مغامرة غير محسوبة!

سار «تختخ» مُسرعًا خلف الولد الصغير الذي كان يجري تقريبًا، ووصلا إلى المقهى …

فقال له «تختخ»: لا داعيَ لأن تدخل وتكلِّمه … أين هو؟

أشار الولد إلى شابٍّ يجلس داخل المقهى مُنهمكًا في لعب «الكوتشينة» … فشكره «تختخ» وأعطاه القروش العشرة، ثم أسرع يعبر الطريق إلى «محب» … و«عاطف» وروى لهما ما حدث، وقال: سأدخل إلى المقهى وفي الأغلب سأَجلس معه … ليس في ذهني خطة معينة وعليكما المراقبة والمتابعة حسب اتفاقنا.

دخل «تختخ» المقهى، وبحث عن كرسيٍّ، وجرَّه قريبًا من «شلفط» وجلس يتفرَّج على اللعب، كان واضحًا أن «شلفط» يَخسر باستمرار … وأنه ثائرٌ وغاضبٌ … كان شابًّا في نحو العشرين من عمره … غليظ الملامح … في وجهه آثار جراح … ويداه ضخمتان متسختان … وكانت المجموعة التي تُحيط به من الشباب مثله … وواضح أنهم جميعًا من نفس نوعه ومستواه … ولم يكن «تختخ» بتنكره غريبًا عنهم …

مضت ساعة تقريبًا، شرب «تختخ» خلالها زجاجة من المياه الغازية … وفجأة التفت أحد الشبان إلى «تختخ» وقال له: إنني لم أركَ من قبل في هذا المكان … من أنت؟ رد «تختخ» الذي كان قد فكَّر في ذلك من قبل:

اسمي «قورة» … وكنتُ أعمل في محلِّ عجلاتي بالسيدة زينب، ولكن الرجل طردني … وجئت …

ضحك الشاب وقال: طردك لماذا؟

وغمَز بعينه كأنه يقول إنه فاهمٌ لماذا طرده.

وغمز «تختخ» أيضًا بعينِه موافقًا …

فقال الشاب: وماذا تفعل الآن؟

تختخ: لقد أرسلني صديق يُدعى «فهمي» لمُقابلة «شلفط» لعله يجد لي عملًا في أي مكانٍ.

سمع «شلفط» اسمه، فالتفتَ إلى «تختخ» وقال: ماذا تريد؟

تختخ: لقد جئتُ من طرف «فهمي» … أريد أي عملٍ!

فكر «شلفط» لحظات … ثم انهمك في اللعب من جديد … ومضت فترة، ثم ظهَر رجل ضخم الجسم في مدخل المقهى … ونادى «شلفط» فترك هذا اللعب مُسرعًا وخرج إليه … وبعد دقائق عاد «شلفط» ليعلن أنه لن يكمل اللعب، وبدأت معركة بينه وبين بقية اللاعبين … انتهت بخروجه … وخرج معه «تختخ»، وقال له: هل عندك أيُّ شيءٍ أعمله؟

نظر إليه «شلفط» طويلًا ثم قال: معك نقود؟

تختخ: قليلة!

شلفط: هاتِ ما معك!

مدَّ «تختخ» يده في جيبه، وأخرج نحو سبعين قرشًا أعطاها إيَّاه … فقال شلفط: تعالَ معي.

ودخلا إلى الحارة، ومشيا حتى منزلٍ جديد صغير … دخله «شلفط» بعد أن طلب من «تختخ» الانتظار … ثم عاد بعد لحظاتٍ، وهو يحمل حقيبة صغيرة قديمة أعطاها ﻟ «تختخ» وسارا معًا حتى وصلا إلى الكورنيش، ولاحظ «تختخ» أن «محب» و«عاطف» ليسا في مكانهما … وسار مع «شلفط» في اتجاه حلوان مسافة قصيرة ثم توقَّفا عند التقاء الطرق … وبرزت سيارة من الظلام من السيارات نصف النقل، قفزا إليها وانطلقت بهما.

كانا يَجلسان مُتواجهين و«شلفط» ينظر إلى «تختخ» متأملًا … وأحسَّ «تختخ» أنه دخل مخاطرةً غير محسوبةٍ … وفجأةً قال «شلفط»: هل تعرف «فهمي» من زمنٍ بعيدٍ؟

تختخ: إنه قريبٌ لي.

شلفط: ولكنَّكَ لستَ من نفس المستوى … إنه يذهب إلى المدرسة!

تختخ: أنا أيضًا ذهبت إلى المدرسة فترة من عمري … ثم تركتُها لأعمل.

شلفط: هل تعرف إلى أين نحن ذاهبان؟

تختخ: لا!

شلفط: إن ما تراه أو تسمعه سر لا تتحدَّث به لأحد … وإلا …!

تختخ: لا تخف … إنني أكتم السر.

ظلت السيارة تقطع الطريق مسرعةً حتى وصلت إلى منطقة «التِّبِّين»، ثم انحرفت ناحية الصحراء، ومضت تَرتفِع وتَنخفِض فوق الرمال والصخور حتى توقفت أخيرًا أمام منزلٍ صغيرٍ من الحجر … نزل السائق وبجواره الشخص الضخم الذي رآه «تختخ» في المقهى.

دخلوا جميعًا إلى المنزل وكان مُضاءً بلمبة جاز وبعض الشموع … وفي وسط الصالة الضيقة شاهد «تختخ» ما جعل قلبه يَقفز بين ضلوعه … خزانة حديدية خضراء من النوع الضخم … حولها ثلاثة رجال قد بدا عليهم التعب والضيق، وكان واضحًا أنهم كانوا يُحاولون فتح الخزانة بدون جدوى.

قال واحد منهم موجهًا حديثه إلى «شلفط» لا فائدة … هل أحضرت معك العدة؟

أخذ «شلفط» الحقيبة من «تختخ» وقال: إنها معي!

الرجل: ومن هذا؟

شلفط: إنه ولدٌ يُريد عملًا … وقد نستفيد منه!

ثار الرجل ثورةً عنيفة … وصاح: كيف تفعل هذا؟ إنك دائمًا تتصرف بدون إحساس بالمسئولية سنقع جميعًا في مصيبة!

كان «تختخ» يقف شبه مذهولٍ … وقد شاهد في جانب من الصالة الضيقة صفيحةً مملوءة بتراب الفحم … لقد أدرك أنه وقع على العصابة كلها … وبدا كل شيءٍ واضحًا أمامه … ولكن ماذا يفعل الآن؟!

مدَّ الرجل يده إلى «تختخ» وصاح: تعالَ هنا!

وجذب «تختخ» من ذراعه ثم جرَّه إلى إحدى الغرف، وألقاه فيها ثم أغلق الباب.

وجد «تختخ» نفسه في غرفة ضيقة … بها نافذة صغيرة، وقد أطبق عليه الظلام، وأحس بالفئران تجري هنا وهناك في الغرفة … فوقف مُحاولًا استعادة أعصابه … ثم تقدم من الباب ووضع عينه على فتحة المفتاح، واستطاع بعد لحظات أن يشاهد جزءًا مما يدور في الصالة.

كان «شلفط» قد فتح حقيبته، وأخرج منها مجموعة من المفاتيح والمَطارق، وأخذ يُحاول كسر الخزانة … وكان واضحًا أن ذلك شبه مُستحيلٍ، وقال أحد الرجال: لو كان «سعد» هنا لفتحها ببساطةٍ كما فعل من قبل مع خزائن غيرها!

قال الرجل الضخم: إنَّ الزعيم سوف يبطش بنا إذا لم نستطع فتحها، وخاصة أن رجال الشرطة يُركِّزون بحثهم الآن حول السيارة «البويك»!

لم يَعُد هناك شكٌّ عند «تختخ» أنه وصل إلى عصابة الأشباح … ولكن ما أبعده الآن عن الوصول إلى أيِّ شيءٍ … ومن المؤكد أن «عاطف» و«محب» فقد فقدا أثره بعد هذه الرحلة السريعة.

أخذ الدقُّ يرتفع في الصمت … وقد حمل كل واحدٍ من الرجال مطرقةً ضخمةً وأخذ يضرب على جوانب الخزانة التي صمدت أمام الدق المتواصِل … واتجه «تختخ» إلى نافذة الغرفة … كانت ضيقةً ولكنها ليست عاليةً، وكانت عيناه قد أَلِفَتَا الظلام … فشاهد في جوانب الغرفة عددًا من الصناديق القديمة، فحمل واحدًا منها بحذرٍ شديدٍ ثم وضعه تحت النافذة وصعد عليه … واستطاع أن يصل إلى النافذة … وأخذ يفتحها بهدوءٍ … ولم يكن في حاجةٍ إلى الحذر … فقد كان الطَّرْقُ على الخزانة يُغطِّي كل شيءٍ.

شاهد «تختخ» الصحراء مُمتدة أمامه … فراغ بعيد ومتَّصل، ولا أمل في أن يصل إلى أي شيء إذا هرب … ولكن في نفس الوقت لو انتظر فماذا سيكون مصيره؟ إن هؤلاء الرجال لن يترددوا في قتله لإخفاء مقرِّهم وشخصياتهم … وهو الآن الوحيد الذي يستطيع أن يدل عليهم.

واستقرَّ رأيه في النهاية على الهرب … ومهما حدث فهو أفضل من الانتظار مع هؤلاء اللصوص … أحضر صندوقًا آخرَ ووضعه على الصندوق الأول … وصعد على الصندوقين … وسرعان ما كان يتدلَّى على الجانب الآخر من المنزل ثم يهبط على الرمال.

توقف لحظات يَتصنَّت … كان صوت الدق عاليًا … ولم يكن في إمكان الرجال أن يسمعوا وقع خطواته … واختار أن يمشي في الطريق المضاد للطريق الذي جاءوا منه فترة، ثم يعود إلى الطريق مرةً أخرى.

مشى مُحاذرًا لدقائق، ثم أخذ يجري بدون توقف، فدار دورة واسعة حول المكان، ثم عاد إلى الطريق … كان قد حدَّد اتجاه طريق التبِّين المرصوف بواسطة محطات الكهرباء الضخمة، وأبراج المصانع العالية.

أخذ يجري ويجري حتى أحسَّ أنه قد تعب، فجلس لحظاتٍ يستريح … ثم مضى مرة أخرى … ومرت ساعة قبل أن يصل إلى الطريق المرصوف فمشى فيه … ووجد سيارةً قادمةً، فأخذ يُشير إليها … ولكن السيارة تجاوزته مسرعةً.

أخذ يمشي وعشرات الخواطر والأفكار تدور برأسه … لقد استطاع أن يَصل إلى حلِّ اللغز، بأسرع مما تصور … مجموعة استنتاجات وُضِعَتْ بجوار بعضها فأدَّت إلى هذه النتيجة المدهشة …

كان ينظر خلفه بين لحظةٍ وأخرى … ثم شاهد مرة أخرى ضوء سيارة مُقبلة، فوقف ورفع يده إشارة لها بالوقوف … وتوقفت السيارة، ولكنَّ المفاجأة أخطر مما تصور … كانت سيارة العصابة … وقفز رجلان … وأسرعا إليه ولم يكن في استطاعته أن يجري، فقد كان مرهقًا … وسمع أحد الرجلين يقول: أمسكاه يا «سيد»! وانقضَّ عليه الرجلان … وحملاه حملًا … ثم ألقياه في السيارة … وهبطت على رأسه ضربةً ثقيلةً … وأحسَّ بالدنيا تدور به. ثم استسلم لغيبوبة طويلة … ومضت السيارة تحمل «تختخ» إلى مصيره المجهول. لقد استطاع أن يهرب، ولكنه لم يستطع أن يستمر في الهرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤