الأمير بدر الدين بيليك

«عندما تعصف الأهواء بالحكمة، كم من ضحايا ذهبت في سبيل الأهواء الصغيرة التي مهدت طريق الأمم المنحدر نحو الفناء!»

سار الموكب العظيم عائدًا من بلاد الشام، وكان فرسان المؤخرة يسوقون الأثقال من غنائم أرمينية وأذربيجان وآسيا الصغرى والقوقاز. ولكن السلطان العظيم بيبرس الذي عاد بتلك الغنائم لم يكن على رأس الجيش في صدر الموكب. كانت المحفة البديعة المزركشة بالأبنوس والعاج والصدف تسير متئدة فوق أعناق الإبل، والفرسان يرفعون نحوها أعينهم في خشوع إذ كان فيها قائدهم العظيم الذي صرعه المرض. وكان الأمير بدر الدين بيليك نائب السلطنة يسير مطرقًا على ظهر جواده الأبيض إلى يمين المحفة، يلفت رأسه بين حين وآخر فيرمقها بحزن.

وكان الصمت يلف الصحراء إلا من وقع أخفاف الإبل وحوافر الخيل على الرمال الناعمة.

واشتد حر الظهيرة، وبدا الكلال على الخيل بعد أن واصلت السير إلى مطلع الفجر، فأمر بدر الدين بدق الكئوس مؤذنًا بوقوف الركب للراحة. وأُنزلت المحفة في رفق فوُضعت فوق الرمل على قوائمها، وأشار نائب السلطنة إلى الفرسان المحيطين بها أن يذهبوا ليستريحوا ساعة. فلما بعدوا عنه رفع الستار عن المحفة وانحنى في خشوع كأنه يُحَيي مولاه، ولكن المحفة كانت خالية ليس فيها شيء.

وبعد قليل أتى إليه صديقه الأمير قلاوون صهر السلطان ومعه الطبيب، فدخلا إلى المحفة وانحنيا بالتحية كما فعل بدر الدين، ثم تراجعا إلى الوراء وأعادا التحية وأسدلا ستار المحفة الخالية. ثم جلسوا عند باب المحفة ليعدوا نشرة الطبيب معلنة أن السلطان يتماثل للشفاء.

وسار الموكب يومًا بعد يوم، والمحفة الخالية محمولة في وسطه، والأمير بدر الدين يرفع عنها الستار في كل يوم مرتين، ويدعو الطبيب إلى زيارتها، ثم يذيع في الجيش أن الملك الظاهر يتنسم في هذا السفر نسيم العافية. وبلغ الموكب أرباض القاهرة، وخرج الناس إليه ألوفًا ليستقبلوا بطلهم العظيم بيبرس.

•••

وكان الأمير محمد بركة بن بيبرس جالسًا في الإيوان الكبير في قلعة صلاح الدين ينتظر موكب والده ومن حوله أمراء الدولة. وكانت الشمس تطل في الإيوان فاترة من خلال النوافذ ذات الزجاج الملون، فشاع الضوء الرقيق في جنباته يكسو أرضه الرخامية بألوان متناسقة مختلفة، بين الأحمر والأزرق والأخضر والبرتقالي. وكان الأمير محمد ولي العهد جالسًا فوق كرسي عالٍ من الأبنوس المطعم بالعاج والصدف، إلى جانب كرسي السلطان الرخامي القائم في صدر الإيوان على هيئة المنبر.

وجلس إلى يمينه ويساره أهل الدولة في ترتيبهم المرسوم، ووقف من ورائه كبار الأمراء أصحاب المشورة، وتفرق الحجاب والمماليك في جوانب الإيوان الفسيح في ملابسهم المختلفة الألوان وأقبيتهم الصفراء الحريرية.

وبعد حين دقت كئوس الموسيقى تحت نوافذ الإيوان مؤذنة باقتراب طلائع الموكب، ثم سُمعت ضجة الموكب، فوقف كل مَن في المجلس ليستقبلوا السلطان.

ودخل نائب السلطنة مطرقًا يسير في بطء، حتى إذا ما صار على بضع خطوات من الأمير انحنى بالتحية حتى لمس بأطراف أصابعه بساط الإيوان، ثم رفع يده إلى فمه فقبَّلها ووضعها على رأسه، وتقدم خطوة أخرى وانحنى بالتحية مرة أخرى، وتقدم خطوة ثالثة وأعاد تحيته، ثم وقف متجهًا إلى الأمير خاشعًا. فساد الصمت، وفتح الحاضرون أعينهم من الدهشة؛ إذ رأوا نائب السلطنة يحيي ولي العهد مثل تحية السلطان العظيم.

ورفع بدر الدين يَدَيْه بالدعاء قائلًا: حفظ الله مولاي وأحسن عزاءه …

ووقف مطرقًا، وساد الصمت لحظة، ثم ضج المجلس ضجة الدهشة والمفاجأة، وشاعت الأنباء سريعة في القاهرة أن السلطان الفاتح بيبرس قد دُفن في دمشق، وأن الموكب الذي أقبل إلى مصر إنما كان يحيط بمحفة خالية.

واعتكف الأمير بدر الدين بعد ذلك في داره لكي يذوق شيئًا من الراحة بعد سفره الطويل، وما كان فيه من مشقة الجسم وكد القلب، فلم يذهب إلى دار النيابة، ولم يبكر إلى خدمة السلطان الجديد، ولم يذهب لعزاء السيدة الوالدة في زوجها العظيم. ولم يشعر بالراحة إلا بعد أيام، فاستطاع أن ينزل من دار الحريم ليجلس في البهو الفسيح من دار الرجال، وكان ذلك المكان آية من آيات الفن، تحليه النقوش الدقيقة بألوان متداخلة يمازجها الفضي والذهبي والقرمزي، وكان حول الجدران من أعلاها إطار كُتبت فيه آيات من القرآن بأقلام نوابغ فن الخط، ووُزعت حول البهو تُحف مختلفة تتصل بذكريات الحوادث التي مرت بصاحب الدار في حياته المضطربة، وكان أثاث البهو يغطي كل جوانبه وأركانه، حتى لم يكن فيه موضع تظهر منه أرضه الرخامية التي كانت تحليها نقوش من الفسيفساء والأحجار الملونة. وكان في وسط البهو «فسقية» من الرخام الأبيض، رُسمت في قاعها أنواع من الأسماك، فإذا امتلأت بالماء في فصل الصيف خُيل إلى مَن ينظر إليها أن الأسماك تتلاعب في بحيرتها.

جلس الأمير بدر الدين على مقعد في الصدر، وجعل يجيل بصره في التحف التي تحيط به. فهذه ستارة من الحرير المذهب من غنائم أنطاكية، وإلى جانبها جوشن أهداه إليه السلطان اعترافًا ببسالته في حرب التتار عند حلب، وذاك سيف يعيد إليه ذكرى قاسية، فهو سيف «ليفون» الشاب ابن ملك الأرمن الذي تصدى له في موقعة «سيس» على نهر الفرات وكاد يقضي عليه لولا أن عثر الجواد بالفتى فأوقعه على الأرض، واكتفى بدر الدين بأن أخذ منه السيف بعد أن أسره. وهناك غير ذلك كله حلل كثيرة زاهية الألوان مزركشة بالذهب عُلِّقت في كلٍّ منها منطقة من الذهب الخالص، وهي الجوائز الكثيرة التي أنعم بها السلطان العظيم عليه في مباريات الرماية ولعب الكرة بالصولجان وفي سباق الخيل.

جلس الأمير يستعيد أحداث ذلك الماضي المليء، ثم تنفس نفسًا طويلًا عميقًا كأنه عاد من رحلة طويلة، وأحس في نفسه انقباضًا شديدًا وهو يستعيد ذكرى ماضيه؛ لأن السلطان الجديد لم يبعث إليه رسولًا في هذه الأيام التي قضاها في داره يستريح، ولم يرسل في طلبه ليشارك في الموكب العظيم الذي يشق فيه السلطان الجديد عاصمة ملكه لأول مرة.

فخرج إلى حديقة قصره ليسري عن نفسه، وأخذ يتمشى في مسالكها الضيقة المتعرجة بين أحواض الورد الأصفر والأحمر وحصا البان والعتر وبين الأشجار النادرة التي نقلها من بلاد الشام من مشمش وبرتقال وتفاح.

وكان هواء الأصيل يهبُّ باردًا على غير عادة تلك الأيام من شهر أغسطس، فبعث فيه برد الهواء نشاطًا أزال عنه كثيرًا مما خَيَّمَ على نفسه من الانقباض والغم.

figure

ومال في ركنٍ من الحديقة إلى أريكة تظللها فروع غزيرة من الياسمين، فاضطجع يستريح، فأتى إليه خادمه مسرعًا يخبره أن السلطان بعث إليه رسوله يستدعيه.

وأسرع بدر الدين ليستعد للمثول بين يدي سيده وخفق قلبه سرورًا لعطف مولاه الذي تذكره وبعث رسوله إليه.

ولما ذهب إلى القصر، لقي فيه ترحابًا جديرًا بقدره، واستقبله الملك السعيد باسمًا وبالغ في إكرامه، حتى إنه أذن له أن يذهب إلى قصر السيدة الوالدة ليعزيها بنفسه.

وذهب بدر الدين إلى قصر السيدة الوالدة وهو يكاد يسبح في الهواء من السعادة، حتى إذا بلغ موضع الستارة من القصر جاءت إليه السيدة العظيمة نفسها فرحبت به من وراء الستارة وشكرته على ما كان من ولائه وحسن بلائه. وأرسلت إليه كأسًا ذهبيةً على صينيةٍ رائعة الحسن لم تقع عينٌ على مثلها، وكان في الكأس شراب مثلج يفوح منه عطر ذكي، وقالت السيدة من وراء الستار: هذا شراب صنعته بيدي أيها الأمير العظيم، أقدمه لك إيفاءً بحقك وآيةً مني على شكرك.

فدعا الأمير لها وقبَّل الأرضَ تحيةً لها، ثم شرب الكأس.

الكأس التي تعودت القصور أن تقدمها للذين يؤدون الخدمات الجليلة للسلاطين حتى لا يبقى على الأرض أحدٌ يحسُّ أن له فضلًا على سيد البلاد.

وفي اليوم التالي ارتجَّت القاهرة لجنازة الأمير بدر الدين بيليك بطل الحرب وصاحب الفضل في المحافظة على ملك بيبرس. وكان يسير في طليعتها نائب من قِبَل السلطان الملك السعيد ونائب آخر من قِبَل السيدة الوالدة! إذ أرادا أن يظهرا جزعهما على موت خادمهما المخلص الذي حفظ لهما العرش!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤