الفصل الثالث

الطب النفسي والنظرية العامة للأنظمة

قبل الأربعينيات من القرن العشرين كان مُصطلح «نظام» و«فكر أنظمة» يُستخدَم من قِبل العديد من العلماء. غير أنَّ الفضل يرجِع إلى تصوُّرات لدفيج فون برتالانفي L. V. Bertalanffy عن النظام المفتوح open systems والنظرية العامة للأنظمة General Systems Theory في تأسيس فكر الأنظمة بوصفه حركةً علميةً كبرى. وسرعان ما ظهر علم السيبرنطيقا Cybernetics بعد ذلك فكان ظهيرًا قويًّا لنظرية الأنظمة التي غدَتْ جزءًا مُكمِّلًا للغة العلمية الجديدة ومُدمجًا بها، وأسهمت في إيجاد الكثير من مناهج البحث الجديدة والتطبيقات العلمية من قبيل هندسة الأنظمة وتحليل الأنظمة وديناميكا الأنظمة … إلخ.
بدأ لدفيج فون برتالانفي حياته العلمية كعالم بيولوجي في فينا في العشرينيات. وما لبث أن انضمَّ إلى جماعة العلماء والفلاسفة التي تُعرَف بحلقة فينا. واشتمل عمله في البداية على مسائل فلسفيةٍ عريضة المجال. وكان كغيره من أصحاب النزعة العضوية organists من البيولوجيين؛ على إيمان راسخ بأن الظواهر البيولوجية تتطلَّب طُرقًا جديدةً من التفكير تتجاوَز الطُّرق التقليدية لعلوم الفيزياء، فشرع يستبدل بالأسس الميكانيكية للعلم نظرةً شموليةً كلية، مؤمِّلًا أن يؤدي التوسُّع في نظرية الأنظمة في المستقبل إلى أن تُصبح مبحثًا رياضيًّا يجمع بين البِنية الصورية البحتة وبين قابلية التطبيق على مُختلِف العلوم الإمبيريقية. وعلى الرغم من حُلمه بنظريةٍ رياضيةٍ صورية فقد أراد برتانلافي أن يُقيم النظرية العامَّة للأنظمة على أساسٍ بيولوجي صُلب؛ فقد كان الرجل يضيق بهيمنة الفيزياء على العلم الحديث، ويؤكد الفرْق الجِذري بين الأنظمة الفيزيائية والأنظمة البيولوجية.

ولكي يُبرهن على هذه الوجهة من الرأي أشار برتالانفي إلى المُعضلة التي حيَّرَت العلماء منذ القرن التاسع عشر، عندما دخلت فكرة التطوُّر إلى ساحة التفكير العلمي. فإذا كانت ميكانيكا نيوتن علمًا للقوى والمسارات، فإنَّ الفكر التطوُّري — فكر التغيُّر والنماء — كان يتطلَّب علمًا جديدًا للكيانات المُركَّبة المُعقدة.

كانت الصياغة الأولى لهذا العِلم الجديد هي الديناميكا الحرارية الكلاسيكية و«قانونها الثاني» الشهير؛ قانون تبدُّد الطاقة. ينصُّ القانون الثاني للديناميكا الحرارية، والذي صاغَهُ لأول مرة الفيزيائي الفرنسي سادي كارنو بلغة تكنولوجيا المُحرِّكات الحرارية، على أنَّ «هناك ميلًا في الظواهر الفيزيائية للتحوُّل من النظام إلى الفوضى»، وبمُقتضاه يميل أي نظام فيزيائي معزول أو «مُغلق» إلى المُضيِّ تلقائيًّا باتجاه الاضطراب المُتزايد على الدَّوام.

وقد شاء علماء الفيزياء أن يُعبِّروا عن هذا التوجُّه في الأنظمة الفيزيائية بصيغةٍ رياضية دقيقة، فأدخلوا كمًّا جديدًا أطلقوا عليه «الإنتروبي» entropy. ويمكن أن نعتبِر الإنتروبي «مقياسًا للاضطراب». وبمُقتضى القانون الثاني فإن إنتروبي النظام الفيزيائي المُغلق هو ازدياد مُستمرٌّ؛ لأنَّ تطوُّر النظام المُغلَق هو تطوُّرٌ مصحوب باضطرابٍ مُتزايد.

بهذا المفهوم للإنتروبي وبهذا المنطوق للقانون الثاني، أدخلت الديناميكا الحرارية إلى العلم فكرةَ العمليات غير المُتراجعة أو فكرة «سهم الزمن». بمُوجَب القانون الثاني فإن شيئًا من الطاقة الميكانيكية يتبدَّد دائمًا إلى طاقةٍ حرارية لا يُمكن استردادُها تمامًا. بذلك تكون آلة العالَم بأكملها في تلكُّؤٍ مُستمرٍّ سوف ينتهي به المطاف إلى التوقُّف.

اصطدمت هذه الصورة القاتمة لتطوُّر الكون بالفكر التطوُّري لبيولوجيِّي القرن التاسع عشر الذين لاحظوا أنَّ العالَم يتطوَّر من الاضطراب إلى النظام، ومن حالة الفوضى إلى حالات تعقُّدٍ مُتزايد أبدًا. وبحلول نهاية القرن التاسع عشَر كانت ميكانيكا نيوتن (ميكانيكا المسارات المُتراجِعة الأبدية) قد أُلحِق بها نظرتان للتغيُّر التطوُّري على تناقُضٍ تام؛ الأولى تُصوِّر عالمًا حسيًّا مُنبسطًا تجاه مزيدٍ من النظام والتعقُّد، والثانية تُصوِّر آلةً تتباطأ وعالمًا يزداد اضطرابًا وفوضى. فمن كان على حق، دارون أم كارنو؟

لم يستطع برتالانفي أن يحلَّ هذه المُعضلة، غير أنه اتَّخَذ الخطوة الحاسمة الأولى حين أدرك أنَّ الكائنات الحية هي «أنظمة مفتوحة» open systems لا يمكن للديناميكا الحرارية الكلاسيكية أن تصِفها. وقد أسمى هذه الأنظمة «مفتوحة» لأنها تحتاج إلى أن تتغذَّى على فيضٍ مُستمرٍّ من المادة والطاقة من بيئتِها كيما تبقى على قيد الحياة. يقول برلاتالانفي:
ليس الكائن العضوي بالنظام السُّكوني المُغلَق على الخارج والمُكوَّن دائمًا من نفس المكونات، بل هو نظام مفتوح في حالة (شبه) الثبات؛ حيث المادة واردةٌ إليه من البيئة الخارجية وصادرةٌ منه إلى تلك البيئة، بشكلٍ مُستمرٍّ وبدون توقُّف.١

وعلى خلاف الأنظمة المُغلقة التي تظلُّ في توازنٍ حراري، فإن الأنظمة المفتوحة تحفظ نفسها بعيدًا عن التوازُن، في هذه الحالة من الثبات الديناميكي القائم على التدفُّق المُستمرِّ والتغيُّر الدائب. ومن هنا كانت الديناميكا الحرارية الكلاسيكية غير مُلائمةٍ لوصف الأنظمة المفتوحة.

وما دام القانون الثاني لا ينطبِق على الأنظمة المفتوحة حيث الإنتروبي (الفوضى) في تناقُص لا في ازدياد، فلا بدَّ للعِلم الكلاسيكي من أن يكتمِل بديناميكا حرارية جديدة للأنظمة المفتوحة. غير أن التقنيات الرياضية اللازمة لهذا التوسُّع لم تكن مُتاحةً لبرتالانفي في الأربعينيات. وكان على هذا العلم الجديد أن ينتظر حتى السبعينيات عندما تمكَّن إليا بريجوجين Ilya Prigogine، باستخدام صنفٍ جديد من الرياضيات، من أن يُعيد تقييم القانون الثاني ويُحدِث انقلابًا في النظرة العلمية حول النظام والفوضى ويحلَّ مُعضلة النظرتين المُتناقِضتَين للتطوُّر حلًّا لا لبس فيه.

كشف برتالانفي أيضًا أن خصائص الثَّبات هي بعينها خصائص عملية الأيض؛ مما أفضى به إلى افتراض «التنظيم الذاتي» كخاصية أساسية أخرى للأنظمة المفتوحة.

كانت رؤية برتالانفي حول «علم عام للكيانات الكلية» قائمًا على مُلاحظته بأنَّ مفاهيم الأنظمة ومبادئها يُمكن أن تنطبِق على ميادين مُختلفة من البحث: «فالتوازي القائم بين التصوُّرات العامة، أو حتى القوانين الخاصة، في مُختلف المجالات هو توازٍ ناجم عن أن هذه المجالات تتناوَل «أنظمة» وأنَّ هناك بعض المبادئ العامة تنطبق على الأنظمة بغضِّ النظر عن طبيعتها.» وبما أن الأنظمة الحيَة تُغطِّي نطاقًا هائلًا من الظواهر يشمل الكائنات العضوية الفردة وأجزاءها، والأنظمة الاجتماعية، والأنظمة الإيكولوجية (البيئية)، فقد أيقن برتالانفي أن من شأن النظرية العامَّة للأنظمة أن تُقدِّم إطارًا نظريًّا مِثاليًّا لتوحيد الأفرع العلمية المُختلفة التي غدَتْ مُنعزلةً ومُتشرذِمة.

لم يشهد برتالانفي في حياته تحقُّق رؤيته. وربما لن تتحقَّقَ أبدًا صياغة علمٍ كُلي من الصنف الذي ارتآه، إلَّا أن العَقدَين اللذَين أعقبا وفاته عام ١٩٧٢م قد شهدا بزوغ «تصوُّر أنظمة» للحياة والعقل والوعي يتخطَّى حدود التخصُّصات ويَعِدُ حقًّا بتوحيد مجالاتٍ عديدة من البحث كانت مُنفصِلة فيما مضى. ورغم أنَّ هذا التصوُّر الجديد للحياة يَسترفِد السيبرنيطيقا أكثر مِمَّا يسترفِد النظرية العامَّة للأنظمة، فمن المُتيقَّن أنه يَدين بالفضل الكثير للمفاهيم والأفكار التي أضافها برتالانفي إلى رصيد العِلم.٢

(١) النظرية العامة للأنظمة General Systems Theory

بحياةٍ أطولَ وأيسَرَ وأهنأ، وعَدَنا العِلم في القرون الأربعة الأخيرة.

أسكرتْنا وعود العِلم حتى أفقْنا حديثًا على ألمٍ مُريبٍ بالرأس والجوارح؛ فالشرور التي انسربَتْ يومًا من «صندوق بندورا» ما تزال تستشري في طول البلاد وعرضها.

التَّوازُن بكلِّ معانيه وجوانبه يختلُّ اختلالًا خبيثًا لا يُنبئ بخير. الظلم يهبِط كلَّ يومٍ إلى الأرض في ثِيابٍ جديدة. انتهَيْنا من أمراض البداوة لتُدهِمَنا أمراض الحضارة، فإذا هي أشدُّ فتكًا وتنكيلًا: الاكتئاب، الأورام، أمراض القلب والأوعية، سكتة القلب والدماغ عرفت طريق الشباب، الانتحار بدأ يترصَّد الصِّبا الغضَّ ولم يعُدْ وقفًا على شيخٍ ملَّ الضعف وما ملَّ الحياة، الإيدز. وما خفي مِمَّا يُمكن أن يَجُرَّه اللعب بنار بروميثيوس، يفتك بالبعض ويترُك طائفة، يُسمم للآخرين صنفًا من أشهى الأصناف على مائدة الدنيا.

ورغم ثِقتنا المُفرطة في طريقة العِلم ودربه، فما يزال «التضخُّم» يُحيِّر الاقتصاديين، والفصام يُحيِّر السيكولوجيين، والسَّرطان يُحيِّر الأطباء، والعُنف والإدمان والجريمة تُحيِّر الجميع، لكي يتبلور السؤال ويثقُلَ ويُلِح: كيف نضمَنُ ألَّا ينقلِب ما هو خيرٌ ونفعٌ على المدى القريب إلى شرٍّ ووبالٍ على المدى البعيد (ولنا في استخدام المبيدات والوقود الحفري والطاقة النَّووية أمثلةٌ صارخة)؟ كيف نضمَن ألا يقوم الكلب بقيادة السيد إلى بقاعٍ خطرة يُمكن أن تُودي بحياته؟

(١-١) صفر + صفر = صفر

من الصيحات الجديدة في صناعة القرارات الكبرى، سياسية أو اجتماعية أو غيرها، أن تُؤخَذ مشورة كبار الأكاديميين والعلماء المُتخصِّصين، سواء بطريقٍ شخصيٍّ مُباشرٍ أو بطريقٍ غير مباشر، من خلال بنوك المعلومات وبنوك الأفكار وما إليها. وما أيسَرَ أن تَتمَّ المشورة، ويتمَّ معها إغفال حقيقة مريرة: هي أن هؤلاء العلماء، مع كلِّ الإكبار لهم والتَّجِلَّة، هم سادةٌ على أرضهم، وما كان لهم أن يبلغوا ما بلغوه من مكانةٍ في تخصُّصاتهم الضَّيِّقة إلَّا لأنهم كرَّسوا لها أنفسهم وأوْغَلوا فيها على حساب المجالات الأخرى للحياة، في زمنٍ تفجَّرتْ فيه المعارف وأصبحتْ مُمارَسة العلم هي معرفة الأكثر والأكثر عن الأقلِّ والأقل، فأصبح هؤلاء العلماء، بِحُكم التخصُّص ذاته، آخِرَ من يُؤخَذ رأيه في الأمور التي تتطلَّب النظرة الشاملة والإلمام العريض. والأخطر من ذلك ما نجِده لدى كثيرٍ من هؤلاء العلماء من ميلٍ طبيعي إلى تعميم طرائقهم البحثية المحدودة، والاعتقاد بأن جميع المُشكلات الإنسانية يُمكن أن تُحَلَّ بنفس المناهج التي يَجدونها مُثمِرة في ميادينهم.

لم يتفطَّن أيٌّ من النُّخبة المُفكرة إلى المشكلة الحقيقية وراء أزمة الأفكار: وهي أن مُعظم الأكاديميين يتبنَّون رُؤى ضَيِّقة للواقع، لا تكفي ولا تُغني شيئًا في تناول المشاكل الكُبرى لهذا العصر. وهي مشاكل نَسقيَّة مُتداخِلة مُتواشِجة لا يُمكن أن تحصرها المناهج الجزئية للتخصُّصات الأكاديمية والوكالات الحكومية.٣

(١-٢) الفكر الإيكولوجي كبديلٍ أقومَ للفكر التَّجزيئي

ثمَّةَ تحوُّلٌ كبير في «النموذج الإرشادي» paradigm وتيارٌ آخر من الفكر آخِذ مَجراه خلال العقود الأخيرة، ذلك هو الفكر الإيكولوجي. والأصوب أن نُسمِّيَه «الوعي الإيكولوجي»؛ لأنه يقِف على النقيض من الفكر العلمي التقليدي الذي يقوم على التجزئة والتحليل ويعوق، بحُكم طبيعته ذاتها، فهْم الأنظمة الإيكولوجية. لقد أدَّى بنا الحماس الزائد للمنهج العِلمي والفكر العقلي إلى مواقفَ واتجاهاتٍ غير إيكولوجية، فالفكر العقلاني التقليدي هو فكرٌ «خَطِّي» linear، بينما ينشأ الوعي الإيكولوجي عن حدسٍ عميقٍ بالأنظمة غير الخطِّية. إن من أصعَبِ الأمور على أهل ثقافتنا أن يُدركوا حقيقة أنك إذا فعلتَ شيئًا صالحًا فإن المزيد من نفس الفعل لن يكون بالضرورة أصلح. هذا هو جوهر الفكر الإيكولوجي، فالأنظمة البيئية تحفَظ نفسها في توازُنٍ دينامي قائم على دَوراتٍ وإيقاعات. هذه الدَّورات والإيقاعات هي عملياتٌ غير خطية. ونحن حين نتمادى في مشروعاتٍ خطِّية من قبيل النموِّ الاقتصادي والتقني اللانهائي، أو حين نُراكم نفاياتٍ نوويةً ذات إشعاعٍ هائل الأمد، فإن فِعْلنا سيؤدي بالضرورة إلى الإخلال بالتوازُن الطبيعي، وإن عواقِبه ستكون وبالًا عاجلًا أو آجلًا.
لن ينشأ الوعي الإيكولوجي إذن ما لم نَقرن معرفتنا العقلية بشيءٍ من حدْس الطبيعة غير الخطِّية لبيئتنا. كانت هذه الحِكمة الحدسية صفةً مُتأصِّلة في الثقافات التقليدية يوم كان الإنسان على صِلةٍ مُباشِرة بالطبيعة من حوله. أما اليوم وقد بلَغَت التقنية مداها، فقد بات الإنسان يعيش في بيئةٍ مُصطنعة وفقَد الاتصال بأصله الإيكولوجي والبيولوجي، وصار يُعاني من تفاوتٍ كبير بين نموِّه العلمي والتقني من جهةٍ ونموِّه الروحي والخُلقي من جهةٍ أخرى،٤ وكأنَّ السيد قد صار عليلًا هزيلًا لا يقوى على قياد كلبِه المَريد الذي يَشدُّه إلى بقاعٍ خطرة يُمكن أن تُودي بحياته.

(١-٣) مُوجَز للنظرية العامة للأنظمة

تذهب النظرية العامة للأنظمة إلى أنَّ العالم يتكوَّن من تراتُبٍ هرَمي من الأنظمة العينية تُعرَف بأنها تجمُّعات من المادة والطاقة تنتظِم في هيئة مُكوِّنات أو أنظمة تحتية مُتعالِقة مُتفاعِلة معًا وموجودة في «مُتَّصِل زماني-مكاني» time-space continuum عام. في هذا الإطار التصوُّري يُطلَق اسم «نظام» على ذلك الكلِّ المُتكامِل الذي لا يُمكن أن تُردَّ خواصُّه إلى خواص أجزائه.
تُعدُّ نظرية الأنظمة من تجليَّات الوعي البيئي وترجمةً نظريَّةً للفكر الإيكولوجي الناشئ، وهي نظرية ترى إلى العالم من حيث هو علاقاتٌ مُتبادَلة بين جميع الظواهر واعتمادٌ مُتبادَل بين جميع الأشياء. فالكائنات الحية، والمجتمعات، والأنساق البيئية الكبرى؛ كلُّ أولئك أنظمةٌ أو أنساق. تنتظِم هذه الأنساق في صورة بِنيات مُتعدِّدة المُستويات، يتكوَّن كلُّ مستوًى من أنظمةٍ تحتية. كلُّ نظامٍ تحتي هو «كل» بالنظر إلى أجزائه وهو «جزء» بالنظر إلى النظام الأعلى الذي يندرِج فيه. هكذا تجتمِع الذرَّات فتُكوِّن جُزيئات، وتتَّحِد الجُزيئات لتكوِّنَ بلُّورات أو لتكون — في الأحياء — ما يُسمَّى organelles (عضيوات/أعضاء الخلية)، التي تَتَّحِد بدَورها لتُكوِّن الخلايا. ومن اجتماع الخلايا تتكوَّن الأنسجة والأعضاء التي ترتبِط معًا لتكوِّن الأجهزة المُختلِفة، كالجهاز الهضمي والجهاز العصبي والجهاز التنفُّسي … إلخ. ومن تضافُر الأجهزة يتشكَّل في النهاية ذلك الكائن الحي أو «المُتعضِّي»؛ الإنسان. ولا يتوقَّف النظام التَّراتُبي عند هذا الحد، فمن أفراد البشر تتكوَّن عائلات، قبائل، أمم، ويمضي التَّراتُب صُعدًا فتتكوَّن الأنظمة الدولية. وما تلبث الأنظمة الأعلى أن تَضُمَّ معًا مكوِّنات حية وغير حية، وتشمل الأنساق البيئية، والكواكب، والأنظمة الشمسية، والمجرَّات … إلخ.
أما «النظرية العامة للأنظمة الحية» General Living Systems Theory فينصبُّ اهتمامها على شريحةٍ واحدةٍ من بين جميع هذه الأنظمة، هي الأنظمة الحية. وهي تُقدِّم إطارًا تَصوُّريًّا يسمح بدمْج مفاهيم العلوم الاجتماعية والبيولوجية بمفاهيم العلوم الفيزيائية دمجًا منطقيًّا، ويسعى إلى إلغاء الحدود الصارِمة التي تفرِضها التخصُّصات العلمية فيما بينها، والتي تحجب عنَّا العلاقات القائمة بين أجزاء العالم الحقيقي وتؤدي بالكثيرين إلى إغفال الخصائص المُشترَكة بينها.

البنية والعملية

لكل نظامٍ حيٍّ جانبان أو وجهان: البنية والعملية. تُشير «البنية» structure في العلوم البيولوجية إلى التنظيم الذي تتَّخِذه مُكوِّنات النظام (أو الأنظمة التحتية لذلك النظام) في المكان الثُّلاثي الأبعاد في لحظةٍ زمنيةٍ مُعطاة. وتُشير «العملية» process إلى التَّغيُّر المُستمرِّ والسيرورة الدائمة للنظام؛ وظيفته، أدائه. ومهما تكن درجة ثبات النظام فإن بِنيته يمكن أن تتغيَّر حثيثًا. ومن ثَمَّ فمن الواجِب دائمًا أن تُدرَس البنية في لحظةٍ بعينها كما لو أنَّ الزمن توقَّف أو أن العملية تعطَّلَت!

الخواص الانبِثاقية Emergent Properties

للأنظمة الأكثر تعقيدًا، والتي تقع على مستوًى أعلى في التَّراتُب، خصائص لا يُمكن وصفُها بالحدود المُستخدَمة في وصف مكوِّناتها أو أنظمتها التحتية الواقعة على مستوًى أدنى، دون إغفال جوانب هامَّة من تلك الأنظمة. مِثل هذه الخصائص الجديدة التي تبزُغ أو تنبثِق في التركيبات أو الأنظمة الأكثر تعقيدًا تُسمَّى «الخواص الانبثاقية» emergent properties. وبتعبيرٍ أبسط: حين تجتمع بعض المكونات لتكوِّن نظامًا (أو نَسَقًا)، تبزُغ لهذا النظام الأعقَدِ صفاتٌ «جديدة» لا يُمكن التنبُّؤ بها بشكلٍ كامل من خلال صِفات مكوناتها.٥

هكذا تلفِتُنا نظرية الأنظمة إلى حقيقةٍ ما تفتأ تُواجِهُنا على الدوام، وهي أنَّنا قلَّما يتيسَّر لنا أن نَستنبط خواصَّ مُفرداتٍ أكثر تعقيدًا من خواصِّ مُكوِّناتها، فخواص الماء على سبيل المثال، كالسيولة أو الميوعة، هي خواصٌ لا تُشبِهُ من قريبٍ أو بعيد خواصَّ الأوكسجين أو الهيدروجين. ولقد كان الأقرب إلى الحدْس أو التوقُّع، لو أن الأشياء تُفسَّر بمكوناتها، أن يُفضي اجتماع ذرَّتين من غازٍ شديد الاشتعال كالهيدروجين بذرَّةٍ من غازٍ يُساعد على الاشتعال كالأوكسجين، إلى غازٍ هائل الاشتعال. غير أنَّ العكس هو ما كان على صعيد الواقع؛ فالذي يتكوَّن هو سائل لا يشتعِل (بل نحن نُطفئ به الاشتعال!) هذا مثالٌ صارخ ودرسٌ بليغٌ لكلِّ ذهنٍ يظنُّ أن معرفة المُكوِّنات كفيلةٌ بمعرفةِ الشيء؛ ذلك أن للمستوى الأعلى من مُستويات الوجود صفاته الجديدة وقوانينه الخاصَّة التي يَجِب أن نتوجَّه إليها مُباشرة ونقابلها على أرضها وندرُسها بحقِّها الشخصي.

والبلُّورات مِثال آخر، فللبلُّورات كل صنوف الخصائص الهندسية والبَصرِيَّاتية التي لا تُوجَد في الجُزئيات التي تتكوَّن منها.

والحياة نفسها، هي خاصيةٌ انبِثاقية تبزُغ عند مستوى الخلية. والقدرة على التأقلُم مع الضغوط الشديدة باستنفار آلياتٍ خاصَّة بين الخلايا هي صِفة انبثاقية تظهر عند مستوى الأعضاء الحيوية. والقدرة على استخدام اللغة الرمزية هي خاصيةٌ انبثاقية تطرأ عند مستوى الكائن العضوي (المُتعضِّي organism) مع تطوُّر الكائنات البشرية. وعند مستوى الجماعة البشرية تبرُز القدرة على إنجاز الأعمال الكبيرة والإنتاج الصُّنعي الذي يتجاوَز قُدرة الكائن الفرد. وعند المستويات الأعلى تظهر أشكالٌ جديدة من التنظيم الاجتماعي وآليات الصراع والتعاون الدولي والتَّحوُّل الحضاري وهلمَّ جرًّا.

الرد والنزعة الرَّدِّيَّة Reduction and Reductionism

هكذا تتجلَّى لنا مزالِق النزعة الردِّية في أوضح صورة. ويستدعي المُقام أن نُفصِّل فيما لها وما عليها. و«الرَّد» reducation هو دعوى من صيغة «أ ما هو إلَّا ب». وهو يتجسَّد في الجُمَل الردِّية. ومن أمثلة الجُمَل الردية:
  • البرْق ما هو إلا تفريغ كهرباء إستاتيكية.

  • الماء ما هو إلا ذرَّتان من الهيدروجين وذرَّة واحدة من الأوكسجين.

والردُّ كما هو مُمثلٌ في هذين المِثالين هو جُزء أساسي داخل في كلِّ العلوم الحقيقية، فتعبير «ما هو إلا» nothing but يعني بدقَّة تامة: «في هوية مع» is identical with، ومن ثم فالجُمل الرَّدِّية في حقيقة الأمر تجسد علاقات هوية identities. وقد كان اكتشاف علاقات الهوية وما يزال جانبًا هامًّا من جوانب البحث العلمي، تلك الهوية التي تكون أحيانًا مُفاجئة لنا وغير مُتوقَّعة على الإطلاق.٦
أما «الردِّية» reductionism فهو مُصطلح (ازدرائي دائمًا) يُطلَق على وجهةٍ من الرأي تُعتبر غير مقبولة. تُوجَّه تُهمة الردِّية عندما ينعقد الرأي على أنَّ الشيء الذي تمَّ ردُّه هو أكثر مِمَّا يُحدِّده الرد. إن الصورة الزيتية مثلًا مُكوَّنة من مواد كيميائية، وهي أي مواد تتكوَّن منها قماشة اللوحة مُضافًا إليها الأصباغ التي فُرِشَت على القماشة وما إلى ذلك. إلا أن هذا لا يعني أن النقد الفني فرعٌ من الكيمياء، أو أن المفردات اللغوية التي يتطلَّبها بحثنا في الفن مثل: جميل، قبيح، مرسوم برعونة، مثير، حسي … إلخ، لها أي علاقة بلغة الكيمياء. ومن ثَمَّ فإن الجملة الرَّدِّية «الصورة الزيتية ما هي إلَّا كيماويات.» على صِحَّتِها قد تكون مُضلِّلة إذا فهمنا منها أنها تستبعِد الجمال وتُقصي الخصائص الاستطيقية الأخرى.
ولعلَّ أهم الأمثلة الحديثة على النزعة الرَّدِّية هو تلك الدعوى القائلة بأنَّ البشر ما هم إلا كائنات بيولوجية؛ أي أنهم مُجرَّد أنظمة فيزيائية حيوية مُعقَّدة، وهو ما اعتبره الكثيرون مُنطويًا على ردٍّ لا مُسوِّغ له؛ أي «رَدِّية» reductionism.
يتبيَّن مِمَّا سبَقَ أن للرَّدِّ وجهَين: وجهًا أنطولوجيًّا وآخر إبستمولوجيًّا. أما الردُّ الأنطولوجي فينفي كيفيَّات الظاهرة ذات المُستوى الأعلى من الوجود، وذلك بردِّها إلى ظواهر على مستوى أدنى. وأما الرَّدُّ الإبستمولوجي فيجهد لفهم جوانب مُعينةٍ من ظاهرةٍ ما بلُغةِ العبارات النيوروفسيولوجية دون أن يقصيَ أو ينفيَ التنوُّعَ الكيفيَّ للوجود كما يفعل الردُّ الأنطولوجي٧ حين أقول مثلًا إنَّ الماء = يد٢أ فإنَّ هذا يُعدُّ ردًّا إبستمولوجيًّا؛ لأنَّ للماء بجانب تركيبه الكيميائي بِنيةً خاصة من شأنها أن تنبثِق عنها خصائص جديدةٌ كاللُّزوجة والسيولة والتوتُر السطحي … إلخ.
وأكثر صور الردِّ شُيوعًا ووضوحًا هو الرد النظري theory reduction أي رد النظرية إلى أخرى أكثر أوليةً أو رد علمٍ ما إلى آخر أكثر أساسية. مثال ذلك أن نَرُدَّ علم النفس والاجتماع إلى العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا. والحقُّ أن الكائنات البيولوجية تتكوَّن من مواد كيميائية، فالكيمياء إذن أكثر أوليةً بمعنًى ما من البيولوجيا. والمواد الكيميائية هي تجمُّعات من الذرَّات التي تتكوَّن من جُسيمات وقوى يضطلِع بدراستها علم الفيزياء. ومن ثم فالفيزياء هي بمعنًى ما أكثر أوليةً من الكيمياء. وليس هناك علم أكثر أساسيَّةً من الفيزياء؛ فالفيزياء تُقدِّم لنا بيانًا مُفصَّلًا للمكوِّنات القصوى للعالم. هذه المكونات القصوى وفقًا للنظرية الفيزيائية المُعاصِرة تشتمِل على أربع قوى أساسية وسبعة عشر جسيمًا. ذلك كلُّ ما هناك. ولكن هناك بالطبع موائد أيضًا وكراسي وسُحبًا وأقواس قزح وتَوتُّر أعصابٍ واضطرابات نوم. فلتكن المائدة من خشبٍ، والخشبُ من كيماويات، والكيماويات مِمَّا هي في نظر الفيزياء الأساسية، فإنَّ كلَّ ذلك لا يعني بحالٍ أن ليس ثَمَّةَ موائد، أو أن كلَّ ما نُريد قوله عن الموائد يُمكن أن تُسعِفنا به المُفرَدات النظرية للكيمياء والفيزياء. ومن الحقِّ أيضًا أنَّ العِلم بإمكانه أن يُحقِّق تقدُّمًا دون حاجة إلى أن يُلزم نفسه بمواقِف خِلافية من مِثل «ما هو إلا.» بوسع البيولوجيا مثلًا أن تقول إنها تدرس الكائنات البشرية «كما لو» كانت أنظمة بيولوجية، بحيث تبقى مسألةٌ ما — إذا كان هناك أيُّ شيء فاتها أن تدرُسه — دعوى غير داخلة ضِمنَ البيولوجيا، بل دعوى «عن» البيولوجيا. بذلك يظلُّ بوسع من يعتقد دينيًّا أنَّ للبشر أرواحًا أن يدرُس الكائنات البشرية باعتبارها أنظِمة فيزيائية حيوية. ويبقى مثل هذا الشخص بالطبع على اعتقاده بأنَّ لدى البشر شيئًا ما لا تبحَثُ فيه البيولوجيا.٨

(١-٤) مأزق عِلم النفس الحديث

حظِيَ مفهوم الأنظمة في السنوات الأخيرة باهتمامٍ كبير وأخذ تأثيرُه يزداد باطِّراد في حقلَي علم النفس وعلم النفس المرضي. ويُعدُّ هذا الاهتمام جزءًا من التوجُّه الجديد الذي شمل جميع مجالات الحياة الفكرية؛ ذلك التوجه الذي يعكس رغبةٌ عارمة في البحث عن نموذج إرشادي جديد للفكر العلمي، خلفًا للنموذج التقليدي الذي بدأ مع الثورة العلمية للقرن السادس عشر والسابع عشر، وبلغ نهايته وحَدَّه في بدايات القرن العشرين، وتبين قصوره كمنهجٍ علمي، و«نظرة للعالم» world view.
أخذ المدخل التجزيئي الرَّدِّي يُثبِت فشله في جميع الميادين كلَّما ظهرت على الساحة مُشكلات تتعلَّق بتصوُّرات من قبيل «النسق»، «الكلية»، «الغائية» … وتطلَّب الأمر طرائق جديدة من التفكير. تجلَّى هذا الفشل في مجال الفيزياء حين انهارت النظرية الكلاسيكية وثبتَ أنها لا تصدُق إلَّا في نِطاقٍ محدود من العالم الفيزيائي، وتجلَّى في علوم الحياة حين برزتْ مُشكلاتٌ عديدةٌ تتعلَّق بالتنسيق والتنظيم الذي تتَّخِذه الأجزاء والعمليات في الكائن العضوي. وتجلَّى في علم النفس بظهور مُشكلات «الشخصية»، وفي العلوم الاجتماعية بظهور مشكلات الأنظمة الطبيعية (كالأسرة والقبيلة وما إليها)، والرسمية (كالجيش والجهاز الإداري). كذلك تخطَّتِ التقنية حقولها التقليدية (الميكانيكية والكهربية والكيميائية …) وكان عليها أن تُواجِه، على مستوى البرمجيات ومستوى العَتاد الصُّلب hardware، تلك المُتطلَّبات الجديدة للاتصال والتحكم. وفي مجال الثورة الاجتماعية كان المدُّ الكبير لاتجاهات النقد الاجتماعي والفلسفات الجديدة، وما يُسمَّى «الثقافة المُضادَّة»، واليوتوبيات الاجتماعية، سواء في دوافعه أو في طرائقه التي اتَّسمت بالشذوذ والغَرابة في كثيرٍ من الأحيان، هو أيضًا تعبير عن عدَم الارتياح لوجهةٍ النظر القديمة إلى العالم وعن التَّوقِ إلى نظرة جديدة.٩
كانت الحاجة إلى نموذجٍ جديدٍ مُلحَّةٌ بشكلٍ خاص في مجالي علم النفس والطب النفسي؛ حيث ساد تصوُّرٌ للإنسان بوصفه آلةً أو «روبوتًا»، أو كائنًا مُنفعِلًا reactive غير فاعل. ذلك التصوُّر الذي ظلَّ مُسيطرًا طيلة النِّصف الأول من القرن العشرين وبسط نفوذه على جميع المدارس السيكولوجية الكبرى: السلوكية الكلاسيكية، والسلوكية الجديدة، ونظريات التعلُّم ونظريات الدوافع، والتحليل النفسي، والسيبرنطيقا، ونموذج الحاسوب كتفسيرٍ لعمل المُخ. الإنسان، من هذا المنظور، هو حاسوب أو حيوان أو طفل، مصيره مكتوب بالكامل في جِيناته وغرائزه ومُصادفات حياته وتشريطاته الأولى وتدعيماته، وفي القوى الثقافية والاجتماعية التي تكتنِفه. والحبُّ من هذا المنظور هو دافع ثانوي قائم على الجوع وعلى الأحاسيس الفمية، أو هو ردُّ فعلٍ (معكوس) لكراهيةٍ باطنة فِطرية. وفي أغلب صياغاتنا عن الشخصية ليس هناك محلٌّ للإبداعية ولا هامش لحرية الإرادة ولا مكان لسطوة المُثل العُليا، ولا أساس لأفعال التضحية والإيثار، ولا مطمَحَ لنجاة الجنس البشري من مصيره المُتربِّص به، «فإذا كنَّا نحن معشر السيكولوجيين قد عمِلنا طوال الوقت، بوعيٍ أو بغير وعي، على التدَنِّي بمفهوم الطبيعة البشرية إلى أدنى قواسمها المُشتركة وأحطِّها، وتزدهينا نجاحاتنا في هذا السبيل، فعلينا أن نعترِف أنَّنا بنفس القدْر كُنَّا نُعبِّر عن الروح الشيطانية الخبيثة التي تتلبَّسُنا.»

كان تصوُّر الإنسان كروبوت تعبيرًا عن المجتمع الكُتلي الصناعي وقوةً دافِعة له في الوقت نفسه. فهذا المفهوم يُقدِّم الأساس النظري الذي تقوم عليه الهندسة السلوكية المُتمثِّلة في الدعاية التجارية والاقتصادية والسياسية، ولا غنى للاقتصاد التوسُّعي للمجتمعات الغنية عن مثل هذا التلاعُب والاستلاب. تُريد هذه المجتمعات العظمى أن تصِل تقدُّمها نحو تزايد دائم للإنتاج القومي الهائل، ولكي تبلُغ ذلك لا يسَعُها إلا ردُّ الكائنات البشرية إلى روبوتات أو آلاتٍ طيِّعة أو فئران مُختبر على طريقة سكنر، أو كائنات مُذعِنة أخرى تعتمِد في تأقلُمِها على التوازُن الحيوي (الهميوستاسيس).

(١-٥) صيحات وموجات

في العقود الأخيرة من القرن العشرين ظهر في علم النفس والطب النفسي عدد من الصيحات، وأحرزت بعض النجاح، ثم ذهبَتْ دون أن تُحدِث تغييرًا جوهريًّا في النموذج السائد؛ نموذج الروبوت أو النموذج الزومورفي (التشبيه بالحيوان) للإنسان. من أهم هذه الصيحات ما يُعرَف بالإيثولوجيا أو الدراسة المنهجية المُقارنة لسلوك الحيوان. وليس بالكشف الجديد أن الإنسان حيوان شبيه بالقِرَدة العُليا من حيث التشريح والأنسجة والكيمياء الحيوية. وهو أيضًا يُشارك أسلافه الحيوانات كثيرًا من الآيات السلوكية، وبالتالي فمن الضروري أن ندرُس دوافعه البيولوجية وبخاصَّة الجنس والعدوانية؛ لكي نقِف على هذه الدوافع ولكي نُهذِّبها إن أمكن ذلك. غير أن النظرة «الرَّدِّية» reductionist، أي القول بأن الإنسان «ما هو إلَّا» قرد، لم تكن بحالٍ مقصد روَّاد الإيثولوجيا الذين أكدوا على تفرُّد الإنسان وخصوصيته، كما تتمثَّل في حقائق واضحة مثل الثقافة والعُرف والتاريخ وما شابه ذلك. ولكن مثل هذا التحفُّظ قد غاب عن الكتابات التي تحدُوها النزعة الحِسِّية، والتي استمدَّت نجاحها الشعبي الكبير من المذهب الزومورفي. ربما يعود نجاح هذه الكتابات إلى أنها خفَّفت مشاعر الذنب التي يُعانيها المجتمع المُعاصر. فالوحشية والإجرام والقسوة التي يعجُّ بها المجتمع الحديث تغدو أقلَّ فظاعةً وأقربَ إلى العُذر والغفران إذا بدا أنها نابِعة من دوافع الإنسان البيولوجية التي لا تُقاوَم.
وتحت شعار «القوة الثالثة» ظهر علم النفس «الإنساني» كبديلٍ أقومَ للقوَّتَين الأخرَيَين السلوكية والتحليل النفسي. وكان لكتابات روَّاداها من أمثال ماسلو وشارلوت وبوهلر وماتسون صدًى هائل بتوكيدهم على خصوصية السيكولوجيا البشرية وعلى ضرورة اعتبار الأصحاء لا المرضى هم النموذج الأساسي، وتوكيدهم على غاياتٍ إنسانية من مِثل تحقيق الذات وخِبرات القمَّة … إلخ، وحَمْلتهم على الخَواء العاطفي لمجتمعنا المُعاصر. غير أن الحركة الجديدة سرعان ما تمَّ إخضاعها للنزعة التسويقية، وأصبحتْ «جماعات المُلاقاة» (المواجهة) encounter groups صناعةً جديدة يُديرها مُمارِسون مشكوك في مُؤهِّلاتهم إلى حدٍّ كبير، يُطلق عليهم اسم «مُدرِّبون»، وهو لقبٌ يحمِل في حدِّ ذاته دلالةً تسويقية لا تخفى. وعلى الرغم من التقنيات السديدة التي اصطنعها علم النفس الإنساني في العلاج الجمعي، فقد تحوَّل إلى سلعةٍ كبيرة قدَّمت، مع جماعات التدريب والحساسية وماراثونات العُراة، مخرجًا من سآمَةِ المجتمع الثري وطُرقًا مختصرة إلى نشوةٍ انفعالية كانت نتائجها وَبِيلةً في بعض الأحيان. وفي نفس الوقت تحوَّلت «الإنسانية» المزعومة إلى «حيوانية» أو زومورفية بشكلٍ مُحوَّرٍ بعضَ الشيء. كان الخلاص يُرجى في «الجماعة»، وبالتالي كان الفرد يُختزَل إلى أدنى القواسِم المُشتركة ويتحوَّل إلى بُقعةٍ باهتة وغير مُتمايزة في فضاءٍ اجتماعي، وانطمست ذاته بفعل السيكولوجيا الاستلابية وتقنيات الهندسة الاجتماعية. بهذه الطريقة المُلتفَّة المُلتوية كانت النزعة التسويقية واللاإنسانية، وهي أوخم ثمرات المجتمع الكُتلي الصناعي، تتدعَّم من جديد على يد زبائن يُجزلون لها الأثمان عن طيب خاطر.١٠
وفي عام ١٩٧٢م أطلَّ علينا سكنر بكتابه «ما وراء الحُرِّية والكرامة» Beyond Freedom and Dignity الذي راج رواجًا عظيمًا في حينه، مُؤذنًا ببعثٍ جديد للسلوكية العتيقة. لم يحفل سكنر في كتابه بما أثبتَهُ البحث التجريبي من أنه حتى القوارض لا تخضع في حياتها الطبيعية للقوانين الشرطية. لقد بات واضحًا أنَّ نظرية التعلُّم التقليدية تُطبَّق في الظروف المَعملِيَّة المُصطنعة (التدعيم الإيجابي في قفص سكنر، والتشريط الكلاسيكي في تعلُّم مقاطع غير ذات معنى، والتقنيات الشبيهة في الدعاية والإعلان)، ولكنها لا تنطبق على السلوك الطبيعي للحيوان ولا على النموِّ السيكولوجي السوي للأطفال. أما العلاج السلوكي فقد بدا أنه ناجِح في بعض الاضطرابات المحدودة مثل البوال الليلي nocturnal enuresis. غير أنه من المُستبعَد أن مبادئ نظرية التعلُّم تسري على تعليم إينشتين وموتسارت وحتى المواطنين العاديين. يبدو أن سكنر، في هذه الردَّة السلوكية الانتقامية، قد فاته أن يتأمَّل في حياته إحدى الكنائس القوطية أو حتى ناطحة سحاب في نيويورك، أو أن يُصغي إلى الموسيقى بدءًا من السيمفونية التاسعة إلى أرخص روائع الروك، بل أن يتأمَّل في مُختبره ذاته وفي كتبه وجامعته. ويبدو أن سكنر قد فاتَتْه الملاحظة البسيطة بأن الفئران والحمام والقرود لا تفعل شيئًا من هذا على الإطلاق. إن من الوجيه في سياقه أن ننظُر إلى عالم الحيوان لنرى البدايات الأولى لظهور اللُّغة والعُرف واستعمال الأدوات وما إلى ذلك. ولكن السيكولوجيا البشرية لا يَسعُها أن تُغفِل أن عالم الثقافة (أو عالم الأنشطة الرمزية بتعبير هذا الكاتب) هو شيء جديد، شيء انبثاقي emergent لا يُمكن ردُّه إلى مُستويات التشريط أو نظرية التعلم.
لم تُغيِّر هذه الصيحات العابرة وأشباهها شيئًا يُذكَر من الافتراض الأساسي لعِلم النفس الأمريكي. صحيح أنَّ المريض المُستلقي على الأريكة بين يدي المحلل النفسي يختلِف عن الفأر في صندوق سكنر، وأن هذين يختلفان عن سمك «أبو شوكة» وهو يُدافع بعُنف عن منطقة نفوذه، وعن جماعة التدريب في لقاء «حساسية» (وحبَّذا أن تكون في حالة عُري)، وعن خبرة العقاقير. صحيح أن هذه «نماذج» للإنسان مُختلفة بعض الشيء، غير أنَّها تلتقي جميعًا في التصوُّر الأساسي، وهو إغفال أو تغافُل ما هو إنساني حقًّا في الإنسان، أو هو ردُّ السلوك الإنساني إلى سلوك حيواني. لقد ألحَّت الحاجة إلى نموذجٍ جديد لكي يُحدِث ثورةً في علم النفس وفي غيره من العلوم، وثورةً أيضًا في الحياة العملية وفي المجتمع.١١

إن الخطر الكبير الذي يشتمل عليه كتاب سكنر هو أنَّ مشروعه ليس مشروعًا لإبطال الحرية والكرامة، بل هو وصفٌ لما يجري تحقيقه على نطاقٍ واسع من غسيل للمخِّ وتلاعُب بالعقول تقوم به وسائل الإعلام والتلفزة، ويقوم به المُجتمع التسويقي وقطاع السياسة. هل يتَّبِع المُتلاعبون بالعقول نظرية التشريط السَّلبي والإجرائي عن دِراية وقصد؟ هذا سؤال لا يُهِم، وإن خامَرَتْني الشكوك بأنهم يفعلون ذلك في أحيانٍ كثيرة.

(١-٦) تجربة سيكولوجية كُبرى

إذا صحَّت هذه المبادئ عن سيكولوجيا التلاعُب بالعقول لَلَزِم عن ذلك أنَّ ظروف التَّوتُّر والضغوط لا بدَّ أن تؤدي إلى زيادة الاضطرابات النفسية، وأن الصحة النفسية لا بدَّ أن تتحسَّن عندما يتخفَّف الناس من مكبوتات الطفولة في جماعات التدريب، وعندما تُخفَّف الأعباء الدراسية عن الأذهان الغضَّة للتلاميذ، وعندما يتيسَّر الإشباع الجنسي في عمر مبكر …

قدَّم المجتمع الحديث تجربةً واسعة النطاق في سيكولوجيا التلاعُب بالعقول، وهي تجربة سلوكية تضع هذه السيكولوجيا ومبادئها على المحك. وقد جاءت نتائج التجربة مُخيِّبةً للآمال، فلم ترتفِع نسبة الاضطرابات العصابية ولا الذهانية أثناء الحرب العالمية الثانية، وهي فترة بلغَتْ فيها الضغوط الفيزيولوجية والسيكولوجية ذُروتها (نستثني من ذلك التأثيرات الصدمية المُباشرة من قبيل عُصاب الحرب). ومن الجهة الأخرى أفرخ المجتمعُ الغنيُّ المُتخفِّف من الضغوط عددًا غير مسبوقٍ من الحالات النفسية. وبات من المؤكد أنه في ظروف الإشباع التام للحاجات البيولوجية والتخفُّف من التوتُّر تظهر أشكالٌ جديدة من الاضطراب النفسي مثل العُصاب الوجودي، والسأم الخبيث، وعُصاب التقاعُد، وهي صُور من الاختلال الوظيفي النفسي تنجُم لا عن كبْتِ الدوافع، ولا عن عدم إشباع الحاجات، ولا عن الضغوط، بل عن فقدان المعنى في الحياة. وهناك شكوك (وإن لم يتحقَّق ذلك إحصائيًّا) بأن يكون ارتفاع نسبة الفصام هو نتاج للتسيير الخارجي الذي يُوجِّه الإنسان في المجتمع الحديث. ومن المؤكد أنه في مجال اضطرابات الشخصية قد ظهر نمطٌ جديد من جنوح المُراهقة، هو ارتكاب الجرائم لا بدافع الحاجة أو الانفعال بل بدافع التَّسلية واللَّهو، وهي رغبة يخلُقها فراغ الحياة. وكما يقول إريك فروم: السَّأَم هو مرض العصر وأصلُ العُنف في الحرب وفي الجريمة.

هكذا انتهت السيكولوجيا النظرية والتطبيقية إلى وهنٍ في الأُسس، واقترَنَ الضَّجَر من المبادئ الأساسية بنزوعٍ إلى توجُّهٍ جديد يُعيد الأمور إلى نصابها. عبَّر هذا النزوع الجديد عن نفسه بطُرقٍ مُختلفة، فظهرت مدارس الفرويدية الجديدة، وسيكولوجيا الأنا، ونظريات الشخصية (مري، أولبورت)، والتقبُّل الذي جاء مُتأخرًا لعلم نفس النموِّ وسيكولوجيا الأطفال (بياجيه، فرنر، شارلوت، بوهلر)، والنظرة الجديدة في الإدراك، وتحقيق الذات (جولدشتين، ماسلو)، والعلاج المُتمركِز على العميل (روجرز)، والمداخل الفينومينولوجية والوجودية (بنسفنجر، بوس، ماي)، والمفاهيم السوسيولوجية للإنسان (سوروكين)، وغيرها. تشترِك هذه التيارات المُتباينة في مبدأ واحد: النظرة إلى الإنسان لا بوصفه آلةً مُنفعلة، بل بوصفِه نظامًا شخصيًّا فاعلًا.

من أجل ذلك كان الشَّغَف الحالي بالنظرية العامَّة للأنظمة، ومن أجل ذلك انعقد عليها الأمل بأن تُسهِم في إيجاد إطارٍ وافٍ بالغرَض لكلٍّ من علم النفس وعلم النفس المرضي.١٢

(١-٧) نظرية الأنظمة والسيبرنطيقا

تتَّسِم العلاقة بين نظرية الأنظمة والسيبرنطيقا بالغموض والدقَّة. وكثيرًا ما يُساء فهمها، بل ربما بلغ الخلْط بينهما عند البعض حدَّ استخدام كلمة سيبرنطيقا كمرادف لنظرية الأنظمة.

أما السيبرنطيقا cybernetics، وهي علم أنظمة الاتصال والتحكُّم والسلوك المُنضبِط سواء في الحيوان أو الآلات، فنموذجها الأساسي هو مخطط التغذية الراجعة feed-back:
مُثير رسالة/رسالة استجابة.
فجميع التنظيمات المُعقَّدة للتغذية الراجعة الموجودة في الآليات المُؤازرة servomechanisms الحديثة والآلات الذاتية الحركة، وفي الكائنات العضوية أيضًا، يُمكن ردُّها إلى مجموعات من دوائر التغذية الراجعة. ويُطلَق على مُخطط التغذية الراجعة في حالة الكائن العضوي اسم «التوازن الحيوي» homeostasis. والتوازن الحيوي (الهميوستاسيس) هو جُملة من التنظيمات التي تُحافظ على ثَبات أحوال الكائن العضوي وتُوجِّهه نحوَ هدف وتقوم على آليات التغذية الراجعة.
أما نظرية الأنظمة فتتعلَّق بمبادئ تنطبق على الأنظمة بصفةٍ عامة (كلُّ ما هو مُركَّب من مُكوِّنات دائبة في تفاعُل متبادل). وتذهب إلى أن هناك مبادئ للأنظمة جميعًا بصرف النظر عن طبيعة هذه الأنظمة أو مكوِّناتها أو العلاقات بينها. ويمكن أن تُصاغ هذه المبادئ صياغةً رياضية، وقد طُبِّقَت في مجالات كثيرة من العلم النظري والتطبيقي. ولا تقتصر هذه المبادئ على الأنظمة المادِّية بل تشمل أيَّ كيانٍ كُلي مُكوَّن من أجزاء مُتفاعِلة.١٣

(١-٨) الأنظمة المفتوحة

تتميَّز الأنظمة المفتوحة، مُقارنةً بالأنظمة المُغلقة للفيزياء التقليدية، بخصائص فريدة. تُعرف الأنظمة المفتوحة بأنها تلك الأنظمة التي تظلُّ على الدوام في حالة تَعامُلٍ مع البيئة من حولها وتبادلٍ للمادَّة، ولا تنفكُّ تأخُذ مادةً وتُعطي، وتبني مكوِّناتٍ وتهدم. وبمقدور الأنظمة المفتوحة أن تحتفظ بثباتها النسبي بإزاء التغيُّرات البيئية. غير أن هذا الثبات هو نتاج التفاعُل المستمر مع الخارج والدفْق المستمر للمادة المُتبادلة. وبمقدور الأنظمة المفتوحة أيضًا أن تُصلح ذاتها وتستعيد توازُنها كلَّما تعرَّضَتْ لظروف خارجية مُناوِئة.

تتَّصِف حالة الثبات بالأنظمة المفتوحة بما يُسمَّى «تساوي الغاية» equifinality؛ أنها، بعكس التوازُنات في الأنظمة المُغلقة والتي تُحدِّدها حالاتها البدئية، قد تبلُغ حالة لا تتوقَّف على حالاتها البدئية ولا تتوقَّف على الزمن ولا تُحدِّدها إلَّا أحكام النظام نفسه. تُظهِر الأنظمة المفتوحة، كما أسلَفْنا، خصائص ديناميكية حرارية تبدو مُفارِقة paradoxical: يقتضي القانون الثاني للديناميكا الحرارية أنَّ مآلَ الأحداث الفيزيائية (أي الأنظمة المُغلَقة) مُوجَّهٌ إلى زيادة الإنتروبي وطمْس الفروق وحالات الاضطراب القصوى. أما في الأنظمة المفتوحة فبالإمكان جلب «الإنتروبي السالب» مع انتقال المادة. ومن ثَمَّ تستطيع هذه الأنظمة أن تحفَظ نفسها في الظروف الحرِجة وتبقى على مستوًى عالٍ من التنظيم والتعقيد، بل إن بإمكانها أن تتقدَّم نحو مزيدٍ من التنسيق والتمايُز، كما هو الحال في عملية النمو والتطوُّر.

تختصُّ كلٌّ من نظرية الأنظمة والسيبرنطيقا بقطاعاتٍ مُعيَّنة من الظواهر، وفي بعض الحالات يجوز استخدام أيٍّ منهما ويتبيَّن وجود تكافؤٍ في وصْف الظاهرة بين لغة السيبرنطيقا (دوائر التَّغذية الراجعة) ولغة نظرية الأنظمة (التفاعُلات المُتبادلة في نظام مُتعدِّد المُتغيِّرات). ولنلْحَظ أنه ما من نموذجٍ واحدٍ يُمكن أن يحتكِر وصف الواقع. وجهد كلِّ نظريةٍ هو أن تستنطِق جوانب مُحدَّدةً من الواقع بدرجةٍ أو بأخرى من النجاح.

(١-٩) الكائن العضوي والشخصية

على خِلاف القوى الفيزيائية كالجاذبية والكهربية التي تُوجَد في كلِّ شيء، فإن ظاهرة الحياة لا تُوجَد إلَّا في كياناتٍ مُفرَدة تُسمَّى «المُتعضِّيات» (الكائنات العضوية) organisms. وكلُّ مُتعضٍّ هو نظام system، أي نَسَق دينامي من الأجزاء والعمليات التي هي في تفاعُلٍ مُتبادل. وبالمِثل لا تُوجَد الظواهر النفسية إلَّا في كيانات مُفرَدة تُسمَّى في حالة الإنسان «الشخصيات». وأيًّا ما تكون المواصفات الأخرى للشخصية فإن لها دائمًا خصائص «النظام» system.
هذا التصوُّر الشمولي للكائن النفسجسمي بوصفه نظامًا، لا شكَّ يقِف على النقيض من تصوُّرِه كمُجرَّد حاصل جمع وحدات جزئية من قبيل المُنعكسات والإحساسات ومراكز المخ والدوافع والاستجابات المدعمة وما إلى ذلك. ويُظهِرنا علم النفس المرضي بوضوحٍ على أن الاختلال النفسي هو اضطراب نظامٍ وليس فقدان وظائف مُفرَدة. وحتى في حالات الإصابات الموضعية (مثل أعطاب اللِّحاء المُخِّي) فإن الأثر الناتج هو قصورٌ في الأداء الكُلِّي للنظام، وبخاصة في الوظائف العُليا لأنَّ مُتطلَّباتها أكثر من غيرها. على أن للنظام من جهةٍ أخرى قُدراتٍ تنظيمية لا يُستهان بها.١٤

الكائن الفاعل/النشاط هو الأصل

ليس المُتعضِّي بالكائن السلبي المُنفعِل المُستجيب، بل هو نظامٌ فاعلٌ نشطٌ حتى في غياب المُنبِّهات الخارجية. تنطوي نظرية المُنعكِسات على افتراضٍ مُسبقٍ مَفاده أن العنصر الأولي للسلوك هو الاستجابة لمُثيراتٍ خارجية. غير أن الدراسات الحديثة تُظهِرنا بوضوحٍ مُتزايد على أن النشاط التلقائي للجهاز العصبي، ذلك النشاط القابع في النظام نفسه، هو العنصر الأولي.

في عملية التطور والنمو تبدو آليات الاستجابة مُقحَمةً على أنشطةٍ إيقاعية حركية أولية. إن المُنبِّه (تَغيُّرٌ في الأحوال الخارجية) stimulus في حقيقة الأمر لا «يُسبِّب» قيام عملية في نظامٍ يتَّسِم بالخمول لولا وجود المُنبِّه؛ فالمُنبِّه لا يعدو أن «يُعدل» عملياتٍ قائمة أصلًا في نظامٍ فاعلٍ فاعلية مُستقلة.

يُحافظ الكائن العضوي على توتُّرٍ مُعيَّن وعدم توازُن يُطلَق عليه «الحالة الثابتة للنظام المفتوح». بذلك يُمكنه أن يتعامَل مع التوتُّرات الجارية ويصرِفها في نشاطٍ تلقائي أو في استجابةٍ لمُنبِّهات ترويحية، بل إنه ليمضي قُدمًا نحو تنظيمٍ أعلى. يذهب نموذج الروبوت إلى أن المُخطط العام الأساسي للسلوك هو الاستجابة للمُنبِّهات وخفض التَّوتُّرات واستعادة الاتِّزان الذي أخلَّتْ به عوامل خارجيةٌ والتأقلُم مع البيئة … إلخ. غير أن نموذج الروبوت لا يُفسِّر إلَّا شطرًا من سلوك الحيوان، ولا يُفسِّر أي شطر جوهري من سلوك الإنسان. يستدعي هذا الاستبصار الخاص بالنشاط المُحايِث (الداخلي، المُباطِن) للكائن النفسجسمي توجُّهًا جديدًا يُمكن دعمه بما لا يُحصى من الشواهد البيولوجية والنيوروفسيولوجية والسلوكية والسيكولوجية والطبنفسية.

إن النشاط التلقائي المُستقل هو الشكل الأكثر بداءةً من أشكال السلوك. إنه قائم في وظيفة المخ وفي العمليات السيكولوجية. وقد كان اكتشاف الأجهزة التنبيهية بجِذع المخ (التكوين الشَّبَكي) توكيدًا لهذه الحقيقة. يشتمل السلوك الطبيعي على ما لا حصر له من الأنشطة التي تتجاوز مُخطط «المُنبِّه-الاستجابة»: بدءًا من الاستكشاف واللعب والطقوس في الحيوان، إلى المساعي الفكرية والجمالية والدينية نحو تحقيق الذات ونحو الإبداع في الإنسان. حتى الفئران تبدو باحثة عن مشكلات! أما الأسوياء من البشَر أطفالًا وراشِدين فيَمضُون بعيدًا فيما يتجاوز خفض التوتُّرات أو إشباع الحاجات إلى عددٍ هائلٍ من الأنشطة التي لا يُمكن ردُّها إلى الحاجات الأولية أو الثانوية. تؤدِّي جميع هذه الأنشطة من أجل ذاتها فحسب، مُستمِدَّةً الإشباع من الأداء نفسه (ما يُسمِّيه بوهلر «لذة الوظيفة»).

ولنفس الأسباب فإن التخفُّف التامَّ من التوترات، كما في تجارب الحرمان الحسي، ليس بالحالة المثالية للكائن، بل إنه خليق بأن يُورِث قلقًا لا يُحتمَل وهلاوس وأعراضًا ذهانية أخرى. ومن الحالات الإكلينيكية القريبة من هذه الحالة ذهان السجان، وتفاقُم الأعراض في الأجنحة المغلقة، وعصاب التقاعُد، وعصاب العطلة الأسبوعية. وكلها حالات تَشهد بأن الكائن العضوي بحاجة إلى قدرٍ من التوتُّر والنشاط لكي يعيش وجودًا صحيًّا.

إن نقص التلقائية هو عرَض مرضي، فالمريض النفسي هو الذي يتحوَّل تباعًا إلى أوتوماتون أو آلة ليس لها غير المُنبِّه والاستجابة، مدفوعًا بالدوافع البيولوجية، ومسكونًا بهاجِس الحاجة إلى الطعام والإخراج وإشباع الشهوة. وإن نموذج الكائن الحي السلبي هو وصفٌ وافٍ تمامًا للسلوك المكرور لدى مرضى الوسواس القهري ومرضى تلف المخ، ومرضى الكاتوتونيا الفاقدي التلقائية. غير أن هذا يؤكد، ولنفس السبب، أن السلوكَ السويَّ شيءٌ مُختلف.١٥

التوازُن الحيوي (الهميوستاسيس)

سبق أن عرَضْنا للتوازن الحيوي وقُلنا إنه طاقم من التنظيمات التي تحفظ المُتغيِّرات ثابتة، وتوجِّه الكائن العضوي نحو هدف. وتتمُّ بواسطة آليات التغذية الراجعة (المُرتَجعة) feed-back mechanisms. وتُفيد التغذية الراجعة أنَّ نتيجة التفاعُل ترتدُّ إلى الجانب «المستقبل» ليرصدها فيضبط عمله وفقًا لها، بحيث يبقى النظام ثابتًا أو بحيث يُوجَّه نحو هدفٍ معين. ولعلَّ أبسط أمثلة الهميوستاسيس هو تنظيم درجة الحرارة سواء الذي يتمُّ بالثرموستات المعروف أو الذي يجري في الكائنات ذوات الدم الحار. وهناك عدد كبير من التنظيمات الفسيولوجية والسلوكية يتمُّ ضبطها بآليات التغذية الراجعة، منها ما هو على درجة مذهلة من التركب والتعقيد.

غير أن مبدأ الهميوستاسيس على أهميته في تفسير كثيرٍ من التنظيمات النفسية والفسيولوجية، هو مبدأ محدود بحدوده ولا يملك تفسير قطاعات عريضة من أنشطة الكائن الحي. يقول شارلوت بوهلر: «لا يعترف نموذج التحليل النفسي بغَير ميلٍ أساسي واحد هو الميل نحو إشباع الحاجة أو خفض التوتُّر، بينما تجِد النظريات البيولوجية الحالية تؤكِّد «تلقائية» نشاط الكائن، وهي تلقائية ناجِمة عن الطاقة الكامنة في صميمه. تفرض هذه التصوُّرات الجديدة مراجعةً كاملة لمبدأ الهميوستاسيس القديم الذي حصر كلَّ شيءٍ في المَيل نحو التوازن.»

وبصفةٍ عامة، لا يسري نموذج الهميوستاسيس على (١) التنظيمات الدِّينامية، أي التنظيمات التي لا تقوم على آلياتٍ ثابتة بل تحدُث داخل نظام يعمل بوصفه «كلًّا» (مثال ذلك عمليات التنظيم التي تجري بعد أعطاب المخ). (٢) الأنشطة التلقائية. (٣) العمليات التي لا تهدُف إلى خفض التوتُّرات بل إلى تصعيدها وتنميتها. (٤) عمليات النموِّ والتطوُّر والخلق. بإمكاننا أيضًا أن نقول بأن مبدأ الهميوستاسيس لا يصلح لتفسير الأنشطة البشرية غير النفعية؛ أي التي لا تُلبِّي حاجاتٍ أوليةً من قبيل البقاء وحفظ الذات وما يلحَقُ بهما. تتجلَّى هذه الأنشطة غير النفعية في العديد من مظاهر الثقافة. إنَّ تطوُّر النحت اليوناني أو تصوير عصر النهضة أو الموسيقى الألمانية هو أمر لا علاقة له من قريبٍ أو بعيد بالتكيُّف البيئي أو حفظ الذات؛ لأنه نشاط ذو قيمة رمزية لا قيمة بيولوجية.

وإذا كان لنموذج التوازُن الحَيَوي صِلة كبيرة بمجال السيكوباثولوجيا، فذلك لأن الوظائف البشرية التي تتخطَّى التوازُن الحيوي تتدهوَر دائمًا لدى المرضى العقليين. هكذا أمكن لكارل ميننجر أن يصِفَ مسار المرض العقلي كسلسلةٍ من الآليات الدفاعية ما تفتأ تهبِط إلى مُستوياتٍ أدنى من التوازن الحيوي إلى أن ينتهي الأمر إلى مُجرَّد حفظ الحياة الفسيولوجية، وهو تصور شبيه بتصوُّر أريتي Arieti عن النكوص الغائي المُتزايد progressive teleological regression.١٦

التمايز Differentation

التمايُز هو التحوُّل من حالةٍ أكثر عمومية وتجانُسًا إلى حالةٍ أكثر خصوصيةً ومُغايرة، فأينما حدَث نموٌ أو تطوُّر فثَمَّ انتقالٌ من الشمول والتماثل إلى التميُّز والتفتُّق والتراتُب.

والتمايُز مبدأ شامل يبسط نفوذه على عالم الأحياء وعلى تطوُّر الجهاز العصبي وعلى السلوك والسيكولوجيا والمُجتمع والثقافة. ونحن نَدين لفرنر Werner بذلك الاستبصار الصائب الذي يُفيد بأن الوظائف العقلية بصفةٍ عامة تتقدَّم من حالة الاندماج والوحدة حيث المُدرَكات والدوافع والشعور والخيال والرموز والتصوُّرات تكون مزيجًا مُتَّحدًا غير مُشكَّل إلى حالةٍ تتمايز فيها هذه الوظائف عن بعضها البعض تمايُزًا مُتزايدًا على الدوام. في مجال الإدراك الحسي مثلًا يبدو أنَّ الحالة البدائية هي ضربٌ من النحس المُتزامن أو المُتصاحِب synesthesia (ونحن نجد آثارًا منه في الإنسان البالغ، ونجده يعود إلى الظهور في حالات الفصام العقلي وفي خِبرات المهلوسات مثل المسالكين وL.S.D). من هذه الحالة البدائية تتفتَّق الخبرات الحسِّية البصرية والسمعية واللَّمسية والكيميائية … إلخ. وفي مجال السلوك عند الحيوان (وشطر كبير من السلوك الإنساني) هناك وحدة بين الإدراك الحسِّي والانفعال والدافعية، فإدراك الأشياء من غير مسحةٍ باطنة من الانفعال والدافعية هو إنجاز مُتأخِّر للإنسان المُتحضِّر الراشد. وفي مجال أصل اللغة برغم غموضه، يبدو أن لغة «الكلمة الواحدة» holophrastic، على حد تعبير همبولت، أي المنطوقات والأفكار المُحاطة بهالةٍ عريضة من التداعيات، تسبق انفصال المعاني وتَحدُّدَها في الكلام الفصيح. وكذلك الحال بالنسبة لتصنيفات الحياة الذهنية المُتطوِّرة مثل التفرقة بين الأنا وبين الأشياء، ومثل المكان والزمان والعدد والسببيَّة وغيرها. فقد تطوَّرَت هذه التصنيفات عن مُتَّصَل «الإدراك الحسي — التصور العقلي — الدافعية» المُتمثِّل في الإدراك البدائي للأطفال الرُّضع والفصاميين. وبالمِثل كانت الأسطورة هي الخليط الخصب الذي تبلورَتْ منه اللغة والفن والسحر والعلم والطب والعُرف والأخلاق والدين.١٧
هكذا يتبيَّن لنا أن «أنا والعالم»، و«العقل والمادة» أو «الشيء المفكر والشيء الممتد» على حدِّ تعبير ديكارت، ليست معطًى بسيطًا أو نقيضةً أصلية. إنها الحصيلة الأخيرة لعملية طويلة من التطوُّر البيولوجي والنموِّ الذهني للطفل والتاريخ الثقافي واللغوي؛ حيث يتكشَّف أن المُدرِك ليس مجرَّد مُستقبلٍ سلبي للمُنبِّهات، بل إنه «يخلق» عالمه خلقًا. لقد نشأ التمايز عن اللاتمايز، عن مُطلق «الذات والبيئة»، فالخبرة الإحيائية animistic للطفل والبدائي، والفراسة، وخبرة «النحن» و«الأنت» (ما تزال في التفكير الشرقي أقوى منها في التفكير الغربي). والتمثُّل الوجداني (المواجدة) empathy كلُّ أولئك كان خطوات على الطريق إلى أن جاءت فيزياء عصر النهضة و«اكتشفت الطبيعة غير الحية». ومن المؤكد أن الانفصامَ التامَّ بين الأشياء والذات لم يكن ليتأتَّى بدون اللغة والأسماء، أي بدون عمليات تجري على المستوى الرمزي.
إذا انتقلْنا الآن إلى المجال السيكوباثولوجي وبخاصة الفصام العقلي، لوجدنا هذه الحالات البدائية تعود إلى الظهور من طريق «النكوص» regression. وتتمثَّل في أعراضٍ شاذَّة شديدة الغرابة؛ وذلك لأن هذه العناصر العتيقة تأتي في تَضافُراتٍ عشوائية بعضها بدائي خالِص وبعضها مُمتزِج بعمليات فكرية أكثر تطوُّرًا. وهي تختلف في ذلك عن خبرة الطفل والهمجي، فخبرة هذين الأخيرين، رغم بدائيَّتها، تُشكِّل عالمًا مُنظَّمًا ليس فيه ذلك النشاز والخلط التطوُّري الذي نجِده في عالم المريض الفصامي.١٨

المركزية والتراتب

الكائن الحي ليس آلة، وإن يكن عرضةً لأن «يصير» آلةً بمعنًى ما من المعاني، أن يتحجَّر إلى آلة، ورغم ذلك فهو لن يتحوَّل إليها تحوُّلًا تامًّا، فالكائن الذي يتحوَّل إلى آلةٍ بكلِّ معنى الكلمة لن يعود قادرًا على الاستجابة للتغيُّرات المُستمرة التي تجري بالعالم الخارجي. يُعبِّر مبدأ «الميكنة المتزايدة» progressive mechanization عن الانتقال من «كلٍّ غير مُتمايز» إلى الوظيفة الأعلى، وهو ما يتأتَّى من طريق التخصُّص و«تقسيم العمل»، يتضمَّن هذا المبدأ أيضًا فقدان المُكوِّنات لإمكاناتها وفقدان الكل لطواعيته.

كثيرًا ما تؤدِّي الميكنة إلى تميُّز بعض الأجزاء وتحولها إلى مكونات رئيسة تُهيمِن على سلوك النظام وتتولَّى قيادته ويكون لأقلِّ تغير فيها أثرٌ كبير على النظام الكلي، خلافًا لمبدأ «العلَّة تُكافئ المعلول». هكذا ينشأ نظام تَراتُبي هرَمي للأجزاء والعمليات.

في حالة المخ البشري والوظيفة العقلية تنشأ المركزية والتراتُب بنشأة الطبقية واستواء طبقات عُليا تتولَّى القيادة، ويُمكننا بصفةٍ عامة وبتبسيطٍ شديد أن نُحدِّد ثلاث طبقات كُبرى أو مراحل تطوُّرية للمخ البشري: (١) هناك أولًا المخ القديم paleencephalon، أو جذع المخ، في الفقاريات الدُّنيا. (٢) والمخ الحديث neencephalon (اللحاء) الذي تطوَّر من الزواحف حتى الثدييات. (٣) ومراكز عُليا وبخاصة منطقة بروكا لإصدار اللغة والمناطق الترابُطية الكبيرة التي لا تُوجد إلا في المخ البشري، ويُصاحب ذلك التطوُّر إزاحة للمراكز العُليا إلى الأمام.١٩

من الواضح الآن أنَّ هناك تراتُبًا في كلٍ من المخ والعمليات العقلية، وأنَّ كل تراتُبٍ منهما يُناظر الآخر بطريقةٍ ما، وإن يكن تفصيل ذلك غامضًا ومجهولًا إلى حدٍّ كبير. أما المعنى النيوروفسيولوجي لكون شطرٍ صغير من العمليات العصبية واعيًا بينما الشطر الأكبر غير واع، فهو مجهول تمامًا. ومن الجليِّ أنَّ التقسيم الفرويدي «الأنا والهوَ والأنا الأعلى» يُعاني من قصور شديد، وبخاصة من جهة الهو (أو اللاشعور) حيث قصرَهُ فرويد على جوانب محدودة وأغفل جانبه الإبداعي الذي كان السابقون على فرويد قد تفطَّنوا إليه. فاللاشعور ليس مُجرَّد «قبو» نضع فيه ما تمَّ كبتُه، وإنما هو أيضًا مَنبَع تتدفَّق منه العمليات الإبداعية في الفنِّ والدِّين والعلم، وربما التطوُّر نفسه. يشتمِل اللاشعور على أدنى مستويات النفس (العملية الأولية، الدوافع الحيوانية، الغرائز …) وأعلاها أيضًا (بتنوُّع أسمائها: الخبرة الصوفية، خبرات القمَّة، الشعور الأوقيانوسي، الوعي ٣ …)

من بين النتائج التي أعقبت التراتُب الطبقي في كلٍّ من المخ والوظائف العقلية، هناك نتيجة مُؤسِفة: لقد تطوَّر لحاء المخِّ في الإنسان ومراكزه المُتخصِّصة تطوُّرًا هائلًا، إلا أنَّ هذا النمو العظيم لم يُواكبه نموٌ في الطبقات الدُّنيا من المخ (من الثابت مثلًا أن المناطق تحت المهادية hypothalamic عند الإنسان أقلُّ تمايزًا ممَّا هي عند الثدييات الدنيا وعند القردة). ربما لذلك كان تطوُّر الإنسان مقصورًا على الجانب الفكري، فنيورونات اللحاء العشرة بليونات قد مكنَّت الإنسان من التقدُّم من البلطة الحجرية إلى الطائرات والقنابل النوَوية، ومن الميثولوجيا البدائية إلى نظرية الكوانتم. غير أنَّ الجانب الغرزي قد بَقِيَ على حاله؛ ولهذا السبب لم تتقدَّم الغرائز الخلقية للإنسان عن غرائز الشمبانزي تقدُّمًا يُذكر.
ينطبِق هذا للأسف على جميع الآمال اليوتوبية عن إصلاح الإنسان، بدءًا من بشارات الأديان الكُبرى إلى الإيمان بالعقل في عصر التنوير إلى الإيمان بالتقدُّم في القرن التاسع عشر؛ ذلك لأنه، ببساطة شديدة، لا يُوجَد أساس تشريحي لهذا التقدُّم المنشود!٢٠

النكوص Regression

أحيانًا ما يُقال إنَّ الحالة الذُّهانية هي «النكوص إلى أشكالٍ قديمةٍ وطفلية من السلوك»، وهذا غير صحيح. وقد أشار بلويلر إلى أنَّ الطفل ليس فصاميًّا صغيرًا بل هو كائن يؤدِّي أداءً سويًّا وإن يكن بدائيًّا. إن الفصامي ينكص إلى مستوًى أدنى ولكنه لا يلتمُّ على هذا المستوى بل يظلُّ مُتناثرًا. النكوص هو في جوهره انحلال للشخصية، أي فضٌّ للتمايُز dedifferentiation وفضٌّ للمركزية decentrlization.
يعني «فضٌّ التمايز» أن المسألة ليست مسألة فقدان لوظائف الانقسام الخلوي بل مسألة عودة ظهور حالات بدائية (الحسُّ المتزامن، التفكير قبل المنطقي … إلخ). ويعني «فض المركزية» اختلال هَيمنة المراكز الدماغية العُليا وانهيار التراتُب الطبقي للعمليات العقلية، الأمر الذي يُطلِق نشاط المستويات الدنيا دون ضابط. ويتَّفِق هذا مع تصوُّر هوجلنج جاكسون عن تطوُّر وانحلال المستويات الوظيفية للجهاز العصبي.٢١

الحدود Boundaries

لا بدَّ لأي نظام، باعتباره كيانًا قابلًا للدراسة بحدِّ ذاته، أن يكون له حدود، سواء كانت مكانية أو دينامية. والحقُّ أن الحدود المكانية لا تُوجَد إلا في الملاحظة الساذجة، وأن جميع الحدود هي دينامية في صميمها، فمن المُحال أن يرسم المرء الحدود الخاصة بإحدى الذرَّات (وقد برزت تكافؤاتها، وفقًا لنوعها، لكي تجذب الذرات الأخرى!) ومن المُحال أن يرسم الحدود الخاصة بحجرٍ من الأحجار (وهو تجمع من الجُزيئات والذرَّات يتكوَّن جلُّه من فضاء خالٍ وجسيمات تدور على مسافات نجمية!) أو يرسم الحدود الخاصة بكائنٍ حي (يتبادل المادة على الدَّوام مع البيئة).

تتَّصِف الحدود في الأنظمة الحية، بعكس الأنظمة غير الحية، بأنها شِبه مُنفذة semipermeable تسمح للمادة والمعلومات بالتدفُّق في كلا الاتجاهين.
وفي مجال السيكولوجيا تعدُّ حدود الذات شيئًا أساسيًّا وشيئًا غير ثابتٍ في الوقت نفسه، فهي تنشأ ببطء في عملية النمو والتطوُّر ولكنها ليست ثابتة تمامًا على الإطلاق. وهي تنشأ في خبرة المستقبل الحسي proprioceptive ومن صورة الجسم body image، ولكن هوية الذات لا تكتمِل قبل أن تتحدَّد أسماء الأنا والأنت والهو. وهناك مُفارقة يُظهرها لنا علم النفس المرَضي وهي أنَّ حدود الذات هي حدود شديدة السيولة والتصلُّب معًا، فالإدراك المختلط والشعور الإحيائي animistic والضلالات delusions والهلاوس هي ظواهر تُمثِّل تصدُّع حدود الذات. غير أن الفصامي داخل عالمه الذي نسجَتْه ذاته يعيش في قوقعة، بطريقة تُشبِه كثيرًا معيشة الحيوانات في فقاعات من عوالمها المُقيَّدة بتنظيمها.
فإذا كان الحيوان لديه «بيئة» أو وسط محدود، فإن الإنسان كائن مُنفتِح على العالم، أو هو كائن لديه «عالم»؛ أي أن عالمه يتجاوز كثيرًا قيود البيولوجيا ويتخطى حدود حواسه نفسها، فالتقوقُع بالنسبة للإنسان، بدءًا من تقوقُع التخصُّص العلمي مرورًا بالعُصاب وانتهاء بالفصام، هو تضييق مرَضي لإمكاناته، وهي إمكانات قائمة على وظائفه الرمزية.٢٢

الأنشطة الرمزية

إذا استثنَينا عملية الإشباع المباشر للحاجات البيولوجية، وجدْنا أن الإنسان لا يعيش في عالم من الأشياء بل بالأحرى في عالم من الرموز. ويُمكننا القول أيضًا بأن العوالم الرمزية المُتعددة، المادية وغير المادية، التي تُميِّز الثقافات البشرية عن المُجتمعات الحيوانية، هي جزء، وأهم جُزء على الإطلاق، من النظام السلوكي للإنسان. وإذا أمكنَّ الشكُّ في أن الإنسان حيوان عاقل فليس ثمَّةَ أدنى شكٍّ في أنه حيوان مُبدِع للرموز ومُرتهِن للرموز قلبًا وقالبًا.

هذه الصِّبغة الرمزية هي الخصلة الفريدة التي تُميِّز الإنسان في نظر البيولوجيين والفزيولوجيين من مدرسة بافلوف (الجهاز الإشاري الثاني) والأطباء النفسيين والفلاسفة. ولكنها غائبة في كتب علم النفس حتى الكُتب الرائدة وأحدث الأعمال السلوكية. غير أن هذه الوظائف الرمزية بالتحديد هي ما يجعل دوافع الحيوان لا تصلُح نموذجًا لدوافع الإنسان. وهي بالضبط ما يُقوِّض فكرة أنَّ الشخصية البشرية تكتمِل معالمها في سنِّ الثالثة أو نحو ذلك كما تفترِض نظرية الغرائز لفرويد.

ولعلَّ جميع التصوُّرات المُستخدَمة لتمييز السلوك الإنساني هي نتاج أو جوانب مختلفة للنشاط الرمزي: الثقافة أو الحضارة، الإدراك الحسِّي الخالق كمُقابل للإدراك السلبي (مري، أولبورت)، مَوضَعة الأشياء الخارجية والذات أيضًا، التأمُّل الذاتي، الطَّور التجريدي كمُقابل للطَّور العياني، امتلاك ماضٍ ومُستقبل، الارتباط بالزمن، توقُّع المستقبل، الغرضيَّة الحقيقية (الأرسطية)، القصد بوصفِه تخطيطًا واعيًا، إرادة المعنى، الخوف من الموت، الانتحار، الشغَف بوصفه انخراطًا في نشاط ثقافي مُشبع في ذاته، التكريس المثالي لقضية (ربما ميئوس منها)، الاستشهاد، تجاوز الذات، استقلال الذات، الضمير، الأنا الأعلى، القِيَم، الأخلاق، الصدق، الكذب. هذه صِيَغ أو جوانب شديدة التبايُن، إلا أنها تنبُت جميعًا من جِذر العوالم الرمزية الخلَّاقة، ومن ثَمَّ فهي لا تقبل الاختزال إلى دوافع بيولوجية أو إلى غرائز التحليل النفسي أو التدعيم أو إشباع الحاجات أو غير ذلك من العوامل البيولوجية، فالفارق الحاسم بين القِيَم البيولوجية والقِيَم الإنسانية المُميزة هو أنَّ الأولى مَعنية ببقاء الفرد والنوع والثانية مَعنيَّة دائمًا بعالمٍ رمزي.

يترتَّب على ذلك أنَّ الاضطراب النفسي عند الإنسان يشتمل دائمًا على اضطراب في الوظائف الرمزية، وأن فكتور فرانكل كان على حقٍّ حين مَيَّز بين الأعصبة الجسدية المنشأ somatogenic، والأعصبة النفسية المنشأ psychogenic، والأعصبة المعنوية noogenic. وفي الفصام أيضًا تقع الاضطرابات على المستوى الرمزي: انحلال الترابُط، انهيار حدود الذات، اضطرابات الكلام والتفكير، عيانية الأفكار، التفكير قبل المنطقي … إلخ.

وصفوة القول (وإن اختلفت الآراء في ذلك) أن المرض العقلي هو ظاهرة إنسانية على وجه الخصوص. صحيح أن الحيوانات قد تُبدي سلوكًا ينمُّ عن اضطرابات حرَكية وإدراكية ومِزاجية، غير أنها لا يُمكن أن تُصاب باضطراباتٍ في الوظائف الرمزية التي تُمثِّل مكونات أساسية للمرَض العقلي. لا يُمكن أن نجد عند الحيوان اضطرابًا في الأفكار أو ضلالات عظمة أو ضلالات اضطهاد؛ لسبب بسيط هو أن الحيوان لا يملك أفكارًا أصلًا حتى تضطرِب. كذلك لا يُمثِّل «عصاب الحيوانات» إلا نموذجًا حرفيًّا فحسب من هذا الكيان المرضي الإكلينيكي.

هذا هو السبب الجوهري الذي يجعل السلوك الإنساني والسيكولوجيا البشرية لا يقبلان الردَّ إلى تصوُّرات المذهب البيولوجي مثل التوازُن الحيوي وصراع الدوافع البيولوجية وقصور علاقة الأم والطفل … إلخ. وهذا هو السبب الذي يجعل المرض النفسي مُتوقِّفًا على الثقافة سواء من حيث أعراضه أو وبائياته. وحين نقول إن الطبَّ النفسي ذو إطار فيزيولوجي/نفسي/اجتماعي فإنما نُقدِّم صيغةً أخرى لنفس الحقيقة.

ولنفس السبب فإن غاية الإنسان هي أبعدُ من تحقيق الذات. إنها مُوجَّهة نحو أهداف موضوعية ونحو تحقيق القيم. وما القيم إلا كيانات رمزية تنفصِل عن خالقيها بطريقةٍ ما. ولا بأس أن نُغامر بتقديم تعريف: إذا نشَبَ صراع بين الدوافع البيولوجية ومنظومة القِيَم الرمزية، فثَمَّ العصاب النفسي. وإذا نشب صراع بين العوالم الرمزية أو عانى الفرد من فقدان التوجُّه القِيَمي أو من خبرة انعدام المعنى، فثَمَّ العصاب الوجودي أو المعنوي noogenic neurosis. كذلك الحال بالنسبة لاضطراب الطباع مثل جنوح المُراهقة، فمهما تكن دينامياته النفسية فهذا الاضطراب ينشأ عن انهيار منظومة القِيَم وتآكُلها. والثقافة هنا هي عامل هام للوقاية النفسية بين غيره من العوامل.٢٣

(٢) مفهوم الأنظمة في علم النفس المرضي

نخلُص من هذه العُجالة القصيرة عن تصورات نظرية الأنظمة إلى أنها تُزوِّدنا فيما يبدو بإطارٍ مُتماسِك للسيكوباثولوجيا، فالمرض النفسي ما هو إلا اضطراب في وظائف الأنظمة الخاصة بالكائن العضوي السيكوفيزيقي؛ ولهذا السبب فإن الأعراض المنفصلة لا تُقدِّم تعريفًا للكيان المرضي ولا تُحدِّده. انظر مثلًا إلى بعض الأعراض التقليدية للفصام:
  • تفكك البنية التَّرابُطية (بلويلر)، تعاقُب التداعيات بلا ضابط: إنَّ الشِّعر والنثر الجديدين يَعجَّان بأمثلةٍ شبيهة للغاية.

  • الهلاوس السمعية: كانت هناك «أصوات» تدعو جان دارك لتحرير فرنسا.

  • الإحساسات الخارِقة: كانت واحدة من المُتصوِّفة العظام مثل القديسة تريزا تتحدَّث عن خِبرة شبيهة بذلك.

  • البناءات الخيالية للعالم: لعلَّ البناءات العلمية الحديثة تفُوق في غرابتها أي بناءاتٍ فصامية. ولسنا هنا بصدَدِ اللعب على وَتَر «العبقرية والجنون»، بل نودُّ أن نُبيِّن أن الفيصل بين الصحة والمرض العقليين ليس في المعايير المُنفرِدة، بل في التكامُل والتساوق.

ومن الممكن أن نُقدِّم تعريفًا دقيقًا للاضطرابات النفسية بِلُغة وظائف الأنظمة، فحين ننظر إلى «المعرفة» cognition نجد أن العوالم التي يعيش فيها الذهانيُّون، كما وصفها الفينومينولوجيون والوجوديون بإجادة، هي عوالم من نسْج دماغهم. غير أن العوالم السَّوية التي نعيش فيها هي أيضًا عوالم تُشكِّلها عوامل انفعالية ودافعية واجتماعية وثقافية ولُغوية مندمجة مع الإدراك الخالص في سبيكةٍ واحدة. ولا يكاد يخلو عالم الإنسان السَّوي من هلاوس وضلالات وخداع حسِّي، على الأقل في أحلام نومه، بل إن آليات الخداع الحسِّي تلعب دورًا هامًّا في ظاهرة ثبات الإدراك واتِّصاله، وبدونها يستحيل الحصول على صورةٍ مُتَّسِقة للعالم. الفرق إذن بين السَّواء والفصام لا يَكمُن في أن الإدراك السوي هو مرآة مُستوية للواقع «كما هو»، بل في أن هناك عناصر ذاتية تعتلِج في عقل الفصامي وتتَّصِف بالإفراط والشَّطَط والتناثُر.

وتسري القاعدة نفسها على المستوى الرمزي. انظر مثلًا إلى تصوُّرات العِلم عن الأرض التي تسبح بسرعة مُذهلة في الفضاء، وعن الجسم الصُّلب الذي يتكوَّن في حقيقة الأمر من فضاءٍ خالٍ مُوشًّى ببقعٍ دقيقة من الطاقة على مسافاتٍ كوكبية. إنها تصوُّرات تُناقِض كلَّ الخبرات اليومية وتُناقِض الحسَّ المُشترك، وهي أغرب من عوالم الفصاميين، إلَّا أنَّ هذه الأفكار العلمية قد اتَّفق لها أن تكون «حقًّا»؛ أي أنها تنسجِم في مخطط مُتكامِل مُتماسِك.

وفي مجال «الدافعية» motivation نجِد الأمر نفسه، ونجِد الفيصل هو مفهوم التلقائية. تشتمِل الدافعية السوية على النشاط المُستقلِّ وعلى تكامُل السلوك والمرونة التكيفية بإزاء المواقف المُتغيِّرة، والاستخدام الحرِّ للاستباق الرمزي واتخاذ القرار، مما يؤكد تراتُبَ الوظائف وعلوَّ المستوى الرمزي وهيمنته على بقيَّةِ المُستويات العضوية. ومن ثَمَّ فإلى جانب المبدأ العضوي «للنشاط التلقائي» فإنَّ المبدأ الإنساني «للوظائف الرمزية» يجِب أن يكون هو حجَر الزاوية في كلِّ فكرٍ يصطبغ بنظرية الأنظمة.
ومن هنا كان معيار الصحة النفسية والسَّواء العقلي هو ما إذا كان للشخص عالم مُتكامل مُتَّسِق داخل إطار الثقافة الخاصة به. ولهذا التصور مُتضمَّنات علاجية مُؤكدة، فإذا صحَّ أن الكائن السيكوفيزيقي هو نظام نشط، فمن المُتعيِّن أن يكون العمل من أهم الخطوط العلاجية، وأن يكون حفْز الطاقات الإبداعية أهمَّ من مُجرَّد التأقلُم السلبي، وأن يكون التبصُّر بصراعات الحاضر والتوجُّه نحو أهداف مُستقبلية (الاستباق الرمزي) أهمَّ من «التنقيب في الماضي». هذه بالطبع إعادة صياغة للاتجاهات الحديثة في العلاج النفسي والتي يُمكن بذلك اعتبارها قائمة على «الشخصية بوصفها نظامًا». وأخيرًا، إذا صحَّ أنَّ كثيرًا من الأعصبة في الزمن الحاضر هي أعصبة «وجودية» ناجمة عن خلوِّ الحياة من المعنى، فإن العلاج بالمعنى (فرانكل)، أي العلاج على المستوى الرمزي، يغدو هو العلاج الأقوم.٢٤

(٣) بعض المسائل الطبُّنفسية المُتَّصِلة بنظرية الأنظمة

  • تُعدُّ دراسة النفس البشرية في كُلِّيتها (بوصفها كُلًّا) هي في صميمها مدخل أنظمة. وعلى النقيض من النظريات السلوكية والفرويدية تُعدُّ فكرة أريتي Arieti عن «أنماط» المعرفة cognition أو بالأحرى مستويات المعرفة [المستوى الأولي عند الطفل والبدائي والفصامي، والمستوى الثانوي في التفكير التصوري، والمستوى الثُّلاثي في العمليات الإبداعية] هي محاولة رائدة نحو بناء تصوري لجُماع النفس الإنسانية. ونحن نرى أنَّ محاولته الدءوب لإدخال «المعرفة» cognition إلى الطب النفسي (وهي التي يُنعى على التحليل النفسي الكلاسيكي إهمالُه التامُّ لها) تتطابَق مع ما قُلناه هنا تحت عنوان الأنشطة الرمزية. وقد أرفقنا بهذه المسألة تَصوُّراتنا المُتاحة عن تطوُّر المخِّ بقدر ما يتَّسِع المقام. ولعلَّ المهمَّة التي تقع على عاتقنا فيما بعد هي أن نُؤسِّس تشاكُلًا ما بين الجوانب النيوروفسيولوجية والجوانب العقلية بواسطة نظرية أنظمة مُحايدة سيكوفيزيقيًّا.
  • ما تزال مشكلة مرَض الفصام عصِيَّة على الحل. ولعلَّ ضخامة التُّراث العِلمي المكتوب حول الفصام هي انعكاس لحالة الخلط وعدَم الاهتداء. ويتَّفِق بعض الباحثين مثل جرينكر Grinker وأريتي Arieti على أنَّ المدخل إلى مشكلة الفصام ينبغي ألَّا يكون أحاديَّ السبب (كاضطراب كيميائي مثلًا، أو كاضطراب إما جيني وإما بيئي، أو كنتيجة لديناميات نفسية من قبيل الرسالة المزدوجة … إلخ) بل يجِب أن يكون مدخل أنظمة يأخُذ بالاعتبار كثيرًا من المُستويات والعوامل المُتفاعلة.
  • يترتَّب على ما قُلناه آنِفًا أنَّ نظرية التعلُّم في صورتها التقليدية، أي القائمة على التشريط الكلاسيكي أو الإجرائي (التدعيم الإيجابي والسلبي) تحتاج إلى إعادة نظر؛ فهي لا تُفسِّر سلوك الحيوان في الحالة البرية حيث يتمُّ تعلُّم السلوك التكيُّفي بدون تدعيم إيجابي وبدون تكرار كثير. وهي تُفسِّر بعض جوانب التعلُّم الإنساني ولكنها تفشل في تفسير التعلُّم بالاستِبصار أو بالنفاذ إلى المعنى. ولا تُوجَد نظرية في الوقت الحالي تضطلع بتفسير جميع جوانب التعلم، غير أنَّ الحاجة مُلحَّة لمثل هذه النظرية، ليس من أجل السيكولوجيا النظرية فحسب بل من أجل الطب النفسي أيضًا، بعد أن تبيَّن دور عمليات التعلم في نشأة العصاب والذهان، وبعد أن تبين دور العلاج السلوكي وتبيَّنت حدوده أيضًا.

  • يبدو مدخل الأنظمة مُثمرًا بشكلٍ خاص في العلاج الجمعي والأُسري وفي طبِّ نفس المجتمع، حيث تمَّ استخدامه على نطاق واسع.

  • يدخل منهج الأنظمة بشكلٍ ضِمني في شطرٍ كبير من المُمارسة الطبِّنفسية. غير أن المبدأين الأساسيين التاليين يُشكِّلان توجُّهًا جديدًا:

    • (١)

      أن المرض النفسي (وكذلك العلاج) ليس شيئًا أحاديَّ السبب، بل هو شيء قِوامه عملياتٌ تجري في «كل» ذي أنظمة مُتعدَّدة مُتفاعلة شديدة التعقيد.

    • (٢)

      هذا الكل أو النظام ليس سلبيًّا أو شبيهًا بالروبوت، وليس آلةً مُعتمدة على البيئة تعمل بآلية «المؤثر-الاستجابة»، بل هو نظام نشط إيجابي ينبغي أن تُوظَّف إمكاناته وطاقاته في الحياة السوية وفي العملية العلاجية.

    هذان المبدآن يُشكِّلان كما قُلنا توجُّهًا جديدًا في الطبِّ النفسي أخَذَ يتَّبِعه الكثير من المُمارسين ويجدون في نظرية الأنظمة إطارًا نظريًّا لعملهم.

  • فيما سبق أيضًا نجِد إجابة جُزئية عن مُركَّبٍ من الأسئلة التي تُهدِّد وجود الطب النفسي ذاته كتخصُّص طبي، والتي أوجَزَها كتاب زاز Szasz «خرافة المرض العقلي». إن من الواضح أنَّ المرض النفسي والطب النفسي يتجاوزان العلم التقليدي والنموذج الطبي تجاوزًا كبيرًا؛ ذلك أنهما يقَعان على المستوى الرمزي، ذلك المستوى الذي لا يملك العلم الفيزيائي النزعة أن يُخبرنا عنه خبرًا أو يأتينا بنبأ.٢٥
  • ربما يُقيَّض لنظرية الأنظمة أن تضطلع بدور توحيدي في علم النفس. من الانتقادات الكبيرة التي تُوجَّه إلى علم النفس (وإلى الطب النفسي ضمنًا) أنه يفتقر إلى النموِّ المُتَّسِق والطبيعة التراكُمية التي تُميِّز العلم، فمن خصائص العلم المشروع أنَّ نتائجه (الإمبيريقية والنظرية) ما أن تتأسَّس حتى تبقى وتتراكَم في تطوُّر مُستمر. وما يزال جاليليو ومِندل حُجَّتَين في مجالهما لا يُشَقُّ لهما غبار، مهما تخطَّتهما ميكانيكا الكوانتم والوراثة الجزيئية. أما علم النفس فهو حلبة للتقاليع الزائلة والصيحات المُتبدِّلة والمدارس المُتصارعة والنظريات التي لا تُقنِع غير مُؤلِّفيها وتلاميذهم.

غير أنَّ هذا الوضع يبدو أقلَّ قتامةً حين ننظر إليه بعين نظرية الأنظمة، فكثير من النظريات المُتباينة في السيكولوجيا هي أوصاف لحقائق واحدة بلغاتٍ مُتعددة، أو هي جوانب مختلفة لهذه الحقائق. من أمثلة ذلك في علم نفس النمو نظريات بياجيه، فرن، برونر، فهي نظريات يُظهرنا التحليل على أنها مُتكاملة أكثر مما هي مُتعارِضة وأنها تُمثِّل نماذج متشابهةً بلغاتٍ مُختلفة (تمامًا مِثلما نُعبِّر عن نفس البنية الرياضية في مُعادلة أو رسم بياني، أو نُعبِّر عن نفس الحقائق الفيزيائية بلُغة الديناميكا الحرارية الكلاسيكية أو بلُغة الميكانيكا الإحصائية). ولعلَ نظرية الأنظمة، بفضل طبيعتها التجريدية، أن تكون أفضل مدخل إلى «لُغة مشتركة» تضمُّ النظريات السيكولوجية وتُوحِّدها، وتجعل من عِلم النفس عِلمًا يتحلَّى بخاصية تراكُم الحقائق المُكتشفة ويفي بهذا المُتطلَّب العلمي.٢٦

(٤) مبادئ برتالانفي الخمسة٢٧

  • (١)

    مدخل الأنظمة مدخلٌ عضويٌّ غير ردِّي (خفضي) يؤكد على الكلِّ العضوي وقابليته للدراسة العلمية، في مُقابل المدخل التَّجزيئي التَّجميعي.

  • (٢)

    التوكيد على الكائن الفاعل الإيجابي النشِط كمُقابل للكائن المُنفعل أو الروبوت أو نموذج المُثير-الاستجابة.

  • (٣)

    التوكيد على خصوصية السيكولوجية البشرية (مُقارنة بسيكولوجية الحيوان) وعلى السلوك المُندرج تحت بند «الأنشطة الرمزية».

  • (٤)
    مبدأ anamorphosis أي الميل نحو التنظيم الأعلى (كمُقابل لمبدأ المَيل الإنتروبي، أي الميل نحو مزيدٍ من الاضطراب، في العمليات الفيزيائية المُعتادة) والذي تُتيحه طبيعة النظام المفتوح للكائن العضوي الحي، ويتجلَّى في الإبداع ومظاهره المُتعددة، بدءًا من التطوُّر في جوانبه غير النفعية، مرورًا بسلوك اللَّعِب والأنشطة الاستكشافية، وصولًا إلى ذروة الإبداع البشري والثقافي.
  • (٥)

    (مُترتِّب على السابق) إدخال القِيَم المقصورة على الإنسان والقِيَم فوق-البيولوجية إلى داخل النظرية العلمية للعالم.

ختام

ثمة علاقةٌ عكسيةٌ بين اتِّساع المُشكلة ودقَّة الصياغة، وكذلك الأمر بالنسبة للأجوبة، فمن اليسير الهين أن نُقدِّم إجاباتٍ عن مسائل نظرية التحكم أو الفيزياء الحيوية مصوغةٌ بِلُغةٍ تكنيكية رياضية، بينما تندُّ الهموم البشرية عن الصياغة بغَير لغة الحياة اليومية. غير أن من الخطأ أن نتغافَلَ عن الخصائص والمبادئ الأساسية للأنظمة إذ تُعرَض بطرقٍ غير رسمية. بهذا المعنى يكون التصوُّر العريض لنظرية الأنظمة «الإنسانية» في نظرنا هو تصوُّر لا غنى عنه من أجل الوصول إلى فهْمٍ للإنسان وللحالة الإنسانية أوسع من أيِّ فهمٍ آخر أسهمَتْ به المناهج السابقة.

١  Bertalanffu, Ludvig von, General Living Systems theory, Braziller, New York, 1968, p. 121.
٢  Capra, Fritjof, The Web of Life, Flamingo, 1997, pp. 45–50.
٣  Capra, F., The Turning Point, Flamingo, 1982, p. 6.
٤  Ibid., p. 25.
٥  Earle, W. J., Introduction to Philosophy, McGraw-Hill, Inc., 1992, p. 79.
٦  Ibid., p. 76.
٧  Bunge, M. (1997) Emergence and the mind. Neuroscience, 2, 501–509.
٨  Earle, W. J., Introduction to Philosophy, p. 77.
٩  Ludwig von Bertalanffy, “General System Theory and Psychiatry”, in Silvano Arietei (Ed.), American Handbook of Psychiatry, Vol. 1, Second Edition, Basic Books, Inc., Publishers, New York, 1974, p. 1096.
١٠  Ibid., p. 1097.
١١  Ibid., p. 1098.
١٢  Ibid., p. 1098-1099.
١٣  Ibid., p. 1100.
١٤  Ibid., p. 1101.
١٥  Ibid., p. 1102.
١٦  Ibid., p. 1102-1103.
١٧  Ibid., p. 1103.
١٨  Ibid., pp. 1103-1104.
١٩  Ibid., p. 1104.
٢٠  Ibid., pp. 1104-1105.
٢١  Ibid., p. 1105.
٢٢  Ibid., p. 1106.
٢٣  Ibid., pp. 1106-1107.
٢٤  Ibid., pp. 1107-1108.
٢٥  Ibid., p. 1110.
٢٦  Ibid., p. 1111.
٢٧  Ibid., pp. 1111-1112.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤