الرجل ذو السيجار الأسود!

لم يكن قد حدث شيءٌ … لقد كان الإنذار بالهجوم نوعًا من التدريب أُضيفَ في ذلك اليوم إلى تدريبات الضرب الأعمى، وتنفَّس الشياطين الصُّعَداء، وعندما صعدوا إلى سطح الأرض تتابعَت الأحداث؛ فقد وجدوا إشارات الاجتماع مع رقم «صفر» مضاءةً … ودُهشوا لأن الاجتماع الصباحي لم يكن قد انقضى عليه أكثر من ساعتين، فأسرعوا جميعًا إلى قاعة الاجتماعات، وسمعوا صوت الأقدام الثقيلة، ولم يسعل رقم «صفر» هذه المرة، بل تحدث على الفور قائلًا: لقد وردت معلومات جديدة من الخاطفين … وستتحرك فرقةٌ منكم للعمل في «طوكيو»!

نظر الشياطين بعضهم إلى بعضٍ … «طوكيو» عاصمة اليابان، يا لها من عاصمة! ويا لها من مسافة هائلةٍ بينهم وبينها … كانت هذه الخواطر تطوف برءوسهم بينما رقم «صفر» يواصل حديثه: لقد طلب الخاطفون أن يتم تصوير المستندات المطلوبة على الميكروفيلم … وكما تمرنتم، ودرستم في المقر السري؛ فإن الميكروفيلم هو نوعٌ دقيقٌ من الأفلام يمكن أن يستوعب آلاف المعلومات والرسومات في فيلم لا يزيد عرضه على ملليمتر واحد، وطوله عشرة ملليمترات أو أكثر، حسب كمية المعلومات المطلوبة.

ومضى رقم «صفر» يتحدث دون توقف: وقد طلبوا أن يُسلَّم هذا الميكروفيلم في اليابان … والشرط الذي اشترطوه أن تقوم فتاةٌ بتسليم هذا الميكروفيلم، وستضع الفتاة هذا الشريط داخل وردة من البلاستيك تُعلقها على صدرها … وعندما تصل إلى هناك، عليها بالاتصال برقم تليفون ١٧١٧-٣٣٣، وسترد عليها فتاةٌ اسمها «سايو» وكلمة السر هي «إيدو»، وهو الاسم القديم لمدينة «طوكيو»، وستقوم «سايو» بشرح الطريقة التي سيتم بها تسليم الميكروفيلم … وصمت رقم «صفر» لحظاتٍ حتى يترك للشياطين فرصة استيعاب هذه المعلومات، ثم مضى يقول: سيقوم الخاطفون، أو «المجموعة X» كما سمَّيناهم، بالتأكد من صحة المعلومات التي أرسلناها، وبعدها سيحددون المكان الذي نعثر فيه على الطفل «أدهم» …

قالت «إلهام» فجأة: ولكن ما هي ضمانات تسليم الطفل حيًّا؟

رد رقم «صفر» على الفور: ليست هناك ضمانات … إلا أن «المجموعة X» ليس لها مصلحة في قتل الطفل ما داموا قد تسلموا المعلومات … ولكن ليس هذا هو المهم، وإنما المهم أننا نريد استرداد المعلومات في نفس لحظة تسلُّم الطفل!

ساد الصمت بعد هذه الجملة، فهناك خطة مركبة في ذهن رقم «صفر»، خطة شاقة ضد عصابةٍ منظمة، وفي مكانٍ بعيد … ولكن الشياطين يُرحِّبون بالخطر، خاصةً إذا كان يتعلق بطفلٍ صغيرٍ لا ذنب له … وبأسرارٍ عسكريةٍ خطيرةٍ تهم الدول العربية.

عاد رقم «صفر» يقول: لقد اخترت «إلهام» للقيام بهذه المهمة!

ونظر الشياطين جميعًا إلى «إلهام»، وعاد رقم «صفر» يقول: وستقوم مجموعة عملٍ منكم بتغطية «إلهام» ومحاولة العودة بالثلاثة … الميكروفيلم … والطفل … و«إلهام»!

كانت كلمة «تغطية» تعني أشياء كثيرة … منها حماية «إلهام» … ومنها تصفية العملية كلها … وعرف الشياطين أنهم مقبلون على مغامرةٍ لا مثيل لخطورتها.

قال «أحمد»: ولكن يا سيدي … من الممكن أن تقوم «المجموعة X» بتصوير نسخ من الفيلم، وهذا يعني أن إعادته ليست ذات قيمة.
رد رقم «صفر» على الفور: لقد فكرنا في هذا، وسنجد لهذه المشكلة حلًّا علميًّا … إن معمل «ش. ك. س» يقوم الآن بأبحاثٍ حول الفيلم الذي سيرسل إلى «المجموعة X» … وسنبلغكم بالنتائج قبل السفر.

إلهام: ومتى سأكون في «طوكيو»؟

رقم «صفر»: إن الرحلة بالطائرة تستغرق نحو تسع ساعات، ولكنكِ ستسافرين عن طريق «باريس» لأسبابٍ تتعلق بالأمن؛ فقد يسعَوْن إلى الحصول على الفيلم في الطريق؛ لهذا سنموِّه عليهم … وعلى بقية مجموعة الشياطين اﻟ «١٣» بوضع خطة تغطية لسفرك …

وانتهى الاجتماع، وانتقل الشياطين اﻟ «١٣» إلى قاعةٍ صغيرةٍ مجاورة للمطعم، وعقدوا اجتماعًا لمناقشة خطة التغطية … وتحدث رقم «١١» «قيس» من السعودية فقال: أعتقد أن فرقة التغطية يجب أن تنقسم إلى مجموعتين … مجموعة تسافر مع «إلهام» على نفس الطائرة، ومجموعة أخرى تسافر رأسًا إلى «طوكيو»، على أن تكون في المطار لحظة وصول «إلهام» مع المجموعة الأولى.

أحمد: هذا الكلام هام … ولكن فيه قدرًا من الخطورة!

والتفت الشياطين إليه فقال «أحمد»: إن كثرة المسافرين في المهمة ستعرِّضهم أكثر لمخاطر الكشف عنهم؛ لهذا فإنني أقترح أن يسافر واحد فقط مع «إلهام» على نفس الطائرة، ويسافر ثلاثة مباشرة إلى «طوكيو» …

لم يستمر النقاش طويلًا، ودخل الشياطين إلى المطعم، وبعد الغداء ذهبوا للراحة، وفي المساء وصلت تعليمات رقم «صفر» بالسفر صباحًا … وكانت خطته مطابقة تمامًا لما فكَّر فيه الشياطين؛ واحد مع «إلهام»، وقد اختار لها «أحمد»، وثلاثة يسافرون مباشرةً إلى «طوكيو»، وقد اختار «عثمان» و«قيس» و«هدى»، كما اختار لهم فندق «طوكيو برنس» للإقامة.

وعندما كانت «إلهام» تستعد للسفر، وتعد حقيبة الشياطين المزودة بالجيوب السرية، دخل أحد رجال الحرس وسلمها ربطة صغيرة، وكان عليها ورقة ملصقة داخل مظروف … فتحت «إلهام» المظروف … كان على طرفه علامة «X» باللون الأحمر، وهي علامة إنذار بأهمية ما في الخطاب، ولم يكن داخل المظروف إلا ورقة صغيرة زرقاء كُتب عليها التحذير مرةً أخرى، ثم ثلاث كلمات … «تُحرق بعد القراءة» …

قرأت السطور القليلة التي كانت في الورقة، وكانت خاصة بالفيلم الذي ستحمله … وابتسمت «إلهام»، ثم وضعت الورقة في فتحة خاصة في الجدار، ثم ضغطت على زرار صغير، فاشتعلت فيها النيران على الفور، وأصبحت رمادًا في ثوانٍ.

أعدَّت «إلهام» كل شيءٍ، ووضعت الربطة الصغيرة التي تحوي الفيلم الثمين بجوار فراشها، ثم أخذت تقرأ تعليمات السفر … كان عليها أن تغادر المقر السري وحدها في الساعة السابعة صباحًا، ثم يتبعها «أحمد» بعد ذلك بنصف ساعة … سيركبان الطائرة المتجهة إلى باريس في الحادية عشرة صباحًا، ويصلان إلى «طوكيو» قرب منتصف الليل … عليها أن تتجه رأسًا إلى فندق «طوكيو برنس» أي «أمير طوكيو»، وهناك ستجد غرفة محجوزة باسمها … عليها أن تتصل برقم التليفون ١٧١٧-٣٣٣ بين الساعة التاسعة والعاشرة صباحًا … ستردُّ عليها «سايو» وتتفقان على خط سير «إلهام»، حتى تقابل مندوب «المجموعة X» ليأخذ الورقة التي بها الفيلم.
وفي نهاية التعليمات كان هناك تحذيرٌ هامٌّ … لا تحاولي أنتِ الاصطدام ﺑ «المجموعة X»، فسوف يتولى «أحمد» وبقية الشياطين معالجة الموقف … إن مهمتكِ تنحصر فقط في تسليم الفيلم، وتسلُّم الولد الصغير «أدهم» والعودة به سالمًا.

تناولت «إلهام» بعض الفاكهة، وكوبًا من اللبن، ثم راجعت المعلومات جيدًا واستسلمت للنوم.

في السابعة صباحًا كانت تقود سيارتها الحمراء طراز «بورش» إلى مطار قريب من المقر السري، بعدها ركبت الطائرة إلى القاهرة، وفي مطار القاهرة انتظرت نصف ساعة، ورأت «أحمد» من بعيد، وهو يمر خلال بوابة الجمارك، ثم اتجها إلى الطائرة المسافرة إلى باريس.

كان الترتيب الذي وضعه رقم «صفر» دقيقًا جدًّا؛ فقد كانت «إلهام» تجلس في مقدمة الطائرة، بينما كان يجلس «أحمد» في نهايتها، وقد جلس في مكانٍ يستطيع منه أن يراها طول الوقت … كان رقم «صفر» يعرف جيدًا أن «المجموعة X» قد تستطيع بوسائلها الخاصة معرفة شخصية «إلهام»، ثم تحاول الحصول على الفيلم سريعًا … أكثر من هذا أنه من الممكن أن تكون هناك مجموعةٌ معاكسةٌ تحاول الحصول على الفيلم لنفسها؛ لهذا ظل «أحمد» يتتبعها طول الوقت … لم تغفل عيناه عن «إلهام» لحظةً واحدةً حتى إنه لم يشعر بالوقت يمضي قبل أن تعلن المضيفة أن الطائرة الضخمة من طراز «تراي ستار» ستهبط في مطار «أورلي» في «باريس».

كان الجو ملبدًا بالغيوم في المطار … وأخذت السماء ترسل مطرًا خفيفًا ناعمًا متصلًا، ومضى المسافرون يجرون هنا وهناك، كلٌّ إلى وجهته … واتجه «أحمد» و«إلهام» وبقية المسافرين إلى الشرق الأقصى إلى بوفيه المطار، وظل «أحمد» يتتبع «إلهام» من بعيد؛ فقد كانت التعليمات ألَّا يقترب منها مطلقًا، وألا يبدو أنهما يعرفان أحدهما الآخر … ورغم أن «إلهام» لم تلتفت ناحية «أحمد»، إلا أنها كانت تشعر بنظراته طول الوقت، وتحسُّ بالأمن والحماية في ظل زميلها اليقظ.

قضى الجميع بعض الوقت في تناول المشروبات الساخنة، ثم أعلن مُكبِّر الصوت … «على المسافرين على طائرة شركة «بان أمريكان» المسافرة إلى الشرق الأقصى أن يتجهوا إلى الباب رقم «٣».» وأخذت أجهزة التفتيش الأتوماتيكية تعمل بأضوائها المختلفة، وكان على كل مسافر أن يمرَّ خلال بابٍ صغيرٍ رُكِّبت عليه تلك الأجهزة التي تكشف عن الأسلحة، ولم يكن مسموحًا لأي شخصٍ أن يحمل سلاحًا معه في الطائرة … ولاحظ «أحمد» أن أحد المسافرين جاء متأخرًا، وأخذ يجري ليلحق ببقية المسافرين، واكتشف «أحمد» على الفور أن هذا الرجل ليس غريبًا عنه، لقد التقى به من قبل في إحدى مغامرات الشياطين اﻟ «١٣»، وفي الأغلب كان أحد رجال عصابة قارئ الأفكار … فهل هي صدفة أن يركب الرجل نفس الطائرة المتجهة إلى الشرق الأقصى … أم أنه جاء بتعليماتٍ محددةٍ؟ وهل هو أحد أفراد «المجموعة X» التي تسعى للحصول على الأسرار العسكرية للطائرات المقاتلة، أم هو من جماعةٍ مناوئة لهم؟

صعد الجميع إلى الطائرة … وكان آخر الصاعدين إليها هو هذا الرجل ذو الملامح القاسية، والذي كان يضع في جانب فمه نصف سيجار أسود مطفأ، وكان يلبس قبعةً رخوة يسدل طرفها على جانب وجهه؛ ليخفيَ أثر جرحٍ بجوار عينه اليسرى.

ولا يدري «أحمد» هل بالصدفة أيضًا أن يختار الرجل مقعدًا خلف «إلهام» مباشرة أم قصد هذا؟! ثم هل يحاول الحصول على الوردة الثمينة التي يختفي داخلها الفيلم، أم ينتظر حتى تهبط الطائرة «الجامبو» في مطار «طوكيو»؟

كانت هناك عشرات الأسئلة الأخرى، ولم تكن هناك إجابةٌ واحدة، وكان على «أحمد» أن يتنبَّه جيدًا إلى ما يدور حوله … وعندما استقر الجميع في مقاعدهم وربطوا الأحزمة، أخذَت محركات الطائرة الضخمة تهدر، ثم مضَت على الممر متخذةً مسارها … وظلَّت عينا «أحمد» مثبتةً على الرجل ذي السيجار الأسود، مستعدًّا في أي لحظةٍ أن يقفز ليمنعه من أي عملٍ ضد «إلهام» …

مضَت الساعات والطائرة الضخمة تشق طريقها إلى هدفها البعيد، ونظر «أحمد» إلى ساعته ليرى كم مضى من الوقت وكم بقي، عندما أعلن مكبِّر الصوت في الطائرة أنها ستهبط في مطار «سنغافورة» لفترةٍ غير محددة … وأخذ الركاب يتبادلون الكلام، ويطلبون من المضيفات شرح الأسباب التي دعت إلى هذا الهبوط المفاجئ الذي لم يكن واردًا في جدول الرحلة، ولكن لم تكن هناك إجابة أكثر من أن الطائرة تحتاج إلى إصلاحٍ بسيط لخللٍ في أجهزة التهوية … ولكن «أحمد» استنتج شيئًا آخر لم يستنتجه أحدٌ آخر من الموجودين، ذلك أنه لاحظ أن الرجل ذا السيجار الأسود كان ينظر إلى ساعته بين لحظةٍ وأخرى عندما اقتربوا من «سنغافورة» وكان يبدو شديد القلق … فلما أعلنت المضيفة عن قرب هبوطهم في الميناء الشهير، ابتسم الرجل ذو السيجار الأسود، وارتكن إلى الخلف في كرسيه … وأدرك «أحمد» أن ثمة أشياء تحدث في الخفاء، وأن الساعات القادمة مشحونة بالأحداث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤