الفصل الرابع عشر

كيكوليه: الأحلام واكتشاف التركيب الجزيئي للبنزين

في أوائل القرن الثامن عشر، كانت تضاء المسارح وغيرها من المباني العامة بوقود مصنوع من زيت الحوت. وعندما تم ضغط هذا الوقود لوضعه في براميل، انفصل عنه سائلٌ عطري متطاير. وفي عام ١٨٢٥ تقريبًا، فحص العالِم الشهير مايكل فاراداي هذا السائل ووجد أنه يحتوي فقط على الكربون والهيدروجين، بنسب متساوية. واتضح لاحقًا أن هذا السائل، الذي أُطلِق عليه اسم البنزين، هو أحد مكونات القطران المُقطَّر من الفحم عند إنتاج فحم الكوك، واكتُشِفت مركبات عطرية مرتبطة به كيميائيًّا من مصادر طبيعية عديدة.

مثَّلَ البنزين مشكلةً نظرية كبيرة بالنسبة إلى الكيميائيين بسبب خصائصه غير المعتادة؛ فأغلب المركبات التي كانت تحتوي على الكربون والهيدروجين فقط، والتي تكون فيها نسبة ذرات الهيدروجين إلى ذرات الكربون منخفضة؛ كان سلوكها مختلفًا عن البنزين. (كانت النسبة في هذه الحالة ١ : ١ لأنه كان من المعروف أن الصيغة الجزيئية للبنزين هي C6H6.) وكان يقال عنها إنها غير مُشبَعة فيما يخص الهيدروجين؛ أي إنها تضيف جزيئات عديدة من الهيدروجين، لكن البنزين لا يفعل ذلك. وثمة أمور أخرى غريبة فيما يتعلَّق بالبنزين؛ فلم يكن بإمكان أحد اقتراح الصيغة التركيبية الخاصة به قبل عام ١٨٦٥، والشخص الذي قام بهذا هو فريدريش أوجست كيكوليه.

وُلِد كيكوليه في مدينة دارمشتات بألمانيا في عام ١٨٢٩، والتحق بجامعة جيسن لدراسة الهندسة المعمارية، لكنه في تلك الجامعة تأثَّرَ بيوستوس فون ليبيج، الذي شجَّعته محاضراته الحماسية على أن يَهَب حياته للكيمياء. وانتقل كيكوليه من جامعة جيسن إلى باريس للعمل مع جون باتيست أندريه دوما وشارل أدولف فورتز، ثم إلى إنجلترا حيث عمل مع أفضل الكيميائيين البريطانيين. وعندما عاد إلى ألمانيا، درس أولًا في هايدلبِرج، ثم انتقل في عام ١٨٥٨ إلى جِنت ببلجيكا حيث عمل هناك أستاذًا للكيمياء. وبقي في جِنت حتى عام ١٨٦٥ عندما استدعي إلى بون لشغل منصب الأستاذية الذي تركه إيه دبليو هوفمان، فتقلَّدَ هذا المنصب في بون حتى موته في عام ١٨٩٦، وهو نفس العام الذي تُوفي فيه ألفريد نوبل. وتعلَّم على يد تلامذة كيكوليه ثلاثة من أوائل خمسة فائزين بجائزة نوبل في الكيمياء، وهم: ياكوبش فانت هوف (١٩٠١)، وإيميل فيشر (١٩٠٢)، وأدولف فون باير (١٩٠٥). وكان كيكوليه يُعَدُّ واحدًا من أعظم أساتذة الكيمياء في القرن التاسع عشر.

على الرغم من شهرته بوصفه أستاذًا للكيمياء، عُرف وسط الكيميائيين بنظرياته عن التركيب الجزيئي للمركبات العضوية. فقبل عام ١٨٥٨، كان علماء الكيمياء العضوية يعملون على غير هدًى على نحو ما، وصحيحٌ أنهم حقَّقوا بعض الإنجازات المهمة، لكن لم يكن لديهم تصور ذهني عن شكل المواد التي كانوا يعملون معها على المستوى الجزيئي.

على سبيل المثال، اكتشف فريدريش فولر في عام ١٨٢٨ أن اليوريا مختلفة عن سيانات الأمونيوم (انظر الفصل التاسع)، مع أن كليهما يحتوي على الكربون والهيدروجين والأكسجين والنيتروجين بنسبة: ١ : ٤ : ١ : ٢. ووجدوا أنهما يندرجان تحت «الأيزوميرات»، لكن لم يفهم أحدٌ الطريقةَ المختلفة التي يرتبط بها نفس العدد من نفس الذرات.

كان اقتراح كيكوليه لصيغة تركيبية مُرضِية للبنزين في عام ١٨٦٥ مهمًّا إلى حد كبير بالنسبة إلى المجتمع العلمي، لدرجة أنه تمَّ عقد احتفال كبير في مجلس مدينة برلين في عام ١٨٩٠ للاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين للإعلان عن تلك الصيغة. إذ يُنسَب الفضل إلى حدٍّ كبير في تطور صناعة الصبغات الصناعية في ألمانيا، وبالتأكيد في ازدهار الكيمياء العضوية هناك في أواخر القرن التاسع عشر؛ إلى النظريات التركيبية لكيكوليه وتلاميذه وزملائه. وفي هذا الاحتفال، ألقى كيكوليه خطابًا نُشِر في كبرى مجلات الكيمياء الألمانية. وفيما يلي اقتباسان أخذتهما من الترجمة الإنجليزية للخطاب المنشور في عام ١٩٥٨، الذي يوافق الذكرى المئوية للنظرية التركيبية العامة التي وصفها كيكوليه في خطابه:

إننا نحتفل اليوم باليوبيل الفضي لنظرية البنزين. في البداية، يجب أن أخبركم أن نظرية البنزين بالنسبة إلي كانت نتيجة فقط، نتيجة بارزة جدًّا للأفكار التي كوَّنتُها عن تكافُؤ الذرات وطبيعة ارتباطها؛ وهي الأفكار التي نسمِّيها الآن نظريةَ التركيب الكيميائي والتكافؤ؛ فلم أكن لأقف مكتوفَ اليدين أمام تكافؤ الذرات غير المستخدَم. وأثناء إقامتي في لندن، كنتُ أقيم في طريق كلابِم … لكنني كنتُ كثيرًا ما أقضي أمسياتي مع صديقي هوجو مولر … كنَّا نتحدث عن الكثير من الأمور، لكن في أغلب الأحيان كان حديثنا عن موضوعات متعلِّقة بمحبوبتي الكيمياء. وفي مساء صيفٍ جميل، بينما كنتُ عائدًا في آخِر حافلة راكبًا على السطح العلوي في الهواء الطلق كالمعتاد، ومارًّا بالشوارع الخالية للمدينة … استغرقت في حلم يقظةٍ وفجأةً رأيت الذرات تتراقص وتثب أمام عيني. وعندما كانت تلك الأشياء الصغيرة تظهر أمامي قبل ذلك، كنتُ أجدها دائمًا تتحرك؛ لكني لم أكن قادرًا على تحديد طبيعة حركتها، لكن الآن رأيتُ على نحو متكرر كيف أن ذرتين صغيرتين تتَّحِدان لتكوِّنَا زوجًا، وكيف أن ذرة أكبر تضم الذرتين الصغريين، وكيف أن ذرات أكبر تضم ثلاثًا أو أربعًا من الذرات الأصغر، على الرغم من أن جميعها كانت تلف في حركة راقصة سريعة جدًّا. رأيت كيف أن الذرات الأكبر كوَّنت سلسلة، ساحبةً وراءها الذرات الأصغر، لكن هذا يحدث فقط في نهايتَي السلسلة … أيقظني من حلمي صياحُ المحصِّل: «طريق كلابِم.» لكنني قضيت جزءًا من الليل في رسم مخططات أولية للأشكال التي رأيتُها في حلمي. وكان هذا هو أصل «نظرية التركيب الكيميائي».

حدث شيء مشابه مع نظرية البنزين. أثناء إقامتي في جِنت، كنتُ أقيم في حيٍّ فخم للعُزَّاب في الطريق الرئيسي، لكن بحثي قادني إلى طريق مسدود ولم تظهر أية بادرة أمل في الأفق … كنتُ جالسًا أكتب في دفتري، لكن لم يكن ثمة أي تقدُّمٍ في البحث الذي كنتُ أقوم به؛ كانت أفكاري شاردةً في مكان آخَر. وجَّهْتُ الكرسي الذي كنتُ أجلس عليه ناحية نار المدفأة وغفلت. أخذت الذرات تتراقص مرة أخرى أمام عيني، لكن هذه المرة لم تظهر لي المجموعات الصغرى من الذرات، وكانت عين عقلي — التي أصبحت أكثر حدة بسبب الرؤى المتكررة التي من هذا النوع — تستطيع الآن رؤيةَ التراكيب الأكبر في أشكال مختلفة؛ صفوف كبيرة في بعض الأحيان مرتبطة معًا على نحو أكثر تقاربًا، وكلها تتزاوج وتلف في حركة تشبه حركة الثعبان. انظر! ما هذا؟ أحد الثعابين قد أمسَكَ بذيله، والشكل تراقَصَ ساخرًا أمام عيني. واستيقظتُ كما لو أن ذلك تمَّ بفعل ومضة من البرق؛ هذه المرة أيضًا قضيتُ باقي ليلتي في التفكير في تبعات هذا الافتراض (بينفي، مجلة «جورنال أوف كيميكال إديوكيشن»، المجلد ٣٥، صفحة ٢١، ١٩٥٨).

fig22
شكل ١٤-١: كيكوليه يحلم بثعبان يعضُّ ذيله، ويستيقظ ليقترح تركيبًا حلقيًّا لجزيء البنزين.
أدَّى حلمَا كيكوليه على السطح العلوي للحافلة في لندن وبجانب نار المدفأة في جِنت؛ إلى تطوير نظريات عميقة للتركيب الجزيئي العضوي أسهمت على نحو كبير في تطوُّر العلم. بعد الحلم الأول الذي كوَّنت فيه الذرات «سلسلة» و«ذرة أكبر تضم الذرتين الصغريين» و«ذرات أكبر تضم ثلاث — أو حتى أربع — ذرات أصغر»، افترض كيكوليه أنه يمكن لذرات كربون معينة الارتباط معًا في سلاسل، مع ارتباطها بذرات هيدروجين وذرات أخرى غيرها. على سبيل المثال، يمكن تمثيل الكحول الميثيلي والكحول الإثيلي، اللذين كان من المعروف أن صيغتيهما البسيطتين هما CH4O وC2H6O، بالصيغتين التركيبيتين المعروضتين في شكلي ١٤-٢ و١٤-٣. وعلى نحو مماثل، يمكن تمثيل الصيغة التركيبية لليوريا كما في شكل ١٤-٤، ولسيانات الأمونيوم كما في شكل ١٤-٥.
أما بعد الحلم الثاني، الذي رأى كيكوليه فيه ثعبانًا يعضُّ ذيله، فإنه اقترح وجود تركيب حلقي للبنزين، مع وجود ست ذرات للكربون في حلقة. وكما يتضح من شكل ١٤-٢ وحتى شكل ١٤-٥، فإن الكربون مرتبطٌ بالذرات الأُخر في أربعة خطوط، وفي بعض الأحيان في خطين بذرَّة واحدة مثل الأكسجين O والنيتروجين N؛ يوضِّح هذا التكافؤَ الرباعيَّ الذي اقترحه كيكوليه للكربون في كل مركباته كنتيجة لحلمه الأول. وفي صيغة البنزين، حيث توجد ست ذرات كربون في حلقة وكل منها مرتبط بذرَّة هيدروجين، توجد فقط ثلاثة خطوط (روابط تكافؤ): خط من كل ذرة كربون إلى ذرتَي الكربون الأخريين وخط ثالث من كل ذرة كربون إلى ذرة هيدروجين، ما لم يتم إدراج بعض الروابط المزدوجة، كما يتضح في شكل ١٤-٦. هذا ما فعله كيكوليه في «تكافؤ الذرات غير المستخدَم» في صيغته.
fig23
شكل ١٤-٢: الصيغة الجزيئية للكحول الميثيلي.
fig24
شكل ١٤-٣: الصيغة الجزيئية للكحول الإثيلي.
fig25
شكل ١٤-٤: الصيغة الجزيئية لليوريا.
fig26
شكل ١٤-٥: الصيغة الجزيئية لسيانات الأمونيوم.
مع أن الكثير من الكيميائيين قبِلَ التركيب الحلقي وأُعجِب به، فإن آخَرين أشاروا إلى وجود خطأ محتمَل فيه؛ فإذا تم استبدال ذرتين أخريين بذرَّتَيْ هيدروجين متجاورتين، فسيكون هناك اثنان من «الأيزوميرات» المختلفة، أحدهما مرتبطة فيه الذرتان (X في شكل ١٤-٧) بذرَّات الكربون المرتبطة معًا برابطة مزدوجة (خطان، كما في شكل ١٤-٧أ)، والآخَر مرتبطة فيه الذرتان بذرات الكربون المرتبطة معًا برابطة فردية (خط واحد، كما في شكل ١٤-٧ب).
عدَّلَ كيكوليه مفهومه الخاص بالتركيب الحلقي كي يبرِّر عدم وجود مثل هذه الأيزوميرات، وافترض أن تركيبًا حلقيًّا مثل ذلك الموجود في شكل ١٤-٦ يبدل بسرعة بين الروابط المزدوجة والفردية لذرات الكربون في الحلقة. وبالتالي، فإن أيزوميرات مثل تلك الموجودة في شكل ١٤-٧ قابلة للتحويل فيما بينها، ومن ثمَّ لا يمكن الفصل بينها.
fig27
شكل ١٤-٦: الصيغة الجزيئية للبنزين.
fig28
شكل ١٤-٧: أيزوميرات كيكوليه السريعة التوازن.

اقترِحت العديد من التراكيب الأخرى الممكنة للبنزين بين عامَيْ ١٨٦٥ و١٨٩٠، لكن لم يستطع أي منها اجتياز الاختبارات التجريبية أو تركيب كيكوليه. يشبه تصور كيكوليه فيما يخص تركيب البنزين وآلاف المركبات العطرية المرتبطة بها التصور الحديث الذي يعتمد على مفهوم ميكانيكا الكَم للارتباط الإلكتروني للذرات، على الرغم من أن الإلكترونات لم تكن معروفة، حتى بعد سنوات من الاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين لصيغة كيكوليه.

انتقد بعض الكُتَّاب (مجلة «كيميكال آند إنجنيرينج نيوز»، عدد ٤ نوفمبر ١٩٨٥، صفحة ٢٢؛ وعدد ٢٠ يناير ١٩٨٦، صفحة ٣) بل شكَّكوا في مصداقية أحلام كيكوليه ودورها في نظرياته فيما يتعلَّق بالتركيب الجزيئي؛ إذ لم يُشِرْ كيكوليه إلى تلك الأحلام في أعماله المنشورة في ستينيات القرن التاسع عشر. ولكن الكثير من العلماء لم يشيروا في أعمالهم إلى مصدر أفكارهم، بل قدَّموا معلومات في ترتيبٍ يكاد يكون معاكسًا للتسلسل الفعلي للأحداث.

عادةً ما تكون المصادفة والخيال والأحلام عناصر مهمة في الاكتشافات العظيمة، لكنها تحدث فقط في بداية تلك الاكتشافات. فإذا لم يرغب كيكوليه في ذكر أنه حلم بنظرياته عن التركيب الجزيئي في أعماله المنشورة، واحتفظ بهذا للخطاب الذي ألقاه في الاحتفال بذكرى اكتشافه، فلا يمكن أن نندهش أو نشكِّك في الأمر. تأمَّلْ معي اقتباسًا آخَر من خطابه الذي يعكس كونه عالِمًا عظيمًا وحالمًا أيضًا:

دعونا أيها السادة نتعلَّم كيف نحلم! ربما حينها سنصل إلى الحقيقة. دعونا لا نعلن عن أحلامنا حتى نختبرها بفهمنا الواعي (بينفي، صفحة ٢١).

مع أن كيكوليه لم يكن بإمكانه الحصول على جائزة نوبل؛ لأنها بدأت تُمنَح بعد وفاته، فإنه من نوعية الأشخاص الذين كان نوبل يقصدهم تمامًا عندما خصَّصَ الجائزة. وقبل بضعة أشهر من وفاته، قال نوبل: «أردتُ مساعدة الحالمين، الذين لا يحقِّقون الثراء في الحياة.»

لم يكن تطوير الصبغات فقط هو نتاج الكيمياء العطرية التي وضع أساسها كيكوليه باكتشافه لصيغة البنزين، وإنما كان نتاجها أيضًا تطوير عقاقير مثل الأسبرين والسلفانيلاميد والبنزين العالي الأوكتين والمنظفات الصناعية والبلاستيك والأقمشة مثل الداكرون.

تعقيب

في عام ١٩٢١، اكتشف عالِم وظائف الأعضاء أوتو لوفي الانتقالَ الخلْطِي للنبضات العصبية عبر المواد الكيميائية. وطبقًا لما ذكره يو فايس وآر إيه براون (مجلة «جورنال أوف كيميكال إديوكيشن»، سبتمبر ١٩٨٧، صفحة ٧٧٠)، جاءت فكرة هذا الاكتشاف لِلُوفي في حلم، ولم يكن ذلك لمرة واحدة بل مرتين. فبعد الاستيقاظ من الحلم الأول، نام مجدَّدًا ولم يستطع تذكُّر الحلم جيدًا عندما استيقظ، لكن بعد الاستيقاظ من الحلم الثاني، توجَّهَ لوفي مباشَرةً إلى معمله وأجرى التجارب التي استلهمها من كلا الحلمين، وكانت تجارب بسيطة لكنها مهمة. وكما هو الحال بالنسبة إلى كيكوليه، لم ينشر لوفي على الفور أصلَ الفكرة التي قام عليها اكتشافه، لكنه بخلاف كيكوليه، ذكرها مباشَرةً لأصدقائه وأسرته؛ لذلك فإن الأحداث كانت موثقة جيدًا. وتتذكَّر ابنة لوفي (التي هي في الوقت نفسه زوجة فايس، أحد كاتبَي المقال المشار إليه سابقًا الذي ظهر في عام ١٩٨٧) وصفَ أبيها لحلمَيْه والآثارَ التي ترتَّبَتْ عليهما، كما تتذكَّر كيف أن مساعِدي أبيها تنبَّئوا بأن اكتشافه الذي كان الحلمُ هو شرارةَ البدء فيه، سيجعله يحصل على جائزة نوبل. وكانوا محقِّين في توقُّعهم؛ فقد حصل في عام ١٩٣٦ على جائزة نوبل في الطب أو علم وظائف الأعضاء مناصَفةً مع إتش إتش ديل، مع أنه لم يذكر مسألة الأحلام في محاضرته عند تسلُّمه للجائزة.

قال فايس وبراون لاحقًا: «تثبت قصةُ خلفيةِ اكتشافِ لوفي بما لا يَدَع مجالًا للشك أن أفكار الأبحاث العلمية المهمة جدًّا يمكن أن تظهر حقًّا أثناء النوم، كما قال كيكوليه.» وذكَرَا أيضًا أنهما وجدَا مقولة لهيرمان فون هيلمهولتس — اختصاصي علم وظائف الأعضاء وفيلسوف القرن التاسع عشر العظيم — تؤكِّد على أن الأفكار المثمرة «عادةً … ما تأتي في الصباح عند الاستيقاظ.»

من خلال خبرتي، يكون الخيال والذاكرة في قمة نشاطهما أثناء الأحلام أو أحلام اليقظة؛ فنادرًا ما خطرت — أو لم تخطر لي مطلقًا — فكرة عبقرية أثناء جلوسي في مكتبي في الجامعة، فمثل هذه الأفكار تأتي على الأرجح في الساعات الأولى من الصباح (كما قال هيلمهولتس)، أو في الطائرة أو الحافلة أو أثناء جولة مشي ممتعة أو حتى مملة، أو أثناء الاستحمام أو أثناء الاستمتاع بحفل موسيقي.

يذكر ملفين كالفن (الحائز جائزة نوبل في الكيمياء في عام ١٩٦١ لشرحه عمليةَ التمثيل الضوئي في النبات) كيف جاء له مفتاح اللُّغز في تلك العملية، قائلًا:

أريد أن أصف اللحظة (والمثير أنها كانت لحظة) التي اتضح لي فيها أحد الجوانب الأساسية في دورة ثاني أكسيد الكربون في عملية التمثيل الضوئي. ذات يوم، كنتُ منتظرًا في سيارتي بينما كانت زوجتي تقضي مهمةً ما، وكانت قد وصلتني منذ بضعة أشهر بعضُ المعلومات الأساسية من المعمل لم تكن متوافقة مع كل ما كنت أعرفه، وحتى ذلك الوقت. كنت منتظرًا، جالسًا أمام عجلة القيادة، ربما كنتُ مُتَوقفًا بسيارتي في المنطقة الحمراء عندما خطر على بالي المركَّب الناقص. لقد خطر لي، على نحو مفاجئ تمامًا، وفي غضون ثوانٍ معدودة، الطابع الدوري لمسار الكربون … في غضون ٣٠ ثانية؛ لذا، فإنني أعتقد حقًّا في وجود شيء يُسمَّى الإلهام، لكن الشخص لا بد أن يكون مستعدًّا له (مجلة «جورنال أوف كيميكال إديوكيشن»، سبتمبر ١٩٥٨، صفحة ٤٢٨).

قال تشارلز إتش تاونز (الحائز جائزة نوبل في الفيزياء في عام ١٩٦٤) إن «الليزر وُلِد في صباح يوم ربيعي رائع على مقعد في حديقة في واشنطن؛ فبينما كنتُ أجلس في ميدان فرانكلين أتأمَّلُ بإعجابٍ شجيرات الأزاليا، خطرت لي فكرةُ طريقةٍ عملية للحصول على شكل نقي جدًّا من الموجات الكهرومغناطيسية من الجزيئات» (مجلة «ساينس ٨٤»، مجلد ٥، صفحة ١٥٣).

درس اختصاصي البيولوجيا العصبية روجر سبيري (الأستاذ بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا والحائز جائزة نوبل في الطب أو علم وظائف الأعضاء لعام ١٩٨١) المصابين بالصرع الذين تمَّ فصل نصفَي الدماغ لديهم جراحيًّا. وأشارت أبحاثه إلى أن الأفكار والإلهام الذي يحدث في ظروفٍ كالمعروضة هنا يكون محلها النصف الأيمن من الدماغ، ويرى بعض الأشخاص أنه يمكن على نحو واعٍ تحفيزُ التفكير في النصف الأيمن من الدماغ، بل توجيهه أيضًا (إينجلباردت، مجلة «ريدرز دايجيست»، فبراير ١٩٨٨، صفحة ٤١).

لكن على الرغم من أهمية الأحلام وأحلام اليقظة، فإنني أتفقُ مع المقولة الأخيرة لكيكوليه التي ذكرناها سابقًا؛ فيجب مراجعة الأحلام واختبارها في ضوء النهار. فقد تحتاج الفكرة التي تأتي كومضة في الليل (أو النهار) إلى أيام أو حتى سنين من العمل الجاد والبارع حتى تسفر عن اكتشافٍ مهم.

لقد أوردتُ هذه الاكتشافات المستقاة من الأحلام كمثال على الاكتشافات السرنديبية؛ لأنها عادةً ما تُصنَّف هكذا. وربما تكون مسألة كون الأحلام أو الإلهام عَرَضيةً أو لا من الأمور المثيرة للجدل، لكن إذا اتخذها المرء ركيزةً لعمل اكتشافاتٍ قيِّمة كتلك التي صنعها كيكوليه ولوفي وكالفن وتاونز، فلا بد حتمًا من أن تُعَدَّ عَرَضيةً.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤