وردة الجنَّة

كان الظلام يمتد رويدًا رويدًا.

وكان هيكل الدير الجاثم كوَكْر النسر على قمة صخر منيع، يترامى عليه آخر شعاع من أشعة المغيب، فيتألق بمجد لا مجد بعده، في حين كانت الأبراج والشرفات والنوافذ تتصاعد كسنابل من نار، وتشعل في الشفق أنوارًا حية.

أما الأحراج العظيمة الممتدة على أقدام جبل كسن، فقد كانت تبرز في وسط بخار من الأنوار البنفسجية الشاحبة، مؤلِّفة زنارًا رحب الجوانب تحيط بذلك الجبل الحصين.

هناك، في منعطف طريق ضيق، كان رجل طويل القامة مرتد جبة سوداء، يفكر بسكون وهدوء، وقد مضى عليه ساعات عديدة وهو مطرق إلى الحضيض، ومستسلم لتأملات رهيبة.

بعد هنيهة اضطرب اضطرابًا شديدًا!

كان الجرس يدق في الأبعاد مرسلًا إلى أصدية الأحراج نداءً طويلًا يائسًا!

نزع القسيس عن رأسه قبعته التي كانت تستر عينيه، واتجه بمهل إلى الدير.

كان الظلام يهبط بسرعة عظيمة، حتى ساد السكون في جميع الأنحاء، ولم يبق من متحرك إلا أغصان الأدواح المرتفعة، يتصاعد منها من فترة إلى أخرى حفيف خافت، كأنه ضوضاء صماء.

بعد هنيهة تراءت خطوط نارية تشق الظلمة بأضوائها، وتنبعث من أعماق الأجمات، ثم قربت أصوات عديدة منادية: يا أخ إلياس! يا أخ الياس!

وبرز بعض القسوس من بقعة لا شجر فيها، تلوح على محيَّاهم أمارات الجزع!

فقال لهم الكاهن مبتسمًا ابتسامة صفراء: ها أنذا يا أصدقائي، ها أنذا! فما الذي تخافون؟

فقال له أحد القسوس منحنيًا: لقد أمرَنا رئيسُنا الجزيل الاحترام، بأن نبحث عنك ونصحبك إليه باسم الطاعة المقدسة، فالليلة مظلمة، والغاب شديد الوعورة، والمسالك صعبة خطرة! فلا يبعد أن تضل السبيل، وتقع في مكيدة من مكائد الحرج، وثق بأنك إذا ضعت، أنت مفخرة سر الكهنوت، يموت رئيسنا الجزيل الاحترام حزنًا عليك!

ففكر الكاهن فترة، ثم قال: آه! مفخرة سر الكهنوت! أنتم لا تدركون … وصمت فجأة صمتًا غريبًا، فاحترم القسوس صمته، ولكن النظرات التي كانوا يتبادلونها كانت تنم عن تعجب من ذلك الاحترام الرفيع.

•••

منذ سنوات عديدة كانت امرأة تجتاز مسالك الدير صبيحة يوم جميل، حتى انتهى بها السير إلى قاعة الرقباء، فالتمست مقابلة الرئيس، وكان يتبعها ولد جميل قسمات الوجه، ذو نظرات عذبة تشف عن ذكاء ونجابة.

كان بود هذه المرأة أن تقف ولدها إلياس لخدمة المعبد؛ لأنه لم يكن يحلم بسوى المباخر والسجود والأغاني الروحية المقدسة.

فكثيرًا ما كان يطرح على والديه أسئلة غريبة، فيتحيران في أمرهما فيحيلانه إلى أحد الكهنة؛ ليحل له معقدات أسئلته، فيعجز هذا عن إقناع ذكاء الولد المضطرب.

وأخيرًا اعتقد الوالدان أن إرادة الله تتجلى في تلك الدلائل الغريبة، فلم يترددا أن انفصلا عن ابنهما الحبيب.

استقبل الرئيسُ الولدَ بسرور وغبطة، فارتدى هذا ثوبه الأسود الخشن وأخذ كلَّ صباح يقدم للكاهن نبيذ الذبيحة.

مرت الأعوام فكَبِر الولد وأصبح يميل إلى الوحدة، فيتنحى عنه رفاقه المبتدئين ويصرف الساعات الطويلة متمشيًا على الأسوار، لا أنيس له سوى أفكاره المضطربة.

أما رفاقه في الدرس وأستاذه فكانوا ينظرون بدهشة إلى الشعلة المنبعثة من عينيه، ويصغون بِحيرةٍ إلى الكلمات المتناثرة من شفتيه الفتيتين، أصدية الأفكار السامية التي كانت تزدحم تحت جبينه الصبيح.

ذات يوم، بعد مناظرة لاهوتية طُرحت فيها أصعب المسائل الفلسفية، فاز الأخ إلياس على خصومه فوزًا باهرًا، حتى إن أستاذه الشيخ لم يملك نفسه أن نزل عن كرسيه وضم إليه تلميذه النجيب قائلًا له: اصعدْ إلى هذا المنبر يا ولدي، فأنت أحق به من غيرك، ماذا باستطاعتي أن أُعلِّمك بعد الآن؟ ألستُ أنا الواجب عليَّ أن أُصغي إلى تعاليمك؟ ستكون مفخرة الكهنوت، وضياء الكنيسة.

بقي الأخ إلياس — ذلك المعلم الفتى — يدرس وحيدًا في قِلِّيته بين مخطوطات اللاهوت، وعلم الفلك، والأسباب الأولية … وكل ما يمت إلى العلوم الإلهية والإنسانية.

ولم يزل على ما هو حتى اجتازت شهرتُه حدودَ جبل كسِّن، وسادت تعاليمه في الأديرة أجمع، وأصبح القسوس والعلماء والجهابذة الغرباء يحجون إليه من أقاصي البلدان، ويُخضعون مشكلاتهم لأنواره السامية، مطلقين عليه لقب العالم المنير.

كان الأستاذ الشيخ صادقًا في نبوءته، فالأخ إلياس أصبح بلا منازع مفخرة الكهنوت.

عندما كان يمر في أروقة الدير، كان القسوس، حتى القدماء منهم، ينحنون أمامه باحترام وتؤدة.

•••

طرأ على الأخ إلياس طارئ فجائي، قلب أفكاره، وأَدبَّ السويداء في نفسه، فتوارت أخيلة البسمات عن شفتيه، وأصبح مشتَّت الأفكار مضطربًا، لا ينتبه إلى ما حوله إلا نادرًا، ولا يُعير إصغاءه إلى مَن يستفتيه في مسألة، فيجيب بكلمات مبهمة غامضة!

كان عقله في مكان قصي سابحًا في مبهمات تتناوبه، حتى إنه لم يكن يستطيع البقاء في الدير، فيخرج إلى الحرج ويتيه في أعماقه بين الأشجار الكثيفة والصخور الجرداء!

أما القسوس فكانوا يتساءلون بصوت خافت منذهلين من تصرفه الغريب: ما حلَّ بالأخ إلياس؟ … ما دهاه؟ …

وكان الرهبان الشيوخ يرفعون أكتافهم مستغربين تصرفه، جاهلين أمره!

أما الأحداث منهم فكانوا يقولون: إن الأخ إلياس يبحث عن حل لبعض المشاكل السرية، ويشتغل في مؤلَّف عظيم الشأن.

كان الأخ إلياس، العالم الكبير، رجل اللاهوت المستنير، الفيلسوف الدامغ، الذي بلغ أسمى قمة من قمم الفكر، وأضاء مبهمات عديدة من مبهمات اللاهوت المقدس، كان يقاسي هجمات رهيبة من جهنم!

كانت الشكوك قد تسلَّطت على ذلك الذكاء المشتعل بكل ما أُوتيت من الهول المظلم، وكالحشرة القارضة تسربت إلى القسم الرفيع من تلك الروح، ومدت حواليها مضارب الدمار والغموم والموت! …

ترك الأخ إلياس نفسه تستسلم لمداجنة المقاييس الفاسدة، وكان يسمع من حين إلى آخر صوتًا علويًّا يقول له: أتعتقد أنك تستطيع الوصول إلى الحقائق بعسى وقد يمكن؟ …

أتظن أنك تقدر أن تبلغ مطارح اليقين بالشك والريبة، أنت الذي اجتزت حدود العلوم؟ …

إيه لعبة العجائب، اللاعدد لها، هل نفذت إلى جوهر المخلوقات؟ …

وأحيانًا كان يُصغي إلى صوت هامس في نفسه: لم صيامك هذا يا أخ إلياس، ولم تقشفك؟ … أأنت واثق من اللانهاية؟

كانت أفكار الكاهن رازحة تحت ظلام كثيف، وكان الليل مستوليًا على روحه، يوحي إليها عذابات مفجعة، فمرارًا كان يترامى على حضيض حجرته البارد بعد أن يكبل رجليه بالسلاسل، ويجعل يجلد نفسه حتى يدمى، فيرفع نظره الكئيب إلى السماء ويهتف صارخًا: إلهي، أود أن أؤمن! أود أن أؤمن! …

ويهبط الظلام القاتم على ما حوله، شديد الرهبة كثيف الحلوك! …

•••

في ليلة جميلة من ليالي الشتاء، أبصر الأخ إلياس تحت رواق من أروقة الدير — رواق رغب عنه منذ زمن بعيد، وكان شاهدًا على حداثته السعيدة، طالما أيقظ في نفسه المعذبة ذكريات أفراحه الطاهرة — أبصر الأخ إلياس نصبًا، فتقدم منه، وأخذ يتأمل بكل سكون مبتدئًا لا يزال في ميعة عمره، ساجدًا على ركبتيه، يرسم بيد واثقة بفنها، صورة تمثل السيدة العذراء.

كانت عينا مريم تكتنفان الطفل الإلهي بنظرات ملؤها الحنو الوالدي، وقد ضمت إليها ابنها بيد، وقدمت له بيد أخرى وردة ذات ألوان عجيبة!

وعندما انتهى المبتدئ من رسم الوردة، هتف الأخ إلياس قائلًا: يا لها وردةً جميلة!

فتحول المبتدئ مدهوشًا، وعندما وقع نظره على المعلم، فاجأت حمرة الخجل وجهه الشاحب، فقال بلهجة غريبة: إنها لجميلة، أليس كذلك؟

فقال الأخ إلياس مشيرًا بيده إلى الحديقة الماحلة: ولكن لم أُدرك أية وردة قدرت أن تعطيك نموذجًا في هذا الفصل القاحل.

– إن وردتي هذه ليست من الأرض، فلقد أبصرتها في الجنة!

قال ذلك وانبعث من عينيه الكبيرتين شعاع رؤيا عجيب!

فتمتم المعلم بصوت ضعيف قائلًا: آه! في الجنة! في الجنة!

وابتعد مفكرًا! إلا أنه لم يستطع إلى السكينة سبيلًا؛ فعاودته أفكاره المجنونة الهائمة! واصطك صدغاه بشدة فقال: آه! لقد أبصر الجنة وهو في رَيِّق حداثته! … إنه لا يكاد يلكن ببعض منطق فاسد ويرى نفسه مُدركًا! … وأنا، أنا الذي تعمقت في العلوم وفتحتُ لها آفاقًا رحبة جديدة لا أراني عارفًا، بل أشك! …

ثم ضغط بيديه المضطربتين على جبينه الملتهب! وبعد فترة قال: آه! لو أستطيع رؤية وردة من أوراد الجنة!

وخرج إلى الحقل قارعًا الأعشاب المصفرَّة برجليه، هائمًا على نفسه بين الصخور الجرداء.

وفي اليوم الثاني، بينما كانت الشمس تجنح إلى المغيب، وتنطفئ في وسط الضباب، غاسلة الأشياء بهبوات ذهبية ذات أشعة أرجوانية، عاد الأخ إلياس إلى صومعته مصغيًا إلى أصوات الأجراس، تنشر على الدير ألحانها البهية معلنة للشعب المسيحي دنو العيد العظيم!

•••

كان المبتدئون يذهبون ويجيئون، وعلى محيَّاهم أمارات الانهماك الشديد، وكانوا يتكلمون بأصوات خافتة ويعطي كل منهم أوامره للآخر.

أما في الكنيسة فكانت الجبال ترتفع إلى جانب المغاور، والرعاة يتجهون إلى المذود، حاملين النعاج البيضاء، وهم في حللهم المطرزة.

وأما القسوس القدماء، فكانوا يتبسمون بحرارة وتؤدة، ويشجعون المبتدئين بنظراتهم الملأى حنوًّا وإيمانًا … حتى إذا ما انتهى كل شيء، انصرف الرهبان إلى قليَّاتهم؛ ليأخذوا بعض دقائق من الراحة.

•••

وقف الأخ إلياس صامتًا أمام المذود، يتأمل الطفل الإلهي ممددًا على فراشه القاسي … وبعد هنيهة حوَّل بصره إلى الجدار، وقد أيقظ المذود في نفسه ذكريات رهيبة وعذبة … فتراءى له الماضي ينبعث من روحه المستحمة في مياه الألم، ورجع بالتذكار إلى أيام حداثته عندما كان يسجد بخشوع على درجات الخورس، في حين كان الرئيس المحترم يرسم حول جبينه الإكليل الذي جعله عبدًا للمسيح، وتذكر تلك الساعة التي أقسم فيها، وهو ساجد على قدم الهيكل، أن يطيع المسيح ويكون له خادمًا أمينًا! … تلك الساعة التي أقسم فيها أن يحيا فقيرًا، ويضحي بجسده في سبيل ابن الله! …

عند هذا تفطَّر قلبُه واضطرب لدى تذكار اليوم الكبير، فقال بصوت خنقته غموم شديدة: آه! إني أشعر بالظلمات تكتنفني وبالخوف واليأس يتسلطان عليَّ!

ثم شخص إلى ابن الله بعين تائهة، ولم يمض فترة قصيرة حتى ارتعشت أعضاؤه، وتثاقل اللهاث في صدره، وتلاشت ركبتاه من الضعف، فسقط على الحضيض صارخًا: رباه! إذا كان حقًا أنك تجسدت، وضحيت بنفسك في سبيل البشر، وخرجت من القبر حيًّا بعد ميتة أخذت من الأيام ثلاثة، آه! إذا كان ذلك حقًّا فأكده لي، خاطبني يا أبتاه! لا تبقي هذا السر مشكلًا يتقاذفني تياره! لقد كنت رجل الأوجاع فانزل إلى نجدتي وأنقذني من مصائبي! كن شفيقًا علي، وارحم بائسًا حسب رأفتك وحنانك! … لقد آمنت بذكائي العاجز المريض، فاشفق علي وامحُ مآثمي! إنك لجدير بكل مجد، فأنت القاعدة المطلقة، ومحور المخلوقات أجمع، خذ معارفي يا الله وأعطني الإيمان! هبني الإيمان يا خالقي، الإيمان! …

كان يبكي ويتألم، وهو منطرح على البلاط، وبعد ثوان قلائل ساد السكون، فسمع صوتًا ينشد في نفسه قائلًا: ليس الصيام والتقشفات هي التي تنقذك! … كن حنونًا ومتواضع القلب، ستحني جبينك أمام عظمتي الملكية، ستعترف بعدمك وفنائك! … سلام على البشر أولي الإرادة الطيبة …

انهض أيها الإنسان وليُضئ النور سبيلك! …

وكأن رؤيا من رؤى السماء لامست مخيلة الكاهن، فشاهد تمثال الطفل الإلهي ينثر بيديه الصغيرتين أوراق وردة أرجوانية، فهتف قائلًا: وردة الجنة! وردة الجنة!

واغرورقت عيناه بالدموع وقال: آمنت بالله! آمنت!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤