راهب وملك

ديرُ روايومون يحتفل بعيد عظيم.

سينال الرئيس الجزيل الاحترام المنتخَب من الكهنة القانونيين طاعة الرهبان وخضوعهم؛ لأنه سيد المدينة المطلق ومولاها الآمر.

أما الكنيسة الكبرى فقد غصَّ فيها الجمهور المحتشد بين أعمدتها الضخمة، حتى إنك لتسمع من حين إلى آخر ضجة مبهمة تتصاعد من بين هذا الشعب، كأنما هي اصطخاب الأمواج في بحر هائج …

فُتحت شباك الخورس، وتقدمت طائفة مؤلفة من مئتي راهب أبيض، يتبعهم الرئيس واضعًا على رأسه تاجًا من الصوف، وفي يده المضطربة عكاز من العاج.

عند هذا علا الهتاف وامتد حتى ضاقت به رحابة الكنيسة، وسمعت أصوات تهتف قائلة: مبارك هو القادم باسم المسيح! … حياة طويلة لسيدنا روبير! … حياة طويلة! … حياة طويلة! …

صعد الرئيس الجزيل الاحترام إلى العرش المعد له في الكنيسة الكبيرة، ورفع ذراعيه الكبيرتين نحو السماء، وبصوت تقطِّعه العاطفة والشفقة قال: نحمدك اللهم!

فأكمل الرهبان قائلين بغبطة تقوية: نعترف بك يا رب، وتحترمك الأرض كلها أيها الآب الأزلي!

وكانت آيات التسابيح تتعالى من فترة إلى أخرى مشيرة إلى أن الحمية الدينية قد بلغت أرفع قمة من قممها، وكان الشعب المسيحي المدهوش بتلك القداسة يجمع صوته إلى صوت الإخوة، طالبًا إلى فضائل السماء والملائكة والرسل والأنبياء والشهداء وإلى العالم بأسره، أن يعلنوا قداسة الرئيس الجزيل الاحترام.

في تلك الساعة فُتح باب الكنيسة الكبرى، واندفع منه فارس مشعَّث الشعر، مبلبل الأفكار ذو نظرات خائفة وجلة وانطرح أمام الرئيس.

عند هذا قوطعت التسابيح، وساد سكوت رهيب على جماعة المؤمنين، فأخذوا ينظرون بأعين ملؤها الرهبة إلى الغريب المخيف!

أما الفارس فكان ينتحب ويصرخ صراخًا متقطعًا، وينادي نداء مبهمًا، ثم انتصب على قدميه وصرخ صوتًا، هو أقرب إلى أصوات الأموات منه إلى أصوات الأحياء قائلًا: لقد أذنبت، لقد أذنبت … ضد العذراء أم الله! الرحمة! الرحمة! وكانت يداه تضطربان بشدة، وأسنانه تصطك اصطكاكًا موجعًا.

وأما الرهبان المضعضعون، فقد غرقوا في ذهولهم أمام هذا المشهد الهائل، ثم استفاقوا وانطرحوا على الحضيض يستمنحون الغفران للبائس المسكين.

وفي حين كان هؤلاء يلحنون في تلاوة الصلوات المؤثرة، كان الخاطئ يصرخ: الرحمة! … الرحمة! …

بعد هنيهة رفع الرئيس صوته قائلًا: ماذا تريد؟

– أبتاه، أبتاه، أطلب غفران الله وغفرانك … آه! أشفق عليَّ ولا تنبذني! دعني أُدفن حيًّا، ولا تدع مخلوقة بشرية ترفع الحجر عن فوهة قبري … ولينسني البشر إلى الأبد! …

فأجابه الرئيس بصوت عذب: ما هو ذنبك؟

فنهض الرجل لدى هذا السؤال وقد ازداد اضطراب ركبتيه، ورفع يده إلى جبينه وقال بصوت متقطع: ذنبي! آه! رباه! … لقد صفعت السيدة العذراء على وجهها في ساعة من ساعات الغضب الأعمى … لقد اقترفت جريمة لا تُغتفر، فليبتلعْني الجحيم!

ثم انطرح على الأرض والزبد يرغي بين شفتيه!

•••

في واد ظليل من أودية روايومون يرتفع دير ذو جدران منحوتة، تحيط به أكمات كثُر فيها الشجر، يشرف على نهر جميل ذي مياه زرقاء كمياه البحر.

أما الحور والدردار والأدواح الشاهقة، فقد طفت أخيلتها على مياه النهر الجميل وحركت أشذاءها العطرية في مطارح الوادي.

وأما الدير فقد زنَّرته الكروم الخضرة وأزهار البنفسج والورد والجداول الرقراقة العذبة.

مرت الأعوام مرور الحلم الجميل …

بنى الرهبان أمام أسوار الدير في أجمة كثُر فيها الشوك والعوسج بناء لا أبواب له ولا نوافذ إلا فتحة ضيقة في بطن الأرض، أطلق عليه اسم «البيت السرِّي».

لم يؤذن لأحد بأن يدخل إليه إلا الأب الرئيس، وكاتم أسراره الأخ بلاسيد.

فعندما كان هذان الكاهنان يخرجان من تلك الفتحة الضيقة، وأمارات الرهبة مرتسمة على محياهما، كانا يقولان للإخوة بصوت تتخلله نبرات الخوف: لنضرعْ إلى الله يا أبنائي! إن في القبر رجلًا دُفن حيًّا في أعماقه … فلا ريب بأنه عظيم من عظماء المدينة، أو كاهن ثار على القانون، أو مريض أُصيب بداء البرص …

عندما يمر الإخوة أمام القبر الملعون، يرسمون شارة الصليب برهبة وهول، وفي بعض الأحيان يسمعون شهيقًا يتصاعد من أعماقه، يتخلله صراخ موجع وزفرات مختنقة، فيجمد الدم حتى في عروق أشدهم بأسًا وشجاعة.

ذات يوم قال الأب إلياس للأب بلاسيد: أستحلفك بالله يا أخي الحبيب أن تُطلعني على سرِّ القبر!

فأجابه هذا بهدوء وتواضع: لا أقدر يا أخي، لا أقدر، فلا تُعدْ على مسمعي هذا السؤال، لقد أمرني الرئيس الجزيل الاحترام باسم الطاعة المقدسة ألا أفوه بكلمة عن سرِّ القبر!

فأجابه الأب إلياس وقد امتعض جبينه وظهرت عليه دلائل الانزعاج: حسنًا، حسنًا، ولكن بعد أيام قليلة سيحضر ملكنا المحبوب لويس ده بواسي إلى روايومون؛ ليسمع تفسير أُنشودة الأناشيد، عند ذلك لا بد لي من أن أعرف كل شيء.

قال هذا وجنح عنه وذهب في سبيله.

•••

قدم ملك فرنسا إلى روايومون، وفيما هو داخل إلى الدير تبعه الرئيس الجزيل الاحترام والكهنة وحرس الدير.

كان الملك مرتديًا عباءة من الحرير الأزرق، وقبعة من ريش الطاووس، وكان يحيط به الآباء الواعظون، فيطرح عليهم أسئلة في اللاهوت صعبة، فيجيبونه عليها بتفاسير محكمة صائبة، فيبتسم ابتسامة رضى وارتياح.

كان الموكب يتجه إلى الكنيسة الكبرى، وكان بود الملك التقيِّ أن يرفع إلى المسيح قبل كل شيء، هبة إيمانه وخدماته الجليلة، فأمر بحضور ثلاثة عشر فقيرًا من فقراء المدينة، وعندما امتثلوا أمامه أمرهم بالجلوس إلى جانبه، وأشار إلى الرئيس الجزيل الاحترام بأن يجلس أمامه مع الكهنة المحترمين.

أما السيد جوانفيل، وحاشية الملك المؤلفة من جوفروا ده فيلات، وبيير ده فونتين، وفليب نانتويل، وجوفروا ده سارجين، وغوشي د شاتيليون، فقد شغلوا أطراف السماط، ووقف جيرفه رئيس الخبازين وراء منصة الملك، وفي حين كان الطعام يتعاقب على السماط بكثرة وكرم، كان الملك يُصغي بانتباه عظيم إلى حديث الكهنة والأسياد.

كان جوفروا ده بوليو الدومينيكي، معرِّف الملك، يتكلم عن الإيمان بفصاحة أدهشت رجال الكنيسة، وكان جوانفيل يسمع بدون أن يفهم شيئًا مما يقال؛ عند هذا وجَّه الملك كلامه إليه قائلًا: ما اسم والدك يا جوانفيل؟

– كان اسمه سيمون يا مولاي.

– وكيف عرفت ذلك؟

– هذا ما كانت تقوله لي والدتي يا مولاي، فلا مندوحة من النزول عند كل ما كانت تقوله لي تلك الأم الصادقة.

– إذن فيجب عليك أن تنزل عند كل عقيدة من عقائد الإيمان، التي يعلنها الرسل في أيام الآحاد.

– ومن أين عرفت أننا لا نصدقها يا مولاي؟ ألم ندافع عنها، ألم ندافع معك عن الإيمان الصحيح في الحروب التي مرت علينا؟

ثم التفت إلى الحاشية وقال: لقد كنتم معنا في المنصورة يا رفاقي، وشاهدتم بأعينكم تلك الواقعة الهائلة، كنت يوم ذاك مع رجالي البواسل، لا أزال أتمثَّلك يا مولاي المحبوب قادمًا مع كتيبتك الباسلة، تدقون على الطبول وتنفخون في الأبواق، لقد كنت جميلًا في ذلك الحين، وجميلًا سيفك المنتصر في يدك الفتية!

عندما سمع الأسياد كلمة المنصورة، رجعوا بالتذكار إلى ذلك العهد الجميل فتمايلوا وهتفوا قائلين: ليحي الملك!

فأكمل جوانفيل وقد برقت عيناه: ثم ألا تذكر هؤلاء الكافرين الستة، الذين حاولوا أن يأخذوك أسيرًا، فتخلصت من بينهم بضربة سيف فرقتهم أيدي سَبا؟ …

فابتسم الملك لهيجان جوانفيل، ذلك الهيجان الساذج، وقال له: أراك نسيت البلاء الحسن الذي أبلاه السيد جوهان، عندما طرد وحده كتيبة كاملة من الإسمعيليين.

فسُر غوشي من شهادة ملكه، فبسط على السماط يده الجبارة وقال: وحق الله أيها الملك المحبوب، لقد فتكت هذه اليد بكتيبة من الكفرة الجاحدين!

قال هذا وضحك ضحكة رنت في القاعة الرحبة، رنين جرس من النحاس.

كان النبيذ يدور دورته في الكئوس، فلاحظ الملك أن السيد جوانفيل لم يكن يمزج خمرته بالماء فقال له: لأي سبب لا تضع ماء مع النبيذ يا جوانفيل؟

– إن السبب في ذمة الأطباء أيها الملك، فهم يقولون لي إنني ذو رأس ضخم ومعدة باردة لا تؤثر فيها عوامل الخمرة.

– إن الأطباء يخدعونك يا جوانفيل، فإذا كنت لا تتعود شرب الخمر ممزوجة بالماء وأنت في ميعة شبابك، وتضطر إليها في شيخوختك، تصاب بداء المفاصل والمعدة وتفقد صحتك، وإذا شربت الخمر صافية صرفة وأنت شيخ لا تجد مهربًا من السكر كل مساء، والسكر يا صديقي عادة معيبة، وعار على الرجل الشريف.

عندما انتهت الوليمة نهض الأب إلياس، وخضع أمام الملك باحترام كلي، وسأله عما إذا كان يرغب في أن يسمع تفسير أنشودة الأناشيد.

فقال له الملك: أَرجئْ ذلك إلى حين يا أب إلياس، فلا يجمل بنا أن نفسر بعد الغداء إلا آيات الراحة، هيوا بنا إلى ظلال الأشجار الباسقة، نتحدث معًا حسب شروط الصحة.

•••

لم يكد الملك يجلس في ظلال دوحة كبيرة، حتى تصاعد في الفضاء زفير رهيب عقبَه شهيق ونحيب! فاستغرب الملك وسأل الحاضرين عن سبب ذلك، فلم يفده أحد، وظل القوم صامتين!

أما الرئيس فشحب لون وجهه واكفهرَّ، وأما الأب إلياس فانحنى أمام الملك وقال له: إنه لسرُّ القبر يا مولاي الجميل!

فحدَّق الرئيس الجزيل الاحترام في الأب إلياس، ورشقه بنظرات ملؤها التوبيخ.

فقال الملك للرئيس مستفهمًا: ماذا يعني الأب إلياس بهذه العبارة؟

فأجابه الرئيس مترددًا: لا أدري أيها الملك …

– لا بد لي من أن أعرف كل شيء.

ثم حدج الكاهن بنظر متسلط قاهر، ففكر هذا هنيهةً ثم نهض وقال: تعال يا مولاي وانظر!

فتقدم الملك وتبعه الرئيس والسيد جوانفيل والأب إلياس وجوفروا الدومينيكي، وفيما هم سائرون كان الصمت مستوليًا عليهم جميعًا، إذ إنهم لم يكونوا يجرءون على التفوه بكلمة أمام الأب الرئيس …

فُتح الباب الأرضي، ودخل الجميع بصعوبة إلى المأوى المظلم، حيث لا ترى العين إلا سوادًا كالحًا.

عند هذا فاحت رائحة منتنة علقت بحناجر الحاضرين، وشعر الملك وأتباعه بأن وشاحًا من الجليد أُلقي على أكتافهم المرتعشة!

في زاوية من زوايا معبر ضيق، كانت أشعة متموجة تنحدر من مكان مرتفع، وتنير حجرة رحبة … فشخص الجميع أمامهم، فتراءى لهم كاهن مضطرب الأعضاء، ويداه الشاحبتان ملتحمتان على صدره، وقد جلس على منصب بالقرب من منضدة خشبية.

كان هذا الكاهن قطعة من لحم، لا يزال الدم جاريًا في عروقها، ذات منظر أرهب من هيكل عظام، إذ إن قطرات صفراء ممزوجة بعصير مروب كانت تتساقط من محجريها المجوفين؛ وكانت ربوب منتنة تتقطر من مزقها الزرقاء، وتتجمد على الأنف النَّخر بخطوط سوداء، ومن هذا الجسم البشري النتن كان يتصاعد لهاث سام، كأنما هو ضباب كثيف! …

ملك الخوف قلوب الحاضرين، فتراجعوا إلى الوراء أمام هذا المشهد الهائل، ولولا احترامهم للملك لما بقوا فترة واحدة في تلك الحجرة المخيفة!

أما الملك فلم يلبث أن شحب وجهه، وتسلطت عليه شفقة عظيمة، فرفع نظره إلى الرئيس مستفهمًا عن جلية الأمر، فأطلعه هذا على الحادث الذي أدبَّ الخوف في الدير طيلة عشرين سنة، وعلى جريمة الفارس ويأسه وتكفيره وعقابه، ثم زاد على ذلك بقوله: كنت قد وهبته ثيابًا مقدسة ورجوت منه أن يبقى مع الإخوة الأحداث، إلا أنه استرحمني أن أدفنه حيًّا فأذعنت لدموعه، وطلب مني أن أكتم اسمه عن الجميع، وألا أتلفظ به فرضيت، وكنت قد وعدته بألا أبوح بسره، أو أكشف لأحد مكان عزلته، إلا أنني لم أجد الآن بدًّا من النزول عند مشيئة مولاي الملك.

في تلك الدقيقة تصاعد صوت أجش من الجسم المدمى قائلًا: لقد رحمني الله وأشفق على بؤسي وتعاستي، لقد عذبني فباركته! … وعاقبني فحمدته، أجل، بعد أن مر علي بعض أسابيع وأنا في مدفني هذا، ملأ البرص وجهي، ولا سيما في المكان نفسه الذي صفعت فيه السيدة العذراء والدة الله العظيم! لقد انتقم مني البرص انتقامًا عادلًا!

آه! إنني أتألم تألمًا شديدًا! وأشعر بعذاب لا طائل تحته يتناوب نفسي الخاطئة! الرحمة يا إلهي، الرحمة! … إنني لا أستطيع أن أراك، ولكنني أشعر بالسأم الذي أسببه لك …

ثم شخص إلى الحاضرين وقال لهم: ابتعدوا عني وصلُّوا لأجلي ولا تذكروني …

فسجد الملك أمام الأجذم، وقبَّل رجليه قائلًا له بعذوبة: آه يا أخي، يا أخي الموجع، إنك لسعيد بهذا العذاب المستوحى من الله؟ لقد كفَّرت عن جريمتك طويلًا حتى طهَّرتْك الآلام وجعلتك بريئًا؛ فأصبحت نفسك بيضاء نقية كردائك الناصع البياض … رحمة بهذا الأخ المسكين يا أرحم الراحمين!

كان الأجذم يشهق وينتحب ويذرف الدموع الحمراء على ردائه الأبيض وبعد هنيهة قال: أيها الملك القديس، بوركتَ إلى الأبد بكلامك العذب وشفقتك العظيمة، ولكن دعني وابتعد عني!

عند هذا تقدم جوانفيل من الملك وصرخ قائلًا: دعه يا مولاي، فالله يمقت هذا الكاهن البائس، ويخيَّل إليَّ …

فقاطعه الملك بقوله: اصمت يا جوانفيل، إنك لا تفقه ماذا تقول، يجب على الإنسان أن يحب خالقه فوق كل شيء … ماذا! ألا تفضِّل أن تصاب بداء الجذام على أن ترتكب خطيئة مميتة؟

فصرخ جوانفيل الذي لم يكذب مرة في حياته: وحق السماء يا مولاي، إني لأُفضل ارتكاب ثلاثين خطيئة مميتة على أن أُصاب بمرض الجذام!

– إنك لتتكلم كالمجنون الأبله يا جوانفيل … ألا تدرك أن الجذام هو دون الخطيئة المميتة خطرًا وبشاعة؟ ألا تدرك أن الخطيئة المميتة هي شبيهة بالشيطان، وتؤدي إلى الشيطان، أتوسل إليك بحق الله ومحبتي، بأن تحب الأمراض الجسدية مهما كانت خطرة ومشوهة، وتكره الخطيئة المميتة، ذلك الداء الروحي الذي لا شفاء منه إلى الأبد!

عند هذا هتف الدفين الحي قائلًا: أجل إنني أعترف لله بأني أفضِّل الموت والجذام، الذي يقضم جسدي وأنا حي على أن أرتكب خطيئة مميتة! آه! فليعذبني الله وليرهق جسدي بالمصائب والأمراض، ولكن ليغفر لي، ولتطهر نفسي، يخيل إلي أني أرى وجه الخالق الرحيم في الجنة!

فتأثر الملك من هذا الكلام، فقال له: إنك لسعيد يا أخي؛ لأن الله أوحى إليك أسرار حكمته!

ثم رأى على المنضدة طعامًا يعده الأب بلاسيد فقال: أتود أن أطعمك بنفسي؟ أترغب في الدجاج أم في الحجال؟

– كما تريد يا مولاي الملك.

فأشار الملك إلى الأب بلاسيد بأن يخرج لإحضار بعضٍ من الدجاج والحجال، وبقي ساجدًا على ركبتيه ينظر بحزن عميق إلى آلام الكاهن الموجع، بعد هنيهة عاد الأب بلاسيد ومعه دجاجتان وثلاثة حجال.

أما الملك فأخذ حجلًا وقطع جانحيه بيده الملكية ووضعهما واحدًا بعد الآخر في فم الأجذم، وكان الدم الفاسد يتقطر قطرة قطرة على يد الملك الساجد على ركبتيه، حتى اضطر إلى غسل يديه مرتين متواليتين؛ ثم سكب بعضًا من النبيذ في كأس من الزجاج وقدمه بصعوبة كلية إلى الأجذم المسكين.

عند هذا لم يملك جوانفيل نفسه من ذرف دمعة حرَّى سقطت من عينيه الطافحتين بالشفقة والرحمة.

وأخيرًا أخذ الملك يد الكاهن وقال له: أي مجد عظيم ستنال في السماء بعد هذه الآلام المرة؟ ألا فاضرع لأجلي أمام الله يا رمزًا حيًّا للأجذم الإلهي!

ثم انتصب على قدميه وقبَّل وجه المريض الطافح بالدم الفاسد، فصرخ هذا صرخة عظيمة وجمد في مكانه …

يا للعجائب! لم يكد الملك يضع شفتيه على وجه الكاهن حتى زال البرص، وبرقت مقلتا الأجذم من خلال وجهه الوردي! عند هذا تنهد الكاهن وترك شفتيه تتلفظان بهذه الكلمات: المجد لله في العلاء!

فتحول الملك إلى جوانفيل وقال له: جوانفيل، هل عرفتَ الآن مَن هو الله؟

فأجابه جوانفيل: آه يا مولاي الكريم، إن الله لأرحم الراحمين!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤