الفصل الثاني عشر

باستير: جزيئات الجانب الأيسر والجانب الأيمن لملح حمض الطرطير

إن لوي باستير معروفٌ بإسهاماته في مجال الميكروبيولوجيا أكثر مما في مجال الكيمياء. فمع أنه قد بدأ مشواره المهني ككيميائي، فقد اشتهر بصفة أساسية بأنه فسَّرَ كيفية حدوث عملية التخمُّر في البكتيريا (فقد كانت أبحاثة مهمة جدًّا في تصنيع الخمور والبيرة)، وكيفية فساد الطعام (عملية «بسترة» اللبن التي ابتكرها ما زالت مستخدَمةً)، وكيفية الإصابة بالعدوى بسبب تلوث الجروح (أدَّى هذا إلى اختراع اللورد ليستر لعملية التعقيم أثناء الجراحة، التي أحدثت ثورة في عالم الطب)، وكيفية علاج بعض الأمراض (أنقذت دراساته حول مرض دودة القز صناعة الحرير في فرنسا، في حين أنقذ تطويره لِلِقاح مضاد لداء الكلَب حياة آلاف الأشخاص المصابين بداء الكلَب). لكن أحد الإسهامات التي قدَّمَها في مجال الكيمياء، على الرغم من أنه إسهام أقل شهرةً وأصعب في استيعابه، كان كفيلًا لذيوع صيته وتأكيد شهرته.

fig17
شكل ١٢-١: لوي باستير في معمله.
في عام ١٨٤٨، بينما كان باستير في سن الخامسة والعشرين من عمره، وكان قد حصل توًّا على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون في باريس، شرع في دراسة أحد أملاح الحمض الراسمي (العنقودي)، وهو مادة تترسب في براميل الخمر أثناء عملية التخمُّر. (يرجع أصل كلمة «راسمي» racemic إلى الكلمة اللاتينية racemus التي تعني «عناقيد العنب».) ذكر كيميائي آخَر يُدعَى أيلهارد ميتشرليش أن أحد أملاح الحمض الراسمي (وهو ملح أمونيوم الصوديوم الذي يُحضَّر عن طريق معالجة الحمض الراسمي بماء الصودا والنشادر) يكاد يطابق أحد أملاح حمض الطرطير الذي يظهر أيضًا في براميل الخمر، لكن ملح حمض الطرطير كان «نَشِطًا ضوئيًّا»، في حين أن ملح الحمض الراسمي ليس كذلك. (يُعرَف ملح حمض البوتاسيوم الموجود في حمض الطرطير بزُبد الطرطير.)

يُقال على أية مادة إنها نَشِطةً ضوئيًّا إذا كان بإمكانها إحداث انحراف أو دوران في مستوى الضوء المستقطب استقطابًا استوائيًّا. يتألف الضوء العادي، طبقًا للنظرية الموجية، من موجات تتذبذب في مستويات في كل الاتجاهات، ويمكن لبلورات معينة فلترة الضوء بحيث يمكن للموجات التي تتذبذب في مستوًى واحد فقط المرور خلالها، ويُوصَف الضوء الناتج بأنه مُستقطَب.

لقد كان معروفًا في عام ١٨٤٨ أنه يمكن لمواد طبيعية معينة (مثل بلورات الكوارتز والتربنتين والمحاليل السكرية) تدوير الضوء المستقطب، لكن لم يكتشف أحدٌ الكيفية التي تفعل بها تلك المواد ذلك. وقد كان إثبات دوران الضوء المستقطب وقياسه يتم باستخدام جهاز يُسمَّى مقياس الاستقطاب. عندما تؤدي مادة إلى دوران مستوى الضوء المستقطب في اتجاه عقارب الساعة، تكون يمينية التدوير؛ أيْ تنتج دورانًا موجبًا، لكن إذا كانت تؤدي إلى دورانه في عكس اتجاه عقارب الساعة، فإنها تكون يسارية التدوير؛ أيْ تنتج دورانًا سالبًا.

أصيب باستير بالحيرة؛ فملحا حمض الطرطير والحمض الراسمي كان يقال إنهما متماثلان في التركيب الكيميائي والشكل البلوري، ومع ذلك فلهما تأثيرات مختلفة على الضوء المستقطب. فلم يكن لملح الحمض الراسمي أيُّ تأثير، في حين أن ملح حمض الطرطير كان يميني التدوير. عندما فحص باستير بلورات ملح الحمض الراسمي المنتجة طبقًا لوصف ميتشرليش، رأى شيئًا لم يَرَه ميتشرليش نفسه؛ إذ كان يوجد في واقع الأمر نوعان من البلورات، وكانا منطبقين كانطباق اليد اليمنى واليد اليسرى.

استخدم باستير ملقاطًا لفَصْل البلورات الموجودة على الجانب الأيمن عن البلورات الموجودة على الجانب الأيسر بعناية تحت الميكروسكوب، وعندما أصبح لديه ما يكفي من كل نوع، قام بشيء يُعَدُّ إلهامًا أو لحظة من العبقرية؛ إذ أخذ بعض البلورات من كل نوع وأذابها في الماء، كلًّا على نحو منفصل، ثم وضع المحلولين على التوالي في مسار الضوء المستقطب في مقياس استقطاب؛ فاكتشف أن محلول بلورات الجانب الأيسر أدار الضوء المستقطب للجانب الأيسر، في حين أن محلول بلورات الجانب الأيمن أدار الضوء المستقطب للجانب الأيمن. ذكر رينيه فالري-رادوت في كتابه «قصة حياة باستير» (١٩٠٢) أن العالِم الصغير انفعل بشدة بسبب اكتشافه لدرجة أنه خرج «مثل أرشميدس» مسرعًا من المعمل وهو يهتف: «فَعلتُها!» (ص٥١).

fig18
شكل ١٢-٢: البلورات الموجودة على الجانبين الأيمن والأيسر من ملح حمض الطرطير.

عندما قاس باستير بعناية كمية كل نوع من البلورات وهو يُحضِّر محلولَيْهما، اكتشف أن درجة الدوران تكون متساوية تمامًا عند وجود كميات متساوية من كل نوع، ولكن تؤدي إلى تدوير الضوء المستقطب في «اتجاهين معاكسين»؛ إذ وجد أن مدى الدوران الذي أحدثته بلورات الجانب الأيمن كان نفسه الذي أحدثه محلول مماثل من ملح حمض الطرطير. وهكذا، أثبت باستير أن ملح الحمض الراسمي الموجودة بلوراته على الجانب الأيمن مطابِقٌ بالفعل لملح حمض الطرطير اليميني التدوير، وأن ملح الحمض الراسمي الموجودة بلوراته على الجانب الأيسر شكَّلَ صورة مرآوية مطابقة من ملح حمض الطرطير. وفي النهاية، صنع باستير خليطًا يتكوَّن من كميات متساوية من نوعَي البلورات، وكما توقَّعَ وجد أن محلول هذا الخليط غير نَشِط ضوئيًّا. وبالفصل بين نوعَي البلورات الموجودين في ملح الحمض الراسمي، قدَّم باستير أولَ وأشهرَ مثال لما يطلِق عليه الكيميائيون الآن تحليل الخليط الراسمي. (يُستخدَم الآن مصطلح «الحمض الراسمي» الخاص بهذا المركب الذي عمل عليه باستير لوصف أي خليط من المواد التي هي صورة مرآوية مطابقة بعضها لبعض.)

أصبحت تجارب باستير البلورية غير المعتادة مثارَ نقاش العلماء في باريس، وسرعان ما وصلت أخبارها جون باتيست بيو، عالِم الفيزياء المعروف الذي كانت له اكتشافات مهمة فيما يتعلَّق بتدوير الضوء المستقطب من جانب البلورات. كان بيو وقتها عضوًا في أكاديمية العلوم وكان عمره ٧٤ عامًا، ومن ثمَّ لم يأخذ التجارب التي أجراها باستير كأمر مسلَّم به وإنما نزع إلى الشك في تعامله معها، وقبل أن يُبلِغ الأكاديمية بتلك النتائج، طلب من باستير تكرار التجارب التي قام بها في حضوره. قام باستير بهذا، وتولى بيو بنفسه تحضير المحاليل التي أنتجت البلورات، وعندما رأى بيو دوران الضوء المستقطب للجانب الأيسر بفعل بلورات الجانب الأيسر، توقَّفَ عن العمل وأمسك بذراع باستير الصغير وقال له بحرارة: «عزيزي الشاب، لقد أحببتُ العلمَ جدًّا في حياتي، وهذا ما جعل ما اكتشفتَه اليوم يمسُّ قلبي بشدة» (فالري-رادوت في كتابه «قصة حياة باستير»، صفحة ٥٤).

fig19
شكل ١٢-٣: القفازات كمثال على خاصية الكيرالية.

إذا نظرنا إلى الأمر من منظور محدود، فسنجد أن الفصل بين البلورات ذات الأشكال المختلفة، وإثباتَ أن محاليلها تدير سطح الضوء المستقطب في اتجاهات عكسية؛ كان تجربة بارعة ولكن بسيطة. فما الفارق الذي تحدثه فرضية أن موادَّ معينة تؤدي إلى دوران سطح الضوء المستقطب في اتجاه معين أو غيره في مقياس استقطاب؟ لكن إذا نظرنا إلى الأمر من منظور أوسع، فسنجد أن تجارب باستير كانت لها أهمية كبيرة؛ فقد كان أول مَن أثبت أن المركبات العضوية توجد في أشكال صورة مرآوية مطابقة على المستوى الجزيئي؛ أيْ إن الجزيئات لها خاصية اليدوانية، أو الكيرالية. والكيرالية مصطلح مأخوذ من كلمة إغريقية تعني اليد، وهو معنًى مناسب لأن اليدين هما أكثر الأمثلة شيوعًا للأشكال الانطباقية ذات الصور المرآوية المطابقة. وليست الجزيئات وحدها هي التي يمكن وصفها بأنها كيرالية أو غير كيرالية، ولكن الأجسام العادية أيضًا. على سبيل المثال، القفازات كيرالية لكن الجوارب غير كيرالية؛ لأن فردة الجورب الواحدة يمكن ارتداؤها في القدم اليمنى أو اليسرى.

fig20
شكل ١٢-٤: شكلا حمض الطرطير في الجانبين الأيمن والأيسر (صورة مرآوية مطابقة).
قبل قيام باستير بتلك التجارب، كان العلماء يستخدمون شكل بلورات الكوارتز لتفسير تأثيرها على الضوء المستقطب؛ لأنه عندما تُصهَر تلك البلورات يختفي نشاطها الضوئي. لكن التأثيرات الضوئية لسوائل معينة مثل التربنتين والمحاليل السكرية خالفت هذا التفسير، وأثبتت تجاربُ باستير أن الاختلاف في شكل بلورات ملح الحمض الراسمي يعكس اختلافًا في شكل جزيئات الملح؛ لأن إذابة البلورات في الماء تدمِّر التركيب البلوري كما أن الصهر يدمِّر تركيب بلورات الكوارتز، لكن محلولَيْ نوعَي البلورات من حمض باستير كانا لا يزال لهما نشاط ضوئي. وحوَّلَ باستير بعد ذلك أملاح الحمض الراسمي المنفصلة إلى أشكال الحمض، وأثبت أن هناك شكلين أيسومريين، هما حمض طرطير الجانب الأيسر (السالب) وحمض طرطير الجانب الأيمن (الموجب) (انظر شكل ١٢-٤).

تعقيب

أدرك باستير أن اكتشافه كان يعني وجود علاقة مباشِرة بين الهندسة الجزيئية والنشاط الضوئي، وافترض أن الجزيئات التي تدير سطح الضوء المستقطب في اتجاهٍ ما مرتبطة بالجزيئات التي تديره في الاتجاه الآخَر كما يرتبط الشيء وصورته في المرآة. لكن لم تُفسَّر الكيفية التي تتجمع بها الذرات في تلك التراكيب الجزيئية إلا بعد ٢٥ عامًا على يد عالمَيْ كيمياء شابين هما ياكوبس فانت هوف وجوزيف لوبيل. في تلك الأثناء، حوَّلَ باستير انتباهه إلى حل المشكلات البيولوجية التي ذكرناها آنفًا محقِّقًا نجاحًا كبيرًا فيها، لكن عمله الرائد في تحليل الحمض الراسمي فتح الطريقَ أمام غيره من الكيميائيين لتفسير علاقة الكيرالية في التركيب الجزيئي بالنشاط البيولوجي، وهنا تظهر الأهمية الحقيقية لعمل باستير.

مع أن فكرة كون الجزيئات الموجودة على الجانب الأيسر من حمض الراسمي (الشكل السالب من حمض الطرطير) تدير سطحَ الضوء المستقطب في عكس اتجاه عقارب الساعة ليست مهمة، فإنه من المهم جدًّا فهم سبب كون الجزيء الموجود على الجانب الأيمن من فيتامين سي (الشكل الموجب من حمض الأسكوربيك) فيتامينًا، في حين أن الشكل السالب من نفس الحمض ليس له نشاط بيولوجي، أي ليس فيتامينًا؛ وكون الشكل الموجب من الجلوكوز (الدِّكْسترُوز) مادةً غذائية، في حين أن الشكل السالب منه ليس كذلك؛ وكون الشكل السالب من الكلورومايستين مضادًّا حيويًّا فعَّالًا، في حين أن الشكل الموجب منه ليس كذلك؛ وكون الشكل السالب من الأدرينالين أكثر فاعليةً عدة مرات كهرمون من الشكل الموجب منه.

ثمة مثال مأسويٌّ لأهمية كيرالية الجزيئات، وهو استخدام عقَّار الثاليدوميد. كانت النساء الحوامل تستخدم هذا العقَّار في الخمسينيات من القرن العشرين قبل أن يكتشف الكيميائيون أنه مع كون الشكل الموجب من جزيئاته آمِنًا وفعَّالًا للتغلب على غثيان الصباح، فإن الشكل السالب منه عامل مشوِّه نَشِط (أي عامل يسبِّب التشوُّه البيولوجي). ولأن العقَّار كان يحتوي على كلا الشكلين من الجزيئات، فقد كان يتسبَّب في كثيرٍ من العيوب الخِلقية الخطيرة.

مع أن ما قام به باستير من رصد للأشكال المختلفة للبلورات وفصله لها واستنتاجاته بشأن معنى تأثيراتها العكسية على الضوء المستقطب كان بالفعل لمحات عبقرية؛ فقد لعبت السرنديبية دورًا كبيرًا في اكتشافاته. ثمة مصادفتان بارزتان كان لهما دور مهم في هذه الاكتشافات؛ أولًا: يُعَدُّ ملح أمونيوم الصوديوم للحمض الراسمي، وهو الملح الذي أجرى عليه باستير تجاربه، الملحَ الوحيد تقريبًا لهذا الحمض الذي يتبلور في شكلين انعكاسيين يمكن ملاحظة اختلافهما وفصلهما على نحو آلي. ثانيًا: لا يتبلور الحمض في شكلين إلا عند درجات الحرارة الأقل من ٢٦ درجة مئوية (٧٩ درجة فهرنهايت)؛ أما إذا زادت درجة الحرارة عن ٢٦ درجة مئوية، فإن البلورات المتكوِّنة تكون متشابِهة وليس لها نشاط ضوئي. وضع باستير الدورق المحتوي على محلول الملح على إفريزِ نافذةٍ بارد في معمله في باريس، وتركه هناك لليوم التالي حتى تحدث عملية البلورة، ولولا الاختيار الموفَّق لملح الحمض الراسمي الصحيح والجو الباريسي البارد، ما كان لباستير أن يتوصل إلى اكتشافه المبهر.

إنَّ باستير — شأنه شأن كبار العلماء الذين أفادوا من السرنديبية — كان يدرك الفرق بين المصادفة والاكتشاف العَرَضي، وأعرب عن ذلك ببلاغة شديدة قائلًا: «في مجال المشاهدات البحثية، يحظى بالمصادفة العقلُ المستعدُّ فقط.» وكان لدى عالم الفيزياء الأمريكي العظيم جوزيف هنري نفس الاعتقاد عندما قال: «إن بذور الاكتشافات العظيمة تحوم حولنا باستمرار، لكنها تستقر فقط في العقول المستعدَّة لاستقبالها.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤