الفصل الثاني

استكشاف المحرِّر للشكل

حتى حينما تُلتَقط المَشاهد الخام من قِبل مبتدئ، أو بالصدفة، يمكن أن تكون فاتنة بطبيعتها على نحوٍ يَختلف عن التحريك الخالص؛ لأنها قائمة على التصوير. بطبيعة الحال، فإن رسومات أي فنانِ تحريكٍ موهوب تُمارس سحرها الخاص، لكنها من نوع مختلف. وكما قال بازان، فإن «أكثر الرسومات أمانة يمكنها أن تعطيَنا معلومات عن الموديل، لكنها لن … تمتلك أبدًا قوة التصوير اللاعقلانية التي نؤمن بها بلا تحفُّظ.»1 بعد مرور عَقد على صدور مقال بازان — وبالاقتباس منه — فصَّل إدجار موران الدوافع النفسية العميقة التي ينجذب لها التصوير، وخصوصًا التصوير السينمائي. في كتاب «السينما: أو الإنسان الخيالي» (١٩٥٦)، وهو كتاب أطراه بازان بوصفه أفضل ما كُتِب عن الوسيط السينمائي بعد الحرب العالمية الثانية، ربط موران هذا الانجذاب بالأثر العجيب السحري «الذي يَتضاعف» مثلما أثَّرت الظلال والانعكاسات دائمًا في البشر، بما أن الصور، خلافًا للرسومات والمنحوتات، تأتي، على ما يبدو، مما وراء عالم الإنسان.2 وإذ تنبثق الصور المتحرِّكة من الكيمياء الضوئية، وعلم البصريات، والتقطيع الميكانيكي، فهي تنتمي من البداية إلى صِنف مختلف تمامًا عن الفنون البصرية. من أجل التغلب على هذا الاختلاف كرَّست نظرية الفيلم الكلاسيكية معظم جهدها. كيف استطاعت السينما أن تسموَ فوق عملية التسجيل الأوتوماتيكي؟ كيف أمكنها أن تصبح فنًّا معبِّرًا عن الروح الإنسانية وعن الأفكار؟ بازان — كما رأينا — مُنظِّر حداثي وليس كلاسيكيًّا؛ لأنه يقبل قيمة التسجيل المجرَّد، ويستمتع بتعبيرية العالَم غير الإنساني الذي تسجله العملية التصويرية، وغموضه أيضًا.
تحتوي المَشاهد الخام بصورة كامنة على «لحظة سحرية» (يستخدم موران هذه التسمية القديمة لإحدى طرق التصوير كتعويذة) لا يمكن مضاهاتها بالعبقرية البشرية التي نتوقعها في الرسم والمسرح والنثر. ومع ذلك، فإن المَشاهد الخام وُجِدت للمعالجة والتحضير والتنقية؛ لتتحول إلى المنتَج الذي نُسمِّيه الأفلام. يذكر بازان في مناسبات مختلفة دهشته من لقطة معيَّنة في فيلمٍ وثائقيٍّ ما تعثَّر فيها كأنها صخرة في الطريق،3 لكنه كان مهتمًّا في معظم الأحيان بالأفلام، لا بالمَشاهد الخام. ما عُني به في المقام الأول هو كيف تتعامل الأفلام مع المَشاهد الخام، وكيف تُكسِب الكاميرا أهمية لما التقطته من الواقع، وهذا ما سأُسميه «بناء الفيلم». توضح الأفلام توترًا بين ما هو بشري (مثل الخيال والنية) وبين الأجزاء العصيَّة من الواقع المسجل؛ ويحدِّد نمط هذا التوتر أو طبيعته الأساليب والأنواع والفترات في تاريخ السينما. على سبيل المثال، يقول بازان إنه «بسبب نسيان السينما السوفييتية المُفرِط لهذا [التوتر]، انزلَقَت، خلال عشرين عامًا، من القمة إلى القاع بين أعظم الأمم المنتجة للأفلام.»4 واعتقد بازان أنها كانت في القمة لأن «علم جماليات» آيزنشتاين عمل على نحو مُبتكَر في سياقات مأهولة بجموع مجهولة. ماذا عن السينما الروسية اليوم؟ أو أي سينما؟ لنتتبع خُطة بازان «للنظر عن قرب إلى موضع السينما اليوم»، آخذين في الاعتبار أن هذا التوتر بين ما هو خام وما هو مُعَد، وهو التوتر الذي من خلاله «يمكننا تحديد تصنيفات، إن لم يكن تراتبيات، لأسلوب السينما.»5
يُعَد تحريك الصور صنفًا متفوِّقًا يضعه بعض النقاد على قمة تراتب الأساليب الفيلمية اليوم. وكما وُضِّح لي منذ فترة قصيرة فإن «التحريك هو السينما في أنقى أشكالها»؛6 ويَرجع هذا إلى أن الصور المتحرِّكة الحرَّة تتجاوز اللقطات المنتَجة فوتوغرافيًّا التي يحدُّ من حريتها قيد المكان والزمان الاعتياديَّين. وطبقًا لهذا النظام الجديد، فإن كل الأفلام، وليست الأفلام المتحرِّكة فقط، يجب مشاهدتها وتقييمها بوصفها جهودًا للاستجابة للخيال، متحرِّرة من القيود الطبيعية. فكرة بازان مضادة لفكرة «السينما في أنقى أشكالها». فنظريته عن «السينما المشوبة» تتوسَّط بين الإنسان والطبيعة، بين التخيُّلي والواقعي.

أسلاف بازان

كما سنرى، هذا التوجُّه مُفعَم بالحيوية اليوم؛ لكن قبل النظر في أمثلة من القرن الواحد والعشرين، دعونا نرجع إلى الألفاظ التي ورثها بازان، والأفلام التي أبقاها نُصب عينيه أثناء رسم نمط التفكير الذي نتتبعه. أصبح بازان المولود في عام ١٩١٨، مُشاهِدًا نَهِمًا في الوقت الذي جعل فيه ظهور السينما الناطقة الجميع حديثي الانتباه للتوتُّر بين الطبيعة الخام للتسجيل وشطحات الفن. كان روجيه لينارت وأندريه مالرو كلاهما، كما اعترف بازان بصراحة؛ هما الصوتان الوحيدان اللذان يَستحقان الاستماع إليهما فيما يخص السينما الناطقة؛ لأن كليهما ظهَرا على الساحة بعد عام ١٩٣٠. كان بازان طالبًا في المرحلة الثانوية حينما فاز مالرو بجائزة جونكور عن روايته «قدَر الإنسان»، وكان في الجامعة حينما نُشرت رواية «أمل الإنسان»، وعُرِض الفيلم المقتبس منها في السينما (قبل حَظْره). وإذ أبهره تمامًا هذا الفنان والبطل الثوري، انضم بازان لمجموعة دراسية أسسها مالرو عام ١٩٤٢ في «دار الثقافة»؛ حيث كان يُدير ناديه السينمائي. لهذا السبب يُمكننا التأكد من أنه الْتَهم مقال مالرو «مخطط لسيكولوجية السينما» وقت صدوره في عام ١٩٤٠، وهو مقال أوفاه بازان حقه من الذكر في حاشية مقاله عن «الأنطولوجيا». لكن بينما اعتمد بازان إجمالًا على تطوير مالرو للأشكال الفنية، خاصة نظرته إلى أزمة فنِّ الباروك، فإنه لم يكن ليقبل في النهاية الطريقة التي عامل بها مالرو السينما بالتصنيفات الفنية التقليدية.

لا بد أن بازان كان يَأمُل أن يكون مالرو مُجدِّدًا، لكن، حتى بعد أن صنَع مالرو فيلمه الثوري، لم يُعزِّز «مخططه» إلا النظرة السائدة إلى جماليات السينما الصامتة، وحدث «ميلاد السينما بوصفها وسيلة للتعبير (لا للنسخ)» في زمن جريفيث، «حينما أصبح المصوِّر والمخرج مستقلَّيْن عن المشهد»؛ وبذلك استطاعا معالجته بطريقة إبداعية. استهجن مالرو اختراع لوميير (الكاميرا) الذي شبَّهه بالفونوغراف؛ لأنه ببساطة كان يقدم على الشاشة ما سبق أن صوَّره على فيلم (عرض استعراضات، أو مناظر جغرافية، أو مشاهد تاريخية منشأة مجدَّدًا، أو مسرحيات، أو مباريات ملاكمة). لم تظهر «السينما» بشكل مناسب إلا بعد عام ١٩١٠، حينما بدأت بشكل منتظم في «تمثيل» مواقف، وأحداث، وقصص، من خلال الدمج بين وجهات نظر متعدِّدة. في حالة «السينماتوغراف» (كاميرا الصور المتحرِّكة)، يقف المُشاهِد في مكان مشغِّل الجهاز، أما في السينما، فهو يَكتسب منظور المُخرج الذي يُرتِّب سلسلة من لقطات الكاميرا. يُصرح مالرو بأن السينما اكتسبت شهرتها حينما خرج الإطار المُقيِّد المبني على مسرح الحدث في النهاية إلى مجالٍ واسع حيث يكون الحدث الحقيقي هو حدث الفنان (المصوِّر/المخرج) الذي يتحرَّك هنا وهناك، ويختار ما ينظر إليه. يُرتِّب المخرج اللقطات طبقًا لرؤية تتجاوزها، سواء أكانت قصة، أم نقاشًا، أم إحساسًا؛ وباختصار، تُقدم السينما وجهة نظر وليس مجرَّد منظر. ويُمكن أن يحدث هذا فقط حينما يُصبح المشاهد، مثل محب السينما، منفصلًا بقدر كافٍ عن المشهد المعروض أمامه من خلال عمل الكاميرا التي تتحرَّك بشكل مُستقلٍّ عن المشهد الذي تصوره، أو من خلال عملية تغيير اللقطة التي تعوق أي رؤية واحدة.

كتب مالرو «مخططه» وهو واقع بشدة تحت تأثير سيرجي آيزنشتاين، حيث كان فيلمه «بوتِمْكين» أقوى فيلم شاهده مالرو، وسبق له أن قابل مخرجه للتخطيط لفيلم مُقتبَس من رواية «قدَر الإنسان». لكن عند النظر لفكرة «المونتاج»، لم يكن في ذهن مالرو ما يقوم به آيزنشتاين من تجميع (أو تصادم) لعناصر مختلفة، ولكن تتابُع ذروات درامية مختارة من «مادة خام» ممتدَّة (كما يسميها). وعكس السينما الصامتة التي تقطع أحداثها فواصل داخلية معنونة، محركة المشاهد، وسامحة بالانتقال السلس إلى تسلسلات الأحلام، أو المَشاهد المستعادة من الماضي، ومساعدة على تنزيل النص بطريقة ملائمة إلى المَشاهد والفصول كما يحدث على خشبة المسرح، فإن الفيلم الناطق لا تناسبه الفجوات؛ فهو يؤكد، بطبيعته، الاستمرارية المتصلة للقصة عبر مسار الصورة. هذه «الاستمرارية» المفترَضة تمثل أكثر المشكلات تعقيدًا فيما يخص «القواطع» (الديكوبور)، وهو المصطلح الفرنسي الذي سيستنكره بازان، ويجعل (هذا المصطلح) السينما أقرب إلى الرواية منها إلى المسرح.7
كان لدى بازان تسامح أكثر مما يُظَن تجاه الأسلوب السوفييتي في مونتاج الأفلام الصامتة. لكنه، بوصفه مهندس نظرية عن الفيلم الناطق، وجده غير مناسب عمومًا. على سبيل المثال، سخر بازان من الطريقة الصبيانية، حسب تعبيره، التي توجِّه بها سلسلة أفلام كابرا بعنوان «لماذا نقاتل» (واي وي فايت) المُشاهِدَ كما يفعل محاضر يستخدم عرضًا لصور ثابتة للإيضاح، بدلًا من أن يدع تلك الصور ترينا ما بها (أي أن تُخفي أكثر مما تُظهِر، كما في نصِّه الفرنسي).8 يشيد بازان بالفعل بالمونتاج السوفييتي على حساب مونتاج كابرا، وتثبت ذلك مراجعته الحماسية لفيلم «باريس ١٩٠٠» (فدريه، ١٩٤٧)، فهو لم يكن رافضًا من حيث المبدأ لتوليفات الأفلام الإخبارية. ما كان يهمه في هذا الجهد هو «البراعة والذكاء في المونتاج»، الذي — على خلاف أسلوب براوست — «أحال المفارقة المتعلقة بماضٍ موضوعي، وبذكرى خارج وعينا، إلى كون السينما آلة لاسترجاع الزمن، وأوفق لخسارته».9 باختصار، يمكن أن يقودنا المونتاج، بالمعنى القوي، إلى النظر بمزيد من العمق إما داخل الصور، وإما بعيدًا عنها تجاه معنًى ما، اختيرت لتوضحه. وبعكس كابرا، الذي ضخم شذرات ومقاطع فيلمية حتى صارت مناسبة لمقولته، فإن نيكول فدريه نظمت مشاهدها الأرشيفية بحيث يكون لكلٍّ منها صدًى أعمق مما لو عرض بذاته. مكَّن المونتاج في هذه الحالة، وبشكل متناقض، اللحظة السحرية؛ لذا ينهي بازان مراجعته المؤثرة بالإشادة بحصافة فدريه في إدراك أن «الصدفة والواقع يُظهران موهبة أكبر مما يُظهره كل صنَّاع الأفلام في العالم.»
بشكل عام، فإن المونتاج بالمعنى القوي انحسر في الأفلام الروائية حينما دخل الصوت الصورة. كان جودار الذي وبَّخ بازان عام ١٩٥٦ في مقاله «المونتاج: هَمِّي الجميل» يبذل كل ما يستطيع لاسترجاعه، وخصوصًا بعد عام ١٩٦٥. لكن جودار، كما يشير تيموثي برنار في ملحوظاته عن بازان، كان هو أيضًا نصيرًا قويًّا للتفكير في الفيلم أو السينما بمعايير «الديكوباج»،10 وهو أمرٌ تعلمه من بازان الذي أخذ مقاله الشهير «تطور لغة السينما» من حيث الأساس من مقال مفهرس طويل، عَنْوَنه ببساطة بكلمة «ديكوباج».11 التفرقة بين مصطلحَي «المونتاج» و«الديكوباج» (إلى جانب المصطلح العام «التحرير») محورية. وكما قال مالرو، فإن «الديكوباج» هو نتاج قرار صناع الأفلام مقدمًا بشأن كيفية تحليل عمل روائي فيما يخص أثره الدرامي (المنطقي)، وتصميمه المكاني الزماني. يرتبط بقوة بهذا المفهوم الأولوية التي يتمتع بها مكان وزمان مستمران تتم في نطاقهما الانتقاءات، ويُرَتَّب العمل الروائي. عند التفكير من الناحية المكانية بشأن سياق معين أو جزء درامي، تظهر سمات معينة من تصميم المشهد، ويدخل «الديكوباج» بوصفه التصور الزماني بشأن الطريقة التي يمكن أن يتكشَّف بها العمل الروائي منظرًا تلو الآخر. سبقت هذه المصطلحات ظهور مفهوم «العالم السردي» النظري،12 أو مهدت له، وهو ليس سوى المخطط الكامل للاحتماليات المكانية-الزمانية للعمل الروائي، الذي يقدِّم منه تصميم المشهد الفعلي و«الديكوباج» سلسلة من الاختيارات الفنية المدروسة أو البدهية.
في مقاله «مدرسة المُشاهِد الصغيرة» المنشور عام ١٩٣٦، أراد روجيه لينارت إطلاع العامة، ومنهم بازان — أحد قراء مجلة «إسبري» التي صدَر منها المقال — على الطريقة التي كانت تُصنع بها الأفلام؛ لذا «عرَّف المونتاج بأنه يُمارَس في وقت لاحق على شريط الفيلم المكشوف، بينما عرَّف الديكوباج بأنه يُمارس في وقت سابق في عقل صانع الفيلم على الشيء المفترض تصويرُه سينمائيًا.»13 يُشيد لينارت بصنَّاع الأفلام الذين يسبرون العنصر الزمني في مادتهم أثناء بزوغه إزاء كل آخذ في التطور يُسهم فيه هذا العنصر. إنهم «يَستكشفون» الإيقاع، بدلًا من فرضه، في التفاعُل المتبادل بين الجزء والكل. ويُثبت سلامة هذا الاكتشاف كل مُشاهِد يَختبر ملاءمة القَطْع. يُنظِّم المحرِّر تجرِبة فردية بأن يدع كل لحظة تبقى على الشاشة المدة المناسبة لها قبل أن تفسح المجال للحظة التالية. يذكرنا لينارت قائلًا: «بالإنجليزية، يُطلق على «الديكوباج» الاستمرارية»، وتُحَس الاستمرارية بوصفها الإيقاع، «التحكم الذي يُمارسه العقل على المادة التي صُوِّرت أو المراد تصويرها.» هذه الفكرة الجمالية، المنبثقة منذ زمن القديس أوغسطينوس وحتى الفيلسوف هنري برجسون في القرن العشرين، تربط المادة بالذاكرة، متيحة للعقل أن يُحلِّل العالم ليستخلص دلالته.
ولأن الاستمرارية تشغل الفراغ بين اللقطات، بالطريقة نفسها التي يَنبثق بها الإيقاع من التوقُّفات بين النغمات الموسيقية، فإن لينارت يَمضي إلى إعلان أن «جوهر السينما هو الحذف.»14 يصنع المُحرِّرون وَهْم الأهمية والحضور من خلال الفراغ الذي يتخلَّل المادة المُصوَّرة ويُحيطها. من بين كل مؤثرات السينما، يُعتبر هذا هو أكثر المؤثِّرات «خصوصية» وتحديدًا. ربما يكون الحذف عنصرًا واحدًا من مجموعة الأدوات الأدبية المجازية الاختيارية، لكنه «يعمل عمل حديد التسليح في بناء أي فيلم.» يتعامل المحرِّر مع قِطَع من المادة المصوَّرة؛ وإما أن يُقطِّعها للوصول إلى جوهرها (وهذا نموذج روبرت فلارتي)، أو — وهذا هو الأغلب — أن يُنظِّم علاقتها بفكرة أو ظاهرة أو حدث يشي به الفراغ وسط ما يُعرَض، ومِن حوله. وبينما كان الانطباعيون الفرنسيون في فترة السينما الصامتة ينعمون بغنى الصورة الرائقة، وبينما كان آيزنشتاين يؤكد أولوية المجاز القوي الذي يُتوصَّل إليه بالقفزات التخيلية عبر التضادَّات الصارخة للصور، فإن لينارت يُشير بتواضُع إلى الأعمال اليومية للسينما من خلال الكناية والحذف.
اعترَف لينارت لاحقًا أنه «بصرف النظر عن بساطتها الواضحة، فإن مقالة «مدرسة المُشاهِد الصغيرة» كانت مشروعًا طَموحًا جدًّا، وهو المُخطَّط لأسلوب جمالي جديد كليًّا بالنسبة إلى السينما.»15 ولهذا أُطلِقَت طريقةُ تفكير جديدة سرعان ما تبناها بازان الذي كان قارئًا نَهِمًا لكتابات لينارت، وصديقًا مقرَّبًا له. قليلون من يَعرفون اليوم أن لينارت كان محلَّ إعجابٍ عميق من جون روش على سبيل المثال، الذي كان يُحييه بلقب «جدِّي، جدِّي»، وهو تعبير أفريقي وَدود ينمُّ عن الاحترام والتوقير.16 كما كان نُقَّاد «كاييه» يَعُدونه بمنزلة العم، وكانوا يَعرفون كم كان يعني لبازان.17
حقًّا، لم يكن لينارت ليَصوغ رُؤاه خلال فترة السينما الصامتة. يُقلِّل الصوت من سموِّ الصورة. يُلحُّ على المصدر المادي لمادة صانع الأفلام بدلًا من شاعرية أثرها. ووفقًا لتعبير لينارت: لا يَجب أن نتعامل مع «الصورة» ولكن مع «اللقطة»، كما أن الصوت يُقيِّد الصورة بمصدر زماني-مكاني محدَّد.18 يقول لينارت: «على العكس من «أثر الصورة» الذي يَجذب الانتباه لنفسه، أريد [من المُشاهِد] أن يكون حسَّاسًا لسمات التصوير السينمائي الجيد حقًّا، مُحايدًا قليلًا في مظهره، خادمًا متجرِّدًا يفهم رُوح السينما.»19 يبثُّ لينارت شكواه لمُصوِّره المستقبلي، فيليب أجوستيني، بشأن نَسْب الصور للمصوِّر في الأفلام، بقوله: «الصورة ﻟ…»، ووافَقه أجوستيني الرأي قائلًا: ««الصور لأجوستيني» … هذا رائع! لو قُدِّر لك أن تَصنع فيلمًا، فسأكون سعيدًا بالعمل معك دُون أن أُحاول صنعَ صورة تُعبِّر عني.»20
هذا الأسلوب الجمالي المباشر المجرَّد يعود للهيبة التي اكتسبَتْها الصحافة خلال الحرب العالَمية الأُولى وبعدها، نوع قاسٍ من الصحافة، لا تُأوَّل فيه الحقائق، ولكنها تُعرَض، ثم توضَع، بعضها إلى جانب بعض؛ لتحقيق التجاوُب والإيقاع. ساعَدَ النبضُ الصحفيُّ على نضج الفيلم حالَما أتاحت إضافة الصوت للضَّوضاء المُحيطية وللحوار أن يملآ المَشاهد التي كانت فيما مضى تَكتسِب قُوتها من الزوايا المعبِّرة، والإضاءة، والستائر، والأدوات القيِّمة الأخرى. وحتى من دون إدخال الصوت، بدأ كثير من أفلام العشرينيات في القرن العشرين يُصبح مُستساغًا على نحوٍ يَفوق أسلافها بسبب الانتقال من استخدام شريط الفيلم الأورثوكروماتي إلى شريط بانكروماتي، وما أتاحه هذا من إضاءةٍ أقرب إلى الطبيعية.21 أصبح الجسم المُصوَّر، كما قال لينارت، في بؤرة تركيز واضِحة بكل «كثافته»، وكانت الوحدة الأساسية المكوِّنة للفيلم بلا نقاش هي «اللقطة» التي انتُزِعَت من جسد العالم، وليسَت «الصورة الرائقة» التي صنَعها المصوِّر.
تدين هذه الجماليات بقدرٍ كبير لمَيْل لينارت إلى الأسلوب المباشر لكلٍّ من هيمنجواي، وهاميت، ودوس باسوس، وجيمس كين الذين سبَق أن صارُوا كُتابًا رائجين في باريس؛ لكنه يَدين بفضلٍ أكبر لمهنتِه: محرِّر أفلام إخبارية في «إكلير جورنال». كان يستخلص الأحداث الهامة يوميًّا من مئات الأمتار من شرائط السيليولويد المُلقاة على طاوَلة تحريره. وكان يحتاج يوميًّا للعثور على طرُقٍ مِن أجل تقديم — أو اقتراح — موضوعات وأحداث أكبر حجمًا أو أقل تحديدًا مما يَنبغي لعرض موجز.22 كان الحذف هو ما يُجيده، والأسلوب الرئيسي الضروري لجوهر عملية صنعِ الفيلم الوثائقي، وهو النمط الذي أتقَنَه في نهايات ثلاثينيات القرن العشرين. دعاه بازان لعرض أفلامه الوثائقية في نادي السينما بالسوربون في عام ١٩٤٣، حيث خاضا نقاشات مطوَّلة. يُمكنكم الشعور ببازان في استحضار لينارت ﻟ «الواقعية الأولية» للسينما. يذهب لينارت بعد ذلك لأبعد مما قام به بازان في توضيح عمله بوصفه محرِّرًا: «ليس في المادة السينمائية يسكن الفن … ولكن فقط في التجميع والتوفيق والحذف.»23
من المرجَّح أن لينارت تعلَّم هذه المصطلحات من القراءة لنقاد الأدب في عصره. ومثل كثيرين غيره ممَّن عاشوا في ثلاثينيات القرن العشرين، كان لينارت مُناصرًا لأندريه مالرو الجريء، أكثر كُتَّاب فرنسا الصحفيين حداثة. تُجسِّد رواية «قدر الإنسان» الجماليات الناشئة للسرعة والدقة، كما أن مالرو كان يُساند كُتَّابًا آخرين ذوي ارتباطات سياسية، مثل المُثيرة للجدل أندريه فيولي. في «المقدمة» التي كتَبها مالرو لتقاريرها الميدانية القاسية المناهضة للاحتلال بعنوان «استغاثة من الهند الصينية»،24 ابتدع مالرو مصطلحات استخدمها لينارت في صراعه ضد النظرية الجمالية التي ظلَّت مُتبقية من عصر السينما الصامتة:
حدَّد مالرو أسلوبًا جماليًّا أدبيًّا جديدًا يعتمد على الحذف، على العكس من فنِّ المجاز القديم. هذا الأسلوب الجمالي هو جماليات السينما؛ فهو يَتناسَب ودرجة الدقة التي بلغَتْها المعلومات البشرية — وما التصوير إلا أحدُ أشكالها — كما يُناسب الميل لحقائق الواقع وللوثيقة الذي يُميِّز العصر الحديث … وهو يَكشف في النهاية عن طريقة جديدة في قراءة العالم والتعبير عنه … ليس بحثًا مدروسًا عن «المعنى» من خلال التمثيل أو الديكور، ولكن عمل بسيط من «الترجمة». ليس ممارَسةً فنية في التعبير، ولكنه جهد تقني في الوصف.25
يَحدث هذا «الجهد في الوصف» حينما يشي الحذف بملامح شيء ما بحذف لحظات وأجزاء في متَّسَعٍ زمَني-مكاني. من خلال الاختزال، أي شيء يُعرَض على الشاشة لا بد أن يُدعَم بكل ما هو غائب؛ ويُمكن أن يَحمل هذا ارتباطات مُوازية كثيرة (تقارُبات). كان من شأن بازان أن يتوصَّل إلى رُؤية أخرى للحذف،26 لكنه يقف إلى جانب لينارت في إدراك أولوية ما لا يُقدَّم على الشاشة. بالفعل كان من شأنه أن يذهب لما هو أبعد من هذا، كما هو مذكور في الفصل الأخير، مُعتبِرًا السينما أثرًا أو «النسخة السالبة» من الواقع. وكان جودار يسعى دائمًا وراء النقطة نفسها. في فيلمه «بييرو المجنون» («بييرو لو فو»، ١٩٦٥)، يجعل جودار الممثل جون بول بلموندو يقرأ من تاريخ الفن الذي كتبه إيلي فور: «بعد الخمسين، أراد فيلاسكويز أن يَدهن الفراغات بين الأجسام.» كان بازان يشعر بالإحساس نفسه تجاه السينما؛ بعد بلوغ نصف قرن من العمر، نَضج وسيط المرئيات المبجَّل هذا، ووجَد نفسه في واقع الأمر هو الفن الذي يتَّجر بالغياب، وغالبًا «غيابيًّا».27

وثائقيات في مِرْجل التاريخ

درَّب لينارت ومالرو عينَي بازان على ملاحظة نموِّ الجماليات الحذفية فيما سمَّتْه زميلته في مجلة «إسبيري» كلود إدموند مانيي «عصر الرواية الأمريكية». وأكَّدت أفكارَه عن التحرير الأعمالُ الوثائقية المؤثِّرة التي كانت تصدر كلَّ شهر استجابةً للحرب العالمية الثانية وما أعقَبها. ولعلَّ بازان، مثل معظم النقاد، كان مهتمًّا من حيث الأساس بالسينما الروائية، لكنه كان قادرًا على الشعور بتعرُّض الكيان بكامله لتحدِّي الوثائقيات الحديثة بقدر كبير لدرجة جعَلتْها هي المحرِّك لنظريته.28 كان بازان أول من حدس بأنَّ الحرب العالمية الثانية أخرجت للوجود سينما حديثة،29 سريعة الاستجابة ومسئولة عن مَهمة توصيفية عجز الأسلوب المعتاد (الكلاسيكي) عن القيام بها. أصبَح العالم المراد تمثيله أوسع وأسرع وأكثر تعقيدًا وعنفًا مما يَحتمله التمثيل السينمائي السائد. بالاندفاع خارج الاستوديو، صارَت السينما تُكافح لاستيعاب واقع محيِّر بالكاميرات المَحمولة، والعدسات الخاصة، وآلات التسجيل، وشرائط الأفلام الحساسة، والألوان، وحتى الأشعَّة تحت الحمراء. هذه الابتكارات والتحسينات مهَّدت الطريق لأساليب التصوير الجوي، والتصوير ليلًا، والتنقل المرتجَل، وتسجيل الصوت في الموقع؛ حيث تعلَّمت السينما السيطرة على امتدادات شاسعة، وعرض ظواهر وأحداث كانت بعيدة عن متناوَلها.
كانت الطريقة التي تلاعبَت بها الوثائقيات بالبُعد الزمني للصورة أقل وضوحًا، لكني أعتقد بأنها أكثر أهمية. بفضل الخبرات التي أتاحتها وثائقيات زمن الحرب؛ فإن الأفلام الروائية الطويلة كان بإمكانها أن تُحاول تشكيل القصص طبقًا لأبعاد زمانية مختلفة عن تلك التي كان يُنتجها نظام «الديكوباج». تحدَّى بازان صنَّاع الأفلام والمشاهِدين أن ينفتحوا على عوالم خبرة أبعادها الزمنية مُتغيِّرة على نحوٍ مُربك وكاشف. وبأكثر الأشكال وضوحًا، استلزمت الحرب أن تَلتقِط السينما حالة عاجلة، أساسية بقدر أكثر مما يُمكن أن تُنتجه صناعة الأفلام الكلاسيكية. في مقاله البارع «مدرسة التحرُّر الإيطالية»، نسب بازان القوة الفورية التي تمتَّعت بها «أفلام المقاومة» إلى تصويرٍ سينمائي أظهرَ مميِّزات «كاميرا بيل وهاول للأفلام الإخبارية، وعرضٍ مُتحرِّك لليد والعين، كأنها عضوٌ حيٌّ من مشغِّل الكاميرا، متناغم تناغمًا فوريًّا مع وعيه.»30 تنتج قيود جودة الصورة بحد ذاتها مزيدًا من الواقعية في المواقف الميدانية، أشبه نوعًا ما برسمٍ تخطيطيٍّ لفنَّان منها بلوحة زيتية. يُكمِل تحليلُ بازان لأسلوب مالرو الحذفي الحُجج التي كان يَصوغها بالفعل ضد سيطرة «الديكوباج» الهوليوودي الكلاسيكي، مشيرًا إلى أن تقطيعات مالرو «غير القابلة للفهم» تقريبًا تُجبر المُشاهد على الدخول في حالة فعالة من التيقُّظ، كما لو كان في حالة طوارئ. أفلام مثل «الأمل» («ليسبوار»)، و«معركة السكك الحديدية» («باتل أوف ذا ريلز»، «باتاي دي ريل»؛ كليمو، ١٩٤٦)، و«بايزا» (روسيليني، ١٩٤٦) كسَرت الإيقاع الدرامي المعتاد، مُجبِرة المُشاهِد على اللحاق بالأحداث التي تتجلَّى أو تَحدُث أمامه بمعدل لا يُمكن توقُّعه. يحدث كلٌّ من تلك الأفلام في الزمن المتقطِّع لفعل حروب العصابات وردود الفعل إزاءها على أرضٍ مُتنازَع عليها. ويُمكن اختصار إطارها الزمني لأقل ما يُمكن تخيله؛ رجل يَنظر إلى عنكبوت على الحائط في لحظة إعدامه (كليمو)، أو رَصاصة طائشة تُصيب عضوًا حزبيًّا في فلورنسا، وإدراك الأحوال الاجتماعية المفاجئ من قبل جندي أسود في روما (روسيليني). تَجبُر هذه الأفلام المُشاهد على الانتباه لأحداثٍ أسبابُها خفية أو ضئيلة أو مُبهمة بقدر يَمنع المُشاهِد من ملاحظتها. مثل هذه الأفلام يجب استيعابها في عُجالة.
تَبرُز الحذوفات الصارخة سرعة الحياة وعنفَ سَيرها كما عاشها الناس وكما تخيَّلوها بعد الحرب العالَمية الثانية، رغم أنها تَستغني عن السياق المرئي (ومنه المساحة البانورامية)، وعن السيكولوجية، وتفاعُل الشخصيات. كل هذا يَضع المُشاهِد في علاقة بالموضوع الذي يُمكن أن يُوصف بأنه واقعي من وجهة نظر نفسية. أما عن «الواقعية الكلية»، أو استحالتها بالأحرى، فقد ربط بازان الموقف بالقصور الجسدي: الخلايا المخروطية والعصوية للجهاز البصري حساسة لنطاقات مرئية مُختلفة؛ فالحيوانات التي وُهِبت رؤية ليلية قوية ترى الصورة بيضاء وسوداء فقط، مُفتقدةً المعلومات التي يُوفِّرها اللون.31 أراد بازان تحديد المَوقع المختار لكل فيلم في نطاق الواقعية لمُشاهدتِه وَفق شروطه.
في الطرف الآخَر من ذلك النطاق كان هناك فيلم جورج روكييه «فاروبيك» (١٩٤٥) الذي حصل على جائزة النُّقاد الدولية في أول دورة لمهرجان كان. يعمل الحذف بطريقة مختلفة تمامًا هنا. لا وجود لأيِّ مصادفة أو حدث عارض يؤثر على وصفه الدقيق لبيت في مزرعة في وسط فرنسا. وبعكس الفيلم الحربي، إطاره الزمني ليس إطار الحدث العاجل الآني، ولكن إطار سنة التقويم الكاملة، وضمنيًّا، الزمن الأرضي نفسه، وهو الزمن الذي أفقدَنا الانتقالُ لعصرِ التصنيع الإحساسَ به. أراد روكييه ألَّا «يُؤرِّخ» شيءٌ فيلمَه،32 وأعطاه عنوانًا فرعيًّا «المواسم الأربعة» («لي كواتر سيزون») في تضاد مع عناوين أفلام روسيليني مثل «جرمانيا: السنة صفر» («جرمانيا آنو زيرو»)، أو «أوروبا ٥١»، لكنه يظلُّ تاريخيًّا رغم كل هذا.33 أراد روكييه بإبطاء الإيقاع أن تُدرَك الأرض بالمعنى الحرفي للكلمة، بما تشمله من بِرَك الطين، والرجال والنساء العاديِّين، والحيوانات ورَوَثها … أيًّا ما كان ما تجاوزته السينما التقليدية أو أهملَته من باب الذوق في إطار اهتمامها بالدراما والفن. قال بازان: «فهم روكييه أن الاحتمالية حلَّت ببُطء محلَّ الحقيقة، وأن الواقع تحلَّل ببطء داخل الواقعية؛ لذا شرع في مَهمة صعبة لإعادة اكتشاف الواقع، وإعادته إلى ضوء النهار، وإفاقته عاريًا من بِركة غرَقِ الفنون.»34
بازان ليس ساذجًا. حتى لو كان فيلم «فاروبيك» قد تخلَّص من المَجازات المُعْيية و«الجمالية الطُّفيلية» اللتَين استنكرهما بازان، فإنه لم يكن ليصور ما هو واقعي مباشرة. يقول بازان في واحدة من صيَغِه المميَّزة: «لهذا فإن أكثر الفنون واقعية تتشارك الكثير الشائع، ولا يمكنها الاستحواذ بالكامل على الواقع؛ بسبب أن الواقع يجب أن يتملَّص منها حتمًا في وقتٍ ما. ولا شكَّ أنه قد يُمكن لأسلوب مُحسَّن ومُطبَّق بمهارة تضييق ثقوب الشبكة لكن الفرد يكون مُجبَرًا على الاختيار بين نوع من الواقعية ونوع آخر.»35 وفي مقالاته عن الواقعية الجديدة، تَصف الشبكة أو المِصْفاة العلاقة بين صانع الفيلم وموضوعه. في كل فيلم، يَصِلنا قسم ونوع معيَّن من المعلومات من بين تدفُّق زائد عن الحد من البث المرئي؛ أو بمعنًى آخر، ما يُعرَض على الشاشة، أيًّا ما يكن، يُمكن القول إنه صُنع الشاشة من خلال مصفاة العدسة. وكما هو الحال مع مرشِّح الأشعة تحت الحمراء، يُمكن للاختزال إظهار بِنية الموضوع، وتسليط الضوء على تفاصيل يصعب تمييزها بأي شكل آخر.36
ربما تكون هذه المِصفاة هي المعادل المكاني للحذف الزمني؛ حيث إنهما كليهما يَختصران المعلومات لخدمة الوضوح والاتساق والأثر، وأصبح بازان يُفضِّلها بوصفها كناية عن السينما. في النهاية، يعتمد الحذف على قرار المُحرِّر بخصوص ما هو مُهمٌّ دراميًّا. وبينما يَستخدم لينارت كلمة «مونتير» للإشارة إلى تحرير اللقطات الخام المُلتقَطة سابقًا أو من قِبل شخص آخر، يستخدم مالرو كلمة «قاطع» للإشارة إلى «التحرير الذهني» الذي يخوضه صانع الفيلم أثناء تحضيره للسيناريو، لكنهما يُشيران إلى فرض نظامٍ ما على الزمان والمكان الأوليَّين. لم يكن بازان مُستعدًّا للتخلِّي عن القوة الكامنة في هذه الأوليَّة. لو كان المُخرج الإيطالي فيتوريو دي سيكا قام بتقطيع مَشاهد فيلمه «أمبرتو دي» (١٩٥٢) طبقًا لمبادئ الحذف، لاختُزِل أشهر مَشاهد الفيلم، الخادمة الحُبلى تطحن القهوة في الصباح، إلى ثوانٍ معدودات. لكن دي سيكا ترَك الكاميرا تدور وتشمل أحداثًا عشوائية؛ مثل رشِّها الماء على حشراتٍ على المنضدة، وإغلاق الباب بقدَمها. ورغم أن هذه التفاصيل غير مهمة، فهي تملأ الفيلم، وشغلت نقد الفيلم منذ ذلك الحين.37
في أهمِّ تطبيقاته السينمائية الأساسية، يَسمح الحذف لعقولنا بإدراك شيء مُمتدٍّ في الزمان والمكان بقدرٍ أكثر مما يَنبغي لتقديمه بشكل مُناسب كاملًا أمام أعيننا. إذا كان فيجو حرَّر فيلمه الصامت «عن نيس» («أه بروبو دو نيس»، ١٩٣٠) باستخدام الحذوفات المُبتكَرة، فقد كان هذا في المقام الأول بسبب أن المدينة ومهرجانها لا يُمكن تصويرهما بلقطة فردية. وعلى الرغم من أنه لا يُرينا شيئًا خارج حدود المدينة، فإن لقطات فيجو تُعادل وجهة نظر … مدينة نيس المُصَفَّاة من خلال وعيه.38 تَعمل هذه المِصفاة بصريًّا في مرحلة التسجيل، حين تنظِّم عدسةً ما، أو شريط فيلم، أو مِصفاة حقيقية نوع الضوء الذي تلتقطه الكاميرا ومقداره، وحين يختار صانع الفيلم زوايا معينة، وأطوالًا بؤْرية، ومسافات. هناك نوعٌ آخر من المصافي يعمل على طاولة التحرير، حينما يُتابَع موضوع معيَّن، بينما تسقط موضوعات أخرى؛ لذا حينما تُختار مجموعات من اللقطات المصفَّاة بالفعل لضمِّها في مشاهد، فإن نسبة ٩٠ بالمِائة من المادة الخام و٥٠ بالمِائة من اللقطات المُنتقاة غالبًا ما تمرُّ من خلال الموفيولا لتسقط على الأرض؛ لتُكنَس وتُرمَى بعيدًا. يُكرِّر بازان قوله إن الفيلم النهائي يضعنا في تواصل مع الواقع من خلال ما تراه أعيُنُنا مُركَّزًا على الشاشة. كان بازان أكثر استعدادًا من لينارت ومالرو لجعل صُدَف الطبيعة تُقرِّر الفيلم النهائي أكثر مما يُقرِّره فنُّ المحرِّر.
لذا، دعونا لا نُخدَع أبدًا بالوجود الكشفي المُفترَض من جانب بازان، تمامًا كما يَنصح هو بألا نَنخدِع بالمظاهر. ما هو على الشاشة ليس الواقع، ولكنَّه تَتبُّع الواقع، وبقاياه التي قد تَسمح لنا، مثل المومياء، باستدعاء حضور شيء أكثر اكتمالًا، وهو شبح ذلك الواقع الأكثر صلابة على نحوٍ مُتناقض، الذي يَحوم على نحوٍ طيفي حول الشاشة أو وراءها أو أمامَها. هذا إخلاصٌ للمظاهر بالفعل، لكنه يَحدث من أجل اجتيازها إلى رُوح شيء أكثر وأقل أهميةً في آنٍ واحد … رُوح حدثٍ درامي، أو مصير شخص، أو رُوح رواية.39

نهج كاييه

تقف «جمالية الاستكشاف» هذه على النقيض من سينما التلاعب التي تتضمَّن معظم أفلام التحريك والإبداع الرقمي الخالص؛ وهي تطلب منا تهيئة رؤيتنا لظروف الجلاء التي يتيحها العالم بدلًا من إعادة صنع العالم — مثلما تفعل وسائل الإعلام الحديثة — إلى أن يُناسب ظروف مشاهدتنا، بل راحتَنا ومُتعتنا أيضًا. يستهدف «الأثر السينمائي» مباشرة التركيب العصبي للمشاهد، بينما يتجه نهج تفكير بازان إلى عالمٍ (مادي، أخلاقي، فني، افتراضي) بعيدٍ عن الشاشة. يُمكن العثور على مفهومه للتركيب السينمائي الآخذ في التطور في الحوار مع سينما رينوار وويلز ومالرو الجديدة، في جملة وحيدة كتَبها في نسخة عام ١٩٤٥ من مقال «الأنطولوجيا» ثم نقَّحها، وخفَّفها لاحقًا في كتابه «ما هي السينما؟»: «تبدو السينما مثل تحقيق صورة مقرَّبة في زمن الشيء.»40 تُشير هذه الصيغة المُلغِزة — التي تُقارب أُحجيات التمارين الذهنية البوذية — إلى الاختلاف المحتوم للأساس الفوتوغرافي للسينما بنقلِ الانتباه من الزمن البشري إلى «زمن الشيء»؛ ومِن ثم من الصورة إلى اللقطة. يَعتمد نهج «كاييه» كله على إعادة التعريف هذه للتكوين الأساسي للسينما. يقول داني بطريقة مباشرة: «السينما ليست مصنوعة من صور، ولكن من لقطات، واللقطة هي كتلة الصورة والزمن غير القابلة للانقسام.»41 في عام ١٩٤٥، استوعب بازان على نحوٍ ما هذه الفكرة الجذرية. وبينما تقف الوثيقة الفوتوغرافية ثابتة، يقدم العمل الوثائقي الأشياء وهي تتحرَّك في زمنها، معلَّقة داخل حقل من المحدِّدات العديدة؛ وحالما يُعرَض الفيلم، يمكن التشكيك في تكامل أي شيء أو هُويته. يزيد الغموض من ثقل ما يشار إليه حيث تَحول الكثير من العلاقات التي تربط الشيء بموقفه دون «تثبيته» تمامًا.
يترك نهج «كاييه» آثاره على نوعية معيَّنة من الأفلام الروائية التي تشكل ما يشبه عمودًا فقريًّا تحمل فقراته أسماء كبار صناع الأفلام. وكان هناك ثلاثة، خصوصًا، على تواصُل مع بازان ومتَّبِعيه الشباب في حدود عام ١٩٥٠: روسيليني، ورينيه، وبريسون. كان يُقال إن روسيليني جسَّد الواقع الأخلاقي للفهم العابر للثقافات في أجزاء فيلم «بايسا» الستة عن المقاومة، التي تُمثِّل مراحل قصة موجزة لتحرير إيطاليا. بعد ذلك بفترة قصيرة، صور روسيليني جمالًا من عالم آخر في فيلم «زهور القديس فرانسيس» («فلاورز أوف سانت فرانسيس»، «فرانشيسكو، جولارى دي ديو»، ١٩٥٠) الذي صور فيه جماعة حقيقية من الرهبان الفرانسيسكان يُعيدون تجسيد حياة مؤسس الجماعة — وهم يُحاكونها بالطريقة الواجبة — في أحد عشر مقطعًا أو «زهرة». فرَّق بازان بين بناء روسيليني الاختزالي وبين السرد الكلاسيكي بتحديد التوتُّر بين دافع روسيليني الفني أو الأخلاقي الشامل، وبين المواقف المحدَّدة التي صُوِّرَت، وهي مواقف تَمتلِك خواصَّ مُتفرِّدة تُقدمها السينما وتحميها بشكل آلي. كل مقطع من «بايسا» وكل زهرة من زهور فرانسيس الإحدى عشرة (وكل مشهد من هذه الأجزاء السبعة عشر) له تفرُّد صخرة وصلابتها في نهر الفيلم قبل أن تكون بمنزلة مخاضة سردية يَدعونا روسيليني لعبورها. يُشكل أنصار الواقعية الأدبية التقليدية المَشاهِد لتُناسب السرد. يُمكن لهوليوود ادِّعاء نسخة من الواقعية في كثير من الأنواع السينمائية التي تُقدِّمها؛ لكن هوليوود، كما يقول بازان، تُقَولب كل اللقطات وتشذبها لتصبح أحجارًا على شاكلة واحدة، أو لبنات مضمومة بسلاسة إلى جاراتها لبناء جسور قصصها. في إنتاجات هوليوود الكلاسيكية، يعبر المُشاهد دون التعرُّض لخطر سوء فهم أو انحراف، من شارة البداية حتى شارة النهاية. لكن في فيلم «بايسا»، يجب أن تنتبهوا لخطواتكم، بتفحص شكل كل حجر ومكانه في الفيلم قبل أن تَقفِزوا من حجر إلى آخر. ربما تنزلق أقدامكم من آنٍ لآخر، أو تبتلُّ على الأقل. مخاضة مقابل جسر. ما هو حقيقي بنظر روسيليني حقيقي بنظر بازان. كل قطعة مهمَّة بطريقتها لكنها تشير إلى شيء يتجاوزها:
البناء الذي صنَعه روسيليني لا يسمح للمُشاهد إلا برؤية «الحدث» نفسه. ومثلما يُمكن أن توجد بعض الأجسام، سواء أكانت بلا ملامح أم مُتبلوِرة، فإن فن روسيليني يشمل المعرفة بما يجب فعله لمنح تلك الحقائق ما هو أكثرها جوهرية، وأروَعها شكلًا في الوقت نفسه — ليس الأجمل، ولكن الأوضح إطارًا، والأكثر مباشرة، والأكثر لذوعة … لا يَعني أخذ الواقع في الاعتبار مراكمة المظاهر. بالعكس، يعني تجريد المظاهر من كل ما لا يَلزم، من أجل الوصول إلى الكليَّة في بساطتها. فن روسيليني خطِّي ومتناغم … [كما في] رسم تخطيطي، يَتضمَّن في خطِّه أكثر مما يصفه بالفعل.42
في عام ١٩٥٤، ظهر فيلم روسيليني «رحلة إلى إيطاليا»، وهو أول فيلم حَداثي بمعنى الكلمة، كما صرَّح جاك ريفيت في «كاييه»، يمكن قياس كل الأفلام عليه. هذه «الرحلة» المُوجِزة للحد الأقصى تظهر لنا في لقاءات إنجريد برجمان المتتالية مع الحياة الزاخرة في نابولي (نساء حُبلى وأطفال رضَّع في كل مكان) والموت الأكثر انتشارًا (جنازات، وحوادث نبش قبور، وسراديب موتى) الذي تراه في البداية وهي مُحتمية بزجاج سيارتها وبالمُرشدين المحليِّين، لكنها في النهاية لا يُمكنها تفادي مواجهته مباشرة. في جملة شهيرة جدًّا، قال بازان إن سينما روسيليني ليست مكوَّنة من صور ولا لقطات، ولكن من «حقائق».43 تخيَّل مقطوعة موسيقية مكتوبة لا تتكون من سلسلة من النوتات ولكن من حقائق. هكذا يتباهى جاك ريفيت بفيلم «رحلة إلى إيطاليا»، معتبرًا إياه أول فيلم حداثي بالفعل.44 في ذلك المشهد الرمزي الذي استُحضِر بالفعل، يُجبَر جورج ساندرز وإنجريد برجمان على النظر في نفسيهما وهما يشاهدان عملية حفر لاستخراج الآثار في مدينة بومبي. الجثتان البشريتان، اللتان فاجأهما الموت منذ ألفَي سنة، يأخذان في الظهور، صادمتَين الزوجَيْن المشاهدَيْن لهما في الرواية بمعرفة نفسيهما. نظرا مَليًّا في الحقائق، ولا يستطيعان صرف نظرَيهما بعيدًا. من خلال الحذف والمقاربة، يفرغ تحرير روسيليني مساحة للظهور التدريجي أو المفاجئ لحقيقة ما. واشتهر بقوله:45 «الأشياء موجودة، فلماذا نتلاعب بها؟» لكن الوصول إلى هذه الأشياء أمر مختلف. وكان له أن يورِّث «الموجة الجديدة» خُلق التنقيب هذا تحت الأنماط الشائعة من الحبكة، والشخصية، والحدث. بعد أن أذهله فيلم «رحلة إلى إيطاليا»، عرض تروفو خدماته على روسيليني الذي قابله في منزل بازان. كما عمل جودار معه في منتصف الخمسينيات في القرن العشرين.

ثم جاء بريسون؛ ورغم أنه كان مُنطويًا وغير اجتماعي، فقد انضم لبازان وجون كوكتو في عام ١٩٤٨ لإنشاء نادي السينما في شارع الشانزلزيه، حينما كان يخطط لصنع فيلم «يوميات قس في الأرياف» («دَيَري أوف آ كانتري بريست»، «جورنال دَنْ كوري دو كامبانْي»، ١٩٥١). رد بازان رَوعة هذا العمل الرائع إلى الطريقة التي صفَّى بها بريسون ما قدمه برنانوس بالفعل في الصيغة الموجزة من اليوميات. القس، ونحن معه، نُحسُّ بالمنظر الريفي من خلال المِصفاة الدائمة لنظرته الأخلاقية التي تُصبح هي الموضوع الحقيقي للفيلم، جوهر القس المتفرِّد، المرسوم بثبات. كان لبريسون تأثير هائل في «كاييه»، ويتجلى هذا في مقابلة جودار معه عقب العرض الأول لفيلم «بالتازار بالصدفة» («أو هازارد بالتازار»، ١٩٦٦)، وهو فيلم آخر يتكون من مقاطع، لكن إيقاعه محدَّد هذه المرة، بطريقة غير بشرية مربكة للغاية، بمعاناة حيوان. وكما يقول سيرج داني، كنا في «كاييه» منجذبين لأفلام تردُّ على نظرتكم إليها — كما تفعل الحيوانات — بنظرة نابعة من غيريَّتها.

كان فيلم آلان رينيه «هيروشيما حبي» («هيروشيما مون امور»، ١٩٥٩) أول فيلم يذكره داني كما لو كان الفيلم يُحدِّق فيه، محوِّلًا إياه من مجرد متفرج إلى مُشاهد لا يهدأ، أو ما سماه «ابن السينما» (وليس «المولع بالسينما»). كان داني الذي سيُصبِح بسهولة أكثر النقاد أهمية بعد بازان في فرنسا يبلغ من العمر ١٣ عامًا حينما صُعِق هو ووالدته بما شاهداه — وما لم يُشاهداه كذلك — في «هيروشيما حبي». من خلال نوع من التلاقي النفسي المُتواصِل بين حبيبين لا يُذكَر اسماهما، ينشأ واقع غير بشري لا نستطيع أن نُواجِهه — أو لن نواجهه — بطريقة عادية.

جعلت «كاييه» من فيلم رينيه الموضوع المِحوَري لحلقة نقاشية شهيرة دفعت داني للقيام بمَهمته المُتنقِّلة: «إذا كانت السينما قادرة على هذا … كان عندي ردٌّ على السؤال الصعب: «ما الذي ستفعله بحياتك؟»» نعرف ما فعله بحياته بالغة القِصَر. تولى تحرير «كاييه»، وصاغ القول الفصل الذي استحضره رينيه، وأُكرِّره هنا: «السينما مرتبطة بالواقع، ولا علاقة للواقع بالتمثيل.» يستحضر فيلم «ليل وضباب» («نايت اند فوج»، «نوِي إ برويار»، ١٩٥٥) — وهو المثال الأفضل هنا — الهولوكوست، ولكنه لا يَتظاهر بأنه يمثلها. ينقب رينيه تحت مناظر أوشفيتز الطبيعية الملوَّنة الهادئة، كاشفًا طبقة من الماضي — لا يُمكننا تسميتها تاريخًا تمامًا — ومن رعب لا يُمكن تمثيله حرفيًّا. تنزل لقطات رينيه المميزة داخل حفرة سوداء من الشناعة. لم يستفِد شخصٌ منذ سيرجي آيزنشتاين من المونتاج بهذا القدر؛ لكن بينما كان المخرج الروسي يَضع الصورة بجوار الأخرى، يَرفض رينيه «الصور الملتقطة» بالألوان، لصالح «الحقائق المعطاة» بالأبيض والأسود. المَشاهد الأولية بالأبيض والأسود مصنوعة من «اللاصُوَر» كما كان من شأن داني أن يُسميَها.46 كون أي حدث لا يُمكن تخيُّله «معطًى» يُخرج الكاميرا التي تصوره عن مسارها، ويُغرقها أسفل السطح الأخضر إلى ما تبقى («أطلال» المعسكرات). ماذا نفعل بها الآن؟ بالفعل، يَسأل الفيلم في خاتمته: «ماذا نفعل؟» تَنطبق ملحوظة بازان بخصوص «رحلة إلى إيطاليا» بملاءمة أكثر على «ليل وضباب»: «الحقائق حقائق، يستفيد منها خيالنا، لكنها لا توجد في الأساس لهذا الغرض.»47
يُفَصِّل فيلم «كل ذاكرة العالم» («تو لا ميموار دي موند») الذي صُنع بعد بضعة أشهر المعضلة الوجودية التي تُضاعِف الصدمة التي تتسبَّب فيها صور «ليل وضباب»: كيف يُمكن للحاضر أن يُسهم في الماضي؛ وكيف يُمكنه تجنُّب الماضي مع ذلك؟ تُمثِّل المكتبة الوطنية دليلًا على هذا التناقُض. هنا لا تقع حقائق التاريخ الإنساني الصُّلبة تحت حقل مجهول؛ فهي مركَّزة في حصنٍ للذاكرة. ومثل موظَّفي المكتبة الدقيقِين، يُعامل رينيه كل كتاب أو أثر — سواء أكان دورية مجهولة أم مخطوطًا شهيرًا — على أنه حقيقة في لغزٍ غير قابل للحل. الحقائق تَغلبنا حتى حينما تدار وتنظَّم وتفهرَس بعناية بالغة. وكما قال روجر أودين، فالفيلم مركَّب من تضادٍّ بين الفضاء الفعلي والفضاء المَجازي، بين الأشياء والخيال. ثقل الماضي المُتراكم، المُستعصي على زحزحته، تُثيره الحركة المتواصلة للحاجات والرغبات الإنسانية، التي تلتقطها الكاميرا وهي تتتبع الرفوف المتراصَّة المعقَّدة كالمتاهة.48 وكما في «ليل وضباب»، هناك ترتيبان زمنيان مدفوعان معًا، وهما الحقيقة والرغبة. في المشهد الوحيد الدرامي في عمل توصيفي بالكامل باستثناء هذا المشهد، يُطلَب كتاب، ويُحضَر، ويُستخرَج من ضريحه إلى المَجال العام المحروس. يُشير رينيه إلى الانتقال من زمن إلى آخر؛ إذ تقترب عربة كتب من مكتب الإعارات. وبعد ذلك، حينما يجتاز قاعة القراءة، ترتقي المناجاة في الغنائية:

والآن يُسافر الكتاب تجاه خطٍّ مثالي؛ فاصل وهمي أكثر تقريرًا لوجوده من المرور عبر مرآة. لم يَعُد الكتابَ نفسه. منذ لحظة مضت، كان جزءًا من ذاكرة كونية، مجردًا، محايدًا … لكن هذا الشيء الآن انتُقِيَ ومُيِّزَ وأصبح لا غنًى عنه لقارئه.

تتلقَّى الكتابَ يدان مُتلهِّفتان لإنسان (مشتغل بالفكر) يُتيح اهتمامه للكتاب أن يَتنفَّس ساعة قبل أن يُعاد إلى بنك الذاكرة السرمديِّ الذي يُشكِّل فيه وحدة مُفرَدة. ومن مسافة محسوبة بإتقان، يَنظر رينيه للأسفل على غرفة القراءة، مراقبًا البحث عن «السعادة» الذي يشغل جماهير محبِّي القراءة (الذين يُوصفون بديدان الكتب أو بالنحل)؛ حيث ينقِّب كلٌّ منهم في نصِّه المُنفصِل. جديتهم واستغراقهم — في طلب الكتب، وتدوين الملاحظات في صمت، وحكِّ رءوسهم — يَجعلانهم يبدون غير واعين، مثل الكتب التي يَلتهمونها بشغف في بحثهم.

يُحقِّق فيلما رينيه الوثائقيان الخالدان الآمال التي دفعت ألكسندر أستروك قبل عقد تقريبًا إلى كتابة بيانه المُعنوَن «من أجل طليعة جديدة: الكاميرا-القلم». تحدى أستروك صُناع الأفلام لمناقشة الموضوعات الفلسفية من خلال خطاب سينمائي.49 وهذا ما فعَله رينيه. يُمكن اعتبار أفلامه مؤلَّفات بالمعنى الحرفي للكلمة؛ فهي مؤلِّفة على نحوٍ مُثير من مواجهة الكاميرا عالَمًا ماديًّا عنيدًا، وواقعًا أدبيًّا عصيًّا على التغيير بالقَدر نفسه (نصوص كُتَّاب راسخين مثل جون كايرول، وريمو فورلاني، وبعد ذلك بفترة قصيرة مارجريت دوراس). حتى حينما كُلِّفوا بإنتاجها، أتاحت حرية الأفلام القصيرة لرينيه وماركر وفرانجو وفاردا وغيرهم استراتيجيات تركيبية جريئة. وحينما مُنِحوا فرصة صنع أفلام روائية في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، كانوا مسئولين عن ميلاد السينما الحديثة؛ مثل: «كليو من ٥ إلى ٧» («كليو فروم فايف تو سفن»، «كليو دو سانك آ ست»، ١٩٦٢)، و«عيون بلا وجه» («آيز ويذاوت افيس»، «لي يو سان فيزاج» ١٩٦٠)، و«هيروشيما حبي».50

يَعِد العنوان الذي منحته فاردا لفيلمها باستمراريةٍ زمنية كاملة، ويُحقِّق ذلك تقريبًا، إذ تُختَزل نصف ساعة فقط من الفترة ما بين الخامسة إلى الساعة السابعة في مساء يوم باريسي عادي. لكن بالنظر من مَصفاة نظرة كليو المحدِّقة، تبدأ المدينة تتكشَّف. ومثل كاثرين في «رحلة إلى إيطاليا»، فإن هذه الجميلة المنشغلة بذاتها تدرك مع الوقت الغمامة التي تَلبسها، وتسمح لنفسها في النهاية بالتفاعل مع العالم الموجود خارج ذاتها، وخصوصًا جنديًّا على وشك العودة إلى الجزائر. ويكون كشفها أكثر إعجازية لأنه معَدُّ بدقة في الزمان والمكان. يعتمد «هيروشيما حبي» بالقدر نفسه على إحداثيات دقيقة، إلا أنه يجتمع في هذا الفيلم زمانان ومكانان، في جسدَي رجل ياباني وامرأة فرنسية. وكما في «ليل وضباب»، تُنافس المَشاهِد الخام رغبات البشر في التعامل مع كلٍّ من الماضي والحاضر (لم ترَيْ أيَّ شيء في هيروشيما، أي شيء). لا تحوي «الوثيقة» ولا «الوثائقي» — أو لا يُمكنهما أن يوصِّلا — صدمةَ ما هو بالأساس الغياب المفرَّغ من التاريخ البشري بفعل التفجير الذري. لا بد أن رينيه زار متحف السلام الذي سبق افتتاحُه عرضَ الفيلم بفترة وجيزة، ومثَّل مناسبة لصنع الفيلم في المقام الأول، بوصفِه مَعلَمًا للخواء. لكي يمثل هذا الخواء، كان هناك احتياج لبشر ذوي رغبات عميقة، مثلما كان رينيه يحتاج إلى تصوير أولئك القارئين المتحمِّسين في المكتبة الوطنية. أتاحت مارجريت دوراس ما كان يحتاجه رينيه، فهي لم تَصنع شخصيات بقدرٍ ما صنَعت رغبات مجسَّدة؛ شخصيتَين تَستكشِفان إحداهما الأخرى بلغة الرغبة، وتَسبران المواضي التي تُفصح عنها كل واحدة منهما مثل باب مفتوح. تسلك كاميرا رينيه عبر هذين البابين، مُكتشفةً الغياب في قلب الشغف، والموت في قلب الحياة.

تتبُّع السينما في القرن الواحد والعشرين

ما الذي يَعنيه تركيب فيلم في زمننا هذا؟ اسمَحوا لي بالعودة إلى فيلم «المصير الخرافي لأميلي بولان»، وهو الفيلم الذي يَجعله نجاحُه الكبير في مختلف أنحاء العالم مؤشرًا جيدًا. من البداية، هناك صوت راوٍ يَتحدَّث بسرعة، مصحوبًا بمونتاج نشط، يروي الحكاية الخيالية الأخاذة عن فتاة خجولة تتحول أُمنيتها في حياة سحرية إلى حقيقة حينما تدرك أنه يمكنها في صمت تحلية حيوات الآخرين بالأعمال الطيبة. يأتيها هذا الإدراك بعد أن يُصيبها الهزال وهي نائية في غرفتها المنعزلة، تحلُم حرفيًّا ﺑ «مصير أميلي المحطَّم»، مشهد ميلودرامي إخباري بالأبيض والأسود، معروض بسرعة على الشاشة في ٢٩ لقطة. هذه السيرة الذاتية التي تُشبه القصص المصوَّرة عن حياة افتراضية تقدم لنا النموذج والمُحرِّك لمونتاج جون-بيير جونيه الذي يبني على مدار الفيلم بطريقة سريعة مَشاهد تتابعية لشظايا متفرقة بقدر هائل، تؤدِّي لصنع مشاهد رائعة، واحدًا تلو الآخر. أحد هذه المشاهد يَخرج مباشرة من رأس أميلي، حينما تُحاول تخيُّل لماذا لم يأتها نينو في موعده. يُصاحب صوت الراوي التالي للمشهد ٣٠ لقطة سريعة تأخذنا عبر سلسلة من الحوادث الجامحة:

تأخَّر نينو لأن ثلاثة مساجين هاربين اقتحموا مصرفًا وأخذوه رهينة. ورغم ملاحقة كل ضباط الشرطة في المنطقة لهم، نجحوا في الهروب. لكنه استطاع أن يتسبَّب في حادث سيارة. حينما استعاد وعيه لم يقدر على تذكُّر أي شيء. التقطه سائق شاحنة، سجين سابق، ورماه في الحاوية، ظنًّا منه أنه مُتمرِّد، متجهًا نحو إسطنبول. وهناك قابل مُغامرِينَ أفغانيِّينَ اقترحوا أن يذهب معهم لسرقة رءوس نووية سوفيتية. لكن شاحنَتهم اصطدمت بلَغمٍ بالقرب من حدود طاجيكستان، وكان هو الناجي الوحيد. اختبأ في قرية جبَلية، وأصبح فردًا في ميليشيا طالبان. مع ذلك ظلَّت أميلي لا تستطيع أن تدرك لماذا أضاعت وقتها على فتًى مثل هذا سيَقضي ما تبقَّى من حياته يتناول حساء البورش في إناء سخيف على رأسه.

يَصنع جونيه لقطة فردية قصيرة لكل مقطع منفصل في الحلم الذي يُروَى. وتَستخدم مشاهدُ كثيرة أسلوبَ لوحة المَشاهد المقطَّعة هذا، مع تحديد بدايات اللقطات ونهاياتها بعناية، وغالبًا ما تُبرَز بصريًّا أو سمعيًّا. في هذه الطريقة، تؤكد كل لقطة أو توصِّل بوضوح فكرة واحدة تسهم في مشهد حُدِّدَ مساره منذ وقت طويل في مرحلة الكتابة. يُعطينا جونيه كثيرًا من الرموز لهذا الأسلوب الجمالي في شارة الفيلم: مجموعة من ثمرات الفراولة على أطراف أصابع تُبتلَع بتتابُع سريع، وصفوفًا طويلة من الفقاعات البلاستيكية على ورقة، تُفرقَع واحدة تلو الأخرى، وأكثر هذه الرموز وضوحًا وهو صف ملتوٍ من أحجار الدومينو التي تتساقَط واحدًا تلو الآخر. تمثل هذه الأحجار المتساقطة — وهي أول صورة في الفيلم — الاستراتيجية الشاملة للَقْطة تسقط إثر لقطة مُجاورة لها، وهكذا حتى تحقِّق المجموعة بكاملها متعة النهائية المنمَّطة. بالطبع، يجب تنعيم حوافِّ أحجار الدومينو لتُصبح متجانسة ثم توضع في صفٍّ متماثل. هذه هي وظيفة لوحة المَشاهد التي يدَّعي جونيه بفخر أن تصويره لا يَحيد عنها؛ لأنه يجب أن يعمل كل عنصر على نحوٍ قابل للتنبؤ، وكل شخصية يجب أن تُظهِر بدقة «ما تحب وما تكره» قبل المشاركة فيما هو بحق «تدبيرات» الحبكة.

الفيلم مقسَّم إلى مقاطع تُصممها بطلته الخيِّرة لتُفاجئ معارفها في الحي ولتساعدهم. تعتمد خدعها العبقرية على المُعادِل الأخلاقي لفيزياء نيوتن؛ حيث تصنع صفًّا من العناصر التتابعية التي يَشغل كلٌّ منها العنصر الذي يليه للعمل، كالمُرَحِّل أو المحرك في الآلة. تقود نينو إلى كنيسة القلب المقدَّس باستخدام كابينة هاتف، وتمثال، وعلامات بالطبشور، وتليسكوب، بترتيب اكتشاف هذه العناصر نفسه. تُعذِّب أميلي بائع الخضراوات بتغيير روتينه الصباحي (المُنبه، والغرغرة، والحذاء) حتى انتهى به الحال أمام متجره في منتصف الليل. أميلي هي قائدة المنظور الأخلاقي. ووراءها، يَتطلَّع دوفايال الفنان، من موقف المخرج البديل، الذي يُصمِّم، بسبب عزوفه الجنسي وتنسُّكه، مصيرًا شهويًّا هو الأكثر روعة لهذا الملاك. أكثرت المُراجَعات من القول إنَّ فيلم «أميلي» أعاد الجاذبية والسحر إلى السينما.

ليس السحر بالطبع على الإطلاق، ولكنه العمل المحسوب لتركيب الفيلم (التحرير) هو ما يقود هذه الشخصيات التي يَتتبَّعها عن قرب المشاهدون المبهورون، وهي تمضي إلى مصائرها المقدَّرة سلفًا. هذا هو وقع «أميلي» الذي لا يتساءل سوى قليل من الجمهور كيف يَجرفهم معه. ولو أنهم سألوا حقًّا، كيف سيردُّون؟ يُربك تعقيد التحرير السمع-مرئي حتى دارسي السينما حينما يُطلَب منهم تحليل لقطات مشهد من فيلم كلاسيكي، فضلًا عن عشر دقائق من فيلم لجودار. يبقى التحرير، وهو المرحلة الوسطى بين التسجيل والعرض، بعيدًا وغامضًا للجمهور العام، على الرغم من أن هذه هي المرحلة التي تتولى فيها مهارات صانع الفيلم الخطابية أو التعبيرية مقاليد الأمور من لحظة التسجيل غير المتوقَّعة جزئيًّا، وحتى تأثيرات العرض غير المتوقَّعة كليًّا. ربما يكون السبب هو أن الموفيولا أو طاولة التحرير — على العكس من الكاميرا أو جهاز العرض — هي جهاز غير مألوف، وإن كان خليفته دخل السوق المألوف على هيئة برنامج كمبيوتر يتَّخذ اسمًا من قبيل «فاينال كت برو».

يعني تحرير الأفلام اليوم عمومًا تحويل كل المُدخَلات السمع-مرئية إلى معلومات رقمية تُعالَج بعدئذ ببراعة حتى تصل إلى النسخة النهائية. لا يشكو سوى القليلين في صناعة الأفلام من هذا التقدُّم التكنولوجي الذي لا يُمكن إنكاره، ومن السرعة والملاءمة اللتين يجلبهما، فضلًا عن الخيارات اللامحدودة التي يُتيحها لتصحيح المادة الفيلمية الخام وتَحسينها. يظلُّ هناك صُناع أفلام عنيدون، يَعتقِدون أن التحرير نوع من النحت، ويَحتاجون للمس شريط السيليولويد، وقياس طول اللقطات بالأمتار بدلًا من المعيار الرقمي. ويأسف كثير من المُمثِّلين والمخرجين المنتمين إلى المدرسة القديمة لتفكُّك المَشاهد إلى عناصر منفصلة، معتبرين أنه احتقار لمهنتهم، ولعلَّهم نسوا أن «الديكوباج» دائمًا ما كان يحدث بطريقة أو بأخرى. نعى جون-بيير جيون هذا الانتقال في التركيز من التصوير إلى ما بعد الإنتاج؛51 حيث أفسح فن تصميم المشهد الطريق لمهارة «تركيب» طبقات العناصر البصرية. وأصرَّ المخرج مارتن سكورسيزي على صنع فيلمه «عصابات نيويورك» («جانجز أوف نيويورك»، ٢٠٠٢) في استوديوهات تشينيتشيتا في روما، مدركًا أن هذا ربما يكون آخر فيلم بميزانية ضخمة يُصوَّر بالكامل في موقع التصوير، بحضور كل المُمثِّلين لتمثيل مشاهدهم.52 كان يأمل في تصوير — أو استكشاف — أدقِّ الدلالات لإيماءات دانيال داي لويس، وليوناردو دي كابريو، وبقية الفريق وهم يُمثِّلون في مواجهة بعضهم بعضًا في موقع حقيقي. كان يفهم أن المساحة الواقعية مَجال للمهارة، وكان عليه مساعدة الممثلين في التوصل إلى الحركات التي سيُؤدُّونها من خلال التدريبات، وإعادات التصوير المتكرِّرة. لكن التركيب الأساسي للفيلم حدَث هناك حينئذ، لا لاحقًا على الكمبيوتر. كان ضوء الشمس الحقيقي الذي تُعزِّزه عاكسات بالطبع يَرتد من الوجوه في الزمن الحقيقي. كان هذا يعني الكثير لسكورسيزي في مُحاولته للتنقيب في أعماق السيناريو والمُمثلين. اختلفَت الأمور لديه في فيلمه التالي «الطيار» («ذي أفييتور»، ٢٠٠٤)، على الرغم من أنه حتى في هذا الفيلم، مُلئت المشاهد الرئيسية بمُمثِّلين يواجه بعضهم بعضًا في مواقع حقيقية، بينما «سيد الخواتم» («لورد أوف ذا رينجز»؛ جاكسون، ٢٠٠١–٢٠٠٣)، و«كينج كونج» (جاكسون، ٢٠٠٥) وبالتأكيد «بيوولف» كلها مركبة بكثافة لدرجة أن كل وجه يبدو مصوَّرًا على نحوٍ مُنفصِل في أفضل وضع معبِّر؛ ليُضاف إلى اللقطة، ثم إلى المشهد من قِبَل المُحرِّر. ربما تستحق الأفلام الجماهيرية المصنوعة بهذه الطريقة أن تصنَّف في فئة «الأفلام المتحركة».
لم يكن هذا ليُثير ضيق شون كيوبيت الذي يُصرُّ في كتابه «أثر السينما» على أنه قبل ظهور التقنية الرقمية بوقت طويل — بدءًا من ميليِي حقًّا — كانت الأفلام تُبنى من عناصر مقطَّعة جميعًا على طاولة أو في معمل. ويُفترض أن «القطع» يُحوِّل الطاقة المرئية الصافية (التي لم تُصبح بعدُ معلومات) لما التقطته الكاميرا إلى وحدات لها شكل ومنظور. هنا يُمارس المنتج سيطرته على عملية صناعة الفيلم، مُنجزًا من خلال التحرير تلك التأثيرات التي يَعتبرها الجماهير «رائعة».53 يَعتقِد كيوبيت أن التحرير هو بمنزلة «المؤثر الخاص» الأساسي للسينما، بلا تغيُّر، حتى لو كان يُمارَس الآن على برامج «أفيد» بدلًا من طاولات مزودة بأدوات مزامَنة وإعادة للشريط. لكن أليس من الممكن أن تُغيِّر المواد الجديدة التي يعمل بها المحرِّرون جوهر مفهوم ذلك العمل؟ كان «القَطع» في الأساس يتمُّ بشكل طولي على شريط السيليولويد على حد الإطار. هذه الحدود الثابتة تختفي في برنامج «أفيد» الذي لا يقيس الوحدات المكونة للفيلم بالطول (عدد الأمتار أو الأقدام أو الإطارات)، ولكن بالمعيار الزمني.54
وحتى مع إتاحة التقنيات الجديدة التحكُّمَ في الصورة، فإن فكرة «السينما بوصفها استكشافًا»، حيث لا يكون المخرج متحكِّمًا بالكامل، ما زالت لا غنًى عنها. ويَعتنق هذه الفكرة عن السينما اليوم بقدر كبير مُخرجو «كاييه»، مثل أوليفييه أساياس، وأرنو ديبليشان الذي يتحدَّث عن «التنقيب في المَشاهِد.» وهو يعني بهذا تجاوز المرئي لكشف ما هو خفي أو مُستتِر داخل نص، أو داخل موقف، أو داخل المُمثلين الذين يخوضون هذه الرحلة معه.55 لم يفعل تقدُّم التقنية الرقمية إلا أن زاد من عدد المُخرجين الذين يَستحقُّون مشاهدة أفلامهم، والعمل على طائفة من الموضوعات الجديدة من خلال المصافي المختلفة لأساليبهم. بعضهم — مثل عباس كيارَستامي في إيران، وجيا جونج-كي في الصين — تحولوا كليًّا إلى التقنية الجديدة، مادِحين ملاءمتها ومطاوَعتها واتساقها. ولم تزل فكرة السينما التي كشَف عنها روجيه لينارت مُلحَّة مَهما تدفعُها التكنولوجيا للأمام.
ويُمكنها أن تأتيَ من أي مكان. في عام ٢٠٠٧، مُنِحت سعفة «كان» الذهبية لمُخرج روماني يَعتنق أسلوبًا أدبيًّا وجماليًّا أشادت به «كاييه». هذه المرة، التزمَت لجنة التحكيم في مهرجان «كان»، وهي التي كثيرًا ما تتأثر مع الأسف بالأبعاد الاقتصادية والسياسية لصناعة الترفيه، بالمبادئ الحاكمة للجوائز. وكما قال فرودون في شهر يونيو من ذلك العام بعد انتهاء المهرجان:

[حقيقة أن لجنة التحكيم أعطَت] الجائزة الكبرى لفيلم يتميز بالموهبة والإتقان، مثل فيلم «٤ أشهر و٣ أسابيع ويومان» (٤ مانث، ٣ ويكس، ٢ دايز)، صنعه مُخرِج مجهول تمامًا، مثل كريستيان مونجيو، تدلُّ على شيء بذاتها، وهو أكبر من مجرَّد لفتة لطيفة … هذا الاختيار مُستحَق لأسباب عدة؛ أولها بالطبع الفيلم نفسه ومخرجه، لكن أيضًا بسبب السينما الرومانية الصاعدة التي أشارت إليها «كاييه» مرارًا على مدار العامَيْن الماضيَين، وساندتها في صعودها للأضواء، وأخيرًا من أجل السينما الناشئة في كل مكان في العالم وآمالها في التجدُّد.

figure
فتاتان ضعيفتان في المدينة. «أميلي»/«٤ أشهر و٣ أسابيع ويومان».

وعلى الرغم من أن «٤ أشهر و٣ أسابيع ويومان» يُشبه «أميلي» في عرضه للحياة السرية لفتاة ضعيفة في مدينة كبيرة، فإن «٤ أشهر و٣ أسابيع ويومان» يقف على الضد من جماليات الفيلم الفرنسي من كلِّ الطرق. بينما تتجوَّل كاميرا جونيه في باريس، وتخترق الشقوق في إزارات جدران الشقق السكنية، وتتسلَّق قِمَم الجبال، وتُظهِر العالم المرئي بالكامل على الشاشة (فضلًا عن الخيالات والرُّؤى — هذه السُّحُب الجميلة على هيئة حيوانات)، فإن مونجيو يَقتصِر بصرامة على ما تراه وتُواجهه بطلة فيلمه، أوتيليا. وبينما يربط جونيه بوضوح بين مئات القِطَع المُتناثِرة ليُكوِّن منها بضعة خطوط للحبكة، مفرطة في التفاصيل، منسوجة حول طريق أميلي المحيِّر منذ ولادتها حتى عثورها على السعادة، فإن مونجيو يبسط بهدود لقطة طويلة للغاية تلو الأخرى ليَصنع ١٦ ساعة من يوم واحد عصيب. لا يوجد هناك صوت راوٍ يُقرِّر ما ينبغي علينا أن نلحظه. بالطبع، هناك حذوفات كثيرة في زمن الفيلم البالغ ١١٠ دقائق، وحذوفات أكثر كثيرًا في المعلومات، تَجعل المُشاهد يُجاهد ليَستبطن ما تنوي أوتيليا عمله وما تُفكِّر فيه.

يَنحدِر الفيلم الروماني من فيلم «أمبرتو دي» ومجازفة زافاتيني بصنع فيلم عن ٢٤ ساعة في حياة شخص لا يَحدث له شيء. وبينما يحدث الكثير في فيلم مونجيو، فإنه، مثل دي سيكا مُخرِج «أمبرتو دي»، مُستعد لإنفاق وقت ثمين على أحداث صغيرة اعتيادية. يعطينا مونجيو معادل المشهد الذي اختاره بازان في «أمبرتو دي»، وهو لقطة في وقت الحدث، تُظهِر خادمة المنزل الحبلى وهي جالسة تطحن حبوب البن مديرة مقبض المِطحنة مرة تلو الأخرى. في «٤ أشهر»، تقودنا أوتيليا خلال الرَّدهة في سكنها الجامعي؛ حيث تَختبئ في الحمام، ثم تعثر على أصدقاء في غرفة أخرى تُستَخدم كسوق سوداء لمُستحضِرات التجميل، وتتوقف لتحنو على قطة تأويها مؤقتًا طالبة أخرى لن نراها مجدَّدًا. هذا التتابع للمَشاهد المصوَّرة أيضًا في الوقت الفعلي لحدوثه، يُقدِّم الزمنية الكئيبة لعدد لا يُحصى من الأيام المُملة في رومانيا الاشتراكية، كل يوم يُشبه الذي يليه، تقابله أحداث درامية مكثفة تتطور في اليوم الحادي والعشرين، الأسبوع الثالث، والشهر الرابع من حَمْل جابي.

كان من شأن لينارت أن يُعرِّف كل لقاء مُختصَر في الرَّدهة بأنه تَقارُب؛ صورة من العالم الأكبر تُوازي الأحداث المحدَّدة التي تمرُّ بها أوتيليا وجابي، أو تتجاوَب معها: النظافة الشخصية، وجسد الأنثى أثناء الاغتسال، والتجارة السرية في السوق السوداء (ويشمل هذا أشرطة الفيديو المُقرصَنة) وراء الأبواب المغلقة، وقطة يتيمة تحتاج إلى الحماية. وكان من شأن مالرو أن يشيد كذلك بحذوفات مونجيو الحكيمة بسبب كلٍّ من الطريقة المرتَّبة التي تدفعنا بها هذه الحذوفات بقوة في قلب دراما أخلاقية بالأساس، والطريقة التي تُجبِرنا بها على محاولة تكوين عالمٍ تُواجهه الفتاتان بالمثل باعتباره مُلغِزًا، وليس معطًى بالكامل. يلحُّ الغموض والتهديد حتى حين تتطوَّر المشاهد بلا قطع: عشاء العائلة في شقة الرفيق؛ والمناقَشات مع من سيُجري عملية الإجهاض، ويتَّسمان بالحِذْق لدرجة أن القليل من المُشاهدين يَعرفون أي اتفاق قُطِع ومتى؛ وبجرأة وقسوة، تُعرَض عملية الإجهاض نفسها التي تتمُّ على كيس بلاستيكي يُغطي فرش سرير أحد الفنادق، من بدايتها لنهايتها.

السرير الفندقي هو أيضًا موقع أهم حذف في الفيلم قبل حدوث الإجهاض بدقائق حيث يضاجِع المُجهِض أوتيليا في إطار الاتفاق. هذا هو الخواء الأخلاقي غير المرئي في مركز كلٍّ من النظامين الاجتماعي والفيلمي، ثقبهما الأسود. لا يفرض مونجيو رقابة على نفسه حقًّا هنا؛ فالحدث البغيض يَحدث في الغرفة بينما تنتظر جابي خارجها في الرَّدهة، ثم في الحمام، مُدركةً تمامًا، مثلنا، ما يَحدث على بُعد أقدامٍ منها. هذه هي اللقطة الوحيدة في الفيلم من وجهة نظر مختلفة عن وجهة نظر أوتيليا، مشيرة لشيء تقول أوتيليا، في آخر سطر في الحوار، إنها لن تتحدَّث عنه مرة أخرى. هذا عالم يجب علينا استِحضاره من زوايا محدودة، وغالبًا في ضوء خافِت، ومن خلال قِطَع صغيرة من الحوار تُعطينا لمحات عن الدوافع، وتُشير إلى روابط مُتبادَلة بين أشخاص لم نُقابلهم من قبل لكن يجب علينا تخمين أدوارهم في الفيلم.

يَزِل مونجيو في مرة واحدة حين يُعطينا معلومات ورُؤية تتجاوَز رؤية أوتيليا. يفتتح مشهدًا بتتبُّع راكب دراجة عشوائي في لقطة بانورامية واسعة، مارًّا بأطفال يَلعبون كرة القدم في ساحة الخدمة الفارغة لمبنًى سكني غير مميَّز. وأثناء مرور راكب الدراجة، تتوقَّف سيارة في الساحة ليقطع مونجيو المشهد مُظهرًا أوتيليا وهي تجلس بجانب المُجهِض في المقعد الأمامي. بهذه الطريقة يُعاد بناء قاعدة الفيلم مرةً ثانية فورًا؛ لأنه حينما يخرج المجهِض من السيارة متجهًا إلى والدته الجالسة على مقعد بعيد، تظل الكاميرا تعرض رؤية أوتيليا المحدودة. يجب عليها (وعلينا)، تخمين ما يحدث.

يتكَّشف «٤ أشهر» أمام عينَي المشاهد كسلسلة من الأسرار، والغوامض، والمُوارَبات. ويستلزم موضوعه البارز — وهو الإجهاض — هذا؛ حيث يواجه جميع المنخرطين في الأمر خطر التعرُّض للسجن. لكن يبدو كل المتورِّطين في هذا مسجونين في غرف وأبنية كئيبة في مدينة كئيبة. يُحمَل الجنين الملفوف في مِنشفة خلال أزقة مظلمة، ثم يُصعَد به سلالم مشئومة حتى الطابق الحادي عشر من مبنًى مجهول، ويُلقى في أُنبوب يُوصل إلى حاوية القمامة في الأسفل. لن يُذكَر هذا الأمر مرة أخرى في أي محادثة، وهو ما تتَّفق عليه الفتاتان أثناء تحديقهما في طبق لحم لا يفتح الشهية يُقدِّمه لهما النادل. في الوقت نفسه، وفي الخلفية، يَثمل المشاركون بصخب في عُرس.

سارع النقاد الاجتماعيون في وصف الفيلم بأنه ضربة موجهة للشيوعية، وهذا أكيد؛ لكن مونجيو يصرُّ بحق على أن نصَّه المكتوب بعناية يهدف لحمل شخصياته ومُشاهده لوسط ولإحساس من فترة زمنية محدَّدة، تشبه غالبًا أفلام الشوارع الألمانية، والظلام الذي أحدثته في الواقعية الشعرية الفرنسية ثم في هوليوود. لكن على العكس من تلك الأفلام المنتمية إلى العصر الكلاسيكي، فإن «٤ أشهر» يَرفُض أن يمنح نفسه الراحة التي يوفرها راوٍ ماهر، مسموع أو كلي المعرفة بطريقة أخرى. يقود سر الإجهاض الخفي الفيلم لأسرار أشد قتامة تخصُّ النظام الاجتماعي الذي يُريد أن يظلَّ خفيًّا عن المواطنين الذين يُراقبهم. ربما ينتهي بنا الحال ونحن مُرتابون بشأن تدابير هذا العالم، لكن بفضل الملاءمة والصرامة اللتَين يتمتَّع بهما أسلوب مونجيو — المصفاة التي فرَضها على نفسه وعلينا — نحن مُتأكِّدون تمامًا من الطريقة التي يَشعر بها هذا العالم، ونستطيع أن نُناقِش تبعات هذا الإحساس بالتحديد.

التضاد بين «٤ أشهر» و«أميلي» المبيَّن هنا يُمكن تكراره مع كثير من ثنائيات الأفلام والمخرجين، لكنه قد لا يكون بالوضوح ذاته مع كلٍّ من جيا جونج-كي وتشين كيج، وهو تضادٌّ واضح جدًّا على صفحات «كاييه». عبَّر جيا جونج-كي عن فكرته المتميزة عن السينما في مقابلة صريحة بشأن فيلمه «حياة ساكنة» («ستيل لايف»، «سانشيا هاورين») الفائز بجائزة مهرجان فينيسيا عام ٢٠٠٦. يَذكر جيا معركة التوزيع التي خسرها فيلمه لصالح أفلام جماهيرية برعاية الدولة؛ مثل «لعنة الوردة الذهبية» («كروس أوف ذا جولدن فلاور»، ٢٠٠٦) لجونج ييمو، أو فيلم «الوعد» («ذا بروميز»، ٢٠٠٥) لتشين كيج. أخذ فيلم «حياة ساكنة» يُعرض في دور عرض صغيرة في أطراف بكين، بينما هيمَن مُنافساه المصنوعان بأكبر الميزانيات في الإنتاج السينمائي الصيني، المَصحوبان بحملات دعاية ضخمة، على كثير من دور العرض في العاصمة والدولة. اشتمل النِّقاش الحاد الذي ظهر في الصحافة الغربية بشأن هذا على ما هو أكثر من مجرد معركة تقليدية بين الفن وصناعة الترفيه. اشتمل على مناقشة طبيعة السينما، وعلى مستويات كثيرة.

على الرغم من أن «الوعد» كان مخيبًا للآمال بقسوة، فإن تشين روَّج لهذا المشروع بِناءً على أوجُه التقدم الرقمية التي أتاحت له تحريك اللقطات المصوَّرة بأبعاد «سوبر ٣٥ مليمترًا» بفعالية. أما فيلم «حياة ساكنة» الذي كان يعكس العملية فقد صُوِّر رقميًّا، ثم حُرِّر بجماليات فيلمية متميزة. يضمُّ الفيلمان مشهدًا مهمًّا في وادٍ عميق. في بداية «الوعد»، يجد البطل نفسه وسط جيش من العبيد في قاع وادٍ ضيق، يُشرِف عليه من قمة منحدَرٍ قائدٌ عسكري مع حاشيته. يَزيد تشين من الترقُّب، مُفضيًا إلى ظهور قطيع مذعور من الثيران، بالقطع ذهابًا وعودة بالكاميرا بين العبد والقائد العسكري. وكما في «أميلي»، لا يفلت شيء من كاميرا تشين، حتى إننا نرى لقطة مقربة لدبور يَطنُّ يُثير ضيق القائد العسكري الذي يَقبض عليه بقبضته بعد لقطتين. في اللقطات التي تتخلل هذا، يختلس البطل النظر إلى القائد العسكري من أسفل، ثم يضع أذنه على الأرض ليُقيِّم الخطر الذي يتجه نحوه. تخترق الكاميرا طريقها لحواسه، وعينه، وأذنه. وبمجرد بدء الأحداث، نتتبع البطل وهو يَتحاشى الثيران الآتية، ثم يسبقها، بينما يُراقبه سيده من خلفه من أعلى. نرى حركة خارقة للقدرات البشرية بزمن رقمي على الأرض من منظور ثَور هائج، ومن وجهة نظر البطل وهو وسط القطيع، ثم القفز فوق ظهور الحيوانات لمواكبة ركضه الخارق؛ ونُمنَح بين الفَيْنة والأخرى لقطات رائعة من المكان الذي يقف فيه القائد العسكري، ثم لقطات من أعلى للوادي العظيم المتعرِّج، فوقَهم جميعًا، والغبار يَتصاعد في الهواء. قدَّم تشين صورًا متحركة لواحد من أشهر المقاصد السياحية في بلاده.

figure
قائد عسكري يرى كل شيء. «الوعد».

تقع أحداث «حياة ساكنة» في موقع أكثر شهرة، وهو سدُّ الممرات الثلاثة. يبدأ أحد أعقد المشاهد في الفيلم في قمرة قيادة سفينة سياحية تَسير برَوِيَّة في اتجاه التيار. وبدلًا من الراوي العليم الذي يَروي أحداث أسطورة «الوعد»، فإن صوت الراوي في «حياة ساكنة» يَخرج من سماعات القارب الجَهورة على هيئة سرد تاريخي عن المشروع، ويتضمن قصيدة من عصر أسرة تونج الحاكمة عن الوادي. بقطع اللقطة والاتجاه للسطح الرئيسي للسفينة، يركز جيا جونج-كي على شاشة تليفزيون تحتلُّ ثلثي الشاشة في صدر الصورة. يُظهر شريط سينمائي إخباري بالأبيض والأسود أعضاءً في الحزب يُدشِّنون مشروع السد الذي يَجري بناؤه في زمن الفيلم على قَدَم وساقٍ. وإلى اليسار، في المُنتصف يتجوَّل المسافرون وربما يتحدثون، بينما مِن خلفهم، خارج بؤرة الصورة هناك المشهد الطبيعي الذي يستمرُّ الصوت الرسمي في إخبارهم به. يُقطَع المشهد لتذهب الكاميرا للبطلة وهي جالسة بمُفردها على ظهر السفينة تشرب الماء المعبأ في قارورة، ثم تنظر فيما وراء قارب آخر يَتجاوزونه إلى التلال التي تعلو النهر؛ حيث يخفت الصوت، وتمهد موسيقى من خارج المشهد مِزاجًا تأمليًّا. يبدأ المشهد التالي في الظهور، لنرى البطل على قمة تلٍّ يَنظر لأسفل. تعلو أصوات بوق السفينة، بينما يُرى — ونرى نحن — ما يبدو أنه السفينة السياحية نفسها في الأسفل؛ حيث يُمكننا أن نسمع نبرة صوت المرشد السياحي البعيد. تَسير الكاميرا بشكل بانورامي بسرعة القارب الذي يُصدِر صوت الموتور بإيقاع يَتوقف بانتهاء المشهد. هنا يُقارب جيا جونج-كي رويدًا رويدًا بين الشخصيتَين الرئيسيتَين في الفيلم اللتَين لا تتقاطع حياتاهما أبدًا؛ حيث يَبحثان كلاهما عن شريكي حياتيهما. ويفعل هذا في زمن الفيلم وفي ثنايا التاريخ (القصيدة التي ترجع إلى عهد سلالة تونج، والأشرطة الإخبارية) في الوقت نفسه. وكما في «الوعد»، يُرى الوادي من أعلى ومن أسفل، لكن ليس من خلال أعيُن الشخصيات التي تعيش الحدث، وبالتأكيد بلا أدنى صلة بالحبكة. إنهم جزء من تدفُّق النهر والتاريخ، والفيلم يتدفَّق بالطريقة نفسها.

قال جونج-كي لمجلة «كاييه» عن العنوان الذي يَحمله فيلمه في الغرب إنه بالإضافة إلى أنه يوحي بلوحة؛ «فإنه يُوحي بكشف آثار حياة لم تَعُد موجودة، أو بالأحرى، طريقة حياة لم يبقَ عنها سوى أكثر الأدلة أساسية. وعلى الرغم من كل شيء، فإن «حياة ساكنة» يُريد إيصال الإحساس بالحياة بوساطة أبسط الأشياء؛ كالسجائر والخمر والطعام. فمن خلال هذه الأشياء يتواصل الناس مهما يكن؛ إذ يشعرون بأنهم معًا حتى من غير أن يتحدَّثوا. هذه الأشياء العادية تكوِّن بناء الفيلم.»56

في ثلاث لحظات مُثيرة للحيرة، يَستغلُّ «حياة ساكنة» المؤثِّرات الخاصة التي تُتيحها صوره الرقمية دومًا. شهاب يُسافر في سماء الليل، وبعض الأبنية في خلفية مشهد تنهار فجأة، والأكثر غرابة، تمثال تذكاري غريب الشكل يُقلع من الأرض إلى السماء أمام ناظرَيِ البطلة التي لا تبدو أنها تَستوعِب ما ترى. وكما في تُحفته السابقة، فيلم «العالم» («ذا وورلد»، ٢٠٠٤)، جيا جونج-كي مُستعدٌّ لنشر الصور المتحركة، لكن دائمًا في خدمة السينما، ولا يحاول تجاوزها. في «العالم»، تهرب الشخصيات الشابة المحبوسة في مدينة مَلاهٍ؛ حيث يعملون وراء الكواليس، بتركيز آمالهم على هواتفهم المحمولة التي يُفتِّشون فيها باستمرار. وفي حركة جريئة، يُضخِّم جيا جونج-كي الرسائل النصية القصيرة التي يرسلها أحدهم إلى الآخر، إلى مشهد صور مُتحرِّكة على شاشة عريضة ملونة بذكاء؛ حيث تتدفق المشاعر الغامضة أو الواضحة عبر هذه الهواتف الصغيرة إلى أكثر المساحات التي يُمكن تخيلها رحابة وتحرُّرا. العالم الافتراضي الذي يَلِجون إليه من خلال الرسائل النصية أصبح العالم الوحيد الذي له قيمة لأولئك الذين يعملون داخل «العالم». وكما يقول إيمانويل بوردو في «كاييه»، يقدم جيا جونج-كي صورًا مصغَّرة لآثار ضخمة على جانب، ويُقدِّم لقطات سينما سكوب بالغة الكبر لشاشات هواتف محمولة صغيرة على الجانب الآخر. القياس هنا معكوس.

تبدو هذه المشاهد المتحركة الفائقة تمجد الحرية المذهلة التي تتيحها التقنية الرقمية، وتُسهم فيها. ومع ذلك، ومثل مدينة الملاهي التي تَمنح الفيلم عنوانه، فإنها مقيدة بالدراما الإنسانية والاجتماعية التي تتخلَّلها مثل الثقوب في قطعة الجبن. يتضح أن جيا جونج-كي مُخرِج حَداثي كرَّس نفسه لهذا النوع من الاكتشاف الذي اتخذه مُخرِجو الواقعية الجديدة رسالة لهم. تظهر أفلامه التذبذب بين الخطوط الزمانية المتعايشة التي تجعل الحياة في الصين حياة مُؤلمة وقهرية معًا في هذا القرن الجديد. تتبدَّل الصور التي نراها بين ألوان الأحلام، والوجوه التي تُرى بالكاد في الضوء الخافت لأقارب البطل الفلاحين من مقاطعة شونج-تشي الذين يَصِلون إلى بكين للمطالبة بجثة ولدهم (وبتعويض) بعد حادث بناء. هنا يبدأ ضوء اللقطات المُتحرِّكة المصنوعة رقميًّا في إظهار شيءٍ يَنتمي للواقعية الجديدة.

figure
وجوه غير واضحة في ضوء خافت. «العالم».
وهكذا، فإن فكرة السينما التي يُروَّج لها هنا لا تَرتفع أو تهبط مع التكنولوجيا. يُمكِن لسينما قائمة على الاستكشاف والوحي استخدام أي نوع من الكاميرات. علاوة على ذلك، فإن هذه السينما تبدأ فقط بالتصوير. وطالما اعتُبر بناء فيلم (وليس تركيبه) في مرحلة التحرير «همًّا جميلًا»؛57 حيث يجذب التداخل بين ما هو مرئي وما هو خفي موضوعًا للظهور، غالبًا، كما كان يُمكن أن يقول بازان، ليس في مركز الشاشة ولكن «في الزخرفة». في أحد البيانات التي نشرتها «كاييه» عام ٢٠٠٥ بعنوان «أوريزون سينما»، يؤكِّد مُحرِّرها في ذلك الوقت، جان ميشيل فرودون، الميثاق بين السينما والجمهور.58 يُؤكِّد فرودون أن الأفلام يجب أن تستمد مصادرها من الواقع؛ ليُشعل الاحتكاك الناتج من شحذ التصميم الفني بالواقع شرارة الضوء المتقطع للخيال والتأمل. في ظل هذا البصيص من الضوء، يطوِّر الجمهور (بالمعنى الفوتوغرافي للكلمة) الموضوع الذي يَظهر أمامهم ليتحوَّل إلى أجزاء موحية. يتهيأ الجمهور ويتجاوب طوال مدة الفيلم مع ما يُعرض أمامه. في أفضل الحالات، يشتغل الفيلم بنفسه خارج نطاق عرضه؛ في نقاشات عبر البريد الإلكتروني، أو في الفصول الدراسية، أو في المقاهي، وفي صفحات دوريات «كاييه دو سينما». يؤدي الاستكشاف الذي لا ينتهي أبدًا إلى آثارٍ لا يمكن التنبؤ بها، لكنه بحد ذاته ليس أثرًا على الإطلاق.

هوامش

(1) André Bazin, “Ontology of the Photographic Image,” in the new translation by Timothy Barnard, What is Cinema? (Montreal: Caboose, 2009), p. 8.
(2) Both Bazin and Morin mention the cave paintings at Lascaux as the first evidence we have that humans thought magically about images. The Portrait of Dorian Gray indicates that painting in our culture no longer is taken to be an actual double, though voodoo figures and other religious icons certainly qualify. Photography is the magical image in which the modern era believes.
(3) He was shocked “in the spring of 1949” by the image of communists “executed in Shanghai with a revolver on the public square.” See “Death Every Afternoon,” in I. Margulies, Rites of Realism (Durham, NC: Duke University Press, 2002), p. 30.
(4) André Bazin, “Cinematic Realism and the Italian School of the Liberation,” What is Cinema? Volume II (Berkeley: University of California Press, 1971), p. 24.
(5) Ibid., p. 25.
(6) This point was well made and well defended by Adam Rosadiuk in a symposium at Concordia University in Montreal, organized by Martin Lefebvre, March 2005.
(7) André Malraux, “Sketch for a Psychology of The Cinema,” Verve, 8 (June 1940); reprinted in Suzanne Langer (ed.), Reflections on Art (Oxford: Oxford University Press, 1968 [1958]), section two.
(8) André Bazin, “On Why We Fight”; History, Documentation, and the Newsreel” in Bert Cardullo (ed.), Bazin at Work: Essays and Reviews from the Forties and Fifties (London: Routledge), p. 190. The translators render Bazin’s term “montage” as “editing.” It would have been more apt if left as “montage.”
(9) André Bazin, Qu’est-ce que le cinema? tome 1 (Paris: Cerf, 1958), p. 41.
(10) See the extensive notes on “Découpage,” “editing,” and other terms that Timothy Barnard supplies for his translation of What is Cinema? (Montreal: Caboose, 2009), esp. pp. 251–6, 261–81, and 286–8. Barnard reminds us that there is a reason we retain French terms like “montage” and “mise en scène” in English, for they are slippery and have led translators to deliver key concepts inconsistently, even contradictorily.
(11) André Bazin, “Découpage,” Catalog of the Venice Film Festival, 1951 (French version). The Italian version carries the title “Il Montagio.”
(12) The Greek term “diegesis” was employed first by esthetician Etienne Souriau in 1951. See Alain Boillat, “La diégèse dans son acception filmologique,” Cinémas (Montreal), 19 (2-3) (2009), pp. 217–45.
(13) Roger Leenhardt, note 4 to his “Cinematic Rhythm,” in Richard Abel, French Film Theory and Criticism: A History/Anthology, 1907–1939, vol. II (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1988), p. 205; originally published in Esprit, January 1936.
(14) Leenhardt, “Cinematic Rhythm,” p. 203.
(15) Leenhardt, Les Yeux ouverts (Paris: Editions du Seuil, 1979), p. 79. His articles appeared in 1935-6 in Esprit under the heading “The Little School of the Spectator.”
(16) Leenhardt Les Yeux ouverts (Paris: Editions du Seuil, 1979), p. 76.
(17) André Bazin, “Roger Leenhardt: Les Dernières Vacances,” in Le Cinéma français de la liberation à la nouvelle vague (1945–1958) (Paris: Editions des Cahiers du Cinéma, 1983), pp. 149-50.
(18) Leenhardt, “Cinematic Rhythm,” p. 201.
(19) Leenhardt, “La Photo,” in Chroniques du Cinéma (Paris: Editions de l’Etoile, 1986), p. 45.
(20) Leenhardt, Les Yeux ouverts, p. 80.
(21) Leenhardt, Les Yeux ouverts, p. 80.
(22) Leenhardt, Les Yeux ouverts, pp. 68-9.
(23) Leenhardt, “Cinematic Rhythm,” p. 204.
(24) André Malraux, “Preface” to Andrée Viollis, Indochine S.O.S. (Paris: Editions du Seuil, 1934).
(25) Leenhardt, “Cinematic Rhythm,” p. 204.
(26) In his long review of Malraux’ Espoir, Bazin questions the use of ellipsis in film. See Cinema of the Occupation and Resistance (New York: Ungar Press, 1981), pp. 146–54.
(27) Godard thematized this in Histoire(s) du cinéma when he included the anecdote about Ernst Opik, “an astronomer who in 1932 calculated that over half the mass of the solar system has gone missing. From the movement of what was visible, Opik hypothesized the existence of a vast cloud (the Ort Cloud) … the unseen back side of the planets, so to speak.”
(28) Hervé Joubert-Laurencin calculates that 8 of the 18 essays collected in the first volume of his assembled writing (“Ontologie et Langage”) concern documentary, whereas in his overall oeuvre they make up but 4 percent. Colloque “les écrans documentaries,” Université de Paris 7—Denis Diderot, November 1997.
(29) Robert Kolker in The Altering Eye: Contemporary International Cinema (Oxford: Oxford University Press, 1983), Giorgio di Vincente in Il Concetto di modernità nel cinema (Parma: Patriche editrice, 1993) and Gilles Deleuze in Cinéma II: L’Image-temps (Paris: Editions de Minuit, 1985), would make the same claim in the era of academic film criticism.
(30) André Bazin, “An Aesthetic of Reality: Neorealism and the Italian School of the Liberation,” in What is Cinema? Volume II, p. 33.
(31) Bazin, “An Aesthetic of Reality,” p. 29.
(32) John Weiss, “An Innocent Eye? The Career and Documentary Vision of Georges Rouquier up to 1945,” Cinema Journal, 20(2) (1981), pp. 55–7.
(33) Pierre Sorlin, “Stop the Rural Exodus,” Historical Journal of Film, Radio, and TV, 18(2) (1988), p. 193.
(34) André Bazin, “Farrebique or the Paradox of Realism,” in Bazin at Work (London: Routledge, 1998), p. 106.
(35) Bazin, What is Cinema? Volume II, p. 29.
(36) A good example is in Bazin’s “Defense of Rossellini,” in What is Cinema? Volume II, p. 98.
(37) For a brilliant analysis of Bazin’s treatment of this scene, see Alain Chevrier, “Realism, Surrealism, Neorealism,” in Dudley Andrew (ed.), Opening Bazin (New York: Oxford University Press, 2010).
(38) Bazin references Vigo’s film and his claim for a “documented point of view” in a review of Chris Marker’s Letter from Siberia (1956), in Le Cinéma français de la liberation à la nouvelle vague, p. 180. See Steven Ungar, “‘Radical Ambitions’: Bazin’s Questions to and from Documentary,” in Andrew (ed.), Opening Bazin.
(39) Hervé Joubert-Laurencin, “Tombeau d’André Bazin,” Imagens, XXX, Sao Paulo, p. 11.
(40) Joubert-Laurencin measures the difference between the 1944 and 1958 formulations in his “Document de synthèse,” prepared for his Habilitation at the Université de Paris I, December 2004, p. 10. Bazin’s softer 1958 version we are all familiar with reads as follows: “Le cinema apparait comme l’achèvement dans le temps de l’objectivité photographique.”
(41) Daney, L’Exercise a été profitable, monsieur (Paris: POL, 1993), 22, cited in Joubert-Laurencin, “Document du synthèse,” p. 48.
(42) Bazin, “Defense of Rossellini,” p. 101.
(43) Bazin, “Defense of Rossellini,” p. 100. He uses the term “facts” frequently in discussing neorealism. See, for instance, What is Cinema? Volume II, pp. 35 and 77.
(44) Jacques Rivette, “Letter on Rossellini,” in Jim Hillier (ed.), Cahiers du cinéma, vol. 1, 1950s: Neorealism, Hollywood, New Wave (London: Routledge and Kegan Paul, 1985), pp. 192-3.
(45) “Interview with Rossellini” by Fereydoun Hoveyda and Jacques Rivette in Cahiers du cinéma, April 1959. One “thing” that “was there” during the shooting of Voyage to Italy was Rossellini’s deteriorating marriage to Ingrid Bergman. Katherine’s reactions to the fictional event resonate with Ingrid’s to the genuine situation that she was living out not far from Pompeii in her daily life in Rome.
(46) Serge Daney, Perseverance (Paris: POL), p. 256. Hubert Damisch cites this phrase in his dispute with Didi-Hubermann: “Montage of Disaster,” Cahiers du cinéma, 599 (March 2005), p. 76. This essay, translated by Sally Shafto, is available through the Cahiers website.
(47) Bazin, “Defense of Rossellini.”
(48) Roger Odin, “L’entrée du spectateur dans le documentaire,” in Dominique Blüher and F. Thomas (eds.), Le Court Métrage français de 1945 à 1968: de l’âge d’or aux contrebandiers (Rennes: Presses Universitaires de Rennes, 2005), pp. 78-9.
(49) Alexandre Astruc’s manifesto “Pour une nouvelle avant-garde: la caméra-stylo,” translated in Peter Graham, The New Wave: Critical Landmarks (London: Palgrave, 2009).
(50) See the “avant-propos” and many of the essays in Blüher and Thomas, Le Court Métrage français de 1945 à 1968.
(51) Jean-Pierre Geuens, “The Digital World Picture,” Film Quarterly, 55(4) (2002), pp. 19–30.
(52) See, for instance, the review by Peter Travers in Rolling Stone, January 2, 2003.
(53) Chapter three of Cubitt’s book is titled “Magical Film: The Cut.” See especially p. 66.
(54) Martin Lefebvre and Marc Furstenau, “Digital Editing and Montage: The Vanishing Celluloid and Beyond,” in Cinémas, 13(1-2) (2002).
(55) Arnaud Desplechin uses this expression in many interviews; for example, with Jeff Reichart in Reverse Shot (Summer 2005).
(56) Jia Zhang-ke, Cahiers du cinéma, May 2007.
(57) Godard, “Montage, mon beau souci,” Cahiers du cinéma, 65, December 1956.
(58) Jean-Michel Frodon, Horizon cinéma (Paris: Editions Cahiers du cinéma, 2005).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤