الزهرات البيضاء

في ذلك الحين كان أركلَّاوس بن هيرودس السفاك ملكًا على اليهودية.

نسمة خفيفة مبتلة بعطر عذب تُحرك بفتور وكسل، مياه بحر الجليل.

أردية بيضاء شفافة تنحني بلطافة على الأمواج.

بحيرة طبرية الجميلة تنعكس عليها أشعة الشمس فتتلون من حين إلى آخر بألوان اللازورد والياقوت ذات البريق المتباين الشكل.

الموج يهدر هديرًا خافتًا، ويسيل بين القصب المرتفع، فينحني القصب بلطف وعذوبة.

نهر الأردن يتفَّلت كأفعوان هائل من ذلك البحر الهادئ، ويزأر زئيرًا رهيبًا، ثم يحل عقدة حلقاته ويطلقها في مطارح الصحراء.

أما شجرات الأرز الكثيف، ذلك التاج العظيم المنعقد على قمم جبلي عجلون وإربل، فإنها تبرز في وسط ضباب بعيد، خضَّبه الذهب والأرجوان، وأعارته عناقيدُ الإزدرخت ألوانَ مشهد جميل.

هناك، ينتصب جبل حرمون ذو الجبين الناصع البياض.

وجملة ذات الأزهار الأرجوانية الجميلة تتنضد على منحدر الأكمات المنهبطة من بلاد جولان.

قرى عديدة يحيط بها النخل والزيتون والطلح والجميز.

قوافل من الجمال كثيرة العدد، ذات نظرات بلهاء تسير على طرق دمشق وبعلبك، ثم قطعان المواشي يليها جماعات من العبيد، فأفواج من الباعة يقصدون المدن البعيدة؛ ليتاجروا بطيوب آسيا، أو بقمح السهول الخصبة من مدينة بيرية.

بعض من النساء المحجبات يسرن بهدوء وسكينة.

جماعة من اليهود يتحولون بأنفة وازدراء عن سامري بائس.

صراخ وضحك وأصوات مختلفة، ترتفع من على شواطئ البحيرة …

طاقات من الزهور تتمايل هنا وهناك، أغصان الخرُّوب يتنحى بعضها عن بعض … هو ذا صبيةٌ صغار يتسابقون … ثمة فراشات شفافة ذات أجنحة ملونة بذهب وفضة تجنح مع النسيم حيثما يجنح … والأولاد الأحداث يركضون وراءها ويتسابقون.

•••

هو ذا رجلٌ لا يزال في رَيِّق عمره قد ظهر في منعطف الطريق، إنه يمشي متثاقلًا، ويتوكأ على عصا طويل، وغبار السفر يملأ ثيابه؛ أراه يقود حمارًا ذلولًا على ظهره امرأة مرتدية ثوبًا أسود، تحمل على ذراعيها طفلًا نائمًا، لقد انحنت وتلفظت ببعض كلمات … هو ذا المسافرون قد عرجوا عن الطريق إلى غيضة كثر فيها الليمون والنخيل؛ إنهم يستريحون على بساط من العشب في ظلال أشجار عطرية؛ لقد ناموا ملء عيونهم بعد أن استأنسوا بزقزقة الطيور المسكرة …

•••

صراخ موجع يتصاعد من الأبعاد!

لقد انقطع الضحك على كثيب الشاطئ، وتهافت الشعب بذعر شديد!

هذه امرأة سامرية تنتصب قبيل البحر، رافعة ذراعيها المضطربتين وعيناها التائهتان تحدقان في المياه! إنها تصرخ قائلة: ولدي! ولدي!

هو ذا صياد غطس في الماء بين الأمواج المصطخبة، وعاد إلى الشاطئ صفر اليدين؛ لقد عقبه ملاح، ثم صعد من المياه وبين يديه جثة هامدة! إنه يضع الولد على قدمي أمه الثكلى!

أرى هذه المسكينة تنظر إلى ولدها الميت بمقلة يائسة! …

لقد استفاق الطفل النائم بين ذراعي المرأة ذات الثوب الأسود وقال لأمه: فلنذهب يا أم!

فابتسمت الأم ابتسامة عذبة، فابتسم الطفل وقال بهدوء: فلنذهب!

نهضت المرأة من جلستها واتجهت مع طفلها إلى كثيب الشاطئ؛ وعندما وقع نظرها على الأم الحزينة والولد الميت أدركَت هول الموقف، فضمت إلى صدرها ولدها الحبيب ضمة ملؤها الحب والخوف.

عند هذا خرجت السامرية المنكودة الحظ من خمودها العميق، ووقفت أمام المرأة المعانقة ولدها وصرخت قائلة: لا تقتربي أيتها المرأة! لا تقتربي! لقد خطف البحر ولدي الوحيد، ولا يصعب عليه أن يخطف ولدك!

هو ذا جهبذ من جهابذة الشريعة يمر من هناك.

لقد نظر إلى المرأة الثكلى نظرة احتقار وتمتم قائلًا: إنها لسامرية!

ثم حجب وجهه بيديه.

أما الطفل فقد تخلص برقَّة وخفة من عناق المرأة ذات الثوب الأسود، وانحنى فوق الجثة الصغيرة، ونفخ عليها ثلاث مرات، ثم أخذ يدها بيده وأنهضها عن الأرض ملأى بماء الحياة.

عند هذا تراجع القوم منذهلين أمام هذا المشهد الغريب!

أما والدة المنبعث من الموت فقد ترامت على قدميها بسكرة من سكرات الفرح العظيم وهتفت قائلة: أيتها المرأة! أيتها المرأة! … من أنت؟ … مبارك هو ابنك! … مباركة أحشاؤك! … ما هو اسمك؟ … لأردده في كل حين وأحمد به الله!

فرفعت المرأة ذات الثوب الأسود نظرها إلى السماء، وجمعت يديها، وقالت: أنا مريم.

– أمريم أنت؟ أجل، أنتِ نجمة البحار، وسلطانة الحياة والموت! … أنا مديونة لك بولدي … لأنك لم تزدري بي … فكيف أشكرك؟ ثم نزعت طاقة زهر عطرية وقدمتها لمريم.

سقطت دمعة من عيني العذراء على ثنايا الأوراق الأرجوانية، فاستحالت إلى أزهار بيضاء! …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤