العقد المبارك

«الإيمان والحب هما شطرا الإنسانية.»

ودخل عمرو بن هشام متجهمًا على أبي العاصي وهو في فناء داره بعد أن أذن له، وكان من ورائه جمعٌ لا يقل عنه تجهمًا وتحديًا، واستقبلهم أبو العاصي قائمًا ينظر في وجوههم ثابتًا ومد إليهم يده مصافحًا وهو صامت.

وقال عمرو بن هشام: أظنك تعرف ما جئنا له يا أبا علي.

فقال أبو العاصي: هلا جلستم أولًا!

فقال عمرو في جفاء: لم نجئ لنجلس يا أبا علي، فقد تطاول الحديث بيننا بغير طائل. لم نجئ إلا لنسمع منك الكلمة الأخيرة.

فقال أبو العاصي: يعزُّ عليَّ أن أجيبك بما في نفسي وأنت في بيتي يا أبا حنظلة. فهل جئتم إليَّ منذرين إذن؟

فتدخل الوليد بن عتبة قائلًا: نعم، جئنا إليك منذرين يا ابن الربيع. فأنت تخرج على قومك وتخذلهم، ولا ترضى أن تستمع إليهم. نعم، جئنا إليك مع صديقك هذا الذي يَرُدُّنا ويدافع عنك في كل موطن وأنت تأبى إلا أن تكون مع عدونا.

فقال أبو العاصي هادئًا: إذن فأنت تعرف رأيي يا ابن عتبة ولا حاجة بي إلى إعادته. وإذا كان ولا بد من الحديث ونحن وقوف هكذا فإني أعيد عليكم كلمتي الأولى: لن أسمح لأحد أن يتدخل في خاصة أمري، ولن يستطيع أحد أن يفرق بيني وبين أهلي.

فصاح الوليد بن عتبة: أمَا قلت لكم إنه عدوٌّ يقيم بيننا؟ ها هو ذا يقول كلمته الأخيرة ولا حاجة بنا إلى البقاء هنا.

فقال عمرو حانقًا: فأنت يا أبا علي تَرُدُّنا ردًّا أخيرًا. أنت تريد الإبقاء على ابنة محمد معك وأنت تعلم أنني بدأت ففرقت بين ولدَيَّ وبين ابنتَي محمد رقية وأم كلثوم. ماذا تنتظر يا أبا علي حتى تجتمع مع قومك على رأي واحد؟ ألستَ تاجرًا تخشى على تجارتك؟ ألست من سادة قريش فتخشى أن يتخلى عنك قومك؟ أتحرص على امرأة وتخاطر بجميع أهلك وعشيرتك؟

فقال أبو العاصي هادئًا: وماذا لكم أنتم في امرأتي؟ أينبغي لأحد أن يقول لك اذهب إلى امرأتك فطلقها؟

فصاح رجلٌ من الجمع قائلًا: أبهذا تجيب سيد قريش يا ابن الربيع؟

فنظر إليه أبو العاصي هادئًا وقال: ومَن أنت في قريش يا أسود؟!

فصاح الأسود المخزومي في شراسة: وحق مناة ما جئت إلى هنا إلا لأرغم أنفك.

فقال أبو العاصي غاضبًا: والله ما أصبر عليك إلا لأنك في بيتي.

واتجه إلى عمرو بن هشام قائلًا: ألِمثل هذا جئتم اليوم إليَّ في داري؟ ألا فاعلم يا أبا الحكم أن أنفي لا يُرغم وأن شوكتي لا تلين. ولو شئت أن أخرج إلى المدينة لألحق بمحمد لفعلت ولم يجرؤ أحد على أن يتعرض لي. ولكني أقيم هاهنا في مكة حتى لا أفارق قومي ولا أخذلهم. فإذا أبى قومي إلا أن يذلوني فإني أقدر على الانتصاف لنفسي.

فقال عمرو بن هشام في شيءٍ من السخرية: كل هذا من أجل امرأة؟

فصاح أبو العاصي ثائرًا: لن أسمح لك أن تعيدها يا ابن هشام. أنت تعرف من هذه المرأة التي تتحدث عنها؟ فهي إذا لم تكن ابنة محمد فإنها ابنة خالتي. إذا لم تكن زينب امرأتي وقفت دونها أحميها لأنها من دمي ومن عرضي. لن أطلق امرأتي، ولقريش أن تفعل ما تشاء إذا شاءت عداوتي. أترون قولي هذا واضحًا صريحًا!

فتصاعدت من الجميع أصوات حانقة واضطربوا في غيظ، وصاح الوليد بن عتبة: ها هو ذا يتحداكم.

وصاح الأسود بن عبد الأسد المخزومي: إنه مع محمد.

وقال عمرو بن هشام: ستعرف يا ابن الربيع أنك قد أسأت إلى نفسك، ولن ينفعك محمد إذا نبذتك قريش وخلعت عنك حمايتها. لقد أعذر مَن أنذر.

figure

وخرج بغير أن ينظر إلى أبي العاصي، وسار أصحابه من ورائه يتصايحون غضبًا.

ولما انصرف الجمع خرجت زينب من حجرتها وكانت قريبة تسمع أحاديث القوم، فجاءت إلى زوجها حزينة وألقت برأسها على كتفه تبكي بكاءً مُرًّا. وأخذها أبو العاصي في رفق وأجلسها على أريكة في فناء الدار وجلس إلى جنبها وقال لها: لا تحزنك هذه الأحاديث يا زينب، فلن يجرؤ أحد منهم بعد هذا على معاودتها. سأجيبهم إذا عادوا لمثل هذا الحديث جوابًا شافيًا.

فقالت وهي تجفف دموعها: هذا ما أخشاه يا ابن خالة. أخشى هذه المصادمات التي لا تنقطع بينك وبين هؤلاء، ولا آمن أن تثور يومًا فيخرج الأمر من أيدينا.

فقال في دهشة: وكيف يخرج الأمر من أيدينا؟

فقالت مترددة: ألست تراهم في هذه الأيام متحفزين في كل لحظة؟ ألست ترى الآباء يسجنون أبناءهم ويعذبونهم إذا داخلهم الشك في أنهم يميلون إلى أبي؟ فكيف آمن أن يجتمعوا عليك وأنت تواجه قومك جميعًا حتى لم يبقَ لك فيهم أحد يأخذ بناصرك؟

فقال هادئًا: أتحسبين أنهم يقدرون على تعذيبي أو سجني؟ هيهات يا زينب، فإنهم يعرفون كيف أقدر على الوقوف في وجوههم جميعًا. ولست في مكة وحيدًا، فإن إخوتي وأبناء عمومتي من بني عبد شمس لا يتخلون عني أبدًا.

فقالت: أمَا نذهب إلى يثرب لنكون في مأمن هناك مع أبي؟ ماذا نريد من البقاء هنا بين هؤلاء الذين يصبحونك ويماسونك بما لا تحب ولا يدعون لك سلامًا. بحق أطفالنا يا أبا العاصي، لا تبقَ هنا وانْجُ بنفسك وأهلك وأبنائك إلى يثرب. ألست تحب أبي وتواجه قومك قائلًا لهم إنه أكرم مَن رأيت؟ ما لك لا تذهب إليه وتكون من أصحابه وتترك هؤلاء الذين لا يشبهونك ولا تشبههم. دعني أناديك باسمك الذي كنت أناديك به ونحن أطفال فأقول لك: هلم بنا يا ياسر فلنخرج إلى المدينة، إلى يثرب، كما خرج الذين رفضوا ظلم قريش وكبرياء قريش وجهالة قريش.

وكان أبو العاصي مطرقًا يستمع إليها وعلى وجهه ما يشبه الحزن والتردد، ثم رفع رأسه بطيئًا وقال لها: صدقت يا زينب فيما تقولين، وما أَحب إليَّ أن أسمع صوتك وأنت تقولين لي يا ياسر كما كنت تنادينني ونحن صبية. إنني أذكر خالتي الحبيبة أمك التي كانت تحبني مثل ولدها، ولا أستطيع أن أنسى عطفها ونبلها، وما زال صوتها العذب يرن في أذني كأنني أسمعه في نبرات صوتك.

ومد يَدَيْه إلى يدها فأخذها بين كفَّيْه وقال وهو ينظر في عينَيْها: وما أزال أذكر يوم ذهبتُ إلى أبيك أسأله أن يقبلني زوجًا لك، وكان أسعد يوم في حياتي. ولو طاوعت نفسي لما فارقته لحظة، بل لكنت أول مَن يخرج معه.

فقالت زينب: وماذا يحول بينك وبين ذلك يا ياسر؟ أيسرُّك أن تبقى هاهنا لتسمع هؤلاء كل يوم يقولون لك: «طلقها!»

وأطرقت حزينة. فضغط على يدها بكفَّيْه قائلًا: لن يفرق شيء بيننا يا زينب ما دمت حيًّا، وهذا أول عهد قطعته لخالتي. ألا تذكرين يوم جاءت بهذا العقد الذي أراه حول عنقك؟ كانت ساعة لا أنساها وأنت واقفة بيني وبين أبيك مطرقة من الخجل، فجاءت السيدة النبيلة أمك ووضعت هذا العقد حول عنقك قائلةً: «هذا تذكار مني.» ثم نظرت إليَّ قائلةً: «هذا تذكار مني يربط بينكما.» ألا تذكرين ما قلتُه لها عند ذلك؟

فقالت زينب بصوت متهدج: أماه!

فقال أبو العاصي: «لن يفرق شيء بيننا يا زينب ما دمت حيًّا.» هذا ما قطعته على نفسي أمام خالتي.

فقالت زينب: إذن فماذا يمسكنا هنا؟

فقال: أنت تعرفين أني شاركت في تجارة أبي سفيان بكل أموالي، ولو خرجنا الآن إلى يثرب لذهبنا إليها بيد فارغة وفرحت قريش بالأموال ولم يهمها خروجنا. وماذا نصنع بولدَيْنا هذَيْن: علي وأمامة؟ وماذا نصنع بالجنين الذي سنسعد بوفادته إلينا بعد قليل؟ لا تقلقي يا زينب حتى يعود أبو سفيان وعند ذلك سنهاجر إلى يثرب كما تشائين. لن يطول غياب أبي سفيان، فموعد عودته بعد أيام.

وما كاد أبو العاصي يتم حديثه حتى قرع سمعه صوت يصيح من بعيد صيحة فزع عالية، فقام مسرعًا وقالت له زينب: ما لك أنت بهذه المعارك التي تثور كل يوم يا أبا العاصي؟

فقال وهو يجمع عليه ثوبه: ليس هذا صوت معركة. إنه صريخ ينادي بكارثة.

وأسرع خارجًا، ووقفت زينب ترهف سمعها إلى الصوت فإذا هو يعيد نداءه في فزع: «الغوث! الغوث! أدركوا تجارتكم يا معشر قريش!»

وتهالكت زينب على الأريكة خائرة القوى، لا خوفًا على أموال زوجها بل خوفًا على الأمنية التي كانت تتمناها. فلن يقعد أهل مكة عن الخروج لمساعدة أبي سفيان، ولن يستطيع أبو العاصي أن يتخلف عن الخروج.

وبعد ساعة قصيرة عاد أبو العاصي إلى بيته ليستعد للسير من ليلته مع شباب مكة وكهولها وشيوخها، فقد تعاهدوا جميعًا على الذهاب لنجدة أبي سفيان وتخليص أموالهم من العدو الذي يحاول أخذها.

وسألت زينب في فزع: ومن يكون ذلك العدو يا أبا العاصي؟

فقال في تردد: أبوك يا زينب.

وصمتت زينب فلم تجبه بكلمة، وصمت أبو العاصي فلم يقل كلمة، وأخذ يستعد بسلاحه ودرعه حتى يخرج مع أهل مكة بعد ساعة.

وبقيت زينب وحدها نهبًا للقلق والألم لا تدري ماذا يطلع به الغد ولا ماذا تستطيع أن تفعل، فقامت لتتوضأ ثم أخذت تصلي وتدعو الله في حرارة أن ينجِّي زوجها وأن يحفظ أباها.

ومرت عليها الأيام بطيئة أليمة وهي لا تدري ماذا دبرت لها المقادير في نجاة زوجها وسلامة أبيها. ستكون المصادمة بين المسلمين وبين أهل مكة، وهي مصابة في كل حال إذا أُصيب جانب منهما. وكانت في كل ليلة تقضي ساعة طويلة في الصلاة تدعو الله أن يحفظ لها زوجها وهي لا تدري ماذا يكون مصيرها في تلك المعركة التي نشبت على حين فجأةٍ.

ثم بدأت الأنباء تتوارد على مكة بأن المسلمين انتصروا نصرًا عظيمًا، وأن أبطال قريش هلكوا في المعركة. واضطربت المدينة بمن بقي من أهلها شيوخًا وصبيةً ونساءً، فكانوا كل يوم يخرجون إلى الأودية المحيطة بمكة يتلقفون الأخبار لعلها تحمل إليهم ما يُذهب عنهم بعض الخوف الذي خيم عليهم، ولكن الأنباء لا تزيدهم إلا خوفًا وجزعًا.

وسمعت زينب طرقًا عنيفًا على بابها في ليلة مظلمة، وكانت السماء غاضبةً ترسل أمطارها غزيرة والسحب السوداء تغطي وجه السماء، والرعد يقصف بين البروق التي تشق كبد السماء القاتمة. وقامت زينب متوجسة فسألت: مَن الطارق؟

فأجابها من الخارج صوت أجش: أنا عمرو بن الربيع.

فصاحت في فزع مكتوم: عمرو!

وفتحت الباب فإذا عمرو أخو زوجها يقف أمامها ثابتًا ووجهه ينطق حنقًا وحزنًا. وكانت قوسه معلقةً فوق كتفه وسيفه معلقًا في حمائله بعنقه، وفرسه يحمحم مضطربًا من ورائه.

فقالت زينب: ماذا حدث لياسر؟

فقال عمرو: تركته أسيرًا عند محمد.

فصاحت في صوت مضطرب: معافًى؟

ثم استندت إلى الباب خوفًا أن تسقط على الأرض من الدوار الذي ألمَّ بها.

فقال عمرو: سأعود إليك في الصباح بعد أن أضمد جراحي.

وسار يجر فرسه وهو يعرج حتى بَعُدَ قليلًا عن الباب، ثم تحامل فركب وغاب عنها في الظلام تحت المطر المنهمر.

وقضت زينب ليلة ساهرة بين الصلاة شكرًا لله على نجاة زوجها وبين الحيرة في أمر أسره. فماذا تستطيع أن تفعل حتى تفك أسره؟ وماذا يقول أبوها إذا هي أرسلت إليه تسأله أن يمنَّ عليه بالحرية؟ بماذا تستطيع أن تعتذر عنه لأبيها وقد ذهب إليه مع الأعداء ليحاربه؟ وهل حقًّا رضي أبو العاصي أن يجرِّد سيفه لحرب أبيها وهو يقول إنه أكرم مَن عرف؟ وأخذت تسائل نفسها كيف تستطيع أن تفتدي زوجها وهي لا تملك من الأموال شيئًا. فالتجارة مع أبي سفيان، وهي لا تدري هل وقعت في أيدي المسلمين غنيمةً أم استطاع ذلك الداهية أن ينجو بها. وما زالت تعيد في ذهنها مئات من الأسئلة التي لم تستطع أن تهدأ عنها مع كل الصلوات التي كانت تحاول أن تهدئ بها مخاوفها.

وطلع الصباح آخر الأمر، وهدأت ثورة السماء، وصفا الجو، ولمعت الشمس في الأفق، وكانت طرق مكة زاخرة بالجموع المتزاحمة التي لا حديث لها إلا عن الهزيمة الشنيعة التي أصابت القوم. وكان المنهزمون يعودون أفرادًا وفي جماعات صغيرة ويسرعون إلى بيوتهم ليداروا وجوههم عن الأبصار وليضمدوا الجراح التي أصابتهم في المعركة الدامية. وبدأت الأصوات تتعالى من أركان المدينة بالنواح على القتلى من أبطال قريش وسادتها. وجاء عمرو بن الربيع يطرق باب زينب زوجة أخيه، وكانت زينب تنتظر قدومه في قلق، فما رأته حتى بادرته قائلةً: كيف السبيل إلى خلاص أبي العاصي؟

فنظر إليها عمرو صامتًا ولم يُحرْ جوابًا.

فقالت زينب: متى تعود القافلة بالتجارة؟

فقال عمرو وقد فطن إلى قصدها: وماذا تفيدنا القافلة أو التجارة؟ لقد وهبها أهل المدينة للاستعداد لمعركة جديدة. قد تعاهد الجميع على أن ينزلوا عن أموالهم في تلك التجارة ليستعدوا للانتقام من محمد وأصحابه.

فوجمت زينب وخاب أملها في تخليص صاحبها، وبقيت لحظة صامتة، ثم رفعت يدها تلمس جانب صدرها، تلمس العقد الثمين الذي وهبته لها أمها.

ووقفت تفكر حينًا وتسأل نفسها: ماذا تستطيع في تخليص زوجها؟ أيليق بها أن تتخلى عن عقدها الثمين ليكون فداءً له؟ لقد أهدته الأم النبيلة إليها ليكون رباطًا بينها وبين زوجها، وها هي ذي تحتاج إلى فداء ليعيد إليها زوجها. أليست هذه مكرمة من مكرمات الأم بعد موتها؟ ونظرت إلى عمرو بن الربيع فقالت له: كم يساوي هذا العقد يا عمرو؟

فقال في دهشة: وماذا تقصدين بسؤالك هذا؟

فقالت: أقصد أن أبيعه لأفتدي به زوجي.

فقال عمرو وهو ينظر إليها في دهشة وإجلال: أتريدين بيعه؟

فقالت: إذا كان يستحق ثمنًا.

فقال عمرو: إنه لؤلؤ نفيس، لا أظن أحدًا في المدينة يعرف له ثمنًا. ومن ذا يشتري هذا العقد في مثل هذا اليوم؟

فقالت زينب: أما تسومه يا عمرو؟

ثم خلعته ونظرت إليه في حنين وهي تمد به يدها إلى عمرو.

فقال عمرو: ولِمَ نبيعه يا أم علي، ألا أذهب به إلى أبيك لأقدمه إليه فداءً؟

ففتحت عينَيْها مدهوشة وخطر لها خاطر سريع، فإن أباها سيعرف العقد إذا رآه.

وهناك في يثرب ذهب عمرو بن الربيع يطلب فداء أخيه، وبقيت زينب في دارها تنتظر عودة عمرو في قلق، وزادها حزنًا وخوفًا أنها تحققت من عزم قريش على جعل ثمن التجارة التي أفلتت من المسلمين وقفًا على الإعداد للحرب المقبلة. وماذا يجديها أن يعود ياسر زوجها ليستعد مع قومه مرة أخرى للمعركة الجديدة؟

وكانت مكة كلها في حداد لا يكاد يخلو بيت من بيوتها من النواح على فقيد أو أسير، كل أسرة مشغولة بما أصابها، والمدينة كلها تتقد من الغيظ وتتحرق للانتقام. فألحَّ على زينب القلق ولم تجد إلى جنبها مَن يدخل عليها شيئًا من الأنس، وقضت أيامًا طويلةً في عزلة مظلمة، ولكنها كانت تجد العزاء والصبر كلما فرغت من الصلاة وتمثلت زوجها عائدًا إليها، وكلما تمثلت أباها في المدينة آمنًا منتصرًا. وبدأت تتجلى لها الحقيقة، أن الله قد استجاب لها فأنقذ لها زوجها وحفظ أباها، وأن الدين الذي آمنت به قد انتصر نصرًا عزيزًا.

وكانت مفاجأة سعيدة أن يدخل عليها ذات صباح زوجها ومعه أخوه عمرو يعيدان إليها العقد الذي بعثت به للفداء، وأخذا يصفان لها كيف تحرك أبوها رقةً عندما رآه، فسأل أصحابه أن يطلقوا لها أسيرها ويعيدوا إليها عقدها. وأخذت زينب العقد بين كفيها وجعلت تقلبه صامتة وهي مطرقة، وأخذت تتأمل حبَّاته اللامعة وتمر بأناملها عليها، ثم رفعته إلى أنفها فتشممته في شغف وهي تحاول أن تقاوم الشعور الذي أفعم صدرها. ولم تستطع أن تقاوم طويلًا، فوضعت وجهها بين يديها والعقد ما يزال فيهما وأجهشت بالبكاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤