الفصل الرابع والعشرون

المضادات الحيوية: البِنسلين وأدوية السَّلْفا والماجانينات

(١) البِنسلين: فليمنج وفلوري وتشين

ربما يُعَدُّ اكتشاف السير ألكسندر فليمنج للبِنسلين أهم وأشهر اكتشاف جاء وليد المصادفة البحتة، لكن ربما تكون الجوانب السرنديبية في هذا الاكتشاف أكثر مما يمكن لمعظم الناس تخيُّله، وهناك جهود تكميلية مهمة لهذا الاكتشاف تؤكِّد على أهميته، مع أنها أقل شهرةً.

إنَّ حياة فليمنج حافِلةٌ بأحداث تبدو غير مترابطة، ومن دون أيٍّ منها لم يكن لها أن تصل لما وصلَتْ إليه بالفعل، لدرجة تجعلنا «نشعر بأننا مدفوعون إلى إنكار حدوثها بسبب المصادفة المحضة»، وذلك كما قال صديقه وزميله البروفيسور سي إيه بانيت في تأبينه له عند وفاته.

وُلِد ألكسندر فليمنج في أيرشير الريفية في اسكتلندا عام ١٨٨١. مات أبوه عندما كان في السابعة من عمره، تاركًا والدة ألكسندر لتتولى إدارة المزرعة وتربية أطفالها الأربعة إلى جانب أولاد زوجها. وكان ألكسندر يذهب مشيًا إلى المدرسة التي كانت توجد على بُعْد ميل من المنزل عندما كان في الخامسة، وعندما أصبح في العاشرة كان يذهب مشيًا إلى مدرسة على بُعْد أربعة أميال من البيت، وعندما أصبح في الثانية عشرة كانت المدرسة على بُعْد ١٦ ميلًا؛ لذا التحق بأكاديمية كيلمارنك، لكنه كان يمشي لمسافة ١٢ ميلًا كلَّ إجازة نهاية أسبوع ذهابًا وإيابًا من محطة القطار إلى منزله. وبعد عام ونصف في كيلمارنك، انتقل إلى لندن للانضمام إلى أخيه الأكبر واستكمال دراسته في معهد لندن للتكنولوجيا، لكن دراسته استمرت لفترة قصيرة؛ لأنه لم يستطع تحمُّل تكاليفها؛ فحصل فليمنج — الذي كان حينها في السادسة عشرة — على وظيفةٍ في شركة شحن، لكن كان لديه وقت للانضمام إلى متطوِّعِي الفِرقة الاسكتلندية في لندن. ومن خلال تلك الفِرقة، لعب ضمن فريقٍ لكرة الماء، وفي إحدى المرات لعب ضد فريقٍ من مستشفى سانت ماري، الذي كان تابعًا لجامعة لندن.

وبعد بضعة أعوام، ورث ميراثًا صغيرًا وشجَّعه أخوه على الالتحاق بإحدى الكليات الطبية. فقد كانت هناك ١٢ كلية طبية في لندن، ولم يكن فليمنج يعرف أيَّ شيء عن أيٍّ منها؛ فيما عدا تلك التابع لها مستشفى سانت ماري، والتي كان يعرف أن لها فريقَ كرة ماء، وهذا ما جعله يلتحق بها. وفي الوقت نفسه، انضم ألمروث رايت إلى تلك الكلية مدرسًا للبكتيريولوجيا. وكان فليمنج يخطِّط في البداية كي يصبح جرَّاحًا، لكن عُرِضت عليه بعد تخرجه وظيفةٌ بمعمل ألمروث رايت (الذي كان يُلقَّب حينها بالسير ألمروث رايت)، وقد عمل في هذا المعمل بقية حياته وأصبح أستاذًا للبكتيريولوجيا في عام ١٩٢٩.

في أثناء الحرب العالمية الأولى، أُرسِلَ فليمنج ورايت إلى فرنسا حيث عملَا على تضميد جراح الجنود المصابين، وكان الأطباء في ذلك الوقت يعتمدون على المطهرات لعلاج الجروح في المعارك. لكنَّ فليمنج لاحَظَ أن الفينول (أو حمض الكربوليك، الذي يُعَدُّ أشهرَ مطهِّرٍ في ذلك الوقت) كان ضرره يفوق نفعه؛ حيث إنه يقتل كرات الدم البيضاء أسرع من البكتيريا، وكان يعرف أن هذا أمر سيئ؛ لأن تلك الكرات هي وسائل الدفاع الطبيعية للجسم ضد البكتيريا.

في عام ١٩٢٢، اكتشف فليمنج بالمصادفة مضادًّا حيويًّا يقتل البكتيريا دون أن يقتل كرات الدم البيضاء. فبينما كان فليمنج يعاني من نزلة برد، صنعَ مزرعةً من بعض إفرازاته الأنفية، وبينما كان يفحص طبق المزرعة المليئة ببكتيريا صفراء، سقطت دمعة من عينه في الطبق. وعندما فحص المزرعة في اليوم التالي، وجد مساحة خالية حيث سقطت الدمعة؛ فجعلته ملاحظته الدقيقة وحبه الشديد للبحث يتوصَّل إلى الاستنتاج الصحيح: تحتوي الدمعة على مادةٍ تسبِّب التدمير السريع (الانحلال) للبكتيريا، لكنها لا تضر بالنسيج البشري. وسَمَّى إنزيم المضاد الحيوي الموجود في الدمعة «اللايسوزيم»، لكن اتضح أن تلك المادة ليسَتْ لها أهمية عملية كبيرة؛ لأن الجراثيم التي كانت تقتلها كانت غير ضارة نسبيًّا، لكن هذا الاكتشاف كان مقدمة ضرورية لاكتشاف البِنسلين، وذلك كما سنرى.

في صيف عام ١٩٢٨، كان فليمنج مُنشغِلًا بإجراء أبحاث عن الإنفلونزا، وبينما كان يقوم ببعض الإجراءات المعملية الروتينية التي تتضمن فحصًا ميكروسكوبيًّا لمزارع البكتيريا التي يتم إنماؤها في أطباق بِتري (وهي أطباق زجاجية مسطحة لها أغطية)، لاحظ في أحد الأطباق مساحة خالية غير معتادة، وأظهر الفحص أن المساحة الخالية كانت تحيط بمنطقة وقع فيها قليل من العَفن، على ما يبدو عندما كانت المزرعة غير مغطاة. متذكِّرًا تجربته مع اللايسوزيم، استنتج فليمنج أن العَفن يُنتِج شيئًا يقتل البكتيريا العنقودية في طبق المزرعة. قال فليمنج عن ذلك:

لولا تجربتي السابقة مع اللايسوزيم، لكنتُ تخلَّصْتُ من محتويات الطبق، وذلك كما كان يفعل العديد من علماء البكتيريولوجيا … ومن المحتمَل أيضًا أن بعض هؤلاء العلماء قد لاحَظُوا حدوثَ تغيُّرات مماثِلة لتلك التي لاحظتها من جانبي … لكن في ظل غياب أيِّ اهتمام من جانبهم بالمواد المضادة للبكتيريا الطبيعية، كانوا يتخلصون ببساطة من المزارع … وبدلًا من التخلُّص من المزرعة الملوَّثة بالعَفن متعللًا بكلام لائق، أجريتُ بعض الفحوصات.

fig45
شكل ٢٤-١: السير ألكسندر فليمنج وهو يعيد تمثيلَ فحصه لطبق بِتري «ملوَّث» بعَفن البنسليوم.

عزل فليمنج العَفن وحدَّد أنه ينتمي لنوع البنسليوم، وسمَّى المادة المضادة للجراثيم التي كان ينتجها البِنسلين. ولاحقًا قال: «توجد آلاف الأنواع من العَفن، وتوجد آلاف الأنواع من البكتيريا، والمصادفة التي وضعت العفنَ في المكان الصحيح في الوقت الصحيح كانت تشبه الفوز في سباق الخيل الخاص بالمستشفيات الأيرلندية.» إن تعليقه الذي يقول فيه: «توجد آلاف الأنواع من البكتيريا» كان صائبًا؛ لأنه على الرغم من أن البِنسلين يقضي على أنواع عديدة من البكتيريا، بما فيها البكتيريا العنقودية، فإنه ليس له أي تأثير على بعض الأنواع الأخرى من البكتيريا. ولحسن الحظ أن أنواع البكتيريا التي يقضي عليها البِنسلين تُعَدُّ بعضًا من تلك المسئولة عن العديد من أنواع العدوى البشرية الخطيرة والشائعة.

لم يكن استخدام أنواع العَفن لعلاج أنواع العدوى شيئًا جديدًا تمامًا في عام ١٩٢٨؛ فقد أشار لوي باستير وزميله جيه إف جيبير في عام ١٨٧٧ أن أحد الميكروبات يمكنه منع نمو ميكروب آخَر. وتوجد سجلات تقول إن بعض أنواع عَفن الخبز قد استُخدِمت من جانب المصريين القدماء والرومان، لكن توجد الآلاف من أنواع العَفن المختلفة التي تنمو على الخبز، والتي يكون للقليل منها فقط أثرٌ نافع مضاد للعدوى. ولا بد أن فليمنج كان يعرف ذلك، وبالتالي يمكننا أن ندرك سبب دهشته.

أثبت فليمنج بعد ذلك أن البِنسلين غير سام بالنسبة إلى الحيوانات وغير ضار لخلايا الجسم. وقد قال عن ذلك:

إن كونه غير سام بالنسبة إلى كرات الدم البيضاء هو ما أقنعني أنه سيصبح يومًا ما بمنزلة مادة علاجية … إن البِنسلين الخام يُوقف نمو البكتيريا العنقودية تمامًا في محلول مخفَّف بنسبة واحد في الألف عند اختباره في الدم البشري، لكنه ليس له تأثير سام على كرات الدم البيضاء أكثر من وسط المزرعة الأصلي … وقد حقنته أيضًا في حيوانات، وثبت بوضوح أنه غير سام … عند إجراء بعض الاختبارات التجريبية على بعض المرضى بالمستشفيات، كانت النتائج طيبة لكنها ليست مذهلة، وهذا ما جعلني مقتنعًا … بضرورة أن يكون مركزًا … جرَّبنا تركيز البِنسلين، لكن اكتشفنا … أن البِنسلين يتلف بسهولة … وأن إجراءاتنا البسيطة نسبيًّا غير مجدية.

في تلك الأثناء، سلَّط النجاح الملحوظ للسلفانيلاميد الأضواءَ على العلاج الكيميائي (انظر القسم التالي للتعرُّف على قصة أدوية السَّلْفا)، وفشلت المحاولات التي قام بها هارولد ريزتريك بالتعاون مع فليمنج، لعزل البِنسلين وتركيزه، ولم يحدث أي تقدُّم فيما يتعلَّق بالبِنسلين لعدة أعوام. وفي أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين، بدأ هوارد دبليو فلوري، أستاذ الباثولوجيا بجامعة أكسفورد، دراسةً بحثيةً مع إرنست بوريس تشين اختصاصي كيمياء حيوية يهودي لاجئ، هرب من ألمانيا إبَّان حكم هتلر، وأحضره فلوري إلى جامعة أكسفورد. شرع الاثنان في دراسة اللايسوزيم، الإنزيم المضاد للجراثيم الذي اكتشَفَه فليمنج، وغيرِه من المواد الطبيعية المضادة للجراثيم، وسرعان ما ركَّزَا عملهما على البِنسلين؛ نظرًا لكونه مبشِّرًا أكثر من كل تلك المواد.

باستخدام تقنيات كيميائية متقدِّمة فيما يخص عمليتي العزل والتركيز كانت متاحة في جامعة أكسفورد، وكانت معروفة جيدًا لفلوري وتشين وغير معروفة لفليمنج في مستشفى سانت ماري؛ نجح فريق جامعة أكسفورد في تركيز البِنسلين وتنقيته، لدرجة أنهما استطاعا إثبات خصائصه العلاجية، أولًا فيما يتعلَّق بأنواع العدوى المعملية في الفئران، ثم على المرضى من البشر الذين كانوا يعانون من العدوى بالبكتيريا العنقودية وغيرها من أنواع العدوى الخطيرة. (أُجريت عملية الاستنبات الأولى للبِنسلين الذي تمت تجربته على البشر في أوعية التبول في الفراش بالمستشفيات؛ تم الانتهاء من بعض الاختبارات الإكلينيكية مبكرًا بسبب ندرة الدواء، مع أنه يتم الحصول عليه من بول المرضى ويعاد استخدامه.)

ونظرًا لأهمية الاستخدام المحتمَل للبِنسلين لعلاج الأمراض ومداواة الجروح للعسكريين في الحرب العالمية الثانية، أصبح إنتاجه على نطاق واسع محل اهتمام كبير في كلٍّ من بريطانيا والولايات المتحدة. وجاء فليمنج إلى الولايات المتحدة لوصف الطرق المستخدَمة في بريطانيا لاستخلاص البِنسلين وإنتاجه، وعمل الكيميائيون في البلدين بحماس شديد من أجل تحديد التركيب الكيميائي للبِنسلين وإنتاجه عن طريق التصنيع أو التخمُّر، وقد صُنِع ذلك الجزيء المهم والمعقَّد لأول مرة بعد فترة طويلة من انتهاء الحرب، لكن كان التقدُّم الذي يتم إحرازه في إنتاجه بالتخمُّر أثناء الحرب سريعًا على نحوٍ غير عادي.

هنا لعبت السرنديبية دورها في تلك المرحلة من إنتاج البِنسلين، بالإضافة إلى اكتشافه؛ فعندما أتى فلوري إلى الولايات المتحدة في محاولةٍ للتوصُّل إلى طريقة لإنتاج البِنسلين على نطاق واسع، زار المعمل الشمالي للأبحاث الإقليمية التابع لوزارة الزراعة الأمريكية في بيوريا بإلينوي. وكان هذا المعمل يسعى لبعض الوقت إلى الوصول لاستخدامٍ صناعي لفائض محاصيل الحبوب، وكذلك الوصول إلى حلٍّ لمشكلة مرتبطة بهذا الأمر تتعلق بالتخلُّص من مستخلَص ضار كان نتاجًا فرعيًّا لعملية طحن الذرة. وعندما وُضِع هذا المستخلص في وسط المزرعة الخاصة بالبِنسلين، زاد ناتج العَفن المطلوب على نحوٍ غير متوقَّع بعشرة أضعاف.

ثمة إسهام ثانٍ لهذا المعمل، وهو تطوير سلالة محسَّنة من العَفن المُنتِج للبِنسلين؛ فقد كان يتم تجميع مئات أنواع العَفن من جميع أنحاء العالم وإحضارها إلى بيوريا لاختبارها. وعلى نحوٍ لا يُصدَّق، جاء الإسهام الفائز على يد سيدة محلية تُدعَى ماري هانت التي أصبح يُطلَق عليها «ماري صاحبة العَفن»؛ نظرًا لحماسها في البحث عن مصادر جديدة للعَفن المطلوب. أحضرت تلك السيدة ثمرة كانتالوب من سوقٍ للفاكهة في بيوريا، وكانت الثمرة تحتوي على عَفنٍ «له شكل ذهبي جميل». أدَّتْ تلك السلالة الجديدة من العَفن إلى مضاعفة إنتاج البِنسلين، وهكذا أدَّى الاكتشافان اللذان تمَّا في بيوريا إلى زيادة ناتج البِنسلين عشرين ضعفًا. مَن كان بمقدوره أن يتوقع أن يكون لبيوريا هذا الإسهام الكبير في إنتاج الدواء المعجزة الذي اكتُشِف مصادفةً في لندن؟!

لم يتم فقط إنقاذ حياة الآلاف بسبب البِنسلين أثناء الحرب، ولكن أيضًا تم تحفيز إجراء الأبحاث لاكتشاف مضادات حيوية أخرى، بما في ذلك عائلة من المركبات المرتبطة كيميائيًّا بالبِنسلين، وهي السيفالوسبورينات. وبعض هذه المضادات الحيوية الأحدث مضادة للبكتيريا المقاومة للبِنسلين. (سنعرض لقصة الاكتشاف العرضي للسيفالوسبورين سي في الفصل الثلاثين.)

تقاسم فليمنج وفلوري وتشين جائزةَ نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب في عام ١٩٤٥. وقد حصل جميعهم لاحقًا على لقب سير تكريمًا لهم على عملهم، الذي أدَّى إلى تخفيف معاناة الكثيرين وإنقاذ حياة عددٍ لا يُحصَى من البشر.

كان السير ألكسندر فليمنج على وعي بدور السرنديبية في حياته المهنية واكتشافه للبِنسلين؛ فقد قال ذات مرة: «ثمة بعضُ الإثارة والغموض في قصة اكتشاف البِنسلين، وهي تساعد في إثبات دور المصادفة أو الحظ أو القدر أو النصيب — سمِّها كما تشاء — في الحياة المهنية لأيٍّ منَّا.» وأضيف هنا أنه لولا ذكاء فليمنج — أو دعونا نقول «فطنته» حتى نستخدِمَ اللفظَ الذي كان مكونًا أساسيًّا في تعريف وولبُول للسرنديبية — ما كانت المصادفات التي حدثَتْ لفليمنج لتُسفِر عن شيء.

(٢) أدوية السَّلْفا: دوماك وفورنو وآل تريفويل

يرجع السبب في اكتشاف السلفانيلاميد والأدوية الصناعية المضادة للبكتيريا المرتبطة به كيميائيًّا إلى اعتقاد خاطئ سنذكره لاحقًا (انظر الفصل الخامس والثلاثين)، لكنه يحمل إلينا قصة مذهلة كان للسرنديبية أيضًا دور فيها. وقد حصل جيرهارد دوماك على جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب في عام ١٩٣٩ عن هذا الاكتشاف، لكن ثمة شخصيات عديدة لعبت أدوارًا مهمة في قصة هذا الاكتشاف.

وُلِد دوماك في لاجو بألمانيا في عام ١٨٩٥. التحق بجامعة كيل، لكن الحرب العالمية الأولى أوقفت دراساته الطبية، وبعد الهدنة عاد إلى جامعة كيل وحصل على درجته العلمية في الطب في عام ١٩٢١. وبعد بضعة أعوام قضاها مُعيدًا في جامعة جرايفسفالد وأستاذًا في المعهد الباثولوجي في مونستر، حصل في عام ١٩٣٢ على منصب مدير معمل الباثولوجيا والبكتيريولوجيا التجريبي التابع لاتحاد شركات إنتاج الصبغات الألمانية. وكانت مهمته في تلك الوظيفة هي اختبار الخصائص الدوائية للصبغات الجديدة المصنَّعة من قِبَل الكيميائيَّيْن فريتس ميتزش وجوزيف كلارر. حضَّر ميتزش أول دواء صناعي ناجح مضاد للملاريا، وهو الأتابرين. والمعروف أن الملاريا عدوى تنقلها الحيوانات الأولية، كما هو الحال بالنسبة إلى مرض الزُّهري، الذي وجد باول إيرليش أن السالْفرسان دواءٌ فعَّال لمعالجته، وأنه يُعَدُّ أول وصفة سحرية تُستخدَم لمقاومة مرضٍ بالعلاج الكيميائي. لكن لم تكن توجد مواد كيميائية فعَّالة لمقاومة البكتيريا في عام ١٩٣٢؛ تلك البكتيريا التي كانت تسبِّب الأمراض الخطيرة مثل الالتهاب الرئوي والالتهاب السحائي ومرض السيلان وعدوى البكتيريا العِقْدِيَّة والعنقودية.

بدأ فريق الاتحاد من الكيميائيين واختصاصيي الأدوية في البحث عن مركبات تعمل على قتل تلك الميكروبات دون الإضرار بمضيفيها من الحيوانات أو البشر. وقد كانت الخطة التي وضعوها هي تحضير صبغات معيَّنة لمعرفة إن كانت تلك المركبات مضادة للبكتيريا أم لا؛ لأن أنواعًا معينة من الصبغات، وخاصةً تلك التي تحتوي على مجموعة سلفوناميد، كان يبدو أنها على وجه الخصوص «مقيَّدَة» (ترتبط بشدة) بالأقمشة الصوفية؛ مما يشير إلى أن لها علاقة بجزيئات البروتين. وكان الكيميائيون يعتقدون أنه بسبب كونِ البكتيريا بروتينًا، فقد ترتبط بها تلك الصبغات وتُقيِّد نفسها بها لتُوقِف نموها أو تقتلها. وكما سنرى، فإن تلك النظرية كانت صحيحةً جزئيًّا فقط؛ إذ كانت مجموعة السلفوناميد ضرورية، لكنَّ جزءَ الجزيء الذي يحوِّلها إلى صبغة لم يكن ضروريًّا لفاعلية مضادات الجراثيم.

من الصبغات التي صنَّعها ميتزش وكلارر والتي اختبرها دوماك على الفئران والأرانب المعملية المصابة بالبكتيريا العِقْدِيَّة؛ صبغةُ البرونتوسيل. وقد ثبت أنها مضاد قوي ضد تلك البكتيريا، وأنه يمكن للحيوانات تحمُّلها، وذلك عند تناولها بجرعات كبيرة دون حدوث أي آثار ضارة. وربما يعود اكتشاف أثر تلك الصبغات المضاد للبكتيريا في الحيوانات إلى عام ١٩٣٢؛ فقد تقدَّمَ اتحاد شركات إنتاج الصبغات الألمانية بطلبٍ للحصول على براءة اختراع في ديسمبر من ذلك العام نظير هذا الاكتشاف. ويبدو أن الاختبارات المعملية (على المرضى من البشر) سرعان ما بدأت بعد ذلك، لكن الروايات متضارِبة في هذا الشأن. فتقول بعض الروايات إنه قبل أن تُجرى أي اختبارات أخرى على البشر، أعطى دوماك جرعةً من البرونتوسيل لابنته الصغيرة التي كان يائسًا من شفائها وكانت تصارع الموت جراء الإصابة بعدوى خطيرة من بكتيريا عِقْدِيَّة بسبب جرح بإبرة، وشُفيت البنت بسرعة. وتقول روايات أخرى إن أول اختبار إكلينيكي تمَّ على ولدٍ عمره ١٠ أشهر كان موته محتمًا بسبب تسمُّم للدم أحدثته البكتيريا العنقودية، فأعطاه طبيبه الذي يُدعَى ريتشارد فورستير صبغةَ البرونتوسيل. كان فورستير زميلًا للدكتور هانس شريوس الأستاذ بكلية الطب في دوسلدورف وصديقًا لهاينريش هيرلاين الذي كان رئيسًا على دوماك في اتحاد شركات إنتاج الصبغات الألمانية، وعندما استشار فورستير شريوس بشأن حالة الطفل الصغير المريض، تذكَّرَ أن هيرلاين ذكَرَ له أن هناك صبغة حمراء (البرونتوسيل) ذات فاعلية مدهشة في مقاومة البكتيريا العِقْدِيَّة في الحيوانات. ولأنه كان يشعر بأنه لن يخسر شيئًا إذا كانت الصبغة غير فعَّالة في مقاومة البكتيريا العنقودية؛ لأن الطفل كان على مشارف الموت على أية حال؛ أعطى فورستير الطفلَ جرعتين من الصبغة الحمراء، وكانت المفاجأة أن الطفل شُفي بسرعةٍ مما كان يُعتقَد أنه حالة تسمُّم دم مُمِيتة. وبغض النظر عن صحة أيٍّ من الروايتين أو كلتيهما، فمن المؤكَّد أنه بحلول منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، اكتُشِف علاج سحري عُرِف على نطاق واسع، وهو ما جعل دوماك يحصل على جائزة نوبل في عام ١٩٣٩.

لكن حدثت تطوُّرات أخرى مهمة في الفترة ما بين ١٩٣٣ و١٩٣٩. لم ينشر دوماك نتائج اختباراته التي أجراها على صبغة البرونتوسيل على العدوى في الحيوانات حتى فبراير عام ١٩٣٥، أيْ بعد أكثر من عامين من انتهاء تجاربه وبعد شهر من حصول اتحاد شركات إنتاج الصبغات الألمانية على براءة اختراع نظير البرونتوسيل. علِمَ فريق من زوج وزوجة في معهد باستير في باريس، وهما جيه وجيه تريفويل تحت إشراف إم فورنو بأمر الدراسات الألمانية وصنَعَا اكتشافًا مهمًّا؛ حيث فحصَا مركبات عديدة مرتبطة بشدة من حيث تركيبها الكيميائي بالبرونتوسيل، وهي صبغات «الآزو». يأتي azo المرادف الفرنسي لكلمة آزو من المقابل الفرنسي لكلمة نيتروجين azote، ويُستخدَم لوجود ذرتَيْ نيتروجين مرتبطتين معًا برابطة مزدوجة في وسط الجزيء. وتختلف تلك الصبغات على نحو ملحوظ في جزء من الجزيء، لكنها كلُّها تحتوي على نفس جزء السلفوناميد. ووجد آل تريفويل أن تلك الصبغات لها خصائص مضادة للبكتيريا تكاد تكون مماثلة تمامًا لتلك الخاصة بالبرونتوسيل.
fig46
شكل ٢٤-٢: الصيغة الكيميائية للبرونتوسيل والسلفانيلاميد.
فسَّرَ هذا الاكتشافُ أيضًا لغزًا آخَر عن البرونتوسيل؛ فهو لم يكن فعَّالًا في مقاومة البكتيريا في الاختبارات المعملية، مع أنه كان فعَّالًا جدًّا عند تجربته على الإنسان عن طريق حقنه في الجسم. فبعض وظائف الجسم تجعل صبغات السلفوناميد مقاومة للبكتيريا. وقد أرجع العالِمان الفرنسيان ذلك إلى أن الصبغة في جسم الحيوانات تتحلَّل إلى جزأين، ويكون جزء السلفوناميد فقط هو العامل الفعَّال المضاد للبكتيريا. ولإثبات ذلك، صنَّعا جزء السلفوناميد الأبسط من البرونتسيل، وهو مركب ٤-أمينو بنزين سلفوناميد الشهير، والمعروف ببساطة باسم «السلفانيلاميد»، ووجَدَا أنه فعَّال مثل البرونتوسيل في مقاومة العدوى البكتيرية. تظهر الصيغة الكيميائية للبرونتوسيل والسلفانيلاميد في شكل ٢٤-٢. إذا تم فلق جزيء البرونتوسيل عند الرابطة المزدوجة بين ذرتَي النيتروجين الوُسطيَيْن (الموضع المشار إليه بالسهم)، وأُضيفت ذرتَا هيدروجين إلى الجزء الأيمن، فإنه ينتج مركب السلفانيلاميد. ويحدث هذا الانفلاق في جسم الحيوان عندما يُحقَن بالبرونتوسيل أو عندما يتناوله عن طريق الفم، والسلفانيلاميد المُنتَج بهذا الشكل هو العامل الفعلي المضاد للبكتيريا. والسلفانيلاميد لا لون له كما هو الحال بالنسبة إلى النصف الآخَر من جزيء البرونتوسيل، وما يعطي صبغات الآزو لونَها هو الارتباط بين الجزأين عبر الرابطة المزدوجة بين ذرتَي النيتروجين الوُسطيَيْن. وهكذا، فإن النظرية القائلة بأن صبغات السلفوناميد من المفترض أن تكون مضادة للبكتيريا ضرب من الاعتقاد الخاطئ؛ لأن الجزء القاتل للميكروبات في جزيء الصبغة هو جزء السلفوناميد فقط؛ وحقيقة أنه كان جزءًا من جزيء صبغة كانت مصادفة، وبهذا يكون الاكتشاف كله عَرَضيًّا غير مقصود.

إن اكتشاف آل تريفويل جعل براءة الاختراع التي حصل عليها اتحاد شركات إنتاج الصبغات الألمانية على البرونتسيل عديمةَ الفائدة. فعلى الرغم من أن تصنيع السلفانيلاميد والحصول على براءة اختراع له كمادة صبغية وسيطة قد تمَّ قبل ذلك بعدة سنوات، فقد انتهَتْ براءة الاختراع عندما وُجِد أن المادة مضاد قوي للبكتيريا.

بعد الإعلان عن النتائج من قِبَل فورنو من معهد باستير في عام ١٩٣٥، أُجريت تجارب إكلينيكية على السلفانيلاميد في فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة بنجاح مبهر. ومن أشهر الحالات التي أعطت شهرةً للدواء الجديد كان استخدام البرونتوسيل لإنقاذ حياة فرنكلين دي روزفِلت الابن، ابن الرئيس الأمريكي. ففي عام ١٩٣٦، كان روزفِلت الصغير على مشارف الموت بسبب عدوى ببكتيريا عِقْدِيَّة، وطلبَتْ أمه إلينور روزفِلت من الدكتور جورج توبي من مستشفى ماساتشوستس العام إعطاءه البرونتوسيل، وكانت النتيجة أن تماثل الابن للشفاء بسرعة كبيرة.

تم تصنيع العديد من المركبات البسيطة المرتبطة كيميائيًّا بالسلفانيلاميد من قِبَل الكيميائيين واختبارها على الحيوانات ثم على البشر؛ ففي واقع الأمر، بحلول عام ١٩٤٧ تمَّ تحضيرُ أكثر من ٥ آلاف نوع من السلفوناميد المرتبط بالسلفانيلاميد واختبارها. ولم تكن كلها فعَّالة، لكن وُجِد أن بعضها أكثر فاعليةً من السلفانيلاميد في مقاومة بعض الأمراض. على سبيل المثال، تم تحضير السلفابيريدين في عام ١٩٣٨، ووُجِد أنه أكثر فاعليةً في علاج الالتهاب الرئوي، وقد تم إنتاج السلفاثيازول واستخدامه كدواءٍ بحلول عام ١٩٤٠.

تعقيب

إن التركيب الجزيئي لمركبات السلفوناميد الفعَّالة متماثِل على نحو ملحوظ. فمن بين آلاف المركبات التي تمَّ تحضيرها واختبارها، كان الاختلاف الوحيد في التركيب بالنسبة إلى كل المركبات الفعالة تقريبًا هو تغيير في مجموعة الذرات الموجودة إلى يمين ذرة النيتروجين الموضحة بخطٍّ عريض في تركيبي مادتي السلفابيريدين والسلفاثيازول المعروضين في شكل ٢٤-٣.

استُخدِمت أدوية السَّلْفا بفاعلية كبيرة في أربعينيات القرن العشرين، ولا سيَّما من قِبَل القوات المسلحة في الحرب العالمية الثانية، وقد حلَّ محلها على نحوٍ كبير البِنسلين وغيرُه من المضادات الحيوية الحديثة، لكنها ما زالت مفيدة في علاج بعض الأمراض. ومن عيوب تلك الأدوية قابليتُها للانحلال، التي تؤدي إلى انحلالها في الكُلْيتين مما يضر بهما. وقد وُجِد أنه يمكن التغلُّب على تلك الصعوبة بتناول مزيجٍ من ثلاثة أدوية مختلفة من أدوية السَّلْفا؛ فالجرعة المجمَّعة لها نفس فاعلية كمية متساوية من كل دواء منها على حدة، على أن يكون تركيز كلٍّ منها الثُّلث، بحيث يتمكن الجسم من إخراجها على نحوٍ مرضٍ.

fig47
شكل ٢٤-٣: الصيغة الكيميائية للسلفابيريدين والسلفاثيازول.

لقد ذكرتُ آنفًا أن دوماك قد حصل على جائزة نوبل في عام ١٩٣٩. وهذا ليس صحيحًا تمامًا؛ فمع أنه قد اختير للحصول على الجائزة من قِبَل المسئولين في ستوكهولم، فإنه لم يحصل عليها بالفعل إلا بعد عدة سنوات. وعندما تلقَّى إخطارًا بالجائزة في أكتوبر من عام ١٩٣٩، أرسل دوماك خطابًا يُعلِن فيه قبوله للجائزة، ثم أرسل خطابًا آخَر يعلن فيه رفضه لها في نوفمبر، وكان الخطاب الثاني نتيجةً لضغوطٍ من النظام النازي؛ كان دوماك في ذلك الوقت في قبضة جهاز الشرطة السرية الألماني (الجيستابو). وبعد الحرب، استطاع دوماك في عام ١٩٤٧ زيارةَ ستوكهولم وإلقاء محاضرة نوبل والحصول على الجائزة والدبلومة؛ ولكنه رفض الحصول على مبلغ الجائزة وأعاده إلى مؤسسة نوبل.

(٣) الماجانينات: مضاد حيوي من جلد الضفادع

حملق الدكتور مايكل زاسلوف — طبيب الأطفال واختصاصي الكيمياء الحيوية في المعهد القومي لصحة الطفل والنمو البشري — في الضفدعة في الحوض المائي الموجود في معمله. وكان هذا في صيف عام ١٩٨٦، فبينما كان يعمل على الضفدعة قبل ذلك ببضعة أيام لاستئصال مبيضَيْها كجزءٍ من دراسته لأنواع عدوى الرئة للأطفال المولودين ولديهم تليُّف كيسي؛ أدهشه فجأةً أن الجرح الذي كان في الضفدعة جرَّاء الجراحة التي أجراها لها كان نظيفًا ومُغلَقًا ويتعافَى بسرعة في الماء العكِر للحوض المائي بالمعمل، الذي كان يعج بالبكتيريا التي كان من المفترض أن تسبِّب عدوى. ولم تكن هذه أول حالة يصادفها من هذا النوع؛ فمثل العديد من العلماء الآخَرين، كان يعمل على هذا النوع من الضفادع الأفريقية لعدة مرات، وكانت جروح الضفادع تندمل على نحوٍ جيد في كل مرة، لكن تلك كانت هي المرة الأولى التي أدرك فيها أنه أمام معجزة، وتساءل عما يحدث!

في بحث تالٍ، عزل الدكتور زاسلوف اثنين من الببتيدات (وهي أجزاء من البروتينات) من جلد الضفدعة، وحدَّدَ تسلسُلَ الأحماض الأمينية في كلٍّ منها. وكان هذان الببتيدان فعَّالين جدًّا في مقاومة أنواع مختلفة من البكتيريا والفطريات والحيوانات الأولية مثل طفيل الملاريا. وأطلق الدكتور زاسلوف على هذين الببتيدين اسم «الماجانينات»، التي تعني بالعبرية الدرع الواقي. وقد عزل الدكتور زاسلوف وزملاؤه جينات الماجانينات من الضفادع واستخدموها في البحث عن جينات مماثلة في البشر.

ومع أن هذا الاكتشاف لم يكن في خطط الدكتور زاسلوف على الإطلاق، فإن عقله كان مستعدًّا له؛ فقد كان منشغلًا لفترة طويلة بموضوعين كلٌّ منهما مرتبط بالآخَر؛ الأول كان الفضول لمعرفة السبب في إصابة الأطفال المولودين بتليُّف كيسي — وهو مرض وراثي — بعدوى شديدة ومتكررة في الرئة من بكتيريا ليست موجودة في رئات الأشخاص الأصحاء. أما الموضوع الآخَر، فكان اهتمامه الشديد بتبعات اكتشاف السيكروبينات الذي تم قبل ذلك بعدة سنوات، وهي مواد موجودة في بعض الحشرات التي يبدو أنها توفِّر حمايةً قويةً وطبيعية ضد البكتيريا. والسيكروبينات هي ببتيدات، ويبدو أنها تدمِّر البكتيريا بإحداث خلل في أغشية خلايا البكتيريا دون الإضرار بأغشية خلايا الحشرات المأخوذة منها. وتُعَدُّ الماجانينات أول جهاز دفاع كيميائي غير الجهاز المناعي يوجد في الحيوانات الفقارية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤