩٦ وقوام الكتابَين محاضراتٌ أُلقيت في السوربون بباريس؛ وهو فيهما يذهب إلى أن تقدم المدنية لا ينحصر في تطور الجماعات بل يشمل كذلك رقي الأفراد. وهو يعتقد أن سير المدنية الأوروبية عامة يتمثل أصدق تمثيل في سير المدنية في فرنسا خاصة، وفي فرنسا تستطيع أن ترى في جلاء كيف ساير الرقي العقلي للأفراد التطور الاجتماعي للأمة في مجموعها. وفي فرنسا تستطيع كذلك أن ترى في جلاء أن المذاهب الفكرية كانت دائمًا تصطحب بانقلاباتٍ شعبية. وفي تحليله لتاريخ فرنسا، تراه يرده إلى أساسٍ واحد، هو سير البلاد نحو الوحدة الاجتماعية والسياسية، فقد كان يسودها في الفترة التي امتدت من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر قوًى أربع أخذت تتعاون حينًا وتصطرع حينًا، وهي: الملكية، والنظام الإقطاعي، وسواد الشعب، والكنيسة. وفي سير البلاد نحو التوحيد، سقط النظام الإقطاعي من بين هذه العناصر الأربعة، وازدادت الملكية قوةً بضياع القوة من أيدي أمراء الاقطاع، ثم سقطت سلطة الكنيسة حين قرر الإنسان حقه في الحرية الدينية عندما نهض بالثورة البروتستانتية ليظفر باستقلاله الروحي. وبقيت إذن الملكية والشعب، لكن قوة الشعب أخذت تزداد وتوسِّع من دائرتها، كما أخذت قوة الملكية التي كانت صاحبة الحول والطول خلال القرن السابع عشر، تتناقص وتنكمش في القرن الثامن عشر حتى انتهى بها الأمر إلى زوال، ولم يبقَ هنالك إلا عنصرٌ واحد هو الشعب بما تقوم عليه من حكومة أقامها الشعب نفسه، وفي تنسيق العلاقة بين الشعب وحكومته تقع مشكلات السياسة كلها في العصر الحديث.

(٣) جيل ميشليه Jules Michelet (١٧٩٨–١٨٧٤م)

«ميشليه» هو أعظم من نفخوا الحياة في الماضي بقوة خيالهم، وعبروا عن روح فرنسا الغابرة بفصاحة أقلامهم. ولد في باريس من أبوَين فقيرَين؛ فعرف الغلام وهو لم يزل في نعومة أظفاره كيف يكون العسر والإملاق؛ فهذا أبوه يكدح طول يومه في صناعة الطباعة، ثم لا يكاد يقوى على حماية أسرته من عادية الجوع والبرد، ومع هذه المسغبة صمم الوالد على أن ينال ولده قسطًا من التعليم، وكأنما استمدَّ الولد شجاعةً وبأسًا من أبيه، فهو يرى أمه تنوء تحت عبء من العمل لتعاون أبًا يرزح تحت هم من الفقر، وإذا ما ذهب إلى مدرسته لقي من زملائه زرايةً وسخريةً، ومع ذلك كله لم ينل منه اليأس، وكلما شهد شيئًا من علائم بؤسه وبؤس والدَيه قرأ من الأدب ما يرد لنفسه الثقة، أو قصد إلى متحف ليرى من الآثار ما يغوص به في أعماق الماضي لينسى هذا الحاضر المتجهِّم. وما أحلى أيامًا كان يقضيها عند عمة له في الريف فتقصُّ عليه حكايات، قدم عليها العهد، تنبئ عن فرنسا في سالف أزمانها! ولم يمضِ على الفتى طويل وقت حتى سمع في طوية نفسه صوتًا يناديه بما ينبغي عليه أن يصنعه، وهو أن يحمل قلمه ليكتب التاريخ.

وفي عامه الثلاثين صدرت له باكورة آثاره، وهي «خلاصة التاريخ الحديث»٩٧ حيث استعرض فترةً طويلة بقلم العالم الأديب، ثم تبع ذلك «التاريخ الروماني»٩٨ و«مقدمة التاريخ العام»٩٩ ومنذ ذلك الحين، عاش «ميشليه» في التاريخ وبالتاريخ، فهو مدرس التاريخ في مدرسة المعلمين، وهو رئيس القسم التاريخي في «دار المحفوظات القومية» وهو خلف ﻟ «جيزو» في السوربون، وهو أستاذ التاريخ والأخلاق في «كوليج دي فرانس»١٠٠ وهكذا جعل الرجل حياته حياة قومه وبلاده، وقد بدأ كتابه «تاريخ فرنسا»،١٠١ وعمره عامان بعد الثلاثين، ولم يُتمَّه إلا بعد ذلك بسبعة وثلاثين عامًا.

انظر إليه وقد جلس إلى وثائقه، التي نُشر بعضها وبعضها لم ينشر، يستنبئها أخبار أعصرٍ خلت، وكأنه يخالط منها ناسًا من لحم ودم تنصت وتحدث. له الخيال القوي الذي ينفذ به خلال الصورة السطحية إلى اللب والصميم، ويأخذه العطف الشديد على ألوف من الرجال العاملين تتعاقب جيلًا بعد جيل في ظلام النسيان، وهو يبكي للأحزان التي يراها مرقومة على الورق مدادًا، وهو يفرح لخير يراه قد أصاب هذا أو ذاك ممن يستحقون الخير. وهو شديد الإعجاب بمن يراه جديرًا بإعجابه، شديد النقمة على من يثير فيه السخط والنقمة. يعرض أفكاره فإذا هي أوعية أُترعت بالعاطفة حتى حفافيها، ويعرض عاطفته فإذا هي مثقلة بالفكر الرصين. على هذا النحو كان يجلس «ميشليه» إلى وثائقه، أو قل كان يجالسها، ليعيد الحياة إلى ماضٍ ثوى في أعماق القبور. وتصور «ميشليه» تاريخ أمته كائنًا حيًّا له جسم وروح، ثم نظر إلى ما كتبه أعلام المؤرخين مثل «جيزو» و«ثييري» — وقد حدثناك عنهما — فوجد أن كلًّا منهما يتناول جزءًا واحدًا من ذلك الجسم أو شطرًا واحدًا من هذه الروح، أما هو فأمله ضخمٌ عريض، أمله أن يعيد إلى الحياة هذا الجسم كله كاملًا وهذه الروح كلها تامة، أمله أن يعيد تاريخ فرنسا كله، لأن تاريخ فرنسا كائنٌ عضويٌّ واحد يستحيل أن يتجزأ بغير أن يفقد الحياة، ومذهبه في ذلك أنه إما أن يحيي التاريخ كله أو لا يصنع شيئًا.

لكن هذا الشعب الذي أخذ على عاتقه أن يؤرِّخ له تأريخًا كاملًا، لا يتحرك في الهواء؛ إنه يعيش على أرض لها سماتها وقَسَماتها، من تربتها يستمد غذاءه ومن هوائها يتنفس حياته، وإذن فلتكن الخطوة الأولى من عمله العظيم أن يصف لك هذه الأرض التي عاش عليها قومه، وهنا ترى «ميشليه» يصور لك كل جزء من الأرض الفرنسية كأنه يصف كائنًا حيًّا لا يابسًا من جماد، ثم ما هو إلا أن يطالعك بحقيقة يكشفها أمام عينَيك، وهي أن طابع فرنسا الذي يميزها هو وليد هذه الوحدة الأرضية التي تصل أجزاء البلاد بعضها ببعض فتجعلها «فرنسا». وهو كلما مضى في تاريخه فترة بعد فترة يحاول جهده أن يبين لك أن الشعب الفرنسي ما غفا عن الحياة قط. فها هو ذا يصل بقصته إلى القرنين العاشر والحادي عشر وما اكتنفهما من ظلام، فيهتزُّ شعوره لما يلاقيه من جهل ومن عنف في ذلك العصر. ولكن هل ماتت في الشعب روحه؟ كلا! فهذا أمامك الفن القوطي، وهذه أمامك الحروب الصليبية، كلها تحدثك أن هنالك أفئدةً حية تعبر عن حياتها في آثار الفن وفي القتال في سبيل الدين. ثم دنا بتاريخه من ختام القرون الوسطى، فبدا كل شيء كأنما زالت عنه الحياة، وبدت جموع الشعب كأنها أصنام جمدت في عروقها الدماء؛ كلا! فهذه حرب المائة العام في ذلك العهد تشهد مولد الوعي القومي، فمن ويلات تلك الحروب ولدت القومية الفرنسية وأصبحت فرنسا وطنًا وأصبح الفرنسيون أمة.

وانقضت ثلاثة عشر عامًا والمؤرخ يساير أمته في نشوئها وارتقائها حتى جاوز العصر الوسيط وبلغ ختام عهد لويس الحادي عشر، وهنا وقف برهة! لماذا؟ لأن التفاتةً عابرة حانت منه إلى برج كنيسة ريمز؛ ذلك البرج الذي جرى التقليد بأن تتوج في ظله رءوس العاهلين، فرأى على حجر البرج عند أعلاه نقشًا يصور طائفة من بني الإنسان وقد سيمت عذابًا وشاهت أجسادًا! ماذا؟ أهؤلاء من الشعب الفرنسي في عهد الملكية المطلقة الذي أنا مقبل على كتابة تاريخه؟ أيقع مني البصر على مثل هذا الرمز ثم أجد في نفسي الهمة لأكتب عن إيماني بقوة الشعب وروح الشعب؟ لا! لأتريث قليلًا حتى أتثبت مما أنا مقدم عليه؛ لألتمس العصور التي تبدو فيها هذه الروح واضحة ثم أخطو خَطْو الحذر نحو عهدٍ كهذا الذي سادت فيه الملكية وكان الشعب بحيث أرى في هذا النقش عند حافة البرج. وبهذا قفز المؤرخ عبر قرنَين أو نحو ذلك ليؤرخ للثورة الفرنسية، التي أنفق في كتابة تاريخها ثمانية أعوام، والتي أخرج تاريخها كأنه ملحمةٌ شعرية بطلها هو الشعب الفرنسي نفسه. وعاد مؤرخنا بعد هذه الأعوام الثمانية التي أنفقها في تاريخ الثورة الفرنسية، إلى حيث كان قد ترك الطريق، عاد إلى القرن السادس عشر يواصل تاريخه، لكن الأعوام الثمانية أنفقت في جو من الثورة والثائرين لم تمضِ عبثًا لتترك روحه كما كانت قبلها. لقد تغير الرجل وتغيرت وجهة نظره؛ لقد كان مجد العصر الوسيط؛ كيف ذاك والكنيسة كانت تستبد بالناس، وكل استبداد هو الشر بعينه حتى لو صدر عن الكنيسة؟ وبمثل هذا التشكك أخذ يؤرخ للإصلاح الديني وللنهضة وللحروب الدينية، فجاء تاريخه هذا أقل من كتبه الأولى اتزانًا وتماسكًا.

وبلغ «ميشليه» عامه الرابع بعد الخمسين، وعندئذٍ (١٨٥٢م) طُلب إليه أن يقسم يمين الولاء للإمبراطور، ولكن الرجل لم يرد أن يكون من أولياء هذا الإمبراطور ورفض القَسَم، فعُزل من منصبه في «الكوليج دي فرانس» وفي «دار المحفوظات»؛ وغادر باريس ليأوي إلى دار له في حضن الجبل بالقرب من جنوا. وفي تلك البقعة الجبلية سكنت نفسه وفاضت عليها طمأنينةٌ عجيبة؛ ألم ينفق أعوامه في التعبير عن روح الآدميين من بني وطنه؟ ماذا لو اتجه الآن بجهده إلى فريقٍ آخر من بني وطنه يعبر عن روحهم؛ إلى عالم الطير وعالم الحشرات؟ ماذا لو عبر عن روح ما لا يستطيع التعبير من خلائق الله؛ هذا البحر وذاك الجبل؟ هنا بدأ المؤرخ ينشر أمامه وثائق من نوعٍ جديد ليدرسها، نشر أمامه وثائق الطبيعة، أو قل نشرت أمامه الطبيعة صحائفها وما عليه إلا أن يقرأ؛ وقد قرأ بقلب يعمره الحب لتلك الطبيعة فأضاء له الحب ما تخفي من معانٍ، ومزج روحه بروحها وهو يكتب عنها، كما كان قد مزج روحه بروح الشعب وهو يكتب عنه، وأصدر كتاب «الطير»١٠٢ وكتاب «الحشرة»١٠٣ وكتاب «البحر»١٠٤ وكتاب «الجبل»١٠٥ وهي كتبٌ أقرب إلى الأناشيد يتغنَّى بها محبٌّ للطبيعة عالمٌ بأسرارها، منها إلى الرسائل العلمية، تفيض بالعاطفة فيضًا، وتنهض دليلًا على قلمٍ قدير.

(٤) آبل فرانسوا فلمان Abel-Francois Villemain (١٧٩٠–١٨٧٠م)

كان النقد الأدبي قُبيل هذا العصر الذي نؤرخه الآن يحكم على الأثر الفني بإحدى طريقتَين، فإما أن يطبق عليه طائفة من القواعد التي عاشت على مر الزمان فاكتسبت مجدها بالقدم، وإما أن يُحكَّم فيه الذوق وحده. أما إن اتبعت الطريقة الأولى فالأثر الفني جميل أو قبيح بمقدار ما يجري على سنن تلك القواعد الموروثة أو يبعد عنها، كما تستطيع مثلًا أن تحكم على جملة بصحة التركيب أو خطئه وفق مجموعةٍ معروفة من القواعد؛ وأما إن اتبعت الطريقة الثانية فالحكم هو الناقد وحده، إن قالت له أذنه هذا شعرٌ نابٍ كان الشعر نابيًا، أو قالت إنه جميل فهو جميل.

لكن أقبل على الناس عهدٌ جديد، هو القرن التاسع عشر، فلفَّهم بجوٍّ جديد هو جو العلم الذي ساد إبان ذلك العهد؛ وأي علم؟ علم الحياة على وجه التخصيص، الذي شغل الأذهان بنظرياته في التطور، والذي جاوز دائرة العلماء إلى الأدب وإلى الدين وإلى الاجتماع وإلى كل ضرب من ضروب التفكير. إن أردت أن تدرس حيوانًا فواجبك أن تتتَّبع نشأته وتطوره لتضعه في موضعه الصحيح من شجرة الأنساب والأسلاف والأبناء والأحفاد؛ فلماذا لا يكون ذلك أسلوبنا أيضًا في دراسة الأدب؟ إن أردت أن تدرس أثرًا أدبيًّا دراسةً نقدية فتعقَّب نشأة العقل الذي أنتج ذلك الأثر، وحلِّل عناصره لتبين كيف يمكن أن يكون ذلك الأثر حاصل تلك العناصر، فإن استطعت أن تردَّه إلى «أ، ب، ﺟ، د» من عوامل المجتمع والسياسة والبيئة والنزعات الموروثة في الجنس الذي ينتمي إليه الأديب وفي الأديب نفسه باعتباره فردًا هبط من أسرةٍ معينة في ظروفٍ معينة؛ فقد أدَّيت واجبك نحو النقد الأدبي الصحيح. وربما جاز لنا أن نعدَّ «مدام دي ستايل»١٠٦ مؤسِّسةً لهذا المذهب النقدي؛ فهي إذ قررت أن الشعوب التيوتونية تميل بطبعها إلى الأدب الابتداعي، وأن الأمة الفرنسية تنحو بطبعها نحو الأدب الاتباعي، لا يعنيها أن تحكم أيهما أجمل، لأن واجبها نحو النقد لا يلزمها بمثل هذا الحكم، وحسبها أن تبين كيف جاء اختلاف الذوق في الشعوب التيوتونية عنه في الشعب الفرنسي نتيجة لأسبابٍ هي كذا وكذا مما يؤثر في تكوين الفكر والخيال.
وهذا الاتجاه نحو تعليل الأثر الأدبي بردِّه إلى عناصره التي كوَّنته — ولنسمه المذهب التاريخي في النقد — لم يقتصر على النقد الأدبي وحده، بل ساد الدراسة الفلسفية والسياسية كذلك؛ فبينما كان «كوزان»١٠٧ يدرس الفلسفة على هذا النحو، و«جيزو» يطبق الطريقة نفسها في عرضه للسياسة، كان «فلمان» يدرس الأدب مستضيئًا بهذا المذهب.
كان «فلمان» عالمًا متمكنًا من الأدب الفرنسي، بل من الآداب الإنجليزية والإيطالية والإسبانية كذلك. وقد أصدر «عرض للأدب في العصر الوسيط»١٠٨ و«عرض للأدب في القرن الثامن عشر»١٠٩ فاستعرض بهذين الكتابَين آفاقًا فسيحةً منوَّعة الثمار، فكان يستحيل عليه أن يطبق قاعدةً واحدة، أو مجموعةً قليلة من القواعد في دراسة هذه الآثار الأدبية كلها؛ فاهتدى بوحي من طبيعته إلى أن يدرس كل أثر على حدة كما يدرس الكائن الحي في علم الحياة، وبهذا تحدَّد الاتجاه نحو المذهب التاريخي في النقد، وإن يكن «فلمان» لم يحدِّد لهذا المذهب النقدي حدودًا تجعله مذهبًا واضح المعالم، وإنما هداه إلى هذا الاتجاه في الدراسة ما لاحظه مقابلة بين الآثار الأدبية وشتى ظواهر البيئة الطبيعية والاجتماعية؛ فهو في استعراضه لعصر بعد عصر، وأمة في إثر أمة، رأى أن حركةً فكرية بعينها صحبتها آثارٌ أدبية ذات لونٍ معين، وهكذا لكل محيطٍ فكري أدبه؛ إذن فدراسة الأدب هي أن نردَّه إلى هذا المحيط الذي أنتجه. هذا هو ما صنعه «فلمان» في دراسته للأدب، فمهد به الطريق إلى شيخ النقد الفرنسي في القرن التاسع عشر «سنت بيف»،١١٠ وإن يكن مما يؤخذ عليه أنه كان أحيانًا ضحل المعرفة قليل العلم يحاول أن يكسب إعجاب قارئيه بفصاحة تعبيره.

(٥) دزريه نيسار Désiré Nisard (١٨٠٦–١٨٨٨م)

بينما كان «فلمان» يتجه بحركة النقد الأدبي نحو المذهب التاريخي الذي حدثناك عنه الآن، وقف ناقدٌ آخر وقفةً أخرى في عالم النقد، ذلك هو «نيسار» الذي تمثل فيه المذهب القياسي في النقد، ونعني بالمذهب القياسي قياس الأثر الأدبي بقاعدة يجتمع الرأي على صوابها؛ فلا بد أن يخضع النقد الأدبي لطائفة من القوانين الثابتة حتى نقضي على فوضى الأذواق، أو بعبارةٍ أخرى، لا بد أن يصبح النقد الأدبي علمًا من العلوم. وأهم مؤلفات «نيسار» كتابه «تاريخ الأدب الفرنسي»١١١ الذي أنتجه في أعوامٍ طوال، والذي حاول فيه أن يخضع الأحكام الأدبية للقواعد الثابتة. وطريقته هي أن يقيس الأثر الأدبي الذي هو بصدد الحكم عليه بمَثلٍ أعلى كوَّنه في ذهنه عما يجب أن يكون عليه الأدب الذي من قبيل هذه القطعة الأدبية المعينة. هبنا — مثلًا — نريد أن نحكم على قصيدة من الشعر الوجداني؛ فينبغي أولًا أن نسائل أنفسنا: ماذا نريد من القصيدة الوجدانية إن أردنا لها الكمال في نوعها؟ نريد كذا وكذا من الصفات، وقد تمثلت هذه الصفات جميعًا في كيت وكيت من قصائد الشعر الفرنسي من جهة ومن قصائد الشعر في سائر أنحاء العالم من جهةٍ أخرى؛ إذن فلنخبر هذه القصيدة التي أمامنا لنرى إلى أي حدٍّ قد جاءت لنا بما نريد، وإلى أي حدٍّ تقرب من هذه النماذج التي اتفقنا على أنها حققت الشروط المطلوبة فأصبحت مُثُلًا يقاس عليها. والحكم بجمال القصيدة أو بقبحها متوقف على هذه المقارنة وحدها، ومن رأيه أن خير ما أنتجته أقلام الأدباء في فرنسا هو ما كان فيه سلطان العقل ظاهرًا في التنسيق والتشذيب، فأرسل ما شئت العنان لخيالك وعاطفتك على شرط أن يرضى العقل آخر الأمر عن النسب بين العناصر التي يتكون منها أدبك. إذ ليس الأدب أن يطلعنا الفرد على جوانب شذوذه، إنما الأدب الصحيح أن يبين لنا الأديب كيف تسير الحياة الإنسانية وفق نزعاتٍ معروفةٍ معينة، يستطيع تبيانها وتوضيحها لنزداد ببيانه وإيضاحه علمًا بالحياة. وليس الخيال أن تشطح في أوهام وتهاويل، إنما الخيال الصحيح ظاهرة من ظواهر العقل نفسه، لأنه ينظم مجموعة من التفصيلات والعناصر تنظيمًا يطابق منطق الحياة. وصفوة القول عند «نيسار» أن الأديب ليس حرًّا فيما يكتب، ليس حرًّا في تفكيره وخياله، بل هو مقيَّد بقواعد العقل، فلكل شيء حدوده التي يجب أن يقف عندها وإلا جاوز ما يقتضيه العقل ويرتضيه. ومثل هذا الأدب تراه على أجود ما يكون مثالًا في الأدب الفرنسي إبان القرن السابع عشر، أي عهد عاهل فرنسا العظيم لويس الرابع عشر، الذي يسمى في تاريخ الأدب الفرنسي بالقرن العظيم؛ وإذن فليكن الأدب في ذلك العصر نموذجنا الذي نقيس عليه.

وهكذا ترى أن «نيسار» لم يكن ممن يؤمنون بأن النقد الأدبي «مسألة أذواق»، فذلك في رأيه فوضى، لأنه إذا اختلفت الأذواق فلا حكم بينها. وكانت الغاية التي ينشدها «نيسار» هي أن يضبط «الأذواق» بالقواعد. ولكنه من الحق أن نقول إنه حين أراد أن يجعل من النقد علمًا ينبني على أصولٍ ثابتة، وحين أراد أن يهتدي إلى تلك الأصول الثابتة، جعل «ذوقه» حكمًا، فما يصح أن يُتخَذ نموذجًا يقاس عليه هو ما صادف منه إعجابًا، وقد يكون إعجابه نفسه أمرًا مشكوكًا في سلامته؛ وإذن فقد تدهور النقد على يدَيه إذ أراد له ارتفاعًا، ولكنه في تدهوره ذاك اكتسب شيئًا وهو أنه لفت الأنظار إلى وجوب العناية بالنقد الصحيح، وإن شئت فقل عن «نيسار» إنه جاء بمثابة الشكيمة التي حدَّت بعض الشيء من رغبة في التحلل من جميع القيود باسم الحرية.

(٦) سنت بيف Sainte-Beuve (١٨٠٤–١٨٦٩م)

وبعدُ، فإن «سنت بيف» هو ناقد المدرسة الابتداعية غير منازَع، وهو أعظم من نقد على أساس المذهب التاريخي الذي بسطناه عند الحديث عن «فلمان» وهو المذهب الذي يفهم الأثر الأدبي بفهمه للظروف التي عملت على إنتاجه، وقد نعتناه بالتاريخي لأنه شبيه بعلم التاريخ الطبيعي الذي يفهم الكائن الحي بوضعه في موضعه من شجرة التطور لكي تظهر السوالف التي انتهت إلى خلقه وإخراجه.

كان «سنت بيف» شاعرًا وقصاصًا، وكان يدرس الطب، وكان شكَّاكًا، وكان مؤمنًا، وكان اشتراكيًّا، وكان استعماريًّا. مفارقات يُعلِّلها أنه كان يسبح في محيط الفكر سبحًا، كلما فرغ من جانب انتقل إلى جانبٍ آخر، فهو اليوم شكَّاك لأنه يدرس ويفهم ويستسيغ ما يقوله الشكَّاكون، وهو اليوم مؤمن لأنه يقرأ ويعجب بما يقوله المؤمنون، وهكذا كلما فهم شيئًا تركه جانبًا ليفهم شيئًا آخر.

أصدر «سنت بيف» كتابه «عرض للشعر الفرنسي في القرن السادس عشر»١١٢ ليدل به على أن المذهب الابتداعي قديم في فرنسا قدم القرن السادس عشر، ثم أخرج «صور أدبية»١١٣ و«صور معاصرة»١١٤ أخذ فيهما يتنقل من أديب إلى أديب، ويحلل من يتناوله بالدرس من الأدباء تحليلًا لا يغفل شيئًا من حياته وظروفه التي كوَّنت أدبه، حتى إذا ما أخرج كتابه «بور رويال»١١٥ كان قد بلغ بمذهبه في النقد مرحلة التحديد الواضح؛ إذ أخذ يقسم في هذا الكتاب رجال الأدب أنماطًا تنتمي كل مجموعة منها إلى فصيلةٍ معينة، ويُفصِّل لكل نمطٍ أدبي مميزاته وصفاته، بحيث لا يتعذر إذا درست أديبًا أن تضعه في موضعه من شجرة الأنساب. وبعدئذٍ أخذ مدى خمسة وعشرين عامًا يدرس الأدباء أديبًا أديبًا، يوضح معالم كل أديب ويميزه عن سواه، ومن هذه الصور يتألف كتاباه «أحاديث الاثنين»١١٦ و«أحاديث الاثنين الجديدة»١١٧ وتستطيع أن تعدَّ هذين الكتابَين بمثابة مؤلَّف في التاريخ الطبيعي، لولا أن أنماط الأدباء قد أخذت فيه مكان أنواع الحيوان التي يدرسها التاريخ الطبيعي. وفي هذين الكتابَين فصل المذهب التاريخي في النقد تفصيلًا، ووضح بالأمثلة الكثيرة توضيحًا لا يدع زيادة لمستزيد.

لم يرد «سنت بيف» — كما أراد «نيسار» — أن يجعل من النقد الأدبي علمًا يقوم على أصولٍ مقررة وقواعدَ ثابتة، أو بعبارةٍ أصحَّ لم يطمع في ذلك؛ إذ رآه فوق مقدور شخصٍ واحد؛ وإنما كان رجاؤه أن تكون الملاحظات الكثيرة التي يثبتها هو ويثبتها غيره من النقاد طريقًا ينتهي إلى تكوين العلم الذي نرجوه للنقد. وإلى أن يتم تكوين هذا العلم المنشود ويجمع الرأي على سلامة أصوله وصحة قواعده لا ينبغي أن نتسرع فنضع قاعدةً عامةً شاملة نحكم على أساسها في أقدار الأدباء، بل يجب أن يُدرَس كل أديب على حدة، وبغير افتراض قواعدَ أدبية قبل البدء في دراسته. وطريقته في الدراسة هي أن يدرس الأديب ليفهم ما أنتجه من أدب، أي أن يتخذ من حياة الأديب منظارًا ينظر خلاله إلى أدبه فيفهمه. فإذا أردت مثلًا أن تدرس شعر المتنبي فادرس كل تفصيلات حياته أولًا؛ لأن شعره هو حاصل جمع العناصر التي تكونت منها تلك الحياة. وهكذا كان «سنت بيف» يتناول الأديب فيحلل كل ما أحاط به وما سبقه مما كان له أثر في تكوينه؛ يحلل بنية جسمه، يحلل أسرته التي هبط منها، ويحلل المجتمع الذي نشأ بين أفراده، يحلل الظروف التي سايرته في تعليمه، يحلل علاقاته بأصدقائه وصلاته بمعاصريه، يحلل اللحظة التي بدأ فيها أدبه في الظهور، فيم اختلفت عن سائر لحظات حياته، ويحلل اللحظة التي بدأ فيها أدبه في التدهور إن كان أدبه قد اجتاز مرحلةً كهذه ليرى علة هذا التدهور في هذا الظرف المعين دون سواه، يحلل أتباعه ومشايعيه ومن أُعجبوا بأدبه، كما يحلل أعداءه ومناهضيه، فإن وجد أن هذه الجوانب كلها تلتقي في نقطةٍ واحدة واستطاع أن يصفها، كان هذا الملتقى وما يوصف به هو نقد الأديب. ولعلك تدرك من هذا أن «سنت بيف» لا يقدم لك «قاعدة» تحكم بها من فورك على الأثر الأدبي أجيد هو أم رديء، إنما يقدم لك «طريقة» في البحث وأسلوبًا في النقد، وقد كان لهذه الطريقة أعمق الأثر في الدراسات الأدبية إبان القرن التاسع عشر.

١  Chénier، راجع ما قلناه عنه في الجزء الثاني.
٢  Essai sur les Revolutions.
٣  Génie du Christianisme.
٤  Martyrs.
٥  Mémoires d’Outre Tombe.
٦  Tasso، انظر أدبه في الجزء الثاني.
٧  Bernardin، وهو مؤلف قصة «بول وفرجیني».
٨  Raphael، ترجمها الأستاذ أحمد حسن الزيات.
٩  Harmonies Politique et Religieuse.
١٠  Voyage en Orient.
١١  Jocelyn.
١٢  La chute d’un Ange.
١٣  De Vigny.
١٤  Gautier.
١٥  Dumas.
١٦  De Musset.
١٧  Odes et Poèsies Diverses.
١٨  Odes et Balladse.
١٩  Les Orientales.
٢٠  Cromwell.
٢١  راجع ما قلناه قبلُ في وحدتَي المكان والزمان في الأدب المسرحي، في الجزء الثاني في الفصل الخاص بالأدب الفرنسي في القرن السابع عشر.
٢٢  Les Feuilles d’Automne.
٢٣  Chants du Crépuscule.
٢٤  Les Voix Interieures.
٢٥  La Nache.
٢٦  Les Rayons et les Ombers.
٢٧  Les Chatiments.
٢٨  Les Contemplations.
٢٩  La Légende des Siècles.
٣٠  Lés Miserablles.
٣١  Puisque J’ai mis ma Lévre.
٣٢  La Tombe et La Rose.
٣٣  La Dryade.
٣٤  Poèmes Antiques et Modèrnes.
٣٥  Moїse.
٣٦  Chatterton.
٣٧  La Colère de Samson.
٣٨  Mont des Oliviers.
٣٩  La Mort du Loup.
٤٠  Le Cor.
٤١  Les Nuits.
٤٢  La Coupe et les Lèvres.
٤٣  Namouna.
٤٤  Lorenzaccio.
٤٥  Confession d’un Enfant du Siècle.
٤٦  Les Caprices de Marianne.
٤٧  On ne badine pas avec l’Amour.
٤٨  Sur Une morte.
٤٩  Poésies.
٥٠  Comedie de la Mort.
٥١  راجع فيون في الجزء الثاني.
٥٢  Les Grotesques.
٥٣  Le Capitaine Fracasse.
٥٤  L’art.
٥٥  Notre-Dame de Paris.
٥٦  Alexandre Dumas.
٥٧  Les Trois Mousquetaires.
٥٨  Henri Beyle.
٥٩  Merimée.
٦٠  Balzac.
٦١  Taine.
٦٢  De L’amour.
٦٣  Le Rouge et le Noir.
٦٤  Chartreuse de Parme.
٦٥  Lucile-Aurore Dupin.
٦٦  Jules Sandeau.
٦٧  Rose et Blanche.
٦٨  Indiana.
٦٩  Valentine.
٧٠  Lélia.
٧١  Jacques.
٧٢  André.
٧٣  Simon.
٧٤  Maupra.
٧٥  Jeanne.
٧٦  Le Meunier d’Agribaual.
٧٧  Le Péché de M. Antoine.
٧٨  Consuelo.
٧٩  La Mare au Diable.
٨٠  François le Champi.
٨١  Cromwell.
٨٢  Le Dernier Chouau.
٨٣  Peau de Chagrin.
٨٤  Eugénie Grandet.
٨٥  La Recherche de l’Absolu.
٨٦  Le père Goriot.
٨٧  La Comédie Humaine.
٨٨  Carmen.
٨٩  Colomba.
٩٠  Letfres à une Inconnue.
٩١  Lettres sur l’Histoire de France.
٩٢  Histoire de la Conquête de l’Angleterre.
٩٣  Récits des Temps Mèrovengiens.
٩٤  Essi sur l’Histoire de la Formation du Tiers Etat.
٩٥  Histoire Générale de la Civilisation en Urope.
٩٦  Histoire de la Civilisation en France.
٩٧  Brècis de l’Histoire Moderne.
٩٨  Histoire Romaine.
٩٩  Introdction à l’Histoire Universelle.
١٠٠  Collège de France.
١٠١  Histoire de France.
١٠٢  L’Oiseau.
١٠٣  L’Insecte.
١٠٤  La Mer.
١٠٥  La Montagne.
١٠٦  mme de staël.
١٠٧  Cousin.
١٠٨  Tableau de Litterature au Moyen Age.
١٠٩  Tableau de la Litterature au XVIII Sièclle.
١١٠  Sainte Beuve.
١١١  Histoire, de la Littérature Française.
١١٢  Tableau de la Poésie Française au XVIe Siècle.
١١٣  Portraits Littéraires.
١١٤  Portraits Contemporains.
١١٥  Port-Royal.
١١٦  Causeries du Lundi.
١١٧  Nouveaux Lundis.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤