العكاز الذهبي

كان في الزمان القديم كاهن يُدعى سليمًا، يقيم في مدينة صور، وكان يدرك خفايا العلوم، ويعرف أمورًا لا يعرفها غيره، فلم تكن السماء ولا الأرض ولا المياه لتستطيع أن تخفي عنه أسرارها مهما كانت غامضة ومبهمة.

صرف الأب سليم قسمًا كبيرًا من شبابه في مطالعة الكتب الغريبة، حتى إن الأب يوحنا لم يكن يستطيع النظر إليه بدون أن يرسم على وجهه إشارة الصليب بخوف ورهبة.

أما علماء الطبيعيات والجهابذة المشاهير والكيماويون النوابغ، فقد كانوا يضطربون ويتهيبون لدى حضور الأب سليم، مع أن أنانيَّتهم كانت تتألم بشدة من تفوُّقه عليهم، إذ إنهم كانوا يلتجئون إليه في شكوكهم وارتيابهم، ويستنيرون بحكمته وعلومه.

كانوا ينظرون بعجب وخوف إلى هذا الكاهن الشاب، الذي كثيرًا ما أرهب العلماء بمعارفه، وأذهلهم بفصاحته وسلامة بيانه.

ومع ذلك كانوا يتوقون إلى التحدث إليه، ويُخضعون أمامه أفكارهم وآراءهم، نازلين بكل رغبة واحترام عند أقل إرشاد يصدر من شفتيه الصفراوين.

بقي الأب سليم يشتغل ويشتغل كثيرًا، تحت مقلة الله بدون أن تقرع الكبرياء أو الصلَف باب قلبه الوديع، إذ إنه كان ورعًا مستقيمًا.

كان الأب سليم مفخرة الدير، وكان رفاقه الكهنة لا يقسمون إلا به.

•••

عندما كان الأب سليم ولدًا، كان يسترئي الآفاق والبحار، وكواكب السماء، وأشجار الأحراج … في حين كان والده يعيش من نتاج شبكته.

ففي أحد الأيام ذهب هذا الوالد في مركبه الصغير ولم يرجع؛ لأن المياه كانت قد ابتلعته ودفنته في أحشائها.

عند هذا تراءى شبح الجوع الرهيب، ووطد مكانًا له على عتبة منزل الأرملة المسكينة!

فحارت في أمرها وضاقت الحياة في وجهها، إذ إنها كانت أمًّا لأولاد تسعة.

ذات يوم جميل مرَّ رئيس أحد الأديرة الغنية أمام باب الكوخ الحقير، فأبصر سليمًا، فأعجبه نظره الوقَّاد الممتلئ ذكاء، ونجابة، فحدثه، فأجابه الوالد أجوبة أخذت بمجامع قلبه، فوعد أمه بمد يد المساعدة إليها، وأخذ الولد إلى ديره، حيث ألبسوه ثياب مبتدئ بيضاء ورسموا حول جبينه الإكليل الرمزي.

لبث الولد يهز المبخرة الذهبية أمام المذبح، حتى كبُر وصار معلمًا يُرجع إليه في حل المشاكل الصعبة، التي كان الكهنة الشيوخ يقفون عندها وقفة العجز.

في ذلك العهد كان يَرْئس الدير الأب بولس، وهو شيخ مسن بلغ أقصى درجات الفضيلة.

ففي ذات صباح من أيام نيسان، سُمعت الأجراس تدق نعيًا محزنًا! فألبسوا الأب بولس غِفَارة فضية، وعصبوا جبينه المغضَّن بتاج من الصوف الأبيض، ثم أرقدوه في ضريح من الرخام، بعد أن خدم الدير خدمة يعجز عن مثلها إلا كل من تشرَّبت روحه الفضائل السامية والإيمان الحي.

بعد ذلك اجتمع الرهبان والمبتدئون؛ ليقيموا خلفًا لرئيسهم المتوفى، واتجهوا إلى الكنيسة؛ ليقسموا قسَم الطاعة والأمانة للمنتخب الجديد.

كانت شُبَّاك الخُورُس مشرَّعة الدرفَتين، وكان قسيس شاحب اللون ذو نظرات وقادة جالسًا على العرش الرئيسي، مرتديًا ثوبًا تدلت عليه شرائط ثمينة.

يا لأسرار القلب البشري من أسرار غريبة!

كان سليم قد قوي على تجارب الكبرياء، ونذر لله مواهب ذكائه ومعارفه، تلك المواهب التي حالت بينه وبين سائر البشر؛ فعندما رأى نفسه جالسًا على ذلك العرش، عندما اتكأ على العكَّاز العاجي بيد مضطربة، وأتيح له أن يبارك الشعب والكهنة الساجدين على أقدامِه، شعر بعاطفة مجد باطل تحرك قلبه الضعيف السكران …

عندما وصلت بي المرأة المسنة التي كانت تقص على مسمعي هذه الحكاية إلى هنا، قالت لي: لقد عاقب الله الأب سليمًا عقابًا هائلًا!

كان الأب سليم يحب مريم العذراء محبة عظيمة؛ ولذلك أنقذته من عذاب جهنم الأليم.

إلا أنه لم ينجُ من نيران المطهر، حيث قضي عليه أن يكفِّر عن خطيئة الكبرياء، حتى يحين يوم الدينونة الأخيرة …

لا تخف يا سيدي إذا أبصرت الأب سليمًا منتصبًا بين الخرائب في منتصف الليل، فكثيرون هم الذين رأوا خياله التائه في مثل تلك الساعة المتأخرة.

ثم رسمت شارة الصليب واستطردت قائلة: لنبتعد الآن، فالليل على وشك الهبوط، ولا يجمل بنا أن نبقى في هذا المكان عرضة للخوف والرهبة.

ولم تكد المرأة المسنة التي قادتني إلى خرائب الدير، تتلفَّظ بهذه الكلمات، حتى أسرعت بالعود إلى المدينة.

بقيت وحدي مدة قصيرة أتأمل الكنيسة المدمرة، والدير المهدوم، ثم عدْت على أعقابي صامتًا مفكرًا موقظًا في مخيلتي ذكريات الماضي، وقد تراءت لي أخيلة الرهبان الذين أنقذوا من الهمجية شعبًا جاهلًا، وغرسوا في الصدور محبة الله العظيم!

كانت الشمس قد انحدرت إلى مغيبها، فانعكسَت على قبة الدير أشعة صفراء باهتة.

وكنت أجتاز الأروقة ناظرًا إلى الأعمدة المنهارة على أقدامها حجارة ضخمة، كأنها أشباح بيضاء لا حراك لها! حتى انتهيت إلى مكان كثُر فيه العوسج، فأبصرت كاهنًا ملتفًّا برداء طويل نُحت في رخام أحد القبور! كان رأسه مستندًا إلى مخدَّة هابطة، ويداه قابضتين على عكاز! …

في تلك الساعة كان القمر يشق الظلمات بصعوبة وعجز، وأشعَّته الباهتة ترسل إلى الأطواد المحطَّمة أخيلة رهيبة! فشعرت بخشوع ينتابني أمام هذا المشهد.

ولم ألبث أن اقشعر بدني واعتراني خوف شديد.

دقَّت الساعة معلنة منتصف الليل، فجمد الدم البارد في عروقي، وسمرتني الرهبة في مكاني؛ وسمعت طقطقة عظام صاعدة من أعماق القبر …

ثم تراءى لي شبح كاهن أبيض منتصبًا أمامي! … عَقِبَه أشباح كهنة رهيبة، خرجت من قبور لا يحصى عددها! ورأيت اثنين منهم ينحنيان بخشوع أمام الشبح الأبيض، ثم يجرانه إلى المعبد المنهار!

عند هذا سمعت أنغامًا ذات تموجات عذبة، تملأ الهيكل المقدس، وأبصرت بخورًا يتصاعد من مباخر عديدة، وبدرت مني التفاتة إلى العرش الرئيسي، فرأيت عليه الشبح الأبيض يلبسه الأشباح الصامتون جبَّة ذهبية، تخللتها جواهر كريمة كاد يرزح تحت ثقلها العظيم!

أما رأسه فكان معصبًا بتاج من ذهب، وقدماه ملتويتين تحت ثقل العكاز الذهبي.

وأما الأنغام، فكانت تتصاعد مخيفة من وراء القبر.

بعد فترة قصيرة تقدم الكهنة اثنين اثنين، حتى بلغوا إلى أعمدة العرش، وعوضًا عن أن يحيوا الرئيس استمروا منتصبين على أقدامهم لا يبدون حركة، في حين كان هذا ينعكف تحت الثقل ويخضع أمامهم.

ولما انتهت هذه «الرتبة» انحدرت أشباح الكهنة إلى المعبد، فاجتازته إلى أروقة الدير المتلف، حيث لمستني عند مرورها، فشعرت عندئذ بخوف عظيم في قلبي.

كان الرئيس المسكين يتثاقل وراء الأشباح، غير قادر على رفع عكازه الذهبي الثقيل، وكان محجراه المجوَّفان المنطفئة فيهما المقلتان طافحتين بالدموع.

تسلق الشبح الأبيض أدراج العرش، وحاول أن يرفع يده ليبارك، إلا أنها لم تستطع أن تتملَّص من العكاز.

عند هذا صعدت من صدره الملتهب تنهدات مختنقة وشكايات باحَّة، فانتفض انتفاضة أليمة، وصرخ بصوت ضعيف قائلًا: يا مريم! يا أمي الحنونة!

فاستطار العكاز الذهبي من يده وتحطم إلى أجزاء عديدة … وأبصرت مطوقة بيضاء فرَّت من بين شفتيه، وصعدت في مذاهب السماء …

في تلك الدقيقة غسل النور مطارح الأشياء، وأُغمي على الأشباح … فاستفقت من غيبوبتي، فوجدتني على ضريح الأب سليم، خائر القوى مضطرب الأعصاب. وكانت الشمس تتلألأ في الأفق!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤