كتاب الفرض

قُرع الباب قرعتين، ودخل السيد يوسف فقلت له: أأنت يا سيد يوسف؟ أهلًا وسهلًا، ادخل!

فقال لي، وهو يقترب من الموقد: إن البرد لشديد الوخز في الخارج، فاسمح لي أن أصطلي على نارك، ثم نزع عنه فروته الطويلة، واقترب من النار التي كانت تتلظى في المستوقد، وبعد هنيهة قال لي: ألا تعرف ما الذي قادني إليك في هذه الساعة الباردة؟

فأمَلْت إليه مسمعي وأصغيت، فقال: جئت أُقلق راحة مكتبتك، وأقلبها بطنًا لظهر.

فابتسمت له وقلت: إنها تحت أمرك يا سيد يوسف.

كان السيد يوسف كُتبيًّا هجوميًّا، وكان يصرف نهارات طويلة، وأحيانًا ليالي كاملة في البحث بين كتبه ومخطوطاته وتقاويمه ومجلداته، حتى استحالت رغبته في الكتب إلى هوَس، هو هوس الشيخ المسن بمعتنياته العزيزة لديه.

كان السيد يوسف قد ناهز الستين من عمره، فاحدودب ظهره، وابيضت شعور رأسه، وأحاطت عينيه الثاقبتين دائرةٌ صادئة، وكان لا يخرج من منزله، كمن أقام بقلعة محصَّنة، فيجلس إلى أوراقه وكتبه وكُتبي أيضًا؛ لأنها كانت مشتركة بيني وبينه، فيستعير منها ما يود، وهي إرث وصل إليَّ من عمٍّ شيخ غزير المعارف، واسع الاطلاعات، عارف بمخابئ الكتب وقيمها.

أُكرر عليك يا سيدي العزيز، أن مكتبتي كلها تحت أمرك.

فأطلق الكتبي زفرة استحسان وقال لي: كنت أخشى … كنت أخشى رفضًا منك.

– معاذ الله يا سيد يوسف أرفض طلبك، لا أكتمك أنني شديد التمسك بمكتبتي وكتبي، إلا أنني أشد تمسكًا بأصدقائي.

فبسط لي يده فهززتها بعاطفة قوية، وقلت له: ما عليك إلا أن تصدر إشارة فنتعاون في العمل.

– كنت أخاف أن أطلب منك ذلك بعجلة.

– ولكن في أي كتاب ترغب؟

فأمرَّ يده على لحيته البيضاء، وهي علامة السرور عند الكتبيين، وقال: أبحث عن كتاب نادر جدًّا وجدًّا جدًّا، أذكر أنني رأيته مرة في مكتبة السيد … أو في مكتبة … نادر جدًّا وجدًّا جدًّا …

فقاطعته قائلًا: ألا يمكنني أن أعرفَ اسم هذا الكتاب النادر جدًّا وجدًّا جدًّا؟

– آه! لقد نسيت اسمه، ولكن … ولكنه كتاب طبع في باريس عام ٧٦ … ١٧ أو عام ٧٩ … ١٧ أو عام ٨١ … ١٧ أجل عام ١٧٨١، اسم الكتاب: منتخبات في قصص القرن الثاني عشر والثالث عشر لمؤلفه ليفران دوسه.

– لديَّ هذا الكتاب … هنا … في هذه الخزانة القديمة، حيث أضع كتبي النادرة التي قليلًا ما أبحث عنها وأستشيرها.

فشرع السيد يوسف يلاطف لحيته من شدة الفرح، وقال: نادر جدًّا وجدًّا جدًّا!

ثم نهض من جلسته، وعانقني بفرح لا فرح بعده، فقلت في نفسي: قد لا يبعد أن يتحول هوسه إلى جنون! مسكين يوسف!

وعندما نهضت وفتحت الخزانة القديمة، قال لي ببعض الحزن: أأنت واثق بأنك رأيت هذا الكتاب؟

فأجبته بحدة: واثق جدًّا وجدًّا جدًّا!

فابتسم وقال لي: أرى أنك ترغب في تنكيدي، أنت لا تزال فتيًّا يا صديقي، ويخيَّل إليَّ أني مضحك لديك، يا لي من شيخ مسكين!

– آه! يا سيد يوسف! ماذا تقول؟ … أنت مضحك! … معاذ الله أن تمر في مخيلتي مثل هذه الفكرة!

فدمدم السيد يوسف، وقال لي: فلنباشر البحث حالًا، أليس كذلك؟

شرعنا في العمل، فكانت المناضد والكراسي والداخون تحتجب جميعها تحت الكتب المكردسة هنا وهناك!

وكان السيد يوسف يذهب ويجيء، فتارة يصعد إلى فوق، وطورًا يهبط إلى تحت، وحينًا يميل إلى الشمال، وأحيانًا إلى اليمين، ثم يقف لاهثًا من التعب.

أما أنا فعندما يقف أنظر إليه مستغربًا وقوفه، حتى أبصرته جمد في مكانه وشخص إلى كتاب مجلد تجليدًا متقنًا، وقال مستعيدًا نغمته الأولى: نادر جدًّا وجدًّا جدًّا!

فقلت له: ماذا رأيت يا سيد يوسف؟

فقال لي: ولكنَّ هذا الكتاب نادر جدًّا وجدًّا جدًّا!

– هذا كتاب الفرض، إنه أكثر من كتاب نادر، فهو ذخيرة.

فرفع السيد يوسف نظره إلي، فأكملت حديثي متقطرًا، فقلت: ألم يسبق لي أن أخبرتك قصة كتاب الفرض؟

– لا، أبدًا، فهل أكون متطفلًا إذا سألتك أن تقص علي هذه القصة؟

– ولكن ألم تبق في حاجة إلى كتابك النادر؟

– أبحث عنه ساعة أريد، فمكتبتك هي أمامي دائمًا! ولكني أتوق الآن إلى معرفة قصتك.

– إذن فإليكها.

عند هذا عاد كل منا إلى مكانه بالقرب من الموقد، وبعد أن أذكيت النار، قلت: يجب علي أن أوقظ تذكارات أليمة من رقادها العميق … عندما حكم المجلس بالموت على لويس السادس عشر — لا أشك في أنك تعرف أكثر مني تفاصيل هذه الفاجعة الأليمة، يوم أُلقي رأس هذا الملك أمام ملوك أوروبا.

عند ذلك كان الله قد أبقى للملك لويس عزاء عظيمًا في وسط آلامه الشديدة، إذ إن الجلادين سمحوا لأحد الكهنة بأن يُحضر للملك نجدة الدِّين، فعندما مثَل الكاهن أمام الملك، صرف المسكين الليل كله في الصلاة، فتقبل القربان المقدس كما يتقبله كل مسيحي على الأرض عندما يذهب إلى الاستشهاد.

كانت إحدى العجلات تنتظر الملك، فجلس هذا في تلك العجلة إلى جنب الكاهن، الذي كان في يده كتاب فرض يتمتم فيه ببعض آيات مقدسة، وما لبث أن أخذ الكتاب من يد الكاهن، وجعل يقرأ الصلوات الأخيرة بصوت مرتفع هادئ، في حين كان الشعب يزأر زئيرًا رهيبًا، منشدًا أغاني الموت واللعنات! …

يا للمشهد الرهيب! صعد الملك درجات المقصلة متكئًا على ذراع الكاهن، وقبل أن يُنفذ فيه حكم الموت، رفع الكاهن ذراعيه إلى السماء، وقال للملك: اصعد إلى السماء يا ابن القديس لويس!

عند هذا برقت أشعة ذهبية، وتدحرج الرأس الملكي على درجات المقصلة! أما الكاهن فلم يكد يبصر هذا المشهد، حتى شحب لون وجهه، وسجد على ركبتيه تاركًا كتاب الفرض يسقط من يده فوق دم الشهيد.

انظر إلى هذه النقط السوداء على غلاف الكتاب.

فتفحص السيد يوسف الكتاب متفطرًا، وقال: أجل، إنه لذخيرة مقدسة ثمينة، ولكن كيف اتصل إليك هذا الكتاب؟

– اسمع … كانت عائلتي تسكن مقاطعات الأشراف قريبًا من أفينيون، ذات صباح دقت الأجراس طويلًا طويلًا … فأخذت الجماهير تروح وتجيء والأجراس تقرع في المدينة، فمنهم من قال إنها ساعة النصر بعد الاندحار العظيم الذي حدث لنابوليون في روسيا، ومنهم من قال إنها تبشر بقدوم عظيم من العظماء، ثم أسرع الشعب للاطلاع على الحقيقة، وكان الخوف في تلك الساعة سائدًا على المدينة، وبعد هنيهة أعلن قدوم البريد، فأسرع الشعب لملاقاة الساعي، وعندما بلغوا إليه وقف فجأة وصمت صمتًا غريبًا، ثم قال: أبشركم بقدوم قداسة البابا بيوس السابع إلى رومة واجتيازه مقاطعتنا!

فهتف الشعب هتافًا عظيمًا قائلين: فليحي بيوس السابع! فليحي البابا! …

كان العاهل نابوليون قد أطلق سراح بيوس السابع، فعاد إلى رومة عن طريق مقاطعة الأشراف.

في ذلك الوقت زيَّن الشعب منازلهم، وطافت الأولاد في الشوارع رافعة أعلامًا خضراء من أغصان الأشجار والأوراد النادرة.

بعد مرور ساعتين مرَّت كوكبة من الخيالة تحيط بعجلة فخمة، فترامى الشعب على الركب، وعلا الهتاف والدعاء، فوقفت العجلة وخرج منها شيخ مسن مرتد ثوبًا أسود، زُنِّر بزُنَّار أحمر، وعلى رأسه قبعة حمراء، وبعد أن بارك الشعب قال: من منكم يستطيع أن يُحضر بعضًا من الطعام لقداسة البابا؟ فلقد فرغ الطعام الذي كان معنا.

عند هذا شقَّت إحدى النساء صفوف الحاضرين فتبعها ولد صغير، وعندما وصلت إلى العجلة تلفظت ببعض كلمات أمام الكردينال، وبعد هنيهة نزل بيوس السابع من العجلة، وعلى شفتيه ابتسامة عذبة فبارك الشعب، وصعد إلى عرش كان الجمهور قد أعده لقداسته، فسجدت المرأة والولد أمام البابا، وقدما له بعضًا من الأثمار والحلويات وقدحًا من النبيذ … فشكرهما قداسته، ثم وضع يده على كتف الولد وسأله قائلًا: ما اسمك يا بني؟

فأجابت المرأة خاشعة الرأس: لويس، أيها الأب الأقدس!

– أهو ولدك؟

– نعم أيها الأب الأقدس!

– حسنًا، حسنًا، إني أُباركك يا بني أنت وجميع أهلك، فليحرسك الله وليساعدك! ما اسم والدك؟

فرفع لويس رأسه، وقال مفتخرًا: والدي؟ لقد مات ساعة أقدم على إنقاذ الملك، وهو ذاهب إلى المقصلة، كان والدي شجاعًا!

عند هذا أشار البابا إلى الكردينال، فجاء بعد فترة ثم نظرة إلى الولد، وقال: إنَّ كأس الماء التي تُعطى إلى الفقراء لا تذهب بلا أجر يا ولدي، فاقبل مني هذا الكتاب، فهو ذخيرة مقدسة، لقد مات والدك في سبيل ملكه، فخذ هذا الكتاب الملطَّخ بدم ملكك الشهيد.

فبكت الأم، وأخذ الولد كتاب الفرض فقبَّله، أما الشعب فكان يهتف هتافًا عظيمًا، وقد تفطر من هذا المشهد الجميل المؤثر، وبعد أن بارك البابا الأقدس شعبه الأمين صعد إلى عجلته، وذهب … أما ذلك الولد فقد أمسى اليوم شيخًا نبيلًا.

– ألا يزال في قيد الحياة؟

– بلى، وأنت تعرفه يا سيد يوسف، فهو جدِّي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤