فنون الأدب

(أ) الشعر

كان الشعر قبل النهضة الحديثة، وفي أوائلها، بادي الضعف، شديد الهزال؛ وربما كان ضعفه وهزاله أظهر من ضعف النثر وهزاله؛ لأن الشعر فنٌّ جميل يعتمد على الجمال أكثر مما يعتمد على الحقائق، فإما أن يكون جميلًا وإما أن يكون عدمه خيرًا من وجوده. أما النثر فقد يكون وسطًا ويكون مع ذلك مقبولًا.

وقد كان الشعر في أول هذه الفترة التي نؤرخها يجري على سنن الأقدمين من حصر نفسه في الغزل والمديح والهجاء وشيء من الوصف، ولكنه يختلف عن شعر الأقدمين في أنه حفظ الشكل وفقد الروح.

وربما مثل هذا الدور السيد إسماعيل الخشاب (المتوفى ١٨١٥م) والشيخ حسن العطار (المتوفى ١٨٣٤م) والسيد علي الدرويش (المتوفى ١٨٥٣م) في مصر، ونقولا الترك (المتوفى ١٨٢٨م) وبطرس كرامة (المتوفى ١٨٥١م) في لبنان، والشيخ أمين الجندي (المتوفى ١٨٤١م) في سورية.

فهؤلاء الشعراء كانوا، في الأغلب، شعراء للأمراء يهنئونهم بالأعياد، أو يؤرخون حادثةً من أحداثهم، كبناء قصر، أو ولادة مولود، أو موت عزيز عليهم، أو نحو ذلك.

وقد يشعرون لأنفسهم أو لأصدقائهم وهو ما يسمى بالإخوانيات، وشعرهم في هذا، كذلك، مصنوع لا مطبوع.

فقد يكون شيخ من شيوخ الدين لم يقع قط في أسر عشق ثم يتغزل، لا يقصد من غزله إلا أن يحاكي ضربًا من ضروب الشعر الذي جرى عليه القدماء، حتى لقد يتغزل في غلام، أو يصف الخمر، وهو آمِنٌ، لأن الناس قد ثبت في أذهانهم أن الشعراء يقولون ما لا يفعلون.

وقد ظل الشعر على هذا الحال حتى في أول عصر النهضة، لأن النهضة في أول أمرها لم تكن نهضةً شعرية وإنما كانت نهضةً علمية وثقافية، واحتاج الشعر إلى زمن حتى يتأثر بها أو يدركها.

ولنضرب لذلك أمثلة، فيقول الخشاب متغزلًا:

يا شقيق البدر نورًا وسنا
وأخا الغصن إذا ما انعطفا
بأبي منك جبينًا مشرقًا
لو بدا للنيرين انكسفا
بغيتي منك رضاب ورضا
وعلى الدنيا ومن فيها العفا

ويقول العطار:

أفلا رثيت لعاشق لعبت به
أيدي المنون ونازعته خطوبه
أنت النعيم له، ومن عجب تُعذِّ
به وتُمرضه وأنت طبيبه

ويقول السيد علي الدرويش يمدح محمد علي باشا ويؤرخ مجيء الجراد وموت البقر:

يا صاح ما هذا الخبر؟
قالوا الجراد هنا ظهر
قلت الجراد فقال إي
تدري الجراد إذا ابتدر؟
قلت استعذ بالله قا
ل وهل من المقضي مفر؟
ما كان قط بخاطر
في خاطري هذا الخبر

•••

جاء الجراد كأنه
يتلو على البقر السور
أو أن أرواح البها
ئم أُلبست تلك الصور

•••

فترى الجراد على الجر
يد مكللًا مثل الثمر
رُقْشٌ تراها إنها
نار تلظَّت بالشجر
لواحة للأرض لا
تبقي النبات ولا تذر
وصغيرة في حجمها
لكنها إحدى الكبر
الأرض كانت جنة
فالآن تُرمى بالشرر

•••

دقوا الطبول لرقصه
في الزرع لما أن زمر
وغزوا على ذا المعتدي
فمضى هزيمًا وانكسر
وكذا الخديوي عادة
لم يَغزُ إلا وانتصر

•••

هل للخديوي مشبه
في همة أو في سير
هل قبله رد الجرا
د سواه فيما قد غبر

ويختمها مؤرخًا بقوله:

أرخته وصل الجراد
لمصر في عام البقر
١٢٥٩م

ويقول الشيخ شهاب في قصيدة تكتب على جامع القلعة:

فدع قصر غمدان وأهرام هرمس
وإيوان كسرى إن أردت لتهتدي
ودع إرمًا ذات العماد ونحوها
وعرشًا لبلقيس كصرحٍ ممرد
ودع أموي الشام وانزل بمصرنا
وبادر إلى هذا بإيماء مرشد
فلو عُدِّدتْ في الكون بدء بدائع
لكان به ختم لذاك التعدد
كأن الليالي الوالدات عجائبًا
أُصبن بعقم بعد هذا التجدد

ويقول بطرس كرامة يصف ينبوع الصفا وإجراء مائه إلى بيت الدين على عهد الأمير بشير الشهابي:

صاح قد وافى الصفا يروي الظمأ
بشراب كوثري ألعس
وأفاض الشهد في روض الحما
لجلا الغم وبرء الأنفس

ويقول في وصف باقة زهر أهداها له الأمير بشير:

وباقة زهر من مليك مُنحتها
معطرة الأرواح مثل ثنائه
فأبيضها يحكي جميل خصاله
وأصفرها يحكى نضار عطائه
وأزرقها عين تشاهد فضله
وأحمرها يحكى دماء عدائه

ويقول الشيخ أمين الجندي يصف الربيع والربوة في دمشق:

يا حبذا الربوة من دمشق
بالفضل حازت قصبات السبق
كم أطلعت بها يد الربيع
من كل معنًى زائد بديع
وفككت أنامل النسيم
أزرار زهر الرند والشميم
وسقطت خواتم الأزهار
من فنن الأغصان كالدراري
والتفَّ سيف البرق في أوراق
مذ شام خيل الريح في سباق
ما بكت السماء بالغمام
إلا وصار الزهر في ابتسام

وهكذا كان أغلب الموضوعات التي يجري فيها الشعر هي التأريخ لدار أو مسجد، أو التهنئة بمولود، أو الشكر على هدية، أو رثاء فقيد، أو قصيدة لصديق في عارضٍ حدث والرد عليها من صديقه، أو تشطير أبيات أو تخميسها أو تسبيعها.

أما شعر القلب فقلما تعثر عليه، وأما شعر يعرض لوصف الحياة الاجتماعية أو بؤس الشعب أو صرخة من ظلم أو مناداة بعدل فغير موجود، لأن السلطات لم يكن صدرها يتسع لذلك، والشعراء أنفسهم ليس لهم من الثقافة العالية، ولا من المركز الاجتماعي، ما يؤهلهم لعشق الحرية أو التغني بجمال الطبيعة أو نحو ذلك مما خاض فيه الشعر من بعدُ.

حتى إذا كانت النهضة، وتقدمنا بعض الشيء، بدأ المطلعون على الآداب الغربية يتأثرون بها، ويقتبسون منها، ومن أمثلة ذلك محمد عثمان جلال المولود سنة ١٨٢٩م فقد درس بعض اللغات الأوروبية في مدرسة الألسن، وتدرج في الوظائف إلى أن كان قاضيًا، وقد ترجم عن الفرنسية رواية بول وفرجيني، كما ترجم قصص لافونتين شعرًا بتصرف، ونشرها في كتاب اسمه «العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ».

وكان جلال شاعرًا مطبوعًا خفيف الروح، وربما وضع من شعره عند من أرخوا الشعر ونهضته أنه كان سهل الأسلوب متدفقه، لا يكثر من التأنق والتجمل، وكثيرًا ما جنح إلى العامية يقول فيها شعره.

ومن أمثلة ما ترجمه في العيون اليواقظ قصة شجرة البلوط والسنديانة:

حكاية عن شجر البلوط
نقلتها عن شيخنا السيوطي
قال إلى سنبلة من فول
ليتك في العلو تحكي طولي
ليتك لو غرست تحت رجلي
وكنت فارقت الحمى من أجلي
وكنت في أمن من العواصف
قالت له ما مسني من تلف
إني وإن كنت نحيف القامة
وفي الهوى لا أملك استقامة
فإن ما عندي من اللدونة
وقت الرياح يوجب المرونة
وأنثني تيهًا على أمثالي
وبالرياح قط لا أبالي
وبينما الاثنان في تنازع
إذ نفخت منافخ الزعازع
واغبرَّت الآفاق والبطاح
وجلجلت في الشجر الرياح
وقد أصابت قامة البلوط
ونزلت به إلى الهبوط
وسنبل الفول يميل تارة
وينثني أخرى مع الأمارة
ولم يصبه من أذًى ولا ضرر
وربما كان الهلاك في الكبر

وقد تأثر الشعر بعوامل النهضة التي ذكرناها من قبلُ وإن تأخر تأثره عن تأثر النثر؛ فقد كانت الحاجة إلى النثر أقوى؛ فنشر دواوين الشعراء الأقدمين مكَّن ناشئة الشعراء آنذاك من الاطلاع على شعر الفحول من متقدمي الشعراء بعد أن كانوا لا يطلعون إلا على شعراء زمانهم أو ما قرب من زمانهم، والاطلاع على شعر الفرنجة مكَّن بعضهم من الاقتباس منه والتأثر به. وتغير البيئة الاجتماعية نفسها، على أثر الاحتكاك بالأجانب، غيَّر من الشعر؛ لأن كل أدب سواء كان شعرًا أو نثرًا أو قصة يتأثر بالبيئة إلى حدٍّ كبير.

ومع هذا كله فلم يكن تقدم الشعر طفرةً وإنما كان تدرجًا؛ فقد تنقل من محافظين إلى مخضرمين إلى أحرارٍ مجددين … فمثلًا كان يغلب على الشعر العربي المديح ونحوه من الأغراض التقليدية، غير أن شأنه أخذ يضعف شيئًا فشيئًا بحلول الحياة الديمقراطية محل الحياة الأرستقراطية، وتقويم الشعوب أكثر من تقويم الأمراء، ولم يخلص منه دفعةً واحدة فوُجد شعراءُ مخضرمون يقولون في المديح مثل ما يقول الأقدمون، وحتى في المخضرمين نرى أثر ذلك في التخفف من الغلو، والانصراف عن المبالغة، وغلبة القصد والاعتدال.

كما قلَّت العناية بالهجاء لأن المدنية ورقيَّها، ورقة الذوق تأنف من الهجاء الفاحش، ولا تسمح إلا بالهجاء بالإيماء.

واستمرَّ الغزل محتفظًا بمركزه في الشعر الجديد كما كان في الشعر القديم لأنه ينبع من عاطفةٍ ملازمة للإنسان في بداوته وحضارته واختلاف حالاته الاجتماعية، فإن تغير في شيء فميله إلى التعبير الصادق عن طبيعة الشاعر ودقته في تصوير عاطفته، وقد كان أكثره مصنوعًا يصدر عمن لا يعشق.

وكذلك ما كان من رقي الشعر في الطبيعة وجمالها، فقد كان يُفهَم من هذا النوع أنه عبارة عن جَهد الشاعر في أن يجد للنظر تشبيهًا وكفى، فبدأ يتحول إلى محاولة للشاعر أن يشرب المنظر الطبيعي ويرتوي به أو يحتضنه. ثم يبثُّ ذلك كله مشاعر في شعره، أو أن يفنى الشاعر في هذا المنظر الجميل ويصف فناءه.

ثم خلقت المدنية والظروف الاجتماعية الشعر السياسي والاجتماعي. نعم كان هناك شعرٌ سياسي في العصور الأولى كالذي نراه في شعراء الزبيريين والأمويين من أمثال عبد الله بن قيس الرقيات وجرير والفرزدق والأخطل، ولكن كانت له صبغةٌ خاصة لا تتصل بالشعوب وحرياتها، إنما يتجه إلى الانتصار للقادة ومن بيدهم زمام الأمور. فلما نشأت المدنية واحتكَّ الشرق بالغرب وطمحت أوروبا في استعمار الأمم الشرقية تيقظ الوعي القومي يدافع عن هذا الطمع، حتى إذا كان الاحتلال وجدت النزعة إلى الاستقلال، فكان الشعراء يمثلون دورهم في هذا الباب، وكان الشعر السياسي بهذا المعنى.

وكذلك كان الشأن في الشعر الاجتماعي، فقد أخذ الشعراء يحسون آلام الشعوب وعللها وآفاتها، مثل قولهم في تحرير المرأة وتربية الأطفال ومضار القمار والاعتزاز باللغة العربية ونحو ذلك.

كما كان من أثر تقليد الشرق للغرب اتجاه الشعراء إلى الشعر التمثيلي تقليدًا لما عند الأوروبيين، كما فعل الشيخ خليل اليازجي المتوفى ١٨٨٩م، إذ ألف قصة المروءة والوفاء في نحو ألف بيت نظمها حول قصة حنظلة الطائي مع النعمان.

هذا من ناحية الموضوع، أما من ناحية الأسلوب والأوزان والقوافي فقد كانت روح المحافظة أشد مما كانت في الموضوع، فحوفظ على الأوزان والقوافي إلا في القليل النادر، وأكثر ما يظهر الميل إلى الأوزان القصيرة، ونشوء القصيدة التي لا تلتزم قافيةً واحدة بل تتعدد قوافيها في المقطوعات المختلفة، وقد حاول بعضهم تقليد الشعر الفرنجي بإنشاد الشعر المرسل، ولكنها كانت حركة لم يكتب لها الانتشار.

ورقي الأسلوب من ناحية جزالته وتأثره بشعر الفحول من القدماء ورغبة الشعراء عن الإفراط في أنواع البديع وميلهم إلى قربه من أذهان الناس بوضوحه وجماله البسيط.

•••

وربما كان البارودي أول ناهض بالشعر العربي، وساعدته ظروفه الخاصة على هذا النضج الشعري؛ فهو من عنصرٍ أرستقراطي ينحدر من أصلٍ شركسي وينتسب إلى المماليك، وتربى تربيةً عسكرية، فقد تعلم في المدرسة الحربية وخرج منها ضابطًا وترقَّى في رتب الجيش ورأس حملة في حرب تركيا مع الروس، وفي ثورة كريت، وتولى نظارة الأوقاف ثم رياسة النظار قبيل الثورة العرابية، وله ثقافةٌ تركية وفارسية اطلع فيها على آداب اللغتَين ونظم فيهما، ورأى الدنيا بأشكالها وألوانها، فعاش عيشة الترف كما يعيش شبان الأغنياء في مصر، وجلس مجالس اللهو والشراب وتعرض للغزل، وأحب ولَهَا، واتصل بالوظائف الحكومية في عهد إسماعيل فمكَّنه ذلك من دراسة الحياة الاجتماعية والسياسية في مصر، ورحل إلى الآستانة وأوروبا ورأى مدنيتهما فاستفاد منها، وشارك في الثورة العرابية واكتوى بنارها.

كل هذا صادف طبيعةً شعرية تستغل كل ما يعرض لها من أحداث، فجعل منه شاعرًا ممتازًا.

وأهم ميزة له أنه صادق في شعره يعبر عما رأى وسمع وأحسَّ.

وكل هذا يفسر ما غلب على شعره من إكثار من الفخر، صدًى لعلو حسبه ونسبه ومناصبه.

رزقه الله أول أمره بمربين من الأدباء كالشيخ حسين المرصفي، حببوا إليه شعر الفحول الأقدمين، فتشرب منه ومزجه بنفسه وحفظ منه الكثير، واكتفى بأن تنطبع الصيغ والأساليب ووجوه الإعراب والقوافي والأوزان في نفسه من غير تعلم للنحو والقواعد والعروض والمصطلحات … ثم بدأ يحاكي بعضها ويعارضها، خرجت محاكاته ومعارضاته قويةً حسنة السبك، متينة الأسلوب، لا تقل شأنًا عن القصائد التي يعارضها.

عارض أبا نواس في قصيدته:

أجارة بيتينا أبوك غيور
وميسور ما يرجى لديك عسير

بقصيدته:

أبى الشوق إلا أن يحنَّ ضمير
وكل مشوق بالحنين جدير

والشريف الرضي في قصيدته:

لغير العلى مني القلى والتجنب
ولولا العلى ما كنت في الحب أرغب

بقصيدته:

سواي بتحنان الأغاريد يطرب
وغيري باللذات يلهو ويلعب

وأبا فراس في قصيدته:

أراك عصيَّ الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر

بقصيدته:

طربت وعادتني المخيلة والسكر
وأصبحت لا يلوي بشيمتي الزجر

ثم شعر لنفسه فيما يشعر به من فخر بالآباء، وفخر بنفسه، واعتزاز بقوته. ووصف معامع الحروب كما رآها، والحياة الاجتماعية كما أحاطت به، وألاعيب السياسة كما اكتوى بنارها … ولما نُفي إلى جزيرة سرنديب وصف حنينه إلى وطنه، وما كان يعتوره من شعورٍ بألم الغربة وشعور بالرجولة التي يجب أن تتحمل الآلام في شجاعة، إلى غير ذلك مما كان فيه صادق الوصف، مرهف الحس، جزل اللفظ، قوى الأسلوب.

وقد مات بعد أن رجع من منفاه سنة ١٩٠٤م.

وتظهر ميزات البارودي إذا نحن قسناه بشعراء عصره أمثال محمود صفوت الساعاتي (المتوفى سنة ١٨٨٠م) فقد كان أكثر شعره في مدح أشراف مكة والحجاز، على حين أن البارودي لم يمدح إلا قليلًا، وكان مديحه على هامش شعره لا في الصميم من شعره.

ثم كان صادقًا في التعبير عن نفسه في أدوار حياته، فإذا لَهَا أو أحبَّ، وصف ما يشعر به في لهوه وحبه، وإذا حارب برع في وصف الجيوش والمعارك، وإذا أحاطت به أحداث الثورة وصف ما رأى، وإذا نُفي قال في طمأنينته وجزعه.

وهو في بعض الأحيان يعرض للشئون الاجتماعية، مثل وصف اضطراب الحالة في مصر من تدخل الأجانب، وفي لوم قومه على التراخي في رفع الظلم والعدوان عنهم، وفي بؤس الشعب من ظلم حكامه.

ثم إن البارودي قد نقل بشعره المثل الأعلى من نظرٍ في الشعراء في العصور المظلمة المتأخرة إلى نظر في الشعر العربي في أزهى عصوره العباسية، فكان في كل ذلك مجددًا إلى درجةٍ ما.

هذا إلى اختراعه أحيانًا لبعض أوزان الشعر كقصيدته:

لوى جيده وانصرف
ما ضره لو عطف

وقصيدته الأخرى:

املأ القدح
واعصِ من نصح

وكلتاهما مما نسج عليه شوقي في قصيدته:

حف كأسها الحبب
فهي فضة ذهب

وقصيدته:

مال واحتجب
وادعى الطرب

وإن حاول بعضهم أن يخرج القصيدتَين على الأوزان القديمة.

ومن أمثلة شعره في الفخر قصيدةٌ طويلة، منها:

سواي بتحنان الأغاريد يطرب
وغيري باللذات يلهو ويُعجب
وما أنا من تأسر الخمر لُبَّه
ويملك سمعَيه اليراع المثقب
ولكن أخو همٍّ إذا ما ترجحت
به سورة نحو العلا، راح يدأب
نفى النومَ عن عينَيه نفسٌ أبية
لها بين أطراف الأسنة مطلب
ومن تكن العلياء همة نفسه
فكل الذي يلقاه فيها محبَّب
إذا أنا لم أعطِ المكارم حقها
فلا عزني خال ولا ضمني أب

•••

خلقت عيوفا لا أرى لابن حرة
عليَّ يدًا أغضي لها حين يغضب
فلست لأمر لم يكن متوقعًا
ولست على شيء مضى أتعتَّب
أسير على نهج يرى الناس غيره
لكل امرئٍ فيما يحاول مذهب
وإني إذا ما الشك أظلم ليله
وأمست به الأحلام حيرى تشعَّب
صدعت حفافَي طرَّتَيه بكوكب
من الرأي لا يخفى عليه المغيب

ومن شعره يصف الحرب:

ولما تداعى القوم واشتبك القنا
ودارت، كما تهوى، على قطبها، الحرب
وزُين للناس الفرار من الردى
وماجت صدور الخيل والتهب الضرب
ودارت بنا الأرض الفضاء كأننا
سُقينا بكأس لا يفيق لها شرب
صبرت لها حتى تجلَّت سماؤها
وإني صبور إن ألمَّ بيَ الخطب

وقوله يصف الفراق:

محا البينُ ما أبقت عيونُ المها منِّي
وشِبتُ ولم أقضِ اللبانة من سنِّي
عناء ويأس واشتياق وغربة
ألا شد ما ألقاه في الدهر من غبنِ
فإن أكُ فارقتُ الديار فلي بها
فؤاد أضلَّته عيون المها عني
بعثت به يوم النوى إثر لحظة
فأوقعه المقدار في شرك الحسن
فهل من فتًى في الدهر يجمع بيننا
فليس كلانا عن أخيه بمستغن

•••

ولما وقفنا للوداع وأُسبلت
مدامعنا فوق الترائب كالمزن
أهبتُ بصبري أن يعود فعزَّني
وناديتُ حلمي أن يثوب فلم يغنِ
وما هي إلا خطرة ثم أقلعت
بنا عن شطوط الحي أجنحة السفن
فكم مهجة من زفرة الوجد في لظى!
وكم مقلة من غزرة الدمع في دجن!
وما كنت جربت النوى قبل هذه
فلما دهتني كدت أقضي من الحزن
ولكنني راجعت حلمي وردَّني
إلى الحزم رأي لا يحوم على أفن
ولولا بُنيَّات وشيبٌ عواطل
لما قرعتْ نفسي على فائتٍ سني

وقال يحنُّ إلى مصر وهو في منفاه:

ردوا عليَّ الصبا من عصري الخالي
وهل يعود سواد اللمَّة البالي؟
لم يدرِ من بات مسرورًا بلذته
أني بنار الأسى من هجره صالي
يا غاضبين علينا، هل إلى عدة
بالوصل يوم أناغي فيه إقبالي؟
غبتم فأظلم يومي بعد فرقتكم
وساء صنع الليالي بعد إجمالي
فاليوم لا رسني طوع القياد، ولا
قلبي إلى زهرة الدنيا بميَّال
أبيت منفردًا في رأس شاهقة
مثل القطامِيِّ فوق المربأ العالي

وقال يصف الناس من حوله:

إني امرؤ ملك الوداد قيادتي
وجرى على صدق العهود وفائي
لكنني غرض لأسهم حاسد
وارى الجوانح من لهيب عدائي
من غير ما ذنب جنيتُ وإنما
بغض الفضيلة شيمة الجهلاء
تعست مقارنة اللئيم فإنها
شرق النفوس ومحنة الكرماء
أنا في زمانٍ غادر، ومعاشر
يتلوَّنون تلون الحرباء
أعداء غيب ليس يسلم صاحب
منهم، وإخوة محضر ورخاء
وأشد ما يلقى الفتى في دهره
فقد الكرام وصحبة اللؤماء
شقي ابن آدم في الزمان بعقله
إن الفضيلة آفة العقلاء

وقال يلوم ويحرض:

لكننا غرض للشر في زمن
أهل العقول به في طاعة الخمل
قامت به من رجال السوء طائفة
أدهى على النفس من بؤس على ثكل
من كل وغد يكاد الدست يدفعه
بغضًا ويلفظه الديوان من ملل
ذلَّت بهم مصر بعد العز واضطربت
قواعد الملك حتى ظل في خلل
وأصبحت دولة «الفسطاط» خاضعة
بعد الإباء، وكانت زهرة الدول
فما لكم لا تعاف الضيمَ أنفسكم
ولا تزول غواشيكم من الكسل
فبادروا الأمر قبل الفوت وانتزعوا
شكالة الريث فالدنيا مع العجل
وطالبوا بحقوقٍ أصبحت غرضًّا
لكل منتزع سهمًا ومختتل
عيش الفتى في فناء الذل منقصة
والموت في العز فخر السادة النُّبل

وكان في هذا العصر من الشعراء شعراء عاشوا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وامتدت حياتهم المباركة إلى القرن العشرين وامتازوا ببعض المزايا الشعرية.

فحفني ناصف مثلًا (المتوفى ١٩١٩م) له شعرٌ سهل اللفظ سهل الأسلوب يمتاز بالفكاهة الحلوة في الحوادث التي عرضت له كشكواه من «قنا» حينما نقل إليها إذ يقول:

رقيتني حسًّا ومعنى
فلصنعك الشكر المثنى
وجعلت رأس الحاسدين
بمصر من قدميَّ أدنى
أسكنتني في بقعة
فيها غدوت أعزَّ شأنا
أرد المشارع سابقًا
والسبق عند الورد أهنا
وأزور آثار الملوك
وكنتُ قبلُ بها مُعنَّى
بلد إذا حلَّت به
قدماك قلت حللت حصنا
قالوا شخصت إلى قنا
يا مرحبا بقنا و«إسنا»
قالوا: قنا حرٌّ فقلـ
ـت وهل يردُّ الحر قنا
سر الحياة حرارة
لولاه ما طير تغنَّى
كلا ولا زهر تبسـ
ـم لا ولا غصن تثنى
ها قد أمنتُ البرد والـ
ـبرداء والقلب اطمأنا
ووُقيت أمراض الرطو
بة واسترقَّ الريح وَهْنا
ألقى الهواء فلا أها
ب لقاءه: ظهرًا وبطنا
وأنام غير مدثَّر
شيئًا إذا ما الليل جنَّا
قد خفَّت النفقات إذ
لا أشتري صوفًا وقطنًا
وفَّرتُ من ثمن الوقود
النصف أو نصفًا وثُمنا
فالشمس تكفل راحتي
فكأنها أمي وأحنى
فإذا بدت لي حاجة
في الغسل ألقى الماء سخنا
أو رمت طبخًا أو علا
ج الخبز ألقى الجو فرنا
سكنى القرى تدع السفيـ
ـه موكلًا بالمال مضنى
أيُّ الملاهي فيه يصـ
ـرف ماله ومتى وأنَّى
عش في القرى رأسًا ولا
تسكن مع الأذناب مدنًا
ودع الجزيرة والمها
والجسر والظبي الأعنا
واسلُ الأغاني والغوا
ني واسأل الرحمن عدنا

ومثل إسماعيل باشا صبري المولود سنة ١٨٥٤م والمتوفى سنة ١٩٢٣م، ويمتاز بثقافته الواسعة؛ إذ درس القانون في مصر وفرنسا، ورُقِّي في المناصب الحكومية إلى أن عين وكيلًا للحقانية. وقد شعر فيما شعر فيه أسلافه من مديح وتهانٍ وتقريظ، وسلك في ذلك مسلك الشعراء الذين قبله والشعراء المعاصرين له، فممدوحه: قد سَفَر فَلَاحَ منه هلال سعود، وبدا فكان غرة الوجود، وهو بحر مستعذب الورد، يعم كل الناس بالرفد.

ويحلي شعره بالتورية والجناس، ويختمه بالتأريخ فيقول:

فيا «مالكي» «نعمان» خدك «شافعي»
لدى «حنبلي» العذل إذ قام بالعذر

ويقول:

فاهنأ بنجلك إن السعد أرخه
«لبيب دام لك المحفوظ محمود»

أما الناحية التي نبغ فيها فهي مقطوعاته القصيرة يجري فيها ذوب قلمه ويمزج فيها دم نفسه بمعناه ولفظه، يغني فيها لنفسه، ويقصد بها إلى بثِّ لوعته، وتخفيف كربته. وقد كان في هذا يتحرى أن ينقد شعره قبل أن ينقده الناس، يطيل إجالة المعنى في نفسه، ويتريث في نظمه، ويتمهل في صوغه، يغوص على المعاني كالغواص على اللآلي، ثم لا يقتنع بأية لؤلؤة ولا يرضى بها إلا أن تكون غاية القصد وواسطة العقد، ويرى أن شعره كعرضه يحرص أن يطيب نشرهما، ويخلد في الصحائف ذكرهما. ويقول في ذلك:

شعر الفتى عرضه الثاني فأَحْرِ به
ألا يُشوَّه بالأقذار والوضر
فانقد كلامك قبل الناقدين تخط
ثاني النفيسَين من لغو ومن هذر

وهذه المقطوعات التي عني بها يتجلى فيها صدق العاطفة حتى ليبكي السامع لبكاه، ويأنف لأنفته، كما يمتاز بدقة المعني ورقَّته حتى كأنه مناغاة أطيار، أو مناغمة أوتار. ويصغي إليه السامع في دعة وسكون لا في ضوضاء وجلبة، ولهذا كثيرًا ما تغنَّى به المغنون، وأعجب به السامعون؛ من مثل قوله:

أقصر فؤادي فما الذكري بنافعة
ولا بشافعة في رد ما كانا
سلا الفؤاد الذي شاطرته زمنًا
حمل الصبابة فاخفق وحدك الآنا
هلَّا أخذت لهذا اليوم أهبته
من قبل أن تصبح الأشواق أشجانا
لهفي عليك قضيت العمر مقتحمًا
في الوصل نارًا وفي الهجران نيرانا

وقوله:

يا مقر الغزال قد صح عندي
اليوم أني اقتحمت منك عرينا
رابني فيك ما أرى من عيون
بات يُغري بها السواد عيونا
وضلوع جاءتك وهي خوالٍ
ثم عادت ملأى هوًى وشجونا
ما الذي يبتغي غزالك مني
بعد كوني عبدًا له أن أكونا
كلما قلت: قد أبل فؤادي
ساورته الذكرى فجن جنونا

وقوله:

يا راحة القلب يا شغل الفؤاد صِلِي
مُتيمًا أنت في الحالتَين دنياه
زيني النديَّ وسبلي في جوانبه
لطفًا يعمُّ رعايا اللطف ريَّاه
ريحانة أنت في صحراء مجدبة
من الرياحين حيانا بها الله
إن غاب ساقي الصلا أو صد، لا حرج
هذا جمالك يغنينا محياه

وقوله:

أبثُّكِ ما بي فإن ترحمي
رحمتِ أخا لوعةٍ مات حبًّا
وأشكو النوى ما أمر النوى
على هائم إن دعا الشوق لبًّا
وأخشى عليك هبوب النسيم
وإن هو من جانب الروض هبًّا
وأستغفر الله من برهة
من العمر لم تلقني فيك صبًّا
تعالي نجدد زمان الهناء
وننهب لياليه الغر نهبًا
تعالي أذق بك طعم السلام
وحسبي وحسبك ما كان حربًا

وربما كان من الظواهر التي تلفت النظر ظهور أديبات شاعرات بجانب الشعراء، قد ثقفن كما يثقف الرجال، وشعرن كما يشعر الرجال.

ومن أبرز هؤلاء، عائشة التيمورية المولودة في القاهرة ١٨٤٠م والمتوفاة في أوائل القرن العشرين ١٩٠٢م. نشأت في بيت من بيوت الفضل والأدب، وثقفت اللغات العربية والتركية والفارسية، ونظمت الشعر بها، ولها ديوانٌ شعري أسمته حلية الطراز، وكتابٌ نثري أسمته نتائج الأحوال، ومن شعرها قولها:

بيد العفاف أصون عزَّ حجابي
وبهمَّتي أسمو على أترابي
وبفكرةٍ وقَّادة، وقريحة
نقَّادة، قد كُمِّلت آدابي
فجعلت مرآتي جبين دفاتر
وجعلت من نقش المداد خضابي
ما عاقني خجلي عن العليا ولا
سدل الخمار بلمتي ونقابي
عن طي مضمار الرهان إذا اشتكت
صعب السباق مطامح الركاب

ومن هؤلاء وردة اليازجي (١٨٣٨–١٩٢٤م) وهي ابنة الشيخ ناصيف، ولدت في لبنان وأفادت من أبيها فنون الأدب، ومات عنها زوجها فانتقلت إلى مصر، حيث أخذت تنشر نظمها ونثرها، ولها ديوانٌ مطبوعٌ معروف.

وليس في شعرهما وأمثالهما جديد، وإنما الجدة فيه أنه شعر نساء.

•••

ثم انتقل الشعر خطوةً جديدة بعد ذلك تتجلى في تحوله إلى النظر إلى الشعوب، والإكثار من موضوعات الوطنيات والقوميات والاجتماعيات؛ من مثل طلب الاستقلال، ومحاربة الاستعمار والمستعمرين، والعطف على المظلومين والمنكوبين.

وقد بدأ هذا التحول في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ونما في القرن العشرين، وشعر فيه من عاشوا في هذين القرنَين أمثال شوقي وحافظ وخليل مطران وولي الدين يكن والزهاوي والرصافي.

وتبع ذلك رقيُّ منزلة الشعر؛ فبعد أن كان يُنظَر إليه كما يُنظر إلى الضارب بالدف يتغنى بالمدائح، أصبح يُنظر إليه على أنه فنانٌ ماهر يخدم الهيئة الاجتماعية ويُبِين عنها. وسيأتي توضيح ذلك عند الكلام عن القرن العشرين إن شاء الله.

وقد ظهر التجديد في الشعر أيضًا في التعرض للموضوعات الجديدة كالقول في المخترعات الحديثة من مثل القول في القطار والطائرة والمنطاد والكهرباء، وكالقول في مظاهر الحياة الاجتماعية الجديدة كتحرير المرأة وغيرها، ومن أمثلة ذلك قول نجيب الحداد (المتوفى ١٨٩٩م) في القمار:

قد اختصروا التجارة من قريب
فعُدم في الدقيقة أو يسار
كأن وجوههم ندمًا وحزنًا
كساها لون صفرته النضار
فبينا تبصر الوجنات وردًا
إذا هي في خسارتهم بهار
عصائب لا يود المرء فيها
أخاه، ولا يراعي الجارَ جار
يلاحظ بعضهم بعضًا بعين
يكاد يضيء أسوَدَها الشرار
فكم غضبوا على الأيام ظلمًا
وكم حنقوا على الدنيا وثاروا!
وكم تركوا النساء تبيت تشكو
وتسعدها الأصيبية الصغار!
تبيت على الطوى ترجو وتخشى
بوارقها السهاد والانتظار
فبئست عيشة الزوجات حزن
وتسهيد وهجر وافتقار
وبئست خلة الفتيان همٌّ
وأتعاب وخسران وعار

وكقوله في وصف القطار:

تخل عن التشبيب بالبيض والسمر
ودع عنك تشبيه المحاسن بالبدر
وعج بي إلى طرق الحديد ووصفها الـ
ـجديد ودع ما مر من قدم الدهر
ففيها يروق الوصف وهي حقائق
وفيها يحق النعت لا مذهب الشعر
وعنها يصح القول إن قيل بارق
يشق الفلا لا عن جواد ولا مهر
فطير بلا جنح، وطود بلا بقا
وبرق بلا جو وهادٍ بلا فكر
بلى هي طير، والبخار جناحه
وطود إذا شبهت بالطود ما يسري
وبرق ولكن الدخان سحابه
وهادٍ له لب توقد عن جمر
يسير فما يدرى لسرعة سيره
أتجرى لديه الأرض أم فوقها يجري
وللريح حوليه حفيف، كأنه
حفيف جناح الصقر حنَّ إلى الوكر
إذا ثار ثارت فوقه راية من الدُّ
خان لتُنبي أنه ملك القفر
تمزقها الأرياح حنقًا كأنها
تحاول في تمزيقها الأخذ بالثأر

ومن مظاهر التجديد التي حدثت ما كان من أثر هجرة جماعة من السوريين واللبنانيين إلى القارة الجديدة وتشرُّبهم من مناهل الحياة الاجتماعية، وتثقفهم بالثقافة الحديثة، فأتوا في الشعر بجديد، وكان على رأسهم جبران خليل جبران المولود في لبنان ١٨٨٣م والمتوفى في نيويورك ١٩٣١م، وتظهر هذه الجدة في سعة الخيال، ومحاولة خلق الشعر المرسل، والتأثر بالأساليب الغربية، كما تظهر من ناحيةٍ أخرى في الإشادة بالحرية والثورة على ضعف الإنسانية الغربية.

ولم تنمُ هذه الحركة وتنضج إلا في القرن العشرين، ومن ثم نرجئ تأريخها إلى ما بعدُ.

(ب) النثر

كان حظ النثر في الرقي خيرًا من حظ الشعر لأن المثقفين من الناثرين ثقافةً عربية كانوا أكثر عددًا من المثقفين من الشعراء، وذلك طبيعي. ولأن حاجة الأمة إلى الناثرين أكثر من حاجتها إلى الشعراء فالنثر ضروري والشعر كمالي؛ فقد استخدم النثر في الصحافة وفي تأليف الكتب وفي تبادل الرسائل وفي الدعوة إلى الإصلاح وفي الخطابة وفي الترجمة الأدبية والحركة العلمية، وقد تعاونت هذه كلها على تقدم النثر وصقله حتى وفق أن يخطو هذه الخطوة الواسعة.

وكذلك استطاع النثر بعد قليل من ظهور عوامل النهضة أن يتحرر من القيود الثقيلة التي كان يتقيد بها؛ تحرر من السجع فانطلق وتدفَّق، وكان للصحافة أكبر الأثر في ذلك لأن الأسلوب الصحفي يحتاج إلى السرعة والانطلاق، كما تحرر من المحسنات البديعية الأخرى، ومن تكرار الجمل المملة في المعنى الواحد، وتخلص بالتدريج من المقدمات الطويلة التي كان يتكلفها الكاتب أمام الموضوع، كما اتجه الكتاب تدريجيًّا إلى تقويم المعاني كما قوموا الألفاظ، بعد أن كانت المعاني في المرتبة الثانية والألفاظ في المرتبة الأولى.

وتقدم النثر فوق ذلك من ناحية القصد في المقال إلى معنًى واحدٍ محدد يولده الكاتب ويستوفيه بعد أن كان الكاتب يقدم على الكتابة وليس له معنًى محدود، بل يتبعثر هنا وهناك من غير قصد ومن غير غرض.

ونما كما نمت فكرة التحليل وكان يغلب على الأدب فكرة التركيب، كل هذا كان أثرًا من أثر الصلة بالثقافة الأجنبية والاطلاع عليها والاستفادة منها وهضمها وتقليدها.

كما تأثر النثر من ناحية الأسلوب؛ فتسرب إليه أنماط من الأساليب الأجنبية واستعمال صيغ لم تكن تُعرَف في اللغة العربية.

وكما كان للثقافة الأجنبية أثرٌ ظاهر في كل ذلك، كان أيضًا للرجوع إلى الكتب العربية القديمة ذات الأسلوب الجيد المرسل، أمثال كتب ابن المقفع والجاحظ وغيرها، أثر عند بعض الكتاب في جزالة اللفظ وحسن السبك والاقتراب من نماذج النثر العربي الأصيل.

كما كان للبيئة وأحداثها وما تداول عليها من ظلم ومكافحة للظلم، واحتلال ومناهضة الاحتلال ومطالبة بالاستقلال، وسوء حالةٍ اجتماعية ورغبة في الإصلاح، أثرٌ في صبغ النثر بأصباغٍ جديدة فكثرت الكتابة في الموضوعات السياسية والاجتماعية، وأن يدبَّ دبيب الحرارة والحماسية في هذه الموضوعات فيكسبها قوةً من حيث المعنى ومن حيث الأسلوب ومن حيث الأدب أيضًا.

وكان من عوامل التقدم في هذا الباب اطلاع نخبة من المثقفين على ما كُتب في مثل هذه الموضوعات في اللغات الأجنبية والتأثر بها، والاقتباس منها، وإبرازها في شكل يتفق والذوق الشرقي والأحاسيس الشرقية.

ونضح التقدم في دراسة العلوم من طبيعة وكيمياء وقانون وطب وهندسة وفلك وغير ذلك على النثر العربي، والنثر عادةً أكثر تأثرًا بهذا من الشعر لقرب النثر من الحقائق، وقرب الشعر من الخيال، فكان من أثر ذلك ميل النثر إلى الدقة في التعبير، والمنطق في التحرير، والصحة في المنهج، واستخدام كثير من القضايا العلمية في الأدب.

وعلى كل حال فقد تأثر النثر العربي في هذا القرن بمؤثرَين كبيرَين: الثقافة العربية وأظهر ما كان أثرها في المعاني والموضوعات، وتسرُّب بعض الأساليب من الثقافة العربية القديمة وأظهر ما كان أثرها في الجزالة وحسن السبك وبعض العبارات أيضًا.

وهناك من الكتاب الأول من تأثر بالعامل الأول أكبر أثر، ومنهم من تأثر بالعامل الثاني أكبر أثر، ولم تخلُ طائفة من الطائفتَين من التأثر بالأخرى إلى مدًى قريب أو بعيد.

ثم عامل ثالث وهو ما كانت توحي به البيئة الاجتماعية ومطالبها.

وتتضح نهضة النثر وتقدمه إذا نحن قارنَّا بين النتاج الأدبي في أول القرن التاسع عشر من مثل الكتاب الذي جمع فيه إنشاء الشيخ حسن العطار (المتوفى ١٢٥٠ﻫ/١٨٣٥م) المسمى «إنشاء العطار»؛ وبين هذا النتاج الأدبي في أواخر القرن التاسع عشر من مثل ما كان ينشره إبراهيم المويلحي (المتوفى ١٩٠٦م) في مجلة «المصباح» وكتابه «ما هنالك».

يقول الشيخ حسن العطار في رسالة إلى أحد إخوانه:

أما بعدُ، فإن أحسن وشي رقمته الأقلام، وأبهى زهر تفتحت عنه الأكمام، عاطر سلام يفوح بعبير المحبة نفحه، ويشرق في سماء الطروس صبحه؛ سلام كزهر الروض أو نفحة الصبا، أو الراح تجلى في يد الرشأ الألمى؛ سلامٌ عاطر الأردان، تحمله الصبا سارية على الرند والبان، إلى مقام حضرة المخلص الوداد، الذي هو عندي بمنزلة العين والفؤاد، صاحب الأخلاق الحميدة، حلية الزمان الذي حلى بها معصمه وجيده …

ويقول إبراهيم المويلحي في كتابه «ما هنالك» ينقد موكب الخليفة العثماني في صلاة الجمعة (المقالة العاشرة):

ما قيصر في موكب انتصاره، ولا الإسكندر في يوم افتخاره، أستغفر الله بل ما سعد قادمًا من القادسية، ولا المعتصم قافلًا من عمورية؛ أملأ للقلوب مهابة ولا للعيون بهاءً من رؤية جلالة السلطان يوم الجمعة في موكبه.

في يوم الجمعة قبل الظهر بساعتَين ترد العساكر رجالًا وفرسانًا من أطراف الآستانة عشرة آلاف أو يزيدون، فينتظرون في طريق السراي السلطانية صدور الإرادة السنية بتعيين المسجد. فإذا صدرت اجتمعت العساكر صفوفًا مضاعفة بعضها وراء بعض. وفي هذه الأثناء تتسابق مركبات المشيرين والوزراء والمشايخ والأجانب من السفراء وغيرهم، فيجلس السفراء ومن كان معهم من علية قومهم الوافدين على الآستانة في قاعة الجيب الهمايوني المطلة على تلك الساحة التي لا يسمع السامع فيها قيلًا ولا صهيلًا إلا صليل الأسياف وترديد الأنفاس هيبةً وإجلالًا، وانتظارًا واستقبالًا لإشراق نور الحضرة السلطانية. فإذا حان وقت الصلاة أشرقت المركبة السلطانية المذهبة كالشمس ضياءً من مطلع السراي، والمشيرون وكبار رجال (المابِين) حافون من حول المركبة مشاةٌ خُشَّع الأبصار ترهقهم ذلةٌ من جلالة تلك العظمة الإمامية، وهم في غير هذه الساعة أكاسرة الزمان وقياصرة الرومان كبرًا وجبروتًا، وكلهم في أمواج الملابس الذهبية يسبحون، وعلى صدورهم نياشين الجوهر تخطف الأبصار وتأخذ بالألباب، والنيشان عنوان كتبته الدولة ووضعته على صدر حامله شهادةً منها للناس ببيان ما هو مكنون وراءه من فضائل الغيرة والحمية، فإذا اختلف المكتوب على الصدر عن المكنون في القلب، كانت كبائع يغش الناس بوضعه على زجاجة الخل عنوان ماء الورد … أما المراقبة والمحافظة على المسجد من جهاته الست فلا يقدر على وصفها واصف، ولا يدخل المسجد مُصلٍّ إلا إذا فتشه المراقبون تفتيش اللص سرق فص خاتم. وإن الخطيب ليتجنب في خطبته كل آية وكل حديث فيه ترغيب في العدل أو تنفير من الظلم أو إيحاء إلى موعظة من نهي عن منكر أو أمر بمعروف. ولا يدور في تلك الخطبة من كل جمعة إلا حديثٌ واحد اختاروه لبعده عن كل تأويل وهو «إن الله جميل يحب الجمال.» فإذا جاء عيد الأضحى استبدلوه بحديثٍ آخر وهو قوله «سمنوا ضحاياكم.» وهكذا في مساجد الآستانة لا يخطب الخطباء إلا بهذين الحديثَين.

وقد قطع النثر هذه المسافة كلها على خطوات. ولعل الذي يمثل الخطوة الأولى رفاعة رافع الطهطاوي؛ فقد كان من أكبر عوامل النهضة العلمية والأدبية في مصر، سافر إلى فرنسا سنة ١٨٢٦م، وعكف على دراسة اللغة الفرنسية، ولما عاد سنة ١٨٣١م تولى ترجمة الكتب الهندسية والفنون العسكرية، ثم ترجم جغرافيا «ملطبرون» وأكبر أثر له في خدمة النهضة ما قام به في مدرسة الألسن من تعليم كثير من الطلبة الترجمة إلى اللغة العربية، فقدم هو وتلاميذه للآداب العربية بمعناها الواسع كتبًا قيمة في مختلف العلوم كانت دعامة من الدعائم التي قامت عليها الحركة العلمية. وكان حركةً دائمة في التأليف والترجمة والتدريس، ألَّف رحلته إلى فرنسا وسماها «خلاصة الإبريز والديوان النفيس» وفيها نظراتٌ اجتماعيةٌ صادقة. كما ألف كتاب «المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر» وكتاب «المرشد الأمين في تربية البنات والبنين» ويعد بحق الخطوة الأولى في الدعوة إلى تعليم البنات، تلتها الخطوة الثانية التي خطاها قاسم أمين في كتابه «تحرير المرأة».

وألف كتابًا في تقريب النحو سماه «التحفة المكتبية» وكتابًا سماه «مباهج الألباب» بحث فيه في آداب العصر وعلومه، فكان خطوةً جديدة في الابتكار في التأليف، وشرح «لامية العرب» وألف «نهاية الإيجاز» في السيرة النبوية، إلى غير ذلك من الكتب في مختلف فروع الثقافة.

هذا إلى عمله الدائب في الإشراف على ما يترجمه تلاميذه وإصلاحه، وإرشادهم إلى المنهج القويم في الترجمة.

فله الفضل على النهضة الحديثة في تقديم ذخيرةٍ قيمة من الفكر الأوروبي، وتأثره بالثقافة الفرنسية وهضمها، وإخراجها في تآليف تتصل بالإصلاح الاجتماعي في مصر.

والحق أنه أغنى الفكر العربي أكثر مما أغنى الأسلوب الأدبي؛ فقد كان يغلب عليه أثر العصر الماضي في حبه للسجع والبديع، وسائر ما قيد به النثر القديم. ولكنه تحرر من ذلك في الترجمة بطبيعة الحال. وكان انتقاله في الأسلوب انتقالًا بطيئًا بحكم التطور. تحلل من بعض القيود وحافظ على بعضها، ولم يتدفق ولم ينطلق لأن الطبيعة أبت عليه الطفرة.

وقد مات رفاعة الطهطاوي في عام ١٨٧٣م بعد أن خدم النهضة طول حياته خدمةً لا تُقدَّر.

ومن أمثلة نثره هذه القطعة في حب الوطن:

إن حب الوطن من الإيمان، ومن طبع الأحرار إحراز الحنين إلى الأوطان. ومولد الإنسان على الدوام محبوب، ومنشؤه مألوف له ومرغوب، ولأرضك حرمة وطنها، كما لوالدتك حق لبنها. والكريم لا يجفو أرضًا بها قوابله، ولا ينسى دارًا فيها قبائله. فإني وإن ألبستني المحروسة نعمًا، ورفعت لي بين أمثالي علمًا، وكانت أم الوطن العام، وولية الآلاء والإنعام، وأحبها حبًّا جمًّا، لأنها ولية النُّعمي، وقضيت فيها الأربعين مجاورًا «كرام السجايا والبحور الطواميا» فلا زلت أتشوق إلى وطني الخصوصي وأتشوف، وأتطلع إلى أخباره السارة وأتعرف، ولا أساوي بطهطا الخصبة سواها، في القيام بالحقوق وإكرام مثواها.

منازل لست أهوى غيرها سُقِيتْ
حيًا يعمُّ، وخُصَّت بالتحيات

وأمنحها زمنًا بعد زمن الزيارة، وأجدد فيها من هبات الحكومة العمارة، وأبذل في محبتها النفيس لتحصيل الأراضي للزرع والغرس، وأفتخر بها كما افتخر عصام بالنفس، وأنشد قول الحافظ كمال الدين الإدفوى:

أحن إلى أرض الصعيد وأهله
ويزداد وجدي حين تبدو قبابها
وتذكرها في ظلمة الليل مهجتي
فتجري دموعًا إذ يزيد التهابها

وربما تجلَّت الخطوة الثانية في رقي النثر في كتابات عبد الله باشا فكري والشيخ ناصيف اليازجي. أما عبد الله فكرى فقد كان، بحق، خليفة رفاعة الطهطاوي، لا من حيث الترجمة؛ فقد كان لا يعرف إلا العربية والتركية، ولكن من ناحية أنه كان مركز الحركة الفكرية في عصره. اتصل بالتعليم حتى كان ناظر (وزير) المعارف المصرية، وكان اليد اليمنى لعلي باشا مبارك في تآليفه وأعماله العلمية. وله رحلة وصف فيها سفره إلى أوروبا لحضور مؤتمر المستشرقين الذي عقد في استكهولم سنة ١٨٨٨م، ولم يتمها، ولكن أتمها ابنه من بعده، ونشرها سنة ١٨٩٢م، كما أنه ألَّف كتبًا مدرسية مثل «الفصول الفكرية» نقل بها التأليف المدرسي خطوةً جديدة. والناظر في كتابه «الآثار الفكرية» يرى أنه يتأرجح بين الأسلوب القديم في بعض الموضوعات والأسلوب العصري في بعضها. وهذا شأنه أيضًا في الموضوعات التي اختار الكتابة فيها، وهو إلى القديم أقرب في أسلوبه، وإلى الحديث أقرب في موضوعاته. ولعل ذلك ناشئ من أنه نشأ نشأةً أزهرية، وتأدب بآداب العربية القديمة، ولم يكن له إلى جانب ذلك ثقافةٌ أوروبيةٌ راسخة، وإنما نال هذه الزعامة الأدبية في عصره باستعداده الطبيعي الجيد وباتصاله بالأوساط الراقية التي كان يتشرب منها أفكاره الجديدة ويُعمِل فيها فكره فينميها ويولدها.

وقد مات عبد الله فكري سنة ١٨٨٩م بعد أن أثر في النهضة الحديثة أثرًا بالغًا.

من نماذجه في الكتابة قوله في كتاب إلى أحد أصحابه ينقد سيرة بعض المشتغلين بالعلم وطرائقهم في تعلمه، وقصورهم عن الإفادة منه (الآثار الفكرية، ص٢٠٧).

وسألت عن فلان وفلان، وهيان بن بيان، ممن ينتسب للعلم وأهله، ويتظاهر بشعار فضله، ولو كان العلم بلحًى تعظم وتطول، وشوارب تُحفُّ وتُستأصل … ثم بتشدق في الكلام، وتبالُهٍ في المرام … ثم بقول الإنسان حضرت درس فلان وسمعت من لفظه باللسان، وقضيت في العلم كذا وكذا سنة من الزمان، فهم أعلم من أقلَّته الغبراء، وأفقه من أظلَّته الخضراء، وإن كان للعلم غير هذه الآلات، فما لهم سوى هذه الحالات … وعلامة ما بيننا وبينهم أن يؤمر أحدهم برقعة تكتب لحاجةٍ معهودة، ويمتحن بكتاب غير هذه الكتب المعدودة … وقد مررت بالأمس على أحدهم في الدرس، يقرأ القطر لابن هشام، ويلحن لحن العوام، ومررت بآخر يدرس الكافي في علمَى العروض والقوافي، يقرر قوله.

قف على دارهم وابكين
بين أطلالها والدِّمن

فلا وربك ما أقام له وزنًا، ولا عرف له معنًى، مع سهولة مبناه، وظهور معناه … وقد كانت هذه العرب تتكلم بهذه اللغة العلمية على الفطرة الأصلية، إلى أن اختلطت أنسابهم وتقطعت أسبابهم … وخيف أن تذهب هذه اللغة المنيفة، التي هي مدار الشريعة الشريفة … فقيض الله لحفظها الأئمة الأعلام، هداة الأنام؛ فصنَّفوا تلك الفنون العديدة، وألَّفوا هذه الكتب المفيدة، لتسهيل الأرب من لغة العرب. واستمر العمل على ذلك إلى أن خلف هذا الخلف الملوم، فظنوا تلك الوسائل مقاصد ليس بعدها غاية لقاصد، وحسبوا هذه الكتب تقصد لذاتها، ويُكتفى بالتعبد بكلماتها، فوقفوا عندها ولم يتجاوزوها لما بعدها، واتخذوا الأدب وراءهم ظهريًّا، وجعلوا النظم والنثر شيئًا فريًّا! وما ينفع الإعراب من لا يعرب عن المرام، وماذا يعمل بالصرف من لا يتصرف في أساليب الكلام، وماذا يغني العروض عن قوم لا يشعرون، والمعاني والبيان عن قوم لا ينظمون ولا ينثرون …

أما الشيخ ناصيف اليازجي (١٨٠٠–١٨٧١م) فقد عاش في بيروت وغلب عليه الأدب وتأثر بما اطلع عليه من العلوم الغربية وأنماط التعليم الجديدة، وأكثر من قراءة الآداب العربية والاطلاع عليها، وقلدها، وأخرج من ذلك كله نتاجًا فيه مسحةٌ من القديم ومسحةٌ من الجديد. فقد كتب مقاماتٍ كثيرةً سُميت «مجمع البحرين» حذا فيها حذو مقامات الحريري. كما عني بتأليف كتب لتلاميذ المدارس نحا فيها نحوًا جديدًا يقربها إلى الأذهان من مثل كتابه «فصل الخطاب في الصرف والنحو» و«الجمان في علم البيان» و«نقطة الدائرة» في العروض، إلى كتبٍ أخرى. وهو، وإن تأثر بالقديم في أسلوبه فقد تأثر تأثرًا شديدًا بالميل إلى الوضوح والسهولة في نثره وشعره.

يقول في إحدى مقاماته يفاضل بين العلم والمال «المقامة الأربعون: الجدلية» حدثنا سهيل بن عباد قال: أصابتني وعكةٌ شديدة، مدةً مديدة، فانعكفت على توفية العلاج، وتنقية الأعفاج،١ من الأمشاج؛٢ فلما أمنت مس العُرَواء … دعاني الملال إلى النزاهة، حتى دخلت يومًا إلى حديقةٍ جميلة، ذات خميلة، قد رتعت بها عصابةٌ جليلة. وإذا رجل عليه رداء، مثل اللواء، وعلى رأسه عمامة مثل الغمامة، وهو قد أقبل على شيخ أدرد،٣ وقد التثم حتى صار كالأمرد، فقال قد علمت أيها الشيخ أن المال زينة الحياة الدنيا، وعليه نموت ونحيا، فإنه يقضي لبانة الأولى بالمسرة، ويسهل طريق الأخرى بالمبرة، وعليه مدار العيش، ونظام الجيش، وبه قيام الممالك، وتمهيد المسالك، ودفع المهالك، وهو قاضي الحاجات، ورافع الدرجات، ومستعبد السادات وخارق العادات … ولولاه لتعطلت الأعمال، وحانت الآجال، وانقرضت القرون والأجيال.
فانبرى له الشيخ كأُويس وقال: لا أفلحت ما غب غُبيس.٤ ويك، إن المرء بالعلم إنسان لا بالمال، وهو المرقاة إلى درجات الكمال، وبه تعلم الحقائق، وتدرك الدقائق، ويعرف المخلوق حق الخالق، وعليه ينفق الطريف والتالد، وصاحبه ينال الذكر الخالد، فكم من الملوك والأغنياء الذين كانت مفاتيحهم تنوء بالعصبة الأقوياء، وقد درس ذكرهم وبقي ذكر العلماء! وحسبك أن العلم لا يناله إلا أفاضل الرجال، ونجَّى صاحبه من الأهوال. فلما سمع القوم ما دار بين الرجلَين، قالوا للشيخ نري صاحبك قد أخد طريق العُنصُلين٥ وإنا لنراه من الأغنياء والأغبياء، فإنه لا يعرف منزلة العلم والعلماء. فاستشاط الرجل غضبًا، وقال عش رجبًا ترَ عجبًا، كيف يتأتى المراء بين اثنين، وقد وضح الصبح لذي عينَين … تبًّا لعلمك أيها الشيخ الناهل، الذي بنوه كاليتامى وزوجته كالعاهل،٦ وماذا ترى علمك إذا كنت تشتهي فومةً من الشذام.٧ أتأكل القضيم٨ إذا طويت، وتلبس القرطاس إذا عريت، كان للعلم دولة عند أنماط الكرام، الذين عندهم لكل مقال مقام، وأما في هذا الزمان فإن المال هو الرهص٩ الذي يُبنى عليه، والركن الذي لا يُلتفت إلا إليه، فهم يحرمون الأديب، ولا يحترمون اللبيب، ويصرمون الفقيه، ولا يكرمون النبيه … فخفضن عنك ما أنت فيه، ولا تتخلق بأخلاق السفيه. ثم أنشد:
قد عرف الشيخ علوم الورى
لكن هذا العلم١٠ لم يدره
فليته أدرك هذا ولم
يدرك بواقي العلم في عمره
فانكفأ الشيخ بذلة الخائب، وقال مع الخواطئ سهم صائب. فأنف القوم من ذلك الشجار، وشعروا بما مسهم من نار الشنار، فنفحه كل واحد بدينار … قال سهيل: وكان الزحام قد حال بيني وبينهما، فلا أملك أن أتبين عينهما، فرصدتهما ارتقابًا حتى لقيتهما نقابًا. وإذا هما شيخنا الميمون وغلامه رجب، فكدت أصفق من العجب. فأمرني الشيخ بالقعود، وقال انتظرنا إلى أن نعود. فكنت كمنتظر القارظَين،١١ ولم أظفر لهما بأثر ولا عين.

•••

وربما مثَّل الخطوة الثالثة من خطى النثر الشيخ محمد عبده (١٨٥٣–١٩٠٥م)، في إنتاجه العلمي والأدبي الأخير من مثل مقالاته التي كانت تنشر في مجلة «المنار»، وفي رده على «هانوتو». وفي كتابه «الإسلام والنصرانية» كما يمثل هذه الخطوة أيضًا أديب إسحاق.

أما الشيخ محمد عبده فكتاباته متأثرة بنزعته القوية نحو «الإصلاح الديني»، وقد تجلت فيه هذه النزعة منذ أن كان طالبًا في الأزهر، وقويت على أثر اتصاله بالشيخ حسن الطويل أولًا ثم بجمال الدين الأفغاني ثانيًا، ولما اتصل بجمال الدين وُجدت عنده النزعة السياسية والوطنية بمعناها الواسع الذي يشمل العالم الإسلامي كله.

والناظر في أسلوبه يرى أنه متأثر بالقديم في أول أمره حين كان ينشر مقالاته في الوقائع والأهرام، فلما نُفي إثر حوادث عرابي باشا وجاء بيروت اتصل بالكتب الأدبية ونشرها بعد أن شرحها مثل مقامات بديع الزمان الهمذاني ونهج البلاغة، ويظهر أن نهج البلاغة أثر فيه أثرًا كبيرًا، وطبع في ذهنه أساليبَ قويةً جزلة. ثم لما اتصل بجمال الدين الأفغاني وحرَّر معه مجلة العروة الوثقي تدفق أسلوبه كما تقتضيه الكتابة الصحفية، وتحرر من السجع تحررًا واسعًا. ولما عاد إلى مصر بدأ يتعلم الفرنسية ويقرأ كتبها ويطلع على ثقافتها وطريقة معالجتها للموضوعات، كما اطلع من كتب البلاغة القديمة على كتابَيْ «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة» وعني بنشرهما — وهما كتابان لهما أسلوبٌ جزل وتعبيرٌ قوي وإرشاد إلى مواقع الحسن في الكلام وتربية الذوق الأدبي — كل هذا أثر في أسلوبه، وجعل له خاصة القوة والوضوح والتدفق، حتى لتُحسُّ وأنت تقرأ أسلوبه القديم وأسلوبه الجديد، أنك تقرأ لكاتبَين مختلفَين تمام الاختلاف.

وعلى الجملة فقد نقل الشيخ محمد عبده النثر في أيامه نقلةً جديدة بكتاباته من ناحية، وبهذه المدرسة التي كوَّنها من طلبته من ناحيةٍ أخرى، فقد كان هؤلاء الطلبة يأخذون عنه وعن كتبه ومقالاته ويقلدونه ويتشربون روحه وأسلوبه وأدبه.

وقد مات الشيخ محمد عبده في عام ١٩٠٥م.

ومن أمثلة نثره هذه المقتطفات من رده على «هانوتو»:

إن كان المسلمون اليوم ينتفعون بشيء، ويعتبرون بمثال، لم يكن أنفع لهم من الاعتبار بما جاء في كلام مسيو هانوتو؛ فقد أرشدهم إلى عيوبٍ فيهم لا يسعهم إنكارها، وهداهم إلى مقاصد لطلاب الاستعمار في ديارهم قد شهدوا بالعيان آثارها، وصرح لهم بأن الاعتماد على العدالة في معاملة الدول ضرب من الخيال، وعقد الآمال بإنصاف الأمم تلمُّسٌ للمحال، وما على المهتم بحماية ذماره، وطالب الطهر من عاره، إلا أن يدركهم ويعمل عملهم، ليبلغ من الحول حولهم، فيفوقهم في القوة، أو يكون مثلهم فيتعاوض في المنافع معهم معاوضة المالك مع الملك، لا أن يتسلى بالأعاليل، ويلهو بالأضاليل، ويقنع بالأماني، ويكتفي من العمل بالصوت الجهوري واللفظ الطلي، وهو من روح قائله خلي، حتى إذا دهموه وهو في غفلته، وأخذوه في نومه أو يقظته، بسط يده يلتمس الرحمة منهم، ويرقب أن يفيض عليه سيب العدل عنهم، فهذا عمل الجاهل الأحمق، وهو بالذلة والاستعباد أحق.

وهي نصيحة يجب على المسلم قبولها من أجنبي منه، وكان يجب عليه من قبلُ أن يقبلها من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد قال لخالد بن الوليد حين أرسله لحرب اليمامة «حاربهم بمثل ما يحاربونك به، السيف بالسيف والرمح بالرمح.»

ولا يخفى أن كل نزاع فهو حرب، وكل منافسة فيما هو عماد الحياة فهي جِلَاد، وكل عمل يأتيه أحد المتنافسين للظفر بمنافسه فهو جهاد، وكل وسيلة تظفره بطلبته فهي سلاح، وكل تجاذب أو تدافع بينهما فهو كفاح، وكل منفعة حفظها أو استخلصها منه فهي غنيمة، وكل انخذال عن حق أو تفويت لمصلحة فهو هزيمة.

فالظافر في ميدان المنافسة من كان رأيه أسدَّ، وقوته أشدَّ، وسلاحه أحدَّ، فإذا قربت القوتان من التكافؤ أمكن بمصالح المتنافسين أن تتفق، وسهل على كلٍّ منهما أن يرتفق، وإلا استحال الاتفاق، واستبد القوى بالارتفاق، بل صعب على الضعيف أن ينال حق البقاء، سنة الله في عالم الأحياء.

وقد فصل مسيو هانوتو ما أجمله بعض أساتذتنا في قوله «العدل تكافؤ القوى».

صرح مسيو هانوتو بأن أوروبا بعد أن كانت لا تشتغل إلا بما يجري فيها اندفعت إلى الاستعمار، ولا يردُّها عنه إلا قوة الأمم التي تريد الاستعمار فيها، وضرب المثل باليابان فإنها بما ارتقت في المدنية قد آذنت أوروبا بقوتها، وحملتها على الإقرار بمكانتها، وهو قول حق كان على المسلم أن يعرفه من قرون، وله في كتابه المنزل خير هاد وأرشد مرشد، وكان يكفيه منه آية وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ …

… وقد تألفت قوى الأمم الأوروبية من عناصر هي العلم والأدب والتجارة والصناعة والعدل والدين والسلاح. وذكرتُ الدين في جملة عناصر القوة لأن مسيو هانوتو لا ينكر أن أوروبا تعتمد على الدين في سياسة الاستعمار، وأن المرسلين والجمعيات الدينية من أهم الوسائل لديها في إعداد الشعوب إلى قبول سلطانها عند سنوح الفرص لسوقه إليها وتهيئة نفوس الأمم لاحتمال ما ينقض به ذلك السلطان متى أظلهم، وفي فتح المغالق التي لا يستطيع السلاح وحده أن يفتحها، وتمهيد السبل التي لا يمكن لساعد الجندي وحده أن يمهدها.

أما أديب إسحاق، فقد كان دمشقي الأصل، ولد بها سنة ١٨٥٦م، وانتقل إلى بيروت ومصر، واتصل بجمال الدين الأفغاني، وحرر في الصحف. وبعد مجيئه مصر واتصاله بالسيد جمال الدين، أنشأ جريدة «مصر»، فلفت إليه الأنظار وقدر الأدباءُ أسلوبه تقديرًا حسنًا، وخافت الحكومة من تأثيرها فأقفلتها، فذهب إلى باريس وأصدرها هناك وسمَّاها «مصر القاهرة»، وقد مات شابًّا في التاسعة والعشرين من عمره (١٨٨٥م) وكان في كتابته نصير الشورى والحكم النيابي، والمدافعة عن حقوق الشعب.

وإذا كان أسلوب الشيخ محمد عبده متأثرًا بالأدب العربي القديم في أزهى عصوره، ودعوته إلى الإصلاح مصبوغة بالصبغة الدينية فإن أديب إسحق المعاصر له كان متأثرًا بالتعاليم الأوروبية الجديدة، داعيًا إلى تقليد الأوروبيين في نظم الحكم، وكان أسلوبه أيضًا متأثرًا بالأدب الأوروبي، حارًّا كشبابه، ملتهبًا من وطنيته. وقد جُمعت طائفة من مقالاته في كتاب اسمه «الدرر».

ومن أمثلة نثره قوله يهاجم الاستبداد:

«لقد عرف الناس الآن شرور الاستبداد، وترفعت نفوسهم بالعلم عن الرضا به، وصار الأمر شورى عند جميع الدول المتمدنة إلا الروسيا، وذلك إن صحت تسمية الدولة المستبدة مطلقًا بدولةٍ متمدنة. إن ثورة فرنسا برزت إلى عالم الفعل عام ١٧٨٩م وصدمت قوة الاستبداد فزلزلتها، ودفعت سطوة التقليد فضعضعتها، ورفعت عن العيون نقابها، وعن النفوس حجابها، فآنست من جانبها نور الحرية، وخلعت جلابيب الرق والعبودية، فتصدى لها أعوان الرق وأنصار العبودية وما آلوا في قتالها جهدًا، فلقيتهم وهي ترى الموت في الحرية حياة، والحياة في الرق موتًا، فلم يبلغوا منها قصدًا، ورسخت في عالم الوجود قدمها، وأدهشت الدنيا بشدة حولها …»

ومن ذلك هذه المحاورة التي دارت بينه وبين رياض باشا حول الحكم النيابي:

«زرت رياض باشا على عهد الوزارة الأجنبية في ديوان الداخلية، فقابلته خارجًا من الغرفة فجلسنا على مقعد الباب، فقال: كيف ترون الحال؟ قلت رأي الوزير أوسع. قال: وما الذي يبلغكم من أخبار الريف؟ قلت: إن الناس أمَّلوا كثيرًا ولم ينالوا شيئًا فأوشكوا أن يعودوا إلى اليأس بعد الرجاء، والوزير يعلم أن النكسة شر من الداء. فقال بازدراء: فليرجعوا إلى حالة الخسف، ويعانوا عذاب الظلم. قلت: إنهم لا يرومون ذلك، ولكن يرومون نيل الحرية وتأييد الكلمة الوطنية. فقال متهكمًا: ألا يرجون مجلس النواب؟ قلت: لا بدع أن يطلب الشيء من معدنه. فقال: أي معدن في مثل هذا المجلس؟ وكيف يرجى له البقاء، وليس في مصر من يعلم شيئًا من أحوال السياسة الدولية ليصلح أن يكون نائبًا. قلت: إن صح هذا الرأي فلا يقضى بحرمان البلاد من نعمة الشورى، فإن النواب المصريين يستطيعون النظر في أمورهم الداخلية وأحوالهم الزراعية وما يترتب عليه نفع البلاد ليستجلبوه، وما ينشأ عنه الضرر ليجتنبوه، وهم بذلك أحق من غيرهم، فإن صاحب البيت بالذي فيه أدرى. فهَمْهَمَ بكلام لا يُفهم، وانصرفت.»

•••

وقد يصح أن نقسم النثر الأدبي إلى نوعَين ظاهرين: نثر اجتماعي ونثر فني.

فالنثر الاجتماعي يشمل النثر السياسي ومقالات الصحف السياسية والاجتماعية والكتب المؤلفة في ذلك.

وهذا القسم كان أكثر تحررًا من السجع وأنواع البديع وسائر المحسنات لأنه يعتمد بطبيعته على مخاطبة جماهير المثقفين واستثارة مشاعرهم وتغذية عقولهم؛ ولذلك كان له الفضل الأكبر في تحول أسلوب الكتابة من كتابةٍ مقيدة إلى كتابةٍ مرسلة.

وقد بدأ هذا في أول النهضة من تحرير بعض المقالات في الوقائع المصرية وفي تأليف بعض الكتب التي ألَّفها أعضاء البعثات من مثل رفاعة الطهطاوي ومدرسته مما كانوا يعرضون من صورٍ اجتماعية طبعها في نفوسهم ما رأوا أثناء بعثتهم في أوروبا.

ثم قوي هذا النوع من الكتابة على أثر تبرم البلاد من التدخل الأجنبي في عهد إسماعيل، ثم قوي واشتد على أثر الاحتلال الإنجليزي والمطالبة بالاستقلال وشعور نخبة من المفكرين بسوء الحالة الاجتماعية والدعوة إلى الإصلاح.

ومن أعلام الكتاب في هذا الباب السيد جمال الدين الأفغاني المتوفى سنة ١٨٩٧م فقد شهد حركة التدخل الأجنبي في عهد إسماعيل، وأثار الشعور الوطني ليصرخ في وجه الظلم، ولكن لم يكن قوي الأسلوب الكتابي؛ إذ كانت تغلب عليه العجمة، غير أنه كان نارًا تلتهب يحمس كل من اتصل به، ويؤثر بحديثه وبروحه في مجالسه وتلاميذه، ويدفع كل من له قدرة على الكتابة أن يكتب وأن يجيد الكتابة فخلق مدرسةً قوية الروح قوية الأسلوب.

ربما كان هذا ممثَّلًا خير تمثيل فيما أنشأه في باريس بعد نفيه من مجلة «العروة الوثقي» إذ كان هو روح المجلة والشيخ محمد عبده قلمها وأسلوبها.

وكان من كتَّاب هذا النوع من النثر الاجتماعي عبد الله نديم وكان له أثرٌ كبير في كتاباته السياسية والاجتماعية أيام ثورة عرابي، وبعدها بما كان يخرج من مجلات ذات أسلوبٍ قويٍّ جذاب يؤثر في الخاصة والعامة، على حين أن السيد جمال الدين وتلميذه الشيخ محمد عبده كانا يؤثران في الخاصة؛ ذلك لأن السيد عبد الله نديم كان يعرض للمسائل السياسية والاجتماعية فيخاطب الخاصة باللغة الفصحى في أسلوبٍ قريب المنال، ثم كان يخاطب العامة باللغة العامية أحيانًا، ويقسم مجلته «الأستاذ» إلى قسمَين تبعًا لهذا الغرض.

وبعد الاحتلال وجدت نزعتان مختلفتان في السياسية والاجتماع: نزعة تميل إلى الإصلاح التدريجي والميل إلى الحكومة المستبدة العادلة والتدرج بالأمة حتى تنتج أفرادًا ممتازين في الخلق والثقافة؛ وإذ ذاك يمكن تكوين حكومة شورية، وكان على رأس هذا الحزب رياض باشا ويناصره من الكتاب الشيخ محمد عبده. وحزب يرى الإسراع في تنفيذ النظام النيابي وأنه هو الذي يكوِّن الرجال ويسير بهم نحو الكمال، وكان على رأس هذا الحزب شريف باشا ويناصره من الكتاب أديب إسحق وغيره. كما وجدت فيما بعدُ أحزابٌ أخرى لها نزعاتها المختلفة ولكل نزعة كتابها وأدباؤها.

وكان هذا كله نعمة على الأدب السياسي والاجتماعي؛ إذ أجرى أقلام الكتاب وألهب عواطفهم وجعل كتاباتهم حارةً متدفقة، فتوفَّر طائفة منهم على دراسة الحياة الاجتماعية؛ ينقدون حالة المجتمع ويدعون إلى الإصلاح من مثل مقالات النديم والشيخ محمد عبده والمويلحي وقاسم أمين، ثم جاء الشيخ علي يوسف ومصطفى كامل وأمثالهما، فتقدما في صحفهما ونتاجهما بالكتابة الاجتماعية والسياسية خطوات إلى الأمام.

وقد كان الشيخ علي يوسف أكبر صحفيٍّ مصري، أسس في جريدته «المؤيد» مدرسةً وطنيةً إسلامية، سدت حاجة المصريين إلى جريدةٍ وطنية تناهض الاحتلال، وإسلامية تغذي العواطف الإسلامية وتستجيب لها في سائر الأقطار العربية، وحازت جريدته من الشهرة والنفوذ والسعة ما لم تحزه جريدةٌ أخرى في عصره، والتفَّ حولها كثير من الكتاب يغذونها بأقلامهم ومشاعرهم.

وقد مات سنة ١٩١٣م بعد أن خدم بقلمه الأدب والعاطفة الوطنية والشعور الإسلامي خدمةً كبرى.

وكان له أسلوبٌ سيالٌ متدفقٌ قوي، يتحين فرص الأزمات الدينية والسياسية فيجري فيها قلمه بالروائع، فهو بحق قد نقل الأسلوب العربي العصري الحديث نقلةً جديدة.

ومن أمثلة نثره هذه القطعة كتبها تحت عنوان «لا تعصب في مصر»:

«قالوا: إن المصريين متعصبون تعصبًا دينيًّا، ومعنى هذا أنهم يكرهون المخالفين لهم في الدين كراهةً عمياء، يعتدون عليهم بروح البغضاء المتناهية، كلما سنحت لهم فرصة الافتراس أو استفزهم صائح.

في البلاد من قديم الزمان أديانٌ مختلفة يتجاور أهلوها في المنازل، ويتشاركون في المرافق، ويتنافسون في الأعمال، فلم تكن بين المسلمين والأقباط تلك الروح الشريرة. ولو كانت في فطرة المسلمين أو في فطرة الفريقَين للاشت الأكثريةُ الأقليةَ في عصورٍ مضت وخصوصًا في عصور كانت الجهالة فيها سائدة، وكان بعض الحكام من المماليك وغيرهم يبذرون بذور البغضاء بين الفريقَين لا لخدمةٍ دينيةٍ إسلامية، ولكن لأعراضٍ شتى منشؤها الشهوات والمطامع. ولكن التواريخ تدل على أن الفريقَين عاشا على الوئام والسلام في كل الظروف أو أكثرها.

وفد على القطر المصري منذ أول عهد المرحوم محمد علي باشا الكبير وفود من كل الطوائف والأجناس … كان منهم الموظفون في كل مصلحة، حتى تولى نوبار باشا رئاسة النظار في مصر، وكان قائمقام خديوي، ورئيس الاحتفال بموكب المحمل الشريف، فهل يوجد في أمة غير الأمة المصرية المسلمة مثل هذا التساهل؛ فيرأس احتفالًا دينيًّا مسيحيًّا مسلم أو غير مسيحي؟

وكان من علمائهم الأساتذة والمعلمون ونظار المدارس والمكتشفون، فهل الأمة التي تربي أبناءها على أيدي الأساتذة من غير دينها تُعدُّ متعصبة؟ وكان التجار على ما يحبون من الرحب والسعة وحسن القبول، فضربوا في البلاد بمتاجرهم من غث وسمين، وجيد ورديء، وخالص ومغشوش، حتى صارت مصر من أوسع أسواق متاجر أوروبا ومعاملها التي وجدت إقبالًا من الأمة هائلًا.

وهؤلاء بعض الأجانب يقيمون الأكواخ الصغيرة الحقيرة لبيع الخمور الرديئة في كل قرية من قرى القطر، مهما سحقت وقلَّ عددها … حتى يكون الصعلوك منهم في بضع سنوات صاحب القرية ومزارعها ومُدايِن أهلها وسيدهم، فهل هؤلاء هم المتعصبون الذين يخشى من شرهم في وادي النيل على الأوروبيين؟!»

ولما زاد ضغط السلطان عبد الحميد، وضيق على الناس حريتهم، ورماهم بالظلم وسوء الإدارة، وأخذهم بالظنة والشدة، كان من الطبيعي أن ينهض الأحرار لمقاومة الطغيان فكان من ذلك كتاب ينشرون المقالات القوية في هذا الظلم ويتعرضون للسجن والنفي والقتل.

وعلى الجملة فقد كان من نتيجة هذا وجود حركةٍ فكرية وأدبية في البلاد العربية المحكومة بالدولة العثمانية، وفرار كثير من الكتاب إلى مصر، يدَّرعون بها ويهاجمون السلطان عبد الحميد ونظامه الاستبدادي بمقالات أو كتبٍ أدبية في غاية من القوة والحرارة كما فعل الشيخ ناصيف اليازجي في بيروت، وكما فعل إبراهيم المويلحي في مصر في كتابه «ما هنالك» الذي نقد فيه الحكم التركي دون أن يصرح باسمه، وكما فعل السيد عبد الرحمن الكواكبي في كتابَيه «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» وكما فعل ولي الدين يكن بعد ذلك في أوائل القرن العشرين.

أما النثر الفني، ونعني به النثر الذي يُقصَد فيه إلى الصياغة والجمال والموسيقى والإمتاع الفني أكثر مما يُقصَد فيه إلى نقل الأفكار، وتقرير الحقائق؛ فقد كان رقيه أقل وخطواته أضيق، ولم يتحرر من سجعه وبديعه طوال القرن التاسع عشر إلا قليلًا، وكان أكثر ما يتجلى في الإخوانيات، والمساجلات الأدبية، والتقدمة لموضوعٍ اجتماعي، ونحو ذلك.

وكثيرًا ما يكون للأديب لونان: لون يتأنق فيه ويتقيد بالقيود الرسمية ويتصنع فيه ويتكلف ويُعمل ذهنه وخياله للعثور على نوع من أنواع البديع، أو فقرتَين يؤلف بينهما سجعة، ويحتذي فيه حذو الأقدمين من الكتاب أمثال بديع الزمان والحريري، ولون يترسل فيه ويتحرر من القيود إذا عرض لموضوعٍ اجتماعي أو سياسي كما فعل محمد المويلحي في حديث عيسى بن هشام، وكما نرى في كثير من المقالات التي كُتبت في هذا العصر.

وقد قل هذا الأدب بطغيان الأدب الاجتماعي والسياسي عليه وبحكم أن الناس رأوه ضربًا من ضروب الكمال ورأوا المقالات السياسية والاجتماعية حاجةً من حاجات الغذاء العقلي والعاطفي.

ويُعَدُّ عبد الله باشا فكري مثلًا من أدباء النثر الفني في بعض مقالاته وخاصة إخوانياته ومداعباته. ومن هذه الأمثلة ما كان من المساجلات بين الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري وشكيب أرسلان. كما أن من هذا النوع المقامات التي قُلِّد فيها الأقدمون مثل مقامات الشيخ ناصيف اليازجي «مجمع البحرين».

ومما يلاحظ أن النثر السياسي والاجتماعي كان أكثر تأثرًا في ترسُّله ومعانيه بالأدب الغربي وإن اتخذ موضوعاته من البيئة الشرقية. أما الأدب الفني فأكثر تأثرًا بالأدب العربي القديم في أسلوبه وقيوده.

وهناك أديبان كبيران امتازا بناحيتهما الأدبية الفنية كما امتازا بناحيتهما اللغوية وبسعة الاطلاع وقوة النقد؛ فأثرا في الأدب العربي في القرن التاسع عشر أثرًا كبيرًا، وهما أحمد فارس الشدياق، وإبراهيم اليازجي.

فأما أحمد فارس الشدياق فقد كان لبناني الأصل: كان نصرانيًّا، واتصل بباي تونس فأسلم، ورحل إلى أوروبا، واستفاد من رحلته فيها، وكان واسع الاطلاع في اللغة؛ يدل على ذلك كتبه: الساق على الساق فيما هو الفارياق، والجاسوس على القاموس، وسر الليال في القلب والإبدال.

وخدم الصحافة بإنشائه جريدة الجوائب في الآستانة باللغة العربية، كما كان له فضلٌ كبير في اختيار مصطلحات لكلمات أجنبية لا تزال تستعمل إلى اليوم.

وأنشأ بجانب جريدة الجوائب مطبعةً كان لها الفضل أيضًا في نشر كتبٍ عربيةٍ قيمة من الكتب الأدبية القديمة التي عثر عليها في مكاتب الآستانة.

ويعدُّ الشدياق بحق من أعلام الأدب بما كتب من مقالاتٍ أدبية وبما نقد من أحوالٍ اجتماعية، وبما نبَّه إليه من أخطاءٍ لغوية، وبما نشر من كتبٍ قيمة.

ولم يتحرر الشدياق في أسلوبه من قيود العصر القديم من التزام السجع أحيانًا، وتكلف أنواع البديع أحيانًا، ولكنه كان غزير المعاني، واسع الأفق، تعرض لموضوعات قلَّما تعرض لها من قبله؛ من وصفٍ لمشاهدَ اجتماعية في البلاد الشرقية والغربية، مع الفكاهة الحلوة والنقد اللاذع، وإن كان يؤخذ عليه فيها التبذُّل أحيانًا إلى ما يترفع عنه الأديب العفُّ.

وأسلوبه أميل إلى الإطناب، مملوء بالفكاهة، كثير المترادفات، عنيف في النقد.

وقد مات في عام ١٨٨٧م بعد أن عُمِّر طويلًا، وبعد أن أغنى اللغة العربية، بما بعث من كلمات، وخلق من مصطلحات، ونشر من كتب، وأحيا من نقد.

ومن أمثلة نثره القطعة التالية تصف مصر (الساق على الساق، الفصل السابع، ٢٠٣): «بلد الخير ومعدن الفضل والكرم، أهلها ذوو لطف وأدب وإحسان إلى الغريب، وفي كلامهم من الرقة ما يغني الحزين عن التطريب، إذا حيوك فقد أحيوك، وإن سلموا عليك فقد سلَّموك، وإن زاروك زادوك شوقًا إلى رؤيتهم، وإن زرتهم فسحوا لك صدورهم فضلًا عن مجالسهم. أما علماؤها فإن مدحهم قد انتشر في الآفاق، وفات فخر من سواهم وفاق، بهم من لين الجانب ورِقَّة الطبع وخفض الجناح وبشاشة الوجه ما لا يمكن المبالغة في إطرائه … وكلهم فصيح اللهجة، بيِّنُ الكلام، سريع الجواب، حلو المفاكهة والمطارحة، وأكثرهم يميل إلى هذا النوع الذي يسمونه الأنفاط، وكأنه المحارزة، وهي مفاكهة تشبه السباب وهو أشبه بالأحاجي، فإن لم يكن قد تدرب فيه لا يمكنه أن يفهم منه شيئًا وإن يكن شاعرًا. وكلهم يحب السماع واللهو والخلاعة وغناؤهم أشجى ما يكون فلا يمكن لمن ألِفه أن يطرب بغيره، وكذلك آلاتهم فإنها تكاد تنطق عن العازف بها، وأعظمها عندهم هو العود، وقل اعتناؤهم بالناي، ولهم في ضرب العود طرق وفنون تكاد تكون من المغيَّبات، غير أني أذم من غنائهم شيئًا واحدًا، وهو تكرير لفظةٍ واحدة من بيت أو موال، مرارًا متعددة حتى يفقد السامع لذة معنى الكلام، ولكن أكثر ما يكون ذلك من المتطفلين على الفن، وبعكس ذلك طريقة أهل تونس فإن غناءهم أشبه بالترتيل، وهم يزعمون أنها كانت طريقة العرب في الأندلس …»

وربما خلفه في بابه إبراهيم اليازجي وهو لبناني الأصل عاش من سنة ١٨٤٧–١٩٠٦م وهو ابن الشيخ ناصيف اليازجي الأديب المشهور الذي تقدم ذكره. مال إلى الصحافة أول أمره فكتب في جريدة الصباح في بيروت، وعلَّم البيان وآداب اللغة العربية في إحدى مدارسها، ثم تحوَّل إلى مصر، وأنشأ بها مجلة البيان.

وكان مثقفًا ثقافةً واسعة في اللغة العربية والفرنسية وكان يعرف العبرية والسريانية.

وعُرف بكثرة التحري والتدقيق فيما يكتب ويبحث، لا يرضى أن يخرج شيئًا للناس من آثاره حتى يطيل النظر فيه ويجيل يده في إصلاحه وتعديله مرارًا؛ ولذلك قلَّ إنتاجه إذا قيس بمجهوده ومدة اشتغاله.

وقد شارك أحمد فارس الشدياق في كثير من صفاته من اتساع في معرفة اللغة العربية وآدابها ونقد للتعبيرات والأساليب الشائعة في زمنهما وتوجيه الكتاب والأدباء إلى أن يتقنوا ما ينشئون، ويجوِّدوا ما يكتبون، كما اشترك بوضع كثير من المصطلحات اللغوية.

وقد شاء القدر أن يتساجل الرجلان، حين نقد أحمد فارس الشدياق أباه الشيخ ناصيف اليازجي عقب وفاته، فاضطر إبراهيم للدفاع عن أبيه، وقد كان أحمد فارس الشدياق إذ ذاك نيف على السبعين، وكان إبراهيم اليازجي شابًّا، ولعل هذا هو ما وجهه إلى التزود من اللغة وحذوه حذو أحمد فارس الشدياق في الميل إلى النقد مع كثرة البحث وسعة الاطلاع.

وأخرج اليازجي كتبًا تتجلى فيها مواهبه واتجاهاته، فله كتاب لغة الجرائد نقد فيه الأساليب والألفاظ التي يكثر استعمالها في الجرائد والمجلات مما لا يتفق وفصيح اللغة.

وله «نجعة الرائد في المترادف والمتوارد» أخرج منه جزأين وبقي الثالث بناه على الإنسان وصفاته، وما يتصل به، يذكر في كل فصل الجمل المختارة والألفاظ المنتقاة التي تستعمل في المعنى الواحد على نحوٍ أوسع مما فعل صاحب الألفاظ الكتابية، وما فعله الحصري في فصول من كتاب «زهر الآداب».

كما نشر نقدًا له على محيط المحيط للبستاني. وألف شرحًا جميلًا لديوان المتنبي كان بدأه أبوه من قبله بتعليقات على الأبيات، وهو شرح تتجلى فيه مواهب اليازجي من دقة وتركيز، وأداء للمعنى من غير إكثار.

وهو كسائر كتاب عصره لم يتحرر من السجع في كتاباته الأدبية، أما مقالاته في البحوث اللغوية ونحوها فقد تحرر فيها من السجع غالبًا لطبيعة الموضوع.

وهو يميل إلى تقليد الأقدمين في تحرِّيه لرصانة العبارة، وحسن السبك، والدقة في اختيار اللفظ، ويتحد مع الشدياق في ميله إلى الإطناب في مقالاته النقدية وإن لم يبلغ في ذلك مبلغه، ويخالفه في غلبة الجد عليه، وقلة الفكاهة والمزاح.

ومن أمثلة مقالاته هذه القطعة التي كتبها عن «الجرائد في القطر المصري» في مفتتح السنة الأولى من مجلته الضياء (١٨٩٨–١٨٩٩م):

«من ورد الديار المصرية في هذه الأيام ورأى أن في القاهرة وحدها ما ينيف على خمسين جريدةً بين يومية وأسبوعية وشهرية، ثم قابل بين حالها اليوم وما كانت عليه من زهاء عشرين سنة حين لم يكن فيها إلا جريدةٌ واحدة هي الجريدة الرسمية، تبين المسافة التي جازها هذا القطر في هذه المدة اليسيرة وما حدث في نفوس أهله من النهضة الأدبية …

بيد أنك إذا تفقدت تلك الجرائد وجدت أكثرها بعيدًا عن المنزع الذي تقتضيه حالة القطر غير متلقٍّ تلك النهضة بما يرفع الأمة من كبوتها؛ لأن أكثرها لا خطة لها إلا أحاديث السياسة ومزاعم أربابها، تتلو على القراء في هذا القطر ما يتحدث به في مجالس لندرا وبرلين وما يتخرَّص به سياسِيُّو باريز وبطرسبرج … مما لا يهم المصري في حالته الحاضرة الوقوف على شيء منه، فضلًا عن أن هذه المباحث إنما هي من غايات المدنية لا من مبادئها، وإنما تتلقاها الأمة بعد أن تستوفي قسطها من ضروريات العلم وتستعد لفهم ما يلقى إليها من ذلك بعد معرفة المقدمات التي تفيد تصوره. ويا ليت شعري ما الذي يقع في ذهن العامي من مكاشفته بأسرار الممالك، وهو لم يسمع من أمر تلك الممالك إلا بأسمائها ولم يقف على شيء من تواريخها وسائر أحوالها، وكيف يستطيع أن يتمثل وقائع حرب بين أمتَين وهو لا يعلم موقع بلادهما من الأرض؟!

ثم على تسليم أن ذلك كله سائغ وأن المقصود به الفئة المتنورة من الأمة وهي أقل من القليل فما الداعي إلى وجود عشرات من الجرائد تكرر الخبر الواحد مع وحدة المشتركين في أكثرها؟! وكثيرًا ما يكون ذلك الخبر بالعبارة الواحدة لأنه في جميعهن مُعرَّب عن جرائد الأجانب حتى ما يتعلق بسياسة القطر نفسه. وهذه أخبار النظارات وهي بين ظهراني كتابنا لا يكادون يتعلقون بالنبأ التافه منها إلا استراقًا واستشفافًا من وراء حجاب. وهذه أخبار مواقع السودان وهي متصلة بمصر وفيها جيش مصر وأموالها تتناولها جرائدنا عن جرائد إنكلترا وغيرها فلا تصل إلا بعد أن تقطع البر وتخوض البحر وتأتيها عن طريق هو أبعد من السودان بمراحل.

ثم أين نصيب العامي من تلك الجرائد وعليه أكثر رواجها؟ وهل يكتفي منها بما تسرده بعد ذلك من خبر زفاف أو نعي وما يقع من قتل أو سرقة، وما يتوخاه الكاتب أو المكاتب من إطراء بعض ذوي الشأن لغرض في النفس أو الوشاية ببعض المستخدمين، أو ما أولع به بعض تلك الجرائد من نفث سموم التعصب والشقاق؟ أين الكلام فيا ينمي ثروة البلاد؟ ومتى رأينا فيها حضًّا على إحياء الصنائع؟ ثم أين الفصول المطولة في تهذيب أخلاق العامة وإصلاح آدابها؟!

ومعلوم أن الجرائد تثبت تأثيرًا في نفوس قرائها، لأنها الجليس الدائم والعشير الملازم، يقرؤها الرجل في ناديه، ويأنس بها في خلوته، ويختلف عليها في أوقات فراغه، ويتكرر عليه حديثها في كل يوم، حتى تنطبع حروفها في مخيلته، وترتسم ألفاظها على أسلة لسانه؛ فإذا تكلم نطق بما تتلو عليه، وإذا تناجت خواطره لم يمر بها إلا ما تلقن من أقوالها، إلى أن تنتقش خطتها في صفحة اعتقاده ويسترسل إليها برأيه وهواه، ولا سيما إذا لم يسبق إليه من العلم ما يزاحم آراءها، ولم يكن بين يديه ما ينصرف إلى تلاوته دونها بحيث تكون هي المورد الوحيد الذي تستمد منه بصيرته، فإن ما يرد عليه منها يمتزج بأجزاء نفسه ويرسخ فيه رسوخ طباعه حتى يصير من الضروريات التي لا تقبل الزوال ولا تعترضها الشبهات.»

•••

وإلى جانب هذا ولد فن الخطابة في هذا القرن وارتقى، وقد كانت الخطابة قبل ذلك ميتة أو شبه ميتة؛ لفقدان الحرية، وخمود الوعي القومي. والخطابة السياسية لا تنهض إلا بهذين العنصرَين: قدر من الحرية يستطيع به الخطيب أن يعبر عن آرائه، ويقظة شعورٍ تدفعه للتفريج عن نفسه بالقول، ومجاوبة للسامعين في هذا الشعور.

وقد كانت الحرية مخنوقة لا يستطيع قائل أن يقول وإلا تعرض للسجن والنفي والموت، وكان الشعور القومي قد جمد إلى درجةٍ بعيدة فلا يفكر مفكر إلا في نفسه، وكيف يعيش، وكيف يتقي الشر، أما التفكير في الوطن فمنزلة لم يبلغها.

قال الشيخ محمد عبده: «إن أهالي قبل سنة ١٨٩٣م كانوا يرون شئونهم العامة بل والخاصة ملكًا لحاكمهم الأعلى ومن يستنيبه عنه في تدبير أمورهم يتصرف فيها حسب إرادته، ويعتقدون أن سعادتهم وشقاءهم مَوْكولان إلى أمانته وعدله أو خيانته وظلمه، ولا يرى أحد منهم لنفسه رأيًا يحق له أن يبديه في إدارة بلاده أو إرادةٍ يتقدم بها إلى عمل من الأعمال يرى فيه صلاحًا لأمته، ولا يعلمون من علاقة بينهم وبين الحكومة سوى أنهم مُصرَّفون فيما تكلفهم الحكومة به وتضربهم عليه، وكانوا في غاية البعد عن معرفة ما عليه الأمم الأخرى سواء كانت إسلاميةً أو أوروبية، ومع كثرة من ذهب منهم إلى أوروبا وتعلم فيها من عهد محمد علي باشا الكبير إلى ذلك التاريخ، وذهاب العدد الكثير منهم إلى ما جاورهم من البلاد الإسلامية أيام محمد علي باشا وإبراهيم باشا؛ لم يشعر الأهالي بشيء من ثمرات تلك الأسفار.»

فلما أنشأ إسماعيل باشا مجلس الشورى في سنة ١٢٨٣ﻫ بدأ الناس يشعرون بشيء من الحرية وإن كان شعورًا ضعيفًا يساوره خوف وتردد، حتى إذا تدخل الأجانب في مصر على أثر سوء الحالة المالية أخذ الناس يتذمرون، وأخذ وعيهم القومي في التكوُّن، وساعد على ذلك شعور الخديوي إسماعيل باشا نفسه بضرورة إبداء الناس آراءهم وتذمرهم، وإذ ذاك ظهر جمال الدين الأفغاني فكان أول خطيب من نوعه: يبلور شعور الناس ويستحثهم للعمل، وكسب الحقوق، ورفع الظلم، والمطالبة بالعدل، فكان يجلس وحوله الناس في المقهى أو في بيت من بيوت الخاصة، ويتحدث حديثًا هو أشبه ما يكون بخطابة في جمعٍ صغير، وأحيانًا يخطب في الجماهير. وقد سمعه من حدث عنه أنه كان يخطب سنة ١٨٧٨م في العامة ويقول لهم ما معناه: «إنكم معشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد، ورُبِّيتم في حجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة إلى اليوم وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين، وتئنون من وطأة الغزاة الظالمين، تسومكم حكوماتكم الحيف والجور، وتُنزل بكم الخسف والذل، وأنتم صابرون بل راضون، وتستنزف قوام حياتكم — التي تجمعت بما يتحلَّب من عرق جباهكم — بالعصا والمقرعة والسوط وأنتم صامتون، فلو كان في عروقكم دم فيه كرياتٌ حيوية، وفي رءوسكم أعصابٌ تتأثر فتثير النخوة والحمية، لما رضيتم بهذا الذل وهذه المسكنة. تناوبتكم أيدي الرعاة، ثم اليونان والرومان والفرس، ثم العرب والأكراد والماليك، وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لها ولا صوت.

انظروا أهرام مصر، وهياكل منفيس، وآثار طيبة، ومشاهد سيوة، وحصون دمياط، فهي شاهدة بمنعة آبائكم، وعزة أجدادكم. هبوا من غفلتكم، اصحوا من سكرتكم، عيشوا كباقي الأم أحرارًا سعداء.»

وقد ربى في مصر طبقةً تقلده وتحاكيه.

ثم خلفه في النبوغ في الخطابة عبد الله نديم، كان خطيبًا شعبيًّا، وكان زلق اللسان، عارفًا بنفسية الجماهير، قديرًا على التأثير. بدأ حياته الخطابية مذ كان يُعلِّم الإنشاء والأدب في مدرسة الجمعية الخيرية في الإسكندرية، فكان يعلم تلاميذ المدرسة الخطابة. ثم كان يخطب في المحافل، وقد كثرت في أول عهد توفيق سنة ١٨٨٢م حينما أعلن الدستور، فسرت في النفوس هزة فرح، وأمل الناس أن الحكم النيابي سيصلح كل مفاسد الماضي، فكان عبد الله نديم يخطب في الجماهير. من ذلك مثلًا أن جمعية المقاصد أقامت حفلةً للاحتفال بهذا الدستور فافتتحها عبد الله نديم، وتلاه إبراهيم اللقاني فبين الفرق بين عهد الاستبداد وعهد الشورى، فأعقبه النديم في الكلام في هذا الموضوع، ثم قام الشاب مصطفى ماهر (الذي صار مصطفى باشا ماهر فيما بعدُ)، فتكلم في الحث على الاجتهاد في العلوم والفنون، وأثار الأغنياء حول فكرة إنشاء بنكٍ أهلي يحمى الأهالي من استغلال المرابين، وختم ذلك بالدعوة إلى الألفة والاتحاد، فقام النديم بعده يخطب في هذا الموضوع أيضًا، ثم قام الشيخ محمد عبده فبين مزايا الحكم النيابي، وطالب أن يكون النواب من المتعلمين، وحث على تعميم التعليم، وعلى احترام حرية القول والكتابة، وسن القوانين المبينة لحقوق الأفراد، فأعقبه عبد الله نديم يخطب في هذا الموضوع أيضًا. ثم قام فتح الله أفندي صبري (وهو فتحي باشا زغلول فيما بعدُ)، فخطب في الحث على الاتحاد والثبات.

ثم لما كانت الثورة العرابية، تحولت خطب عبد الله نديم إلى التحريض على الثورة وتأييد عرابي، فكان يخطب في كل مجتمع: في الأزهر وطلبته، والجيش وجنوده، وفي حفلات الأفراح، حتى كان إذا سئل محمد عثمان المغني أين تعني الليلة؟ قال في بيت فلان مع عبد الله النديم.

كان عبد الله نديم إذن لسان الأمة في عهده بخطبه إذا خطب، وبقلمه في الصحافة إذا كتب.

ثم خلفه مصطفى كامل (المتوفى سنة ١٩٠٨م)، فكان الخطيب البارع في مناهضة الاحتلال الإنكليزي فدعا إلى مصر وحريتها، يخطب في مصر بالعربية، وفي فرنسا بالفرنسية، ويتنقل في البلاد يثير الحمية، ويشعل نار الوطنية، ويبعث في النفوس الشعور بالكرامة القومية.

وكان مصطفى كامل حلو الصوت، جيد النبرات، متدفق البيان، فأثر في النفوس أثرًا بالغًا.

ثم كان لتنظيم القضاء في مصر، وإنشاء المحاكم الأهلية، ونظام المرافعات، أثرٌ كبير في نهضة الخطابة القضائية، بل والسياسية أيضًا. فنظام القضاء أعلى من شأن المحاماة؛ ولهذا نشأ محامون بارعون في المرافعة، وكان منهم خطباء قضائيون في المنزلة الأولى مثل إبراهيم اللقاني، وعمر لطفي، وإبراهيم الهلباوي وغيرهم. كما أن كثيرًا من هؤلاء المحامين اشتغلوا بالحركة السياسية فكانوا خطباء سياسيين بجانب أنهم خطباء قضائيون.

(ﺟ) القصة

لم يكن يُنظر إلى القَصص في أول هذا القرن على أنه أدبٌ رفيع إلا ما كان من المقامات وأمثالها، حتى إن ألف ليلة وليلة وقصة عنترة وأمثالهما من القِصص الأخرى كان يرى فيها الأدباء أنها أدبٌ شعبيٌّ وضيع، ولم تُقدَّر ألف ليلة وليلة في الأدب العربي إلا بعد أن قدرها الأوروبيون. وإنما علا شأن القصة بعد أن احتك الشرق بالغرب ورأى المتأدبون أنها تحل في الأدب الغربي أعلى منزلة؛ ولذلك بدأ الأدباء في هذا القرن يترجمون عن الأدب الغربي بعض القصص كما فعل محمد عثمان جلال في مصر إذ ترجم أربع روايات فرنسية عن راسين ونشرها في كتاب سماه «الروايات المفيدة في علم التراجيدة» وترجم أربع رواياتٍ أخرى عن موليير في كتاب سماه «الأربع روايات من نخب التياترويات» وكما ترجم قصص لافونتين في العيون اليواقظ.

وكذلك ترجم اللبنانيون عن الإنجليزية والفرنسية بعض الروايات، ومن أشهرهم في ذلك سليم البستاني، ونقولا رزق الله، ونقولا الحداد.

وكانت الخطوة الثانية هي تأليف الروايات على نسق ما يفعله الغربيون، وربما كان أول قصةٍ مصريةٍ منشأة هي قصة «علم الدين» لعلي باشا مبارك؛ ألفها في أربعة أجزاء وهو ناظر للمعارف، فحشد جمعًا كبيرًا من المدرسين ووضع خطتها وهي أن يحصروا أهم مظاهر المدنية الحديثة كالسكك الحديدية والبريد والملاحة والتياترو والبورصة والبنوك ووسائل الإضاءة إلى غير ذلك، ثم يكتبوا في هذه الموضوعات ما يجب أن يعلمه الإنسان المثقف، كما جمع فيها ما وصل إليه العمل في البحر وعجائبه، والبراكين والذهب والأحجار، والصناعة والفلاحة وأشهر النباتات وما يُستخرج منها إلخ.

وكذلك الشأن في الموضوعات الأوروبية كعادات الأوروبيين في مأكلهم وملبسهم، وعادات المصريين في ذلك.

ثم عادات أدبية كالميسر والأزلام والأنصاب عند العرب، ومعنى المعلقات وتاريخ القهوة والحشيش.

فلما فرغوا من ذلك صبَّها في قالب قصة تدخل فيها هذه الموضوعات، وعاونه في صياغتها عبد الله باشا فكري.

وجعل بطل القصة شيخًا من الأزهر اسمه الشيخ علم الدين. وقد وصف فيها حياة الشيخ الأولى وكيف تعلَّم في الكتاب، وتلقَّى العلم في الأزهر، وأخيرًا حضر رجلٌ إنجليزي من المستشرقين إلى القاهرة فالتقى بالشيخ علم الدين ودرس العربية عليه، ثم عرض الإنجليزي على أستاذه أن يسافر إلى بلاد الإنجليز ففعل بعد تردد، وسافر الشيخ إلى إنكلترا، وكان كلما مر على شيء في مصر سأله الإنجليزي عنه فيشرحه له، ثم كلما مر الشيخ بعد ذلك على شيء في إنكلترا شرحه الإنجليزي للشيخ.

وقد أُلِّفت القصة حوالي ١٨٧٩م وطُبعت ١٨٨٢م.

وكانت ضعيفة الحبكة الروائية، قلل من الروابط فيها ما كدَّسه من العلوم والمعارف، وفاتته الدقة أحيانًا في وصف الشخصيات وتحليلها، فهي على كل حال من أوائل القصص المصرية التي خطَّت الطريق للقصة من بعدها.

وكان قد ساد في أوروبا القَصص التاريخي، فقلَّد كُتَّاب العرب هذا النمط القصصي، وألَّف سليم البستاني طائفة منها مثل زنوبيا وبدور، وجاء بعده جرجي زيدان فألف كثيرًا منها مثل عذراء قريش، وغادة كربلاء، وفتاة غسان، والعباسة أخت الرشيد، والمملوك الشارد. وقد غلب عليها الناحية التاريخية، وطغت فيها على الناحية الفنية.

وإلى جانب القصص التاريخي وُضعت قصصٌ أخرى كانت تهدف إلى الحث على الفضيلة وتجنب الرذيلة كقصة سليم البستاني في «الهيام في جنان الشام» وقصة نقولا الحداد «الصديق المجهول» وأمثالها.

وبجانب ذلك كانت الروايات التمثيلية فكان لها نصيب في إحياء فن القصص، وبدءوا كذلك بتمثيل رواياتٍ إفرنجية بعد تعريبها، كما فعل «مارون النقاش» من تمثيل رواية البخيل (موليير).

وفي عهد الخديوي إسماعيل بُنيت دار الأوبرا الملكية ١٨٦٩م ومثلت فيها للمرة الأولى فرقةٌ فرنسية، فكان هذا لافتًا لأنظار بعض الأدباء أن يُعنوا بالتمثيل العربي على نمط التمثيل الأوروبي. فجاء إلى مصر من لبنان سليم نقاش وأديب إسحق ومعهما فرقةٌ لبنانية مثلت في الإسكندرية ١٨٧٦م، وبعد ذلك مثَّل يوسف خياط في الأوبرا رواية «المظلوم» واشتهر بعد ذلك أبو خليل أحمد القباني الدمشقي الأصل، مثَّل أول أمره في سورية، ثم انتقل إلى مصر.

وتتابع التمثيل بعد ذلك، ولكنه كان ضعيفًا، فاترًا، لا يعدو أن يكون خطوة تقدم بها القَرَقُوز وخيال الظل، وكان من أهم أسباب ضعفه أن الجمهور المسلم لم يكن إلى ذلك الوقت قد استساغ أن تظهر المرأة على المسرح، حتى كان إلى عهد قريب يمثل الفتى دور الفتاة. وإنما أخذ التمثيل يرقى بعض الشيء في أوائل القرن العشرين.

(د) حركة الترجمة والتأليف والنشر

كانت اللغة العربية إلى أوائل القرن التاسع عشر لا تعرف شيئًا مما يجري في أوروبا من «العلوم» التي أنتجتها النهضة الأوروبية كالطب والطبيعة والكيمياء والرياضيات. فلما جاء محمد علي باشا أسس نهضته أول الأمر على الجيش وإصلاحه وتنظيمه واحتاج الجيش إلى أطباء، واحتاج الطب إلى طبيعة وكيمياء، كما احتاج الجيش أيضًا إلى أبنية واحتاجت الأبنية إلى مهندسين، واحتاج المهندسون إلى رياضة؛ فنشأ عن ذلك كله الاهتمام بهذه العلوم الطبية والطبيعية والكيماوية والهندسية والرياضية ولم يكن من أهل البلاد أحد يعرفها، فاضطر محمد علي إلى استدعاء العدد الكثير من الأساتذة الأوروبيين، وخاصة الفرنسيين، يعلمون أبناء البلاد، وأبناء البلاد لا يعرفون شيئًا من اللغات الأجنبية. ولم ينتظر محمد على حتى يعود المبعوثون من المصريين، فاستعان ببعض من يعرف اللغة الفرنسية من السوريين والمغاربة وجعلهم واسطة بين الأساتذة الأوروبيين والطلبة المصريين، فكان الأساتذة يختارون الكتب الإفرنجية، أو يؤلفونها ويعرضونها على لجنة لدراستها وإقرارها إن كانت صالحة؛ فكانت كتب الطب مثلًا تعرض على لجنة من أساتذة المدرسة الطبية تسمى «أرباب المشورة الطبية» فإذا أقرَّتها نُقلت إلى العربية على يد المترجمين. وهؤلاء المترجمون قد يكونون ضعفاء في اللغة العربية فيعهدون إلى عالمٍ أزهري يتولى تصحيحها، وقد يشركون في التنقيح والتصحيح اثنين؛ أحدهما عالم باللغة الأجنبية والآخر عالم باللغة العربية ليتعاونا في تجويد الكتاب وإتقانه.

وانتقلت البلاد نقلةً ثانية بتأسيس مدرسة الألسن، وكان طلبتها يجيدون اللغتَين فيترجمون ويتولى رفاعة بك تصحيح ما ترجموا، وبذلك أخرج هؤلاء وهؤلاء كتبًا قيمة كانت أساس النهضة في العلوم الحديثة، وأعادوا نفس الطريقة التي اتُّبعت في العصر العباسي حين نقل العرب علوم اليونان وغيرهم إلى العربية. كما كان التاريخ يعيد نفسه من أن حركة الترجمة تبدأ أولًا في العلوم المجهولة ثم يتبعها التأليف، فقد بدأ العائدون من البعثة والمتخرجون في المدارس المصرية وفي مدرسة الألسن يؤلفون في الطب وغيره من هذه العلوم. ومن الطريف في ذلك أنهم كانوا يسمون الكتب العلمية على نمط ما سميت به في العصور الوسطى فيسمون الكتاب مثلًا «غرر النجاح في أعمال الجراح» أو «أحسن الأغراض في التشخيص ومعالجة الأمراض» أو «السراج الوهاج في التشخيص والعلاج» أو «الآيات الباهرة في النجوم الزاهرة» وهو في الفلك لإسماعيل باشا الفلكي، وهكذا.

وهذه العلوم وإن كانت لا تمتُّ كثيرًا إلى اللغة العربية وآدابها فهي تؤثر في النهضة الأدبية من ناحيتَين: ناحية أن هذه العلوم ترقِّي الأذهان وتوسِّع الأفكار، وقد علمتنا التجارب أن النهضة إذا حدثت في جانب من جوانب العلوم أثرت سريعًا في الجوانب الأخرى من العلوم والفنون. أضف إلى ذلك أن الأدب يعتمد في إنتاجه على كل شيء، والأديب يجب أن يختزن في ذهنه كثيرًا من شتى أنواع الحياة والعلوم، ولا بد أن يأتي عليه يوم يخرجها من مخزنه ليصوغها في فنه وأدبه. هذا إلى أن رقي العلوم ولو كانت طبية أو طبيعية ترقي العقل وتجعله أبعد عن التخريف، والأدب مملوء بالتخريف إن كان منتجه خرافيًّا، ومثقفٌ عاقل إن كان منتجه مثقفًا عاقلًا.

على أن الأدب نفسه خضع لهذا القانون فبدأ كثير من عارفي اللغات الأوروبية يترجمون كثيرًا من أحسن ما قرءوا فيها؛ فترجم سليمان البستاني إلياذة هوميروس إلى العربية شعرًا فكان عملًا جليلًا وضع تحت أنظار العرب ذخيرةً من الذخائر التي تُعدُّ مصدر وحي لأدباء الفرنج، وقدَّمها بمقدمةٍ طويلةٍ قيِّمةٍ نظر فيها إلى الأدب العربي نظرةً عميقة على ضوء الإلياذة.

وكما ترجموا في هذا القرن أيضًا كثيرًا من الروايات الإنجليزية والفرنسية والروايات من مثل روايات شكسبير وموليير ودوماس وشاتوبريان ولافونتين وراسين وكورني. وحلَّت هذه الروايات عند القراء المثقفين المركز الذي كان تحتله قصص عنترة والزير سالم وسيف بن ذي يزن وغيرها. وكانت ترجمتها أساسًا لما ألف في هذا اللون من الأدب بعد ذلك.

(١) التأليف في اللغة والأدب

شملت هذه النهضة التأليف في اللغة والأدب وما يتصل بهما من تأليف في وسائلهما من نحوٍ وصرف وعروض وبلاغة. ففي مطلع هذا القرن التاسع عشر كتب الشيخ حسن العطار (المتوفى ١٨٣٤م) مجموعةً من إنشائه سميت «إنشاء العطار»، وكتب الشيخ حسن قويدر الخليلي (المتوفى ١٨٤٥م) كتابه «نيل الأرب في نظم مثلثات العرب» ذكر فيه الألفاظ التي وردت بالحركات الثلاث مع شرح كل شكل من أشكالها، وقد طُبع الكتاب في مصر وتُرجم إلى اللغة الإيطالية، كما ألف رسالة «الأغلال والسلاسل في مجنون اسمه عاقل» سخر فيها من تصرفات رجلٍ سخيف اسمه عاقل انتحل قصيدة لغيره ونسبها لنفسه.

وفي سورية كان من أبرز المؤلفين الشيخ ناصيف اليازجي فقد كتب «مجمع البحرين» كما ألَّف كتبًا خطا فيها خطوةً جديدة في تعليم النحو والصرف والعروض والقوافي والبيان فألَّف «فصل الخطاب في النحو والصرف» و«نقطة الدائرة في العروض» و«الجمان في علم البيان»، وألف أحمد فارس الشدياق (المتوفى ١٨٨٧م) كثيرًا من كتب اللغة، كالجاسوس على القاموس نقد فيه قاموس الفيروزآبادي، و«سر الليال في القلب والإبدال»، كما ألف في النحو والصرف «غنية الطالب».

واشتهر في مصر من مؤلفي الكتب الأدبية الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري (المتوفى ١٨٨٨م) وهو عالمٌ أزهري اتصل بالخديوي إسماعيل واختاره إمامًا للمعيَّة ومفتيًا له، وشارك في الشعر والأدب واللغة، وامتاز بها وأكثر من التأليف فيها؛ ألف كتاب «سعود المطالع» في مجلدَين جمع فيه كثيرًا من العلوم والفنون وبناه على شرح لغز في اسم الخديوي إسماعيل، وله «الفواكه» في الأدب و«الدورق» في اللغة، وله مكاتبات ورسائل دارت بينه وبين الشيخ إبراهيم الأحدب.

وكان الشيخ حسين المرصفي (المتوفى ١٨٨٩م) من عيون المؤلفين، وهو عالم من علماء الأزهر، وكان كفيفًا، وتزعم الحركة الأدبية في مصر، وكان من أبرز تلاميذه محمود سامي البارودي، وتولى التدريس في دار العلوم فكان له أكبر الفضل على الأوائل من خريجيها، وقد اجتهد في تعلم اللغة الفرنسية واستفاد منها وألف كتابًا قيمًا يعد خطوةً جديدة في التأليف في علوم اللغة العربية وهو «الوسيلة الأدبية في العلوم العربية»، عُني فيه عنايةً خاصة بعلم الأدب، كما كان من أثر معرفته بالفرنسية أن وضع كتابًا سماه «الكلم الثمان» شرح فيه معنى الأمة والوطن والحكومة والعدل والظلم والسياسية والحرية والتربية.

وكان من أشهر المؤلفين في اللغة والأدب الشيخ إبراهيم اليازجي، وقد عرضنا لترجمته وتآليفه فيما سبق، ومن تآليفه الأدبية واللغوية شرحه لديوان المتنبي وكتابه نجعة الرائد ولغة الجرائد.

ووُجدت في سورية حركةٌ قيمة في تأليف المعاجم على نمطٍ قريب التناول اتُّبع فيه أسلوب «المصباح المنير» من ترتيب الكلمات حسب أوائلها وإفراد كل معنًى في أول السطر، وكان من أوائل من ألف في ذلك بطرس البستاني (المتوفى سنة ١٨٨٣م) في معجمه «محيط المحيط» في جزأين كبيرَين، أدخل فيه بعض المصطلحات العلمية والألفاظ المولَّدة وبعض الألفاظ العامية مع التنبيه عليها، وقام بعملٍ آخر أجل شأنًا وهو دائرة المعارف مرتبةً على حسب الحروف الأبجدية في العلم والأدب والتاريخ والجغرافية وسائر العلوم على نمط دوائر المعارف الأجنبية، وقد أتم في حياته منها ستة مجلداتٍ كبيرة، وأتم السابع والثامن منها ابنه سليم، وتولى أبناؤه الباقون التاسع والعاشر والحادي عشر بمساعدة ابن عمهم سليمان البستاني ووصلوا فيها إلى مادة «عثمانية».

واشتهر من مؤلفي اللغة العربية رجلٌ هندي هو صديق حسن خان (المتوفى ١٨٨٩م) عاش في الهند وتزوج ملكة بهو بال وجمع حوله كثيرًا من العلماء واشتغل معهم في تأليف كتبٍ كثيرة في الدين واللغة والأدب والبلاغة وغيرها، ومن أشهرها البلغة في أصول اللغة، ولقطة العجلان في اللغة أيضًا، وله موسوعةٌ قيمة تسمى أبجد العلوم، ذكر فيها كل علمٍ عربي وقدم له بمقدمة في تاريخه، ثم ذكر أسماء أشهر الكتب التي أُلِّفت فيه والتعريف به.

ولسنا ننسى رجلًا ممتازًا مستشرقًا عاش في لبنان وكان له أثر في النهضة العلمية والأدبية وهو «كرنيليوس فانديك» هولندي الأصل، أمريكي النشأة، تعلم العلوم الطبية والرياضية في أمريكا، ثم رحل إلى بيروت سنة ١٨٤٠م وأخذ في دراسة اللغة العربية حتى أتقنها، وصحب بطرس البستاني، وعني بالتأليف فأغنى المكتبة العربية التي تعد بحق خطوة في التأليف على النمط الحديث في موضوعاته المختلفة سواء كانت علمية أو أدبية وإن كان أكثرها علميًّا. وأشهر هذه التآليف النقش على الحجر في تسعة أجزاء، كل جزء في علم من العلوم كالفلسفة الطبيعية والكيمياء والجغرافيا الطبيعية والفلك والجيولوجيا … إلخ. وله كتابٌ لطيف اسمه «المرآة الوضية في الكرة الأرضية» جمع فيه بين الجغرافية والتاريخ و«محاسن القبة الزرقاء» في الفلك.

وعلى الجملة فقد ألِّفت في اللغة والأدب كتبٌ كثيرة في القرن التاسع عشر تلونت بلون النهضة وتأثرت بالكتب الإفرنجية من حيث النظام والترتيب والتقريب إلى الأذهان سواء في ذلك لغتها وأسلوبها أو وضعها، كما اتجهت العناية الكبرى في كثير من هذه الكتب إلى طلبة المدارس وأمثالها في تبسيط العلوم العربية كالنحو والصرف وعلوم البلاغة فاختير لها أقرب التعبيرات وأسهلها، وتجنبت فيها الحواشي وما لا ينبني عليه عمل. وكان أكبر الفضل في ذلك لرفاعة الطهطاوي ومدرسته، وعلي مبارك ومدرسته في مصر، وناصيف اليازجي وبطرس البستاني وفانديك ومدارسهم في لبنان.

(٢) التأليف في التاريخ والجغرافية والرحلات

ويتصل بعلوم الأدب التاريخ والرحلات. وقد طلع القرن التاسع عشر وأهم مؤرخ فيه عبد الرحمن الجبرتي (المتوفى سنة ١٨٢٥م)، كان من علماء الأزهر ولكنه كان ممتازًا بميله إلى الفلك والاشتغال به على النمط المألوف في العصور الوسطى، كما امتاز بميله إلى التاريخ وقد وضع كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» أرَّخ فيه القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة، ذاكرًا أهم الأحداث اليومية التي عاصرها وشاهدها أو سمع بها، وترجم فيه لعلماء زمانه وأعيانه. ويعد الكتاب من أهم المصادر التي تؤرخ الحملة الفرنسية على مصر وأوائل حكم محمد علي باشا. والمؤلف وإن كان ممتازًا في تحرِّيه للحقائق وبذله الجهد العظيم في الوقوف على دقائقها ودقة وصفها وصدقها والتنبه إلى الحديث عن كل ما يتصل بالشعب وعدم الاقتصار على حوادث الحروب وما يجري في القصور … إلا أنه يؤخذ عليه السذاجة في طريقة التأليف، وعدم النظرة الشاملة والتعمق في الأسباب والنتائج كما هي ميزة التأليف الحديث في التاريخ، كما يؤخذ عليه ضعف أسلوبه الأدبي وتأثره بأساليب عصره التي هي أقرب إلى العامية.

وقد أثر بعد ذلك في التأليف التاريخي الاطلاع على كتب المؤرخين من الإفرنج وترجمة بعضها. فقد ترجم رفاعة الطهطاوي مثلًا كتاب «قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر»، وترجم غيره كتاب «أسباب قيام دولة الرومان وانحطاطها» في فلسفة التاريخ، وكتاب «روح الشرائع» لمونتسكيو، وكتاب «تاريخ شارلمان» و«تاريخ شارلكان» وتاريخ «فرنسا العام» إلى غير ذلك، فهذه الكتب أطلعت كتَّاب العرب على لونٍ جديد من ألوان الكتابة والتأليف وجعلتهم يؤلفون على نمطٍ متأثر بالنمط العربي والغربي معًا، فألف مثلًا سليم النقاش البيروتي (المتوفى ١٨٨٤م) كتاب «مصر للمصريين» في تسعة أجزاء أرَّخ فيه حوادث الثورة العرابية وقسمه إلى ثلاثة أقسام: قسم في تاريخ الأسرة الخديوية إلى خروج الخديوي إسماعيل من مصر، وقسم في ولاية الخديوي توفيق إلى انقضاء الحوادث العرابية ونتائجها، والقسم الأخير في وصف محاكمات العرابيين وصور محاضرها الرسمية.

كما ألف محمد بيرم التونسي (المتوفى ١٨٨٩م) كتابه «صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار». والمؤلف تونسي الأصل، سافر إلى أوروبا مرارًا وفارق تونس على أثر احتلال فرنسا لها، وضمن كتابه وصف رحلاته في أوروبا ومصر والشام والحجاز وغيرها، والحياة الاجتماعية في هذه البلاد وصفًا قيمًا.

ومن أهم الكتب الجغرافية التاريخية الخطط التوفيقية لعلي باشا مبارك (المتوفى ١٨٩٣م) وصف فيها مصر وبلادها وخططها ومدارسها وشوارعها وجوامعها وقُراها في عشرين جزءًا وكان إذا ذكر بلدًا ترجم لأشهر علمائه. وقد خصص الجزء الثامن عشر للنيل ومقاييسه وارتفاعاته من قديم الزمان إلى أيامه، والجزء التاسع عشر للترع والخلجان، والجزء العشرين للنقود الإسلامية وتاريخها. وقد جمع فيه في كثير من المواضع ما ذكره مؤرخو العرب مثل المقريزي، ومؤرخو الفرنج مثل كاترمير.

وأخيرًا جاء جورجي زيدان فنحا بالتاريخ نحوًا جديدًا اتبع فيه أسلوب الفرنج في جمع النصوص وبحثها والاستنتاج منها ودراسة الأسباب والنتائج.

وبجانب هذا كان هناك مؤرخون يجرون على النمط القديم في التأريخ أمثال أحمد بن زيني دحلان المكي (المتوفى ١٨٨٦م) فقد ألف كتبًا كثيرة في التاريخ على النمط القديم مع تبسيطها وتقريبها إلى الأذهان، ألفها كلها في مكة، وأظهرها «الفتوحات الإسلامية» و«تاريخ الدول الإسلامية» وضعه في جداول، تدل على الروح الحديثة التي سرت في التأليف، وكتاب «خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام» وكتاب «الفتح المبين في فضائل الخلفاء الراشدين».

وكذلك فعل السلاوي المراكشي (المتوفى سنة ١٨٩٧م) في كتابٍ قيِّمٍ سماه «الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى» استند فيه على ما كتبه المؤرخون الأندلسيون وغيرهم في تاريخ المغرب؛ فجاء أحسن مجموعة في بابها.

وكما عنوا بالتاريخ عنوا كذلك بالرحلات، وتابعوا في ذلك ما كان لأسلافهم من مثل ابن جبير وابن بطوطة، من ذلك رحلة شهاب الدين الألوسي (المتوفى ١٨٥٤م) وصف فيها رحلته إلى الآستانة وسماها «رحلة الشمول في الذهاب إلى استانبول»، ورحلة إبراهيم النجار اللبناني (المتوفى ١٨٦٣م) التي وصف فيها سفره إلى أوروبا والآستانة وسماها «المصباح الساري». ورحلة رفاعة الطهطاوي (المتوفى ١٨٧٣م) التي وصف فيها رحلته إلى فرنسا وسماها «خلاصة الإبريز والديوان النفيس». ورحلات أحمد فارس الشدياق، وقد رحل إلى مالطة فألف كتاب «الواسطة إلى أخبار مالطة» ورحل إلى أوروبا فألف كتابه «كشف المخبا عن فنون أوروبا». ورحلة عبد الله باشا فكري (المتوفى ١٨٨٩م) التي وصف فيها ما شاهده في رحلته إلى أوروبا وسماها «إرشاد الألبا إلى محاسن أوروبا» وكانت الحكومة المصرية انتدبته سنة ١٨٨٨م لرئاسة الوفد المصري لمؤتمر المستشرقين في استوكهلم، وقد بدأ في إعدادها بعد رحلته ولكنه لم يتمها، فأتمها ابنه أمين باشا فكري، وكان قد رحل معه، ونشرها سنة ١٨٩٢م.

وإلى جانب الترجمة والتأليف نشطت حركة نشر الكتب العربية القديمة وطبعها، وتأسست جمعياتٌ علمية للقيام على اختيار الكتب الصالحة ونشرها، فقد أُسست مثلًا جمعية المعارف بمصر ويرأسها محمد عارف باشا، وأنشأت مطبعة لنشر كتبها وجعلتها شركةً مساهمة، ونشرت من الكتب أسد الغابة لابن الأثير، وألف باء، وتاج العروس وغير ذلك من الكتب القيمة. وتأسست شركة طبع الكتب العربية سنة ١٨٩٨م في مصر أيضًا وكان من أعضائها أحمد تيمور باشا وحسن باشا عاصم وعلي بك بهجت، وقد نشرت كتاب الوجيز في فقه الإمام الشافعي، وسيرة السلطان صلاح الدين، وفتوح البلدان للبلاذري، والإحاطة في أخبار غرناطة، إلى غير ذلك. وفي الآستانة أسس أحمد فارس الشدياق مطبعة الجوائب، وقام بنشر كثير من الكتب الأدبية القيمة مثل الموازنة بين أبي تمام والبحتري، ونسيم الصبا للحلبي، وديوان البحتري وغيرها. كما قام كثير من الأفراد بطبع الكتب القديمة في مطبعة بولاق وغيرها من المطابع. ومثل ما حدث في مصر حدث في غيرها من الأقطار العربية فنُشرت الكتب الكثيرة في بيروت وحلب ودمشق والآستانة ومكة وإيران والهند وغيرها من عواصم وأقطار البلدان العربية والإسلامية.

ثم نُظِّمت المكتبات العمومية في مصر وسهلت وجوه الانتفاع بها؛ فأُسست المكتبة الخديوية سنة ١٨٧٠م، وجُمع فيها ما كان مفرقًا في المساجد معرضًا للتلف والضياع. وأُعدَّ عند إنشائها مكان لإلقاء المحاضرات، ومكان للمراجعة في أوقاتٍ معينة. كما أسست المكتبة الأزهرية ونظمت سنة ١٨٧٩م، وأسست مكتبة البلدية في الإسكندرية سنة ١٨٩٢م إلى غير ذلك من المكاتب العامة. وحدث في الأقطار العربية الأخرى ما حدث في مصر فنظمت المكتبة الظاهرية في دمشق، وكان أشار بتكوينها مدحت باشا على أثر مجيئه الشام واليًا عليها ١٨٧٨م كما أنشئت ونظمت مكاتبُ كثيرة في حلب وبيروت والعراق.

•••

كل هذا النتاج من شعر ونثر وقصص، وكل هذه الحركات من ترجمة وتأليف ونشر ذابت في العالم العربي فعملت في ترقية عقله وإرهاف ذوقه، ونقلته نقلةً كبيرة يشعر الباحث بعِظَمها إذا قارن بين حالة الأمة العربية في أوائل القرن التاسع عشر وحالتها في أواخره؛ فالبصيص الضئيل من النور الذي كان في أوله صار شعلةً كبيرة متوهجة في آخره. وكان هذا القرن قرنًا مباركًا عظيم الفائدة بسبب عوامل النهضة التي شرحناها. فالقرن التاسع عشر إذا قيس بالخمسة القرون أو الستة السابقة عليها كان أعظم منها فائدة وأكبر نفعًا، فقد قطع في التقدم شوطًا وكان له من أثر الثورة الفكرية والذوقية ما لم يكن لتلك القرون قبله. ومع هذا فإن البذور التي بُذرت فيه نمت وتحولت إلى شجيراتٍ صغيرة ولم يظهر نموها الكبير ولم تؤتِ من الثمار الناضجة إلا في القرن العشرين، وهذا ما سنؤرخه بعدُ إن شاء الله.

١  الأمعاء.
٢  الأخلاط.
٣  لا أسنان له.
٤  أي طول الزمن.
٥  طريقٌ مضلٌّ في بلاد العرب. وهو مثلٌ يُضرب للرجل إذا ضل.
٦  المرأة لا زوج لها.
٧  الفومة: قدر ما تحمل بين إصبعَيك. والشذام: الملح.
٨  الجلد الأبيض يُكتب عليه.
٩  أسفل الحائط.
١٠  أي العلم الذي ينتفع به.
١١  رجلان خرجا يجبيان القرظ ثم لم يعودا فيئس منهما قومهما وكانا مضرب المثل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤