مغامرة كوبر بيتشيز

قال شيرلوك هولمز وهو يُلقي صفحة إعلانات جريدة ديلي تليجراف جانبًا: «غالبًا ما يجِد من يُحبُّ الفنَّ من أجل الفن سعادة شديدة في أبسط أشكاله وأقلِّها أهمية. يُسعدني أنك قد أدركتَ هذه الحقيقة يا واطسون، فلم تُولِ اهتمامًا كبيرًا بالسجلات التي قد تكرَّمتَ بإخراجها — وأعترف أنك كنتَ تُدوِّنها بين الحين والآخر — الخاصَّة بالقضايا الشهيرة العديدة التي تَولَّيتُها؛ وكذلك لم تُولِ اهتمامًا كبيرًا بالمُحاكمات المُثيرة التي قد مثَلتُ فيها، بل بالوقائع التي قد تكون في حدِّ ذاتها غير مُهمَّة، ولكنها قد أتاحت لي مجالًا لإعمال مَلَكات الاستنتاج والتحليل والبناء المنطقي التي اخترتُ أن تكونَ مجال عملي.»

قلتُ وأنا أبتسم: «ومع ذلك، لا يُمكنني أن أغفر لنفسي تُهمة تعمُّد الإثارة التي قد وجَّهتَها لما دوَّنتُه.»

«ربما تكون قد أخطأت.» هكذا قال وهو يأخذ فحمة مُتوهِّجة بالمِلقَط ويُشعل بها غليونه الطويل المصنوع من خشب الكرز الذي يُدخِّنه عندما يكون في مِزاج مُولع بالجدال، والذي عادة ما يكون بديلًا لغليونه المصنوع من الطين الذي يُدخِّنه عندما يكون في حالة تفكير وتأمُّل، ثم أردف قائلًا: «ربما تكون قد أخطأت في مُحاولة إضفاء عامل الإثارة والتشويق على كلِّ كتاباتك بدلًا من الالتزام بتسجيل الحُجَج المنطقية المَحضة، التي في الواقع هي السِّمة البارزة الوحيدة للأمر برمته بدءًا بالسبب ووصولًا إلى النتيجة.»

«أرى أنَّني قد أوفيتُك حقَّك في هذا الأمر بالفعل.» هكذا عَلَّقتُ بشيءٍ من البرود؛ إذ إنني كنتُ أشمئزُّ من الغرور الذي كنتُ قد لاحظتُ أكثر من مرةٍ أنه صفةٌ قوية في شخصية صديقي المُتفرِّدة.

«لا، إنها ليست أنانية أو غرورًا.» هكذا أجاب، كما كانت عادته، على ما كنتُ أفكر فيه وليس على ما قُلته. «إن طالبتُ أن توَّفَّى براعتي حقَّها؛ فهذا لأنه شيء غير شخصي؛ إنه شيء يتخطَّاني. الجريمة أمر مُعتاد، أما المنطق فشيءٌ نادر؛ ولذلك فلا بدَّ أن تركز على المنطق لا الجريمة؛ لقد حَططتَ من قيمة ما كان ينبغي أن يُسَجَّل كمجموعةٍ من المُحاضرات، وجعلتَها مجرَّد سلسلة من الحكايات.»

كان صباحًا باردًا في أوائل الربيع، وجلسنا بعد الإفطار على جانبَي نِيران المدفأة المُبهجة في الغُرفة القديمة بشارع بيكر. هبط ضباب كثيف بين خطوط البيوت المُلوَّنة باللون البُنِّي الرمادي، وبدت النوافذ المُقابلة عبر الأكاليل الصفراء الثقيلة كلطخاتٍ مُظلِمة عديمة الشكل. كان مصباحنا الغازيُّ مُضاءً، ولمعَ ضوءُه على القماش الأبيض وعلى الأطباق الخزَف والمعادن؛ إذ لم تكن الطاولة قد نُظِّفَت بعد. كان شيرلوك هولمز صامتًا طوال الصباح مُنهمكًا في مُطالعة أعمدة الإعلانات لعددٍ من الجرائد، حتى ظهر أخيرًا بمِزاجٍ نَكِد، بعد أن يئس من البحث، كما بدا، ليُحاضِرني عن نَواقِصي الأدبيَّة.

«وفي نفس الوقت.» هكذا أردَف بعد صمتٍ جلس خلاله ينفُثُ دخان غليونه ويُحدِّق في النار، «لا يُمكن بتعمُّد الإثارة؛ إذ إنَّه من بين كلِّ هذه القضايا التي تفضَّلتَ بالاهتمام بها، ثمة نسبة معقولة منها لا تتعامَل مع الجريمة بتعريفِها القانوني على الإطلاق. فالمسألة الصغيرة التي حاولتَ مُساعدة ملكٍ بوهيميٍّ فيها، والتجربة الفريدة للسيدة ساذرلاند، والمشكلة المُتعلقة بالرجل ذي الشفة المُلتوية، وواقعة النبيل الأعزب؛ كانت كلها أمورًا خارجة عن الإطار المعروف للقانون. ولكن في تحاشيك تَعمُّد الإثارة، أخشى أنك قد اقتربتَ ممَّا هو تافِه.»

«ربما كانت النتيجة كما قلت.» هكذا أجبتُه، ثم أردفتُ قائلًا: «ولكنَّ الأساليب التي قد اتَّبعتُها كانت جديدة ومُثيرةً للاهتمام.»

«أُف! لماذا قد يهتمُّ الجمهور الغافِل يا صديقي العزيز بالدرجات الأرقى من التحليل المنطقي والاستدلال، والذي بالكاد يُمكنه تمييز الحائك من شكل أسنانه أو مُجهِّز حُروف الطباعة من قَساوة جلد إصبعه الأيسر؟! ولكن لا يُمكنني أن ألومك بالطبع إن كنتَ تافهًا؛ فأيام القضايا العظيمة قد وَلَّت. لقد فقد الناس، أو المجرمون على الأقل، جرأتهم وقُدرتهم على الإبداع. أمَّا بالنسبة لمِهنتي المُتواضعة، فيبدو أنها تتحوَّل إلى أداةٍ لاستعادة الأقلام الرصاص الضائعة ولإسداء النُّصح إلى فتَيات المدارس الداخلية. ولكنَّني أعتقد أنني قد وصلتُ إلى القاع أخيرًا؛ فقد تُمثِّل هذه الرسالة التي تسلَّمتُها هذا الصباح نقطة البداية بالنسبة لي كما أتصوَّر. اقرأْها!» ثُمَّ ألقى نَحوي خطابًا مُجعَّدًا.

كان من مونتيجيو بليس بتاريخ الليلة السابقة، وذُكِرَ فيه ما يلي:

عزيزي السيد هولمز، أتوقُ بشدَّةٍ لاستشارَتِك حول ما إن كان عليَّ قَبول عرْضٍ بالعمل كمُربِّيةٍ أم لا. سأزورك في العاشرة والنصف غدًا إن لم يكن يُزعجك. مع خالص تحياتي.

فيوليت هانتر

سألتُ هولمز قائلًا: «هل تعرِف هذه الشابة؟»

«لا.»

«إنها العاشرة والنصف الآن!»

«أجل، وليس لديَّ أدنى شكٍّ أنها هي من تدُقُّ الجرَس الآن.»

«قد تكتشفُ أنَّ المسألة مُثيرة للاهتمام أكثر ممَّا تعتقِد. هل تتذكَّر قضية الجوهرة الزرقاء التي بدَت في البداية أنَّها مسألة تافِهة، ثمَّ تطوَّر الأمر لتحقيقٍ جِدِّي؟ قد يكون الأمر كذلك في هذه القضية أيضًا.»

«حسنًا، دعنا نأمُل ذلك. ولكن شكوكنا ستتضح قريبًا؛ إذ إنَّ الشابَّة المَعنيَّة قد وصلتْ هنا بالفِعل إن لم أكن مُخطئًا.»

فُتِحَ الباب بينما كان يتحدَّثُ، ودخلتِ الغرفةَ سيدةٌ شابَّة ترتدي ملابس بسيطة ولكن أنيقة. كان وجهها مُشرقًا حادًّا به نَمَش يُشبه النِّقاط الموجودة على بيضة طائر الزقزاق، وكان أسلوبها مُفعمًا بالنشاط ينمُّ عن أنها امرأةٌ عازِمة على تحقيق أهدافها في هذا العالم.

«أنا مُتأكدة من أنك ستَعذُرني على الإزعاج الذي سببتُه لك.» هكذا قالت بينما وقَفَ رفيقي ليُحيِّيها، «ولكنَّني قد مررتُ بتجربةٍ شديدة الغرابة، وبما أنني ليس لديَّ والدان أو أيُّ أقارِب يُمكنني أن أسألَهم النُّصح، فقد فكَّرتُ أنك ربما ستتفضَّل بأن تُخبِرَني بما يجِب عليَّ فِعله.»

«اجلسي أرجوكِ يا آنسة هانتر. يُسعِدني أن أفعل كلَّ ما يُمكنني لمُساعدتك.»

كان بوسعي أن أرى أنَّ هولمز قد انبَهر، بِصورةٍ إيجابية، بأسلوب عميلتِه الجديدة وكلامها. نظر إليها مُتفحِّصًا بطريقته المُستقصية، ثم جمع شتات نفسه وأرخى جَفنَيه وعقد أطراف أصابعه معًا ليستمع إلى قصتها.

تحدَّثَت قائلة: «أعملُ مُربية منذ خمسة أعوام في عائلة الكولونيل سبينس مونرو، إلَّا أنه تلقَّى تكليفًا منذ شهرَين بالذهاب إلى هاليفكس بنوفا سكوشا، وأخذ أطفاله معه إلى أمريكا، فوجدتُ نفسي بلا عمل. وضعتُ إعلانًا لطلبِ العمل وراسلتُ إعلانات التوظيف، ولكن بلا جدوى. بدأتِ الأموال القليلة التي كنتُ قد ادَّخرتُها تنفد، ولم أكن أعلم ما يتوجَّبُ عليَّ فعله.

تُوجَد وكالة معروفة لتوظيف المُربِّيات في ويست إند تُدعى ويستوايز، كنتُ أذهب إليها مرة في الأسبوع تقريبًا لأرى إن كانت هناك أيُّ فرصة عملٍ جديدة قد تُناسبني. كان ويستواي هو اسم مُؤسِّس هذه الوكالة، لكن كانت السيدة ستوبر هي من تُديرها. تجلس السيدة ستوبر في مكتبها الصغير، بينما تنتظِر السيداتُ اللواتي يَبحثنَ عن عملٍ في غرفة انتظار، ثم تدخل كلُّ سيدةٍ على حِدَةٍ لتُقابلها، فتُطالِع دفاترها لترى إن كان لديها أيُّ فُرَص عمل تُناسب هؤلاء السيدات.

حسنًا، عندما ذهبتُ الأسبوع الماضي، دخلتُ المكتب الصغير كالعادة لأقابلها، ولكنني لم أجد السيدة ستوبر بمُفردها. كان يجلس إلى جانبها رجلٌ شديد البَدانة ارتسمتْ على وجهه ابتسامةٌ عريضة، وله لُغد ضخم ثقيل تدلَّتْ ثناياه على رَقبتِه. واستقَرَّ على أنفِه زَوجان من النَّظارات يتفحَّص من خلالهما السيدات اللاتي يدخُلنَ بجدِّيَّةٍ شديدة. انتفض بشدَّة في جلسته عندما دخلتُ واستدار سريعًا للسيدة ستوبر.

وقال: «هذا يكفي، لا يُمكنني أن أطمَعَ فيما هو أفضل من ذلك؛ هذا رائع! رائع!» بدا شديد التحمُّس وفرَك يديه معًا بودٍّ شديد. كان رجلًا مُريح المظهر لدرجة أنَّ النظر إليه كان يبعَثُ على السرور.

سألَني قائلًا: «إنك تَبحثينَ عن عملٍ يا سيدتي. أليس كذلك؟»

«بلى يا سيدي.»

«كمربِّية؟»

«أجل يا سيدي.»

«وما هو الراتِب الذي تَتقاضَينه؟»

«كنتُ أتقاضى ٤ جنيهات في الشهر في عملي الأخير مع الكولونيل سبينس مونرو.»

صاح وهو يُلوِّح بيديه السَّمينتَين في الهواء وكأنه في حالة غَلَيان: «أوه، لا لا! هذا أجرٌ مُخزٍ لا يتقاضاه سوى العبيد! يا له من أمرٍ مُقزِّز!» ثم أردف: «كيف يُمكن لأيِّ شخصٍ أن يُقدِّم مبلغًا يُرثى له كهذا، لسيدة تتمتَّع بمثل هذه المزايا والمهارات؟»

فأجبتُه قائلة: «مهاراتي يا سيدي قد تكون أقلَّ ممَّا تتخيَّل. أعرِف القليل من الفرنسية والألمانية، والقليل من المُوسيقى والرسم …»

صاح قائلًا: «أوه لا! كلُّ ذلك لا يُهم؛ مربط الفرس هو: هل تتمتَّعين بسلوكٍ ووقارٍ يليق بسيدة أم لا؟ هذا هو الأمر باختِصار. إذا كانت الإجابة لا، إذن فأنت لا تَصلُحين لتربية طفل قد يلعَب في يومٍ من الأيام دَورًا مهمًّا في تاريخ البلاد. أما إذا كانت الإجابة نعم، فلِمَ إذن، وكيف يُمكن لأيِّ رجل أن يطلُب منك أن تُقلِّلي من قِيمتك وتقبلي براتبٍ يقلُّ عن ثلاثة أرقام؟ راتبُك معي يا سيِّدتي يبدأ من ١٠٠ جُنيه في السنة الواحدة.»

يُمكنك التخيُّل يا سيِّد هولمز أنَّ هذا العرْض بدا لامرأةٍ مُعدِمة مِثلي كحلمٍ جميل يصعُب تصديقه. ولكنه عندما رأى نظرةَ الشكِّ التي ربما تكون قد ارتسمَتْ على وجهي، فتح دفتر شيكاتٍ وقَطَعَ منه شيكًا.

«ومن عاداتي أيضًا.» هكذا قال وهو يبتسِم بدَماثةٍ شديدة حتى صارت عَيناه مُجرَّد فتحتين لامِعَتَين وسط تجاعيد وجهِهِ البيضاء، «أن أدفع للسيدات الشابَّاتِ نِصف راتِبِهنَّ مُقدمًا حتى يَتمكنَّ من الوفاء بأي نفقاتٍ ولو بسيطة تخصُّ التنقُّلات والملْبس.»

لم أقابِل في حَياتي رجُلًا مُدهشًا وعطوفًا كهذا كما بدا لي. جاءت هذه الدفعة المُقدمة في وقتها المناسب؛ إذ إنني كنتُ مديونةً للتجار، ومع ذلك فقد كان هناك شيء غير طبيعي يتعلَّق بهذا الأمر برمَّته، جعلني أرغب في معرفة ولو القليل قبل أن أُلزم نفسي بالعمل.

سألتُه قائلة: «هل لي أنْ أسألك أين تعيش يا سيدي؟»

«هامبشير. في مكان ريفي ساحر؛ كوبر بيتشيز، على بُعد خمسة أميالٍ من الجانب البعيد من وينشستر. إنها أكثر الأماكن الريفية جمالًا يا سيدتي العزيزة، وأجمل منزلٍ ريفي قديم بين كلِّ المنازل.»

«وماذا عن مهامِّي يا سيدي؟ يَسرُّني أن أعرف ماذا ستكون.»

«طفل واحد؛ طفلٌ واحد صغير وحيد عمرُه ستُّ سنوات فحسب. أوه، إن رأيتِه وهو يقتُل الصراصير بفردَةِ نعلٍ! طاخ! طاخ! طاخ! يقتُل ثلاثةً منها قبل أن تطرُف لكِ عَينٌ!» اضطجع على كرسيِّه ثم ضحِك بحرارةٍ حتى أصبحت عَيناه ظاهرةً بالكاد.

جفلتُ قليلًا من نَوعية التَّسلية التي يتمتَّع بها الطفل، لكنَّ ضحِكَ الأبِ جعلني أعتقد أنه ربما كان يمزَح.

ثم سألته: «مُهمَّتي الوحيدة إذن هي تولِّي مسئولية طفل وحيد. صحيح؟»

صاح قائلًا: «لا لا، ليست الوحيدة، أيَّتُها الشابَّة العزيزة.» وأردف قائلًا: «ستكون مُهمَّتك، وأنا مُتأكد من حُسن إدراكك، أن تُطيعي أيَّ أوامر بسيطة قد تُعطيها لكِ زَوجتي، شريطةَ أن تكون دائمًا هذه الأوامر تَليق بسيدةٍ مُطيعة. هل تَجدين أيَّ صعوبةٍ في ذلك؟»

«يَسرُّني المُساعدة.»

«جيِّد جدًّا. بالنسبة للملابس على سبيل المثال، نحن أناس يصعُب إرضاؤهم، كما تَعلمين، ولكنَّنا طيِّبون. فإذا طلبْنا منك أن تَرتدي أيَّ رِداءٍ قد نُعطيه لكِ، فهل ستعترِضين على هذه الرغبة البسيطة؟»

أجبتُ وأنا مُندهِشة لحدٍّ كبير مِمَّا قاله: «لا.»

«وهل سيُضايقكِ إن طلبْنا منكِ أن تجلسي هنا أو هناك؟»

«أوه، لا.»

«أو إن طلبْنا منكِ أن تَقُصِّي شَعرَكِ قبلَ أن تأتي؟»

كنتُ بالكاد أستطيعُ تصديق أُذنَيَّ! كما قد تُلاحِظ يا سيد هولمز، شَعْري غزير إلى حدٍّ ما، ويميل لونُه إلى درجةٍ مُميَّزة من اللون الكستنائي. إنه يُعتبَر جميلًا، ولم أكن أتخيَّل أن أُضحِّي به بهذه الطريقة الفظَّة.

فقلت: «أخشى أنَّ هذا مُستحيل تمامًا.» كان يُراقِبني بعينَيه الصغيرتَين بِتَوقٍ، ورأيتُ مسحةً من الحُزن ترتسِم على وجهه بينما كنتُ أتحدَّث.

وقال: «أخشى أنَّ ذلك أمرٌ ضروريٌ للغاية. إنها رَغبةٌ بسيطة لدى زَوجتي، ورغباتُ السيدات كما تعملينَ يا سيدتي، لا بُدَّ أن تُؤخَذ في الاعتبار؛ إذن لن تَقُصِّي شَعْرك. صحيح؟»

أجبتُ بحزم: «لا يا سيدي، لا يُمكنني حقًّا.»

«أوه، حسَنًا؛ إذن ذلك يحسِمُ الأمر. إنه أمرٌ مُؤسِف؛ إذ كنتِ ستُبلين بلاءً حسنًا في الجوانب الأخرى. في هذه الحالة يا سيدة ستوبر، أفضِّلُ أن أرى المزيد من السيِّدات الشابَّات اللاتي يرغبْنَ في العمل.»

كانت المُديرة تجلِس طوال هذا الوقت مُشتغِلةً بأوراقها دُون أن تقول كلمةً واحدة لأيٍّ مِنَّا، ولكنها نظرَتْ إليَّ الآنَ نظرةً سريعة وارتَسَم على وَجهها ضِيقٌ شديد؛ فلم يَسعْني سوى الشكِّ في أنَّ رَفْضي للعرْض قد أفقدَها الحصول على عُمولةٍ جيدة.

ثم سألتني: «هل تَرغبين في أن نَحتفِظ باسمك في السجلَّات؟»

«أجل، من فضلك يا سيدة ستوبر.»

«حسنًا، هذا حقًّا عديم الجدوى؛ إذ إنَّك تَرفُضين أفضلَ عرْضٍ لدَينا بهذه الطريقة.» هكذا قالت بحِدَّة. «لا يُمكنك أن تتوقَّعي منَّا أن نبذُل جُهدًا في أن نجِد لكِ عرضًا آخَرَ كهذا. يُومُك سعيد يا آنسة هانتر.» دقَّتْ جرَسًا على الطاولة، ثم قادَني المُساعد إلى الخارج.

حسنًا يا سيد هولمز عندما عدتُ إلى مَسكني ووجدتُ القليل من الطعام في الخِزانة، وفاتورتَين أو ثلاثًا على الطاولة، بدأتُ أسأل نفسي ما إن كنتُ قد فعلتُ شيئًا في غاية الحَماقة. في النهاية، إن كان هؤلاء الناس مَهووسين بأشياء غريبة ويتوقَّعون الطاعة في أكثر الأشياء غرابة، فعلى الأقلِّ كانوا مُستعدِّين للدفْع لقاء غَرابتهم. لا يحصُلُ سوى القليل جدًّا من المُربيات في إنجلترا على ١٠٠ جُنيه في السنة. إلى جانب ذلك، فماذا جلب لي شَعْري الغزير الطويل؟ الكثير من الناس يُصبِح مظهرهم أفضل بعد قَصِّهِ، وربما أكون ضِمن هؤلاء الناس. في اليوم التالي، بدأتُ أعتقد بأنَّني قد أخطأت، وفي اليوم الذي تلاه تأكدتُ من ذلك. كنتُ قد تغلبتُ على كبريائي تقريبًا فيما يخصُّ العودة لوكالة التوظيف والسؤال عمَّا إن كان العمل ما زال شاغرًا عندما تَسلَّمتُ هذه الرسالة من الرجل نفسه. إنها معي هنا وسأقرؤها لكَ:

كوبر بيتشيز بالقُرب من وينشستر

عزيزتي الآنسة هانتر: لقد تفضَّلتِ السيدة ستوبر بإعطائي عنوانك، وها أنا أكتُبُ إليكِ لأسألكِ ما إن كُنتِ قد أعدتِ النظر في قرارك أم لا. زَوجتي حريصة جدًّا على أن تأتي؛ لأنَّ وصفي لكِ قد جذَبَها كثيرًا. نحنُ مُستعدُّون أن نُقدِّم لكِ ٣٠ جُنيهًا في الثلاثة الأشهر، أو ١٢٠ جُنيهًا في السنة لنُعوِّضك عن أيِّ إزعاجٍ طفيف قد تُسبِّبه رغباتُنا لكِ، وهي ليست طلباتٍ مُرهقةً على أي حال. زَوجتي مُولَعة باللَّون الأزرق البرَّاق وترغَبُ في أن ترتدي ثَوبًا بهذا اللون في المنزل صباحًا. ومع ذلك، فلا داعيَ لأنْ تُرهِقي نفسك بتحمُّل نفقاتِ شِراء واحدٍ، إذ إنَّنا لدَينا ثوبُ ابنتِنا العزيزة ألِيس الموجودة الآن في فيلادلفيا، وهو ما أعتقِد أنه سيُناسبك تمامًا. أما بالنسبة لرغبتنا في أن تَجلسي هنا أو هناك، أو أن تَشغلي نفسك طبقًا لما تَقتضيه طلباتُنا، فلا أعتقِد أنَّ الأمر يستحقُّ أنْ يُسبِّب لكِ أيَّ إزعاج. أما فيما يتعلَّق بشعرك، فهو أمرٌ مُؤسِفٌ بلا شك، خاصَّةً أنَّني لم يَتسنَّ لي أن أُعَبِّرَ عن مدى جماله خلال مُقابلتنا القصيرة، ولكنَّني أخشى أنَّني سأظلُّ مُصرًّا على هذه النقطة، وأتمنَّى أن تُعوِّضَك زيادة الرَّاتب عن خسارته. أمَّا بالنسبة لِمَهامِّك الخاصَّة بالطفل، فهي مَهامُّ خفيفة للغاية. والآن حاوِلي أن تأتي، وسأُقابِلك بعربةٍ يجرُّها حصان في وينشستر. أخبريني بمِيعاد قطارك. مع خالص تحيَّاتي.

جيفرو روكاسل

هذا هو الخطاب الذي تلقَّيتُه للتوِّ يا سيد هولمز، وقد عقدتُ العزم على قَبول العرض. وعلى الرغم من ذلك فقد فكرتُ أن أضع المسألة برمَّتِها بين يديك للنظر فيها قبل أن أتَّخِذ أيَّ خطوة أخيرة.»

قال هولمز وهو يبتسم: «حسنًا يا آنسة هانتر، إن كنتِ قد قرَّرتِ بالفعل، فالأمر مَحسوم إذن.»

«ولكنَّكَ لن تَنصحَني أن أرفُض. صحيح؟»

«أعترِف أنه ليس العمل الذي أحبُّ أن تتقدَّم شقيقتي إليه.»

«ما معنى كلِّ ذلك يا سيد هولمز؟»

«أوه، ليس لديَّ بيانات، لا يُمكنني الجزْم. ربما تكونين قد كوَّنتِ رأيًا صحيحًا بالفعل؟»

«حسنًا، يبدو لي أنه ليس هناك سوى احتمالية واحدة. بدا أنَّ السيد روكاسل رجلٌ ودود شديد الطيبة. أليس من المُحتمَل أن تكون زَوجتُه مجنونة، وأنه يرغَبُ في أن يُبقي الأمر سِرًّا خَوفًا من أن تُنقَل إلى مصحَّةٍ عقلية، وأنه يُساير رغَباتِها بكلِّ طريقةٍ مُمكنة حتى يتجنَّبَ أيَّ ثَورةٍ مُحتمَلة؟»

«هذا أحدُ التفسيرات المُمكنة؛ في الواقع، هو التفسير الأرجَح حسبما تبدو عليه الأمور في الوقت الراهن. ولكن على أيِّ حال، لا يبدو أنه منزلٌ يليق بسيدة شابة.»

«ولكن المال يا سيِّد هولمز، المال!»

«حسنًا، الأجرُ جيِّد بالطبع؛ جيِّد على نحوٍ مُبالَغٍ فيه، وهذا هو ما يُقلِقني. لِمَ قد يدفعون لكِ ١٢٠ جنيهًا في السنة، بينما بإمكانهم أن يُوظِّفوا أيَّ مُربية أخرى لقاء ٤٠ جُنيهًا؟ لا بُدَّ أن يكون هناك سبب قوي وراء ذلك.»

«ظننتُ أنَّني إن أخبرتُك بالظروف كلها فستتفهَّمُ بعد ذلك رغبتي في مُساعدتِك. سأشعُر بثقةٍ أكبر بكثيرٍ إذا شعرتُ بأنَّك تُسانِدُني.»

«أوه، تأكدي من ذلك تمامًا. أؤكد لكِ أنَّ مشكلتك الصغيرة تُبشِّر بأن تكون أكثر قضية مُثيرة للاهتمام مَرَّت عليَّ منذ بضعة أشهر. هناك شيء ما غَير مألوفٍ يخصُّ بعض تفاصيلها. إن تشكَّكتِ أو وجدتِ نفسك في خطر …»

«خطر! ما هو الخطر الذي تتوقَّعه؟»

هزَّ هولمز رأسه بعبوسٍ وقال: «لن يُصبِح خطرًا إن تَمكنَّا من تحديده. ولكنَّني إن تلقيتُ منكِ برقيةً في أيِّ وقت، ليلًا أو نهارًا، فسآتي لمُساعدتك على الفور.»

«هذا يكفي.» هكذا قالتْ ونهضتْ بِسرعة من مقعدها وقد أغرَق القلق قسَمات وجهها. «سأذهب لهامبشير وأنا مُطمئنَّة الآن. سأكتُب للسيد روكاسل على الفور، وسأضحِّي بشعري المسكين الليلة وأتَّجِه إلى وينشستر غدًا.» ثم ودَّعتْنا مُوجِّهة بعض كلماتِ الامتنان لهولمز، وتمنَّت لنا ليلةً سعيدة، ومشت سريعًا.

وبينما كنَّا نَسمع وقعَ خطواتها السريعة الثابتة وهي تَهبِطُ الدَّرَج، قلت: «على الأقل، يبدو أنها شابَّة قادِرة للغاية على الاعتِناء بنفسها.»

قال هولمز بِعُبوس: «وهو ما ستحتاجه. سأكون مُخطئًا بشدَّة إن لم نسمَعْ أيَّ شيءٍ عنها قبل مرور أيام.»

لم يمْضِ وقتٌ طويل حتى تحقَّقتْ نُبوءة صديقي. مرَّ أسبوعان كنتُ كثيرًا ما أجدُ نفسي خلالهما أفكر فيها وأتساءل عن ماهية التجربة الإنسانية الغريبة التي توَرَّطتْ فيها هذه المرأة الوحيدة. الراتب الاستثنائي والشروط الغريبة والمهامُّ الخفيفة، كانت كلها تُشير إلى شيءٍ غير طبيعي. غير أنَّ تحديد ما إذا كان الأمر هوَسًا أو مَكيدة، أو ما إذا كان الرجل خيِّرًا أو شريرًا، كان يفُوق قُدراتي. أمَّا بالنسبة لهولمز، فقد لاحظتُ أنه كان يجلِسُ لمدَّة نِصف ساعة مُتواصلة مَعقود الحاجِبين وشاردَ الذهن، ولكنَّه كان يلوِّح بيدِه مُقلِّلًا من شأن الأمر كلما ذكرتُه. «معلومات! معلومات! معلومات!» هكذا كان يصيح بنفاد صبر، «لا يُمكنني أن أصنع الطُّوب من دُون طين.» إلَّا أنه كان ينتهي به الحال دائمًا وهو يُغمغِم قائلًا إنه إن كانت له أخت، فما كان يَنبغي أن تقبَلَ وَضعًا كهذا على الإطلاق.

وصلت البرقية التي تَسلَّمناها أخيرًا في وقتٍ مُتأخِّر من إحدى الليالي بينما كنتُ أوشِكُ على أن آوي إلى الفِراش، وكان هولمز يُحضِّر نفسه لقضاء ليلةٍ كاملة من الليالي التي كان يُكرِّسها للأبحاث الكيميائية التي كان ينخرِط فيها باستمرار، والتي كنتُ أتركه فيها مُنكبًّا على إحدى المُعوجَّات وأنابيب الاختبار في المساء، وأجِده في نفس الوَضْع عندما أنزل في الصباح لتناوُل الإفطار. فتح الظرف الأصفر وألقى نظرةً سريعة على الرسالة ثُمَّ ألقاه لي.

«تفَقَّد دليل قطارات برادشو.» هكذا قال ثُمَّ عاد لدراساته الكيميائية سريعًا.

كان استدعاؤها لهولمز مُوجَزًا ومُلحًّا.

أرجوك قابِلْني في فندق بلاك سوان في وينشستر ظهيرة غد. تعالَ أرجوك! أنا في حيرةٍ من أمري.

هانتر

سأل هولمز وهو ينظر لأعلى: «هل ستأتي معي.»

«أجل، أريدُ ذلك.»

«تفقَّد جدول القطارات إذن.»

«يُوجَد قطار سينطلِق في التاسِعة والنصف.» هكذا قلتُ وأنا ألقي نظرةً على دليل برادشو للقطارات، «سيصِل وينشستر في الحادية عشرة والنصف.»

«هذا مُناسب تمامًا. إذن ربما من الأفضل أن أؤجِّل تحليلي للأسيتونات، لأننا قد نحتاج لأن نكون في أفضل حالاتنا في الصباح.»

بحلول الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالي كنَّا في طريقِنا بالفعل إلى العاصمة الإنجليزية القديمة. كان رأس هولمز مَدفونًا في الصُّحف الصباحية طوال الطريق، ولكن بعد أن مرَرْنا بحدود هامبشير، ألقى بها وبدأ في الاستمتاع بالمناظر الطبيعية. كان يومًا ربيعيًّا مثاليًّا؛ سماء زرقاء فاتحة مُرقَّطة بسُحب بيضاء صغيرة صافية تتحرَّك من الغرب إلى الشرق. كانت الشمس مُشرقة للغاية، وعلى الرغم من ذلك كانت هناك قَرصةٌ من البرد تُقلِّل من طاقة الناس. ظهرت الأسطح الحمراء والرماديَّة الصغيرة لمَباني المَزارع من وسط اللون الأخضر الفاتح لأوراق الشجر الجديدة في جميع أنحاء الريف حتى التلال المُتموِّجة حول ألديرشوت.

«أليست جميلة ومُنعشة؟» هكذا صحْتُ بحماس شخصٍ كان يُعاني لتوِّهِ من ضباب شارع بيكر.

ولكن هولمز هزَّ رأسه بعُبوس.

وقال: «هل تعلم يا واطسون، هذه إحدى اللعنات التي يُعاني منها عقلٌ لا يهدأ مثل عقلي، فأربِط بين كلِّ شيءٍ أراه وبين المسألة التي أبحثُها. عندما تنظُر أنت إلى تلك البيوت المُتفرِّقة، يَبهرُك جمالها؛ أمَّا عندما أنظر أنا، فكلُّ ما أفكر فيه هو شعورٌ بِكَمْ هي مَعزولة، وبإمكانية ارتكاب جرائم فيها والإفلات دُون عِقاب.

صحتُ قائلًا: «يا إلهي! من ذا الذي يربِط بين الجريمة وبين هذه المنازل القديمة الجميلة؟»

«إنها دائمًا ما تُصيبني بشيءٍ من الرُّعب. أنا مُقتنِع يا واطسون بناءً على تجربتي أنَّ الجرائم التي تُرتكَب في أحقر أزقَّة لندن وأقذرِها لا تُضاهي في فظاعتها تلك التي تُرتكبُ في الريف الجميل اللطيف.»

«إنك تُفزعُني!»

«ولكن السبب شديد الوضوح؛ فضغْط الرأي العام في المُدن قد ينجح في تحقيق ما يفشل فيه القانون. لا يُوجَد زقاق مهما كانت حقارَته لا تستدرُّ فيه صرخة طفلٍ مُعذَّبٍ أو صوت وقوع سكِّير أرضًا بعدما تلقَّى ضربة، تَعاطُفَ الجيران وتُثير سخَطَهم، وحينئذٍ تُصبِح كل آليات العدالة مُتاحةً بحيث إنَّ كلمةً واحدة قد تُحرِّكها، فلا يفصل بين ارتكاب الجريمة وقفص الاتهام سوى خُطوة واحدة. ولكن انظر لهذه البيوت المُوحِشة، كُلٌّ في حقلِه الخاص، والتي يَسكنها في الغالب أناس فقراءُ جُهَلاء لا يَعلمون سوى القليل عن القانون. فكِّر في الأعمال الوَحشيَّة الشَّيطانية والشرِّ الخَفيِّ الذي يُمكن أن يستمرَّ عامًا وراء عام في أماكن كهذه، وما خَفِيَ كان أعظم. إن كانت هذه السيدة التي طلبتْ منَّا المُساعدة قد ذهبت إلى وينشستر، ما كنتُ لأخاف عليها مُطلقًا. أمَّا هذه الخمسة الأميال في الريف فهي ما تُمثِّل خطرًا حقيقيًّا. ومع ذلك، فمِنَ الواضح أنها ليست مُهدَّدة شخصيًّا.»

«لا، إن كانت تقدِر على أن تأتي لمُقابلتِنا في وينشستر، إذن يُمكنها الهرب.»

«بالضبط، إنها تتمتَّع بِحُريَّتها كاملة.»

«فماذا يُمكن أن يكون الأمر إذن؟ هل تقترِح أيَّ تفسير؟»

«لقد فكرتُ في سبعة تفسيرات مُختلفة، يُغطي كلٌّ منها الحقائق كما نعرِفها. ولكن لن يُحدِّد مدى صحة أيٍّ منها سوى المعلومات الجديدة التي سنَجِدُها في انتظارنا بلا شك. حسنًا، ها هو برج الكاتدرائية، وسنعلَمُ قريبًا كلَّ شيءٍ من الآنسة هانتر.»

إن نُزُل بلاك سوان نُزُلٌ شهيرٌ في الشارع الرئيسي، على مسافةٍ قريبةٍ من المحطة، وهناك وجدْنا الآنسة الشابَّة في انتظارنا. كانت تجلِس في إحدى قاعات الجلوس، وكان الغداء جاهزًا على الطاولة.

قالت بحماس: «أنا في غايةِ السعادة بمَجيئكم. إنه لُطفٌ شديد منكم، ولكنَّني لا أعلم ما يتوجَّبُ عليَّ فعله. ستكون نَصيحتُك لا تُقدَّر بثمنٍ بالنسبة لي.»

«أخبرينا بما حدَث لكِ أرجوكِ.»

«سأفعل، ويجِبُ أنْ أُسرِع؛ إذ إنَّني وعدتُ السيد روكاسل أن أعود قبل الثالثة. أخذتُ إذنه أن آتي إلى المدينة هذا الصباح، ولكنه لا يَعلم شيئًا عن سبب قُدومي.»

قال هولمز: «لنضعِ النِّقاط على الحروف إذن.» هكذا قال ثُمَّ مدَّ ساقَيه الطويلتَين النَّحيلتَين إلى الأمام نحوَ نِيران المدفأة وهيَّأ نفسه للإنصات.

«أولًا، يُمكنني القول إنَّني لم ألقَ أيَّ سوء مُعاملة من السيد والسيدة روكاسل في المُجمل. من الإنصاف لهما أن أقول ذلك، ولكنَّني لا أستطيع فَهمَهما ويُثيران قلقي.»

«ما الذي لا يُمكنكِ فهمُه؟»

«أسباب سلوكهما. ولكنَّني سأخبرُك بكلِّ شيءٍ كما حدَث تمامًا. عندما أتيت، استقبَلَني السيد روكاسل هنا واصطحَبَني في عربةٍ يجرُّها حصان إلى كوبر بيتشيز. إنه مكان جميل كما قال، ولكن المنزل في حدِّ ذاته ليس كذلك؛ فهو عبارة عن كُتلة كبيرة مُربعة مَطليَّة بماء الكلس، ولكنها مُلطَّخة وتَمتلِئ بالبُقَع التي تُخلِّفها الرُّطوبة والجوُّ السَّيِّئ. تُوجَد أفنِيَة حوله، وأشجار على ثلاثة جوانب، ويُوجَد على الجانب الرابع حقل ينحدِر نزولًا إلى طريق ساوثامبتون السريع، وينعطِفُ على بُعدِ حَوالي مائة ياردة من الباب الأمامي. يتبع الفناء الأمامي المنزل، أما الأشجار التي تُحيط به فهي جُزء من مُمتلكات اللورد ساذرتون. وقد سُمِّي المكان نسبة إلى مجموعة من أشجار الزان النُّحاسية اللون (كوبر بيتشيز) التي تُوجَد أمام باب الرَّدهة مُباشرةً.

أقلَّني السيد روكاسل، وكان في غاية اللطف، وعَرَّفَني ذلك المساء على زَوجته وابنه. لم تثبُت صحَّة التَّخمين الذي بدا لنا مُحتَملًا يا سيد هولمز في منزلك ببيكر ستريت. فالسيدة روكاسل ليست مجنونة؛ بل وجدتُ أنها امرأة صامتة ذات وجهٍ شاحِب، وأصغر كثيرًا من زَوجها، إذ لا يَتجاوز عُمرها ثلاثين عامًا، كما أعتقد، بينما لا يقلُّ عمره عن خمسةٍ وأربعين عامًا. استنتجْتُ من مُحادثاتِهما أنهما مُتزوِّجان منذ حوالي سبع سنوات، وأنه كان أرْملَ، وأنَّ طِفلته الوحيدة من الزَّوجة الأولى كانت ابنَته التي سافرَتْ إلى فيلادلفيا. أخبرتْني السيدة روكاسل على انفرادٍ أنَّ السببَ وراء سفر ابنته هو أنها كانت تنفِر من زَوجة أبيها نُفورًا غير مُبرَّر. وبما أن ابنته لم يكن عُمرها ليقلَّ عن عشرين عامًا، فيُمكِنُني أن أتخيَّل أنَّ وضعها لا بُدَّ أنه كان غير مُريح في وجود زَوجة أبيها الشابَّة.

لم يكن هناك أيُّ شيءٍ يُميِّز السيدة روكاسل كما بدا لي، لا في طريقة تفكيرها ولا في مَظهرها؛ فهي لم تُبهِرني لا سلبًا ولا إيجابًا؛ كانت نَكِرة. كان من السهل مُلاحظة كَمْ كانت شديدةَ الإخلاص لزَوجها وابنها الصغير. كانت عَيناها الرَّمادِيَّتان الفاتِحَتان تتنقَّلان باستمرارٍ من زَوجها لابنها، وتَرصُدان كلَّ رغبةٍ صغيرة قد يُريدانِها وتُهرَع لتلبيتِها إن أمكن. أما هو فقد كان لطيفًا معها بأسلوبه الوَدود الصَّاخِب، وقد بدا أنهما زَوجان سعيدان في المُجمَل. وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت هذه المرأة تُخبِّئ حُزنًا دفينًا بداخلها؛ فغالبًا ما تكون غارقةً في التفكير ويرتَسِم على وجهها نظرةُ حزنٍ عَميق. كما أنني رأيتُها على حينِ غرَّةٍ أكثر من مرَّةٍ وهي تبكي. كنتُ أفكِّر أحيانًا في أنَّ سلوك طفلها هو ما أثقلها بالهموم، إذ إنَّني لم يَسبِقْ أنِ التقيتُ مَخلوقًا صغيرًا مُدلَّلًا ومُشاكسًا كهذا. إنَّ حجمَهُ صغير بالنِّسبة لسِنِّه، ورأسه ضخم لا يُناسِبُ حجمَه، وهو يقضي حياتَهُ كلَّها إمَّا في نَوباتِ غضبٍ وحشيَّة أو في فتراتٍ من العُبوس والحُزن. وفكرتُه الوحيدة عن التَّسلية كما يبدو، هي تَعذيب أيِّ مخلوقٍ أضعفَ منه، كما أنه يُظهِر موهبةً استثنائية في التَّخطيط للإمساك بالفئران والعصافير الصغيرة والحَشَرات. ولكنَّني أُفضِّل ألَّا أتحدَّث عن هذا المخلوق يا سيد هولمز، كما أنه لا علاقة له بقِصَّتي لا من قريبٍ ولا من بعيد.»

عَلَّقَ صديقي قائلًا: «أنا سعيد بكلِّ هذه التفاصيل، سواءً أكانت تبدو ذات صلةٍ لكِ أم لا.»

«سأحاول ألَّا أُغفِلَ أيَّ تفصيلةٍ مُهمة. الشيء الوحيد غير المُريح في المنزل، والذي أذهلَني على الفور، هو مظهر الخدَم وسلوكهم؛ لا يُوجَد سوى خادِمَين فقط، رجلٌ وزَوجته. اسمه تُولر، وهو رجل فظٌّ خشِنٌ أشيَبُ الشَّعر والذقن، وتفوح منه رائحة الخمر دائمًا. وجدتُه مخمورًا بشدَّة مرَّتَين منذ أن بدأتُ العمل، ومع ذلك فقد بدا أنَّ السيد روكاسل لم يُلاحظ ذلك. أما زوجة تولر فقد كانت فارعة الطول قويَّةً عابِسة الوجه، وصامتة كالسيِّدة روكاسل تمامًا، ولكن أقلَّ ودًّا منها بكثير. إنهما زَوجان شديدا التَّعاسة، ولكنَّني أقضي مُعظم وقتي، لحُسن الحظ، في غرفة الأطفال وفي غرفتي الخاصَّة، وكلتاهما مُتجاورتان وتقَعان في ركنٍ من أركان المبنى.

كانت حياتي هادئة جدًّا لمدة يَومَين بعد وصولي إلى كوبر بيتشيز؛ أمَّا في اليوم الثالث، فقد نزلَتِ السيدة روكاسل بعد الإفطار مُباشرة وهمَسَتْ بشيءٍ لزَوجها.

فقال وهو يلتفتُ ناظرًا إليَّ: «أوه، أجل، إنَّنا في غاية العِرفان لكِ يا آنسة هانتر على تلبيَتِك لرغباتنا فيما يتعلَّقُ بقصِّ شعرك؛ أؤكد لكِ أنه لم ينتقِص ذرَّةً من جمال مظهرك. سنرى الآن إن كان الثوب الأزرق البرَّاق سيُناسِبُك. ستَجدينه موضوعًا على السرير في غرفتك، وسنكون في غاية الامتِنان إن تكرَّمتِ بارتِدائه.»

كان الثوب الذي جهَّزوه لي ذا لونٍ أزرقَ مُميَّزٍ، وكان مصنوعًا من مادَّةٍ مُمتازة، نوع من أنواع الصُّوف الطبيعي، ولكنه كان به علاماتٌ لا تُخطِئها عَين بأنه قد تَمَّ ارتداؤه من قبل. لم يكن هذا الثَّوبُ لِيُناسِب مقاسي على هذا النحو إن كان قد فُصِّلَ لي خصيصًا. أبدى كلٌّ من السيِّد والسيدة روكاسل إعجابًا شديدًا بمظهري وأنا أرتديه، وهو ما قد بدا إعجابًا مُبالغًا في شدَّتِه. كانا يَنتظرانِني في غُرفة الاستقبال، والتي كانت كبيرة جدًّا بحيث إنها تمتدُّ بطول واجهة المنزل بأكمله ولها ثلاث نوافذ طويلة تمتدُّ إلى الأرض. كان قد وُضِعَ مقعدٌ بالقُرب من النافذة الوسطى وظهره يُقابلها. طلبوا منِّي أن أجلس على هذا المقعد، ثم بدأ السيد روكاسل وهو يَذرَع الغرفة ذهابًا وإيابًا يَقُصُّ عليَّ مجموعةً من أطرف القصص التي سمِعتُها على الإطلاق. لا يُمكنك أن تتخيَّل كم كان مُضحكًا! فظللتُ أضحكُ حتى أصابَني التَّعَب. أما السيدة روكاسل على الجانب الآخر، التي كانت تفتقِر لحسِّ الدُّعابة بوضوح، فلم تبتَسِم، بل جلستْ واضعةً يدَيها على رُكبَتَيها، وعلى وجهها نظرةٌ حزينة قلِقَة. بعد ساعةٍ أو نحو ذلك، قال السيد روكاسل فجأةً إنه قد حان الوقت للشُّروع في مهامِّ اليوم، وإنه يُمكنني أن أُغيِّر ثوبي وأذهب لإدوارد الصغير في غُرفته.

بعد ذلك بيومَين، قام بالأداء نفسه في ظروفٍ مُشابِهة تمامًا. ومرة أُخرى بدَّلتُ ثَوبي وجلستُ على المقعد بالقُرب من النافذة وضحكتُ بحرارةٍ شديدة على القصص المُضحكة التي كان لدى السيد روكاسل مخزونٌ ضخم منها، والتي كان لا يُضاهِيه في قَصِّها أيُّ شخص. بعد ذلك، سلَّمني روايةً ظهر غلافها أصفر، وحَرَّكَ مقعدي إلى الجانب قليلًا، بحيث لا يَقَعُ ظِلِّي على الصفحة، وطلب منِّي أن أقرأ له بصوتٍ عالٍ. قرأتُ لمدَّةِ عشر دقائق تقريبًا، وبدأتُ القراءة من مُنتصف الفصل، ثم فجأة، وأنا في مُنتصف الجملة، أمرَني أن أتوقَّف وأن أذهب لتغيير ثَوبي.

يُمكِنك أن تتخيَّل بسهولةٍ يا سيد هولمز مدى الفضول الذي اعتراني بشأن ما قد يَعنيه هذا السلوك الغريب. لقد كانوا في شدَّة الحِرص، كما لاحظتُ، على أن يكون وَجهي مُشيحًا عن النافذة، بحيث مَلأتْني رغبةٌ محمومة أن أرى ما كان يجري خلف ظهري. بدا الأمر مُستحيلًا في البداية، لكنني سُرعان ما وجدتُ وسيلة. كانت مرآة يدي مكسورة، فتملَّكتْني فِكرة مُبهِجة وأخفيتُ جُزءًا من المرآة في منديلي. في المرة التالية، وبينما كنتُ أضحك بحرارة، رفعتُ منديلي ووضعتُه على عَيني، وتمكنتُ بالقليل من التعديل أن أرى كلَّ ما كان يحدُث خلفي. أعترِف أن خيبة الأمل قد أصابتْني، فلم يكن هناك أيُّ شيء. على الأقلِّ كان هذا هو انطباعي الأول، ولكن عندما نظرتُ ثانية رأيتُ رجلًا يقِف في طريق ساوثامبتون. رجل مُلتحٍ صغير الحجم يرتدي بدلةً رماديَّة، بدا كأنَّهُ ينظر في اتِّجاهي. إنه أحد الطرق السريعة المهمَّة، وعادة ما يُوجَد أناس هناك. إلَّا أن هذا الرجل كان يستنِد على السور الذي يُطوِّقُ حقلَنا وكان ينظر بِتَوقٍ لأعلى. خفضتُ منديلي وألقيتُ نظرةً خاطفة على السيدة روكاسل، فوجدتُ عينَيها مُثبَّتَتين عليَّ وهي تُحدِّق فيَّ مُتفحِّصة. لم تَقُل أيَّ شيء، ولكنني مُقتنِعة أنها تنبَّأتْ أنَّني أُمسِكُ بمرآةٍ في يدي، وأنَّني قد رأيتُ ما يُوجَد خلفي؛ فنهضَتْ في الحال.

وقالت: «جيفرو، يُوجَد رجلٌ وقِحٌ يقِف على الطريق هناك ويُحدِّق في الآنسة هانتر.»

فسألني: «هل هذا أحدُ أصدقائك يا آنسة هانتر؟»

«لا، أنا لا أعرِف أيَّ شخصٍ في هذه الأنحاء.»

«يا إلهي! يا لَوَقاحَتِه! أرجوكِ التفِتي إليه ولَوِّحي له أن يذهب بعيدًا.»

«من الأفضل بلا شكٍّ ألَّا نُعيرَه أيَّ انتباه.»

«لا، لا، لا يَجِبُ أن نَترُكه يتسكَّع هنا باستمرار. استديري أرجوكِ ولوِّحي له هكذا أن يذهب.»

فعلتُ كما أخبرَتْني، وفي اللحظة نفسها أغلقتِ السيدة روكاسل الستائر. كان ذلك منذ أسبوع، ومنذ ذلك الوقت لم أجلس عند النافذة، ولم أرتدِ الثوب الأزرق مرَّةً أخرى، ولا رأيتُ الرجل ينتظِر على الطريق.»

قال هولمز: «أكملي أرجوكِ، تُبَشِّر حكايتُك أن تكون شديدة الإثارة.»

«أخشى أنك ستَجِد أنَّ الحكاية غير مُترابِطة، وقد يَتبيَّن أنه لا يُوجَد سوى علاقة طفيفة بين الوقائع المُختلفة التي سأحكيها. في يومي الأول في كوبر بيتشيز، أخذتْني السيدة روكاسل لمبنًى خارجي صغير بالقُرب من باب المطبخ. وعندما اقتربْنا منه، سمعتُ صوت صليل مِنشار، وصوتًا آخَرَ كأنَّه حَيوان كبير يتحرَّك.»

«انظري إلى هذا!» هكذا قالت السيدة روكاسل وهي تُريني شقًّا بين لَوحَين. ثم أردفت: «أليس جميلًا؟»

نظرتُ من خلاله ولاحظتُ زَوجًا من العُيون المُتوهِّجة، وشكلًا مُبهمًا مُكوَّمًا في الظلام.

«لا تخافي.» هكذا قالت رَبَّة عملي وهي تَضحك عليَّ عندما جفلتُ. «إنه كارلو، كلبي الماستيف. إنه كلبي اسمًا، ولكنَّ سائِسنا تُولَر العجوز هو الوحيد الذي يستطيع التعامُل معه. لا نُطعمه سوى مرة واحدة في اليوم، ولا نُعطيه الكثير من الطعام حتى يكون مُفعمًا بالنشاط دائمًا. يُطلقه تولر كلَّ ليلة. وليُساعِدِ الربُّ المُعتديَ الذي سيُطبِقُ أنيابه عليه. أتوسَّل إليكِ ألَّا تطأ قدمُك عتبة الباب ليلًا تحتَ أيِّ ظرفٍ مهما كان، فقد يُكلِّفك ذلك حياتك.»

لم يكن تحذيرها مُبالغًا فيه؛ إذ إنَّني بعد ليلتَين لاحِقَتَين حدَث أن نظرتُ من نافذة غُرفة نَومي في حوالي الساعة الثانية فجرًا. كانت ليلةً جميلة يَسطعُ فيها ضوء القمر ويعكس ضوءه على العُشب الموجود أمام المنزل، فبدا فِضِّيًّا لامعًا كلَمَعان ضوء النهار. كنتُ أقف مُستغرقةً في الجمال الهادئ للمنظر، عندما أدركتُ أنَّ شيئًا ما كان يتحرَّك أسفل ظلِّ أشجار الزَّان، وعندما ظهر في ضوء القمر رأيتُ ماهيَّتَه. كان كلبًا ضخمًا في حجم العِجْل، يَميل إلى اللَّونِ البرونزي، ذا فكٍّ مُتهدِّلٍ وخطمٍ أسود وعظام ضخمة بارزة. كان يسير ببطء عبر العُشب، واختفي في الظلِّ في الجهة الأخرى. ألقى شكل هذا الحارس المُفزِع بالرُّعبِ في قلبي، رُعبٌ لا يُمكن أن يَتسبَّب فيه أيُّ لِص.

والآنَ لديَّ شيء غريب جدًّا لأُخبِرك به. لقد قصصتُ شعري في لندن كما تعلم، ووضعتُه في بَكَرةٍ كبيرة في قاع حقيبَتي. في إحدى الليالي بعد أن أوى الطفلُ إلى الفراش، بدأتُ أُسلِّي نفسي بفحص أثاث غُرفتي وبإعادة ترتيب مُتعلَّقاتي البسيطة. وجدتُ صندوقَ أدراجٍ قديمًا في الغرفة، كان الدُّرْجان العُلويَّان مفتوحين وفارغَين، وكان الدُّرْج السُّفليُّ مُقفلًا. وضعتُ ملابسي في الدُّرجَين العُلويَّين حتى امتلآ. وبما أنَّني كان لا يزال لديَّ الكثير لأضعه، كان من الطبيعي أن أنزعج لعدم قُدرتي على استخدام الدُّرج الثالث. فكَّرتُ في أنه قد يكون قد أُقْفِلَ سهوًا، فأخرجتُ سلسلةَ مَفاتيحي وحاولتُ فتحَه. ناسَبَ المِفتاحُ الأول القُفل تمامًا، وفتحتُ الدُّرْج. لم يكن فيه سوى شيءٍ واحد، ولكنَّني مُتأكِّدة من أنك لن تُخمِّن أبدًا ما هو هذا الشيء. لقد كانت بَكرة شعري المقصوص.

أخذتُها وفحصتها؛ كان لونُه نفس الدَّرَجة المُميزة من اللون الكستنائي، وله سُمك شعري نفسه. ولكن استحالة الأمر تَملَّكتْني، فكيف يُمكن أن يكون شعري مُقفلًا عليه في الدُّرْج؟ فتحتُ حقيبتي بيدَين مُرتعِشتَين وأفرغتُ مُحتوياتِها وسحبتُ بكرةَ شعري من قاعها. وضعتُ خُصلتَي الشَّعر إلى جانب بعضهما، وأؤكد لكَ أنَّهُما كانتا مُتطابِقَتَين. أوليس أمرًا غريبًا؟ كانت الحيرة تَملؤني بحيثُ لم أتمكَّن من فكِّ لُغز الأمر برمَّتِه. أعدتُ الشَّعر الغريب إلى الدُّرْج، ولم أقُلْ عن الأمر شيئًا للسيد والسيدة روكاسل، إذ إنَّني شعرتُ أنَّني قد ارتكبتُ خطأً بفتحي لدُرجٍ كانا قد أغلَقاه.

أنا سريعة المُلاحظة بطبيعتي، كما قد تكون لاحظتَ يا سيد هولمز، وسُرعان ما رسمتُ خريطةً جيدة للمنزِل بأكمِلِه في عقلي. ومع ذلك، فقد بدا أنَّ هناك جناحًا واحدًا لم يكن يَسكنه أيُّ شخصٍ على الإطلاق. كان هناك بابٌ يُفضي إلى هذا الجناح ويقَع في مُقابل الباب الذي يُفضي لمسكن السيد والسيدة تولر، ولكنَّه كان مُغلقًا باستمرار. ولكن في يومٍ قررتُ أن أصعَدَ السُّلَّم، فقابلتُ السيد روكاسل في طريقي وهو يخرُج من هذا الباب ويحمِل مفاتيحه في يدِه وقد ارتسمتْ على وجهه نظرةٌ جعلته يبدو شخصًا مُختلفًا للغاية عن الرجل المُبتسِم الذي اعتدتُ عليه. كانت وجنتاه حَمراوَين وحاجِباه مَعقودَين غضبًا والعُروق تنفِر من جَبينِه انفعالًا. أغلق الباب ومرَّ أمامي دُون أن ينظُر إليَّ أو ينبِس ببنتِ شَفة.

أثار هذا فُضولي، لذا عندما خرجتُ للتنزُّه في الفناء وأنا أحمل الطفل، سرتُ إلى الجانب الذي سأتمكن خلالَه من رُؤية نوافذ هذا الجُزء من المنزل. كانت هناك أربع نوافذ مُتتالية، ثلاثٌ منها كانت مُتَّسِخة، بينما كانت النافذة الرابعة مُغلقة؛ كان من الواضِح أنها جميعًا مَهجورة. وبينما كنتُ أذرَعُ الفناء جيئةً وذهابًا وأنا أُلقي عليها نظرةً خاطفة أحيانًا، خرج السيد روكاسل نحوي، وهو يبدو مَرِحًا ومُبهِجًا أكثر من أيِّ وقت.

قال: «أوه! مِن المُؤكَّد أنك تَظنِّين أنَّني تصرفتُ بشكلٍ وقحٍ حينَ مَررتُ إلى جانِبِك دُون أن أقول أيَّ شيءٍ يا سيِّدَتي العزيزة؛ فقد كنتُ مَشغولًا بأمورٍ تتعلَّق بالعمل.»

أكدتُ له أنَّني لم أشعُر بأيِّ إهانة، وقلت: «بِالمُناسَبة، يبدو أنك لدَيْكَ مجموعة من الغُرَف الإضافية بالأعلى، ونافذة إحداها مُغلَقة.»

بدا مُتفاجئًا ومَذهولًا بعضَ الشيء من المُلاحظة التي أبديتُها.

قال: «التصوير الفوتوغرافي هو إحدى هُواياتي. لقد جهَّزتُ غرفة مُظلمة لهذا الغرَض بالأعلى. ولكن يا إلهي! لقد صادفتْنا شابَّةٌ دقيقة المُلاحَظة بحق، من كان سيصدِّقُ ذلك؟ من كان سيُصدِّق ذلك على الإطلاق؟» كان يتحدَّث بنبرةٍ مازِحة، ولكن نظرة عينَيه وهو ينظر إليَّ لم تكن كذلك. وجدتُ في نظرته الشكَّ والانزِعاج، ولم يكن فيها أيُّ دُعابة.

حسنًا، منذُ هذه اللحظة يا سيد هولمز فهمتُ أنَّ هناك شيئًا ما يتعلَّق بهذه الغُرَف لم أكن أعرِفه، وكنتُ أتحرَّقُ شوقًا لدخولها. لم يكن الأمر مُجرَّدَ فضول، على الرغم من أنَّني فضوليَّة لا أُنكِر ذلك، بل كان شعورًا بالمسئولية؛ شعورًا أنَّ دخولي هذا المكان قد يَجلُب بعض الخير. إنهم يَتغنَّون بغريزة المرأة؛ ربما كانت غريزة المرأة هي ما أعطتْني هذا الشعور. كان الشعور موجودًا على أيِّ حال، وكنتُ أترقَّبُ بِحِرصٍ شديد أيَّ فرصةٍ لأَمُرَّ من الباب المُحَرَّم.

لم تُواتِني هذه الفُرصة سوى أمس فحسب. يُمكنني أن أخبرك أنه بخلاف السيد روكاسل، فإن كل من تولر وزوجته يفعلان شيئًا ما في هذه الغرف المهجورة، وقد رأيتُه ذات مرَّةٍ يحمِل معه حقيبة كبيرة من القماش الأسود وهو يَمرُّ من الباب. كان يُفرِط في الشَّراب مُؤخَّرًا، وقد كان ثَمِلًا ليلةَ أمس؛ وعندما صعدتُ بالأعلى وجدتُ المفتاح في الباب. ليس لديَّ أيُّ شكٍّ على الإطلاق أنَّهُ قد ترَكه هُناك. كان كلٌّ من السيد والسيدة روكاسل في الطابق السُّفلي وكان الطفل مَعهما؛ لذا كانت لديَّ فرصة رائعة. أدرتُ المفتاح بِرفقٍ في الباب وفتحتُه وتسلَّلتُ عبْرَه.

وجدتُ مَمرًّا صغيرًا أمامي جُدرانه غير مكسوَّةٍ بوَرَق الحائط وأرضيتُه تخلو من السجَّاد وينعطِف إلى اليمين في نهايته. كان هناك ثلاثة أبواب مُتتالية عند هذه الزاوية، وكان أولها وثالثها مَفتوحَين. كان كلاهما يُفضي لغُرفتَين فارغتَين مُترِبَتَين وكئيبتَين، في كلِّ واحدةٍ منهما نافذة تتراكم عليها أوساخ كثيفة، حجبتْ ضوء المساء فلم يتسلَّلْ منه إلَّا قدرٌ خافِت. كان الباب الأوسط مُوصدًا، وبطوله كان مُثبَّتًا عليه واحدٌ من القضبان العريضة لأحد الأسِرَّة الحديدية ومُقفلًا عند إحدى نهاياته بحلقةٍ مُثبَّتة في الحائط، ومعقودًا بحبلٍ قوي من الجهة الأخرى. كان الباب نفسه مُوصدًا كذلك، ولم يكن به مفتاح. تَوافَقَ هذا الباب المَتروس تمامًا مع النافذة المُغلَقة التي رأيتُها بالخارج، إلَّا أنَّني عرفتُ من بصيص الضوء الذي يخرج من أسفل الباب أنها لم تكن مُظلمة. كان من الواضح أنه تُوجَد كوَّة تسمح بدخول الضوء من الأعلى. بينما كنتُ أقف في المَمرِّ أُحدِّق بالباب المشئوم وأتساءل عن السرِّ الذي يُخفيه وراءه، سمعتُ فجأةً صوت خطواتٍ داخل الغرفة ورأيتُ ظلًّا يمرُّ إلى الأمام وإلى الخلف من خلال شريط الضوء الصغير الخافِت الذي كان يأتي من خلف عتبة الباب. انتابني خَوفٌ جُنونيٌّ غير منطقي عند رؤية ذلك يا سيد هولمز، وخانتْني أعصابي المُرتعِبة فجأة، فاستدرتُ وركضت؛ ركضتُ كما لو أنَّ يدًا مُروِّعةً كانت تُلاحِقُني وتُحاوِلُ الإمساك بتنُّورة ثَوبي. هُرِعتُ بطول المَمر، عبر الباب، نحو ذراعَي السيد روكاسل الذي كان ينتظر بالخارج.

«حسنًا.» هكذا قال وهو يبتسِم، «كُنتِ أنتِ إذن. لقد فكرتُ في أنَّهُ لا بُدَّ أن تكوني أنتِ عندما رأيتُ الباب مفتوحًا.»

قلتُ لاهِثة: «أوه، أنا مُرتعِبة!»

«أوه يا شابَّتي العزيزة! أوه يا شابَّتي العزيزة!» لا يُمكنك أن تتخيَّل كم كانت طريقتُه حَنُونةً وتَبْعَثُ على الهدوء، «وما الذي أخافَكِ يا شابَّتي العزيزة؟»

ومع ذلك، فقد كان صوتُه مُتصنَّعًا؛ كان يُبالِغُ في إظهار الحنان، فكنتُ حريصةً على تَوخِّي الحذَر منه.

أجبتُه قائلة: «كنتُ حمقاء بما يكفي لدُخول الجناح الفارغ. ولكنَّه كان مُوحشًا بِشدَّة ومُخيفًا في هذا الضوء الخافت، فشعرتُ بالخَوف وركضتُ إلى الخارج مرَّةً أخرى. أوه، إنَّ الصمت قاتل هناك!»

قال وهو ينظرُ إليَّ مُتفحِّصًا: «هذا فحسب؟»

فأجبتُه: «لماذا؟ ما الذي ظننْتَه؟»

«لِمَ تعتقدين أنَّني أوصِدُ هذا الباب؟»

«أنا لا أعلم على الإطلاق.»

«لأمنعَ من ليس لهم شأنٌ من الدخول. هل تَرَينَ ما أعني؟» كان لا يزال مُبتسِمًا بِودٍّ شديد.

«تأكَّد أنَّني لو كنتُ أعلم …»

«أنتِ تعلمين الآن. إن وضعتِ قدمًا على تلك العتَبَةِ مرَّة أخرى …» — وهنا في لحظةٍ قَسَتِ ابتسامتُه الحنونة وتحوَّلتْ إلى تكشيرةٍ غاضبة ونظرَ إليَّ والشَّرَر يتطايَرُ من عَينِه فصار وجهه كوجهِ الشيطان — «سأُلقي بكِ إلى كلب الماستيف.»

كنتُ أشعُر بالهلَع الشديد بحيث إنَّني لا أعرف ما الذي فعلته. أعتقد أنَّني تَجاوزتُه مُندفعة نحو غُرفتي. لا أتذكر أيَّ شيءٍ حتى وجدتُ نفسي مُستلقيةً على سريري وأنا أرتعِدُ من رأسي حتى أخمص قدمي. فكرت فيك حينئذٍ يا سيد هولمز، لم يعُد يُمكِنُني العَيش هناك دون بعض النُّصح. لقد كنتُ خائفة من المنزل ومن الرجل وزوجته ومن الخدَم، وحتى من الطفل. كانوا جميعهم مُروِّعين بالنسبة لي. فقط لو كان يُمكنني أن أصطحِبك معي لكان كلُّ شيءٍ سيصير على ما يُرام. كان يُمكنني بالتأكيد أن أهرُب من المنزل، ولكنَّ فضولي كان بنفس قوَّةِ مَخاوفي. لذا عقدتُ العزمَ سريعًا على أن أُرسِلَ لك تلغرافًا، فارتديتُ قُبَّعتي وعباءتي وذهبتُ إلى مكتب البريد الذي يبعُد حوالي نِصف ميلٍ من المنزل، ثم عدتُ وأنا أشعر بالراحة الشديدة. راوَدَني شكٌّ رهيب عندما اقتربتُ من الباب خوفًا من أن يكون الكلب طليقًا، ولكنَّني تذكرتُ أن تولر كان قد أفرَطَ في الشراب حتى الثَّمَل ذلك المساء وأنه كان الشَّخص الوحيد في المنزل الذي يستطيع التحكُّم في هذا المخلوق المُتوحِّش أو أن يُطلِق سراحه. تَسلَّلتُ في أمانٍ، ولم أتمكَّن من النوم مُعظمَ الليل من فرْطِ سُروري لأنَّني سأراك. لم أجد صعوبةً في الحصول على إذنٍ للقُدوم إلى وينشستر هذا الصباح، ولكنَّني لا بُدَّ أن أعود قبل الثالثة عصرًا؛ لأن السيد والسيدة روكاسل سيقومان بزيارةٍ وسيَغيبان المساء كله، ومن ثَمَّ لا بُدَّ أن أعتني بالطفل. والآن ها قد أخبرتُك بكلِّ مُغامراتي يا سيد هولمز، وسأكون في غاية السعادة إن كنتَ تستطيع أن تُخبِرَني بمعنى كلِّ ذلك. والأهمُّ، بما يتَوَجَّب عليَّ فعله.»

استمعتُ أنا وهولمز إلى هذه القصة الاستثنائية في ذهول. نهضَ صديقي وأخذ يَذرَعُ الغرفة جَيئةً وذَهابًا ويداه في جُيوبه وترتسِم الجِدِّيةُ الشديدة على وجهه.

سأل قائلًا: «هل لا يزال تولر مخمورًا؟»

«أجل، لقد سمعتُ زوجته وهي تُخبِر السيدة روكاسل أنها لم تتمكَّن من إفاقته.»

«هذا جيد، وسيخرُج آل روكاسل الليلة. أليس كذلك؟»

«بلى.»

«هل يُوجَد قَبوٌ في المنزل ذو قفلٍ جيد؟»

«أجل، قَبو النَّبيذ.»

«لقد تصرَّفتِ في خِضمِّ كلِّ هذه الأحداث، كما يبدو لي، بشجاعة وحِكمة شديدتَين يا آنسة هانتر. هل تَظُنِّين أنه بإمكانك أن تؤدِّي عملًا إضافيًّا؟ لم أكن لأطلُب هذا منكِ إن لم أكن أرى أنك امرأة استثنائية.»

«سأحاول. ما هو العمل؟»

«سنَصِل أنا وصديقي إلى كوبر بيتشيز في حوالي السابعة. بحلول هذا الوقت سيكون آل روكاسل قد رحلوا بالفعل، أما تولر، حسنًا، فلنأمُل أن يكون مخمورًا. لن يتبقَّى سوى السيدة تولر التي قد تُشكِّل خطرًا. إن أمكنَكِ أن تُرسليها إلى القَبوِ في مُهمَّةٍ ما، ثُم تُوصِدي بابَهُ بالمِفتاح، فَستُسهِّلين الأمور كثيرًا.»

«سأفعل.»

«ممتاز! سنبحث الأمر بالتفصيل إذن. لا يُوجَد سوى تفسيرٍ واحد منطقي بلا شك، وهو أنهم أحضروكِ لتُجسِّدي دَورَ شخصٍ بعينه، وأنَّ هذا الشخص مَحبوسٌ في هذه الحُجرة؛ هذا واضِح. أما بالنِّسبة لهوية هذا السجين، فهي بلا شك الابنة؛ الآنسة أليس روكاسل، إن كنتُ أتذكَّر جيدًا، التي قيل إنها قد سافرتْ إلى أمريكا. لقد اختاروكِ قَطْعًا لأنك تُشبهينَها في الطول والهيئة ولون الشعر. من المُحتمَل جدًّا أن شعرها قد قُصَّ أثناء مرَضٍ ما كانت تُعاني منه، ومن ثَم كان لا بُدَّ من التضحية بشعركِ أنتِ أيضًا بالتأكيد. لقد رأيتِ خُصلةَ شعرِها بالصُّدفة. أما الرجل الذي كان ينتظِر على الطريق، فهو بلا شكٍّ صديقٌ لها، وربما يكون خطيبها. وقطعًا عندما ارتديتِ ثَوبها وبَدَوتِ مِثلها، فقد اقتنَع من ضَحِكك كُلَّما رآكِ، وبعد ذلك من لفتاتكِ، أنَّ الآنسة روكاسل في غاية السعادة، وأنها لم تعُد ترغَبُ في اهتمامه. أما الكلب، فيُطلِقون سراحه ليلًا ليمنعوه من مُحاولة الاقتراب منها. هناك الكثير من الأشياء الواضحة تمامًا، ولكن النقطة الأكثر خطورة في القضية كلها هي تصرُّفات الطفل وطبيعته.»

انفعلتُ قائلًا: «ما علاقة ذلك بالأمر؟»

«يا عزيزي واطسون، إنك كطبيب تكتسِبُ معلوماتٍ كاشفة باستمرار عن مُيول الطفل من خلال دراسة أبَوَيْه. أفلا ترى أنَّ العكس صحيح أيضًا؟ كثيرًا ما أكتَسِبُ أولَ نظرةٍ حقيقية عميقة عن شخصية الآباء من دراسة سلوك أطفالهم. سلوك هذا الطفل قاسٍ بشكلٍ غير طبيعي، قَسوة لأجل القسوة فحسب، وسواء كان يَستمدُّ ذلك من أبيه الدائم الابتسام كما أظن، أو من أُمِّه، فهذا يُنبئ بالشرِّ للفتاة المسكينة التي وقعت بين أنيابهم.»

«أنا مُتأكدة من أنك على حقٍّ يا سيد هولمز.» هكذا صاحت عميلتنا، «إنني أستحضِر الكثير من المواقف التي تَجعَلُني أقطع بأنك قد أصبْتَ كبد الحقيقة. أوه، دَعْنا لا نُضيِّع ولو لحظةً واحدة وأن نُسارع بمُساعدة هذه المخلوقة المسكينة.»

«إنَّنا نتعامَلُ مع رجلٍ شديد المكر؛ لذا لا بُدَّ أن نكون حذِرين. لا يُمكننا القيام بأيِّ شيء حتى الساعة السابعة، فبِحلول هذا الوقت سنكون معكِ، ولن يَمرَّ وقتٌ طويل قبل أن نحلَّ هذا اللغز.»

التزمْنا بالميعاد الذي حدَّدْناه، فكانت الساعة السابعة بالضبط عندما وصلْنا كوبر بيتشيز بعد أن رتَّبْنا فخًّا في حانةٍ عامَّة تقَع على أحد جوانب الطريق. كانت مجموعة الأشجار ذات الأوراق الداكنة التي تتلألأ كالمَعدِن المصقول في ضوء شمس الغروب كافية لتمييز المنزل، حتى وإن لم تكن الآنسة هانتر تقِف مُبتسمةً على الباب.

سأل هولمز: «هل تمكَّنتِ من القيام بالأمر؟»

سُمِعَ صوت ضجيجٍ عالٍ آتيًا من مكانٍ ما بالطابق السُّفلي. قالت هانتر: «هذه السيدة تولر في القبو. زَوجها غارقٌ في النوم يُشَخِّر على سجَّادة المطبخ. ها هي المفاتيح، وهي نُسخة طِبق الأصل من مفاتيح السيد روكاسل.»

«لقد قمتِ بعملٍ جيِّدٍ حقًّا!» هكذا صاح هولمز بحماس. «والآن قُودي الطريق، وقريبًا سنشهَدُ نهاية هذا الأمر المُظلم.»

صعدْنا الدَّرَج وفتحنا الباب ومَشَيْنا بطول أحدِ الممرَّات، ووجدنا أنفسنا أمام المتاريس التي كانت الآنسة هانتر قد وصفتْها لنا. قطع هولمز الحبْل وأزاح القضيب العريض، ثم جرَّبَ مفاتيحَ مُختلفة لفتح القفل، ولكن دون نجاح. لم يَصدُر أيُّ صوتٍ من الداخل، فجعل هذا الصمتُ وجه هولمز مُكفهِرًّا.

قال: «أنا واثقٌ من أنَّ الأوان لم يفُتْ بعد. أعتقد يا آنسة هانتر أنه من الأفضل أن ندخل من دونك. والآن يا واطسون، ادفَعِ الباب بكتِفك، وسنرى إن كنَّا سنستطيع الدخول أم لا.»

كان بابًا قديمًا مُتهالِكًا، فانفتحَ على الفور دون أن نحتاج لأن نُوحِّد قُوانا لدفعه. هُرِعنا سويًّا داخل الغرفة، كانت فارغة. لم يكن هناك أيُّ أثاث سوى سريرٍ مصنوع من القشِّ وطاولة صغيرة وسلَّةٍ مليئة بالملابس. كانت الكوَّة الموجودة في السقف مفتوحة، ولم تكن السَّجينة موجودة.

قال هولمز: «كان بعضُ الشرِّ يكمُن هنا؛ لقد خمَّن هذا الرجل الجميل نوايا الآنسة هانتر وأخذ ضحيَّتَه بعيدًا.»

«ولكن كيف؟»

«عبْر الكوَّة. سنرى عمَّا قريبٍ كيف تمكَّن من فِعل ذلك.» تسلَّق نحو السقف مُتأرجِحًا ثمَّ صرخ قائلًا: «أوه أجل! ها هي نهاية سُلَّمٍ طويل خفيف موضوع في مُقابل إفريز السقف؛ هكذا نفَّذ الأمر.»

قالت الآنسة هانتر: «ولكن هذا مُستحيل، لم يكن السُّلَّم موجودًا عندما خرج آل روكاسل.»

«لقد عاد ووَضَعه. أقول لكِ إنَّه رجل ذكي وخطير؛ لن أتفاجأ إن كان ما أسمَعُه الآن هو صوت خطواته على الدَّرَج. أعتقِد يا واطسون أنه سيكون من الأفضل لك أيضًا أن يكون مُسدَّسك جاهزًا.»

لم يلبَثْ أنِ انتهى من قول هذه الكلمات قبْل أن يظهر رجلٌ عند باب الغرفة، رجلٌ سمين قويُّ البِنية يحمِل عصًا ثقيلةً في يدِه. صرخَتِ الآنسة هانتر وانكمشَتْ مُواجِهةً للحائط عند رُؤيته، إلَّا أنَّ شيرلوك هولمز اندفع إلى الأمام وواجَهَهُ.

وقال شيرلوك: «أيُّها الشرير! أين ابنتك؟»

أدار الرجل السمين عينَه ناظرًا في أرجاء المكان، ثم نظر إلى الكوَّة المفتوحة.

وصرخ قائلًا: «هل تُوجِّهُ هذا السؤال لي أنا؟! أيُّها اللُّصوص! جواسيس ولُصوص! لقد أمسكتُ بكم. أليس كذلك؟ أنتم في قبضتي وسأُلقِّنُكم درسًا!» استدار وهبطَ الدَّرَج بأسرَعِ ما يُمكنه مُحدِثًا جَلَبة.

صرختِ الآنسة هانتر قائلة: «سيأتي بالكلب!»

فقلتُ: «مُسدَّسي معي!»

صرخ هولمز قائلًا: «من الأفضل أن تُغلِقَ الباب الأمامي.» وهُرِعنا جميعًا نهبِط الدَّرَج. ولم نلبَثْ أن وصلنا إلى الرَّدْهة فسمِعنا صوت نباحِ كلبٍ وصرخةَ ألمٍ حادَّةٍ صاحَبَها صوتٌ مُقلقٌ كان من المُروِّع سماعه. خرج عجوز ذو وجهٍ أحمر وأوصالُه ترتَعِد، من بابٍ خلفي.

وصرخ قائلًا: «يا إلهي! لقد قام أحدهم بإطلاق سراح الكلب! لم يُطعِمه أحدٌ منذ يَومَين. بسرعة، بسرعة قبل فوات الأوان!»

هُرِعتُ أنا وهولمز خارجين من المنزل وركضْنا حول جانِبِه وتولر يُسرع خلفَنا. رأيْنا الوَحْشَ الضَّخم الجائع وخطمه الأسود مدفونًا في نحْر روكاسل، وهو يتلوَّى ويصرُخ على الأرض. ركضتُ نحوَه وأطلقتُ النار على دِماغه، فوقَعَ أرضًا وأسنانُه البيضاء الحادَّة لا تزال مدفونة في ثنايا رقبة روكاسل. أزحْناه عن الكلب بعْدَ عناءٍ شديد وحملناه إلى المنزل، كان لا يزال حيًّا، ولكنَّه كان مُشوَّهًا بصورةٍ مُروِّعة. وضعناه على أريكة، وفعلتُ كلَّ ما في وُسعي لأخفِّف ألمَهُ بعدما أرسلتُ تولر حاملًا الأخبار لزَوجته. كنَّا جميعًا مُلتفِّين حوله عندما انفتح الباب ودخلتِ الغرفة امرأةٌ نحيلةٌ طويلةُ القامة.

صرخت الآنسة هانتر: «السيدة تولر!»

«أجل يا آنسة هانتر. لقد أخرَجَني السيد روكاسل عندما عاد قبل أن يصعد إليكم. أوه، من المُؤسِف أنكِ لم تَدَعيني أعلَم ما كنتِ تُخطِّطين له يا آنسة هانتر، كنتُ سأُخبِرُك أنَّ مجهوداتك ستضيع هباءً.»

«هه!» هكذا قال هولمز وهو ينظر إليها بتمعُّن. «يبدو أنَّ السيدة تولر تعلم عن هذا الأمر أكثر من أيِّ شخصٍ آخَر.»

«أجل يا سيِّدي هذا صحيح، وأنا على أتَمِّ الاستعداد أن أُخبِرَك بما أعرِف.»

«إذن اجلسي أرجوكِ ودَعِينا نَسمعكِ؛ إذ إنَّ هناك العديد من النقاط التي أعترِف أنَّني ما زلتُ أجهلها.»

فردَّتْ قائلة: «سأوضِّحُ لك كلَّ شيءٍ الآن، وكنتُ سأفعل ذلك من قبل لو كنتُ قد تمكَّنتُ من الخروج من القبو. إن وصلَ هذا الأمر إلى مَحكمة الجُنح، فستتذكَّر يا سيد هولمز أنَّني كنتُ أنا من وقَفَ إلى جانب صديقتِك، وأنَّني كنتُ صديقة الآنسة أليس أيضًا.

لم تكن الآنسة أليس سعيدةً في المنزل قطُّ منذ أن تزوَّج والدها مرَّةً أخرى. كانت تشعُر بالتَّهميش ولم يكن لها رأيٌ في أيِّ شيء، ولكن لم تَصِر الأمور سيئةً بحقٍّ بالنسبة لها إلَّا عندما قابلتِ السيد فاولر في منزل أحد الأصدقاء، بحسْب ما أعرف. تتمتَّع الآنسة أليس بحقوقٍ حسْب الوصية، ولكنَّها كانت شديدة الهدوء والصَّبر، بحيث إنها لم تَقُلْ أيَّ شيءٍ عن الأمر، وتركتْ كُلَّ شيء تحت تصرُّف السيد روكاسل. كان يَعلَمُ أنه لا خوفَ منها، ولكن عندما لاحت في الأُفُق فُرصة وجود زَوج سيُطالِبُ بكلِّ ما يُمكن أن يُعطيَهُ له القانون، فكَّرَ والدها أنه قد حان الوقت ليضعَ حدًّا للأمر. كان يُريدُها أن تُوقِّع ورقةً تسمَحُ له باستِخدام مالها في حالة زَواجها أو عدمه. وعندما رفضتْ أن تُوقِّع هذه الورقة، ظلَّ يضغط عليها حتى أصيبَتْ بِحُمَّى دِماغية، ولِمُدَّة ستَّةِ أسابيع كانت على وَشْك المَوت. وعلى الرغم من أنَّها قد تحسَّنَتْ أخيرًا بعدما قصَّتْ شعرَها الجميل، فقد كانت مُنهكةً وفي شدَّةِ الإعياء، إلَّا أنَّ ذلك لم يُؤثِّر في خطيبها الشاب، فظلَّ مُتمسِّكًا بها بإخلاصٍ كما يتصرَّفُ أيُّ رجلٍ حقيقي.»

«هاه.» هكذا قال هولمز، «أعتقِد أنَّ ما تكرَّمتِ بإخبارنا به يُوضِّح المسألة تمامًا، وأنَّني يُمكنني استنتاج الباقي؛ إذن فقد لجأ السيد روكاسل بعد ذلك لأسلوب الحَبْس. أليس كذلك؟»

«بلى يا سيدي.»

«وأحضر الآنسة هانتر من لندن ليتخلَّص من الإصرار المُزعِج للسيد فاولر.»

«أجل يا سيدي.»

«ولكن لأنَّ السيد فاولر رجل مُثابِرٌ، كما يَجِبُ أن يكون البَحَّار، فقد راقَبَ المنزِل، وبعدما تقابلتُما نجح في إقناعِك بِحُجَجٍ وكلامٍ معسول أو غير ذلك، أنَّ مَصلحتكما مُشتركة.»

ردَّتِ السيدة تولر بهدوء: «كان السيد فاولر سخيًّا ومعسول الكلام.»

«وبهذه الطريقة نجَحَ في أن يُوفِّر ما يكفي من الشَّراب لزَوجِكِ حتى لا يُفيق من الثَّمَل، وفي تجهيز سُلَّمٍ في اللحظة التي يُغادِرُ فيها سيِّدُك المنزل.»

«أنت محقٌّ يا سيدي، هذا هو ما حدَث تمامًا.»

«أنا مُتأكد من أنَّنا ندين لكِ بالاعتِذار يا سيدة تولر.» هكذا قال هولمز، «إذ إنَّك وضَّحتِ لنا بِلا أدنى شكٍّ كلَّ ما كان يُحيِّرنا. ها هو جرَّاح البلدة والسيدة روكاسل قد أتيا، لذا أعتقد يا واطسون أنَّنا من الأفضل أن نَصطَحِبَ الآنسة هانتر إلى وينشستر مرَّةً أخرى؛ إذ إنَّ وجودنا هنا حاليًّا يبدو لي غير مُبرَّر.»

وبذلك حُلَّ لُغز المنزل المُقبض الذي تقبَعُ أشجار الزان النُّحاسية أمام بابه. نجا السيد روكاسل، ولكنه عاش مُحطَّمًا. فقط ما أبقاه حيًّا هو رعاية زَوجتِه المُخلِصة. لا يزال السيد والسيدة روكاسل يعيشان مع خادِمَيهِمَا القَديمَين، اللذين على الأرجح يَعرِفان الكثير عن تاريخ آل روكاسل، بحيث إنَّه يجِد صعوبة في الابتِعاد عنهما. تزوَّج السيد فاولر والسيدة روكاسل بِرُخصة خاصَّة في ساوثامبتون بعد فِرارِهما بيوم، بعدها حصل فاولر على تكليفٍ حكومي في جزيرة موريشيوس. أما بالنسبة للآنسة فيوليت هانتر، فقد خيَّبَ صديقي هولمز أملي ولم يُبدِ أيَّ اهتمام آخَرَ بها بعدَما لم تَعُد مركزَ واحدةٍ من مُعضِلاتِه التي يَسعى لحلِّها، وهي الآن تترأَّس مدرسةً خاصَّة في والسول، وأعتقِد أنها حقَّقتْ فيها نجاحًا كبيرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤