الفصل الرابع

ألوان من النسبية

إنَّ التنوُّع الثقافي والتاريخي الذي يزداد جلاءً يومًا بعد يومٍ ليفتح أعيُننا على أساليب في الفكر والفعل مُختلفةٍ عن أساليبنا اختلافًا مُهمًّا، وأحيانًا مُقلقًا: من الحق إذن أنَّنا لو كُنَّا نشأنا في زمنٍ ومكانٍ مُختلفَين اختلافًا بعيدًا لانتهَيْنا إلى أساليب جد مُختلفة من الفكر ومعايير التقييم والحدْس بما هو واضح.

***

(١) النسبية الأخلاقية

كانت قبائل بأكملها من هنود أمريكا الجنوبية تُعاني من حالةٍ مرضيةٍ تنجُم عنها بُقَع بالجلد. تفشَّت هذه البُقَع بحيث غدت موضع إجلالٍ من المُصابين بها، واستَشرَتْ بحيث كان الذين لا يُعانون منها يُنفَون من القبيلة!

(موبري وآخرون، علم النفس والطب)

لا تُوجَد أرضيةٌ مشتركةٌ بين هؤلاء الذين يعتقدون هذا وأولئك الذين لا يعتقدون، بل إنهم من منظور آرائهم لا بدَّ بالضرورة أن يزدري كلُّ فريق منهما الآخر.

أفلاطون

(١-١) جراهام سمْنَر: الأخلاق نسبية

استدعى ملك الفُرس داريوس الأول الإغريق الذين يعيشون في بلاده (وكان من عادة الإغريق أن يَحرقوا مَوتاهم)، وسألهم عن الثمن الذي يرتضونه كي يلتَهِموا آباءهم حين يُتوفَّون؛ فأجابوه بأنه لا شيء البتَّة على ظهر الأرض يُمكن أن يُغريهم بفِعل هذا. حينئذٍ استدعى داريوس «الكالاتيين» Callatians الذين يأكلون آباءهم بالفعل، وفي حضور الإغريق بمعونة من يُترجِم لهم، سأل الكالاتيين عن الثمن الذي قد يرتضونه لكي يَحرِقوا جُثث آبائهم حين يُتوفَّون، فكان أنْ تعالَتْ صرخاتهم وناشدوه ألا يذكُر مثل هذه الشناعة.
[هيرودوت، الكتاب الثالث، ٣٨]
في أوائل القرن العشرين قدَّم عالِم الاجتماع الأمريكي وليام جراهام سمنر W. G. Sumner نظريته في «الطرق الشعبية» Folkways، التي تردُّ الأحكام الأخلاقية إلى مظاهر لا عقلية في أساسها، لقوى اجتماعية هي ذاتها غير عقلية. هذه الطرُق الشعبية هي عادات مُستقلة عن أفكارنا عنها، ولا تسير حسب قواعد معقولة، وهي لا تتَّفِق إلَّا مع المِزاج أو الموقف العام لزمانها ومكانها المُعينين، ولها ما يُمكن أن يُعدَّ حياةً خاصة بها؛ ذلك أن سمنر يرى أنها تُولد وتكبُر وتموت ولا يمكن أن يؤثر فيها تأثيرًا يُذكر إلا قوى قليلةٌ (منها التعليم).١
وعندما يعتقِد أفراد مُجتمع مُعيَّن أن هذه الطرق تُسهم في تقدُّم المجتمع فقد يُسمُّونها «أعرافًا» mores (وهو اللفظ الذي اشتُقَّت منه كلمة «أخلاق» morals في اللغات الأوروبية). غير أن هذه الأعراف ذاتها ليست أخلاقية بمعنى أنها عقلية وموضوعية؛ ذلك لأنها لا تتولَّد عن مُثلٍ عُليا وإنما عن قوى اجتماعية خارجية. وليس ما نَعُدُّه تقويماتٍ أخلاقيةٌ سوى تعبيراتٍ عن عاداتٍ اجتماعية بالغة الأثر، أو تبريرات لها. وهي عادات نألَفُها إلى حدِّ أنها تبدو لنا أكثر من مُجرَّد عادات، وتُصبح لها بسهولة مكانة القوانين الأخلاقية المُطلقة والأوامر الإلهية وما شابه ذلك. ويمضي سمنر أبعدَ من ذلك فيقول إن الفلسفة والأخلاق النظرية تُستمَدَّان معًا من الطرق الشعبية، وليس بوسع أيٍّ منهما أن تُفلِتَ من الحدود التي يفرضها عليها أصلها أكثر مِمَّا يستطيع الإنسان أن يحمل نفسه من أربطة حذائه. إن المُفكر الأخلاقي في الأغلب الأعم لا يفعل أكثر من تبرير الأخلاق السائدة في عصره، تلك الأخلاق التي لا تعدو أن تكون تعبيرًا عن الأعراف الاجتماعية أو الطرق الشعبية؛ ومن ثَمَّ فإن أرفع المذاهب الأخلاقية الشاملة وأكثرها معقولية إنما هو في أساسه خدعةٌ وقورٌ، من حيث إنه يَدَّعي لنفسه ما لا يمكن على الإطلاق أن يكونه أيُّ مذهب عقلي بحُكم طبيعة الوقائع الاجتماعية ذاتها.٢

الطرق الشعبية: تعريفها ومنشؤها

عندما نضمُّ معًا كلَّ ما تعلمناه من الأنثروبولوجيا والإثنوغرافيا عن الإنسان والمُجتمع البدائيين، يتكشَّف لنا أن المهمة الأولى في الحياة هي «البقاء»؛ «العيش». في البدء كانت الأفعال لا الأفكار، فكلُّ لحظة من اللحظات كانت تجلُب من الضروريات ما لا بدَّ من إشباعه على الفور. في البدء كانت الحاجة، وجاءت في إثرها مُحاولةٌ متعثرةٌ مُتخبِّطة لإشباعها.

ومن المُسلَّم به بعامَّة أن البشر قد ورثوا عن أسلافهم من الحيوانات بعض الغرائز المُوجِّهة. أخذت هذه الموروثات بيدِ الإنسان وأرشدَتْه في مُحاولاته الأولى لإشباع حاجاته. وبميسورنا من خلال المُماثلة (الأنالوجي) أن نفترِض أنَّ طُرق الحيوانات قد خلَّفَت فيه قنواتٍ من العادة والميل جعلت المهارات والنشاطات النفسجسمية تسلُك في مسارها وتجري بمجراها بسهولةٍ ويُسر. وتدلُّنا التجارب التي أُجرِيَت على الحيوانات الحديثة الولادة أنه في غياب أيَّةِ خبرة عن العلاقة بين الوسائل والغايات تكون مُحاولات إشباع الحاجات غشيمة رَعْناء، وتعتمِد على منهج «المُحاولة والخطأ» trial and error، وهو منهج يؤدي إلى ألَمٍ وفقدان وإحباطٍ بصورةٍ مُتكررة. غير أنه يُمثِّل التجربة والاختبار في صورتهما البدائية. من هذا الصنف كانت مُحاولات البشر الأولى. لقد كانت الحاجة قوة قاهرة، وكانت اللَّذَّة من ناحيةٍ والألَم من ناحيةٍ أخرى هما المُحدِّدات الأولى للمسار الذي يتعيَّن على المُحاولات أن تَتَّخِذه. وكانت القُدرة على تمييز اللَّذَّة من الألم هي القوة النفسية الوحيدة التي يُمكن افتراضها. بذلك يتمُّ اختيار الطُّرق الأنسب عمليًّا لفعل الأشياء، أي الطرق التي يثبُت نفعها. وكان الجميع في بداية الأمر يتبنَّون نفس الطريقة للوصول إلى نفس الغرض، ومن ثَمَّ تحوَّلت الطرق إلى عاداتٍ اجتماعية وأصبحت ظواهر جمعية، ونشأت الغرائز مُرتبطة بها. هكذا تنشأ الطرق الشعبية ويتمُّ تعلُّمها بالنقل والتقليد والسلطة. بذلك زوَّدت الطرق الشعبية الإنسان بكلِّ ما يحتاج إليه في الحياة.
تتَّصِف الطرق الشعبية بالاطِّراد والشمول والطابع الآمِر والثبات. وبمرور الوقت تزداد طبيعتها التعسُّفية والقطعية والأمرية. وإذا سُئل البدائيُّون لماذا يسلكون بطريقةٍ مُعيَّنة في حالاتٍ مُعيَّنة فإنهم يُجيبون دائمًا بأنهم هم وأسلافهم كانوا دائمًا يفعلون ذلك. وهناك وازع آخر ينشأ من خوف الأرواح، فأرواح الأسلاف حَرِيَّةٌ أن تغضَبَ إذا ما غيَّر الأحياءُ الطرقَ الشعبية القديمة.٣

المنشأ اللاشعوري للطُّرق الشعبية

من الأهمية بمكان أن نُلاحظ أنه منذ بداية الأفعال التي يُحاول بها البشر إشباع حاجاتهم، فإن كلَّ فعلٍ منها يقوم بذاته، ولا يُنظَر فيه أبعَدَ من الإشباع الفوري. ومن تكرار الحاجات تنشأ «العادات» habits بالنسبة للفرد و«التقاليد» customs بالنسبة للجماعة. غير أن هذه النتائج هي تبعاتٌ أو مُعقباتٌ لم تكن واعيةً قط أو مُستبقةً أو مقصودة، ولا يلحظها أحدٌ إلَّا بعد أن يطول بها العهد ولا يُقدِّرها أحدٌ إلَّا بعد أمدٍ أطول من ذلك. ويتعيَّن أن يمرَّ مزيدٌ من الوقت وأن تصِل الجماعة إلى مرحلة أعلى من النموِّ الذهني قبل أن يُمكنها استخدام هذه العادات كأساسٍ تُستنبَط منه قواعد لحلِّ المشكلات التي تتوقَّع طروءها في المُستقبل.

الطرق الشعبية إذن لا يبتكِرها البشر عن عمدٍ أو تفطُّن. إنها أشبَهُ بنواتج قوى الطبيعة التي يُديرها الإنسان عن غير وعي، أو هي أشبَهُ بالطرق الغريزية للحيوان؛ إذ تنجُم من الخبرة وتصِل إلى شكلٍ نهائي يُحقِّق أقصى تكيُّفٍ بإزاء غرضٍ ما، وتصير تقليدًا ينتقل من جيلٍ إلى جيل ولا يقبل استثناءً أو شذوذًا. غير أنها يُمكن أن تتغيَّر لتُوافِق ظروفًا جديدة ولكن تغيُّرها يتمُّ في حدود الطرق نفسها ودون تفكُّرٍ أو قصدٍ عقلي.

يتبيَّن من ذلك أن حياة البشر في جميع عصورها ومراحلها الحضارية محكومةٌ أساسيًّا بكمٍّ هائلٍ من الطرق الشعبية، تنحدِر إليهم من المراحل الأولى لوجود الجنس البشري، وهي طُرق لها الطبيعة ذاتها التي لطُرق الحيوانات الأخرى، ولا تختلف عنها إلَّا في طبقاتها العُليا التي تخضع للتغيُّر والسيطرة، والتي تمَّ تحويرها بعض الشيء بواسطة الفلسفة والأخلاق والدين، أو غير ذلك من أنشطة التأمُّل الذكي.٤

الطُّرق الشعبية الناتجة عن الاستدلال الخاطئ

بل إن الطرق الشعبية قد تكوَّنَت بطريق المُصادفة، أو بواسطة فعلٍ غير عقلاني وغير مُتساوق، وقائم على معرفةٍ زائفة:
  • من ذلك أنَّ وَباء الطاعون لمَّا تفشَّى في مولمبو Molembo عقِب وفاة أحد البُرتغاليين، اتَّخَذ الأهالي كلَّ الاحتياطات المُمكنة لكيلا يموت رجلٌ أبيض بعد ذلك في بلدهم. ومن ذلك ما حدث في جزر نيكوبار Nicobar على أثر وفاة بعضٍ من السُّكَّان الأصليين كانوا قد بدءوا لتَوِّهم في مُزاولة حرفة الخزَف، إذ انفضَّ الجميع عن مُزاولة هذا الفن ولم يقْرَبه أحدٌ بعد ذلك على الإطلاق.
  • ومن ذلك ما حدَث في إحدى قُرى جنوب أفريقيا حين أهدى البِيض رجلًا من البُوشمَن عصًا مُرصَّعةً بالأزرار كرمزٍ للسيادة، إذ تُوفِّي الرجل وخلَّف العصا لابنه، وسرعان ما تُوفِّي الابن، فأعاد البوشمَن العصا إلى من أهداها خشية أن يموت الجميع.

  • وحتى عهدٍ قريب لم يكن يُسمح بإقامة مبنًى بموادَّ غير قابلةٍ للاشتعال في أيِّ مدينة كُبرى داخل المنطقة الوسطى من مدغشقر، وذلك بناء على اعتقاد اعتِسافي قديم.

  • وقد تصادَفَ مرَّة أن انتشر الجُدَري بين شعب الياكات Yakats بعد أن شهدوا جَمَلًا لأول مرة، فوقَرَ في ظنِّهم أن الجَمَل هو الذي أحدَث المرض. تَصادَفَ كذلك أن امرأةً من هذا الشعب نفسه قد تزوَّجَت رجُلًا من ذويها الأقربين ثم أصيبتْ عقِبَ ذلك بالعمى، فعُزِي ذلك إلى انتهاكها للتقاليد القديمة التي تُحرِّم زواج الأقارب.
وبوُسعنا أن نجمع ما لا يُحصى من هذه الشواهد، وهي في الحقيقة تُمثِّل الطريقة المُتبَّعة في الاستدلال العقلي لدى الشعوب البدائية، فمن عادة هؤلاء الأقوام إذا حدث شيءٌ «بعد شيءٍ» آخَر أن يستدلُّوا من ذلك أنه حدث «بسببه»٥ وكثيرٌ جدًّا من العادات يرجِع في أصله إلى فكرة «العين اللَّامَّة» evil eye، وكثيرٌ جدًّا يرجِع إلى الأفكار الطقسية عن الدَّنَس. وما كان بمقدور البحث العلمي أن يكشِف أصلَ الطُّرق الشعبية التي ذكرناها لو لم تسمح المُصادَفة بكشْفِها لأهل الحضارة. وما مِن شكٍّ أن الحالات التي أحطْنا بها تدلُّ على المنشأ العبَثِي واللاعقلي لكثيرٍ من الطُّرق الشعبية. وفي نِطاق التاريخ الحضاري أيضًا نعرف أن العادات تَرتدُّ في منشئها إلى «المُصادَفة التاريخية» من قبيل غرور أميرةٍ أو عاهة ملكٍ أو نَزوةِ نظامٍ ديمقراطي أو غرام رجلِ دولةٍ أو أسقف. ومن الجائز أن تكون المُؤسَّسات في عصرٍ آخر وقاءً يمنع أيًّا من هذه الأشياء أن يؤثِّر في القرارات أو الأفعال أو المصالح. غير أن السُّلطة التي تُقرِّر الطُّرق ربما تكون قد انتقلت إلى الجمعيات ونقابات العمال والاتِّحادات الاحتكارية والمُنافسين التجاريين والمُحرِّكين المُحتجبين والساسة والمُتعصِّبين السياسيين. في هذه الحالات أيضًا قد تتوارى أسباب العادات وأصلها ولا يطالها البحث.٦

الطُّرق الشعبية الضارَّة

من الطُّرق الشعبية ما هو ذو ضرَرٍ مُحقَّق. وغالبًا ما تكون هذه بالتحديد هي الطُّرق التي تُقدَّم لها مُبرراتٌ صريحة، فتحطيم مُمتلكات الشخص عند وفاته هو استنتاجٌ يلزم بالضرورة عن مفهوم العالَم الآخر؛ إذ من المُفترَض أن يحتاج الميِّت في العالَم الآخر إلى نفس الأشياء التي احتاج إليها في هذا العالم!

لقد كان في تحطيم مُمتلكات الميِّت إهدارٌ كبيرٌ للثروة. ومن المُحقَّق أنه كان وبالًا على الحيِّ وأنه قد أعاق نموَّ الحضارة بدرجةٍ خطيرة. ولنا أن نُدرِج مع هذه العادة كلَّ إهدارٍ للمال والجهد في بناء المقابر والمعابد والأهرام والشعائر والأضحيات ودعْم الكهنة، ما دامت كلها عادات كانت تهدُف إلى مصلحة الموتى. وقد أفضتْ هذه الخُزعْبلات إلى طُغيان بعض المصالح الأُخروية المزعومة على المصالح الدنيوية، فكثيرًا ما كانت تُحرَّم أطعمةٌ مُتوافرة في البيئة بكثرة ويبقى دونها الناس في شظفٍ وجوع. من أمثلة ذلك تلك القبيلة من قبائل البوشمن التي تمتنِع عن أكلِ لحْم الماعز رغم أنَّ الماعِز هي أكثر الحيوانات الأليفة وفرةً في المنطقة. وأيًّا ما كان المَغْزى الحقيقي للطوطمية فهي قد فوَّتَت على أهلها خيرًا كثيرًا في غذاء موفور.

ومن يُردِ البحث عن أصل التقديس الذي يُسبَغ على البقَر، يلتَمِسه في طبيعة الحياة البدوية البدائية للعنصر الهندوأوروبي؛ لأنه استشرى عند الإيرانيِّين والهنود في هندوستان. أما الليبيون فقد كانوا يأكلون لحم الثيران دون البقر. كذلك الحال بالنِّسبة للفينقيين والمصريين.

ومن جهةٍ أخرى كانت الحماية التي يحظى بها التمساح والأصلة والكوبرا وغيرها من الحيوانات المُفترِسة المُحرَّم قتلُها. كانت أذًى للإنسان مهما كان مُبرِّر التحريم. وعلى امتداد الهند الجنوبية كان أصلًا عقائديًّا راسخًا أن كلَّ من قتل ثُعبانا، وبخاصة الكوبرا، عمدًا أو بغَير عمد، فإنَّ مصيره المحتوم، سواء في هذه الحياة أو في الآخرة، هو إحدى ثلاث: العُقم أو الجُذام أو الرمد. إن إنسانًا يؤمن بهذه العقيدة سيجِد مصلحته في أن يُبقي على الكوبرا لا أن يَقتُلها. وتُقدِّم الهند أمثلةً كثيرة من الأعراف الضارَّة، فكلُّ نزعةٍ إنسانية في الهند تبدو مُوغِلة في الإسراف والشطط. وما من بلدٍ في العالَم يبلُغ مبلغ الهند في المُحافظة على تقاليده. وما من بلدٍ رغم ذلك شهِد ما شهدته الهند من تغيُّرات وتقلباتٍ دينية. يهلك الألوف في الهند كلَّ عامٍ بسبب أمراضٍ كانت خليقةً أن تُشفى لو أنهم كانوا يتناولون الغذاء الصحيح ويشرَبون الدواء الذي يصِفه العلم. غير أنهم يتصوَّرون أن دِينهم يُحرِّم عليهم لمس هذا الغذاء وهذا الدواء.٧

كيف يُكتشَف «الحق» و«الصواب»

عندما يُقرِّب إنسان بدائي يدَه من النار يشعُر بالألم ويَسحَبُها. إنه لا يعلم شيئًا عن قوانين الإشعاع الحراري، غير أنَّ هذا الفعل الغرزي يتَّفِق مع تلك القوانين كما لو أنه يعلمها. وإذا أراد البدائي أن يقبض على حيوانٍ ليأكله فلا بدَّ له من أن يدرُس عادات هذا الحيوان ويُدبِّر طريقة تُلائم تلك العادات، فإذا فشل فإن عليه أن يُعيد المُحاولة، إلى أن «تصدق» مُلاحظاته و«تصيب» طريقته. من الواضح أن العنصر العقلي الصميم كان يُعزى في الأغلب إلى تعاليم إلهٍ أو بطلٍ قومي.

ورغم أن الطُّرق الشعبية المُتَّخَذة يتوجَّب أن تكون دائمًا «حقًّا» true و«صوابًا» right بالنسبة للوقائع، وإلَّا لما نجَحَت في تحقيق الغَرَض المنوط بها، فليس هذا هو التصوُّر البدائي ﻟ «الحق» و«الصواب».

الطُّرق الشعبية، والصواب، والأخلاق

الطرق الشعبية هي الطُّرق «الصحيحة» و«الصائبة» في تصريف الأمور؛ لأنها تقليدية وتُقيم في الواقع الحي، إنها تمتدُّ لتشمل الحياة بأكملها. ثمَّةَ طريقة صحيحة للتصرُّف اللائق، وطريقة صحيحة للظَّفَر بزوجة، وللتعبير عن النفس، وعلاج المرض، وتكريم الأرواح، ومُعاملة الرفاق أو الغرباء، والتصرُّف عند ميلاد طفل، وعند التهيُّؤ للحرب، وفي المجالس. وهكذا في جميع الظروف التي يُمكن أن تَعِن.

تتحدَّد الطُّرق من جانبها السلبي، أي بواسطة «المحرمات» taboos. والطريقة الصحيحة هي الطريقة التي اتَّبَعها الأسلاف، والتي أورثوها الأخلاف. التقليد هو بُرهان ذاته ومُسوِّغ نفسه. التقاليد تحمل في ذاتها مُبرِّراتها، فهي لا تقَع في النفس مَوقعًا يُعرِّضها للتحقيق بالخبرة. إنَّ فكرة «الصواب» قابِعة في الطُّرق الشعبية. الصواب لا يأتي من الخارج، من مصدرٍ مُستقل، لكي يختبرها ويتحقَّق منها، فأيما شيء تقوله الطُّرق الشعبية فهو حق؛ ذلك لأنها تقليدية موروثة تنطوي في داخلها على سُلطة أرواح الأسلاف.
و«الأخلاقية» morality عند جماعةٍ ما في زمنٍ ما هي مجموع المُحرَّمات والوصايا التي تُحدِّد السلوك الصائب في الطُّرق الشعبية. الأخلاق إذن لا يمكن أن تكون حدْسية. إنها تاريخية ومُؤسَّسية وإمبيريقية.

فلسفة العالم، وسياسة الحياة، والصواب، والحقوق، والأخلاقية؛ كلُّ أولئك نتاجٌ للطرق الشعبية. إنها تأمُّلات في، وتعميمات من؛ خبرة اللَّذَّة والألم المُحصَّلة في مُعترك الصراع من أجل البقاء تحت الظروف الحياتية الحقيقية. تكون هذه التعميمات شديدة الفجاجة والغموض في بواكيرها الأولى. إنها جميعًا مُتجسِّدة في التراث الشعبي، وعنها نشأ كلُّ ما لدَينا من فلسفة وعلم.

مركزية العرق (المركزية الإثنية) Ethnocentrism

هي النظر إلى الأشياء على أنَّ جماعتنا هي محور كلِّ شيء والإطار المَرجعي الذي يُقاس عليه كلُّ شيء آخر وتُقيَّم به كل الجماعات الأخرى: جماعتنا هي الصواب وغيرها الخطأ، هي الحقُّ وغيرها الباطل.

تعمَد كلُّ جماعةٍ إلى أن تُغذِّي زَهوَها وغُرورَها وتفتخِر بأنها أعلى شأنًا من سواها، وتمجد آلهتها وتنظُر بازدِراء إلى آلهة الغير، وتعتقد كلُّ جماعةٍ أنَّ طُرقها الشعبية هي وحدَها الطُّرق الصحيحة، وإذا لاحظت أنَّ الجماعات الأخرى لدَيها طُرق أخرى، تكون هذه الطرق من دواعي هزئها واحتقارها. ومن هذه الفروق تُستمدُّ نُعوتٌ وألقاب ازدرائية: أكلَة الخنزير، أكلة البقر، غير المختونين، اللُّكن غير المُفصِحين … إلخ، وهي ألقاب تنمُّ عن الاحتقار والمَقْتِ الشديد. كانت قبائل التوبي تُلقِّب البُرتغاليِّين لقبًا ازدِرائيًّا تتصِّف به الطيور التي لها رِيش حول أرجُلها؛ وذلك لارتدائهم السروال!٨

وأهم الحقائق التي تَعنينا في غرَضِنا الحالي هي أنَّ مركزية العِرق تحمِل كلَّ شعبٍ على أن يغلوَ ويتشدَّد في أيَّةِ عناصر يجدها خاصَّة به وحدَه ومُميِّزة له عن الآخرين. مركزية العِرق إذن تُعزِّز الطُّرق الشعبية وتُقوِّيها.

أمثلة لمركزية العِرق

  • كان شعب المبايا Mbayas في أمريكا الجنوبية يعتقدون أن إلههم قد أمرَهم بأن يعيشوا على شنِّ الحرب على الآخرين وسلب زوجاتهم ومُمتلكاتهم وقتْل رجالهم.
  • عندما سئل الكاريبيون Caribs من أين جاءوا أجابوا: «نحن وحْدَنا الناس»، وتعني لفظة «كيووا» Kiowa عندهم «الشعب الحقيقي أو الرئيسي».
  • ويُطلِق التونجوسيون Tunguses على أنفسهم اسم «الناس» (وقد وُجد، كقاعدة عامة، أنَّ الشعوب البدائية تُسمِّي نفسها «الناس»، فالآخرون هم شيء آخر، ربما غير مُحدَّد، إلَّا أنهم ليسوا بشرًا حقيقيين!) وفي أساطيرهم أن أصل قبيلتهم هو أصل الجنس البشري الحقيقي، وهم لا يتحدَّثون عن منشأ الآخرين.
  • ويشتقُّ شعب الأينو Ainos اسمهم من اسم الرجل الأول، الذي يعبدونه كإله. ويبدو أن اسم الإله هو دائمًا مُشتقٌّ من اسم القبيلة، فإذا كان لاسم القبيلة معنًى آخر فإنه دائمًا معنى يُفيد الفخر والتمجيد، فكلمة «أوفامبو» ovambo مثلًا هي تحريف لاسم القبيلة عندهم، وهو يعني «الغَني».
  • ويُعدُّ شعب السيري Seri في جنوب كاليفورنيا من أشدِّ شعوب العالم عُنصريةً وأمعَنِها مركزيةٌ عرقية، فهم ينظرون إلى الشعوب الأخرى بعين الشكِّ والعداء، ويُحرِّمون الزواج من أي شعب خارجي تحريمًا قاطعًا.
  • قسَّم اليهود الجنس البشري كله إلى يهود وغير يهود (أُمَمِيِّين Gentile). واعتبروا أنفسهم «الشعب المُختار».
  • كان اليونان والرومان يُطلقون على كلِّ من عداهم «البرابرة». وفي مسرحية يوربيدس التراجيدية «إفيجينيا في أوليس» تقول إيفيجينيا إنما يليق باليونان أن يحكموا البرابرة وليس العكس؛ لأنَّ اليونانيين أحرار والبرابرة عبيد.

  • كان العرب يَعدُّون أنفسهم أكرم الأُمَم ويَعدُّون الأمم الأخرى جميعًا برابرة أو أقرَبَ إلى البربرية.

  • في عام ١٨٩٦م أصدر وزير التعليم الصيني ومُستشاروه كتيبًا وردت فيه هذه العبارة «ما أعظم إمبراطورية الصين وأمجدها، إنها أكبر وأغنى إمبراطورية في العالم، وإنَّ أعظم الرجال في العالم ينتسِبون جميعًا إلى الإمبراطورية الوسطى.» والحقُّ أنه في أدبيَّات جميع الدول ترِدُ عباراتٌ مُعادلة لهذه العبارة، وإن لم تكن مَصوغةً بهذه السذاجة والبدائية. ففي الكُتب والصحف الرُّوسية يتحدَّثون عن رسالة التمدين التي تضطلع بها هذه البلاد ويُشيرون إليها كأمرٍ مفهوم جدًّا. هكذا نرى أنَّ كلَّ أمةٍ تَعدُّ نفسها رائدة الحضارة، وتَعتبِر نفسها الأمة الأفضل والأكثر حُريَّة وحكمة، وتعتبر الأمم الأخرى جميعًا أدنى مستوى، بل إن العائشين بين ظهرانينا في العصر الحجري قد تعلَّموا خلال بضعة أعوام أن يُصنِّفوا جميع الأجانب من الشعوب اللاتينية على أنهم dagos، وصارت كلمة dago من نعوت الازدراء. كلُّ أولئك تَجليَّات للعنصرية وحالات من «مركزية العِرق» ethnocentrism.٩

الأعراف Mores

عندما تتطوَّر عناصر الحقِّ والصواب إلى مذاهب في الخير والصالح، ترقى الطُّرق الشعبية إلى مستوى آخر، وتصير قادرة على إنتاج استدلالات واتخاذ أشكالٍ جديدة، وتبسط سلطانها على الناس والمجتمع. هنالك نطلق عليها «العرف» mores. الأعراف هي الطُّرق الشعبية عينها؛ إذ تنمو مُشتملةً على التعميمات الفلسفية والأخلاقية المُتصِّلة بصالح المجتمع. إنها تعميمات فلسفية تُمليها الطرق الشعبية، تعميمات مُتأصِّلة ومُبيَّتة في الطرق الشعبية.
ولعلَّ لفظة ethology أن تكون مُصطلحًا لائقًا للتعبير عن المبحث الخاص بالطباع والعادات والمعاملات والأعراف شاملةً الطريقة التي تتكوَّن بها هذه الأشياء، وكيف تنمو أو تتفسَّخ وكيف تؤثِّر على المصالح التي تهدُف إلى حمايتها. وقد استخدم اليونان كلمة «إيثوس» ethos للتعبير عن جُملة الأعراف والأفكار والمعايير والدساتير التي تسِمُ جماعةً من الجماعات وتُميِّزها عن غيرها. أما كلمة ethics فتدلُّ على تلك الأشياء التي تتعلَّق بالإيثوس وتُمثِّل بالتالي مِعيار الصواب. وقد استخدم الرومان كلمة mores لتُشير إلى العادات وتحُوز على قوة ردْع موروثة وسرية، وبالتالي كان للتقاليد سطوة كبرى وقداسة.
يخلُص سمنر إلى أن الفلسفة وعلم الأخلاق هما نِتاج الطُّرق الشعبية وليسا مُستقلِّين أو مبتكرَين، إنهما، في زعمه، ثانويَّان ومُشتقَّان (أي مُستمدَّان من غيرهما)، فالطرق الشعبية إجبارية بقوة الرجال وقوة الجماعة، وعلى الجميع أن يُذعن لها ويَمتثِل. هذا ما يجعلها تبدو حقًّا وصوابًا، ويجعلها ترقى إلى «عرف» mores بوصفه مِعيار الصالح والخير. من هذا تنتُج العقائد والأفكار والمذاهب والأديان والفلسفات، بحسب درجة التحضُّر ووفقًا للأنماط السائدة من التأمُّل والتعميم.

الفلسفة إذن ليست مصدر الأخلاق، بل مصدر الأخلاق هو التاريخ والتجربة الجماعية، بل إنَّ الفلسفة ذاتها وعِلم الأخلاق نفسه ناجِمان عن التجربة، أو الفلسفة هي التي حدَّدت معنى الأخلاق ونظَّمَتْها وبَلْوَرَتْها عقليًّا.

الأعراف والمؤسَّسات

المؤسَّسات والقوانين أيضًا تصدُر عن الأعراف. تتكوَّن المؤسَّسة من مفهوم (فكرة، مذهب، مصلحة) وبنية. والبنية هي إطار أو جهاز أو ربما مجرَّد عدد من الموظفين يأخذون في التعاون بطرائق محسوبة في مرحلة مُعيَّنة. ومن شأن البنية أن تُمسك هذا المفهوم وتقدِّم الهيكل الفعَّال أو الآلية الكفيلة بطرحه في عالَم الوقائع والفعل بطريقة تخدُم مصالح الناس في المجتمع. ثمة مؤسَّسات كالملكية والزواج والدين تنبثِق مُباشرة من الأعراف، وتنتَج بنفس الجهود الغريزية التي تُنتِج العرف، ثم تتبلوَر هذه الجهود وتتحدَّد من خلال التكرار المُستمرِّ والاستخدام الطويل. وهناك مُؤسَّسات مُحدَثة أو موضوعة، مثل البنوك، وهي نتاج القصد والابتكار العقلاني. تنشأ جميع المؤسَّسات عن العُرف رغم أنَّ العنصر العقلي فيها يكون كبيرًا في بعض الأحيان بحيث يُخفي أصلها العُرفي.

الزواج مثلًا، فيما يقول سمنر، أصله الأسْر! فقد كان الرجل في الحياة البدائية الطبيعية يُمكِنه أن يأسِرَ امرأةً في أي وقت ويحتجنها لنفسه إن استطاع. إنه يأسِرها بقوَّتِه الجسمانية التي هي مُبرِّر ذاتها في نهاية الأمر. غير أنَّ فعله هذا كان يجلب المتاعب لرفاقه ويُشعل الحرب بين جماعته وجماعة المرأة التي أسرَها. ومن ثم فقد حرَّموا الأسْر بهذه الطريقة أو وَضَعوا له شروطًا. بذلك صار الأسْر، داخل الشروط المرعية، تقنيًّا مُؤسَّسيًّا، ونجمَتْ منه الحقوق، ونالتِ المرأة وضعًا حدَّدتْه التقاليد، مُختلفًا عن وضْع الأسْر الفِعلي تمام الاختلاف، وصار الزواج علاقة مُؤسَّسية قائمة في المجتمع وتحت هيمنته؛ علاقة بين امرأة ورجل يتمُّ فيها الظَّفَر بالمرأة بطريقةٍ مرعيَّة فتكون، من ثم، «زوجة»، وتضطلع الأعراف mores بتحديد حقوقها وواجباتها كما هي اليوم في جميع المجتمعات المُتحضِّرة.

القوانين

الأحكام التشريعية هي أيضًا وليدة العُرف، في الحضارات البدائية تكون كلُّ النظم الاجتماعية هي تقاليد ومُحرَّمات مجهولة المنشأ. فالقوانين الوضعية غير مُمكنة ما لم يصِل الذهن البشري إلى مرحلة التحقُّق والتأمُّل والنقد. وإلى أن يبلغ الذهن هذه الدرجة فليس هناك غير حُكم العادة أو «القانون العرفي» common law. قد يدون القانون العرفي ويُنظَّم وفقًا لبعض المبادئ الفلسفية ويبقى رغم ذلك عُرفًا. ومن أمثلة ذلك قانون مانو وجستينيان. ومن غير المُمكن «وضع» القوانين ما لم تضعُف سلطة الأسلاف وتقلَّ سطوتهم بحيث لا يتهيَّب العقل من الاعتراض على التقاليد الموروثة بسَنِّ قوانين وضعية. وحتى في هذه الحالة ثَمَّةَ كراهة لوضع القوانين. وهناك مرحلة انتقالية تمتدُّ فيها التقاليد الموروثة عن طريق التأويل لتشمَل الحالات الجديدة ولتمنع الرذائل والشرور. والتشريع رغم كلِّ شيءٍ لا بُدَّ له من أن يجِدَ أرضًا صُلبة من الأعراف الموجودة. وسرعان ما يتبيَّن أن التشريع لكي يكون قويًّا ينبغي أن يكون مُتَّسقًا مع العرف، فما كان في العُرف والتقليد يُصبح في حماية الشرطة ثُمَّ في حماية القانون الوضعي، وتحلُّ الممنوعات (القانونية) محلَّ المُحرَّمات، وتُنظَّم العقوبات بحيث تكون ردْعًا لا انتقامًا.

كيف تختلف القوانين والمؤسَّسات عن الأعراف

عندما تُصبح الطُّرق الشعبية مُؤسَّساتٍ أو قوانين تكون قد غيَّرَت طابعها ووجَب تمييزها عن الأعراف. إن العنصر العاطفي والإيماني باطنٌ في صميم العُرف بينما تتحلَّى القوانين والمؤسَّسات بطابعٍ عقلاني وعملي تتَّسِم بدرجةٍ أكبر من الآلية والنفعية. أما الفارق الكبير فهو أن للمؤسَّسات والقوانين طابعًا وضعيًّا بينما الأعراف هي شيء غير مصوغ وغير معرَّف. ثمَّة فلسفةٌ مُضمَرة في الطُّرق الشعبية، وعندما يصرَّح بها تُصبِح فلسفة بالمعنى التقني.

حين يتصرَّف المرء وفقًا للقوانين والمؤسَّسات يكون فعله واعيًا إراديًّا، أما الطرق الشعبية فيتَّبِعها الناس دائمًا عن وعيٍ وغير إرادة، فللطُّرق الشعبية سِمةُ الضرورة الطبيعية. قد يُعكِّر التأمُّل والشكُّ البحثي صفوَ هذه العلاقة التلقائية، وتحلُّ القوانين بوصفها أحكامًا وضعية محلَّ العُرف والتقليد، غير أنَّ العُرف سرعان ما ينشَط وينهض بعمله حيثما فشِلت القوانين والمحاكم. إن الأعراف تُغطِّي النطاق العريض للحياة العامة حيث لا قوانين ولا أحكام شرطة، وتبسط سُلطانها على مجالٍ هائل وغير مُحدَّد، وتقتحم مجالاتٍ جديدة لم تتحدَّد ضوابطها بعد. يتبيَّن من ذلك أن العُرف ينشئ قوانين جديدة ولوائح بوليسية في الأوان المناسب.

تصلُّب الأعراف وقصورها الذاتي

هكذا ينبغي أن نتصوَّر الأعراف على أنها نسَقٌ عريض من الأحكام التي تشمل الحياة كلها وتخدُم مصالحها جميعًا، وتحمل في ذاتها مُبرِّراتها عن طريق التقليد الموروث والاستخدام والعادة، ويُسلِّم الناس بها خضوعًا لسطوةٍ سرية باطنة إلى أن تُؤسَّس، عن طريق التأمل العقلي، تعميماتها الفلسفية والأخلاقية الخاصَّة، والتي تَرقى عندئذٍ لتُصبِح «مبادئ» الحق والصواب.

تُسيطر الأعراف على كلِّ جيلٍ ناشئ وتُخضعه لسُلطانها، والأعراف لا تُحفِّز الفكر بل تُثبِّطه. فالتفكير قد تَمَّ وقُضِي أمرُه وتجسَّد في الأعراف، ولا تحمِل الأعراف على الإطلاق أيَّ احتمالات بمُراجعتها وتعديلها؛ فالأعراف ليست أسئلةً بل أجوبة، أجوبة عن مسائل الحياة، وهي تقدم نفسها كشيءٍ نهائي وغير قابلٍ للتغيير؛ لأنها تُمثِّل أجوبةً مُقدَّمة بوصفها «الحقيقة».

ليس بوُسع أيَّةِ فلسفةٍ شعبية أن تُقدِّم نفسها كشيءٍ مرحليٍّ وغير مُكتمِل وقابلٍ للدَّحْض غدًا مع نموِّ المعرفة؛ فهذا التوجُّه الفلسفي حديثٌ للغاية، ذلك أنه يُكلِّف المرء عَنَتًا ذِهنيًّا شديدًا. إن جميع الشعوب التي نرى أعرافَها أدنى مُستوًى من أعرافنا هي على قناعةٍ تامَّة بما لدَيها من أعرافٍ مِثلما نحن على قناعةٍ بما لدَينا. فالأعراف إنما تُقيَّم بمدى تجاوُبها مع ظروف الحياة ومصالحها في زمانٍ ومكانٍ مُعيَّنَين، ومن ثمَّ فمن الصلاح والتيسير ألا يُوليها أحدٌ تفكيرًا أو تأمُّلًا بل يتعاون الجميع في تنفيذها غريزيًّا.

وتُقدِّم لنا شعوب جنوب شرق آسيا مثالًا واضحًا لثَبات الأعراف وتصلُّبها؛ فالخوف من الأشباح وعبادة السَّلَف هناك تضمَن للعُرف الاستمرار والبقاء عن طريق السلطة الدوجماوية والتحريم القاطع والعقوبات الثقيلة. هنالك تفقِد الأعراف طبيعتها وحيوِيَّتها وتُصبح قوالب مَكرورة لا صِلة لها بالنفع والمُلاءمة ومُقتضى الحال. تُصبِح غايةً في ذاتها، تفرِضها السلطة الآمِرة، دون اعتبارٍ للمصالح والظروف (الطبقات، زواج الأطفال، حرق الأرامل …) حين يسقط أي مجتمع تحت هيمنة هذا المرض العُرفي يُصبح التعليم كلُّه حفظًا لأقوال حُكماء الماضي الذين وضعوا صياغات الأعراف. تُصبح هذه الكلمات «كتابات مُقدَّسة» كلُّ عبارة منها هي قاعدة سلوك يجِب أن تُطاع، بصرف النظر عن المصالح الحاضرة، وبصرف النظر عن أيِّ اعتباراتٍ عقلانية.

الأعراف والأخلاق – الدستور الاجتماعي

تُقدِّم الأعراف لكلِّ شخصٍ تصوُّرًا عما ينبغي أن يكون، وتُقدِّم تصوُّرًا عمَّا تكونه اللياقة والرِّقَّة والإحسان والأدب والنظام والواجب والصَّواب والحقوق والنظام والاحترام والتوقير والتعاون والزَّمالة، وتُقدِّم تصوُّرًا عمَّا يكونه الخير والشر. وبوُسع الأعراف أن تجعَل أشياء مُعيَّنةٌ تبدو صوابًا وخيرًا لجماعةٍ مُعيَّنة وعصرٍ مُعيَّن، وأن تجعل هذه الأشياء نفسها لجماعةٍ أخرى وعصرٍ آخر تبدو مُضادَّةٌ لكلِّ طبيعةٍ إنسانيةٍ وكلِّ غريزة بشرية. انظُر إلى القرن الثالث عشر كيف ربَّى في كلِّ قلبٍ شُعورًا تجاه الهراطقة جعل أعضاء محاكم التفتيش يُبْدون في دعاواهم القضائية ارتيابًا لا يقلُّ عن ارتِياب أهل زمانِنا إذا ما عمدوا إلى إبادة الحياة ذات الجرس. كذلك كان القرن السادس عشر يُثير حول السَّحرة من الانطباعات ما جعل مُضطهِدي السحرة يعتقدون أنهم يَشنُّون حربًا مُقدَّسة ضِدَّ أعداء الله والبشر.

لا تعدو فلسفة الحياة في أي عصر من العصور أن تكون تأمُّلًا في الأفق الذهني الذي أفرزَتْه الأعراف والأفكار السائدة التي تقبَعُ في الأعراف ذاتها، و«الأخلاقيات» morals الخاصة بعصرٍ من العصور ليست أكثر من تَوافُق ما يفعله المرء مع ما تقضي به الأعراف في ذلك العصر. والفلسفة، مُتضمِّنةٌ علم الأخلاق، ليست سوى تعميماتٍ من العُرف؛ فهي لاحقةٌ على العُرف ومُستمدَّة منه، ولا يصحُّ أن نعكس السهم ونتَّجِه من التعميمات الفلسفية إلى العادات ونظنَّ للفلسفة الخلقية نفوذًا بينما هي مُشتقَّة من العادات.

قد ترِدُ على المجتمع عناصر جديدة ومُستحدَثات يأتي بها العِلم والفن في فتوحهما الجديدة في الطبيعة. هنالك تتبدَّل الأعراف بأن تُكيِّف نفسها للظروف والمصالح الجديدة. عندئذٍ يأتي دَور الفلسفة وعلم الأخلاق لكي يُسوِّغا التغيُّرات التي جرَتْ في الأعراف ويُقدِّما تبريرًا عقليًّا لها، ولكي يزعما أيضًا، في كثيرٍ من الأحيان، أنهما هما اللذان اجترَحا هذا التغيير. إنَّ الفلسفة وعِلم الأخلاق لا يفعلان أكثر من أن يَمُدَّا خطوطًا جديدة من العلاقات بين عناصر العُرف وبين الأُفق الفكري الذي ينغمِسان فيه، والذي هو مُستنبَط من العُرف. قد يتَّسِع هذا الأفق الفكري بالمعارف الجديدة، غير أنه في نهاية المطاف تعميم من العُرف شأنه شأن أيِّ أفق فكري في أي عصر آخر. وهو دائمًا شيءٌ غير واقعي بل إفراز للفكر لا أكثر. إن فلاسفة الأخلاق يتخيَّرون نقاطًا على هذا الأفق ينطلِقون منها، ويظنُّون أنهم قد ظفِروا بسُلطة مُعيَّنة لأنساقهم الفلسفية، بينما هم يعودون القهقرى من التعميم إلى العادة المُعيَّنة التي استُنبِط منها التعميم. ولنا في محاكم التفتيش ومُضطهِدي السحرة، الذين بذلوا جُهدًا مُخلصًا دءوبًا لتحقيق غاياتهم المُختارة دون انتظار ثمن، مثالٌ يُبيِّن لنا الصِّلة بين الأعراف من جهةٍ وبين الفلسفة والأخلاق والدين من جهةٍ أخرى.

الشرف، اللياقة، الحسُّ المُشترَك، الضمير

ومعايير الشرف واللياقة والحس المشترك والضمير، كلها مُستمدة من العرف، وكلها تجلِّيات أخرى للطُّرق الشعبية. وأية أفكار عن حقائق أزلية للفلسفة والأخلاق مُستمدة من أي مصدرٍ خارج عن البشر وعن صراعاتهم من أجل العيش الرَّخي تحت شروط الأرض وظروفها، يجِب أن تُرفَض باعتبارها أساطير وخرافات.

وحين يُلصق الإثنوغرافيون نعوتًا ازدرائية بالشعب الذي يدرُسونه، فإنهم بذلك يُصادرون على المطلوب الأهم الذي نريد أن نبحثه ونستقصيه، أي: ما هي المعايير أو الدساتير أو المفاهيم الخاصة بالعِفَّة والكياسة واللياقة والتواضُع … إلخ، ومِمَّ تنشأ؟ تشتمل الوقائع الإثنوغرافية على جواب هذا السؤال. الأخلاق هي إملاءات العُرف، وكلمة «لا أخلاقي» لا تعني أكثرَ من ذلك الذي يُناقِض العُرف الخاص بزمانٍ ومكانٍ ما. من هنا أمكن للعُرف والأخلاقية أن يتحرَّكا معًا، وليس ثَمَّة من معيارٍ دائم وعمومي يُمكن به تأسيس الصواب والحق فيما يتَّصِل بهذه الأمور ويُمكن به المُقارنة بين الطُّرق الشعبية ونقدِها.١٠

(١-٢) ولتر. ت. ستيس: الأخلاق ليست نسبية

اليمين واليسار الأخلاقيان

يقول ولتر ستيس إنَّ هناك رأيًا واسع الانتشار هذه الأيام في الأوساط الفلسفية، يُطلق عليه اسم «النسبية الأخلاقية» ethical relativism. إنَّ مِن المؤكد أنَّ ما يعنيه هذا التعبير أو يتضمَّنه على وجه التحديد هو شيء غير واضح، إلَّا أنه بلا شك ينهض كعنوان لآراء مجموعة من فلاسفة الأخلاق الذين يُعدُّ موقفهم مُمثلًا على وجه التقريب للجناح الأيسر المُتطرِّف بين المُنظرِّين الأخلاقيين في الوقت الراهن. وربما أمكن المرء أن يفهم هذا الموقف أفضل فهمٍ بأن يضَعَه مَوضِعَ مُقارنة مع الرأي المقابل الذي يذهب في التطرُّف مذهبًا مُعاكسًا، والذي نشأت النسبية الأخلاقية ولا شكَّ كردِّ فعلٍ احتجاجي ضدَّه. إن بوُسع المرء أن يُميز بوضوح بين جناح يميني وجناح يساري من فلاسفة الأخلاق؛ فأصحاب النزعة النسبية يُمثِّلون الجناح اليساري. إنهم الثوريون الحاذقون العصريون. أما الجناح اليميني، ويمكن أن نُطلِق عليهم أصحاب النزعة المُطلقة في الأخلاق ethical absolutists فهم المُحافظون أهل القديم.١١

المذهب المُطلق في الأخلاق Ethical Absolutism

يرى أصحاب النزعة المُطلقة أن هناك شريعةٌ أخلاقية واحدة فقط هي الصحيحة والصادقة بصفةٍ أبدية. هذه الشريعة الأخلاقية تنطبق على جميع البشر بمُساواة صارمة؛ فما يُعدُّ واجبًا بالنسبة لي يجِب أن يكون أيضًا واجبًا بالنسبة لك، وسيصدُق هذا سواء كنتَ إنجليزيًّا أم صينيًّا أم من شعب الهوتنتوت. فإذا كانت عادة أكل لحوم البشر شيئًا بغيضًا في إنجلترا أو أمريكا، فهي شيء بغيض أيضًا في أفريقيا الوسطى حتى لو رأى الأفريقي غير ذلك. فإذا كان الأفريقي لا يرى بأسًا بمُمارساته الكانيبالية فإن هذه الحقيقة لن تجعل هذه المُمارسات صائبة بالنسبة له. إنها مُنافية للأخلاق بالنسبة له بقدْر ما هي مُنافية للأخلاق بالنسبة لنا. لا فرق هناك إلَّا أنه همَجي جاهل لا «يعرف» هذه الحقيقة. ليس هناك قانون يخصُّ إنسانًا أو عنصرًا من البشر وقانون يخصُّ إنسانًا آخر أو عنصرًا آخر. وليس هناك معيار أخلاقي للأوروبيين وآخر للهنود وثالث للصينيين، بل هناك قانون واحد وأخلاق واحدة لجميع البشر، وهذا المعيار أو القانون هو مُطلق لا يتبدَّل.

وكما أنَّ القانون الأخلاقي الواحد يبسط سُلطانه على جميع أرجاء الأرض، فإنَّ تطبيقه أيضًا لا تَحدُّه أية اعتبارات تتعلَّق بالزمان أو الحقبة الزمنية، فما هو صواب اليوم كان صوابًا في أزمنة اليونان وروما، بل في أزمنة إنسان الكهف ذاتها، وما هو شر اليوم كان شرًّا آنذاك. وإذا كان الرقُّ شيئًا مَقيتًا أخلاقيًّا في زمَنِنا هذا فلقد كان مقيتًا في زمن الأثينيين القدامى، لا ينقص من مقتِهِ أن عُظماءهم كانوا يقبلونه كوضعٍ ضروري للمجتمع الإنساني. وما كان رأيهم ليجعلَ من الرقِّ خيرًا أخلاقيًّا بالنسبة لهم، إنما يكشف فحسب عن أنهم، برغم سموِّ تَصوُّراتهم فيما عدا ذلك من شئون، كانوا يجهلون ما هو صواب وخير في هذا الشأن.

وليس أصحاب النزعة المُطلقة بغافلين عن حقيقة أن العادات الأخلاقية والمُثُل الأخلاقية تختلف من بلدٍ إلى بلد ومن عصر إلى عصر، فالحقُّ أنَّ هذا شيء ظاهر لا خلاف فيه؛ فنحن نرى اليوم أن الرقَّ خطأ من الوجهة الأخلاقية بينما كان الإغريق يرونه جائزًا أخلاقيًّا. ومن المؤكد أن لدى سُكان غينيا الجديدة مُثلًا أخلاقية مُختلفة عن مُثلنا غاية الاختلاف. ولكن إذا كان الإغريق أو سُكان غينيا الجديدة يرون شيئًا ما صوابًا فليس لهذه الحقيقة أن تجعل هذا الشيء صوابًا، حتى بالنسبة لهم، ولا لحقيقة أنَّنا نرى الأشياء نفسها خطأ أن تجعلها خطأ، إنما هي «في ذاتها» إما صواب وإما خطأ، ومهمتنا هي أن «نكتشف» هل هي صواب أو خطأ. والأمر هنا شَبيه تمامًا بنظيره في مسائل العلوم الطبيعية؛ فنحن اليوم نعتقد في كروية الأرض، وإذا كان أسلافنا قد اعتقدوا أنها مُسطَّحة فإنَّ ذلك لا يُثبِت أنها كانت مُسطحة وصارت الآن كروية، بل يَعني أنَّ البشر كانوا في العصور القديمة «يجهلون» شكل الأرض وقد «عرفوا» حقيقة ذلك الآن. كذلك إذا كان الإغريق قدا اعتقدوا أن الرقَّ مشروع أخلاقيًّا، فليس هذا دليلًا على أن الرقَّ كان بالنسبة لهم وفي ذلك العصر شيئًا مشروعًا أخلاقيًّا، بل بالأحرى على أنهم كانوا يجهلون الحقيقة في هذا الشأن.١٢

وصاحِب المذهب المُطلق في الأخلاق ليس مُلتزمًا في حقيقة الأمر بالرأي القائل بأن دستوره الأخلاقي، أو دستورنا، هو الدستور الحق. إن له، من الوجهة النظرية على أقلِّ تقدير، أنْ يَعُدَّ الرق أمرًا مُبررًا أخلاقيًّا، وأن يذهب إلى أنَّ الإغريق كانوا يعرفون عن هذا الأمر أكثر مِمَّا نعرف. وكلُّ ما عليه أن يلتزِم به حقًّا هو الرأي القائل بأنه أيًّا ما كان الدستور الأخلاقي فإنه دائمًا نفس الدستور، لجميع البشر، في جميع الأزمنة. ولن ينال من اتِّساق مذهبه أن يعتقد أن الإنسانية ما يزال أمامها الكثير لكي تتعلَّمه في المسائل الأخلاقية. وإذا عَنَّ لأحدٍ أن يقول بأن تَصوُّراتنا الأخلاقية سوف تبدو بعد خمسمائة عامٍ بربريةً بالنسبة لأهل ذلك الزمن المستقبلي بقدْر ما تبدو أخلاق العصور الوسطى بربريةً بالنسبة لنا اليوم، فلن يضيره هذا الرأي شيئًا ولن يَلزَمه إنكاره، لا ولن يَلزَمه الإنكار إذا ارتأى أحدٌ أن الأخلاق المسيحية ليست نهائية على الإطلاق وأنها سوف تنتهي في العصور القادمة وتحلُّ محلَّها مُثلٌ أخلاقية أكثر نُبلًا بكثير.

ذلك أن لُبَّ المذهب المُطلَق في الأخلاق هو أنَّ الأخلاقية شيء موضوعي وليس من صُنع الإنسان، وأن مبادئ الأخلاق حقائق واقعية يجِب على البشر أن يتعلَّموها (مِثلما أن عليهم أن يتعلَّموا الحقائق عن شكل العالم). وهم ربما كانوا على جهلٍ بها في الماضي، وليس ما يمنع من أن يكونوا على جهل بها الآن.

لذا فعلى الرغم من أن المذهب المُطلق مُحافظ بمعنى أن الشخصيات الأكثر جسارة تَعُدُّه مذهبًا عتيقَ الزي، فإنه ليس بالضرورة محافظًا بمعنى التشبُّث الأعمى بالأفكار والنُّظم الأخلاقية القائمة. وإذا كان أصحاب المذهب المُطلَق مُحافظين أحيانًا بهذا المعنى أيضًا فذلك شأنهم الشخصي؛ فمثل هذه مُحافظةٌ عرَضية وليست ضرورية للمذهب المُطلق. وثَمَّة سببٌ منطقي في حقيقة الأمر يمنع صاحب المذهب المُطلق من أن يكون شُيوعيًّا أو فوضويًّا أو سورياليًّا أو من دُعاة الحرية الجنسية. صحيح أنه عادةً ليس واحدًا من هؤلاء، ولكننا قد نُعلِّل ذلك بأسباب شتَّى ليس من بينها المنطق الصِّرف الذي يقوم عليه موقفه الأخلاقي؛ فصاحِب المذهب المُطلق ليس ملتزمًا إلَّا برأيٍ واحد: أنَّ كل ما هو صواب أخلاقيًّا (سواء أكان الحرية الجنسية أو واحدية الزواج أو العبودية أو الكانيبالية أو التغذية النباتية) فهو صواب أخلاقيًّا لجميع البشر في جميع الأزمنة.

ويَمضي صاحِب المذهب المُطلق عادةً إلى أبعدَ من هذا، فيذهب إلى أنَّ القانون الأخلاقي ليس فقط واحدًا لجميع البشر على هذا الكوكب (الذي لا يعدو بعدَ كلِّ شيء أن يكون ذرَّةً دقيقة في الفضاء)، بل إن القانون الأخلاقي، بشكلٍ ما وبمعنًى ما، يَسري على كل مكان في العالم (يسري على كلِّ الكائنات العاقِلة شاملةً الملائكة وأهل المريخ إن كانوا كائنات عاقلة). وهو خليق أن يرى القانون الأخلاقي جزءًا من بِنية الكون الأساسية.١٣

يرى ولتر ستيس أنَّ هناك أسبابًا تاريخية (كشيء مُختلف عن المُبرِّرات المنطقية) أسهمت في انتشار المذهب المُطلَق وجعلت منه تفسيرًا مقبولًا للأخلاقية كما تفهمها الشعوب الأوروبية. من هذه الأسباب اللاهوت المسيحي؛ فنحن، من وجهة نظر ستيس، نعيش في حضارة مسيحية نمَتْ خلال ألفي سنة في تُربة التوحيد المسيحي، ذلك أنَّ التوحيد مُتأصِّل في طريقة تفكيرنا في جميع الأمور بما فيها الأفكار الأخلاقية، ولا يُمكن الفِكاك منه خلال جيلٍ أو جيلين، وما كان لموجةِ الشكِّ الديني التي اجتاحتْنا خلال العقود الأخيرة أن تقتِلعه، فالشخص مِنَّا يتشرَّبه منذ الصِّغر فتتشكَّل به قوالبه الذهنية. إن الأفكار الأخلاقية حتى عند أعتى المُناوئين للعقائد المسيحية بفِكرهم إنما هي أفكار مسيحية! وربما سيبقى هذا هو وجه الأمر لقرونٍ عديدة قادمة، حتى إذا انتهى المطاف باللاهوت المسيحي، بوصفه مجموعة من الاعتقادات الفكرية، إلى الإمحاء ورفَضَتْه كلُّ الأذهان المُثقَّفة، وربما سيبقى ما بقيت حضارتنا. إنها مُتشكِّلة بالتوحيد المسيحي ولا يُمكنها أن تنضوَ عنها هذا التأثير في أيِّ وقتٍ من عمرها، تمامًا مِثلما يتعذَّر على الطفل أن ينضوَ عنه التأثيرات الأخلاقية التي تشرَّبَها منذ نعومة أظفاره وتشكل بها مهما أدخل على نتائجها فيما بعدُ من تعديلاتٍ طفيفة، ومهما اعتراه في الكِبَر من تغيُّراتٍ في العقيدة الفكرية.

ليس من الصَّعب أن نتبيَّن الصِّلة بين المذهب المُطلق والتوحيد المسيحي؛ فإبان سيطرة الشريعة المسيحية كان الرأي أنَّ الأخلاقية تصدُر عن إرادة الله وهي مصدر واحدٌ وكافٍ تمامًا، ولا معنى إذن عند المؤمن البسيط لأن يسأل عن أُسُس الأخلاقية والواجب الأخلاقي، فمجرَّد السؤال عن هذا الأمر يحمِل شُبهة الارتياب ويُعدُّ علامةً على شكٍّ ديني استهلالي. إن واضع القانون الأخلاقي هو الله، فالذي يُرضي الله ويأمُر به الله فهو تعريف الصواب، والذي يُغضب الله وينهى عنه الله فهو تعريف الخطأ. وبما أن الله واحدٌ وعقلاني ومُتَّسِق مع ذاته ومُنزَّه عن النَّزَوات والتقلُّبات فإنَّ إرادته وأوامره لا بدَّ أن تكون واحدة في كلِّ زمانٍ ومكان. وإذا كان الوثنِيُّون يرَون رأيًا أخلاقيًّا آخَرَ فليس ذلك إلَّا لأنهم يجهلون الإله الحقيقي، ولو أنهم عرفوه لكانت قواعدهم الأخلاقية هي قواعدنا.

إنَّ عقائد تعدُّد الآلهة تحتمِل عددًا من الشرائع الأخلاقية المُتباينة؛ لأن إله الغرب قد تكون له آراء مختلفة عن إله الشرق، وإله الشمال قد يأمُر عباده بأوامر مُختلفة عن إله الجنوب. أما الدين التوحيدي فليس فيه غير عالم واحد وأخلاق مُطلقة، ذلك هو السبب في أن المذهب المُطلق كان حتى عهدٍ قريبٍ هو مذهب الفلاسفة، بل كان يُسلَّم به تسليمًا دون أي جدل.١٤

النسبية الأخلاقية

يذهب ولتر ستيس إلى أنَّ النسبية الأخلاقية هي جُزء لا يتجزأ من النزعة الثورية في العصور الحديثة، وأنها بخاصة جُزء من انهيار الاعتقاد في دوجماويات الدين التقليدي. فقد كان المذهب التقليدي مُدعمًا بالتوحيد المسيحي، فلمَّا انحسَرَ هذا الدعم مع انتشار الشكِّ الديني في هذا العصر، أخذ المذهب المُطلَق في الانهيار. إنَّ الحركات الثورية، كقاعدةٍ عامة، هي حركات سلبية صِرف، ولا سيما في بدايتها، فهي تُهاجم وتهدِم؛ لذا فالنسبية الأخلاقية هي في جوهرها مذهب سلبي خالص. النسبية الأخلاقية هي، ببساطة، إنكارٌ للمذهب المُطلق (ومن ثَمَّ كان فهمها منوطًا بفهم المذهب المُطلق) أي إنكار أن يكون هناك مِعيار أخلاقي واحد صالِح لكلِّ زمان ومكان: ليس ثَمَّة قانون أخلاقي واحد أو دستور واحد أو معيار واحد، بل هناك قوانين أو دساتير أو معايير أخلاقية عديدة؛ الدستور الأخلاقي الصيني مثلًا يختلف عن دستور الأوروبيين تمام الاختلاف، ودستور البدائيين الأفريقيين يختلف عن كلا الاثنين تمام الاختلاف. كل أخلاقية، إذن، هي منسوبة إلى الزمن والمكان والظروف التي وُجدت فيها، ومن ثَمَّ فهي ليست مُطلقة بأي معنى من المعاني.

ليس يعني ذلك، كما قد يتبادَر إلى الذهن للوهلة الأولى، أنَّ ما «يُعتقد» أنه فعلٌ صائب في بلدٍ وعصرٍ ما قد «يُعتقد» أنه خطأ في بلدٍ آخر وعصرٍ آخر، فهذا أمرٌ غنيٌّ عن القول ويعرفه القاصي والداني ويُسلِّم به الجميع حتى صاحِب النزعة المُطلقة (بل هو يؤكده وينطلِق منه ليصِل إلى أن بعض هذه الدساتير الأخلاقية زائف). إن داعية النسبية الأخلاقية لا يقول فحسْب بأنَّ هناك شرائع أخلاقية مُختلفة باختلاف القوام واختلاف الأعصر، فهذا «قولٌ نافلٌ» platitude ومُبتذل، وإنما يقول بأن النَّمَط ذاته من الأفعال قد «يكون» صوابًا في بلدٍ وعصرٍ و«يكون» خطأ في بلدٍ آخر وعصرٍ آخر. وهو قولٌ جريء ومُروِّعٌ وليس بداهةً يعرفها الجميع، فالقول بأنَّ هناك معايير مختلفة للأخلاق (ومعيار هنا يعني ما «يعتقد» الناس أنه صواب) قولٌ مبتذلٌ تافِه. أما القول بأن هناك معايير مُختلفة (ومعيار هنا يعني ما هو صائبٌ حقًّا) فهو قولٌ جريءٌ ولافتٌ، ولا بُدَّ من أن نُميِّزَ بين هذَين المَعنَيين لكلمة «معيار» standard، لأننا حين نخلِط بينهما ونستخدم الكلمة بمعنى ما «يعتقد» الناس أنه صواب فنحن نُضفي على النسبية معقولية أكثر مِمَّا فيها.١٥
النسبي الحقيقي، إذن، لا يعني بمذهبه أن الصينيين مثلًا قد يُصيبون التفكير فيما أخطأ فيه الفرنسيون، إنما يعني أن ما هو خطأ لدى الفرنسيين قد يكون صوابًا لدى الصينيين. فإذا سألته كيف يتأتَّى للمرء في تلك الظروف أن يعرِف ما هو الصواب حقًّا في الصين أو في فرنسا لأتت الإجابة فوريةً جاهزة: ما هو صواب في الصين هو بِعَينه ما يرى الناس في الصين أنه صواب، وما هو صواب في فرنسا هو ما يرى الناس في فرنسا أنه صواب. يذهب النسبي إذن إلى أنَّ ما يعتقد الناس في مكانٍ ما أنه صواب فهو صواب بالنسبة لهم، أي أن «ما هو صواب» مساوٍ ﻟ «ما يُعتقد أنه صواب»، ولا داعي من ثَمَّ للتمييز بين معنَيين لكلمة «معيار» standard فهناك معيار واحد للصواب والخطأ هو المُثُل الأخلاقية في مكان وزمان مُعيَّنين.

يستلزِم المذهب النسبي إذن (وإن كان ذلك يَسُوء النسبي) أنَّ الكانيبالية صواب بالنسبة للكانيباليين، والأضحية البشرية صواب بالنسبة لأولئك الأقوام الذين يُمارسونها، وحرْق الأرامل أحياء في الهند كان صوابًا بالنسبة لأهل الهند قبل أن يدخُل الإنجليز ويُرغِموهم على الفعل اللاأخلاقي باستحيائهن (أي بالإبقاء عليهن أحياء)!

وليس معنى ذلك أنَّ النِّسبي يؤمن بوجود معايير موضوعية صادِقة مُتعدِّدة بتعدُّد البلاد والأعصر. إنه، ببساطة، يُنكر وجود معيار موضوعي؛ فكلُّ المعايير الأخلاقية عنده ذاتية، والمشاعر الذاتية للناس عن الأخلاقية هي المعيار الوحيد الذي يُوجَد. ليس ثمة إذن غير معايير مُتباينة محلية زائلة، وليس هناك غير معنًى واحد لكلمة «معيار» وهو المُثُل المحلية المختلفة، فإن لم يكن بدٌّ من التمييز بين معنَيَين لكلمة «معيار» فإن المعنى المُطلَق لا يحمِل أيَّ أمثلة.١٦ ومن ثمَّ فإن كلمة «معيار» بالمعنى المُطلق هي «حدٌّ فارغ» ليس له في الواقع ما ينطبق عليه. وبالتالي فإن التمييز بين المعنيين هو تمييز عابِث لا جدوى منه.

(١-٣) حُجَج النِّسبية

  • أولى حُجَج النسبية، وتُسمَّى أحيانًا «الدليل الأنثروبولوجي»، هي الوجود الفعلي لمعايير أخلاقية مُتباينة في العالم. وقد زادت مَعرفتنا بها بعدَ انتشار مَوجات الكشوف الأنثروبولوجية التي أكدَّت اختلاف المعايير وعدم وجود معيارٍ واحد. غير أنها حُجَّة ضعيفة، ذلك أنَّ صاحِب النزعة المُطلَقة لا يُنكر تعدُّد المعايير بهذا المعنى، وهو يفسرها بجهل الناس بالحقيقة الأخلاقية بنفس الطريقة التي يَجهلون بها الحقائق الأخرى (عن العلوم الطبيعية مثلًا). لقد كان دأب الناس أن يختلفوا في كلِّ الموضوعات، وإذا كان اختلاف الناس حول شكلِ الأرض ليس دليلًا على أنَّ الأرض ليس لها شكل. كذلك اختلاف الآراء الأخلاقية لا يُثبِت أن ليس هناك أخلاق حقَّة واحدة.

    إنَّ كشوف الأنثروبولوجيين لم تُضِف شيئًا جديدًا إلى ما كُنَّا نعرفه ونُسلِّم به من اختِلاف القِيَم. لقد أضافَتْ تأثيرًا نفسيًّا فقط، واستغلَّها النِّسبيُّون باسم العِلم ليُرهبوا بها عقول البُسطاء. هذا هو سِرُّ الضجَّة الفارغة التي اصطنعها النِّسبيُّون بشأن الدليل الأنثروبولوجي.١٧
  • والحُجَّة الثانية للنسبية الأخلاقية هي الدعوى بأنَّ ليس بمقدور أحدٍ أن يكتشِف الأساس الذي يُمكن أن تقوم عليه أخلاقيةٌ مُطلقة، أو يكتشف المصدر الذي يُمكن لدستورٍ أخلاقي مُلزمٍ عالميًّا أن يصدُر منه ويستمِدَّ سلطته. فإذا كان هناك، على سبيل المثال، قاعدة أخلاقية مُطلقة ثابتة توجِب على الناس أن يكونوا غير أنانيين، فمن أين يصدُر هذا الأمر؟ (لأن القاعدة الأخلاقية هي دائمًا أمرٌ مهما اختلفت صياغَتُنا لها، فلا فرق في المعنى بين أن تقول «ينبغي ألَّا تكون أنانيًّا» وبين أن تقول «لا تكُن أنانيًّا». حسنٌ، وكلُّ أمرٍ يتضمَّن آمِرًا، وكل إلزام يتضمَّن سُلطة مُلزمة، فما هي هذه السلطة؟)

    تخلُص النزعة النسبية إلى أنَّ من المُحال العثور على أيِّ أساسٍ يقوم عليه أيُّ قانونٍ أخلاقي مُلزِم عالميًّا، بينما من السهل اكتشاف أساسٍ للأخلاقية إذا سلَّمْنا بأنَّ الشرائع الأخلاقية مُتباينة عابرة محدودة بحدود الزمان والمكان والظروف، أي نِسبية. وإذا كان الأساس الديني لأخلاقيةٍ مُطلقة واحدة قد انتهى في نظر الكثيرين فإلامَ تستنِد الأخلاق المُطلقة؟ هل تستنِد إلى أساسٍ دنيوي؟ فإذا استحال ذلك فليس أمامنا إلا التسليم بتعدُّد الشرائع الأخلاقية التي قد تتناقض فيما بينها، والتي لا تبسط سُلطانها إلا على مناطق محدودة وفترات زمنية محدودة، وليس بينها ما هو أفضل من الآخر، إذ إن كلَّ شريعة منها ستكون خيرًا وحقًّا بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في تلك المناطق والأزمنة. ليس أمامنا، باختصار، إلَّا التسليم بالنسبية الأخلاقية.١٨

(١-٤) الحُجَج المُضادَّة للنِّسبية

  • من شأنِ النِّسبية أن تجعل المُقارنة بين الشرائع الأخلاقية المُختلفة شيئًا لا معنى له ما دامت كلُّ شريعة صوابًا بالنسبة لأهلها، بينما نحن نُقارن عادةً بين الحضارات من حيث الصواب الأخلاقي، فنقول مثلًا إن المعايير الأخلاقية الصينية أسمى من معايير سُكان غينيا الجديدة. وعلى الرغم من صعوبة المُقارنة العادلة واحتِمال الوقوع في السطحية والتعصُّب فإنَّ ذلك لا ينفي المبدأ: وهو أنَّنا نُقارن ونجِد للمُقارنة وجهًا ومعنى. نحن نُقارِن فعلًا بين أخلاق زماننا وأخلاق الأسلاف منذ خمسمائة عام؛ إذ كانوا يُجيزون الرقَّ والحرْق والتعذيب الوحشي، ونقول إن مَعاييرنا أسمى من معاييرهم. إنها مُقارنة مُمكنة، لها معنى ولها وجه وقابلة للنِّقاش العقلاني، ولكن إذا صحَّت النِّسبية الأخلاقية فلا معنى لأيِّ شيء من هذا، إذ ليس هناك معيار يُشكِّل أساسًا تقوم عليه مثل هذه الأحكام.

    ويتضمَّن هذا بدوره أنَّ فكرة «التقدُّم» الأخلاقي برمَّتها هي محْض وهم، فالتقدُّم يعني السير قدمًا من الأدنى إلى الأعلى، من الأسوأ إلى الأفضل، إلا أنه وفقًا للنسبية الأخلاقية فلا معنى لأن نقول إن معايير هذا العصر أفضل (أو أسوأ) من معايير عصر سابق؛ إذ لا يُوجَد معيار عام يمكن أن يقاس به كلٌّ من الطرفين.

  • ومن شأن النِّسبية أن تجعل حتى المُقارنة بين فردٍ وآخر داخل نفس الجماعة شيئًا مُمتنعًا، وذلك لغياب المعيار العام، وبذلك يكون كلُّ فردٍ معيار نفسه، ولا يعود هناك وجهٌ لطاعة أيِّ مبدأ، وبذلك نَسقُط في فوضى أخلاقية وانهيارٍ لكلِّ المعايير المُجدية.

  • ونحن حتى لو افترضْنا أنَّنا تغلَّبْنا على الصعوبة الخاصة بتحديد الجماعات الأخلاقية فإنَّ ثمَّة صعوبة أخرى ستُفصِح عن نفسها: كيف لنا أن نعرِف ما هو المعيار الأخلاقي الحقيقي داخل هذه الجماعة أو تلك؟ كيف يُمكن لأي فرد، حتى داخل الجماعة ذاتها، أن يعرِف ذلك المعيار؟ ذلك أنَّ من المؤكد أن هناك اختلافاتٍ في الرأي فيما يَكُونه الصواب والخطأ، على الأقلِّ بين الشعوب المُتقدِّمة، مَن إذن سيُؤخَذ رأيه على أنه يُمثِّل المِعيار الخلقي للجماعة؟ مِن المؤكد أنَّنا إمَّا أن نأخُذ برأي الأغلبية داخل الجماعة، وإما أن نأخُذ برأي أقليةٍ ما. فإذا ما استنَدْنا إلى آراء الأغلبية ستكون النتائج كارثية؛ فحيثما وُجِد بين شعبٍ من الشعوب ثُلةً صغيرةً من النفوس المُمتازة، أو ربما رجل واحد يعمل على تأسيس مُثُل أسمى وأنبلَ من تلك السائدة بين الجماعة، سنكون مُضطرِّين إلى الأخذ بأن الأغلبية على حقٍّ بالنسبة لذلك الشعب في ذلك الزمن، وبأن المُصلحين على خطأ وبأنهم يُبشِّرون بما هو غير أخلاقي. سيكون علينا مثلًا أن نَعتبِر المسيح مُبشِّرًا بمذاهب لا أخلاقية بين اليهود، وسيكون علينا دائمًا أن نُسوِّي ما بين الخير الأخلاقي وبين ما هو وسطَي نِصفي mediocre (وربما دنيء خسيس). فإذا أخذنا، من الجهة الأخرى، بآراء أقليَّةٍ ما على أنها المعيار الأخلاقي للجماعة، فمَن تكون هذه الأقلية؟ ليس بوُسعِنا أن نُجيب بأنها الأقلية المُؤلَّفة من أشدِّ الأفراد استِنارة بين الجماعة، فذلك أمر ينطوي على دَور منطقي واضح؛ إذ على أي أساسٍ ووفقًا لأيِّ مِعيار نحكُم على هؤلاء الأفراد بأنهم الأفضل والأكثر استنارة؟ ليس ثمَّةَ مبدأ يُمكننا أن ننتقيَ به الأقلية الصائبة؛ وعلينا بالتالي أن نعتبِر كلَّ أقليةٍ مُساوية لغيرها في الخير، ممَّا يعني أن ليس لنا أي حقٍّ منطقي في الاعتراض على أشقياء شيكاغو إذا زعموا أنَّ مُمارساتهم تُمثِّل أسمى معايير الأخلاق الأمريكية. ويعني في نهاية المطاف أن ليس هناك معيار مُلزم لأي فرد إلَّا مِعياره الشخصي.١٩
  • ليست النِّسبية الأخلاقية كارثية من حيث نتائجها النظرية فحسب، فمما لا شكَّ فيه أنها كارثية بنفس الدرجة من حيث أثرها على السلوك العملي، فإذا حملنا الناس حقًّا على الاعتقاد بأنَّ كلَّ مِعيار هو مِثلَ غيره فسوف يَستنتِجون أن مِعيارهم الخلقي الخاص ليس فيه ما يُزكِّيه على غيره، وربما يَنزلقون أيضًا إلى المعيار الأدنى والأسهل؛ ذلك أنَّ الأفكار، حتى الأفكار الفلسفية، ليست من الخمول بحيث تبقى إلى الأبد مُنزوية في الحجرات العُليا من الفكر، فهي تنسرِب في النهاية إلى المُستوى العملي وتُوجِّه الفعل والسلوك.

هذه إذن هي الحُجَج الرئيسية التي سيُوجِّهها نصير المذهب المُطلق ضِدَّ النسبية الأخلاقية، وربما يشرَع بعد ذلك في مُحاولة تشخيص منشأ النسبية واستِجلاء الظروف الاجتماعية والفكرية والنفسية المُعاصرة التي أدَّت إلى ظهور النسبية. لقد هجَرْنا وسطاء الوحي وكهنة الماضي (وكلُّ عصرٍ يفعل ذلك بطبيعة الحال)، غير أنَّنا، نحن الشعوب المُتحضِّرة افتراضًا، لم نضع محلَّهم من يقوم بعملهم ويُرشِدنا إلى أين نذهب. ماذا ينبغي أن تكون غاياتنا وقِيَمنا؟ ما الصواب؟ ما الخطأ؟ ما الجميل؟ ما القبيح؟ لا أحد يعرِف. نحن نتخبَّط ونرتدُّ من جهةٍ إلى أخرى، ولا نعرِف أين نقِف ولا أين نمضي.

هناك بالطبع ألوف الصيحات التي تدَّعي معرفة الحقيقة، ولكن بعضها يُناقِض بعضًا، ويُبطِل بعضها بعضًا، وفي هذا الخلط والاضطراب يتسرَّب إلينا الشكُّ واليأس؛ فما دام أحدٌ لا يعرِف الحقيقة فسوف نُنكر وجود الحقيقة، أو على الأقل نقول إنَّ ما يعتقد الناس في زمانٍ ومكانٍ ما أنه حقٌّ فهو حق. من هذا الخلْط والاضطراب العملي تصدُر هذه المذاهب النسبية، وعندما يُصاغ كلُّ هذا اليأس والانهزامية في مفاهيم مُجرَّدةٍ ويُجسَّد في فلسفةٍ يُطلق عليه عندئذٍ «النسبية» relativism: نسبية الأخلاق، نسبية الجمال، نسبية الحق. النسبية الأخلاقية هي، باختصار، النزعة الانهزامية في الأخلاق.
ونمضي في التشخيص، لعلَّ التشاؤم الراهن حول مستقبل البشرية هو تشاؤم لا مُبرِّر له. غير أنَّ هناك ولا شكَّ شعورًا سائدًا بأن حضارتنا تتردَّى في الهاوية، فإذا صحَّ هذا ولم يقِف أيُّ شيءٍ في وجه هذا الانهيار، فإننا نتصور مُؤرِّخًا في المستقبل يتناوَلُ عصرنا وانحلاله، ويشخِّص أسباب انهياره، ويجِدها مُعقَّدة مُتشابِكة، ويأخُذ في حلِّ الأسباب وتفكيكها ما شاء له الدَّرْس والتحليل. غير أنه لن يُغفِل سببًا سوف يُدرِجه في قائمة الأسباب:
فشل أهل هذا الجيل في أن يستمسِكوا بفِكرة المِثال الأخلاقي الدائم الذي لا يتبدل ولا يتغير، وأفضى بهم وهَنُ الفَهم الذهني والخُلقي إلى أن يعتنقوا فكرة أن ليس ثمَّة هدف أخلاقي أفضل من هدف، وأن كلًّا خيرٌ وحق بالنسبة لمُعتنقِيه. وهو ما يعني أنهم انخذلوا، وتخلَّوا عن الكفاح من أجل بلوغ الحق الأخلاقي. إن الحضارة تقوم على الكفاح الصاعد، ومن يتخلَّ عن الكفاح، فردًا كان أم أمَّة، فهو قد مات بالفِعل من الداخل.٢٠

(٢) النسبية اللغوية

وكانت الأرض كلها لغةً واحدةً وكلامًا واحدًا، وكان أنهم لمَّا رحلوا نحوَ المشرق وجدوا بُقعةً في أرض شنعار فأقاموا هناك، وقال بعضهم لبعضٍ نصنع لبنًا ونُنضِجه طبخًا، فكان لهم اللبن بدَل الحِجارة والحُمَر كان لهم بدَل الطين، وقالوا تعالوا نبنِ لنا بُرجًا رأسُه إلى السماء ونُقِم لنا اسمًا كي لا نتبدَّد على وجه الأرض كلها. فنزل الربُّ لينظر المدينة والبُرج اللَّذين كان بنو آدم يبنونهما، وقال الربُّ هو ذا هم شعب واحد ولجميعهم لغةٌ واحدةٌ وهذا ما أخذوا يفعلونه، والآن لا يكفُّون عمَّا همُّوا به حتى يصنعوه. هَلُمَّ نهبِط ونُبلبِل هناك لُغتَهم حتى لا يفهم بعضهم لغةَ بعض. فبدَّدهم الربُّ من هناك على وجه الأرض كلِّها وكفُّوا عن بناء المدينة؛ ولذلك سُمِّيَت بابل؛ لأنَّ الربَّ هناك بَلْبَل لُغة الأرض كلها، ومن هناك شتَّتَهم الربُّ على كلِّ وجهها.

[التكوين، الإصحاح الحادي عشر]
بالفلاسفة ولعٌ قديم باللغة، ومنذ نشأة الفلسفة أدرك الفلاسفة أهمية اللغة وارتباطها الوثيق بالفكر. وبحلول القرن العشرين أصبحت اللغة مبحثًا فلسفيًّا محوريًّا قائمًا بذاته. لقد بات واضحًا للجميع أنَّ أفضل طريقةٍ لحلِّ شتَّى المشكلات الفلسفية (أو تبديدها على أنها غير مشكلة!) هو أن نلتفِت إلى اللغة التي صِيغَت بها هذه المُشكلات ونُعيرها انتباهًا شديدًا. هذا الوعي المُتنامي باللغة والاعتماد المتزايد على التحليل اللغوي بين فلاسفة عصرنا، هو ما صار يُعرف ﺑ «المنعطف اللغوي» و«الانقلاب اللغوي» the linguistic turn.
هناك أسبابٌ كثيرةٌ جعلت للغة هذه الأهمية المُتزايدة بالنسبة للفلسفة، أولها أن مفاهيمنا وأفكارنا، وإن تكن تؤدَّى أحيانًا بدون استخدام أي لغة، هي في أغلب الأحوال مُرتبطة باللغة ارتباطًا وثيقًا. لقد تكشَّف لنا الآن أن اللغة هي مخزونٌ هائلٌ من «المقولات» categories (أي التصنيفات الفئوية) و«المفاهيم/التصورات» concepts يتعذَّر بدونه أي تفكيرٍ ثري مُعقَّد؛ ذلك بأن ما أُشيع عن اللغة فيما سلف من أنها مُجرَّد أداة للتعبير عن الفكر لم يَعُد رأيًا مقبولًا.٢١
ثمَّة موقِفان على طرَفَي نقيض يَشغلان النظرية اللغوية منذ أمدٍ طويل، ويَشغلان كلَّ عقلٍ تأمَّل العلاقة بين اللغة والفكر. يُقال للموقف الأول «نظريات القالب» mould theories، وهي تُمثِّل اللغة على شكل قالبٍ تُلقى فيه مقولات الفكر فتَتَّخِذ منه صورتها وهيئتها، ويُقال للموقف الثاني «نظريات العباءة» cloak theories، وهي تُمثِّل اللغة على شكل عباءة تُلقى على مقولات الفكر الخاص بالناطقين بها فتَتَّخِذ هي شكل الفكر وتمتد بامتداده وتنثني بانثنائه. وفرقٌ بين العباءة والقالب: العباءة تتشكَّل بك وترتجل هيئتك وأقطار جُرمك، والقالب يُشكِّلُك ويفرض عليك أقطاره وزواياه. العباءة تُوافِقك وتُطاوعك وتأتمِر بأمرك، والقالب يقهرُك ويُرغمك ويغلبك على أمرك. العباءة تَصُوغها، أما القالب فهو يَصُوغك.

ومن المُسلَّم به الآن أن مفهوم «اللغة الثوب» أو «الوعاء» أو «العباءة» قد ثبتَ بُطلانه ولم يعُد يقول به أحدٌ منذ تبيَّن الدور الحقيقي الذي تضطلع به اللغة في صياغة الفكر وتنظيمه وتَسييره. يتجلَّى هذا الدور في جميع المجالات بما فيها العلم الطبيعي ذاته، ويبقى أن نتناوَل المفهوم المقابل؛ مفهوم «اللغة القالب»، ونأخذه بالتهذيب والتدقيق والتحقيق، ونعرِف ما له وما عليه، ونُفرِغ له صيغةٌ مُعتدلةٌ تُحدِّد للدَّور اللغوي حدوده المقبولة ولا تمتدُّ به إلى مَتاهات الغلوِّ والشَّطَط.

هناك حوالي خمسة آلاف لغة مُستخدمة اليوم في أرجاء العالم، تختلِف كلُّ لغةٍ من هذه اللغات اختلافًا بيِّنًا عن كثيرٍ من اللغات الأخرى. وتتجلَّى الفروق في أعلى درجاتها بين اللُّغات التي تختلف في «العائلة اللغوية» (مثلًا بين اللغات الهندوأوروبية كالهندية والإنجليزية واليونانية القديمة إلخ، وبين اللغات غير الهندوأوروبية مثل لغة الهوبي واللغة الصينية والسواحلية والعربية إلخ).

ذهب العديد من المُفكرين إلى أن الفروق الكبيرة في اللغة تؤدي إلى فروقٍ كبيرة في الخبرة والتفكير، فكلُّ لغةٍ من اللغات تُجسِّد «نظرة إلى العالم» Weltanschauung (world-view) — أي طريقة إجمالية شاملة في فهم الواقع — ومن شأن اللغات الشديدة الاختلاف أن تُجسِّد نظراتٍ شديدة الاختلاف، ومن ثم يُمكننا القول بأن الناطقين بلغات مُختلفة يُفكِّرون عن العالم بطرائق مُختلفة فيما بينها اختلافًا بعيدًا. إنَّنا نُجزِّئ العالم ونُحلل الواقع وفقًا لتصنيفات لغوية مُعيَّنة دلالية (سيمانتية) semantic ونظمية (تراكيبية) syntactic تُمليها علينا لُغتنا القائمة في أذهاننا، بحيث يصحُّ القول أنَّ الجماعات اللغوية المُختلفة تعيش في عوالم مُختلفة! وأنَّ تبايُن الصور اللغوية عن العالم من شأنه أن يُولد تبايُنًا في الأبنية الفئوية (التصنيفات/المقولات)، وأن يُؤثر بالتالي على معايير الفكر ومن ثَمَّ على معايير السلوك في المجتمعات المختلفة.
يُطلَق على هذه الوجهة من الرأي في بعض الأحيان «فرضية ورف»، أو «فرضية سابير-ورف» Sapir-Whorf hypothesis، نِسبةً إلى واضعيها وهما اللُّغويان إدوارد سابير وبنيامين ورف، اللذان مَنحا هذه الفرضية شهرةً كبيرة. غير أن تسمية «النسبية اللغوية» السائدة اليوم تتحلَّى بمزية أنها تُيسِّر فصْل الفرضية ذاتها عن نظرات ورف التفصيلية التي استُهدِفت لخلافٍ تفسيري لا نهاية له.

(٢-١) أنساق التصنيف

يعني تصنيف شيءٍ ما أن نُعين له طبقةً أو فئةً يندرِج تحتها بين غيره من الأشياء التي تنتمي إلى نفس النمط أو الصنف. تستخدم الجماعات البشرية جميعها أنساقًا مُعقدةٌ من التصنيف أو التقسيم، وتُجسِّد كل لغة من اللغات البشرية مِثل هذا النسق، كما يقوم الناطقون بلغةٍ مُعينةٍ بتطوير أنساقٍ جديدة من التصنيف كي ما تفي بأغراضٍ خاصةٍ. وقد تُجسِّد لُغتان مُختلفتان، كالإنجليزية والفرنسية، نفس المُخطط التصنيفي تقريبًا، مما يسهل الترجمة من إحدى اللُّغتين إلى الأخرى، فلدى الإنجليزية والفرنسية مثلًا أنساقٌ شديدة التفصيل لتصنيف الألوان، بينما تفتقِر بعض اللغات الأخرى إلى مثل هذا الثراء اللفظي في مجال الألوان. وليس من المُستغرَب أنَّ بعض لغات الإسكيمو تحتوي على كلماتٍ تخصُّ أصناف الجليد أكثر بكثيرٍ ممَّا تحتويه غيرها من اللغات. ورغم الصِّلة الوثيقة بين لغةٍ مُعينةٍ ونسقٍ مُعين من التصنيف فليس من المُحتَّم أن يستخدم ناطقان بلغةٍ واحدة نفس النَّسق التصنيفي؛ فقد يرى شخصٌ مُتدينٌ الناسَ إما تقيًّا وإما غير تقي، بينما لا يرى غيره من الناطقين بنفس اللغة حاجةً إلى مثل هذا التصنيف الخاص. كما يجِب ألَّا ننسي أن المصادر اللغوية فيها من المرونة أكثر مِمَّا فيها من التصلُّب، فبوُسعِ البشر دائمًا أن يخترعوا لفظةً جديدةً أو يصُوغوا تعبيرًا بكرًا كي يحصُر وجهًا جديدًا من التَّشابُهِ أو الاختلاف بدا لهم في الأفق.٢٢

(٢-٢) العنصر السيكولوجي في الثقافة

ثَمَّة علاقةٌ باطنة بين اللغات التي نتحدَّث بها ونكتسبها وبين بنائنا السيكولوجي (مهارتنا الحِسِّية، إحساسنا بذاتنا، الانفعالات التي نتعلَّم أن نُبديها، وأنماط الاستدلال التي نعتبِرُها مُقنعةٌ … إلخ)، وإذا كنا نرى أن اللغات لا تُمكِن ترجمتها ترجمةً كاملة، فإنَّ علينا أن نُسلِّم بأنَّ هناك احتمالًا بوجود شيءٍ من التفاوت في هذه العمليات والحالات والظواهر السيكولوجية بين الثقافات المُختلفة. من ذلك أن استخدام صيغة المُتكلِّم وتصريفات المُتكلِّم في مُعظم اللغات تختلف في مدى ما تفرِضه على المُتكلِّم من تَعهُّدٍ بمضمون العبارة وإلزامها الأخلاقي. في المجتمعات التي تتحدَّث باللغات الأوروبية يضع استخدام صيغة المُتكلِّم على المُتحدِّث مسئوليةً كفردٍ، بينما في كثير من اللغات الشرقية يضع هذا الاستخدام تعهُّدًا على الجماعة التي يُعدُّ المُتحدِّث عضوًا فيها في هذه اللحظة وهذا السياق. تفتقِر اللغة اليابانية مثلًا للتكنيك النحوي الكفيل بالتعبير عن المسئولية الفردية. من شأن هذه الفروق اللغوية أن تُفضي إلى فروقٍ في الإحساس بالذات.

تُقدِّم هذه الملاحظات وغيرها الأسس أو المُقدِّمات التي تقوم عليها حُججٌ كُبرى لإثبات اختلاف الثقافات من حيث الإحساس بالذاتية. كذلك صِيغَت حُججٌ أخرى عن الاختلاف المُميِّز لغويًّا بين الثقافات من حيث ذخيرة (مخزون) الانفعالات الواردة repertoire of emotions؛ فمن المفترض أن الطبيعة تُزوِّد كلَّ كائن إنساني بطاقمٍ من الاستجابات الانفعالية الشديدة العمومية التي تُعينه على التكيُّف والبقاء، مُعبرةً عن أحكامٍ إجمالية عمَّا هو خطرٌ وما هو مرغوبٌ … إلخ. هذه المنظومات الشديدة التعقُّد والنوعية من الأحكام المُتجسِّدة التي نُطلِق عليها «الانفعالات» emotions هي بناءات تشكلها اللغة من المخزون الأساسي غير المُشكَّل. يعني ذلك أن المرء إذ يتعلم لغته المحلية وشروط استخدامها الصحيح إنما يكتسب «المخزون» repertoire الانفعالي المحلي، ويعني ذلك بالتالي أنَّ اللغة تُسيِّر الثقافة.٢٣

(٢-٣) فرضية النسبية اللغوية

يظنُّ الإنسان أنه يَستخدِمني ويتحدَّث بي.
الحقَّ أقول لك أنا الذي أستخدِمه وأتحدَّث به؛
أنا الذي أُسخِّره وأُسَيِّره،
وأقودُه كالمُنوَّم،
ولا أسمح أن يرى من العالَم إلَّا ما أُريد له أن يرى.
(اللغة)
لكي نُناقِش عيوب نظام فكري سائد، ليس يكفي أن نعرِضَه على محكِّ الواقع ونُضاهي بينه وبين «الوقائع» facts، فكثيرٌ من هذه «الوقائع» تمَّت صياغتها في حدود هذه اللغة، وبالتالي تمَّ جعلها مُتحيزةً إلى جانبها.

كذلك هناك وقائع كثيرة تظل، لأسبابٍ إمبيريقية، بعيدةً عن منال الشخص الذي يتحدَّث لغةً مُعينة، ولا يجد إليها سبيلًا إلَّا إذا اتَّخَذ له لغةً مُختلفة.

بول فييرابند

من شأن اللُّغات المُختلفة أن تُشرِّح العالم بطرائق مُختلفةٍ وتجعل الناطقين بها يفكرون عن العالم تفكيرًا مُختلفًا. تتمتَّع هذه الفكرة بجاذبيةٍ مُعيَّنةٍ، غير أن السؤال عن مدى تأثير اللغة على الفِكر ونوع هذا التأثير هو سؤالٌ إمبيريقي (تجريبي) لا يُمكن أن يَفصِل فيه إلَّا البحث الإمبيريقي. وعلى الرغم من أن النسبية اللُّغوية قد تكون هي أكثر صُور النسبية الوصفية رواجًا فإن اقتناع الأشياع وحماسهم على كِلا الجانبين (معها وضدَّها) يتجاوز البَيِّنة المُتاحة تجاوزًا بعيدًا. ولعلَّ السؤال المحوري في هذا الصدد هو: هل ثمة صيغٌ شائقةٌ وجيهةٌ تقَعُ موقِعًا بين الصواب النافل المُبتذَل الغني عن القول (مثل: لم يكن لدى البابليين نظيرٌ للفظ «تليفون» ومن ثَمَّ فلم تكُن لديهم أفكارٌ عن التليفونات) وبين التطرُّف الطنَّان والبَيِّن الخطأ في الوقت نفسه (مثل: الناطقون بلغاتٍ مُختلفةٍ يرَون العالم على نحو مختلف كلَّ الاختلاف)؟

لم يكن سابير وتلميذه ورف هما أول من ألمح إلى سطوة اللغة وسُلطانها على الفِكر، فقد سبق أن ألمَح إلى ذلك كثير من المُفكرين منذ أقدم العصور، وكلُّنا يذكُر على سبيل المثال «أوهام السوق» idola fori التي حذَّرَنا منها فرنسيس بيكون بين ما حذَّرَ منه من أوهام العقل المُتأصِّلة والتي ينبغي عليه أن يتخلَّص منها حتى تتسنَّى له الرؤية الصحيحة. وتتمثل أوهام السوق في الأغلاط التي يقع فيها العقل نتيجة للاستخدام السيِّئ للُّغة؛ «ذلك لأن الناس يتوهَّمون أنَّ عقلهم يتحكَّم في الألفاظ، على حين أنَّ الألفاظ هي التي تعود فتتحكَّم في العقل وتؤثِّر فيه.»٢٤ وفي «فلسفة الروح» يقول هيجل: «إننا لا نفكر إلا داخل الكلمات، وأن كلَّ رغبة في التفكير بدون كلمات هي مَحْض مُحاولة خرقاء لا أصل لها …» وفي «التفسير الكبير» يقول فخر الدين الرازي: «أما الجمهور الأعظم من أهل العِلم فإنهم سلَّموا أن هذه الخواطر المُتوالية المُتعاقبة حروف وأصوات حقيقية.» وفي «فينومينولوجيا الإدراك» (١٩٤٥م) يقول ميرلوبونتي: «ليس الفكر باطنيًّا، ولا وجود له خارج العالم وبعيدًا عن الكلمات.» تلك أمثلة للقائلين بأهمية اللغة في تشكيل الفكر، أمَّا التاريخ الحقيقي لفرضية النسبية اللغوية فيبدأ في القرن الثامن عشر، فقد كانت النسبية اللغوية، شأنُها شأنُ كثيرٍ من الدعاوى النسبية، موضع نقاشٍ جادٍّ في أواخر القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر في ألمانيا، وبخاصة في أعمال هامان وهردر وهمبولت.
ذهب هردر Herder (١٧٤٤–١٨٠٣م) إلى أن كل أمة تتكلم كما تُفكِّر وتُفكِّر كما تتكلَّم، بل إنَّ كلَّ أمةٍ تُخزِّن في لُغتها تجاربها بما فيها من عناصر الصواب والخطأ فتنقلها اللغة إلى الأجيال الناشئة واللاحقة، فتُصبح أخطاء الماضي من ضِمن التُّراث الذي تنقله اللغة عبر الأجيال والذي يُساهم في تحديد نظرة أصحابه إلى الكون. وحتى القِيَم المُجرَّدة التي يظنُّ الإنسان أنها قِيَم إنسانية مُطلقة أزلية لا يَحدُّها المكان ولا الزمان إنما تكتسي، في حقيقة الأمر، طابعًا محليًّا قوميًّا من خلال اللغة. اللغة إذن ليست مُجرَّد أداة ولا مُجرَّد مضمون، وإنما هي القالَب الذي يُسبِغ على المعرفة صِيغتَها ووقْعها. اللغة هي التي ترسُم الحدود وتخطُّ المُحيط لكل معرفة بشرية، (من اكتمال القول أن نُنوِّه إلى الدوافع القومية لآراء هردر، والتي تَشِي بها ظروف ألمانيا في القرن الثامن عشر).
أما فيلهلم فون همبولت Wilhelm von Humboldt (١٧٦٧–١٨٣٥م) فكان يؤكد على أنَّ اللغة ليست مهمَّتُها مقصورةً على توصيل المعلومات والأفكار بين فرد وآخر، وإنما هي التي تُحدِّد تَصوُّرات العقل بحيث لا نستطيع إدراك العالم أو معرفته إلَّا عن طريق اللغة. كان همبولت أول أوروبي يجمع بين معرفة لغاتٍ عديدةٍ وبين إلمامٍ بالفلسفة، وقد وحَّدَ في حقيقة الأمر توحيدًا تامًّا بين اللغة والفكر في الفرضية التي نُطلِق عليها الآن «نظرة العالم» Weltanschauung، ومفادها، كما أسلَفْنا، أنَّ اللغة تنطوي في باطنها وصميمها على وجهة نظرٍ عامة إلى الأشياء وتَصوُّرٍ إجمالي لِما يَكونه العالم، وهي صيغة مُتطرِّفة لفرضية سابير-ورف. أكد همبولت على نحو حاسِم وصريح أن اللغة تُحدِّد الفكر وتُحتِّمه وأن التفكير لا يُمكن أن يتمَّ بدون اللغة. وبلغت فرضيته من الصرامة مَبلغًا يحدو بنا إلى أن نتساءل: إذا لم يكن ثَمَّة تفكير على الإطلاق قبل اللغة، فكيف نشأتِ اللغة أصلًا؟! وفي ردِّه على هذا السؤال يهيب همبولت بالنظرية القائلة بأنَّ اللغة «موضوع أفلاطوني» شأنه شأن الكائن الحي الذي بزغ فجأةً في يومٍ من الأيام طوعًا ودون أيِّ إكراهٍ من أحد!
وقد وجدَتِ الفرضية بعد ذلك أنصارًا لها في القرن العشرين، منهم إرنست كاسيرر الذي يقول: «إن التمييزات التي نُسلِّم بها هنا، تحليل الواقع إلى «أشياء» و«عمليات»، جوانب «دائمة» وأخرى «عابرة/مؤقتة»، «موضوعات» و«أفعال»؛ هي تمييزات لا تَسبِقُ اللغة ولا تُشكِّل لها أساسًا تحتيًّا من الوقائع المُعطاة، وإنما اللُّغة ذاتها هي ما يُدشِّن مثل هذه التحديدات ويُنشِئها في عالمه الخاص.»٢٥

(٢-٤) سابير وروف

غير أنَّ فرضية النسبية اللغوية احتلَّت الصدارة ولفتَتْ إليها الأنظار من خلال أعمال إدوار سابير وتلميذه بنيامين ورف، حتى صارت تُعرَف باسم «فرضية سابير-ورف» أو تُسمَّى، على سبيل التبسيط، «فرضية ورف». والحقُّ أن أطروحات سابير وورف كانت من الروعة والطرافة بحيث أسَرَت عددًا كبيرًا جدًّا من المُفكِّرين. كان سابير عالم لغة وأنثروبولوجيًّا أمريكيًّا، وكان تلميذه ورف رجل أعمال ولغويًّا هاويًا. وبخلاف أشياع النسبية اللغوية الأوائل كان سابير وورف يُؤسِّسان دعاواهما على خِبرةٍ مباشرة بالثقافات واللُّغات التي كانا يتحدَّثان عنها، مما أضفى على شروحهما كثيرًا من الحيوية والوقع المباشر، وتحلت كتاباتهما بطلاوةٍ آسِرة ألهبَتْ خيال عددٍ هائلٍ من القراء.

نظر سابير وورف إلى الفروق بين لُغات عديدة وبين اللغة الإنجليزية، فوجدا أنَّ لُغة الإسكيمو على سبيل المِثال تشتمِل على ألفاظ كثيرة لتسمية مُختلِف أصناف الثلج: الثلج المتساقط، والثلج الذي يفترش الأرض، والثلج المُتكتِّل الصُّلب … إلخ، بينما وجَدا عند قبائل الأزتك لفظةً واحدةً تُستخدَم لتدلَّ على كلٍّ من الثلج والجليد والبارد. ولم ينحصِر اهتمامهما في مُفردات اللُّغات بل امتدَّ ليشمل الفروق الكبرى في بنية اللغة ذاتها: نحوها وصرفها ونُظمها وتركيبها. من ذلك ما بَيَّنَه ورف من أن لُغة الهوبي لا تشتمل على أيِّ تصوُّرٍ للزَّمَن كبُعدٍ من الأبعاد. وإذ كان ورف يُدرِك الأهمية المحورية لمفهومِ الزَّمن في الفيزياء الغربية (إذ بدونه لا تكون سُرعة ولا عجلة سرعة) فقد خلُص إلى تصوُّرٍ عما تُشبِه أن تكونه الفيزياء الهوبية، فقال إنها لتكون مُختلفة عن الفيزياء الإنجليزية اختلافًا جذريًّا، بحيث إنَّ من المُحال تقريبًا على عالم الفيزياء الإنجليزي وعالِم الفيزياء الهوبي أن يفهم أحدُهما الآخر.

إنَّ الكائنات البشرية لا تعيش في العالم الموضوعي فقط، ولا تعيش فقط في عالم النشاط الاجتماعي بمَعناه المُعتاد، إنما يعيش البشر إلى حدٍّ بعيدٍ تحت رحمةِ الله المُعينة التي أصبحت وسيط التعبير بالنسبة لمُجتمعهم. إنَّ مِن الوَهم المُطبِق أن يتخيَّل المرء أنه يتكيَّف مع الواقع دون حاجة ماسَّة لاستخدام اللُّغة، أو أن اللُّغة هي مُجرَّد وسيلة عرضية لحلِّ مُشكلاتٍ مُحدَّدة في التواصُل أو التأمُّل.٢٦
تؤثر لُغتنا في الطريقة التي نُدرك بها الأشياء:

وحتى أفعال الإدراك الحسِّي البسيطة نِسبيًّا هي تحت رحمة النماذج الاجتماعية المُسمَّاة «ألفاظًا» أكثر مِمَّا نظن، فنحن نرى ونسمع ونُكابد خِبراتنا بالطريقة التي نفعل بها ذلك؛ لأن العادات اللغوية لمُجتمعنا تُهيئ اختياراتٍ مُعينةً من التأويل. (سابير، ص٢١٠)

على أنَّ الفروق غير مقصورة على الإدراك الحسي:

حقيقة الأمر أن «العالم الواقعي» مُشيَّدٌ، لا شعوريًّا، إلى حدٍّ كبير، على العادات اللغوية للجماعة، ولا تُوجَد لُغتان مُتماثِلتان بما يكفي لأن نَعُدَّهما مُمثِّلتَين لنفس الواقع الاجتماعي. إن العوالم التي تعيش فيها المُجتمعات المُختلفة هي عوالم مُختلفة. إنها لا تعيش في عالمٍ واحدٍ أُلصقت به بطاقات مُختلفة. (سابير، ص٢٠٩)

وقد كسبت فرضية النسبية اللغوية جمهورها العريض بفضل أعمال بنيامين لي ورف الذي أصبحتْ كتاباته المجموعة أشبَهَ بالمانيفستو النِّسبي. يُمثِّل بنيامين ورف هدفًا مُتحرِّكًا! فأغلب كتاباته تأتي في كِلا الشكلين المُتطرِّف والمُعتدل. ورغم أن آراءه المُعتدلة ما تزال موضع نقاشٍ فلا شكَّ أن دعاواه الجريئة غير المُلجَّمة بالمحاذير والشروط كانت أقدرَ على أسْرِ قُرَّائه من دعاواه المُتحفِّظة الخَجول.

يقول ورف إنَّ اللغات المُتشابهات قلَّما تُحدث فروقًا معرفية ذات شأن، غير أنَّ اللغات التي تبعُد كثيرًا عن الإنجليزية وغيرها من اللغات الأوروبية الغربية تؤدِّي بمُتحدِّثيها غالبًا إلى نظراتٍ للعالَم مُختلفة غاية الاختلاف.

هكذا نكون بصدَد مبدأ جديد من النسبية مفاده أن المُلاحظين لا يَنقادُون جميعًا بنفس البيِّنة الفيزيائية إلى نفس الصورة عن العالم ما لم تكُن خلفياتهم اللغوية مُتشابِهة أو قابِلة للمُعايرة بطريقةٍ ما. هكذا تتكشَّف لنا نِسبية جميع المنظومات التصوُّرية، بما فيها مَنظومتنا، واعتمادها على اللغة.٢٧

ويرى ورف أنَّ اللغة ليست مُجرَّد «أداة» طوع اليد تسمح لنا بالتعبير عن أفكارنا، وإنما اللغة هي التي تُوجِّه الفعل الذهني وتُحدِّد شكلَ الفكر وترسُم للفرد الإطار الذي تمضي فيه تحليلاته وانطباعاته وكلُّ ما يعتمِل في ذهنه. إن صياغة الأفكار لا تسير على الإطلاق سيرًا مُستقلًّا عقلانيًّا كما كان يُظَنُّ في السابق، بل ترتبط ببِنيةٍ نحوية مُعينة تختلف من لغةٍ إلى أخرى.

إننا نُشرِّح الطبيعة عبر خطوطٍ تضعُها لنا لُغتنا المحلية، فالتصنيفات الفئوية والأنماط التي نَستخلصها من عالم الظواهر نحن لا نعثُر عليها لأنها ماثلةٌ هناك تُحملِق إلى كل ملاحظٍ في وجهه، بل العكس هو الصحيح، فالعالم إنما يُقدَّم إلينا على هيئة تدفُّقٍ كاليدوسكوبي من الانطباعات التي تتطلَّب تنظيمًا من جانب عقولنا، أي من جانب الأنساق اللغوية القائمة في عقولنا. (ورف، ص٢١٤)

كما أنَّنا نقوم بتجزيء الطبيعة تَجزيئًا منهجيًّا من نوعٍ خاص، فنسلُكه في مفاهيم مُعيَّنة ونُلصِق به معاني مُعيَّنة، وذلك بمُقتضى مواضعاتٍ مُعيَّنة في الاستخدام اللغوي عند الجماعة اللغوية التي ننتمي إليها تُحدِّد رؤيتنا للعالم وتُشكِّلها. إنها مُواضعات مُقنَّنة داخل قوالب لُغتنا الخاصة، مُواضعات ضِمنية مُضمَرة، غير أنها تتمتع بإلزامٍ مُطلق. إننا لا نتحدَّث هنا إلا عن شرط التسجيل السريع للمُعطيات المُنظَّمة والمُصنَّفة كما أُعِدَّت من خلال المُواضعات الضِّمنية.

إن من يستخدمون ضروبًا من النحو شديدة الاختلاف هم مُوجَّهون بهذا النحو إلى أنماطٍ مُختلفة من الملاحظات، وإلى تقييماتٍ مُختلفة لأفعال الملاحظة المُتماثِلة من الخارج. ومن ثم فإنهم كملاحظين ليسوا سواء، بل لا بُدَّ لهم من أن يصِلوا إلى صُورٍ للعالَم مُختلِفة بعض الشيء. (ورف، ص٢٢١)

والنحو بطبيعة الحال ليس نتاجًا للعلم ولا يتحلَّى من خصائص العلم المُميِّزة إلا ببعضه. لقد ظهر على إثر قائمة من الأحداث التاريخية التي تسبَّبت في ظهور التجارة وأنظمة القياس وفي تشييد المُخترعات التقنية في كل أرجاء العالم الذي كانت لُغاته مسيطرة.

تختلف الوقائع بالنسبة للناطقين الذين تتبنَّى خلفيتُهم اللغوية صياغة مُختلفة لهذه الوقائع. (ورف، ص٢٣٥)

ليس بوُسع أحدٍ أن يصِف الطبيعة بحيدةٍ مُطلقة، إنما هو مقيدٌ بطرائق معينة من التأويل، حتى إذا كان يرى نفسه حرًّا إلى أبعد حد. (ورف، ص٢١٤)

ومن يُرد أن يكون أكثر حيدة وأقلَّ تبعيةً للطبيعة فعليه أن يصير عالِمًا لغويًّا استأنس بكثيرٍ من الأنساق اللغوية التي تختلف فيما بينها اختلافًا عميقًا، وهو شأنٌ لم يبلُغه أحدٌ من علماء اللغة حتى الآن.

تعجُّ فقرات سابير وورف باستعارات الجبر والإرغام: تفكيرنا واقع «تحت رحمة» لغتنا. إنه «مُقيَّد» بها. «لا أحد حر» في وصف العالم بطريقةٍ مُحايدة. نحن «مرغمون» على قراءة ملامح مُعيَّنة في العالم.٢٨ تُسمَّى وجهة الرأي القائلة بأن اللغة تُحدِّد طريقة تفكيرنا تحديدًا تامًّا «الحتمية اللغوية» Linguistic determinism، وقد كان هردر وهامان فيما يبدو يُطابقان بين اللغة والفكر في بعض الأحيان. وهما — في هذه الصيغ على الأقل — يَقتربان من القول بالحتمية اللغوية.

(٢-٥) النسبية اللغوية والميتافيزيقا

ولا نعدم بين المُفكرين من ربط بين هذه المسائل وبين بعض المسائل الميتافيزيقية، فذهب جراهام A. C. Graham مثلًا إلى أن هناك فروقًا شاسعةٌ بين اللغات البشرية، وأن كثيرًا من المفاهيم والمقولات (مثل: الموضوع الفيزيقي، السببية، الكم …) التي اعتبرها مُفكِّرون مثل أرسطو وستروصن محوريةً بل لازمة ولا غنى عنها للتفكير الإنساني، ما هي إلا ظلالٌ محدودة تُلقِي بها بِنية اللغات الهندوأوروبية. يُقال إن هذه التصوُّرات ليس لها نظائر في كثيرٍ من اللغات غير الهندوأوروبية كالصينية (فإذا صحَّ ذلك لأمكن قيام صِيغة من النسبية اللغوية. غير أن هذه الصيغة لم تُؤيِّدها أدلةٌ تجريبيةٌ قوية، وأغلب الآراء السائدة الآن تقِف في الطرف المقابل).
والحقُّ أن ورف نفسه قد رأى رأيًا شبيهًا بذلك:
لم يتمَّ للعلم (الغربي) حتى اليوم أن يُحرِّر نفسه من الضرورات الوهمية للمنطق السائد التي لا تعدو أن تكون ضرورات النمط النحوي الكامن في النحو الآري الغربي. مثال ذلك ضرورة «الجوهر» substance التي لا تعدو أن تكون ضرورة وجود الأسماء substantives في مواضع مُعيَّنة من الجملة.٢٩

(٢-٦) اختبار فرضية النسبية اللغوية

يتطلَّب أي بحث جادٍّ عن النسبية اللغوية الإجابة عن أسئلة ثلاثة:
  • أي جانب من اللغة يؤثر على أي جانب من التفكير؟

  • ما هو هذا التأثير؟ ما صُورته؟

  • وما مَبلغُه وشِدَّته؟

هناك مثلًا ملامح مُعينة ﻟ «التركيب اللغوي» syntax في إحدى اللغات (ما إذا كان هناك تمييز مثلًا بين الأفعال اللازمة وبين النعوت) أو ﻟ «معجم» (مفردات) lexicon هذه اللغة (الألفاظ الدالة على الألوان مثلًا، أو المُفردات الدَّالة على الأعداد) أو ﻟ «استعارات» metaphors هذه اللغة وكناياتها metonymies (يقول الإنجليز مثلًا: «أدفأَ صدري.» بينما تقول العرب: «أثلَجَ صدري.») يُقال إن هذه الملامح اللغوية تؤثر على الإدراك الحسِّي أو على الوظيفة التصنيفية أو الذاكرة بطرائق مُحدَّدة بوضوح. ومثلما هو الحال في جميع الدعاوى النسبية الخاصَّة بالمُتغيرات المستقلة (كالثقافة، والحقبة التاريخية، والبنية البيولوجية … إلخ) فإن فرضيات النسبية اللغوية هي دعاوى حول تأثيرٍ «سببي»: أي أنَّ هناك جانبًا أو أكثر من جوانب اللغة يؤثر سببيًّا في جانب أو أكثر من الفكر. ومثل هذه التأثيرات قد تتفاوَتُ في المِقدار، ومن ثَمَّ تتفاوت الدعاوى النسبية اللغوية من حيث قوَّة التأثير المُفترَض.
ومن الجدير بالتنويه ونحن نتناول مسألة الاختبار التجريبي للنسبية اللغوية أنَّ فشل الفرضية في جانبٍ (لغة الألوان مثلًا أو إدراك الألوان) لا يعني فشلَها في كل جانب (لا يُنبئنا مثلًا بما إذا كان لمُعجم العلاقات المكانية تأثير على الاستدلال المكاني). وجدير بالتنويه أيضًا أنَّ الأمر هنا ليس نظريًّا صِرفًا، فإذا نظرنا إلى العقل على أنه «لَبِنة» واحدة فإن تأييد (أو تفنيد) الفرضية في ناحية ما (اللون مثلًا) سوف يؤثر على مكانتها في النواحي الأخرى. غير أن هناك أدِلَّة مُتزايدة الآن على أن العقل «وحداتي» modular أي ذو «وحدات معرفية» modules مختلفة تؤدي كل وحدة منها عملًا «نوعي المجال» domain-specific أي مُختصًّا بمجالٍ معين (مثل إعراب الكلام، تمييز الوجوه … إلخ) ويُعالِج أصنافًا مختلفة من المعلومات بأصنافٍ مختلفة من الوسائل. فإذا صحَّ ذلك فلا وجهَ لأن نتوقَّع أن النتائج الخاصة بتأثير اللغة في جانب معين من المعرفة سوف تعمُّ على بقيَّة الجوانب.

(٢-٧) دراسات مُفنِّدة لفرضية ورف

إدراك الألوان

يتعلَّق شطر كبير من الاختبارات الإمبيريقية لفرضية ورف بمسألة لغة الألوان وتأثيرها في إدراك اللون. فمن جِهة علم الضوء (أو من جهة مُعاملات الانعكاس الطيفي السطحي) ليس هناك ما يُحتِّم مدَّ حدودٍ بين الألوان عند مكان معين دون الآخر. ومن ثَمَّ فإن تقسيماتنا لمِطياف الألوان هي تقسيمات اعتسافية حقًّا. ومن جهة أخرى فإن من المعلوم جيدًا أن اللغات البشرية تتفاوَت من حيث الألفاظ الدَّالة على اللون، أي الألفاظ التي نُقسِّم بمقتضاها مِطياف اللون عند مواضع مختلفة. فإذا كانت فيزياء اللون لا تفرض شيئًا على تفكير الإنسان عن اللون، فمن الطبيعي أن نذهب إلى افتراض أن إدراك الألوان يتَّبِع الأخاديد التي تمدُّها لغة الألوان.

غير أن نتائج الاختبارات جاءت مُخيبة،٣٠ وتبيَّن كذِبُ الصيغة المُتطرفة من فرضية ورف فيما يتعلَّق بتأثير لغة الألوان على إدراك اللون؛ فقد كشفت دراسة برلين وكاي عام ١٩٦٩م أنَّ هناك إحدى عشرة بؤرة لونية عمومية لدى البشر جميعًا بغضِّ النظر عن اللغة وعن الثقافة، وأن وراء التبايُن السطحي في مُفردات الألوان فإن هذه البؤر المُشتركة تظلُّ قابلة للتمييز. وقد استطاع حتى الناطقون بلغاتٍ لا تُميِّز أحد عشر لونًا أساسيًّا أن يُصنِّفوا الرقائق المُلوَّنة التي تُمثِّل الأحد عشر لونًا.

غير أن الأمر في مسألة اللون ربما كان حالة خاصة: فإذا كانت فيزياء اللون لا تفرض تقسيمًا مُعيَّنًا لمِطياف اللون فإن لتشغيلات المخ البشري إملاءاتها في مسألة اللون. وقد تبيَّن اليوم بشكلٍ مؤكد أنَّ هناك وقائع نيوروفسيولوجية تؤثر على كثير من الطرائق التي نُدرِك بها الألوان.

تشومسكي والعموميات اللغوية

ذهب عالم اللغة الأمريكي نوام تشومسكي Noam Chomsky إلى أنَّ هناك ضربًا من «النحو العمومي أو العالمي» universal grammar مطمورًا بالجهاز العصبي. وما تفعل لغاتنا المحلية الخاصَّة أكثر من أن تُعدِّله وتحوره وفق مُتطلَّباتنا بواسطة الخبرات اللغوية المُبكرة، في كتابه «الأبنية النُّظمية» syntactic structures الذي يُعدُّ أهمَّ إسهامٍ في عِلم اللغة النظري في النصف الثاني من القرن العشرين. يهاجم تشومسكي التفسير السلوكي لاكتساب اللغة هجومًا شديدًا، ويرى أن السرعة التي يكتسب بها الأطفال لُغتهم القومية لا يُمكن أن تُفسِّرها نظرية التعلُّم، بل تتطلَّب الاعتراف بوجود استعدادٍ ذِهني فطري يتمثَّل في نظامٍ نحويٍّ عالمي سَلِيقي غير مُكتسب يُزوِّد الطفل بأنواع القواعد التي سيفهم الطفل أنها مُدمجة في أمثلة الكلام التي سيُصادفها في حياته. وبلُغة الحاسوب يمكننا القول إنه ما لم يكن الطفل حائزًا مُسبقًا على الصنف الصحيح من «العتاد الرخو» (البرامج) software لما تَسنَّى له أن يلتقط النظام النحوي للغة بالطريقة التي يُحقِّقها بالفعل. وفي دراسة له بعنوان «مراجعة السلوك اللفظي لسكنر» عام ١٩٥٩م يسوق تشومسكي الأدلَّة على عُقم النظرية السلوكية في دراسة اللغة ويؤكِّد أنها إذا كانت قد نجحت مع الفئران وحيوانات المُختبر حيث «المثير» stimulus واضح ودقيق و«الإشراط» conditioning بسيط إلى أقصى حد، فإنها لا تصلُح للتعامل مع الإنسان فضلًا عن التعامل مع اللغة التي تتَّصِف فيما تتَّصف به بالتعقيد والإبداع والتحرُّر من المُثير. تقوم الحُجَج المُضادَّة لنموذج التجربة/المُحاكاة (الذي قال به السلوكيون من أمثال بلومفيلد وسكنر) على تصوُّر القُدرة الخاصة باستخدام اللغة بوصفها «كفاية لغوية» linguistic competence. ليست الكفاية اللغوية مُجرَّد القُدرة على إعادة إنتاج جُملٍ سبق للمُتحدِّث سماعها، بل تشمل القدرة على إنتاج (وفهم) كثيرٍ من الجمل الجديدة. إن الكفاية اللغوية هي قُدرة غير محدودة على توليد جُمل يُميِّزها الآخرون كجُملٍ جيدة الصياغة ويستطيعون فهمها. ويُطلَق على هذا الطابع الخاص بالكفاية اللغوية، والبعيد كلَّ البُعد عن الترديد الببغائي، اسم «الإبداع اللغوي» أو «الخلق اللغوي» linguistic creativity.
وقد اعترض تشومسكي أيضًا على دعوى بياجيه أنَّ اللُّغة تتأسَّس على المُخطَّطات الحسية الحركية sensorimotor schemata التي سبق تكوينها. وذهب إلى وجود ما أسماه «موديول اللغة» أو «الوحدة العقلية» module للغة:
إذا نحن تَمعَّنَّا حقًّا في تفاصيل نمو بِنية لغوية مُعينة، فإنني أتوقَّع أن نجد نفس الشيء بالضبط الذي نجده عندما ندرُس أي عضو جسمي. إن الطريقة التي ينمو بها أي عضو من الأعضاء تعتمد على شتَّى العوامل البيئية. غير أني أعتقد أن ما نتوقَّع أن نجده، بل نجِده مرارًا وتكرارًا، هو أن الخصائص المنظمة الأساسية هي — ببساطة — شيء غير متروك للظروف، بل شيء ثابت نوعًا ما.٣١

ويمكن القول بصفةٍ عامة إن مدرسة تشومسكي قد كُتِبت لها السيادة على الدرس اللغوي الحديث الذي أغلق الباب أمام التفسيرات السلوكية المُتبسِّطة التي قدَّمها بلومفيلد وسكنر (وإن لم ينفِها تمامًا). وأخذ البحث اللغوي المُعاصر يكشف عن الدَّور المُتعاظِم للعقل والعمليات الذهنية في فَهم الكلام وإنتاجه؛ الأمر الذي فتح المجال أمام ارتباطٍ وثيق بين علم اللغة وعلم النفس المعرفي.

والآن إذا صحَّت فرضية العموميات اللغوية (وإنَّ الأدلة لتتضافَر على صحَّتِها يومًا بعد يوم) لتبيَّن لنا أن اللغات الطبيعية هي أوثق قُربى في بنائها ممَّا يتصوَّر النِّسبي المُتطرِّف.

فودور ودعوى الوحدات العقلية Modularity Thesis

في معرض النقاش بين بياجيه وتشومسكي قام جيري فودور J. Fodor بتطبيق منطق نظرية تشومسكي على النمو المعرفي بعامة. وقد أسهب في الدفاع عن هذه الوجهة من الرأي في كتابه «وحدات العقل» the modularity of mind (١٩٨٣م)، يرى فودور أنَّ العمليات السيكولوجية هي عمليات «نوعية في مجالها» domain-specific؛ فالمعلومات البيئية تمرُّ خلال نظام هو عبارة عن وحدات موكلة بصنوف بعينها من «المُدخلات» inputs التي تقوم بإخراج بياناتها في هيئةٍ مُشتركة حيث تتمُّ مُعالَجتها بواسطة «مُعالج مركزي» central processor. إن المبادئ السيكولوجية التي تُنظِّم كلَّ مجال هي مبادئ مُحدَّدة فطريًّا بمعنًى شبيه بما يعنيه تشومسكي. إن لها «بنيانًا» architecture عصبيًّا ثابتًا، وهي تعمل بتلقائية وسُرعة وتَستثيرها المُدخلات البيئية ذات الصلة. وإن المجالات المختلفة لا يتفاعل بعضها مع بعض بشكلٍ مُستمر؛ فكلٌ منها يُمثِّل وحدة ذهنية مُستقلة (module). ويتم التنسيق بين المعرفة التي تُقدِّمها الوحدات بواسطة «مُعالج مركزي» يتناول «مُخرجات» outputs هذه الوحدات ويعمل عليها. ومن غير الممكن لهذه الوحدات أن تتأثر بالأجزاء الأخرى من الذهن التي ليس لها صِلة بتشغيلاتها الداخلية.
وقد اقترح فودور عددًا من الوحدات الذهنية بالإضافة إلى اللغة: منها إدراك اللون، والشكل، والعلاقات الثلاثية الأبعاد، وتمييز الأصوات، والوجوه. ثم اقترح غيره تشكيلةٌ كبيرة من الوحدات الذهنية الممكنة تتضمَّن وحدات خاصة بالعَلِّية الآلية، والحركة القصدية، والعدد، والموسيقى.٣٢

وجدير بالذكر أن دعوى الوحدات لا تُنكِر دور التعلُّم في اكتساب اللغة. ولم يقل أحد قطُّ إن اللغة يمكن أن تُكتسَب في عزلة. غير أن فرضية الوحدات في حالة اللغة تفترض أن نمو اللغة يتَّخِذ مسارًا مُماثلًا لنموِّ أي عضو جسمي: إن أي بيئةٍ كفيلةٍ بحِفظ الجماعة الاجتماعية هي بيئةٌ كفيلةٌ أيضًا بنمو اللغة دون حاجة إلى أيِّ التفاتٍ خاص.

من منظور المذهب الفِطري في اللغة تنحسِر كثير من الأسئلة حول النسبية الثقافية وتُرَدُّ إلى أسئلة حول العزْل المعلوماتي للوحدات الذهنية. حين نقول إن الوحدة الذهنية معزولة فإنَّ ذلك يعني أن ليس بوسع الأجزاء الأخرى من الذهن أن تؤثر في تشغيلاتها الداخلية (وإن أمكن أن تَمُدَّها بمُدخلاتٍ وأن تُفيد من مُخرجاتها).

والآن ما هي مُتضمَّنات ذلك بالنسبة لدعوى ورف بأنَّ لغة الشخص تُمارِس تأثيرًا كبيرًا على إدراكه الحسِّي وتفكيره؟ يبدو أن الأمر هنا بالنسبة للإدراك الحسِّي قد يكون مُختلفًا عنه بالنسبة للعمليات العقلية العُليا. يقول فودور مثلًا إنَّ هناك وحدة (أو وحدات) خاصة بالإدراك البصري، وإن المعلومات الآتية من أجزاء أُخرى من الذهن لا يمكن أن تُؤثِّر عليه بالدرجة التي كان يفترِضها كثير من السيكولوجيين. مثال ذلك أنه على الرغم من أنني أعرِف أن الخطَّين في «خداع مولر-لاير» مُتساوِيان فإنه لا يَسعُني إلَّا أن أرى أحدهما أطول من الآخر. إنني أعرِف أن الخطَّين مُتساويان ولكن الوحدة (أو الوحدات) البصرية لديَّ لا تعرف! ذلك أنها مُسيَّجةٌ معزولة. ومن ثَمَّ فإنَّ هذه المعلومة لا تستطيع أن تنفَذَ إليها، وبالتالي لا تستطيع أن تؤثر في الطريقة التي أرى بها الشكل. فإذا صَحَّ ذلك فإن المعلومات اللغوية لا يُمكنها أن تخترِق أيَّ وحداتٍ بصرية، وإن صِيَغ النسبية اللغوية القائلة بتأثير لُغة المرء على طريقة إبصاره للأشياء هي إذن مغلوطة. أما عن العمليات الذهنية العُليا فليس هناك وحدات مُختصَّة بها في رأي فودور، وهو بالتالي يُتيح المجال لبعض جوانب من النسبية اللغوية؛ أي أن هناك احتمالًا بأن يكون لتشغيلات الوحدات اللغوية المُختلفة تأثير كبير على الفكر.

وأخيرًا لا بدَّ لنا من أن نُنوِّه إلى أن كثيرًا من المسائل المُتعلقة بالبُنيان المعرفي البيولوجي هي مسائل خلافية للغاية، كما أن بعض القائلين بدعوى «الوحدات» يتصوَّرونها على نحوٍ مُخالِف لتصوُّر فودور. من ذلك أن ما يُميِّز الوحدات البصرية عندهم هو أنها تُعالج المعلومات البصرية لا أنها معزولة عن غيرها من المعلومات. (والحقُّ أن المُعالجة «من القِمَّة إلى القاعدة» top-down processing في الإدراك البصري تَشِي بأنَّ وحدات الإبصار هي على اتِّصال بغيرها من ضروب المعلومات).

وصفوة القول أنه إذا صحَّت دعوى الوحدات الذهنية والمذهب الفطري، أو أية صِيغة مُتماسِكة منها، وهو ما تُشير إليه الشواهد في الوقت الحالي، لأمكن أن تُترجَم الكثير من المسائل الإمبيريقية حول النسبية اللغوية إلى مسائل تتعلَّق بوحدات الذهن وكيف تؤثر إحداها في الأخرى.

انتقادات أخرى

ثمَّةَ انتقادات أخرى وُجِّهت إلى فرضية ورف، منها أنه لو صحَّت الصيغة المُتطرِّفة من الفرضية (الحتمية اللغوية) لترتَّب عليها استحالة التفكير بدون لغة. ولكن ماذا عن الأفكار التي تُراوِدنا أحيانًا ولا نعرِف كيف نُعبِّر عنها، وماذا عن التفكير «قبل-اللغوي» pre-linguistic عند الأطفال الرُّضَّع؟ وكيف يُمكن للرُّضَّع أن يكتسبوا اللغة على الإطلاق؟ إن التسليم بالصِّيغة المُتطرِّفة من فرضية ورف لا بدَّ أن يُفضي بنا إلى أن اللغة تأتي من مصدرٍ خارجٍ عن العالم البشري ما دام الفكر مُمتنِعًا بدون لغة، وقبل اللغة لم يكن فكرٌ.

يبدو أن ورف نفسه كان على وعيٍ بهذا المأزق، وكان يرى اللغة والثقافة وجهَين لعملةٍ واحدة، وكان يستشعِر في أمرهما مُشكلة أشبَهَ بمشكلة «البيضة أولًا أم الدجاجة؟» وهو لغزٌ عصيٌّ على الحل. ويبدو أنَّ ورف كان يُسلِّم بتأثيرٍ مُتبادل بين الثقافة واللغة، ولكنه انطلاقًا من أنَّ النحو أعصى على التغيُّر من الثقافة كان يرى تأثير اللغة على الثقافة هو التأثير الغالب (ويكاد يكون التأثير الأوحد في أي لحظةٍ بعينها).

وهناك نقدٌ آخر لفرضية ورف يغلِب عليه الطابع المنطقي «القبلي» a priori وهو أن على مُؤيدي الفرضية أن يُسلِّموا بأن دراستهم للغة في «العالم الواقعي» تظلُّ محلَّ شكٍّ ما دامت لُغتهم تؤثِّر على طريقتهم في تصنيف ما يبدو أنهم يَخْبُرونه، فإذا سَلَّم المرء بصحة النسبية اللغوية لوَجد نفسه واقعًا فيما يُسمَّى «مأزق التمركُز على الذات» egocentric quandary فيبقى عاجزًا عن الإملاء بأيِّ تقريرات عن الواقع ما دامت قُدرته على الوصف الصحيح للواقع محلَّ شك.٣٣

وبنفس القياس فإنه إذا صحَّت فرضية ورف لامتَنَع فهم التصوُّرات القائمة في إحدى اللغات بلغةٍ أخرى، ما دام الناطقون باللغة الأولى مُقيَّدين بمنظومة قواعد مُختلفة عن منظومة الناطقين باللغة الأخرى. غير أنَّنا جميعًا نعرِف أن اللغات قابلة للترجمة فيما بينها إلى حدٍّ لا بأس به (باستثناء حالات قليلة من الشِّعر والفكاهة وغيرها من ضروب القول الذي يذهب بالترجمة؛ أي الذي تمحُوه الترجمة).

ويرى بعض نقَّاد ورف أنه بعرْضِه لنظريته يكون قد قوَّضَها بطييعة الحال. إنه يدْحَض حُجَّته ذاتها إذ يُترجِم عن لغة الهوبي، وإذ يُقدِّم تصوُّرًا لشيءٍ ينبغي، «بحُكم الفرضية» ex hypothesi، أن يندَّ عن التصوُّر! فإذا كان بمقدور ورف تَصوُّر ما تُشبِهُ أن تكونه الفيزياء عند الهوبي، فلماذا يفترِض استحالة ذلك على غيره من الناطقين بالإنجليزية؟ وإنَّ واقعة أنه استطاع ترجمة كلمات من الإسكيمو والأزتك هي بحدِّ ذاتها دليل على أنَّ بوسْعنا أن نرى العالم من منظور الإسكيمو والأزتك! وإذا كان معجم الإسكيمو يتمتَّع بمفرداتٍ كثيرة عن أصناف الثلج فإنَّ بإمكان اللُّغات الأخرى أن تنقِل الأوصاف نفسها باستخدام جُملٍ بأكملها أو أشباه جُمَل بدلًا من اللفظة المُفرَدة. وإذا كنا نفتقِر إلى المُفردات الثلجية فإنما يرجع ذلك إلى نفس السبب الذي نفتقِر به لجرَّافات الثلج: وهو أننا بغير حاجة إليها. وحقيقة الأمر أن أولئك الذين يحتاجون إليها من بيننا (مثل مُحترفي التزحلُق على الجليد) يخترعونها. بوسع المُتزحلِقين على الجليد إذن أن يُميِّزوا «درجات» مُختلفة من الثلج، وبوسع الواحد مِنَّا أن يتحدَّث مثلًا عن درجات اللون التي تلزمه: الأزرق الداكن، والفاتح، والسماوي … إلخ. فإذا ما كان مُصوِّرًا فإن لديه نطاقًا كاملًا من الأزرق، وحين تنْفَدُ الأسماء وتقْصُر عن أن تُغطِّي جميع الدرجات المُمكِنة يلجأ المُصوِّرون إلى الأرقام لتحديد ألوانهم. كذلك الحال بالنسبة لقبائل الأزتك التي لا تعرِف غير لفظةٍ واحدةٍ للثلج والبارد، فلو افترَضْنا حلول عصرٍ جليدي آخَرَ لدبَّر الأزتك فنونًا من الحديث عن البارد.

ذلك وقد دلَّت دراساتٌ أحدث للغة الهوبي أنها تتضمَّن عدَّةَ أزمنة وتشتمِل على وسائل مُعقَّدة لتسجيل الوقائع والأحداث. ودلَّت دراساتٌ أخرى عن لغة الإسكيمو أنها تتضمَّن حوالي اثني عشر لفظًا لأصناف الثلج، وهو عدد لا يزيد كثيرًا عمَّا تتضمَّنه كثيرٌ من اللغات الأخرى. وحتى لو افترضْنا أنَّ لغة الإسكيمو تشتمِل على مئات المُفردات لأصناف الثلج فإن ذلك لا يُفيد بأن لُغتَهم تُشكِّل خِبرتهم بالعالم، وإنما يُفيد بأن خِبرتهم بالعالم هي التي تُشكِّل لُغتهم.

والحقُّ أن المُساجلات الحديثة حول اللغة والفكر كثيرًا ما أومأت إلى عكس القضية ليتحوَّل النقاش إلى دور الفكر في تشكيل اللغة. من ذلك ما أشار إليه واسن وجونسون-ليرد من أنَّ الفكر يُحدِّد اللغة وليس العكس؛٣٤ فاللغة تقوم بدور المرآة العاكسة للخبرة والتجربة، وهي ليست حُرَّة في تأسيس أو إقامة التصنيفات أو الفئات المعرفية.

لُغة الفكر Language of Thought

يعتقِد العديد من علماء السيكولوجيا المعرفية وبعض فلاسفة اللغة أنَّ بني الإنسان لديهم لغة الفكر language of thought. وهم إذ يقولون إنَّ هناك لغة فكر فإنما يَعنُون ما يقولون ويأخذونه بمعناه الحرفي الدقيق. فهناك على حدِّ قولهم رموز داخلية تحمِل خصائص القصدية والنسقية. هذه الرموز الداخلية هي قوام «لغة الفكر»؛ تلك «اللغة العقلية العالمية» universal mentalese. ليست «لغة الفكر» هذه شيئًا مُكتسبًا، بل هي التي تُفسِّر في حقيقة الأمر كيف يتسنَّى لنا اكتساب اللغة الطبيعية التي نتكلَّمها.
ويُعتبِر أنصار اللغة العقلية أنهم يُقدِّمون بذلك نظرية قابلة للاختبار التجريبي عن قُدرات الاستخدام اللغوي عند الإنسان، ويؤكدون أن فرضيتهم واقعية لا خوارِق فيها ولا معجزات؛ فلُغة الفكر تؤدَّى في دماغنا وتتمُّ في جهازنا العصبي المركزي. وقولُنا إن لغة الفكر شيء «فطري» innate يعني من ثَمَّ أن ما هو مُتأصِّل منها منذ البداية ومُبيَّت في العَتاد الصُّلب hard-ware لجهازنا العصبي المركزي هو أكثر جدًّا ممَّا تخيَّله التجريبيون في أي وقتٍ من الأوقات٣٥ ويُعتبَر الفيلسوف الأمريكي جيري فودور من أهم القائلين بفرضية أنَّ العمليات الذهنية تجري بلغةٍ مُختلفةٍ عن لُغتِنا القومية العادية على أنها تتبطَّنُها وتُفسِّر قُدرتنا عليها. وتُعدُّ هذه الفكرة تطويرًا لفكرة تشومسكي عن النحو العمومي (العالمي) الفطري. وهي تقوم على عقْد نوعٍ من المُماثَلة (الأنالوجي) بين تشغيلات المخ وتشغيلات الحاسوب، من حيث إن برامج الحاسوب هي مجموعة من التعليمات المُعقَّدة لُغويًّا والتي نرى أنَّ تنفيذها يُفسِّر السلوك الظاهر للحاسوب.

هكذا يمكن، فيما يبدو، أن يمتلك المرء تصوُّرات بدون لغة، وأن يمتلك لغةً بدون أن يتأثر بالتصوُّرات؛ الأمر الذي يجعل حتى الصيغة المُعتدِلة من فرضية ورف تبدو هزيلةً لا وزن لها. غير أن فرضية جيري فودور عن لغة الفكر، من حيث هي تفسير للقدرة اللغوية ولتعلُّم اللغة العادية، لم تحظَ بالقَبول العام. ويبدو أنها لا تُفسِّر إلَّا القوى التمثيلية العادية للذهن؛ إذ تهيب بأشياء فطريةٍ من نفس الصنف.

(٢-٨) دراسات مُؤيِّدة لفرضيَّة ورف

دراسة لوسي وشويدر عن تذكُّر الألوان

في عام ١٩٧٩م قام لوسي وشويدر باختبارٍ عن تذكُّر الألوان جاءت نتائجه مُؤيِّدة لفرضية النسبية اللغوية. فإذا امتلكَتْ لغةٌ ما ألفاظًا للتمييز بين الألوان فمِن المُقدَّر أن يؤثر ذلك في التمييز والإدراك الفعلي لهذه الألوان. وقد وَجَد لوسي وشويدر أن ذاكرة تمييز الألوان تعمل بوساطة الألفاظ الخاصة بالألوان الأساسية على وجه الحصر؛ أي تتأثَّر بعامِلٍ لُغوي محض. غير أنَّ هذا أمرٌ مُتوقَّع وغير مُثير للدهشة؛ لأن الذاكرة في هذه الحالات تَستخدِم المخزون اللغوي. ومن الطبيعي أن تتأثَّر بمدى إمكانية تسجيل الألفاظ اللغوية المُتاحة وحفظها في الذاكرة. وإنما تحتاج فرضية ورف في إثباتها حقًّا إلى ضربٍ من الإدراك لا يَستخدِم اللغة استخدامًا مُباشرًا غير أنه يتشكَّل بها في نشوئه.٣٦

دراسة ويزمان ودازين عن التوجُّه المكاني

في عام ١٩٩٨م قام ويزمان ودازين باختبارٍ لِلُغة جزيرة بالي الإندونيسية، فاكتشفا فروقًا بين أهل الجزيرة وبين الغربيين في التوجُّه المكاني. وجد ويزمان ودازين أن استخدام نسَقٍ مَرجعي مُطلق قائم على نقاط جغرافية في الجزيرة يرتبِط بالدلالة الثقافية الكُبرى التي يَعزوها الأهالي لهذه النقاط الجغرافية. وقد قام الباحِثان بدراسة تأثير اللغة على تفكير أهالي الجزيرة وانتَهَيا إلى نتائج تُؤيد صيغةً مُعتدلةً من فرضية ورف.٣٧

دراسة بيتيرسون وسيجول عن إدراك الأمور العقلية

تتمتَّع هذه الدراسة بأهميةٍ خاصة؛ إذ تُعدُّ عند الكثيرين دليلًا مُدهشًا على صِدق فرضية ورف. في «تجربة طبيعية» تتعلَّق بالأطفال الصمِّ لآباءٍ يَسمَعون، قام بيتيرسون وسيجول عام ١٩٩٥م بمُقارنة هؤلاء بالأطفال الصُّمِّ لآباءٍ صُمٍّ مثلهم. وجد الباحثان فرقًا بين الطرفين من حيث بناء الواقع، وبخاصة في مجال الأمور غير العِيانية مثل المشاعر و«التمثل الوجداني» empathy (القُدرَة على اتِّخاذ الإطار المَرجِعي للآخرين)، وهي قُدرات تَبيَّن قصُورها في مجموعة الأطفال الصُّمِّ لآباءٍ يسمعون.

ذهب بيتيرسون وسيجول إلى أنَّ فشل هؤلاء الأطفال في هذه الجوانب لا يعود إلى الصَّمَم بحدِّ ذاته، فقد نجح الأطفال الصمُّ لآباءٍ صُمٍّ فيما فشل فيه هؤلاء. وتأويل ذلك أن الأطفال الصمَّ لآباءٍ يسمعون هم مجموعة محرومة من التعرُّض للألفاظ التي تُشير إلى أمور تجريدية غير عِيانية، وبخاصة تلك التي تتَّصِل بالحالات الذِّهنية كالاعتقادات والرَّغَبات والمَشاعر؛ ذلك أن آباءهم السامعين ليسوا مُتمكِّنين من اللغة اللازمة لشرْح مِثل هذه الأشياء، فهم يُحاولون التواصُل مع أطفالهم الصمِّ بلغة الإشارة في حدود الأشياء العيانية، أما الحديث عن الكيانات التجريدية كالعقول فلا يملكون تَوصيله لهم، وبالتالي فقد دأبوا على ألَّا يتحدَّثوا لأطفالهم عن الحالات الذِّهنية كالمقاصد والنوايا والأفكار والمشاعر، وأن يقصُروا مُحادثاتهم معهم على الأشياء العينية. إنَّ الحديث عن الأمور العقلية غير الملموسة هو موضوع محوري في المُحادثات بين الآباء والأطفال، وليس ثَمَّة ما يحُول دون هذا الحوار أيضًا بين الآباء الصمِّ وأطفالهم الصُّم.

يرى بيتيرسون وسيجول أنَّ هذا دليل دامغ على أن اللغة تُشكِّل الإدراك/المعرفة: فها نحن بإزاء مَجموعتَين من الأطفال الأسوياء مُتطابقتَين في كلِّ شيء عدا أنهما نشأتا في بيئتَين تختلفان في جانبٍ واحد بعينه، وهو توافر الإشارة اللغوية إلى الأمور العقلية في مجموعة وغيابها في مجموعة أخرى.٣٨

(٢-٩) وجه بنيامين ورف

ما يزال وجه بنيامين ورف يُطالِعنا في كل مبحثٍ من مباحث اللغة؛ في الترجمة، وفي فلسفة المُقدِّسين للغة، وفي فكر المُرتابين فيها الداعين إلى تحطيم أوثانها، وفي فكر المُتطرفين في النسبية المُوغِلين في فِجاجها حتى مَزالِق الفوضوية. يُطالِعنا وجه ورف كأنه راضٍ عن حصاد زَرْعه مُعجبٌ بهَول إنجازه.

في الترجمة

في كتابه الأخير «أسطورة الإطار» (١٩٩٤م) يقول كارل بوبر:

على الرغم من أنه لا تُوجَد أي نِسبية لغوية فيما يتعلَّق بصِدق أي عبارة، فثمَّة إمكان ألا يُمكن ترجمة عبارة ما إلى لغةٍ أخرى مُعينة.

ذلك أن لُغتَين مُختلفتَين يمكن أن يُوطِّنا في صميم النحو رأيَين مُختلفَين عن الخامة التي صُنِع منها العالم، أو عن الخصائص البنائية الأساسية للعالم. وفي مصطلحات كواين Quine يُمكن أن يسمى هذا «النسبية الأنطولوجية» ontological relativism.٣٩
تُظهِرنا الترجمة على حقيقة كبرى، هي أن اللغة ذاتها تنطوي على تأويلٍ شامل للعامل، وعلى أن «نظرة العالم» Weltanschauung تختلف من لغة إلى أخرى. ليس فعل الترجمة مسألة آلية بسيطة من إيجاد مرادف، مِثلما تفعل أجهزة الترجمة فلا تأتي نواتِجها المُضحكة إلا دليلًا بيِّنًا على أنَّ الترجمة ليست مُرادَفةٌ آلية، وما كان لها أن تكون؛ ذلك أن المُترجِم هو وسيط بين عالَمَين مُختلفين لا عالَمين مُتناظِرين أو مُترادفين. ليس كالترجمة شيءٌ يُخبِرنا كيف تقوم الكلِمات فعلًا بتشكيل نظرتنا للعالم، بل في تشكيل إدراكنا ذاته. إنما اللغة مستودع للخبرة الثقافية، ونحن نُوجَد في هذا الوسيط وخلاله. نحن نعيش في اللغة ونرى بعينيها. نحن لسنا موجودات تَستخدِم الرموز بل موجودات مُشيَّدة بهذا الاستخدام مجبولة به. أو كما يقول همبولت «نحن بشرٌ لا لأنَّنا نملك اللغة، بل لأننا نحن اللغة.»
وإذ تفشل أجهزة الترجمة فشلًا ذريعًا بالمُقارنة بالمُترجِم الإنسان، وبخاصة في الأعمال الأدبية، فإنَّ ذلك ينهض دليلًا على أن الترجمة صنفٌ من التأويل، وشكلٌ من أشكال الفَهْم والإفهام. ثَمَّةَ «نظرة للعالم» قابِعة في صميم «النصِّ الأدبي» ومُفترَضة مُسبقًا في أسطره وداخلة من ثَمَّ في فهمه وتقديره، ولا بدَّ للناقد من أن يستلَّ هذه النظرة ويأخُذَها مأخَذَ الجدِّ وألا ينصرِف عنها باعتبارها من أغاليط النقد التاريخي البائد.٤٠
من الشروط الأساسية مثلًا لفهم «الأوديسا» أن نُدرك منذ البداية أن الأشياء الطبيعية في «نظرة العالم» القابِعة في الأوديسا، هي أشياء حيَّة قاصدة مُريدة، وأن العالم هو مدًى من الأرض والماء بقدْر ما يمكن للمرء أن يرى، وأنَّ كلَّ عملية طبيعية هي من فعل كائنٍ خارِقٍ للطبيعة، وأنَّ الآلهة هي مجموعة من سَراة الكائنات فوق البشرية التي لها كلُّ ما للبشَر من مواطن ضَعف وإن تكُنْ تعمل وفقًا لصيغةٍ عُليا من الدستور الخَلْقي الخاص بالبطل اليوناني. ليس قبل أن نَلِج إلى هذا العالم الغريب عن عالمنا يُمكِننا أن نلتفِتَ إلى ذلك الرجل الحُوَّل القُلَّب، مُلاعِب الموت وغازِل الحكايا التي كاد يَخدَع بها راعيتَه «أثينا»، ذلك الباحث النَّهِم عن المعرفة المغامرة — أوديسيوس.٤١

الترجمة إذن تجعلنا على وعيٍ بالتعارُض القائم بين عالم فَهْمنا الخاص وبين عالم الفَهْم الذي يمضي فيه العمل. وإذا كان الحاجز اللغوي يُبرِز هذا التعارُض ويجعل وجود هذَين العالمين أكثر وضوحًا فإنَّ وجودهما قائم في أيِّ تأويل لعملٍ مكتوب بلُغَتنا نفسها، بل قائم في حقيقة الأمر في أي «حوار» أصيل وبخاصة إذا كان طرفا الحوار يفصلهما فاصل جغرافي.

والترجمة لا تكون نُسخة عن أصل، وإنما نُسخة عن نُسخة؛ لأنَّ النص الأصلي ليس أحاديَّ التأويل، ولأنه ينطوي على فائضٍ من المعنى، فما إن تتمَّ كتابة النصِّ حتى يدخُل في دوامة التأويل اللامتناهية، وحينئذٍ لا يبقى معنًى للترجمة كنسخةٍ طِبق الأصل، فأي أصل هذا الذي ستأخُذ به عملية الترجمة؟ إنها لا بُدَّ أن تنتقي نُسخةً ما عن الأصل لكي تُترجِمه. وحينئذٍ ستغدو الترجمة نُسخة عن نسخة، وتأويلًا لتأويل.٤٢

هيدجر وجادامر وبلانشو

ذهب الفيلسوف المُعاصِر مارتن هيدجر إلى أنَّ اللغة هي الفاعل الحقيقي الذي يقِف وراء عملية التفكير نفسها؛ هي التي تفكر! هي التي «تقول الإنسان»! فحين يُصبح الفَهم صريحًا كتأويل، كلغة، فإن ثَمَّةَ عاملًا إضافيًّا خارجًا عن ذات الإنسان يعمل عمله ويمارس تأثيره؛ ذلك أنَّ اللغة «تُضمِر داخلها منذ البداية منحًى من الفكر كاملًا مُكتملًا، وتنطوي على طريقة في النظر إلى الأشياء تامَّة التكوين مُكتملة «المعالم».» وفي أعماله المتأخِّرة يؤكد هيدجر بدرجةٍ أكبر تلك الصِّلة بين اللغة والوجود، حتى ليصبح الوجود ذاته لغويًّا! في كتابِه «مدخل إلى الميتافيزيقا» يقول هيدجر: «إن الكلمات واللغة ليست لفائف تُعبَّأ بها الأشياء لكي يتبادَلها أولئك الذين يكتبُون أو يتحدَّثُون، إنما في الكلمات واللغة تدخُل الأشياء إلى الوجود للمرة الأولى وتنوجِد وتكون.» هذا هو المعنى الذي ينبغي أن نفهَمَ عليه قول هيدجر المأثور «اللغة هي بيت الوجود.»

يرى هيدجر أن للتسمية (اللغوية) فعل خلقٍ وإنشاء، وحين لا يجِد المرء كلمة تُترجِم خبرته فلا جدوى للخبرة ولا قِيمة، وربما لا وجود لها على الإطلاق، فالأسماء هي التي تُحضِر الأشياء وتمدُّها بالوجود والثَّبات، وهي التي تُسبِغ المعنى على الخبرة وتجعل الخبرة «تُصبح ذاتها» على حدِّ قول بول ريكور. وبدون ترجمة الخبرة إلى لغة تبقى الخبرة محبوسةً في عالم الذات (أو العالم ٢ بتعبير بوبر)، وفور الصياغة اللغوية تنعتِق الخبرة من عالم الذات وتنتقِل إلى عالم «المعرفة الموضوعية» أو العالم ٣ بتعبير بوبر.

ويذهب هانز جيورج جادامر، تلميذ مارتن هيدجر، إلى أنَّ اللغة والفكر شيء واحد. ويرفض فكرة اللغة ﮐ «علامة» sign، فاللغة عنده «وسط» medium يغمُر كلَّ شيء ويُحيط بكلِّ شيء يمكن أن يُصبِح موضوعًا لنا. أن ترى اللغة أداةً للتأمل البشري، أو ترى الكلمات أدوات للذات، هو أشبَهُ بأن تجعل الذيل يهزُّ الكلب! «اللغة التي تحيا في الكلام، اللغة التي تغمُر كلَّ شيء وتُحيط بكلِّ مُفسري النصوص، تلتحِم بعملية الفكر التحامًا، بحيث لا يبقى في يدِنا شيء لو أنَّنا انصرفْنا عمَّا تُسلِّمنا إياه اللغة في المضمون وأردْنا التفكير في اللغة كشكل. لم تزل لا شعورية اللغة هي أسلوبها الحقيقي الأصيل في الوجود.» بهذا المعنى يُمكن القول بأن الخبرة اللغوية بالعالم هي «مُطلق» من المُطلقات، وما من موضوع للمعرفة إلَّا هو مشمول باللغة وواقِع داخل أفق اللغة. ولنا أن نُسمِّي هذه الحقيقة «الصبغة اللغوية liguisticality لخبرة الإنسان بالعالم».٤٣

أما موريس بلانشو فيذهب، مِثل هيدجر، إلى أنَّ اللغة هي التي تُفكِّر ويؤكِّد على «الخاصية اللاشخصية للُّغة، ووجودها المُستقل المُطلَق الذي تحدَّث عنه مالارميه. فهذه اللغة لا تفترِض أيَّ شخصٍ يتكلَّمُها ولا أيَّ شخصٍ يسمعها. إنها تُكلِّم ذاتها وتكتب ذاتها.»

يورجين هابرماس، ورولان بارت، وبرتراند رسل

وفي مُقابل هؤلاء الذين أنزلوا اللغة منزلة «المُطلق»، ثمَّةَ فصيلٌ آخر من المُفكرين يعرف للُّغة نفوذها الهائل وسطوتها النافذة ودورها الخطير ولكن بشكل سلبي ارتيابي.

من هذا الفريق الارتيابي يورجين هابرماس J. Habermas (١٩٢٩م–…) الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني الذي ينتمي إلى الجيل الثاني من مدرسة فرنكفورت النقدية. ذهب هابرماس إلى أن اللغة كيان أيديولوجي يختزِن في قلبه الزَّيف والخُرافة والاستِلاب. وإذا كانت الأيديولوجية في اللغة قمعيَّة كابتة فإنَّ فهم اللغة لا جدوى منه ما لم يتمَّ التحقُّق من الأيديولوجيات وتمحيصها. ثمَّةَ فرقٌ بين الفَهْم من خلال اللغة وبين الانعِتاق من اللغة. ومن المُتيقَّن أن المبادرة السياسية بتصحيح الموقف أهم بكثير من مُجرَّد تفسير الألفاظ؛ ذلك أن تشويهات اللغة لا تأتي من استعمال اللغة بل من ارتباطها بالعمل وبالسلطة، وهو ارتباط يَظلُّ أعضاء المجتمع غافلين عنه وغير مُتفطِّنين إليه؛ الأمر إذن ينطوي على تشويهٍ مُنظَّم للفهم وليس مجرَّد سوء فهم. بإمكان الأيديولوجيا أن تتسلَّلَ إلى نسيج اللغة ذاتها وتسلُكَ نفسها في سَدى اللغة ولحمتها. وهكذا تُصبِح اللغة، وهي الأداة الضرورية للحوار عند جادامر، حاملةً للعدوى الأيديولوجية. ومن ثَمَّ فإن مَهمَّة نظرية التأويل هي أن تفضح الزَّيف وتقهر التحيُّزات عن طريق المنهج النقدي.٤٤
أما المُفكر الفرنسي ومُنظِّر الأدب رولان بارت فيقول: إنَّ مَعركَتَنا، نحن المُثقَّفين، تقوم ضدَّ السلطة في أشكالها المُتعدِّدة. وليست هذه بالمعركة اليسيرة؛ ذلك أن السلطة مُتعددة في الفضاء الاجتماعي ومُمتدَّة في الزمان التاريخي، وعندما نُبعِدها وندفعها هنا، سرعان ما تظهر هناك، وهي لا تزول البتَّة. قُمْ ضدَّها بثورة بُغية القضاء عليها، وسرعان ما تنبعِث وتنبُت في حالةٍ جديدة. ومرَدُّ هذه المُكابدة والظهور في كلِّ مكان هو أن السلطة جرثومة عالِقة بجهازٍ يخترق المجتمع ويرتبط بتاريخ البشرية في مجموعه، وليس بالتاريخ السياسي وحده؛ هذا الشيء الذي ترتسِم فيه السلطة، ومنذ الأزل، هو … اللغة! إن اللغة سُلطة لأنها تنطوي على تصنيف، وكلُّ تصنيف ينطوي على نَوعٍ من القهر. إن كلَّ لهجةٍ تتعيَّن أكثر ما تتعيَّن لا بما تُبيح قوله بل بما تُرْغَم على قوله. وفي اللغة الفرنسية أنا مُرغَم على أن أضع نفسي كفاعلٍ قبل أن أُعبِّر عن الفعل الذي لن يكون إلا صِفةً تُحمَل عليَّ. وليس ما أقوم به إلَّا نتيجة تتولَّد عمَّا أنا عليه. وعلى نحوٍ مُماثل أنا مُرغَم دومًا على الاختيار بين صيغة التذكير والتأنيث، وليس بإمكاني على الإطلاق أن أَحيد عنهما معًا أو أجمع بينهما، ثم إنني مُرغَم على تحديد علاقتي بالآخر، إما باستعمال ضمير المُخاطب بصيغة المفرد أنت أو بصيغة الجمع أنتم، وليس بإمكاني أن أترُك المجال لمُبادرة العاطفة والمجتمع. وهكذا فإن اللغة، بطبيعة بِنيَتِها، تنطوي على علاقة استلاب قاهرة. ليس النطق، أو بالأحرى الخطاب، تبليغًا كما يُقال عادة؛ إنه إخضاع. فاللغة توجيه وإخضاع مُعمَّمان.٤٥

إنَّ اللغة ما إن يُنطق بها، حتى وإن ظلَّت مُجرَّد همهمة، فهي تُصبح في خدمة سلطة بعينها؛ إذ لا بُدَّ أن ترتسِم فيها خانتان: نفوذ القول الجازم، وتبعية التكرار والاجترار. فمن ناحية، اللغة جزمٌ وتقرير. ومن ناحية أخرى فإنَّ الدلائل والعلامات التي تتكوَّن منها اللغة لا تُوجَد إلَّا بقدْر ما يُعترف بها، أي بقدر ما تتكرَّر وتَرِد. فالدليل تبعيٌّ مُقلد، وفي كلِّ دليلٍ يرقُد نموذج مُتحجِّر: ليس باستطاعتي الكلام دون أن يَجرَّ كلامي في ذيوله ما يعلَقُ باللسان، وما إن أصوغ عبارةً ما حتى تلتقي عندي الخانتان المذكورتان، وأكون في الوقت ذاته سيِّدًا ومُسوَّدًا؛ إذ إنني لا أكتفي بأن ألوك ما قيل وأُردِّده، مُرتكنًا بارتياح إلى عبودية الدلائل، بل إنني أؤكد وأُثبِت وأفنِّدُ ما أُردِّده.

في اللغة إذن خضوع وسُلطة يمتزِجان بلا هوادة، فإذا لم تكُن الحرية مُجرَّد القدرة على الانفِلات من قهر السلطة، وإنما بالأخصِّ عدَم إخضاع أيٍّ كان، فلا مكان للحريَّةِ إلَّا خارج اللغة. بيد أن اللغة البشرية، لسوء الحظ، لا خارج لها! إنها انغِلاق، ولا مَحِيد لنا عنها إلَّا عن طريق المستحيل: إما بفضل الوحدة الصوفية، مثلَمَا وصفَهَا كيركجارد، عندما حدَّد فداء إبراهيم كفِعلٍ لا مثيل له، خال من أي كلام، حتى ولو كان كلامًا باطنيًّا، يقوم ضِدَّ شمولية اللغة وتبعيتها وطاعتها، أو بفعل «آمين» نيتشه الذي يُشبِه خلخلةً مُبتهِجة ضدَّ استعباد اللغة، وما يُطلِق عليه دولوز رداءها الرجعي. ولكن، نحن الذين لسنا فرسان الإيمان، مثل إبراهيم، ولا الإنسان الأعلى الذي يتحدَّث عنه نيتشه، لا يتبقى لنا إلَّا مُراوغة اللغة وخيانتها. هذه الخيانة المُلائمة، وهذا التَّلافي والهروب، هذه الخديعة العجيبة التي تسمح بإدراك اللغة خارج سُلطتها في عظمة ثورة دائمة للغة، هذا هو ما أطلق عليه أدبًا، يعني ذلك أنَّ الوسيلة الوحيدة للخلَاص من سجن اللغة وعبوديتها هو خلخلتها عن طريق «الكتابة/الأدب»، يقول بارت: «لست أعني بالأدب، جملة أعمال، ولا قطاعًا من التبادُل والتعليم، وإنما الخدْش الذي تُخلِّفه آثار مُمارسة هي ممارسة الكتابة. وأقصد أساسًا النص، وأعني نسيج الدلائل والعلامات التي تُشكِّل العمل الأدبي، ما دام النصُّ هو ما تُثمِره اللغة، وما دامتِ اللغة ينبغي أن تُحارب داخل اللغة، لا عن طريق التبليغ الذي تُشكِّل هي أداةً له، وإنما بفعل الدور الذي تقوم به الكلِمات والتي تُشكِّل هي مسرحه. سِيان أنْ أقول إذن أدبًا أو كتابة أو نصًّا. إنَّ قُدرات التحرُّر التي ينطوي عليها الأدب لا تتوقَّف على الشخص المدني، ولا على الالتزام السياسي للكاتب، الذي لا يعدو أن يكون بشرًا بين البشر، كما أنها لا تتوقَّف على المُحتوى المذهبي لعمله، وإنما على ما يقوم به من خلخلةٍ للُّغة.»٤٦
والحقُّ أن سُلطان اللغة هو مفهوم مِحوري يلتقي عليه البِنيويُّون بعامة. «فإذا كان كلُّ ما نعرفه في نهاية الأمر هو الأفكار الموجودة داخل عقولنا فمعنى ذلك أنَّهُ لا يُمكن الوصول إلى الحقيقة، وهكذا نُصبِح، منطقيًّا، سجناء داخل اللغة.»٤٧ يقول فوكوه: «أعتقِد أنَّ عددًا مِنَّا، بمن فيهم أنا، يَرَون أنَّ الحقيقة لا وجود لها، وأنَّ اللغة فقط هي الموجودة.» أما فريدريك جيمسون فيُعبِّر في كتابه «سجن اللغة» (١٩٧٢م) عن حِيرة البِنيويِّين والمَوقِف الذي وضعوا أنفسهم فيه. فحيث إن بناء اللغة هو الذي يُحدِّد معرفة الفرد بالعالم، إذن لا يُمكن الانتقال من اللغة إلى الواقع في ذاته — الواقع في حد ذاته غير موجود؛ لأن وجوده يحدُث داخل اللغة فقط — مِمَّا يعني في نهاية الأمر تحوُّل اللغة إلى سِجنٍ يحلُّ محلَّ «سجن العقل» على المذهب الكانتي. وهكذا يخلُص فوكوه إلى القول: «يعتقِد البشر أن كلامهم في خدمتهم لكنهم لا يُدرِكون أنهم يُخضِعون أنفسهم لمطالبه.»٤٨ لقد جرَتْ مياه كثيرة في مجالات الفلسفة والسياسة والاجتماع أدَّتْ إلى أن تتبوَّأ اللغة تلك المكانة التي تبوَّأتْها في القرن العشرين. لقد جرى تحوُّلٌ في نظرتنا إلى اللغة عبْرَ ما يقرُب من ثلاثةِ قرون حدَث خلالها ابتعاد تدريجي عن مفهوم الشفافية، التي نرى الكلمة أو الصوت مُمثِّلًا للشيء الموجود بالفعل والاقتراب من المفهوم الأخير القائل بأن الأشياء لا وجود لها خارج اللغة وأن اللغة تسبِق الوجود. كانت دراسات فرديناند دي سوسير من العلامات الكُبرى في هذا التحوُّل. يقول سوسير إنَّ الفكر في حدِّ ذاته مِثل سحابة حوَّامة لا يُوجَد فيها شكل مُحدَّد بصفة أساسية. لا وجود للأفكار المُسبَقة، لا شيء واضِح قبل دخول البنية اللغوية.٤٩
أما جاك لاكان فيرى أن الذات تتشكَّل في وَعْيها المُستمر بالآخر. والآخر هنا هو اللغة! الآخر-اللغة يُمثِّل قوة كبتٍ أو قهر مُستمرة بسبب اعتماد الطفل المُستمر على ذلك الآخرز وهو في الارتباط بالآخر يُعاني من حالة تمزُّق دائمة بين ذاته المُتكاملة كما يراها في المرآة وبين عجزِه وعدَم اكتماله. اللغة إذن هي «الآخر» الذي يُحدِّد بحضوره «الأنا» أو «الذات». لقد حلَّت اللغة حقًّا محلَّ العقل كأداةٍ للمعرفة، وحلَّت أيضًا محلَّه كسجنٍ للمعرفة بعد أن أصبحَتْ حدود معرِفَتِنا بالعالم تقِف عند حدود اللغة وتُخومِها. وبعد أن أصبحت المعرفة خارج أبنيتها وأنساقها مُستحيلة، وبعد أن تحوَّلت إلى ذلك «الآخر» المُستبد الذي يَقهر «الأنا» من ناحية، ولا يتأكَّد وجود تلك «الأنا» إلا في حضورها، من ناحية أخرى.٥٠

وفي كتابه حكمة الغرب (١٩٥٩م) يُحذِّر برتراند رسل من تلك «المُنطويات التاريخية الحفرية» القابعة في أحشاء اللغة العادية، والتي يُمكن أن تُصبح عبئًا ضارًّا عندما تتغلغل دون وعيٍ مِنَّا في صميم إدراكنا الراهن للأشياء وتفرِض قوالبها ونماذجها على رؤيتنا الحالية للعالم؛ أي حين تجعلنا نرى العالم بعيونٍ غير عيوننا. يقول رسل: «ذلك أنَّ اللغة العادية هي مُستقرُّ أجزاءٍ مُتناثرة من التأمُّلات الفلسفية المَوروثة من الماضي، وهذا أمر يُستحسَن أن يتذكَّره من آنٍ لآخَر أولئك الذين يُؤلِّهون الكلام العادي وكأنه يعلو على كافة قواعد البحث والاستقصاء.»

وقد أفاد المُفكِّر العربي محمد عابد الجابري من هذه الآراء والمذاهب جميعًا في تشريحه للعقل العربي والكشف عن تكوينه المعرفي والأيديولوجي في كتابه «العقل العربي». يذهب الجابري إلى أنَّ اللغة العربية هي «مُحدِّد أساسي، وربما حاسم، للعقل العربي بِنيةً ونشاطًا … ذلك أن اللغة لا تعكس الظروف الطبيعية وحسب، بل تحمِل معها هذا الانعكاس نفسه لتنشُرَه على أمكنةٍ وأزمنةٍ مُختلفة، فتكون بذلك عاملًا أساسيًّا، وأحيانًا حاسمًا، في تحديد وتأطير نظرةِ أصحابها إلى الأشياء. وإذا كان هذا صحيحًا بالنسبة لكلِّ اللغات حتى المُتطوِّرة منها؛ لأنَّ تطوُّر اللغة بطيء بطبيعته، فإنَّ للُّغة العربية خصوصية تنفرِد بها في هذا المجال.»٥١
أما المُفكِّر المصري الكبير د. زكي نجيب محمود فيذهب في كتابه «تجديد الفكر العربي» إلى أنَّ اللغة هي الفكر، وأن التغيير في أي فِكر لا بدَّ أن يَسبِقه تغيير مُهمٌّ في طبيعة اللغة التي يَستعملها أهل ذلك المُجتمع، حيث يُوجَد الفكر. فإيجاد ثورة فكرية يَستلزِم إيجاد ثورةٍ لُغوية أولًا.٥٢

بول فييرابند، وريتشارد رورتي

مع هذَين المُفكرين نجِد أنَّ الوعي بسطوة اللغة قد بلَغ مداه، ولعلَّه تجاوز الحدَّ إلى أن تردَّى في مزالِق الفوضوية. أما فييرابند فقد ارتكز في فكره على دعوى «ورف» بأنَّ كلَّ لغةٍ «تُفرز» كوزمولوجيا خاصةً بها. يتجسَّد ذلك في تصنيفاتٍ مُضمَرة تخلُق في المرء مقاومةً طبيعيةً لوجهات النظر التي تختلف عن نموذجه اللغوي اختلافًا بعيدًا، وتمنعه من تصوُّر أيِّ بديلٍ للتقليد السائد في جماعته اللغوية، وتُفضي إلى «تعذُّر المقايسة» incommensurability بين عوالم اللغات المُختلفة وبين النظريات العلمية المُتعاقبة.
أخذ فييرابند بما يُسمَّى «النظرية الكلية» holism في اللغة. وبمُقتضى هذه النظرية فإن معنى التعبيرات أو الجُمَل اللغوية يُحدِّده مكانها في الشبكة الكلية من الاعتقادات أو الجُمَل التي تتضمَّن نظريةً أو، في النهاية، نظرةً بأكملها إلى العالم. يترتَّب على ذلك أن النظريات المختلفة لا يمكن أن يكون لألفاظها نفس المعنى، وبالتالي فإنَّ النظريات المُتنافسة لا تُمكن مُقارنتها بمعيارٍ واحد، أو بالتعبير التِّقني الرائج «لا تقبل المقايسة» incommensurable. كذلك انصبَّ اهتمام فييرابند على العلاقة الوثيقة بين الملاحظات والنظرية. إنَّ ما سيُعدُّ ملاحظةً ذات دلالةٍ في حساب العلماء أثناء العمل العلمي إنما تُحدِّده النظرية. ثمَّةَ دائرة مفاهيمية مُحكمة الإغلاق بين النظرية التي يتبنَّاها المرء وبين اختياره للمُلاحظات التي سيُعدُّها مُدعمةً لنظريته. ليس الواقع واقعًا إلا «بالنسبة» لوجهةٍ مُعينةٍ من النظر. إن كلَّ ما هو واقع، وما هو طبيعي، وكل سِمةٍ أخرى لمُكوِّنات المنهج، إنما هي كذلك «بالنسبة» لوجهةٍ ما من الرأي فحسب، وهي بهذا الاعتبار تدعمُ هذا الرأي الذي لم يصِل إليه المرء بفضل الدَّور الذي لَعِبتهُ هذه المُكوِّنات في صيغةٍ منطقية مُعيَّنة٥٣ «لكي نُناقِش عيوب نظامٍ فكري سائد ليس يكفي أن نَعرِضه على محكِّ الواقع ونُضاهي بينه وبين «الوقائع» facts، فكثير من هذه الوقائع تمَّت صِياغتها في حدود هذه اللغة، وبالتالي تَمَّ جعلُها مُتحيِّزةٌ إلى جانبها. كذلك هناك وقائع كثيرة تظل، لأسباب إمبيريقية، بعيدةً عن منال الشخص الذي يتحدَّث لغةً مُعينة، ولا يجِد إليها سبيلًا إلَّا إذا اتَّخَذ له لغةً مُختلفة» (فييرابند، ١٩٧٠م، المادية ومشكلة العقل-الجسد).

أما ريتشارد رورتي فقد ذهب إلى أن ليس ثَمَّةَ شيءٌ من قبيل الحقيقة الموضوعية الخالِصة أو الواقع الخالِص، فنحن معزولون عن ذلك الشيء وليس لنا مَنفذ إلى أي حقيقةٍ بمعزلٍ عن اللغة، بل إنَّ هذه الفكرة هي فكرة مُستحيلة لأنَّها لا يُمكن أن تقوم إلا داخل أداء لُغوي مُعيَّن وعندئذٍ لا تعود فِكرةً عن حقيقة خالصة. إنَّ حديثنا عن الواقع هو دائمًا حديث عن «واقع — تحت — وصفٍ ما»، وهو بالتالي مُرتهِن لوصفه ذاته ومُتأثِّر بسمات اللغة الواصفة وخصائصها وشروطها. يرى روروتي أن العلماء يَخترعون أوصافًا للعالم، وهي أوصاف نافعة تخدُم أغراض التنبُّؤ والتحكُّم فيما يجري، غير أنه ليس هناك معنى تكون به أيٌّ من هذه الأوصاف تمثيلًا دقيقًا لِما هو عليه العالم في ذاته. وما الثورات العلمية إلَّا ضرب من «إعادة وصْف استعارية» للطبيعة، وليس استبصارًا في خصائصها الباطنة الصَّميمة.

وتاريخ الثقافة في رأي رورتي لا تُسيِّره أي عِلَّة غائية telos (كتحرير البشرية مثلًا) فثقافَتُنا إنما هي تشكلَّت نتيجة عددٍ لا يُحصى من «العوارض» contingencies المَحْضة. ومهما تلبَّسَ بنا وَهْم الحرية فإنَّ اللغة التي نستخدِمها هي التي ترسُم لنا الحدود النهائية للعالم كما نعرفه. وهذه اللغة ليست من اختيارنا، بل هي مفروضة علينا وتأتينا جاهزة من ثقافتنا المحلية، «وإن من ثمرات المذهب المُضاد للتَّمثيل antirepresentationalism (أي المُضاد لاعتبار العقل مرآة تعكس الواقع) هو أن نُدرك أن ليس بوسع أي وصفٍ للأشياء كما تبدو في عين إله، ولا بوسع سكاي هوك مُزوَّدة بأحدَث التقنيات أو بما سيجِدُّ من علوم، أن تُحرِّرنا من عرَضية الأسلوب الذي تمَّ به إثقافنا acculturation. إن هذا الشكل الثقافي هو ما يجعل بعض الاختيارات حيًّا أو مُهمًّا أو مفروضًا، ويترك غيرها مَيتًا أو تافهًا أو جائزًا.»٥٤

•••

هكذا نتبيَّن وجه بنيامين ورف في جميع التيارات المُعاصرة التي أكَّدت سطوة اللغة وأدركَتْ خطورتها إيجابًا وسلبًا. ولكي تكتمِل ملامح هذا الوجه الحاضر العتيد لا بدَّ لنا من أن نذكُر أنه، رغم كونه «نسبيًّا وصفيًّا» descriptive relativist بالتأكيد، لم يكن «نسبيًّا معياريًّا» normative relativist. كانت النسبية اللغوية عند ورف «وصفًا» description لا «وصفة» prescription، وصفًا لما هو كائن لا احتفاءً بما ينبغي أن يكون، رصدًا لحال الأشياء لا ارتكانًا إلى هذا الحال والتعبُّد له. ذهب ورف على سبيل المثال إلى أن بعض اللغات تُفضي إلى صورةٍ للعالم أدقَّ ممَّا تُفضي إليه اللغات الأخرى. والحقُّ أنه كان يرى أن «نظرة العالم» القائمة في لُغة الهوبي تفوق تلك القائمة في اللغات الهندوأوروبية في نواحٍ عديدة.

في مقاله «علاقة التفكير والسلوك الاعتيادِيَّين باللغة» يقول ورف إنَّ نعت «فارغ» حين يُلصَق ببرميل بنزين يُصبِح حاملًا لخطر الحريق! إنَّ الموقف هنا خَطِر من الوجهة المادية. غير أنَّ الضرورة اللغوية تَضطرُّنا إلى استخدام لفظةٍ تُوحي بالخلوِّ من الخطر، وتضرب صفحًا عن «امتلاء» الوعاء في حقيقة الأمر ﺑ «الأبخرة» وبقايا السائل والمُخلَّفات القابلة للاشتعال. هكذا يتبيَّن أن لفظةً واحدة قد تُستعمَل لوصف زُمرةٍ مُتنوعةٍ من ظواهر العالم، وأن «الخريطة» اللغوية تقدم ﻟ «الإقليم» الواقعي صورةً مُبسَّطةً تبسيطًا مُخِلًّا. على المرء أن يتفطن إلى ذلك القصور في الخريطة وألا يترُك وعيَهُ المباشر بالواقع مُغيبًا أو مُرتهنًا لوساطة الخرائط.

يُشير ورف أيضًا إلى عيوبٍ كُبرى تكمُن في اللغة الإنجليزية وعائلتها، منها على سبيل المثال ذلك الخلْط بين الجمع الحقيقي والجمع الخيالي: حين نقول مثلًا «عشرة رجال» و«عشر ساعات» فإنَّنا نُقيم في حقيقة الأمر مُماثلةً زائفة بين مَجالين أنطولوجيين مُختلفين، بنفس الضرورة التي جلبنا بها في المثال السابق خطر الحريق! ذلك أنَّ لُغتنا تخلِط بين مَوقِفين مُختلفين لأنها لا تملك غير نمطٍ واحدٍ لوصف كليهما. أما لغة الهوبي فهي عند ورف مُعفاةٌ من هذا القصور؛ لأنها لا تستخدِم الجموع والأعداد الأصلية إلا لوصف الكيانات التي تكوِّن، أو يُمكن أن تكوِّن، زمرةً موضوعية.

يبدو عمل ورف في جُملته كأنه دفاع عن النسبية التصورية وعن الثقافات الأمريكية القديمة وتبرئتها من وصمة «البدائية» حين تَستخدِم هذه اللفظة بمعنى ازدرائي. ويبدو عمله أيضًا كأنَّهُ دعوة إلى اندماج أو شراكة بين العلم والثقافة، وإلى تَحالُفٍ عقلاني بين اللغة والفكر والواقع. وهو بهذا التوجُّه يظلُّ نقدًا دائمًا للغة القياسية الأوروبية كنموذجٍ للواقع، ورفعًا للُغة الهوبي فوق عائلة اللغات الأوروبية، لأنها أقلُّ مَيلًا من هذه اللغات للتَّشييء الكاذِب والتَّجريد الزائف والتحوُّلات الاستعارية المُضلِّلة بين مجالات أنطولوجية مُختلفة. إنَّ الصيرورة والذاتية والفَهْم النِّسبي للزمان لَتَتراصَفُ في الإنجليزية جنبًا إلى جنبٍ مع النزعة الماهوية والأضداد الزائفة والثُّنائيات غير الصحيحة. ويخلُص ورف من تحليلاته إلى أنَّ اللغات الأخرى كالهوبي هي أكثر اقترابًا من رُوح العِلم الحديث! وأنها يُمكن أن تكون نموذجًا يُصحِّح للفكر الغربي أخطاءه ويُقوِّم زَيغه، كما تنطوي أعماله على دعوةٍ إلى حماية اللُّغات المُتعدِّدة من الاندثار، ما دامت كلُّ لغةٍ تُقدِّم لنا استبصاراتٍ فريدةً عن العالم وآلياته، وتصنيفًا مُعقَّدًا لأشياء الطبيعة وكائناتها، وفهمًا مُعيَّنًا للمكان والزمان.

تريد النسبية الوصفية التي قال بها ورف أن تلفِتَ النظر إلى كلِّ تلك اللغات الأخرى التي تطوَّرت بشكلٍ مُستقل، ووصلت من ثَمَّ إلى تحليلاتٍ مبدئية مختلفة على أنها منطقية بنفس الدرجة، وتجِد فيها التَّرياق الضروري لذلك التضييق والتقييد الذي تَخلُقه حتميَّة اللغة الواحدة وتفرِضُه على العالم. كان ورف، شأنه شأنُ زميله النسبي أينشتين، كوزمولوجيًّا يُريد أن يحثَّ مُعاصريه الضَّيِّقي الأفق على أن يكفُّوا عن النظر إلى بضع لهجاتٍ حديثة من الفصيلة الهندوأوروبية، وآليات التعقُّل التي نجمت من أنماطها، على أنها ذُروة تطوُّر العقل البشري، وألا يَعزوا انتشارها الواسع إلى أنها أصلَحُ للبقاء ولا إلى أيِّ شيءٍ عدا بضع وقائع عرَضية أو ظروف تاريخية، ظروف لا يمكن أن تُدعى سعيدةً إلا من وجهة النظر الضَّيقة للأطراف المَحظية. هذه اللهجات، وعمليَّاتنا الفكرية المُرتبطة بها، لا ينبغي بعد أن نعتبِرها مُستغرقةً لكل مِطياف العقل ومُحيطةً بكل درجات المعرفة، إن هي إلا كوكبةٌ واحدة في مجرَّةٍ هائلة الاتساع. ومَن يُدرك حقَّ الإدراك ذلك التنوُّع المُذهل للأنساق اللغوية التي تمتدُّ على وجه البسيطة يأخذه شعورٌ مُطبقٌ بأن الروح البشرية أقدَمُ من المُتصوَّر، وأن بضعة الألوف من سِني التاريخ الذي تشمله سجلَّاتنا المُدوَّنة لا تتجاوَزُ سُمك خطِّ قلَمٍ على المقياس الذي يقيس ماضي خِبرتنا على هذا الكوكب، وأن الجنس البشري لم يُحرِز نموًّا مُفاجئًا لا حقَّقَ ولافًا جبَّارًا خلال هذه الألوف الحديثة من السنين. ولم يَعْدُ أن لعب ببضع صِيغٍ لغويةٍ ونظراتٍ عن الطبيعة ورِثَها من ماضٍ قديم مُوغلٍ في القِدم.٥٥

(٣) النسبية: نظرة عامة

نحن لا نرى الواقع كما هو، وإنما نراه كما نحن!

أناييس نين
ليست «النسبية» relativism مذهبًا واحدًا فردًا، بل هي فصيلٌ من الآراء ومن وجهات النظر تلتقِي جميعًا في مبدأ عامٍّ مفادُه أن جانبًا هامًّا من جوانب الخبرة، أو الفكر أو التقييم أو الواقع نفسه، هو أمرٌ نِسبي بشكلٍ ما، أي مُتوقِّفٌ على شيءٍ آخر ومنسوب إلى ذلك الشيء. مثال ذلك ما ذهب إليه البعض من أن معايير «التبرير» justification أو الأخلاق أو «الحقيقة/الصدق» truth هي أمور نِسبية تختلف باختلاف اللغة أو الثقافة أو البنية البيولوجية … إلخ. ورغم أن المسلك النسبي من التفكير يُفضي في كثيرٍ من الأحيان إلى نتائج مُمتنِعة وغير مقبولة، فإن لها فتنةٌ مُعينةٌ تأسِر العقل وتُغويه. ولقد أخذَتْ بألباب قطاعٍ عريضٍ من المُفكرين في شتَّى المجالات ومُختلف المذاهب.
تَجبَهُنا المُوتيفات النسبية في كل مجالٍ تقريبًا من مجالات الفلسفة، فنَجِد العديد من صُوَر «النسبية الوصفية»٥٦ ذا صلةٍ بمسائل الفلسفة الاجتماعية المَعنية بفهم وتأويل الثقافات المُغايرة لنا أو الأحقاب التاريخية البعيدة عنا. ونجد صورًا أخرى من النِّسبية تتَّصِل بمسائل في «فلسفة الذهن/العقل» philosophy of mind تتعلق بالمحتوى الذهني، وصورًا بعدُ تتَّصِل بمسائل في فلسفة العلم تتعلَّق بتحوُّل المفاهيم (الانقلاب التصوُّري) و«اللامقايسة» incommensurability.٥٧
لم تَعُدِ التِّيمات النسبية وقفًا على الفلسفة ومباحثها، فقد تجاوَزَتْها وتفشَّتْ في مجالاتٍ خارج الفلسفة. فهي، على سبيل المثال، تلعب دورًا كبيرًا فيما يُطلَق عليه هذه الأيام «صراع الحضارات» أو «صراع الثقافات». بل إن بعض ألوان «النسبية الأخلاقية» moral relativism لَيُمثِّل تهديدًا لمعاييرنا ومُمارساتنا التقويمية، ويُمثِّل بالتالي تهديدًا لكثيرٍ من أنظِمَتِنا ومُؤسَّساتنا الاجتماعية والقضائية. كما أنَّ الإيماء بأنَّ الحقيقة أو التبرير نِسبيَّان هو أمرٌ خليقٌ أن يؤثِّر تأثيرًا مشهودًا على الأصول الراسخة والأُسُس الجوهرية التي تقوم عليها الموضوعية والمَعرِفة والتقدُّم الفكري.
تبدأ الحُجَج النسبية في أغلب الأحيان ﺑ «مُقدِّمات» premises معقولة، بل بِبدائِهَ مُسلَّمٍ بها، مثل:
  • إنَّنا كائنات تقَع موقعًا situated ثقافيًّا وتاريخيًّا مُعيَّنًا.
  • إن تبرير القضايا لا يمكن أن يمضي إلى ما لا نهاية.

  • إنَّنا لا يُمكن أن نتحدَّث دون أن نستخدم اللغة، أو نفكر دون أن نستخدِم المفاهيم والتصوُّرات.

غير أنها، أي الحُجَج النسبية، تُفضي في نهاية المطاف إلى نتائج غير مقبولة، بل غير مُتَّسِقة. ورغم ذلك فنحن لم نَتَّفِق على طريقةٍ تعصِمُنا من الانزلاق من نِقاطٍ انطلاقٍ نَرضاها إلى مقاصِدَ وغاياتٍ لا نرضاها.

يميل كلُّ طرفٍ من طَرَفَي النزاع حول النسبية إلى تبسيط آراء الطرف الآخر تبسيطًا مُفرطًا. وتزيد المُشكلة صعوبةً حقيقةُ أنَّ الدعاوى النِّسبية كثيرًا ما تتَّخِذ صُورَتَين أو صِيغَتَين: صيغة جريئة ولافتة يُنادون بها وصِيغة أكثر اعتدالًا وأشدَّ مِنعةً يُدافعون عنها، مع ميل الصيغة الأولى إلى التلوُّن بالصِّيغة الأخرى كلَّما تعرَّضَت للهجوم. كذلك تبدو النِّسبية أفضلَ ما تكون على مُستوى التجريد، فإذا هبطتْ على صعيد الحالات الفِعلية تغيَّر الأمر وبدَتْ في كثيرٍ من الأحيان إما «قولًا نافلًا» platitude غير ذي بال وإما قولًا غير معقول ولا مقبول على الإطلاق. ومن الحقِّ أيضًا أنَّ مُعظم الفلاسفة الأكاديميين في العالَم الناطق بالإنجليزية يرَون لافتة «نسبي» بمثابة قِبلة الموت، مِمَّا جعلهم يُعرِضون عن نُصرة أي صيغةٍ من صِيَغ هذا المذهب (بخلاف بعض التخصُّصات الأخرى، حيث نجِد البعض أقلَّ كراهةً للنسبية وأكثرَ استعدادًا للدفاع عنها). والحقُّ أنَّ كثيرًا من التوصيفات الصريحة للنسبية إنما تَرِدُ في كتابات مُناوئيها الصارِمين الذين يرسُمون لها صورة مُهلهلةً واهيةً كي ما تكون هدفًا يسيرًا للنقد.
كما أنَّ المُناقشات التي تتناوَلُ النسبية كثيرًا ما يُفسِدها أسلوب التفكير المُسمَّى «كلُّ شيءٍ أو لا شيء»، فتعبيرات من قبيل «كلُّ شيءٍ نِسبي.» و«كلُّ شيءٍ يجوز.» (كله ماشي) Anything goes تُومئ — كما سوف نرى — إلى صِيغٍ مِن النسبية مُتناقِضة في الأغلب. ولكن استِخلاص أنه ليس ثَمَّةَ صيغٌ جذَّابة من النِّسبية هو بمثابة وقوع في الخطأ في الاتِّجاه المُعاكس. ويبقى السؤال الأهمُّ هو ما إذا كان ثَمَّةَ مُتَّسعٌ لشكلٍ شائق ومقبول من النسبية يحتلُّ مكانًا وسطًا بين الصِّيَغ الصارمة ولكنَّها مُمتنِعة (مثل: كل حقيقة نسبية) من جهة، وبين الصِّيَغ المقبولة ولكنها تافهة (مثل: بعض معايير اللياقة نسبية) من جهة أخرى.

(٣-١) الصيغة العامة للنسبية

س منسوب إلى ص

وتنجُم شتَّى ضروب النسبية بأن نستبدل ﺑ «س» مختلف مظاهر الفكر أو الخبرة أو التقييم أو حتى الواقع نفسه (مثال ذلك: أشكال الإدراك، معايير العقلانية …) وأن نستبدل ﺑ «ص» شيئًا ما نرى أنه يُفضي إلى فروقٍ في قيمة «س» (مثال ذلك: اللغة، الحقبة التاريخية، …) وأن نُبيِّن مَبلغ ما تحمِله تَعبيرةُ «منسوب إلى» في الحالة المَعنيَّة. ومع كلِّ اختيارٍ ﻟ «س» و«ص» ينتُج صنفٌ من «النسبية الوصفية» descriptive relativism وصنف من «النسبية المعيارية» normative relativism كما سوف نُبيِّن لاحقًا.
ومن المُفيد أن يكون لدَينا عنوانٌ عامٌّ لقائمة «ص»، فنقول إنَّ الأشياء هي ما هي بالنسبة إلى «أُطُر تصوُّرية» conceptual frameworks أو إلى «أطر» frameworks فحسْب توخِّيًا للتبسيط. ومن المُصطلَحات التي جرى استخدامها لنفس الغرض: «نظرة العالم» Weltanschauung، «صورة/شكل الحياة» form of life، «مُخطَّط المقولات» categorical scheme، «النموذج الإرشادي/الشارح» paradigm. ومِن المُسلَّم به دائمًا أنَّ هذه الأطر التَّصوُّرية نفسها يُحدِّدها شيءٌ آخَر. ومن ثَمَّ فإن التَّسميات مِثل «الإطار» وغيره هي في حقيقة الأمر مُجرَّد رمْز استبدالي، بينما الفِعل الحقيقي إنما تقوم به تجسدات عيانية ﻟ «ص» بأفكارٍ مِثل اللغة، والثقافة، والحقبة التاريخية … إلخ.
يُعدُّ «س» في الصِّيغة العامَّة «مُتغيِّرًا تابعًا» dependent variable (يعتمد على الأُطُر)، ويُعدُّ «ص» «مُتغيِّرًا مُستقِلًّا» independent variable (يؤثِّر على واحدٍ أو أكثر من المُتغيِّرات التابعة)،٥٨ وحين يتحدَّث الناس عن ضرب مُعين من النسبية فهم يركزون أحيانًا على عوامل تعمل كمُتغيِّرات تابعة (كما هو الحال في النسبية التصورية أو النسبية الأخلاقية). ويركزون أحيانًا أخرى على عوامل تعمل كمُتغيرات مُستقلة (كما هو الحال في النسبية الثقافية أو النسبية اللغوية). غير أن الصياغة الكاملة للنسبية تتطلَّب تحديد كِلا الطرفين (بالإضافة إلى وصفٍ للعلاقة بينهما).
ينبغي ألا يُفرط المرء في إضفاء العقلانية على فكرة الإطار التصوُّري؛ فالأُطر ليست في أغلبها مُنتجات مَعرفية أنيقة دقيقة كخرائط الطُّرق أو كأنساق البَرْهنة الصورية (الأكسيوماتيكا)،٥٩ بل كثيرًا ما تكون مُضطربة فوضى، وربما تشتمل على حدوس غامضة أو عادات إدراكية إلى جانب المبادئ والمعايير المُحدَّدة. فنحن، على سبيل المثال، نكوِّن عاداتٍ معرفية من شأنها أن تجعلنا نأبَهُ لأشياء مُعيَّنة دون كثير تدبُّر أو إعنات فكر. وليست الأُطر التصوُّرية أيضًا مُنتجات معرفية بوسعنا أن نتخلَّى عنها متى شِئنا أو نُغيرها وفق إرادتنا. إنا نقطُنها ونأهُلها ونقيم فيها! وهي تغمر جوانب كثيرةً من فكرنا وخِبرتنا، وتُقدِّم قدرًا كبيرًا من مادة حياتنا، وهي إذ تفعل ذلك تكون هي المكوِّن الرئيسي الذي يُحدِّد من نحن، وما الذي يَعنينا بالدرجة الأولى، وما الذي يُمكننا أن نُدركه ويُمكنه أن يحمِل معنًى بالنسبة لنا.

(٣-٢) النِّسبية الوصفية والنِّسبية المِعيارية

  • «النسبية الوصفية» Descriptive Relativism: هي فصيلٌ من الدعاوى الإمبيريقية (البعدية/المُستقاة من التجربة) مفادها أن الجماعات المختلفة لديها في واقع الأمر طرائق مُختلفة من التفكير أو معايير الاستدلال أو ما شابَهَ ذلك. تريد هذه الدعاوى أن «تصف»، لا أن تُقيِّم، المبادئ والممارسات الخاصة بالجماعتَين، وهي مُتساوِقة مع الدعاوى بأن:
    • كلا الجماعتين على صواب (بطريقته الخاصة).
    • إحدى الجماعتَين فقط على صواب.
    • كِلا الجماعتَين على خطأ.
    • ليس ثمَّة شيء من شأنه أن يجعل الأشياء صوابًا (مثلًا: ليس ثمَّة حقيقة نهائية بصدَد أي المبادئ الإبستيمية أو الخلقية هي الصواب).

    وليس ما يمنع أن يكون المرء نسبيًّا وصفيًّا في بعض الأشياء (المبادئ الخلقية مثلًا) دون بعضها الآخر (المبادئ المنطقية مثلًا).

    والدعوى بأن ثقافة المرء أو لُغته تؤثر على طريقةِ تفكيره لا تعني أنها تُحدِّد هذا التفكير على نحوٍ تام، فالقول مثلًا بأن التدخين عامل مُسبِّب لسرطان الرئة يعني أن المُدخِّنين، في حالة تساوي العوامل الأخرى، هم أكثر تعرُّضًا لسرطان الرئة، ولا يحول دون تدخل عوامل مُسبِّبة أخرى بدءًا من البنية الوراثية إلى التعرُّض للإسبستوس. كذلك فإن الدعوى بأن الثقافة أو اللغة أو غيرها من المُتغيِّرات المُستقلة يؤثر على جانبٍ مُعيَّن من الخبرة أو التفكير ليست حائلًا دون غيرها من المؤثرات. وتأتي النسبية الوصفية في صِيَغ أقوى أو أضعف بحسب القوة التي تفترضها لتأثير المُتغيِّر المُستقل.

    كثيرًا ما تُواجَه الدعاوى النسبية الوصفية حول المبادئ الإبستيمية والقِيَم الأخلاقية … إلخ بِحُججٍ مُضادة تقول بأن هذه الأمور «عمومية/عالمية» universal تشمل البشر جميعًا. وينصبُّ شطرٌ كبير من الأدبيَّات الحديثة المُتعلقة بهذه الأمور على البحث في «العموميات» universals الثقافية أو الأخلاقية أو اللغوية من حيث مداها ومِقدارها والأدلة على وجودها.
    جميع الدعاوى النسبية الوصفية بشتَّى أنواعها هي إذن دعاوى إمبيريقية. قد يُغرينا ذلك بأن نخلُص إلى أنها قليلة الأهمية من الوجهة الفلسفية، غير أن هذا استنتاج خاطئ لأسباب عديدة:
    • أولًا: يذهب بعض الفلاسفة، بما فيهم «إمانويل كانْت» إلى أن بعض أصناف الفروق المعرفية بين الكائنات البشرية (بل بين الكائنات العاقلة جميعًا) هي غير مُمكنة، وغير واردة على صعيد الواقع. وتلك دعوى مُثيرة ومُهمَّة، لأنها تضع حدودًا «قبلية» a priori لما يُمكن للبحث الإمبيريقي أن يكشفه، ولِمَا يُمكن أن يكون حقًّا من بين ضروب النسبية الوصفية.
    • ثانيًا: تضطلِع الدعاوى بوجود فروقٍ فِعلية بين الجماعات (النسبية الوصفية) بدور مِحوري في كثيرٍ من الحُجَج المؤيِّدة لكثيرٍ من ضروب النِّسبية المِعيارية. تبدأ حُجَج النسبية الأخلاقية المعيارية، على سبيل المثال، بدعاوى تُفيد بأنَّ الجماعات المُختلفة لدَيها في واقع الأمر دساتير أو مُثل أخلاقية مُختلفة.
    • ثالثًا: تُساعدنا الصِّيَغ الوصفية من النسبية على أن نفصِل الجوانب الثابتة للطبيعة البشرية عن تلك الجوانب التي يُمكن أن تتغيَّر. ومن ثم فإن أي دعوى تقول بأن جانبًا ما من الجوانب الهامة في الخبرة أو الفكر يختلف بالفعل (أو لا يختلف) بين جماعة وأخرى من البشر هي في الحقيقة دعوى تُنبئنا بشيء مُهمٍّ عن الطبيعة الإنسانية والوضع البشري.
  • «النسبية المعيارية» Normative Relativism: هي فصيلٌ من الدعاوى المعيارية أو التقييمية غير الإمبيريقية، مفادها أن طرائق التفكير أو معايير الاستدلال أو ما شابه، ليست صوابًا أو خطأ بحدِّ ذاتها، بل هي صواب أو خطأ «بالنسبة» لإطارٍ مُعيَّن. النسبية الأخلاقية المعيارية، على سبيل المثال، هي الدعوى القائلة بأنَّ الأخلاق ليست حقًّا أو باطلًا إلَّا بالقياس إلى دستورٍ أخلاقي مُعيَّن. وليس ما يمنع أن يكون المرء نِسبيًّا وصفيًّا في مجالٍ ما دون أن يكون نِسبيًّا معياريًّا في ذلك المجال. فقد يُسلِّم المرء، على سبيل المثال، بوجود تَفاوُتٍ هائل بين الجماعات المختلفة من حيث معايير السلوك الصائب والمُثُل الأخلاقية المَرعيَّة، ويعتقد رغم ذلك بوجود مِعيارٍ موضوعي مُطلق يعلو على هذه المعايير ويَحكُم عليها من حيث الحق والباطل، ومن حيث التقدُّم والتخلُّف.

(٣-٣) وجهان للنسبية المعيارية

لكلِّ ضربٍ من ضروب النسبية المعيارية وجهان (شأن «يانو» إله الأبواب عند الرومان!) فهناك أولًا وجهٌ «مُضاد للواقعية» antirealist: ففي مجال الأخلاق مثلًا يُنكِر النِّسبي المِعياري وجود حقائق مُطلَقة موضوعية مُستقلة عن الإطار فيما يتعلَّق بالحقيقة الأخلاقية أو التبرير الأخلاقي (وكذلك الحال بالنسبة للمجالات الأخرى مثل المعايير الإبستيمية أو الصِّدق … إلخ).
غير أن هناك وجهًا آخر للنسبية المِعيارية بمُختلف أنواعها، وهو الوجه «الواقعي» realist: ومفاده أنَّنا ما أن نقرِن الأشياء بأطرٍ مُعيَّنةٍ حتى تبزُغ هناك حقائق عن الأخلاق (أو التبرير الإبستيمي أو الصدق … إلخ).

يعني وجود هذين الوجهين أنَّ على النِّسبي المعياري أن يُحارب على جبهتَين مُختلفتَين جد الاختلاف، فعلى الجبهة الأولى ينبغي أن يُدافع عن الدعاوى المُضادة للواقعية (لا وجود لحقائق بمعزِل عن إطارٍ مُعين فيما يتعلق بالمجال المعني)، وقد يعنُّ للنسبي المعياري أن يُجنِّد الحُجج القياسية المُضادة للواقعية لخدمة النسبية. غير أنَّ هذه الحجج ستذهب به أبعد ممَّا يود؛ لأنها تُنكر وجود حقائق تكون الأشياء فيما يتعلَّق بها صائبةً بأيِّ معنًى من المعاني بما في ذلك الصواب المنسوب إلى إطارٍ مُعين.

وعلى الجبهة الثانية يتعيَّن على النسبي المعياري أن يدافع عن الدعاوى الواقعية القائلة بوجود حقائق عمَّا هو صائب أو صادق بالنسبة لإطارٍ مُعين. هذه الجبهة أكثر خداعًا من الأولى؛ ذلك أنَّ من الصعب في بعض الأحيان أن يُبيِّن مَبلغ هذا الصواب «المنسوب لإطار» ثُم إن عليه بعد ذلك أن يُبيِّن أن هناك بالفعل مِثل هذه الحقائق أو المعايير. وقد يعنُّ له أن يُعيد تأويل الحُجج القياسية المُؤيِّدة للواقعية بطريقةٍ تُتيح له أن يُجنِّدها لحِسابه.

(٣-٤) تصنيف المواقف النسبية

قُلنا إن الصيغة العامة للنسبية هي:

«س» منسوب إلى «ص».

  • حيث «س» هو الشيء الذي نزعم أنه «نسبي» relative، وهو من ثم «مُتغيِّر تابع» dependent variable.
  • وحيث «ص» هو الشيء الذي نزعم أن «س» منسوب إليه ومُتوقِّف عليه، وهو من ثم «مُتغيِّر مُستقل» independent variable.
  • وحيث الصِّلة بين المنسوب «س» والمنسوب إليه «ص» هي إمَّا صِلة وصفية «النسبية الوصفية»، وإما صِلة مِعيارية (النسبية المعيارية).

وسوف نُفرِد في هذا التصنيف، وهو مجرَّد واحد من تصنيفاتٍ عديدة مُمكِنة، تِسعة مُتغيِّرات تابِعة وتِسعة مُتغيِّرات مُستقلة، يجوز لكلِّ مُتغيِّرٍ تابع من هذه المُتغيِّرات التِّسعة أن يُنسب إلى أي واحد (أو أكثر) من المُتغيِّرات المُستقلة التسعة. بذلك يتحصَّل لنا واحدٌ وثمانون ضربًا من النسبية. وبالنظر إلى أنَّ كلَّ صِلة بين «س» و«ص» قد تكون وصفية وقد تكون معيارية، فإنَّ لدَينا في حقيقة الأمر ١٦٢ ضربًا من النسبية. من العسير بلا شك أن يخوض المرء في عُشر هذا العدد من أصناف النسبية. وما نوَّهْنا إليه إلا لنُدرِك مدى تعقُّد مبحث النسبية. على أن شطرًا كبيرًا من هذه الضروب غير مهم وغير ذي بال، وشطرًا آخر غير ضروري وغير مُلزِم. من المعقول، على سبيل المثال، أن ننسِب القِيَم الخُلقية إلى الثقافة أو الدين، بينما هو من الشَّطَط أن ننسِبها إلى النماذج العلمية الشارحة (الإرشادية) paradigms للفيزياء الجُزيئية!

المُتغيِّرات التابعة (س) Dependent Variables

  • التصورات المحورية Central Concepts.
  • الاعتقادات المحورية Central Beliefs.
  • التقدير المعرفي (الإبستيمي) Epistemic Appraisal.
  • الأخلاق Ethics.
  • دلالة الألفاظ/المعاني/السيمانطيقا Semantics.
  • الممارسة Practice.
  • الحقيقة/الصدق Truth.
  • الواقع Reality.

المُتغيِّرات المُستقلة (ص) Independent Variable

  • اللغة Language.
  • الثقافة Culture.
  • الحقبة التاريخية Historical Period.
  • البنيان الإدراكي/المعرفي الفطري (البنية البيولوجية) Innate Cognitive Architecture.
  • الاختيار Choice.
  • الإطار العلمي Scientific Framework.
  • الدين Religion.
  • الجنس، العنصر، الوضع الاجتماعي Gender, Race, Social Status.
  • الفرد Individual.

المُتغيِّرات التابعة: الأمور النسبية

ليست المُتغيِّرات التابعة مُنفصلةً تمامًا بعضها عن بعض، ولكنها كثيرًا ما تُفصَل من أجل المُعالَجة الفردية وبغرَض الدراسة المُنفصِلة.

(١) «نسبية المفاهيم المحورية Central Concepts»: نسبية المفاهيم (التصورات) conceptual relativism هي وجهة النظر القائلة بأن الجماعات المُختلفة (في اللغة والثقافة … إلخ) لدَيها مفاهيم محورية مختلفة، الأمر الذي يُفضي بأعضاء هذه الجماعات إلى ضروب مُختلفة من تصوُّر العالم.
  • تذهب النسبية الوصفية للمفاهيم descriptive conceptual relativism إلى أنَّ هناك بالفعل جماعات مُختلفة ثقافيًّا أو لُغويًّا أو عرقيًّا … إلخ، لديها منظومات من التصوُّرات المحورية مختلفة فيما بينها بشكلٍ لافت. من المُتَّفَق عليه مثلًا أن مفهومنا الحديث عن «حقوق الفرد» لم يكن له وجودٌ في العالم القديم. ومِثال آخر، وإن يكن خلافيًّا، ما ذهب إليه بينامين ورف B. Whorf من أن الناطقين بالإنجليزية يغلِب على تصوُّرهم للعالم مفهوم «الشيء» أو «الموضوع» object الباقي المُستديم (الصخور، الأحصنة، … إلخ)، بينما ينظُر شعب «الهوبي» Hopi (قبائل من الهنود الحُمر) إلى الأشياء في عالَمِهم على أنها «أحداث» events أو «وقائع».

    يذهب هذا الضرب من النسبية إلى أنَّ ليس هناك أي منظومة، أو إطار، من التصوُّرات يمكن أن نقول إنها صحيحة بمعنى أنها مُضاهية أو مُطابقة لبِنية العالم. ليس ثمَّةَ تصورات تُقسِّم الأشياء إلى مجموعات أو شرائح بطريقةٍ مُطابقة للطريقة التي تنقسِم بها الأشياء في الطبيعة حقًّا وصدقًا، أو، باستخدام استعارة أفلاطون، ليس ثَمَّة مفاهيم «تقطع الواقع من مفاصِله» (مُحاورة فايدروس). في هذه الاستعارة يُشبِّه الواقع بدجاجة: حيث هناك مفاصل حقيقية، أي حقائق عن أصناف الأشياء الكائنة هناك بمعزِل عن تصنيفها لها في الفكر. هذا على وجهِ التحديد هو ما تُريد نِسبية المفاهيم أن تُنكِره.

    على أنَّ هذا العجز عن الوصول إلى مُضاهاة للواقع ليس قصورًا في تصوُّراتنا، وإنما ينجم لأنَّ العالم لا يأتي كأشياء سابقة على التعبئة والتفريد تُمثِّل خواصَّ سابقة على التصنيع وتَمْثُل في علاقاتٍ سابقة على الإنتاج. من هنا يأتي هذا الصنف من النسبية في كثيرٍ من الأحيان مُقترنًا بصنفٍ أعمَّ هو نسبية الصِّدق أو الواقع.

  • أما النسبية المعيارية للمفاهيم conceptual normative relativism فهي الدعوى القائلة بأن ليس هناك منظومة مُفرَدة من المفاهيم صحيحة بمَعزِل عن الإطار، وإنْ أمكن أنْ تكون منظومةً صحيحة بالنسبة لإطارٍ معين. ويُضيف النِّسبي المعياري هنا أن تصوُّراتنا لم تكن يومًا نابعةً من بِنية الواقع ولا حتى مُضاهيةً له، بل إنَّ أفكار البِنية أو التَّشابُه أو الأنماط هي من ملامح توصيفنا وتفكيرنا لا من ملامح الواقع «في ذاته» بمعزِل عن الذِّهن وعن اللغة. صحيح أن بعض التصنيفات تأسِرنا بوصفها أكثر بساطةً ونفعًا وطبيعيةً من سِواها، غير أن الطبيعية والبساطة والنفع هي قِيَمُنا نحن لا قِيَم العالم!

المفاهيم تفعَل أكثر من مُجرَّد التصنيف

التصنيف، في الأغلب، ليس غايةً في ذاته، فالمفاهيم (التصورات) تتبطَّن كل عملياتنا الذهنية العُليا، شاملةً الاستدلال والتنبُّؤ والتخطيط والتعلُّم والتفسير. واستعمال المفاهيم (والمعلومات التي نقرِنها بها) لعمل استدلالات توسُّعية يُسهِّل الكثير من هذه الاستخدامات الأخرى، ويُمكننا أن نُطبِّق ما تعلَّمناه على حالات أخرى ومواقف جديدة. عندما أرى مثلًا أنَّ المخلوق القابِع تحت الصخرة هو «حيَّة ذات جرس» فإنَّني أستدلُّ على الفور أنه «خطِر».

المفاهيم تُقدِّم لنا الأصناف والأشياء أيضًا

تحمِل كلَّ مجموعة من البنود إمكانية التصنيف على وجوهٍ عدَّة؛ ومن ثَمَّ فمن المُمكن أن تتحصَّل لنا خططٌ مختلفةٌ من التصنيف بحسب ما لدَينا من مفاهيم. غير أن المفاهيم تُحدِّد لنا أيضًا الأشياء ذاتها التي نرى أنها قائمة هناك بانتظار أن نفرزها ونصنِّفها. فإذا كُنَّا نرى أنَّ أمامنا نفس الشيء أو أنَّ أمامنا شيء جديد، أو كنَّا نرى شيئًا واحدًا أو عدَّةَ أشياء فإنَّ مردَّ ذلك إلى التصور (المفهوم) التصنيفي القائم في عقلنا؛ فنقول مثلًا هذه هي الأغنية نفسها ولكن بكلماتٍ أخرى، أو هذه هي الرواية نفسها، هذا فصلٌ جديد، هذا نفس النمط، هذا نموذجٌ آخر٦٠ … إلخ.
إذن بإمكان الأنساق المختلفة من المفاهيم أن تُقسِّم نفس المجموعة من الأشياء، قبل إفرادها، بطرقٍ مختلفة. غير أنها (أي أنساق المفاهيم) قد تُقسِّم العالم أيضًا إلى أعدادٍ مختلفة من الأشياء! والحقُّ أنَّ الدور المركزي الذي تضطلِع به المفاهيم في «إفراد» individuation الأشياء وتمييزها بعضها عن بعض، يُسهم بدورٍ كبير في كثيرٍ من الحُجَج الخاصة ﺑ «نسبية الواقع» reality relativism. يُعبِّر هيلاري بتنام عن هذه الوجهة من الرأي في عمومها فيقول:
إن «الأشياء» (الموضوعات) objects لا تُوجَد بمعزِلٍ عن «المخططات التصورية» conceptual schemata؛ فنحن «نُقطِّع» العالم إلى «أشياء» عندما نُدخِل هذا المُخطط الوصفي أو ذاك٦١ … فإذا كانت الأشياء نفسها من «صُنعنا» بقدْر ما هي من «اكتشافنا» — أي إنها نِتاج اختراعنا التصوُّري بقدْر ما هي نِتاج العامل «الموضوعي» القائم في الخبرة مُستقلًّا عن إرادتنا — فإنَّ الأشياء بطبيعة الحال تندرِج صميميًّا تحت ألقابٍ أو فئات مُعينة بالضبط؛ لأن هذه الألقاب هي الأدوات التي نَستخدِمها كي نَشيدَ نُسخةً (طبعة) للعالم بهذه الأشياء في المقام الأول.٦٢
في حُجةٍ كهذه نحن ننتقِل (بطريقة ليست واضحة تمامًا) من حقيقة أن إدخال مفهوم (تصور) لنوعٍ من الأشياء يُتيح لنا أن نفرِز الأشياء التي من هذا النوع إلى نتيجة مفادها أنَّ إدخال، أو استخدام، مثل هذه المفاهيم يلعب دورًا في خلق الأشياء المُندرجة في «ماصَدَقِها»٦٣ (المفهوم لا يُحدِّد الماصدق فحسب بل يخلُقه بمعنًى ما من المعاني).
ومن جهةٍ أخرى قد تشترِك ثقافتان أو جماعتان من البشر في مفهومٍ مُعين، غير أنهما تختلِفان في عرض المجال الذي ينطبق فيه هذا المفهوم. نحن الآن مثلًا نفهم ما كان يعنيه مفهوم «الحق الإلهي للملوك» عند بعض الأمم السالفة، غير أنَّنا نرى الآن أنه مفهوم لا وجْهَ له ولا أمثلة. كذلك الحال بالنسبة لمفهوم «الشخص»، فإنَّ مجال تطبيقه لدى الثقافة «الإحيائية» animistic (أي التي ترى كلَّ ما بالطبيعة، حتى ما نَعتبِره نحن جمادًا، على أنه شيءٌ حَي يمتلك روحًا) أوسع بكثير من مجال تطبيقه في الثقافة الغربية الحديثة.

وتختلف الثقافات أيضًا في مدى السرعة والاعتياد والتلقائية التي يُستخدَم فيها المفهوم نفسه. ومن شأن الفرد الذي يعتقِد في عالمٍ مليءٍ بالسحر والأرواح أن لا يتردَّد في أن يعزو المرَض إلى السحر بينما يتردَّد في ذلك من هو أقلُّ اعتقادًا في السِّحر والأرواح ولا يضَعُه إلَّا كاحتمالٍ أخير. وصفوة القول أن اختلاف مجال استخدام المفاهيم ومدى اعتياد هذا الاستخدام يُفضي إلى تصوراتٍ مُختلفة عن العالم.

(٢) «نسبية الاعتقادات المحورية Central Beliefs»: «الاعتقاد المحوري» centeral belief أو «المبدأ» principle بمُصطلح كانْت، هو ذلك الاعتقاد الذي لا يملك الشخص أن يتخلَّى عنه دون أن يتخلَّى عن كثيرٍ من اعتقاداته الأخرى في نفس اللحظة. من أمثلة الاعتقادات المحورية اعتقادنا مثلًا بأن لكل «حدث» event «عِلَّة/سببًا» cause، واعتقادنا بأن الأشخاص الآخرين لدَيهم مشاعر وعواطف. وحتى لو أنَّنا استطعنا أن نُجرِّد أنفسنا من مثل هذه الاعتقادات المركزية فإن هذا من شأنه أن يترُكَنا مع صورة للعالم مختلفة عن الصورة التي لدَينا تمام الاختلاف.
  • أما النِّسبية الوصفية فيما يتَّصِل بالاعتقادات المحورية (المركزية) فهي الدعوى الإمبيريقية القائلة بأن الجماعات المُختلفة لدَيها في واقع الأمر اعتقادات مُختلفة. من ذلك مثلًا أنَّ الاعتقاد بأن الطبيعة كلها حيَّة هو اعتقاد محوري في الثقافات الإحيائية ولكن ليس اعتقادًا محوريًّا لأغلب الناس في العالم الغربي اليوم. ومثال آخر هو الاعتقاد في «الحتمية العِلِّية» causal determinism الذي كان اعتقادًا محوريًّا لدى علماء الفيزياء في القرن الثامن عشر، ولكنه ليس اعتقادًا محوريًّا لدى علماء الفيزياء اليوم. ومثال ثالث الاعتقاد بأنَّ جميع البشر سواسية من حيث القِيمة الأخلاقية (ويجِب من ثَمَّ أن يُنظَر إليهم كغاياتٍ في ذاتها) وهو اعتقاد محوري لدى البعض اليوم ولكنه لم يكن محوريًّا لدى كثيرٍ من أهل أسبرطة القديمة.
  • وأما النسبية المعيارية فيما يتَّصِل بالاعتقادات المحورية (المركزية) فهي الدعوى القائلة بأن ليس هناك حقيقة غير مُرتبطة بإطارٍ حول أي الاعتقادات المحورية هي الصائبة، وإنما تكون هذه الاعتقادات صائبة أو خاطئة بالنسبة لإطارٍ ما. من الواضح أن الدعوى بأن أيَّ اعتقاد — حتى المُتناقِض وغير المُتَّسِق — يُمكن أن يكون صوابًا بالنسبة لإطارٍ مُعيَّن هي دعوى بلَغَتْ من الغلوِّ والشطط مبلغًا يجعلها غير مقبولة. غير أنَّ من المُمكن تقبُّل صِيَغٍ معقولة من النسبية المِعيارية للاعتقاد. ولما كان الاعتقاد «الصائب» right يعني الاعتقاد «الصادق» أو «الحق» true فإنَّ نسبية الاعتقاد تُفضي إلى «نسبية الحقيقة» relativism of truth، وهي ما سوف نُفرِد لها عنوانًا مُستقلًّا نظرًا لأهميتها الكبرى في مباحث النسبية.
(٣) «نِسبية الإدراك الحِسِّي Relativism of Perception»: «الإدراك الحسي» perception هو نقطة الالتقاء بين المعرفة cognition والواقع.
والنسبية الوصفية للإدراك الحسِّي هي الدعوى الإمبيريقية القائلة بأن الجماعات المختلفة (في الثقافة واللغة والبِنية البيولوجية) تُدرِك العالم بطرائق مختلفة. والحقُّ أنَّ مُعظم الفلاسفة وعلماء الإبصار اليوم يتَّفِقون على أن الإدراك «مُحمَّل بالنظرية» theory-laden وأن خبراتنا الحسِّية في موقفٍ مُعطًى تتأثَّر بمفاهيمنا واعتقاداتنا وتوقُّعاتنا (وربما حتى بآمالنا ورغباتنا) التي نَجلبها إلى الموقف.

أما النسبية المعيارية للإدراك الحسي فهي الدعوى القائلة بأن ليس هناك طريقة واحدة صحيحة مُستقلة عن الإطار لإدراك الأشياء، بل هناك طُرق عديدة صحيحة بالنسبة للمنظومات المُختلفة من المفاهيم والاعتقادات. مثال ذلك أنه إذا نظر اختصاصي أشعَّة قدير إلى بُقعة مُعينة في صورة أشعة إكس لوجب، وفقًا لمنظومة المفاهيم الطبية التي ينظُر بها، أن يرى أنها ورَمٌ بالمَعِدة على سبيل المثال.

وكما هو الحال في مُعظم ألوان النسبية المعيارية فإنَّ الصيغة المُتطرِّفة من نسبية الإدراك التي تذهب إلى حدِّ «أي شيء جائز.» (كله ماشي) anything goes هي صيغة غير مقبولة؛ ذلك أنَّ من البيِّن أنَّ هناك ضوابط على الإدراك الحسي. غير أنَّ الصيغ المُخفَّفة من الدعوى هي صِيَغ يمكن الدفاع عنها. وتشتمل هذه الصِّيَغ المقبولة على ما يُسمِّيه علماء الإبصار المُعاصِرون «المُعالَجة الهابطة من أعلى إلى أسفل» top-down processing.

المعالجة الهابطة Top-Down Processing

تتضمَّن الخطوات الأولى في عملية المُعالَجة البصرية أشياء من قبيل كشافات الملامح (كشافات الحَواف على سبيل المثال)، لا تتضمَّن مفاهيمنا واعتقاداتنا. هذه المراحل هي الجانب الذي تحدوه المعلومات البصرية. غير أنَّ المراحل التالية لذلك من المُعالجة البصرية تتأثَّر بمفاهيمنا واعتقاداتنا وتوقُّعاتنا، فهي عمليات تُسيرها الفرضيَّة hypothesis-driven أو يقودها التوقُّع expectation-driven، وتُسمَّى أيضًا عمليات هابطة (من أعلى إلى أسفل) top-down processes. قد تكون ثَمَّة خلافات حول حجم الدور الذي تلعبه المُعالَجة الهابطة في الإدراك البصري اليومي المُعتاد، ولكن لم يعُدْ هناك خلاف البتَّة حول وجود هذه المُعالَجة وأهميتها.
تقدم «الصور المُلتبسة» ambiguous figures شاهدًا واضحًا على التأثير الذي تُمارسه التصوُّرات والاعتقادات والتوقُّعات في عملية الإدراك. وتعجُّ كُتب علم النفس بأمثلةٍ لمِثل هذه الصُّوَر المُلتبِسة، منها «مكعب نِكر» Necker’s cube الذي تراه العين بطريقةٍ ثُمَّ ما تلبَثُ أن تراه بطريقةٍ أخرى. ومنها صورة «البطة – الأرنب» التي يُمكن أن تُرى على أنها بطَّة أو على أنها أرنب؛ ومنها صورة «الشابَّة – العجوز» التي يُمكن أن تُرى على أنها فتاةٌ أو على أنها امرأةٌ عجوز. والصُّوَر المُلتبِسة ليست مُجرَّد غرائب للتندُّر ولفت الانتباه. إنها تُعلِّمنا شيئًا مُهمًّا في آليات الإدراك، فإذا كان «المُدخل الحسي» sensory input إلى الجهاز البصري في كلِّ صورةٍ مُلتبسة هو المدخل نفسه فإن التحوُّل الذي يحدُث في الإدراك ويجعلنا نرى الصورة على نحوٍ مختلف لهوَ أمرٌ لا يصحُّ أن يُعزى إلى المُدخل بل إلى مصدرٍ آخر، وأمرٌ يدلُّ على أن الرؤية هي عملية أكبر من مجرَّد التِقاء العين بالمُعطيات الحِسِّية الخام.
وقد وجد أنَّ الصورة المُلتبسة «البطة – الأرنب» على سبيل المثال، إذا وُضِعت ضِمن مجموعةٍ من البطِّ ستُدرَك على أنها بطة، وإذا وُضِعَت ضِمن مجموعةٍ من الأرانب ستُدَرك على أنها أرنب. هذا المثال، وغيره كثير، يعني أننا في الحقيقة نرى ما يدفَعُنا «السياق» context إلى أن نتوقَّع رؤيته. وما كان للسياق أن يؤتي هذا التأثير لو لم نكن ننتَمِي إلى ثقافةٍ مُعيَّنة اعتدْنا فيها رؤية أشياء مُعيَّنة.

والإدراك السَّمعي للكلام يُقدِّم لنا مثالًا آخر، فنحن نسمَعُ لُغتنا الأم ككلماتٍ ذات معنى تنفصِل الواحدة منها عن الأخرى عند نقاطٍ مُعينة حيث يكون النمط السمعي غير مُقطَّع، بل إنَّ من الصعب حقًّا أن نسمعها كمجرَّد أصوات (كما هو الحال عندما نسمع حوارًا بلغةٍ لا نفهمها) حتى إذا حاولنا ذلك.

وقد كان الظنُّ السائد قديمًا هو أن الإنسان يتلقَّى كلَّ المُنبِّهات (المُثيرات) stimuli الخارجية بطريقةٍ سلبية آلية. غير أنَّ من الثابت الآن أنَّ هذا التصوُّر قاصر بل مغلوط ومُضلِّل. فحقيقة الأمر أن ما نُدركه لا يتوقَّف فحسب على ما هو موجود وماثل في بيئتنا، وإنما يتوقَّف أيضًا على اهتماماتِنا وانتباهنا الانتقائيَّين، بالإضافة إلى قُدراتنا الذهنية الخاصة في التأويل والتصنيف. إن «الموقف» attitude الذي نتَّخِذه في حياتنا بعامةٍ وفي الموقَفِ الخاص الذي نحن بصدَدِه يتحكَّم في طريقة إدراكنا للعالم وللأشياء من حولنا. و«الموقف» هو طريقة في توجيه إدراكنا وضبطه، فنحن لا نلتقِط كلَّ شيءٍ في بيئتنا دون تمييز، وإنما نحن «ننتَبِه» إلى بعض الأشياء ونركز على بعض السِّمات بينما نتجاهَلُ غيرها ولا نُدركها إلَّا بطريقةٍ غائمة باهِتة أو لا نُدرِكها على الإطلاق. من خصائص الانتباه إذن أنه انتقائي يَجتبي ما يَعنيه من المُنبِّهات الخارجية ويضرِب صفحًا عن غيرها بل ينفيه نفيًا عن ساحة الوعي. ومن البيِّن أن هذا الانتقاء هو نتاج الثقافة واللغة وغيرهما من المتغيرات المستقلة.
ومن الثابت أن «المُخطط الذهني» mental schema (أو البناء الذهني mental construct، أو النموذج المرشد … إلخ) هو شرط ضروري للإدراك. فنحن لا نرى في واقع الأمر موضوعاتٍ مُحدَّدة من مثل البشر والحيوانات والموائد والكراسي، فكل ما يُقدِّمه البصر في حالة رؤية كلبٍ، على سبيل المثال، هو بُقعة سمراء تتحرَّك وتطوف في مجالنا البصري، ما تمدُّنا به الحواس هو إحساساتٌ خالصة (بُقَع لونية، أصوات … إلخ) يُقال لها «المُعطَيات الحسية» sense data (sensa)، ونحن من هذه المُعطيات الحسِّية «نستدل» infer عندئذٍ على العالم المُعتاد أو «نُشيِّده» construct. إن حواسَّنا لا تعمل في واقع الأمر بمعزِل عن بقية جهازنا العصبي، فنحن نرى الكلب بالفعل لأنَّ «الإدراك الحِسِّي»  perception غير مُقتصر على التسجيل الفوتوغرافي، بل يتضمَّن أيضًا كلَّ قُدراتنا التمييزية والتصنيفية.
وقد اعتقد كثيرٌ من الفلاسفة أنَّ هناك شيئًا من قبيل المُلاحظة «المُحايدة نظريًّا» theory-neutral (أو غير المشحونة بنظرية) يُمكن استخدامُها لتشييد أوصافٍ مُحايدة نظريًّا للملاحظات العلمية. وتحدَّث آخرون عن وجود عُنصر في الخبرة «مُعطى» given وغير تصوُّري. فإذا صحَّ ذلك لأمكن استخدام هذه الملاحظات المُحايدة، التي تُمثِّل نوعًا من «النقطة الأرشيميدية» الإدراكية، لكي تَحكُم بين الدعاوى المُتصارِعة وتشهد لطرفٍ وتقوِّض الطرف الآخر دون أية «مُصادرة على المطلوب» begging the question (petitio principii). غير أن فلاسفة العلم من أمثال هانسون وكون وفييرابند قد أيَّدوا بقوةٍ الدعوى القائلة بأن الملاحظة العلمية لا تأتي إلَّا «مُلقَّحةً بالنظرية» (مشحونة/مُحمَّلة بالنظرية). وكذلك قدَّم كثير من الكتاب، من الأنثروبولوجيين حتى مُؤرِّخي الفن، دعاوى مُشابِهة، ذاهِبِين إلى أنَّ الإدراك يتأثَّر بجوانب عديدة من اللغة أو الثقافة.

هانسون واستِبصار جديد في الإدراك الحسي

في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين أوجَزَ فيلسوف العِلم نوروود رسل هانسون N. R. Hanson هذه الملاحظات جميعًا في شعارٍ من جوامع الكَلِم صار بعد ذلك مصطلحًا مأثورًا بل مفهومًا محوريًّا: يقول هانسون إن «الإدراك مُحمَّلٌ بالنظرية» Perception is theory-laden؛ ذلك أن خلفيَّتنا النظرية؛ تصوُّراتنا واعتقاداتنا وتوقُّعاتنا، تؤثِّر فيما نراه، أو على الأقلِّ في كيفية رؤيتنا له.
في تجربة فكرية شهيرة يدعونا هانسون إلى أن نتخيَّل كلًّا من تيكوبراهي Tycho Brahe (من دُعاة «مركزية الأرض» geocentrism) وجوهانس كبلر (من دُعاة «مركزية الشمس» heliocentrism) وهو يرنو إلى الشرق لحظةَ شروق الشمس، فعلى الرغم من أنهما يشهدان الموضوع نفسه — الشمس — فإن هانسون يَجبَهُنا بأنهما يشهدانه على نحوٍ مُختلف كلَّ الاختلاف: كان تيكو يرى «الشمس تصعد» بينما كان مبلر يرى «الأفق يهبط» مُنحسِرًا عن الشمس الثابتة؛ ومن ثَمَّ فليس هناك إطار مُحايد يسمح لهما بتحديد من هو على صواب.

هكذا يؤدِّي تغيُّر «النموذج الشارح» إلى تغيُّر الإدراك البصري للموضوع نفسه؛ ذلك أن الإحساس البصري المحْض، على المستوى الذري، لا يقدِّم أكثر من بُقَع فسيفسائية مُبعثرة، ثم يأتي «النموذج» أو «الجشطلت»؛ وهو شيء مُحمَّلٌ بالنظرية، أو هو نظرية! فيُضفي هيئةً ومعنًى ووضعًا بعينِه على هذا الإحساس الغُفل. وإن ظواهر شهيرة مثل «تبدُّل الأمامية/الخلفية» ومثل «التحوُّل الجشطلتي» لتُبيِّن بوضوحٍ أن رؤية منظرٍ ما بطريقةٍ أو بأخرى يتجاوز كثيرًا مُجرَّد الإحساس الغُفل؛ فالتأويل المُسترشِد بنموذج من شأنه أن يُغيِّر الخبرة ذاتها.

وجُملة القول أن قدرًا كبيرًا من الإدراك الحسي يتأثر بمفاهيم الشخص المُدرِك وتوقُّعاته واعتقاداته العامة؛ ومن ثَمَّ فإن أعضاء الجماعات المُختلِفة (الزُّمرات العلمية) الثقافات، الجماعات اللغوية، الأحقاب التاريخية) سوف يرون العالم بطرقٍ مُختلفة.

دراسات عَبر-ثقافية

لم تنقطِع التجارب البحثية الخاصة بتأثير الثقافة في الإدراك الحسي منذ تجارب مَضيق تورس٦٤ الشهيرة وحتى الآن. وكذلك التجارب الخاصة بتأثير المُفردات اللغوية الخاصة باللون على إدراك الألوان (وقد عرَضْنا له في بحثنا حول النسبية اللغوية). ولعلَّ من أهمِّ هذه التجارب تجربة سيجول وزملائه عن قابلية الخداع البصري عند الثقافات المُختلفة، والتي ألمحت إلى أن الشعوب الأوروبية أكثر قابلية لخِداع «ميلر-لاير» من الشعوب الريفية غير الأوروبية. ومن الفروض المُفسِّرة لهذه الظاهرة أنَّ الشعوب الغربية تعيش في عالم «منجور» بالأشكال المُستطيلة والخطوط المُستقيمة والأركان المُربَّعة، فتعلَّمَت أن تنظر إلى الرسوم الثنائية الأبعاد كرسومٍ ثلاثية الأبعاد ذات عُمقٍ ومنظور، ممَّا يؤدي بهم إلى الوقوع في خِداع «ميلر-لاير».
ومن جهةٍ أخرى أُجريت دراساتٌ على شعوبٍ تعيش في عالمٍ «غير مَنْجور» وأقلَّ احتواءً على المُستطيلات والزوايا القائمة، فوُجِدَ أن شعب الزولو Zulu على سبيل المثال، وهو شعب يعيش في أكواخ دائرية ويحرُث حقوله في دوائر لا في صفوفٍ مُستقيمة، هو أقلُّ قابليةً لخداع ميلر-لاير (وإن يكن أكثرَ قابلية لضروبٍ أخرى من الخداع البصري). وقد خلُص الباحثون إلى أنهم تمكَّنوا من إثبات أن الثقافة تؤثِّر على الإدراك الحسي، وذلك عن طريق تربية عادات استدلال حسِّي تعمل عملها في الظروف التي تتَّسِم بالغموض.٦٥

نسبية الإدراك – فقرات مأثورة

يقول الفيلسوف الأمريكي شارلس ساندرز بيرس: إنَّ الإدراك الحسِّي هو في حقيقة الأمر ضربٌ من التأويل أو الاستدلال (مِثلما قال هلمهولتز من قبل):
في هذه الخُدَع البصرية جميعًا، والتي نعرِف منها جيدًا درزنين أو ثلاثة من الخُدَع، نجد الشيء الأكثر لفتًا للانتباه هو أنَّ نظريةً مُعينة لتأويل الصورة تبدو مُعطاة في الإدراك بوضوحٍ تام، وحين تنكشف لنا للمرة الأولى تبدو خارجةً تمامًا عن سيطرة النقد العقلي شأنها شأن أي مُدرَك حِسِّي. (CP, 5. 183)
ويقول روث بينيديكت:
مَا من إنسانٍ يرى العالم بنواظر بِكر. (R. Benedict, 1934, p. 2)
ويقول إدوارد سابير:
حتى أفعال الإدراك البسيطة نِسبيًّا هي تحت رحمة الأنماط الاجتماعية المُسمَّاة «كلمات» أكثر ممَّا نتصوَّر. (Sapir, 1929, p. 210)
ويقول بنيامين ورف:
نحن نُشرِّح الطبيعة عبر خطوط تضعها لنا لُغاتنا المحلية. (Whorf, 1956, p. 213)
أما الأنثروبولوجي جون بيتي فيقول:
إنما يرى الناس ما يتوقَّعون أن يرَوه؛ ذلك أنَّ تصنيفات إدراكهم تُحدِّدها إلى حدٍّ كبير، إن لم يكن كليًّا، خلفيتهم الاجتماعية والثقافية؛ من ثَمَّ فإن أعضاء الثقافات المختلفة قد يرَون العالم الذي يعيشون فيه بشكلٍ مُختلف. والمسألة هنا ليست مُجرَّد الوصول إلى نتائج مُختلِفة عن العالم انطلاقًا من نفس البيِّنة، بل إنَّ البيِّنة ذاتها المُعطاة لهم كأعضاء ثقافات مختلفة قد تكون مختلفة.٦٦
ويقول نلسون جودمان:
يعتمِد الإدراك بشدَّة على «المُخططات التصوُّرية». conceptual schemata ليست هناك عينٌ بريئة! المادة الخام للرؤية لا يُمكن استخلاصها من المُنتَج النهائي. قد تتغيَّر مُخطَّطاتنا وتتطوَّر، قد تُنقَّح وتُستبدَل، قد تُوحي بها أو تُرشِدها عوامل من كلِّ صنف. غير أنه بدون مُخططٍ ما فلن يكون إدراك.٦٧
وقد غدا تأثير التَّصوُّرات والاعتقادات على الإدراك هو حجَر الزاوية في فلسفة العلم الجديدة التي ظهرتْ في الستينيات. يُخبِرنا توماس كُون في فقرةٍ مأثورة أنَّ شتَّى ضروب الخداع البصري تُومِئ إلى أنه:
شيءٌ يُشبِهُ البارادايم (النموذج الإرشادي/الشارح) هو مُتطلَّب أساسي حتى في الإدراك نفسه. إنَّ ما يراه المرء يعتمِد على ما ينظُر إليه لِتوِّه، بالإضافة إلى خِبرته البصرية السابقة وما علَّمَتْه أن يرى. (Kuhn, 1970, p. 113)
بمعنًى ما، ليس بوسعي إيضاحه أكثر، يُمارس أنصار النماذج المُتنافسة عملهم في عوالم مُختلفة. وهم إذ يعملون في عوالم مُختلفة فإنهم يرون أشياء مُختلفة عندما ينظرون من نفس النقطة في نفس الاتجاه. (p. 150)
ويقول فييرابند:
حين نُعطي مُنبِّهاتٍ مُلائمةً ولكن مع أنساقٍ مُختلفة من التصنيف (تَهيُّؤ ذِهني مُختلف) فإنَّ جهازنا الإدراكي يُنتِج موضوعاتٍ إدراكية لا تُمكن المقارنة بينها بسهولة. (Feyerabend, 1993, p. 166)
(٤) «نسبية التقييم المعرفي Relat. of Epistemic Appraisal»: يمكن أن نُعرِّف الإبستمولوجيا (نظرية المعرفة) في حدود سؤالين مِحورِيَّين: (١) ما هي المعرفة؟ (٢) كيف يكتسِب البشر المعرفة؟
إن تناوُل هذين السؤالين يتضمَّن تحليل مفاهيم من قبيل «الاعتقاد» belief و«الصدق/الحقيقة» truth و«التبرير» justification. كيف يُمكنني أن أستيقِنَ ما إذا كانت الاعتقادات التي أُكِنُّها في صدري هي اعتقادات صادقة؟ إنني أعرف أنَّ الناس أحيانًا ما يعتقدون أشياء دون أسباب وجيهة؛ دون دليل حقيقي، فما هي إذن تلك الأسباب أو الأدلَّة التي ينبغي أن تُعدَّ أسبابًا وجيهة أو أدلَّةً حقيقية بالنسبة لكلِّ ضربٍ من ضروب الاعتقاد؟ كيف أعرف أن لديَّ مثل هذه الأسباب والأدلة فيما يخصُّ اعتقاداتي؟ إن أهمية هذه الأدلَّة التي تطرَحُها الإبستمولوجيا تتخطَّى المجال الأكاديمي ما دام كلُّ نشاطٍ عمليٍّ نقوم به يتَّكئ بالضرورة على معرفة أو، إن شئتَ الدقَّة، على ما نعتقد أنه معرفة.٦٨
قدَّم العديد من الكُتَّاب أطروحاتٍ مُثيرةً عن التنوُّع الإبستيمي بين الكائنات البشرية، من ذلك ما أشار إليه جان بياجيه وغيره من علماء نفس النمو من أنَّ الأطفال يستخدمون صنفًا من المنطق مُختلفًا عمَّا يَستخدِمه الكبار٦٩ وقد تحدَّث لويس C. I. Lewis عن ضروب بديلة من المنطق (المنطق الجِهوي modal logic) أوحتْ إليه بضروبٍ عديدة من النسبية، وخلُص إلى أن المَحكَّات النهائية لاختيار نَسَقٍ من المنطق (أو أيِّ صنفٍ آخر من أنساق المفاهيم والمعايير) هي مَحكَّات براجماتية أي مُحتكِمة إلى النجاح العملي.
وقد كان كثيرٌ من الأطروحات النسبية في الجزء الأول من القرن العشرين يرتكز على ما ذهب إليه الأنثروبولوجي الفرنسي لوسيان ليفي برول من أنَّ أعضاء المجتمعات البدائية لديهم «عقلية قبل-منطقية» pre-logical mentality أدَّت بهم إلى أن يُفكِّروا بطرائق مختلفة عن طرائق التفكير الشائعة في الثقافات الغربية الحديثة. دفع خصوم ليفي برول بدعوى «الوحدة النفسية للجنس البشري»، غير أنَّ العديد من الكُتَّاب اللاحقين ذهبوا إلى أن معايير العقلانية في المجتمعات المُختلفة ليست مُتَّفِقة على الدوام، وأن للثقافات المختلفة معايير مختلفة للعقلانية لها وجهاتها ومعقوليتها داخل السياقات الثقافية الثرية التي تحدُث فيها، مهما بدَتْ لنا غريبةً مُنكرةً حين ننتزعها من ذلك السياق. وبروح قريبة من ذلك ذهب مؤرخ وفيلسوف العلم لاري لودان إلى أن القوانين الخاصة بالعقلانية هي أمرٌ مرتبط بالزمن، والأسلوب الجدلي الذي تقبَلُه حقبةٌ تاريخية أو «مدرسة فكرية» معينة وتعتبِره مشروعًا ومعقولًا تمامًا قد تنظُر إليه حقبةٌ أخرى أو مدرسة أخرى على أنه واهٍ وظلامي.

جينيالوجيا المعرفة

للمفاهيم والاعتقادات تواريخ يمكن أن تُكتَب، وكذلك الحال بالنسبة للمعايير الإبستيمية وضروب الحساسية، بحيث إنَّ ما يُعدُّ تبريرًا أو بُرهانًا أو معقولية هو في تحوُّلٍ وتبدُّل عبر الزمن. إذا نظرنا مثلًا إلى تصوُّر أرسطو عن مُتطلَّبات عملية تبرير نظريةٍ علمية (وهي عنده لا تعدو، على وجه التقريب، أن تكون استنباطًا من مُقدِّمات ضرورية واضحة بذاتها) لوَجَدْنا أنها تختلف اختلافًا بيِّنًا عن تصوُّرنا اليوم (وهو على وجه التقريب عملية اختبار عن طريق استخلاص تنبُّؤات ورؤية مدى صِدقها أو نجاحها). أما تصور «الاحتمال» probability كما نعرفه اليوم، فهو لم يظهر إلَّا حوالي عام ١٦٦٠م. وأما «الإحصاء الاستدلالي» و«تصميم التجربة» اللذان يَضطلِعان اليوم بدورٍ محوري حاسم في المُمارسات الاستقرائية الخاصة بالبحث العلمي والطبي، فهما نِتاج المائة عام الأخيرة على وجه الحصر.

السلطة والتراث

لا تنحصِر المعايير الإبستيمية في ذلك الصنف من الأشياء المُدوَّنة في النماذج المعيارية من قبيل المنطق الاستنباطي أو فلسفة العلم. وقد تدفعنا الفردانية الإبستيمية (التي تتجلَّى بوضوح عند الفلاسفة المُحدَثين من ديكارت إلى كانت) إلى أن نتغافَلَ عن حقيقة أنَّ مُعظم ما نعرفه إنما تعلَّمناه من الآخرين. غير أنَّ الكثير من الثقافات تُخَوِّل السلطة والتقليد دورًا مُسيطرًا يطغى على كلِّ الاعتبارات الإبستيمية الأخرى تقريبًا، فقد يسود في ثقافةٍ ما (أو فئةٍ منها) اعتقادٌ بأن الأساس الأكثر رسوخًا للمعرفة هو الإيمان أو الوحي أو شخصٌ ذو سلطة (مثل أرسطو، الشامان، البابا … إلخ) أو نص (التوراة … إلخ) أو مُمارسة (نطق كاهنة الوحي بأحكام …) وأن أحكام هذه الضروب من السُّلطة لا مُعقِّب لها، ولا تَجبُّها أي مناهج أخرى (كالعلم التجريبي مثلًا). من أمثلة ذلك أن «مذهب الخلق» creationism يستنِد في بعض الأحيان إلى فكرة أن الكتاب المُقدَّس يُقدِّم وصفًا لنشأتنا أدقَّ مما بوسع الجيولوجيا أو البيولوجيا أن تُقدِّماه.

النسبية الإبستيمية

مثلما أنَّ من المفاهيم والاعتقادات ما هو محوري مركزي يُمكننا أن نُطلِق على المعايير الإبستيمية الأساسية عند جماعة من الجماعات «المعايير المركزية أو معايير الإطار»، على أن نفْهَم المركزية هنا أيضًا على أنها مسألة درجة.

  • النسبية الإبستيمية الوصفية حول أسلوبٍ مُعيَّن من الاستدلال (مثل الاستدلال الاستنباطي، الاستدلالي العِليِّ … إلخ) هي الدعوى الإمبيريقية القائلة بأن الجماعات المختلفة تَستخدِم بالفعل معايير مركزية مُختلفة لتقييم هذا الصنف من الاستدلال.

  • أما النسبية الإبستيمية المعيارية فهي الدعوى القائلة بأنه ليست هناك حقائق مُستقلة عن الإطار حول أي أساليب الاستدلال أو معايير التبرير أو العقلانية هي الصحيحة. ولكن هناك حقائق حول هذه الأشياء بالنسبة لإطارٍ مُعين، أي أنَّ بوسع الأشخاص أو الجماعات أن تختلف حول ما هو الدليل الصحيح أو التبرير القوي دون أن يُعتبَروا متناقِضَين مع أنفسهم أو غير مُتَّسِقين أو لاعقلانيين. وما دامت المعرفة تتطلَّب التبرير، كما يفترض العديد من الفلاسفة، فإن نسبية التبرير تفضي أيضًا إلى نسبية المعرفة.

تُعدُّ النسبية الإبستيمية من أهم ضروب النسبية وأكثرها إثارة، صحيح أن الصِّيَغ المُتطرفة منها (تلك التي تسمح بمعايير إبستيمية حتى لو كانت متناقضة مع ذاتها بأن تكون صحيحة بالنسبة لإطارٍ ما!) غير مقبولة على الإطلاق. إلا أنَّ هناك عددًا من الكُتاب يؤيِّد صيغًا من النسبية الإبستيمية أكثر دقة (أو يقول شيئًا في حقِّها على أقلِّ تقدير). وليس من السهل تفنيد كلِّ هذه الصِّيَغ كما قد يتصوَّر المرء؛ ليس من السهل مثلًا ابتكار دفاعات عن بعض معاييرنا ومُمارساتنا الإبستيمية الأساسية (كالاستقراء مثلًا) دون الوقوع في «دورٍ منطقي».

وعلى الرغم من أنَّ النسبية الإبستيمية المعيارية قد جذبتْ إليها العديد من المُؤيِّدين، فسوف نرى في حِينه أن مُشكلة «الدَّحْض الذاتي» self-refutation تُهدِّد صيِغَها الأكثر تشدُّدًا تهديدًا لا يقلُّ خطرًا عن مشكلات الدَّحْض الذاتي التي تكتنِف مذهب «نسبية الحقيقة/الصدق».
(٥) «النسبية الأخلاقية Ethical Relativism»: يُولَد كلُّ إنسان في كنَف جماعةٍ أو زُمرة اجتماعية يَستقي منها مجموعةً ضخمةً من القواعد والمعايير والقيم. يُطلِق الأنثروبولوجيون على هذه الزُّمَر الاجتماعية الأساسية اسم القبائل أو العشائر tribes، ويُطلِقون على العملية التي يَصير بها الفرد عضوًا ذا مكانٍ ومنزلةٍ داخل عشيرته اسم «التثقف» أو «الإثقاف» enculturation، ونحن خلال مَسيرة التثقُّف نتشرَّب جميع أنواع القيم، ونتعلَّم أن نُردِّد — بتوافُقٍ مع جيراننا — «هذا حسن»، «هذا لطيف»، «هذا سيِّئ»، «هذا فظيع»، «هذا مُقزِّز»، «هذا سار»، «هذا مُزعِج» … إلخ. وهناك عشائر قد تكون (أو كانت في يومٍ من الأيام) على غير دِراية بوجود عشائر أخرى لها صيغٌ أو أشكال مُختلفة من الحياة٧٠ على أنَّ مُعظَم الناس في العالم الحديث على وعيٍ حادٍّ بوجود شعوب أخرى تتَّبِع قواعد مُغايرة وتُجِلُّ قِيمًا مختلفة. وقد اكتشف الأنثروبولوجيون أيضًا أنه ما من صيغة (صورة/شكل) حياتية، حتى تلك المُغايرة لصيغتنا كلَّ المُغايرة، إلا ويمكن أن نُقدِّرها داخل إطارها الخاص وفي لُغتِها الخاصة. ولا يُمكن أن ننبِذَها بوصفها «بدائية» أو «لا معقولة». كلُّ ذلك يؤلِّف ما أصبح يُسمَّى ﺑ «الوعي الأنثروبولوجي».

هل يترتَّب على هذا «الوعي الأنثروبولوجي» أيُّ شيءٍ مُثير للاهتمام من الوجهة الفلسفية؟ يُجيب بعض الفلاسفة: كلا؛ إنَّنا نبدأ من حيث نبدأ ثُمَّ نتقدَّم، مُستخدمين العقل والحُجَّة والنقد، نحو قواعد وقِيَم يمكن الدفاع عنها عقليًّا، بينما يرى فلاسفة آخرون أنَّنا مهما تكُن قُدرَتُنا على استعمال العقل والحُجَّة والنقد فنحنُ لا يُمكِننا أن نُقدِّم دفاعًا عن قواعدنا وقِيَمِنا يكون من الموضوعية والنزاهة والبُعد عن التحكُّم والتعسف بحيث يدفع أيَّ شخصٍ من أيةِ ثقافةٍ إلى قَبوله والتَّسليم به.

تشتمِل حياتُنا الأخلاقية على مبادئ وقواعد والتزاماتٍ وحقوقٍ وواجبات ومُثُل وقِيَم وطرائق تبرير الدعاوى الأخلاقية ونقْدِها، وأشياء أخرى كثيرة بلا ريب. ومن الجائز أن يكون المرء نِسبيًّا تجاه بعض هذه الأشياء (عناصر الحياة الصالِحة على سبيل المثال) وغيرَ نِسبيٍّ في أشياء أخرى (الحقوق على سبيل المثال).

  • النسبية الأخلاقية الوصفية هي الدعوى الإمبيريقية القائلة بأنَّ الجماعات المُختلفة تختلِف بالفعل في بُعدٍ أو أكثر من الأبعاد الأخلاقية. من ذلك أن الثقافات الغربية الحديثة تُعلي من شأن الفردية والاستقلالية والكرامة الشخصية بوصفِها قِيَمًا أساسية، بينما تنظُر بعض الثقافات الأخرى إلى تماسُك الجماعة أو إرضاء الآلهة كقِيَم أكثرَ أهمية. وقد تنظر جماعة مُعينة إلى الخُنوع والتواضُع والخضوع للجماعة بوصفِها قِيَمًا بينما تؤكد جماعاتٌ أخرى على البطولة والكبرياء. قد تؤدي مثل هذه الفروق في المفاهيم والقِيَم والمُمارسات الأخلاقية أيضًا إلى فروقٍ في الإدراك الخُلقي والحساسية الخلقية.

  • أما النسبية الأخلاقية المعيارية فهي الدعوى القائلة بأنَّ ما هو صواب أو عادل أو فاضل أو خير إنما هو كذلك داخل إطار أخلاقي مُعيَّن وبالنسبة إليه فحَسْب.

والحقُّ أنَّ النسبية الأخلاقية هي موضوعٌ قائم بذاته، ومُتداخِلٌ إلى ما يقرُب من التَّماهي مع موضوع النسبية الثقافية. وقد أفرَدْنا له فصلًا خاصًّا يُبيِّن ما لها وما عليها، وفقًا لتحليلٍ مُفصَّلٍ لواحدٍ من كبار مؤيدي النسبية الأخلاقية هو جراهام سمنر، وآخر من كبار مُناوئيها هو ولتر ستيس.

(٦) «نسبية الدلالة/المعنى (النسبية السيمانتية) Semantic Relativism»: قد تَعني نسبية الدلالة، أي نسبية معاني الألفاظ والتعبيرات والجُمل، في اللغات الطبيعية كالإنجليزية والعربية والشوكتو، أشياء كثيرة بعضُها مُبتذَل نافِل، ولكن بعضها الآخر مُهمٌّ ومثيرٌ لأسبابٍ ليس أقلَّها أنها تُستخدَم كثيرًا في الدفاع عن ألوانٍ أخرى من النسبية. ربما يكون التمييز بين النسبية الوصفية والمعيارية في مجال الدلالة هو تَمييز أقلُّ حدَّةً ووضوحًا من غيره، ولكنه يبقى تمييزًا مُفيدًا:
  • أما النسبية السيمانتية الوصفية فهي الدعوى الإمبيريقية القائلة بأنَّ الجماعات المختلفة، كالأشخاص الذين يعيشون في ثقافات مختلفة أو أزمِنة مختلفة، يكون لدَيهم أحيانًا اعتقادات مختلفة عن معنى كلمةٍ من الكلمات (ونعني الكلمة كما تُنطَقُ أو تُكتَب بمعزلٍ عن المعنى). مثال ذلك، كما سوف نعرِض مرارًا، ما ذهب إليه بعض الفلاسفة من أن استخدام العلماء لكلمة «كُتلة» mass في أواخر القرن السابع عشر يختلف عن استخدام الفيزيائيين اليوم اختلافًا يجعل أعضاء الجماعتين يُلصِقون باللفظة ذاتها معاني مختلفة.
  • وأما النسبية السيمانتية المعيارية فهي الدعوى القائلة بأن معاني الألفاظ تُحدِّدها الجماعة الثقافية أو اللغوية أو الحِقبة التاريخية. وعليه فإذا كان مُجتمعان من التداخُل بحيث يَستخدِمان اللفظة عينها، فمن المُمكن أن يكون لهذه اللفظة مَعنَيان مختلفان في هذَين المُجتمعَين. من ذلك ما ذهب إليه بعض الفلاسفة من أن لفظة «كتلة» text لها داخل الإطار النيوتوني معنى (يُشير إلى المِقدار الفيزيقي الذي لا يتأثَّر بالسرعة) ولها داخل إطار الفيزياء الحديثة معنًى آخر. ومن ذلك ما ذهب إليه البعض من أن معاني الروابط المنطقية (مثل: ليس، إذا، بعض … إلخ) هي نسبية — بحسب الأُطُر المنطقية المُختلفة (ﮐ «المنطق الحدْسي» أو المنطق التقليدي … إلخ).
ثمَّةَ صيغٌ عامَّة من النسبية السيمانتية المِعيارية تظهر أحيانًا في المناقشات الدائرة حول معاني النصوص (مثل الروايات والقصائد الملحمية). كانت مثل هذه الاهتمامات تتضمَّن تفسير الكتاب المُقدَّس، غير أنها امتدَّت في القرن التاسع عشر على يدِ شلايرماخر ودلتاي وغيرهما حتى أصبحت الاهتمامات التفسيرية أو الهرمنيوطيقية تشمل جميع النصوص (بل إن بعض أساتذة نظرية الأدب المُعاصِرين قد وسَّعوا فكرة «النص» text لتتجاوز ما هو لغوي وتشمل كل «كيانٍ شبيهٍ بالنص»: الأثر التاريخي، العمل الفني، الإنسان الفرد، المريض … إلخ). والعمل التأويلي ليس لزامًا عليه أن يتضمَّن صِيَغًا مُتشدِّدة من النسبية السيمانتية المعيارية، غير أنه يتضمَّنها في بعض الأحيان، ولا سيما في نظرية الأدب «بعد-الحداثية» post-modernist («كل تأويلٍ هو مُجرَّد إعادة تأويل»).
يقول رولان بارت في «درس السيميولوجيا»: «النص تعدُّدي. لا يعني هذا فحسب أنه ينطوي على معانٍ عدَّة، وإنما أنه يُحقِّق تَعدُّد المعنى ذاته. إنه تَعدُّد لا يُؤوَّل إلى أية وحدة. ليس النصُّ تواجُدًا لمعانٍ، وإنما هو مجازٌ وانتقال. بناءً على ذلك فلا يُمكن أن يخضَع لتأويلٍ، وإنما لتفجيرٍ وتشتيت؛ ذلك أنَّ تَعدُّدية النصِّ لا تعود لالتِباس مُحتوياته، وإنما لما يُمكن أن نُطلق عليه التعدُّد المُتناغِم للدلائل التي يتكوَّن منها. إن قارئ النصِّ شبيهٌ بذاتٍ مُرتبكة (تعطل فيها عمَلُ المُخيِّلة)، هذه الذات الفارغة تتجوَّل قُرب وادٍ ينحدِر في أسفَلِه نهر، ما يُدرِكه مُتعدِّدٌ يصدُر عن موادَّ ومستوياتٍ مُتنوِّعة من أضواء وألوان وخُضرة وحرارة وهواء وضجيج وزقيق وأصوات أطفال وحركات وملابس. كل هذه الحوادث تكاد تُدرَك كُلٌّ على حِدة؛ إنها تخضع لقواعد معروفة، بيْدَ أنَّ المزْجَ بينها مُتفرِّد، وهو ما يُحدِّد النزهة في اختلافها الذي لا يُمكن أن يتكرَّر إلَّا كاختلاف.»٧١ أما الفيلسوف التأويلي بول ريكور فقد قدَّم تحليلًا ﻟ «الاستعارة» metaphor على أنها توتُّر أو شد! يرى ريكور أنَّ في صميم الاستعارة يقبَع عنصر إثباتٍ وعنصر نفي: يُشير العنصر الأول إلى الناقل الحرفي المُستخدَم لتوصيل الاستعارة، بينما يدلُّ الأخير على أن المُشار إليه referent في الاستعارة لا ينبغي أن يُلتمَس في الألفاظ الحرفية. من شأن هذا التوتُّر أن يُسقط «عالَمًا أمام النص». هذا العالم المُسقَط هو المُشار إليه الحقيقي للاستعارة. ويرى ريكور أنَّ معنى الاستعارة وإشارتها هما شيء في انتظار أن يتملَّكَه القارئ الراهن من خلال عملية إضفاء القرينة أو السياق التي يضطلِع بها من جديد كلُّ قارئ للنص. وقد طبَّق ريكور هذا المبدأ أيضًا على الحكاية الرمزية parable، بل على كلِّ النصوص المكتوبة التي يفصِلنا عنها فجوةٌ أو بَون. وهو في غمرة اهتمامه بالعثور على المعنى لا في النصِّ نفسه بل «أمام النص» فقد فتحَ المجال لنِسبية لا مفرَّ منها لرسالة النص. وهكذا يسمح لعُنصر النفي أن يسُود على حساب عُنصر الإثبات. يريد ريكور أن يُحافظ على التوتُّر، غير أنه في الواقع الفعلي ينفرِج التوتُّر في النهاية لصالح «المعنى الجديد» المُتولِّد في الأفق الحادث بين القارئ والنص. ويصير الأمر، بشكل لا مردَّ له، إلى اضطرابٍ وتقلقُلٍ في رسالة النص مصحوبٍ بنسبية تلك الرسالة.٧٢

المعنى هو الاستخدام

ربما لا يختلف اثنان على أن معاني الألفاظ تُحدِّدها، بشكلٍ ما، ممارسات واعتقادات الجماعة اللغوية التي تستخدمها. يؤثَر عن فتجنشتين قوله «لا تسأل عن المعنى وإنما عن الاستخدام»، ويعني بذلك أن معنى الكلمة ليس غير طريقة (أو طرق) استخدامنا لها في حياتنا اليومية، فبينما يؤكِّد الفلاسفة والمناطقة منذ القِدم أنَّ الفكر الواضح منوط بالتعبير الدقيق، مما يستوجِب أن يكون لكلِّ كلمةٍ معنى مُحدَّد — فإن فتحنشتين يَجبهُنا برأيٍ مختلف: فليس للكلمة الواحدة من كلمات اللغة معنى مُحدَّد دقيق، وإنما للكلمة الواحدة، كما هي مُستخدَمة بالفعل في الحياة اليومية، معانٍ لا حصرَ لها تتحدَّد بحسب السياقات والظروف المختلفة التي تُستخدَم فيها الكلمة. فالكلمة مطاطة تتَّسِع استخداماتها وتضيق وفقًا للظروف والحاجات المختلفة، ولا يُوجَد بين الاستخدامات المُختلفة للكلمة الواحدة عنصرٌ مُشترَك مُحدَّد، وإنما يُوجَد بينها «تشابُهات عائلية» family resemblances مُتداخِلة مُندمجة كالتي نراها بين أفراد العائلة الواحدة.
ورغم أن فكرة «المعنى هو الاستعمال» كثيرًا ما ترتبِط بالفيلسوف فتجنشتين، فإنه لم يطرَحْها كنظريةٍ عامة في المعنى. غير أن كثيرًا من المفكرين، بادئين من حيث انتهى، رأوا أنَّ شيئًا يُشبِه النظرية العامة في المعنى يُمكن أن يؤسَّس على شعار فتجنشتين. ذهب هؤلاء المفكرون إلى أن الطريقة الوحيدة لفهم الجُمل اللغوية هي أن نُلاحظ كيف تُستخدَم في بيئاتها الحياتية الحقيقية. ولا شكَّ أن هذا يتطلَّب وصفًا أمينًا لاستخدامات المُفردات اللغوية، تلك الاستخدامات التي تتَشابه على السطح غير أنها مُتميِّزة فيا بينها. لقد قال فتجنشتين فعلًا «أن نفْهَم لُغةً ما هو أن نفْهَم شكلًا من أشكال الحياة.» ويبدو أنَّ هذا القول يحمِل في تضاعيفه دعوةً تُلزم أولئك الذين يرغبون في دراسة اللغة أن يفعلوا بإزاء عشائرهم الخاصَّة شيئًا شديد الشَّبَه بما يفعله الإثنوغرافيون/الأنثروبولوجيون بإزاء العشائر التي يدرُسونها، يتضمَّن ذلك، على أقلِّ تقدير، تَرسُّم معنًى إجمالي لجُملة المُمارسات، اللغوية وغير اللغوية، التي تؤلِّف شكلًا من أشكال الحياة.٧٣
المعنى تُحدِّده المُمارسة. ينطوي ذلك على «نزعة كلية» holism سيمانتية مفادها أن المعاني الإشارية (الحقيقية) denotations للتعبيرات اللغوية يُحدِّدها دورها الكلي في لغةٍ ما. والحقُّ أن معاني التعبيرات الخاصة بإحدى اللغات لا يُمكن أن يُعبَّر عنها في لغةٍ أخرى إلا بطريقةٍ تقريبية. هكذا يَتبيَّن أنَّ النسبية السيمانتية هي دعوى لغوية بالدرجة الأساس. غير أنَّ هناك أوجه التِقاء بينها وبين ضروبٍ أخرى من النِّسبية. وأهم من ذلك أنها كثيرًا ما يُهاب بها في الدفاع عن ضروبٍ نسبيةٍ أخرى.

«المذهب الكلي في المعنى» Meaning Holism ونِسبية المعنى

رغم أن فكرة المعنى اللغوي هي فكرة مُتعددة الجوانب ومَثار جدل لا ينتهي، فإن مُعظم المفكرين يتَّفِقون على أن المعنى والإشارة (المعنى الحقيقي) والصِّدق هي أفكار سيمانتية محورية. وسوف نبدأ بالفكرة الحدسية عن المعنى، مُركِّزين على تبيان كيف تُجنَّد كثيرًا فكرةُ نِسبية المعنى للدفاع عن أمورٍ نسبيةٍ أخرى، ثم نعرِض إلى نسبية «الصدق/الحقيقة» ونِسبية «المعنى الإشاري».

اللامُقايسة وتغيُّر المفاهيم

لعلَّ أشهر أشكال النسبية السيمانتية وأكثرها تداولًا في العقود الحديثة هو مذهب «اللامقايسة» incommensurability في المعنى، وهو التصوُّر الذي دعا إليه توماس كُون وبول فييرابند (الذي يستشهد بآراء بنيامين ورف لتدعيم فكرته) وكثير غيرهما في القرن العشرين. ورغم أنَّ هذه الآراء قد تمَّ تهذيبها عبر السنين فإن مفادها الأصلي هو أن المُصطلحات (مثل «الكتلة»، «الجين»، «الحرارة»، «الإلكترون» …) الخاصة بالنماذج العلمية الشارحة (كون) أو بالنظريات الخلفية العالمية المستوى (فييرابند) تستمدُّ معناها من موضعها، أو دورها الكلي، داخل النموذج أو النظرية.
عندما يُعاني نموذجٌ علمي أو نظرية كُبرى تغييرًا جوهريًّا، كما يحدُث إبان ثورة علمية، يُغيِّر العلماء رأيهم في كثيرٍ من أهمِّ العبارات أو الاعتقادات (أو في «قيمة صِدقها» إن شئتَ الدقَّة) التي تتضمَّن هذه المصطلحات (مثل: «كتلة شيء ما تبقى ثابتة بالنسبة إلى جميع أُطر العطالة») وتظهر في الساحة دعاوى جديدة عجيبة تَستخدِم هذه المصطلحات. هكذا تتغيَّر أدوار هذه المُصطلحات وتتغيَّر معانيها أيضًا، هذه صيغة من مذهب «كلية الدلالة أو المعنى» semantic or meaning holism أي النظرة القائلة بأن معنى التعبيرات والجُمَل اللغوية يُحدِّده مكانها في الشبكة الكلية من الاعتقادات أو الجُمَل التي تتضمَّن نظريةً أو، في النهاية، نظرةً بأكملها إلى العالم Weltanschauung (world-view).
فإذا صحَّت دعوى كلية المعنى لترتَّب على ذلك أن النظريات المُختلفة (اختلافًا جوهريًّا) لا يُمكن أن يكون لألفاظها أو تعبيراتها نفس المعنى. ويترتَّب على ذلك بدوره أنَّهُ في مثل هذه الحالات فإنَّ أطروحات النظريات المُصطرِعة لا تُمكن مُقارنتها بعضها ببعض. عندما يستخدم نيوتن وأينشتين مثلًا كلمة «كتلة» فإنها تعني لديهما أشياء مختلفة. إن الأمر هنا بين صاحبي النظريتَين المُتنافستَين ليس عدم اتفاقهما حول شيءٍ ما بل إنهما ببساطة يتحدَّثان عن شيئَين مختلفَين، يتخطى أحدهما الآخر ولا يُلامسه؛ ومن ثم فإنَّ أطروحتَيهما واعتقادَيهما ونظريتَيهما «لا تقبلان المُقايسة» incommensurable أي لا تقبلان المقارنة وفق معيارٍ واحد.

من الممكن أيضًا صياغة وصفٍ «كلي» للاعتقاد أو المحتوى العقلي بحيث يكون معنى اعتقاد مُعين أو مضمونه مُتوقِّفًا على مكانه في شبكةٍ كبيرة من الاعتقادات. ومن الممكن وضع صِيغةٍ للامقايسة والنسبية في حدود المفاهيم لا الألفاظ.

وأحيانًا ما تُصوَّر النسبية على أنها، ببساطة، هي وجهة النظر القائلة بوجود أُطُر غير قابلة للمُقايسة على الإطلاق، وهي نظرة مُتشدِّدة قلَّما تجِد من يُدافع عنها بشيءٍ من التفصيل، وهي نظرة لا نُحبِّذها لأنها تنفي ببساطةٍ كثيرًا من الصِّيَغ الشائقة من النسبية، على أنَّ دعاوى اللامقايسة تدعم بالفعل بعض ضروب النسبية الوصفية من حيث إنَّ الجماعات التي تَتَّخِذ منظورًا مختلفًا تمامًا إلى العالم ستكون لدَيها أُطُر مختلفة تمامًا من المفاهيم والمعايير والاعتقادات.

اللامُقايسة والمُقارنات عبر-الثقافية

أحيانًا ما يُقال إن المعاني والمفاهيم والاعتقادات لدى الثقافات المختلفة تتَّسِم ﺑ «اللامقايسة»، مِثال ذلك أن لفظ «حقوق» rights الذي نستخدمه الآن (أو مفهومنا عن «حقوق الفرد») يَستمِدُّ معناه من علاقاته بألفاظنا أو مفاهيمنا الأخرى (كالحرِّية، والواجب، والاستقلال، والمُساواة) ومن علاقاته باعتقاداتنا الأخرى (مثل ضرورة السماح للأشخاص بشيءٍ من السيادة فيما يتعلَّق بحياتهم الخاصة) ومن علاقاته بمُمارساتنا الأخرى (مثل منظومتِنا من القوانين والعقوبات).
غير أنَّ الأمر هنا ينطوي على مُشكلة؛ فإذا صحَّ أنَّ المعاني والمفاهيم والاعتقادات والتقاليد والممارسات لدى ثقافةٍ أخرى هي أشياء مُختلفة جوهريًّا عمَّا لدَينا، لترتَّب على ذلك أن ليس هناك تراصُف أو تقابُل بين أيِّ لفظٍ من ألفاظهم (أو تعبيراتهم المُركَّبة) وبين لفظ «حقوق» كما يعني عندنا، بحيث يتعذَّر أن نقول بأنَّ لدَيهم أي تعبيراتٍ أو تصوُّرات تُعدُّ نظائر أصيلة لكلِمتِنا أو تصوُّرِنا أو أنَّ لدَيهم أي اعتقادات عن الحقوق. كذلك يُمكِننا أن نمضي على هذا القياس فنقول إنَّ مِن المُمكن أن تكون لجماعة أخرى معانٍ أو مفاهيم مُختلفة كليًّا فيما يتعلق ﺑ «السببية» causality، أو «التقييم الإبستيمي» epistemic appraisal، أو حتى «المنطق»، فإذا صَحَّ ذلك لأفضى إلى نسبية وصفية حول المفاهيم والمبادئ المنطقية وما شابه ذلك.

غموض الإشارة والنسبية الأنطولوجية

من الأطروحات الشهيرة في الفلسفة المُعاصِرة تلك الأطروحة التي دفع بها الفيلسوف الأمريكي كواين عمَّا أسماه «غموض الإشارة» inscrutability of reference التي تقترن بأطروحتَين عن «عدم التحديد في الترجمة» indeterminacy of translation و«النسبية الأنطولوجية» ontological relativism. تُنبئنا دعوى غموض الإشارة أنَّ من غير المُمكن لنا أن نعلم، على نحوٍ «مطلق» أي بمعنى مُستقلٍّ عن أي لغة أو إطار، أي الأشياء هي التي يتحدَّث عنها المُتحدِّث أو يشير إليها بألفاظه. وفي تجربةٍ فكرية مأثورة يدعوك كواين إلى تخيُّل أنك أنثروبولوجي يُحاوِل أن يُترجِم لغة قبيلةٍ معزولة لم يسبِق لأحدٍ الاتصال بها حتى الآن، وأن عليك من ثَمَّ أن تتعامَل مُباشرةً مع أناسٍ لا تُشاركهم لغتهم ولا هم يُشاركونك لغتك، وأنك بشكلٍ ما قد كوَّنتَ علاقة عملٍ مع أحد أفراد القبيلة، فجعلتَ تُشير بيدك إلى أشياء وهو يُسمِّيها لك، فتُشير مثلًا إلى أرنبٍ ظهر لكما وهو يقول gavagai. قد تظنُّ عندئذٍ أن gavagai تعني «أرنب»، وسوف تزداد ثِقتُك بهذه الترجمة مع تكرار الارتباط بين إشارتك إلى أرنبٍ وبين قول القبلي: gavagai، ولكن: هل لك، حقًّا، أن تثِقَ بأنَّ ترجمتك هي الترجمة الصحيحة؟ فرغم كلِّ شيء فإنه كلَّما ظهر أرنب ظهرَتْ معه أجزاءٌ مُلازمةٌ له وغير منفصِلة عنه (كالرأس والأرجل مثلًا)، ألا يُحتمَل أن يكون gavagai تعني في حقيقة الأمر جزءًا مُدمجًا بالأرنب؟ ثم: ألستَ تُصادر كثيرًا على المطلوب إذ تفترِض ببساطةٍ أن للقبلي نفس تصوُّرنا عن الموضوعات (الأشياء) الدائمة من مِثل الصخور والأحصنة والأرانب؟ ألا يجوز أنه يَعني من قوله gavagai حدثًا يجري أو واقعة تتمُّ أو شيئًا قريبًا من قولنا «إنها تمطر»؟ ألم يُنوِّه كثيرٌ من الأنثروبولوجيين حقًّا (وبخاصة بنيامين ورف) بأن لدى بعض الثقافات الأخرى مفاهيم عن الأشياء مُختلفة عن مفاهيمنا؟ وباختصار: أليس من المُحتمَل أنك إنما «تُسقط» project ثقافتك وتصنيفاتها الخاصة للأشياء على سلوك المواطن القبلي؟
من النتائج التي يستخلصها كواين من تجربته نتيجة مفادها أنه عندما ننخرِط في «ترجمة جذرية» radical translation (أي ترجمة لغة أناسٍ لم يتَّصِلوا بغيرهم من البشر قط) فمن المُحال أن نكون على ثِقةٍ بأننا قد وقَعْنا على الترجمة الصحيحة. إنَّ الصِّلة بين الدليل (سلوك القبلي … إلخ) وبين النتيجة المُحصَّلة (الترجمة) تُشبِهُ الصِّلة بين الدليل وبين النظرية العلمية؛ ذلك أن النظرية تُحدِّدها البيِّنة أو الدليل «تحديدًا ناقصًا» underdetermination فحسب، وتُمثِّل تخمينًا أو حدْسًا افتراضيًّا يتخطَّى البيانات المُعطاة.
من الأهمية بمكانٍ أن نُعجِّل بالقول بأن آراء كواين لا تُؤازِر مُعظم ضروب النسبية كما قد يتبادَرُ إلى الظن، بل تُقوِّضها في حقيقة الأمر؛ ذلك أنه لا تتوافَر أي حقيقةٍ مُطلقة عما يفكر فيه المُتحدِّثون بلغات مختلفة (أو أعضاء الثقافات المختلفة) أو يتحدَّثون عنه؛ ومن ثم فليس لدَينا دليل يَقيني على أنهم يُفكِّرون بطرائقَ مُختلفة عنَّا اختلافًا ذا بال. ليس الأمر هنا، فيما يُنبئنا كواين، أنَّ ذِهن الشخص الآخر لا يُمكن تَمحيصُه، بل إنه ببساطة لا يُوجَد شيءٌ لكي يُمحَّص، ولا يُوجَد أيُّ دليلٍ يقيني يُرشِدنا عن «المعنى الإشاري» denotation لكلماته أو الحدود النهائية لعالَمه.٧٤
(٧) «الممارسة Practice»: إن الكثير من فكرنا وفعلنا يحدُث على خلفية، مشتركة ولكنها مُضمَرة، من الفروض والحدوس والمواقف والاهتمامات والمهارات وغير ذلك من طرائق التكيُّف مع العالم من حولنا. إنها خلفية ضِمنية غير مُعلنة (ولعلها غير قابلة للإعلان في بعض الأحيان) ويصعب تحديدها في الغالب، وتشمل العادات الاستدلالية وغيرها من العادات المعرفية، والأساليب التلقائية في تأويل الأشياء، والمفاهيم التي نُسقطها على الأشياء ويُعدُّ إسقاطها طبيعةً ثانيةً فينا.

الاعتقادات المُعلَنة والتفكير الواعي والاستِدلال الصريح؛ ليست هذه هي كل شيء في حياتنا الذهنية. وكلنا يعلم أن اكتسابنا للغتنا الأصلية وتمييزنا للوجوه وغير ذلك من أنشطتنا العقلية لا يتم وفقًا لقواعد أو تعاليم مُحدَّدة. وكل من حاول من العلماء المعرفيين استخلاص قواعد صريحة لهذه المهارات وجد ذلك أمرًا بالِغ الصعوبة. وإذا كانت بعض جوانب الممارسة هي جزء من موروثنا البيولوجي فإنَّ هناك جوانب أخرى تختلِف من جماعةٍ إلى أخرى.

يُشير ماركس في كتابه «مقالات حول فيورباخ» إلى أنَّ «الخلل الأساسي في كل المذهب المادي هو أن الشيء، أو الواقع، أو الحس، يُنظَر إليه فقط على أنه موضوع أو تأمُّل، وليس على أنه نشاط بشري محسوس أو مُمارسة بشرية محسوسة، أي ليس بصورة ذاتية.» يعني هذا المقطع أن ماركس كان ينوي إعادة ترتيب الفصل الأنطولوجي بين البشر والمُنتجات كوسيلة لتخطِّي الانفصال بين المادي والفكري. تعتمد صياغة ماركس لامتزاج النشاط والممارسة والمادية/المثالية على فرضيَّة أنَّ «الشيء أو المُنتَج ليس مُجرَّد شيء يقَعُ خارج طبيعة المُنتَج ولا علاقة له بها، وإنما هو نشاطه، وقد أخذ شكلًا وأصبح شيئًا.» تظهر الممارسة، من هذا المنظور، كوسط، ونتيجة، وشرط أولي للتفكير البشري.٧٥
ويذهب تشارلز تايلور إلى أنَّ الواقع الاجتماعي القاعدي المُسلَّم به يتكوَّن من ممارسات اجتماعية، هي التي تقدم الوسط البينذاتي للعقل. يُشكِّل طاقم الممارسات في مجتمعٍ ما الأساس الذي يقوم عليه المجتمع والخطاب؛ فالمعاني والأعراف «لا تُوجَد فقط في عقول الفاعِلين وإنما تُوجَد في الممارسات نفسها، وهي ممارسات لا يُمكن النظر إليها على أنها مجموعة من الأفعال الفردية؛ حيث إنها في الأساس نماذج علاقات اجتماعية.»٧٦
يتوقَّع المرء توكيدًا على الممارسة في الكتابات الماركسية حول البراكسس، وفي كتابات البراجماتيين حول البحث والتربية. غير أنَّ العديد من الكتاب الآخرين قد أبرزوا أيضًا أهمية الممارسة؛ فقد أكَّد أرسطو على أهمية «الحكمة العملية» phronesis، أي القدرة على تقرير ما يتعيَّن على المرء أن يفعله في المواقف الحقيقية العيانية. ولمَّا كانت الحكمة العملية غير قابلة للردِّ إلى توجيهاتٍ صورية؛ فقد أكد أرسطو على أنَّ التربية يجِب أن تهدُف إلى غرس أساليب الرؤية والشعور والفعل وليس مُجرَّد تقديم قواعد؛ ذلك أن المعرفة الأخلاقية، كما يصِفها أرسطو، ليست معرفة موضوعية بكلِّ تأكيد، أي أن الشخص العارف لا يقِف بإزاء موقفٍ يقوم بملاحظته فحسب، إنه مُلتحم بشكلٍ مباشر بما يراه، إنه شيء عليه أن يفعله. إن أساس المعرفة الأخلاقية عند الإنسان هو المُجاهدة والكدْح وتطوُّرهما إلى خليقة مكينة وسلوك ثابت. وإن اللفظة نفسها ethics لَتدلُّ على أن أرسطو يقيِّم الفضيلة على الممارسة وعلى «الإيثوس» ethos أي الطبع والشخصية.
وقد تناول العديد من الكتاب المُحدثين هذه المسألة فذهب ميشيل بولانيي إلى أننا نعرف أكثر ممَّا يُمكننا أن نُفصح به، وأن هذه المعرفة الضِّمنية تتبطَّن كل معارفنا الصريحة. يُذكِّرنا ذلك أيضًا بالتمييز الذي وضعه جلبرت رايل بين «معرفة كيف» knowing how و«معرفة أن» knowing that؛ فأنْ نعرِف كيف نقود سيارة أو كيف نخبِز كعكة الأناناس أو كيف نقِف على أيدينا؛ تلك معرفة كيف، أو المعرفة كمَقِدرة. ونحن عادةً ما نعجز عن أن نُعبر عنها بالألفاظ؛ فمثل تلك المعرفة تُعلم بالتمثيل لا بالكلام. أمَّا «معرفة أن» فهي «معرفة قَضَوية» propositional knowledge (أي معرفة قضايا). ومِن المُفترض بصفةٍ عامَّة أنها يمكن أن يعبَّر عنها لفظيًّا تعبيرًا تامًّا.٧٧

وقد شبَّهَ توماس كُون تعلُّم العِلم بالتَّمَهُّن الحِرَفي الذي يكتسِب فيه المرء لا مُجرَّد معرفة صريحة بل عادات أيضًا ومهارات. وذهب جون سيرل، وكثير غيره، إلى أنَّ هناك معرفة مُضمَرة غير منطوقة وربما غير قابلة للتمثيل تُشكِّل خلفية من الافتراضات والمُسلَّمات وأساليب الإدراك وطرائق الفعل. هذه الخلفية المُضمَرة تتبطَّن جميع معارفنا وتقييماتنا.

ولعلَّ هذا التوكيد على الممارسة — المشاركة والحُكم والفعل — أن يكون ترياقًا ناجعًا لذلك الداء الذي كان يَشجُبُه جون ديوي بقوة، والذي يتمثَّل في نظريات المعرفة التي تصوِّر الكائن الإنساني في صورة مُتفرِّج سلبي؛ ذلك الداء الذي ما يزال يُفسد بعض مباحث النسبية:
  • النسبية الوصفية حول المُمارسة هي الدعوى الإمبيريقية القائلة بأن الجماعات المُختلفة لدَيها مُمارسات مُختلفة من شأنها أن تؤدِّي إلى طرائق مُختلفة من الفكر والتقييم. في هذا المقام قد يرى المرء إلى الثقافة على أنها تُحدِّد الممارسات التي تُحدِّد بدورها أساليب التصنيف والتقييم. غير أنه من الأدقِّ أن ننظُر إلى الممارسات الثقافية وطرائق التصنيف كجوانب للشيء نفسه، نفصلها بشكل اصطناعي إلى حدٍّ ما بغرض الشرح والتوضيح.

  • أما النسبية المعيارية حول الممارسة فهي الدعوى القائلة بأن من الممكن وجود حقائق مرتبطة بالإطار — وليس بمعزِل عنه — تُبيِّن لنا أي الممارسات هي الممارسة الصائبة. ليس هناك ممارسة صحيحة بمعنًى مُنفصل عن الإطار. يقول جودمان إن المفاهيم التي ينبغي أن نُسقِطها على الظواهر، هنا والآن، تعتمد في جانبٍ منها على الممارسات الاستقرائية لمجتمعنا، وتتوقف على أي المحمولات قد تمَّ لأعضاء جماعتنا إسقاطها في الماضي بشكلٍ ناجح. وبعبارةٍ أخرى فإن تاريخ ممارساتنا هو الذي يُحدِّد أي التصنيفات هو الصحيح في شتَّى الأغراض.٧٨

ولمُعالجة لدفيج فتجنشتين لمسألة الممارسة أهمية خاصة؛ فقد ذهب فتجنشتين إلى أن تبريراتنا وأسبابنا العقلية لا تقوم على حُجَجٍ أو اعتقادات أو مبدأ، وإنما تقوم على حقيقة أننا نسلُك كما نسلك، وفقًا لشكل الحياة عندنا والممارسات التي لدينا. قد تكون بعض جوانب هذا الشكل من الحياة شيئًا مُشتركًا يشمل جميع الكائنات الإنسانية السوية، ولكن بعضها الآخر قد يختلف من جماعة إلى أخرى اختلافًا بعيدًا.

يقول فتجنشتين:

«ماذا يُعدُّ اختبارًا لها؟ ولكن هل هو اختبارٌ سديد؟ وإذا كان كذلك ألا ينبغي أن يتجلَّى كما هو في المنطق؟ يبدو التبرير المنطقي كما لو أنه لا يقِف عند حدٍّ في بعض الأحيان، وكل أساسٍ يتطلَّب أساسًا أبعد. غير أنَّ الحدَّ ليس مُسلَّمةً بلا أساس؛ إنه طريقة للفعل بلا أساس أبعد منها.» (أبحاث منطقية، ١١٠)

إذا نفدت تبريراتي، أكون قد بلغتُ بالحفْر إلى الصخرة، وتكون جرَّافتي قد انثَنَتْ. هنالك أكون أميل إلى أن أقول: «هذا ببساطة هو ما أفعله.» وبمقدرونا أن نقول إنَّ ما يتعيَّن علينا أن نقبله، أي «المُعطى» given هو «أشكال الحياة» forms of life. (أبحاث منطقية، ٢١٧)

إن المُمارسة تغمُر وتتخلَّل جميع جوانب الثقافة والفكر والتقييم، غير أنها تستحقُّ أن نُفرِدها للبحث والاستقصاء؛ ذلك أن شمولها نفسه يجعلها خفيَّةً عن الأنظار!

(٨) «نسبية «الصدق/الحقيقة» Relativism of Truth»: «الصدق» truth من المسائل الهامة من الوجهة الفلسفية؛ لأنه هدفٌ أكبر للبحث ومكوِّنٌ أساسي للمعرفة، ولأنه الشيء الذي ينشده «التبرير» justification. وربما يكون مكونًا من مكونات المعنى اللغوي (المعنى بوصفه شروط صدق العبارة).٧٩ ولأنه عند كثير من الناس غاية كبرى في ذاته، يُطلق الفلاسفة على الصدق والكذب «قِيَم الصدق» truth values؛ ومن ثَمَّ فمن الطبيعي أن تُسمَّى النسبية الخاصة بالصدق «نِسبية قِيَم الصدق».
  • النسبية الوصفية لقِيَم الصدق Descriptive Truth-Value Relativism، هي الدعوى الإمبيريقية القائلة بأنه في بعض الأحيان يعتقد أعضاء الجماعات المختلفة في أشياء مُختلفة على أنها حقيقة.
  • النسبية المعيارية لقِيَم الصدق Normative Truth-Value Relativism، هي الدعوى القائلة بأن العبارات والاعتقادات … إلخ هي صادقة فقط بالنسبة لإطارٍ معين. يقول توماس كون، على سبيل المثال، «إذا كنت مُحِقًّا فإن «الصدق» قد يكون، شأنه شأن «البرهان»؛ مُصطلحًا ليس له استخدامات إلا داخل نظرية.»٨٠ تأتي نِسبية قِيَم الصدق في صيغتين: صيغة معتدلة تقول بأن من الجائز أن تكون هناك أشياء صادقة داخل إطارٍ ما وغير صادقة داخل إطارٍ آخر لأنها، ببساطة، لا يمكن التعبير عنها داخل الإطار الثاني. أما الصيغة المُتشدِّدة من نسبية قيم الصدق، والتي تحظى بالانتباه الأكبر، فهي الدعوى القائلة بأن الشيء نفسه (الاعتقاد نفسه مثلًا) يمكن أن يكون صادقًا في إطار وكاذبًا في إطارٍ آخر.

تُسفر نسبية الصدق في نهاية المطاف عن نسبيةٍ حول الاعتقاد. غير أنه قد جرى الربط الوثيق بين طائفتين من المسائل مختلفتين نوعًا ما بالاعتقادات المحورية أو المبادئ من جهة وبأمورٍ تتَّصِل بنسبية الصدق من جهة أخرى. تتضمَّن الفئة الأولى ما سَنُسمِّيه «مبادئ الإطار»، وهي مبادئ شديدة العمومية (مثل: «لكل حدثٍ سبب») تُرشد التصنيف والبحث. وفي المقابل فإنَّ الفئة الثانية تتضمَّن الصيغة المُتشدِّدة من النسبية المعيارية لقِيَم الصدق بوضوحٍ تام. ولَمَّا كانت الفئتان مُختلفتين بعض الاختلاف فنحن نتناولهما هنا كلًّا على حِدة.

والاتهام التقليدي الذي يُوجَّه إلى الصيغة المُتشدِّدة من نسبية قِيَم الصدق هو «الدحض الذاتي» self-refutation؛ ذلك أن دعوى نِسبية الصدق لا تكون صادقة، طبقَا للدعوى ذاتها، إلا بالنسبة لإطارٍ معين، وقد تكون كاذبة بالنسبة لإطارٍ آخر. هكذا يمتنِع على النِّسبي أن يؤسس مشروعية دعواه ذاتها! وسوف نعود لحُجَّة «الدحض الذاتي» فيما بعد حين نتناول الحُجَج المضادَّة للنسبية.
(٩) «نسبية الواقع Reality Relativism»: في كتابهما المُشترك «البناء الاجتماعي للواقع – رسالة في سوسيولوجية المعرفة» يذهب بيتر برجر وتوماس لوكمان إلى أنَّ الواقع نفسه هو «تشييد أو بناء اجتماعي» social construction، ويُومئ المصطلح إلى أن العالم، أو الواقع ذاته، هو بدرجةٍ ما نتاج نشاطنا المعرفي. وقد اتخذ هذا الفصيل من الآراء أسماء عديدة منها: «النسبية الميتافيزيقية» metaphysical relativism، و«المذهب البنائي» constructivism. وتُعدُّ هذه الآراء هي أشد صور النسبية تطرفًا، وسوف نطلق عليها، بصفة عامة، «نسبية الواقع» reality relativism.
  • أما النسبية الوصفية للواقع Descriptive Reality Relativism فهي الدعوى القائلة بأنَّ من شأن الجماعات المُختلفة أن تخبُر محتوى العالم على أنحاء مختلفة: فبعض الجماعات ترى العالم مُحتويًا على أشياء مُعينة («أشياء فيزيقية» physical objects مثلًا)، بينما تراه جماعاتٌ أخرى محتويًا على «أحداثٍ» events مثلًا. من الواضح أنَّ هذا الضرب من النسبية الوصفية يضمُّ تداخُلًا من نسبية المفاهيم، والاعتقادات، والإدراك؛ مِمَّا يجعله غير ذي أهمية مُنفصِلة.
  • وأما النسبية المِعيارية للواقع Normative Reality Relativism فهي الدعوى القائلة بأن ما هو «واقع» real هو، بطريقةٍ ما، «واقعٌ بالنسبة لإطارٍ ما». ولكن كيف ذاك؟! فنحن بمعنًى ما قد نستخدم المفاهيم لنُشيِّد العالم، ولكن من ذا الذي يمكنه القول بأن العالم يتكوَّن، بالمعنى الحرفي، من مفاهيم؟! لعلَّ مسألة «التشييد الاجتماعي» social construction هذه مجرَّد استعارة تُومئ إلى معنًى مُعتدل: أن من شأن الأشخاص مثلًا ذوي المفاهيم المختلفة أن يفكروا في الأشياء بطرائق مختلفة.
غير أن بعض كبار المفكرين، بدءًا من كانْت وحتى نيسلون جودمان، قد اعتنقوا وجهة النظر الصارمة القائلة بأنَّ العقل يَضطلِع بدور في «بناء/تشييد» موضوعات المعرفة. ليس معنى ذلك أن العقل يُشيِّد الأشياء من لا شيء، بل إنَّ هناك مادة أولية أو خامة أساسية نعمل عليها ونقوم بتشكيلها؛ لا بأيدينا أو بمناشيرنا أو مخارطنا، بل بمفاهيمنا واعتقاداتنا وممارساتنا المعرفية. ورأس الأمر هنا أنَّ تحويل المادة الأولية إلى موضوعات مُعيَّنة، أو لِنقُل إن «إفراد» individuation المادة الخام إلى أشياء، يتطلَّب إسباغ المفاهيم، أو فرض التصوُّرات، عليها.
والحق أن فكرة أن الواقع «مُشيَّدٌ اجتماعيًّا» socially constructed تبدو للوهلة الأولى غريبة بالِغة الغرابة بحيث تجبَهُنا حقيقة أنَّ عددًا كبيرًا من المفكرين قد قالوا بأشياء قريبة منها على أقلِّ تقدير. أما الصعوبة الكبرى حول نسبية الواقع فتكمُن في فهم مغزاها ووضعها في نِصابها الصحيح وإيجاد صيغة منها تُنصف المُتعاطِفين معها ولا تُسفِر عن تناقُض ذاتي عندما نلتفتُ إلى تفاصيلها.

ومن البيِّن أنَّ نسبية الواقع تؤازِر وتدعم أصنافًا أخرى من النسبية. تقوم نسبية الواقع على أن مفاهيمنا واعتقاداتنا المركزية تشكِّل (تشيِّد) العالم كما نعرفه، وأن أية فكرة عن عالم موضوعي بشكلٍ مستقل تمامًا عن طريقة معرفتنا له هي فكرة فارغة وعابثة. فإذا صحَّ ذلك لأغرانا بأن نستنتج أن الفكرة الوحيدة غير الفارغة وغير العابثة حول الحقيقة/الصدق هي حقيقة عن الأشياء منسوبة إلى إطارنا التصوُّري ومرتبطة به. حين نقول مثلًا إن «العشب أخضر.» فإن هذه العبارة صادقة لأنها «تتطابق» مع الحقائق أو تتلاءم مع العالم. ولكن حيث إن العالم الوحيد الذي يسعُنا أن نتحدَّث عنه أو نفكر فيه هو عالم إطارنا الخاص فلا مناص لنا من أن نستنتِج أن العبارة تتطابق مع حقائق ذلك العالم. إنَّ مُحدِّدات الصدق نسبية تتوقَّف على الأُطر؛ ومن ثم فإنَّ الصنف الوحيد من الحقيقة الذي يمكننا أن نأمُل في اكتشافه هو الحقيقة «داخل» إطارٍ ما و«بالنسبة إلى» إطارٍ ما.

(١٠) «نسبيات أخرى»: ثمَّة دعاوى شائقة حول نسبية أمورٍ أخرى مثل: المعايير الجمالية، العواطف، بنية الشخصية، الذاكرة، استراتيجيات حل المشكلات، الدافعية، اتخاذ القرار، الإدراك الاجتماعي، بل حتى الحس الفكاهي. وسوف نجتزئ هنا بحديثٍ مُقتضَب عن نسبية الذوق الجمالي ونسبية الذاكرة.

نسبية التذوُّق الجمالي

يبدو أن هناك تنوُّعًا هائلًا بين الناس فيما يُحبونه ويستمتعون به ويُقدِّرونه؛ فبعض الناس يُحبون الموسيقى الكلاسيكية وبعضهم لا يميل إليها، وبعض الناس ينفق مبالغ ضخمة من المال لحضور الأوبرا، وبعضهم لا يسهُل استدراجه إلى هناك، وبعض الناس يقرأ الشعر بحماسٍ وشغفٍ عظيمين وبعضهم يقول «لا أحبُّ الشعر.»

ترى ما هي الاستجابة النظرية الملائمة بإزاء هذا التعدُّد في تقييم الفن وتقديره؟ لم يُثِر سؤالٌ في عِلم الجمال قدر ما أثار هذا السؤال من أجوبةٍ مُتبايِنة.

  • من بين هذه الاستجابات استجابةٌ تعمد إلى حلِّ المشكلة بإنكارها؛ أي بإنكار التعدُّد ذاته! وترى أن الفروق الظاهرية في الذوق أو الميل إنما تعكس فروقًا في إلف الناس للأعمال الفنية المختلفة وفروقًا في القدرة على تناولها وإدراكها. إنها دعوى لا تخلو من صدق؛ فأنت على أية حال لا يسعك أن تُحبَّ الأوبرا إذا لم تكن قد سمعت أو رأيت واحدةً منها في حياتك، ولا يسعك أن تقرأ الشعر باستمتاع ولذَّة إذا كنتَ تجهل القراءة.٨١
  • هناك نزعة نسبية ذاتية في الجمال (تُذكِّرنا بالنزعة النسبية في الأخلاق) ترى أنَّ الجمال هو شيء تُضفيه الذات على الموضوع ولا يُضفيه الموضوع على الذات؛ ومن ثم فلا وجه للموضوعية والإطلاق هنا ولا معنى. هذه النزعة الذاتية النسبية يُوجِزها المَثَل اللاتيني «لا مُشاحة في الأذواق» de gustibus non est disputandum، وكذلك المثل الشائع «إن الجمال إنما هو في عين الناظر» Beauty is in the eye of the beholder. ويعتبر دوكاس C. J. Docasse من أبرز الداعين إلى النظرية الذاتية في الجمال. وضع دوكاس «إعلانًا للاستقلال في أمور الذوق في الفن!» وزعَم أنَّ ثمَّة مجالًا يكون فيه كلُّ فردٍ مَلكًا ذا سلطانٍ مُطلق، وإن يكن ذلك على نفسه فقط — هذا هو مجال القِيم الجمالية. تستنِد هذه النظرية إلى أنَّ الجمال أمرٌ ذاتي خالص، فعندما نقول إن موضوعًا مُعيَّنًا له قيمةٌ جمالية، فنحن إذ ذاك إنما نصِف مشاعرنا ولا نُشير إلى أية سماتٍ موضوعية. فأحكام الجمال تتصل بالعلاقة بين الموضوع المحكوم عليه وبين تجربة الاستمتاع الخاصة لدى الفرد، وهي التجربة التي لا يُمكن أن يُلاحظها أو يحكم عليها أي شخص سواه. وهنا لا يعود الاختلاف بين القِيَم يُثير أي إشكال؛ فمن الطبيعي أن يكون للأشخاص المختلفين تكوينٌ مختلف، ومن الطبيعي أن يشعُر أحدهم بلذَّة في إدراك عملٍ فنيٍّ ما بينما لا يشعُر الآخر بشيء من ذلك. ولسنا مُضطرين إلى أن نُقرِّر أيهما «الصحيح»؛ فالجمال ليس سمةً موضوعية حتى تنطبق عليه مَقولتا الصواب والخطأ، أو الحق والباطل.
    ويضرب دوكاس مثلًا بطعم ثمرة الأنانس: فبعض الناس يحبونه، وبعضهم الآخر لا يحبونه، ولكن من العبَث القول إنه لذيذ بحقٍّ على الرغم من نفور البعض منه، أو رديء بحقٍّ على الرغم من ميل البعض إليه. وبذلك يتخلَّص دوكاس من مُشكلة التقدير الجمالي بأسرها؛ فالتقدير هو مجرَّد تسمية أخرى ﻟ «ما يُحبُّه المرء أو لا يُحبُّه»! ولا يمكن أن يُثار بعد ذلك أي سؤال.٨٢ هناك أشخاص ذوَّاقون للجمال، غير أنَّ أحكامهم عن الجمال ليست «مُلزِمة» لأحد، بل إنَّ من الصعب أن نفهم ما الذي يُمكن أن يَعنيه لفظ «مُلزِم» في هذا السياق، ما لم يكن إلزامًا للآخرين بأن يكذبوا (!) بشأن المشاعر الجمالية التي قد تكون لديهم بالفعل وقد لا تكون. هناك بالطبع ذوق سليم وذوق رديء. غير أن الأذواق لا يمكن إثباتها أو تفنيدها، بل يُمكن أن «تُوصف» فحسب، أي أن تُمتدَح أو تُذَم.
    ومهما حاوَلْنا نقد النظرية الذاتية «من الداخل» امتنعَتْ علينا وتحصَّنَت بمنطِقها الخاص. والحقُّ أنَّ النظرية الذاتية في الذَّوق الجمالي شديدة الاتِّساق الداخلي وصعبة التفنيد من هذه الجهة، غير أنها سهلة المنال «من الخارج» إن صحَّ التعبير! إن نظرية التقدير الجمالي ليست نسقًا صوريًّا استنباطيًّا كالنَّسَق الرياضي، بل إنَّ الاتِّساق المنطقي ليس هو المعيار الوحيد. فالمقصود من أية نظرية في التقدير أن تُفسِّر أوجه النشاط التي نقوم بها باسم الحكم والنقد، وهي مسئولة عن تفسير وقائع تجربتنا. غير أن النظرية الذاتية تتركنا في العراء ولا تُفسِّر لنا أمورًا كثيرة! لا تُفسِّر ما نقوم به بالفعل من أحكامٍ نقدية نضعُها ونرى لها وجهًا ومعنى، ونُقدِّم لها أُسُسًا وطيدة ومُبررات كافية. كما أننا لو سلَّمنا بالنظرية الذاتية لاستحالت أشياء كثيرةٌ نراها وقائع قائمة لا سبيل إلى إنكارها وغضِّ الطرف عنها. وبتعبيرٍ آخَر فإن النظرية الذاتية تؤدِّي إلى ما نُسمِّيه في المنطق «الخُلف» reductio ad absurdum:
    • لو سلَّمنا بالنظرية الذاتية لاستحالت المُقارنة بين الأذواق ووقَعْنا في فوضى جمالية (مثلما تُوقِعنا النسبية الأخلاقية في فوضى أخلاقية).

    • لو سلَّمنا بالنظرية الذاتية لم يعُد هناك مكان للذواقة والخبير والناقد.

    • لو سلَّمْنا بالنظرية الذاتية لامتنعَتِ التربية الجمالية وتحسين الذوق.

  • وفي الطرف المُقابل للنظرية الذاتية تقِف «النزعة الموضوعية أو المُطلقة»، مؤكدة أنَّ القيمة الجمالية تكمُن في العمل الفني نفسه، وأن حُكم القيمة لا ينطوي على أيِّ إشارة إلى المُتلقِّي أو إلى أيِّ شيءٍ آخر غير العمل الفني، وأنَّ الجمال شيء موضوعي موجود في بعض الأشياء دون بعضها الآخر. ونحن في التجربة الجمالية لا نشعُر أننا نفعل بل ننفعل، لا نشعُر أنَّنا «نُسبِغ» بل «نكتشِف» — نكتشف شيئًا كان هناك طوال الوقت، وكلُّ ما نفعله هو أن «نفتح عيوننا للجمال».٨٣ غير أنَّ الجمال كان هناك حتى عندما كانت عيونُنا مُغمَضة! وتتَّفِق هذه النظرية الموضوعية مع ما نجده جميعًا بالحسِّ المشترك من أنَّ بالإمكان لإثبات صحَّة الأحكام الجمالية وبُطلانها، وأن لأحكام بعض الأشخاص سُلطة أقوى من سُلطة بعضهم الآخر، وأن هناك فارقًا حقيقيًّا بين «الذوق السليم» و«الذوق الرديء».
    ومن أصحاب النزعة الموضوعية من يرى أن القيمة الجمالية تُدرَك ﺑ «الحدس» intuition وحده، وأن من المُستحيل تعريفها، فنحن عندما نُصادفها نعرفها جيدًا. غير أنَّنا لا نملك أن نُعبِّر عنها بالكلمات، فالقيمة «فريدة في نوعها» sui generis وليست كأي شيء آخر في العالم، وهي تتحدى الوصف من خلال التصوُّرات. إنها شيء إما أن يُدرَك ككل وإما ألَّا يُدرَك على الإطلاق؛ ومن ثم فإن من المُمتنِع تحليلها.
    ومن أصحاب النزعة الموضوعية من يرى أنَّ القيمة الجمالية تتوقَّف على «البنية القابِلة للتمييز» discriminable structure للعمل الفني، وهي بِنية يمكن تحليلها ومناقشتها شأن أي صفةٍ موضوعية في الأشياء. ومنهم من يتَّفِق مع الحَدْسيِّين في استحالة تحليل الجمال وتعريفه ولكنه يقول بوجود «سِمات مُصاحبة» accompanying properties للجمال لا تُوجَد إلا حين يكون «الجمال» موجودًا؛ وهي عادةً سماتٌ شكلية من نوعٍ ما، مثل «التكوين» في التصوير و«التناسُب» في النحت والعمارة و«الوحدة» في الموسيقى.٨٤ ومن الموضوعيين من يرى أنَّ القيمة الجمالية يمكن تعريفها وأنَّ الجمال يُمكن تحديده. وهذا التعريف أو التحديد هو في الغالب أيضًا صِفة شكلية من نوعٍ ما، وغير بعيدة عن «السمات المُصاحبة» التي أشرْنا إليها للتو، كالنسبة الثابتة بين فقرات العمل الموسيقي أو أجزاء الصور، و«الوحدة العضوية» … إلخ.٨٥

    على أن جميع النظريات الموضوعية تجد صعوبةً كبيرة في تحديد معاييرها بدقَّةٍ ووضوح يجعلها قابلة للاستخدام عمليًّا، كما أن الطبيعة الذاتية الصميمة للخبرة الجمالية تقِف مُتحدِّيةً كلَّ محاولة لتجاهُل البُعد الذاتي النِّسبي للجمال.

  • «النسبية الموضوعية» Objective Relativism: وبين هذين الطرفين؛ الذاتي النسبي من جهة والموضوعي المُطلق من جهة أخرى، هناك نظرية «النسبية الموضوعية» التي تتجنَّب المُضي إلى أي موقف متطرف من هذَين، وتحاول السير في طريق وسط بين القِيَم المطلقة الخيالية في النظرية الموضوعية، والتفصيلات العفوية غير المسئولة في النظرية الذاتية. تذهب هذه النظرة التكاملية إلى أن حُكم القيمة يشير إلى الموضوع لا المُتحدِّث. غير أن القيمة ليست مُطلقة أبدًا بل مرتبطة بالتجربة البشرية؛ وبالتالي فإن اختبار الحكم الجمالي يستلزم الاستجابة الجمالية بالإضافة إلى الاختبار الموضوعي للعمل. غير أن هناك فارقًا حقيقيًّا بين «الذوق السليم» و«الذوق الرديء» أفردت له معايير مُعينة (يضيق المقام بذكرها) تجعل هناك مجالًا لتنمية الذوق وتحسينه وشحْذِه وإرهافه. وتميز هذه النظرية أيضًا بين القيمة التي هي خاصية للموضوع، والقيمة التي هي شعور لدى المُدرِك الجمالي. وهكذا فهي تتَّسِع للعاملَين: الموضوعي والذاتي معًا، فالقيمة الجمالية ليست سِمة مُطلقة أو شعورًا مباشرًا، وإنما هي صفة للموضوعات تتميز بأنها «إمكان» أو «قوة» potentiality على إحداث استجابة جمالية في المشاهد القادر على هذه الاستجابة. فالقيمة الجمالية سمة «علائقية» relational، وهي واحدة من السمات التي تنتمي إلى شيء معين نتيجة لما يفعله هذا الشيء عند اتصاله بكائن عضوي بشري، مِثلما أن الخبز «مُغذٍّ» نظرًا لتأثيراته في الجسم. ويبقى الموضوع الجمالي مُمتَّعًا «بالقوة» حتى حين لا يتأمَّله أحد؛ وذلك بفضل سِماته الشكلية الموضوعية، مِثلما يبقى الخبز مُغذِّيًا «بالقوة» حتى حين لا يؤكل؛ وذلك لخصائصه الكيميائية الموضوعية التي يكون بفضلها مغذيًا.٨٦

نسبية الذاكرة Relativity of Memory

يا أيام ذلك العام، اختزنَتْك ذاكرتي ومن صُورتك انمَحَتْ رويدًا رويدًا السترة المُهترئة الحائلة اللون واحتفظَتْ به، وهو ينضو عنه سُترته المُهترئة، ويستوي أمامي بالِغ الكمال، مثل تحفةٍ لا تَشوبها شائبة.

قسطنطين كافافيس

ثمة وهمٌ مُتوارَثٌ، روَّجَت له زمنًا نظرياتٌ سيكولوجيةٌ عتيقة، يقول بأن الذاكرة البشرية أشبه بشريط التسجيل الذي يُسجل كل ما يرِد عليه دون أن يخرم منه شيئًا، وأن كل مُنبِّهٍ ورَد على عقل الإنسان هو مُسجَّلٌ فيه بشكلٍ ما وبدرجةٍ ما، وإن تكن أغلب المادة المُسجلة محفوظةً في مستوًى عميق من باطن العقل، وهي من ثَمَّ قابلة للاسترجاع. أما المادة المحفوظة في ظاهر العقل فهي قابلة للاستدعاء بدقةٍ ما دام الشخص يتمتع بكفايةٍ عقليةٍ تامَّة ونزاهةٍ تعصِمه من الكذب وليِّ الحقائق. وأما المادة المحفوظة في أعماقٍ سحيقةٍ من باطن العقل، وبخاصة إذا كانت مُؤلمةً قد نالها الكبْت وجعلها في حصنٍ منيع، فهي قابلة للاستعادة بواسطة تقنيات سيكولوجية من قبيل التوجيه اللَّفظي وحفْز التخيُّل والتنويم … إلخ.

غير أن البحث الحديث في الذاكرة وآلياتها قد كشف لنا زَيف هذه التصوُّرات وسذاجتها. فالذاكرة في حقيقة الأمر لا تقوم بعملها كما يقوم شريط التسجيل، فنحن لا نُسجل بالتفصيل كلَّ حدَثٍ يجري في حياتنا؛ ذلك أن الدماغ يُواجَه في كلِّ لحظةٍ بكمٍّ هائل من اﻟ «مُثيرات» stimuli الواردة أو «المُدخل» input البيئي يتجاوز قُدرته التخزينية؛ الأمر الذي يُحتِّم على الذاكرة أن تكون «انتقائية»، مثلما يُحتِّم على الانتباه نفسه أن يكون انتقائيًّا يصطفي من المُثيرات ما يَعنيه ويضرب صفحًا عن بقية المُثيرات بل يصرِفها عن ساحة الوعي بطريقةٍ حاسمةٍ وآلياتٍ نشطة. يتعيَّن على الدماغ أن يقوم بعملية «ترشيح» flitration دقيقة للمُثيرات الواردة حتى يتسنَّى له أن يعمل بالطريقة التي يعمل بها، بحيث إذا اختلَّت كفاءة هذا الترشيح يُصاب المرء باضطراباتٍ دماغية ليس أقلَّها الفصام.٨٧
الذاكرة إذن عملية انتقائية، وهناك أنظمة مُنفصلة للذاكرة القريبة والذاكرة البعيدة، بحيث لا يَعوزنا أن نسجل كلَّ حدثٍ قريب تسجيلًا مُستديمًا. وحتى عندما تُنقل المادة من الذاكرة القريبة إلى الذاكرة البعيدة فإنَّ عناصرها البارزة فقط هي ما يتمُّ تسجيله. هكذا يتبيَّن أن الذكريات هي في الحقيقة انطباعات إجمالية قلَّما تتَّسِم بالدِّقَّة الوقائعية. تتضمَّن الذكريات حقًّا عناصر من إعادة البناء الخيالية، وربما الإبداعية، تنطوي عادةً على شيءٍ من الاختلاق و«الأراجيف» confabulations.
تُشير الدراسات الحديثة إلى أن الذاكرة بطبيعتها غير دقيقة، وهناك أسباب وجيهة تجعلها غير دقيقة. إنَّ الذكريات التي تقبع في الدماغ هي شيء «تمَّتْ مُعالجته»  processed. ومن ثم فإن المُخطَّطات المعرفية cognitive schemata الموجودة سلفًا من شأنها أن تؤثر على التسجيل النهائي للأحداث. وبتعبير آخر يمكننا القول بأن الذكريات ليست شيئًا نَقيًّا مُبرَّأً لم تمسَسْه يد، بل هي نتاج تفاعُل بين الأحداث الحقيقية وبين العمليات الإدراكية للشخص … بين «الموضوع» وبين «الذات».
ثمَّة نوعان من الذاكرة (قد يكون لكلٍّ منهما مسلكها النيوروبيولوجي الخاص):
  • الذاكرة الصريحة وتتضمَّن تسجيل المعلومات.

  • الذاكرة الضِّمنية وتتضمَّن تسجيل الخبرات.

والذكريات الضِّمنية ليست أكثر دقَّةً من الذكريات الصريحة، فقد يتسنَّى لنا أحيانًا أن نتذكَّر بنودًا من المعلومات بدقة كبيرة، أما الذكريات الخاصة بأحداث الحياة فهي دائمًا عُرضة للخطأ. كما أن الأحداث المصحوبة بانفعالٍ قوي ليست أفضل تذكُّرًا من الأحداث الخالية من الانفعالات. وقد دلَّت الدراسات الإمبيريقية على أن شهادة الشهود قد تكون مُحرَّفة بدرجةٍ تدعو للدهشة. كذلك تُثبِت الدراسات أن استدعاء الأحداث التاريخية الدرامية هو أيضًا تُشوِّهُه المخططات المعرفية المُسبقة.

وصفوة القول أن الذاكرة ليست تسجيلًا سطحيًّا لمُثيراتٍ خام، فما يُدخَّر في الذاكرة هو في الحقيقة بناءات تمَّ تشييدها وفقًا للمُخطَّطات المعرفية، وهي نتاج ثقافي بالدرجة الأساس.

الدراسات الثقافية للذاكرة

كان بارتلت هو أول سيكولوجي تجريبي يدرُس موضوع الثقافة والذاكرة بطريقةٍ مُنضبطة. ذهب بارتلت إلى أن هناك مبدأين يحكمان تنظيم الذاكرة؛ الأول هو عملية التذكُّر الإنشائي، يقول بارتلت بأن الثقافات هي تجمُّعات مُنظمة من الأفراد ذات عادات ومؤسَّسات وقِيَم مُشتركة. تتكوَّن لدى الأفراد عواطف قوية تجاه النشاطات المُرتبطة بالمؤسَّسات والقِيَم الاجتماعية. تُشكِّل هذه القِيَم وتَجَسُّدُها الثقافي الميولَ النفسية لاختيار أنواعٍ بعينها من المعلومات لتذكُّرها. وتُشكِّل المعرفة التي تمَّ تمثُّلها تحت تأثير هذه العواطف القوية البنيات التي تقوم عليها عملية التذكر؛ فيكون تذكُّر المحتوى المعرفي في المجالات الغنية بالبنيات أفضلَ مِمَّا هو عليه في المجالات الأقلَّ اعتبارًا وقيمةً؛ حيث تقلُّ العواطف القوية وبالتالي تشحُّ البنيات التي تُرشِد عملية التذكر. كمثالٍ لهذا المبدأ يروي بارتلت قصة راعٍ يعمل لدى أحد أصحاب المزارع استطاع تذكُّر تفاصيل دقيقة خاصة بعملية شراء عددٍ من البقر: ثمن كل بقرة، والعلامة الخاصة بها، ومُلَّاكها السابقين.٨٨
افترض بارتلت أيضًا وجود نوعٍ آخر من التذكُّر يكون فيه الترتيب الزمني هو المبدأ التنظيمي: «هناك نوع من التذكُّر هو أقرب ما يكون إلى ما يُسمَّى الحِفظ عن ظهر قلب أو «الصم» rote memory. يُعدُّ الصم خاصية من خواص حياة ذهنية ذات اهتمامات قليلة نسبيًّا وجميعها عينية في طابعها إلى حدٍّ ما، وليس من بينها اهتمام مسيطر.»٨٩ وكمثالٍ لذلك يَسرد بارتلت وقائع جلسة تحقيق لم تستطع فيه الشاهدة أن تُدلي بما حدث إلَّا بأن تسرد كلَّ ما مرَّ بها من أحداثٍ منذ قيامها من النوم في الصباح وحتى وقوع الجريمة. ويخلُص بارتلت من ذلك إلى أن بعض الثقافات تُشجِّع التذكُّر التتابُعي المُفرِط والذي أطلق عليه اسم «الصم».

وقد قام س. ف. نيدل بتجارب ميدانية وسط كل من اليوروبا والنيوب في نيجيريا، وهما شعبان يختلفان اختلافًا صارخًا في نواحٍ عديدة على الرَّغم من أنهما يعيشان جنبًا إلى جنب وتحت نفس الظروف العامة، ولديهما أنظمة اقتصادية وتنظيمات اجتماعية مُتشابهة ويتحدَّثان لغاتٍ مُتقاربة. يتميَّز دين اليوروبا بنسقٍ تَراتُبي هرَمي مُعقَّد من الآلهة، لكلِّ إله فيه واجباته ووظائفه المُحدَّدة. وقد طوَّر اليوروبا فنونًا تشكيلية واقعية ومسرحًا واقعيًّا. وعلى النقيض من ذلك كان دين النيوب يتمركَزُ حول قوَّةٍ غامضة مُجرَّدة غير شخصية. وكانت الأشكال الفنية لديهم مُتطوِّرة جدًّا في الفنون الزُّخرفية، ولم يكن لديهم تُراثٌ مسرحي شبيه بما لدى اليوروبا.

قام نيدل بتأليف قصة يمكن استخدامها لاختبار التذكُّر في كِلتا الجماعتين، وقد جاءت النتائج مؤكِّدةً لِتوقُّعاته؛ فقد تذكَّر اليوروبا البِنية المنطقية للقصة والعبارات ذات الدلالة والأحداث الحاسمة في مجرى القصة ولم يأبَهوا للكليشيهات غير الدالة؛ بينما تذكَّر النُّيوب الكليشيهات كما هي بالضبط وأقحموا على القصة عناصر من عندهم تخلُق صورة ملموسةً حيَّة لوقائع القصة.

لم يتذكَّر أحد من أيٍّ من الثقافتين القصة بالضبط، على العكس من فكرة الذاكرة الخُرافية للشعوب البدائية. غير أن أجدر شيء بالملاحظة في هذا المقام هو أن التجربة تتعلَّق بالفروق النوعية (المُتوقِّفة على الثقافة) في الخبرة والمخططات schemata المُرتبطة بها، الأمر هنا لا يتعلَّق ﺑ «من فاق الآخر في التذكُّر: اليوروبا أم النيوب؟» وإنما بأنَّ كليهما قد تذكر بطريقةٍ مُتمايزة تنسجِم مع الاهتمامات التي تشغل ثقافته، وهو ما تنبَّأ به بارتلت.
تمَّ النظر كذلك إلى أفكار بارتلت عن التكرار الصم من خلال المعلومات التي أتاحتْها الدراسات الأنثروبولوجية كجزءٍ من دراسته للجوانب الإدراكية لدى شعب الإياتمول (شعب يعيش في غينيا الجديدة). وجد جريجوري باتيسون أنَّ أهل العلم في هذا الشعب كانوا مُستودعات للطواطم والأسماء المُستخدمة في «أغاني الأسماء» والمُستخدَمة في المجادلات. وبالنظر إلى عدد «أغاني الأسماء» الموجودة لدى كلِّ عشيرةٍ وعدد الأسماء المُستخدمة في كلِّ أغنية، قدَّر جريجوري أن أهل العلم يحملون في رءوسِهم عددًا يتراوَح بين عشرة آلاف وعشرين ألفًا من الأسماء. قدَّمت هذه المادة فرصةً رائعة لاختبار القُدرة على الصم. قام باتيسون بتسجيل ترتيب الأسماء الذي استخدمه أهل العلم في مُناسباتٍ مختلفة. بيَّن باتيسون أنَّ أهل العِلم كانوا يُغيِّرون ترتيب الأسماء من مُناسبة إلى أخرى، وأن أحدًا لم ينتقِدهم على هذا العمل على الإطلاق. وعندما كانوا يتعثَّرون عند نقطة ما في مُحاولتهم تذكُّر مجموعة مُعينة من الأسماء لم يكونوا يرتدُّون إلى بداية السلسلة كما هو مُتَّبع في التكرار الصم، ولا كانوا عندما يُسألون عن حدَثٍ ما في الماضي يسترسِلون في سلسلةٍ من الأحداث المُتَّصِلة زمنيًّا بُغية الوصول إلى الحدَث المقصود. يُبيِّن باتيسون بوضوح أنه على الرغم من أننا واثِقون كثيرًا بأن الصم ليس العملية الرئيسية المُستخدمة لدى أهل العلم من شعب الإياتمول، فإن من غير المُمكن تحديد أي العمليات العقلية العُليا هي التي تضطلِع بالدور الرئيسي في ذلك.٩٠
بعد ثلاثة عقود من هذه الأعمال الرائدة قام مايكل كول وزملاؤه بسلسلةٍ من الدراسات التي تتناول عملية التذكر لدى مُزارعي الأرز من شعب الكبلي في وسط ليبيريا. وبعد عقدٍ آخر أُجريت دراسة وسط قبيلة الفاي الليبيرية تتناوَل مستوى ونمَط التذكُّر لعددٍ من القصص تمَّ استخدامها على نطاقٍ واسع في الولايات المتحدة في مجال البحوث المُتعلقة بنموِّ الذاكرة. تكمُن أهمية الدراسات المُتعلقة بالذاكرة في أنها تُبيِّن أن الفروق الثقافية تعود إلى تنظيم النشاط الحياتي اليومي: حيثما تتشابَه بنيات النشاط بين الجماعات تقلُّ الفروق الثقافية في عمليات التذكر، وحيثما كان بحوزة مجتمعٍ ما ممارسات مؤسساتية هامة لها علاقة بالتذكر لا تُوجَد بحوزة مجتمع آخر (مثل التعليم المدرسي) يُمكننا توقُّع اختلافات ثقافية في عمليات التذكُّر في صورة أشكال مُحددة من التذكر تتلاءم مع هذا النشاط (مثل المَقدِرة على تذكُّر قوائم من الكلمات).٩١

الذاكرة الشفاهية

تتألف الكلمات في الثقافة الشفاهية (أي التي لم تعرِف الكتابة والتدوين) من أصوات، ومن أصوات فقط. ومن شأن ذلك أن يفرض ضوابط على أنماط التعبير، بل على أنماط التفكير؛ ذلك أن «حالة المعرفة» تعني الاحتفاظ بمادة المعرفة وإمكان استعادتها، الأمر الذي يمنح الذاكرة وآلياتها سطوةً كُبرى في «عملية المعرفة». في الثقافة الشفاهية يجِد المرء نفسه مدفوعًا إلى أن يَصوغ تفكيره بطريقةٍ يمكن تذكُّرها، إن كان له أن يظفر بمعرفةٍ على الإطلاق. لا مندوحة للمرء في الثقافة الشفاهية من أن يَصبَّ تفكيره نفسه داخل أنماط حافزة للتذكر وقابلة للتكرار الشفاهي. هنالك يتعيَّن عليه أن يَجبُل مادة الفكر في أنماطٍ ثقيلة الإيقاع، متوازنة، أو في جملٍ مُتكررة أو مُتعارضة أو مسجوعة، أو في ثيماتٍ ثابتة، أو في أمثالٍ رنَّانة سهلة الترديد، وهو مدفوع بحاجته التذكرية إلى أن يُلصِق بالأشياء أوصافًا صارخةً فاقعًا لونها، وأن يُضفي الإيقاع ويتشبَّث به كأنما يَحبِس فيه الطليق ويُعبِّئ السائب! وأن يستعين بحركات الجسم وإشارات اليد كأنه يُثبت بها الكلمات ويسدُّ عليها كلَّ مهرَب، أو كأنه يكمل بها رسم موقف وجودي يُسهم فيه الجسد بقسطٍ كبير. تُهيب الشفاهية بالمرء أن يفكر بعقل الجماعة، وأن يعتصم بالأنماط الواردة والنماذج المألوفة والصَّيَغ الجماعية الثابتة. إن الحاجة التذكرية هنا هي التي تُملي تركيب العبارة وتُحدِّد مجال الفكر الذي يُمكن للمرء أن يَروده.

ومن سِمات الحفظ الشفاهي أنه يخضع للتغير نتيجة للضغوط الاجتماعية المباشرة. لا يملك الراوي الشفاهي روايته ملكيةً تامةً أبدًا. إنه مُنغمِسٌ في تفاعُلٍ مباشر مع مُستمع حي، ومن شأن توقُّعات المُستمعين واستباقاتهم أن تعمل على تثبيت الموضوعات والصِّيغ. ينجرِف المُتحدِّث الشفاهي بعقل الجماعة ويميل لمَيل الجمهور ويقول ما يُريد منه الجمهور أن يقوله، يقول «ما يطلبه المستمعون!» إن جاز التعبير. وحين ينقطع الطلَب على سلسلة من الأنساب (سلسلة المهزومين مثلًا) تميل هذه السلسلة للاختفاء أو التحوير. هكذا تسمح الثقافة الشفاهية للأجزاء المؤلمة من الماضي بأن تُنسى بسبب مُقتضيات الحاضر المُستمر، وهكذا تُحتِّم الشفاهية دائمًا شيئًا من الكذِب والتحوير والتحريف بحُكم طبيعة الذاكرة الشفاهية ذاتها.

وبحُكم طبيعة الذاكرة الشفاهية وابتغاء العون التذكُّري تلجأ الثقافة الشفاهية إلى المُبالغة البطولية، وتضخيم الشخصيات إيجابًا وسلبًا، والتهويل والإغراب والاستقطاب الذهني؛ ذلك أن من الاقتصاد العقلي أن تُسرِف في الوصف كي تدَّخِر في الجهد التذكُّري، وأن تُحوِّل العادي إلى غير عادي، وأن تزيد من ثِقل الشخصيات وتمدَّ من أقطارها وتُبرز من آثارها حتى تُتيح لها الدوام والبقاء. فهي على كلِّ حالٍ لن تبقى إلَّا ببقاء الذاكرة ولن تذهب إلَّا بذهابها.

من عمل الشفاهية أن تُلقي بعقلك في عالمٍ من الهول والجَلَل والشخصيات البطولية؛ لا رغبةً في التأمُّل ولا ميلًا للبطولة، بل لسببٍ أبسط من ذلك وأكثر تواضعًا، وهو أن تصوغ الخِبرة في شكلٍ يُمكن تذكُّره! وبعد أن سادت الكتابة وظهرت الطباعة تغيَّرت بِنية العقل وقنَعَ برؤية الأشياء بحجمها الطبيعي، واستغنى عن الشخصية الأسطورية وشكر لها خِدماتها القديمة. لقد أسعفَتْه الكتابية بالذاكرة الدقيقة والتدوين الأمين، ولم يَعُد بحاجةٍ إلى بطلٍ أسطوري لكي يُثبت له المعرفة ويحفظها من الفناء.٩٢

المُتغيِّرات المُستقلة: مُكوِّنات الإطار النِّسبي

في هذا القسم نبحث أهمَّ «المُتغيِّرات المُستقلة»، أي التي تؤثر على غيرها من المُتغيرات (التابعة) التي فصَّلناها آنفًا، وتجعل منها أمورًا نِسبية، آخِذين بالاعتبار أنَّ هذه المُتغيرات المستقلة، شأنها شأن المُتغيرات التابعة، غير مُنفصلة بعضها عن بعض انفصالًا تامًّا، وأن هناك تداخُلًا كبيرًا بين بعض هذه العوامل وبعضها الآخر («اللغة» و«الدين» مثلًا هي جوانب هامة وأساسية من جوانب «الثفافة»). ونحن إن كنَّا نفصلها ونعزلها فبِغَرَض الدراسة والبحث وليس استجابة لحقيقةٍ واقعة.

قائمة بأهمِّ المُتغيرات المستقلة

  • اللغة.

  • الثقافة.

  • الحقبة التاريخية.

  • البنية البيولوجية (البنيان المعرفي الفطري).

  • الاختيار.

  • أخرى: الإطار العلمي، الدين، النوع الجنسي، الوضع الاجتماعي، الفرد …

وإذا كانت أشياء من قبيل المفاهيم، والمبادئ المنطقية، والصدق، كثيرًا ما تُنسب إلى أطر تصورية، فقد جرى الاعتقاد بأن دورها يُحدِّده شيء آخر. ورغم بُروز المسائل المعيارية في كثيرٍ من الأحيان فإن الجانب الوصفي هو الجانب السائد في المناقشات الخاصة بالمُتغيرات المستقلة؛ ذلك أن السؤال الرئيسي في هذا الصدد هو ما إذا كان شيء مثل اللغة، الثقافة، الحقبة، الجنس … إلخ يؤثر فعلًا في طرائق التفكير والتقييم. وإذا صحَّ أنه يؤثر فبأية طريقة؟ الأمر هنا إذن هو أمرٌ سبَبي إمبيريقي وصفي بالدرجة الأساس، أي لا تحسمه وتفصل فيه إلَّا الدراسة الإمبيريقية (لا يمكن أن يقضي في أمر فرضية ورف مثلًا عن النسبية اللغوية إلا البحث الإمبيريقي).

(١) «اللغة»: تُعدُّ اللغة (مع الثقافة) أكثر المُتغيرات المُستقلة استحواذًا على اهتمام الباحثين. وقد ذهب فصيلٌ كبيرٌ منهم إلى القول بتأثيرها على طُرق التفكير، وقد عمَّمَ بعضهم هذا الرأي فذهب نيلسون جودمان مثلًا إلى القول بأن جميع الأنساق الرمزية — شاملة لغات الحاسوب ومواضعات الرسم التوضيحي وحتى أساليب التصوير — تؤثِّر على الإدراك الحِسِّي والتفكير.

وقد أُطلِق على الدعوى القائلة بتأثير اللغة على الإدراك والفكر اسم «النسبية اللغوية» linguistic relativism، وتُسمَّى أيضًا «فرضية سابير-ورف» Sapir-Whorf hypothesis نسبة إلى اثنين من كبار دُعاتها، وتُسمى أيضًا «فرضية ورف» على سبيل الاختصار والتخفيف. وهي دعوى «وصفية» descriptive بامتياز (وليست «معيارية» normative)؛ لأنها «تصِف» ما تراه واقعًا إمبيريقيًّا هو تأثير اللغات البشرية على تفكير البشر وإدراكهم وخبرتهم.

تتطلَّب أية دراسة جادة عن النسبية اللغوية الإجابة عن أسئلة ثلاثة: أي جانبٍ من اللغة يؤثر على أيِّ جانبٍ من التفكير؟ وما هو هذا التأثير؟ وما هو مبلَغ قوته؟

ودعوى النسبية اللغوية، شأنها شأن غيرها من الدعاوى حول المُتغيرات المستقلة، هي دعوى عن «تأثير سببي»: ثمَّة جانب (أو أكثر) من اللغة يؤثر على جانب (أو أكثر) من الفكر. قد تتفاوَت هذه التأثيرات في الشدة وبالتالي تتفاوت صِيَغ النسبية اللغوية في حدَّة النبرة، فمنها صِيَغ مُتطرفة (يعلم الجميع أنها خاطئة) ومنها صيغ مُخففة حتى التَّميُّع (وهي صادقة ولكنه صِدق الابتذال ونوافل القول). ويبقى المَطلب الحقيقي هو ما إذا كانت هناك صِيَغ شائقة تقع ما بين هذين الطرفين. وتُشير الأدلة المُتاحة في الوقت الحالي إلى أن لغة المرء تؤثر فعلًا على إدراكه وفكره غير أنَّ هذا التأثير ليس بالشِّدَّة والهول الذي يدَّعيه النِّسبيُّون المُتطرفون.

وقد أفردنا للنسبية اللغوية مقالًا مستقلًّا؛ وذلك لأهميتها الخاصة باعتبارها نموذجًا للنسبيات الوصفة بصفةٍ عامة، فليرجِع إليه القارئ لمزيدٍ من الإحاطة. ونكتفي هنا بسرْد الدروس المُستفادة من دراسة النسبية اللغوية، والتي تنسحِب أيضًا على جميع المُتغيِّرات المُستقلة بما فيها الثقافة والتاريخ:
  • جميع الأسئلة الخاصة بتأثير المُتغيرات المستقلة على المعرفة هي أسئلة إمبيريقية وسببية.

  • لا تمكن الإجابة عن هذه الأسئلة إلا بتحديد أي وجه من المُتغيِّر المُستقل (معجم الألوان، الممارسات الدينية … إلخ) يؤثر على أي وجهٍ من الفكر (الإدراك الحسي، الاستدلال العِلِّي … إلخ)، وتحديد الشكل الذي يأخذه هذا التأثير المُفترَض.

  • قد تتفاوت هذه التأثيرات تفاوتًا عظيمًا في الشدَّة والنوعية والنطاق.

  • يحتاج اختبار أي فرضية نِسبية مُحدَّدة إلى تضافُر مهارات كثيرة: عالم لغة، وعالم سيكولوجيا تجريبية وعالم إثنوغرافيا، وعالم في التاريخ، وفي البيولوجيا … إلخ.

  • تلزم مُقارنة جماعات مُختلفة (جماعات لغوية، ثقافات …) لكي نستخلص أي نتائج مُتماسكة عن الفرضية النسبية الوصفية.

  • قد يئول البحث عن صِدق الفرضيات النِّسبية المَعنية إلى بحث في «دعوى الوحدات الذهنية» modularity of mind ودرجة استقلال الوحدات وانعزالها. فإذا صح مثلًا أنَّ العقل وحدات مُسيَّجة معزولة لترتَّبَ على ذلك أنَّ اكتشاف تأثير جانب من اللغة أو الثقافة على جانب من المعرفة (الفهم اللغوي مثلًا) لا يُنبئنا بشيءٍ عن تأثير بقية جوانب اللغة أو الثقافة على بقية جوانب المعرفة (الذاكرة البعيدة على سبيل المثال).
(٢) «الثقافة Culture»:
لا يملك المرء أن يحكم على شيءٍ يغمره؛
فيبدو أنَّ الانفصال شرطٌ ضروري للموضعة والموضوعية،
بل شرطٌ ضروري للرؤية والإدراك.
لا يملك السَّمك أن يحكم على الماء،
ولا يملك الشهاب أن يحكم على المسافة،
ولا يملك الإنسان أن يحكم على الثقافة.
الثقافة هي ذلك الجزء «الإنساني الصنع» man-made من البيئة على حدِّ قول هرسكوفيتس في كتابه «الإنسان وأعماله: علوم الأنثروبولوجيا الثقافية» (١٩٤٨م). تضمُّ الثقافة المُثُل والعادات والأعراف، والمُسلَّمات المُشتركة، ونُظُم الإنتاج والتبادُل، وطُرُق مكافحة المرض والموت، والنظم القضائية، والدِّين والطقوس والشعائر، والأساطير، والمُحرَّمات، والتقنيات، والتراتُب الاجتماعي، والمُمارسات الجنسية، والأساليب المَرعية للتعبير عن الانفعالات، والزواج وبُنى القرابة، ودرجات النفوذ، والرياضة والألعاب والفن والعمارة واللغة.
وهناك دائما فروق في الرؤى والاعتقادات داخل الثقافة الواحدة، وبخاصَّة في التجمُّعات الكبيرة وغير المُتجانسة، بحيث تتغيَّم فكرة الثقافة عند نقطة مُعيَّنة ونحتاج إلى إدخال مفاهيم مثل الثقافة التحتية (الفرعية) subculture وهي بدورها لا تخلو من ضبابية مُعينة. غير أن تعميم الحديث عن ثقافات مُعينة يبقى مُمكنًا ومُسعفًا لنا في أحيانٍ كثيرة.
و«النسبية الثقافية» cultural relativism هي الدعوى القائلة بأن ثقافة المرء تؤثر بشدَّة على طُرق إدراكه وتفكيره. وقد دأب الأنثروبولوجيون، وبخاصَّة في بدايات القرن العشرين، على أن يَعزوا إلى الثقافة سطوةً لا حدود لها في تشكيل البشر وصياغتهم. كمثالٍ على ذلك يقول روث بينيديكت في كتابه «أنماط الثقافة» عام ١٩٣٤م:
ما من إنسان قطُّ تسنَّى له أن ينظر إلى العالم بنواظر بكر. إنه ينظر إلى عالمٍ أملَتْه مجموعةٌ محددةٌ من العادات والنظم وطرق التفكير. وما هو بِمُستطيع حتى في تمحيصه الفلسفي أن يتخطَّى هذه العادات. إن تاريخ حياة المرء لا يعدو أن يكون تواؤمًا مع الأنماط والمعايير التي وَرِثها مُجتمعه. فمنذ لحظة ميلاده تكتنِفه التقاليد وتُشكِّل خبرته وسلوكه، ومنذ اللحظة التي يستطيع فيها الكلام يكون ابن ثقافته. حتى إذا بلغ أشُدَّه وأصبح قادرًا على المشاركة في أنشطة هذه الثقافة تكون عادات الثقافة هي عاداته، وعقائدها عقائده، ومُستحيلاتها مُستحيلاته. يقاسمه فيها كلُّ طفلٍ يُولَد في جماعته. وليس بمُكنة أي طفل خرج إلى الوجود على الجانب الآخر من الأرض أن يُصيب منها فتات الفتات.٩٣
وقد انتهت المناقشات الارتجالية حول طرائق التفكير «قبل المنطقي» pre-logical التي راجت ردحًا من الزمن. وصارت الأمور الآن إلى عملٍ علمي أكثر تفصيلًا ودقَّةً في السيكولوجيا عبر الثقافية والأنثروبولوجيا المعرفية. وما يزال فعل الثقافة في تشكيل الفكر غير مُكتمِل الوضوح. غير أنَّ الدلائل، فيما تُشير إلى وجود فروق معرفية مُتواضعة بين الثقافات، لا تذهب في المبالغة والشطط مذهب بعض الدعاوى المُبكرة في النسبية الثقافية.
أدرك المختصُّون منذ زمن بعيد أن الثقافة أمرٌ يصعُب كثيرًا على البشر أن يفكروا فيه، مثلنا في ذلك مثل السمك في الماء، ليس بإمكاننا أن «نرى» الثقافة لأنها الوسط الذي نعيش فيه. ويُفيدنا التعرُّف على ثقافاتٍ أخرى في التعرُّف على ثقافتنا نحن، ومن ثَمَّ في جعلها موضوعًا للبحث والتفكير.٩٤
كثيرًا ما يُنسب إلى يوهان هردر أنه قدم أول صياغة للمفهوم الحديث عن «النسبية الثقافية» في أواخر القرن الثامن عشر، فقد كان هردر يؤمن بأن تنوُّع الشعوب هو شيء يوجِب التقدير، كما أشار بوضوح إلى أن كلَّ شعبٍ يجب أن يُقيَّم في إطاره الخاص: «هكذا تختلف الأمم حسب المكان والزمان وحسب الشخصية الباطنة لكلٍّ منها، وتحمِل كلُّ أمة في داخلها مِعيار كمالها، ولا يُمكن قياسُها بمعايير غيرها.»٩٥
وفي بدايات القرن التاسع عشر أدخل فيلهلم فون همبولت مصطلح «علم نفس الشعوب» ليشير إلى الدراسة العلمية للروح القومية أو «روح الشعب» Geist، أي ما نُشير إليه اليوم باسم «الشخصية القومية». ذهب همبولت، مُستبقًا في ذلك سابير وورف، إلى أن اللغة والتفكير يرتبطان معًا ارتباطًا وثيقًا. وهو يعني أن طُرق التفكير لا بدَّ أن تختلف اختلافًا جذريًّا بين الجماعات الثقافية المختلفة. وهو موقف يتفق مع ما ذهب إليه هردر من التحام اللغة والتقاليد لكل شعب.
لم تبدأ الدراسات التجريبية ذات التقنية المتطورة حول تفاوت عمليات الإدراك بتفاوت الثقافة إلَّا في مُنعطف القرن العشرين (بعثة مضيق تورس). كانت دراسات شاقَّة باهظة التكلفة عسيرة التكرار، لم تثبت في مُجملها للنقد ولم تعُد أهميتها مجرَّد فتح الطريق وتقديم دروس ميثودولوجية مُستفادة من الأخطاء. ثم عاد سيجول وزملاؤه في الستينيَّات من القرن العشرين، وبولتن وزملاؤه في السبعينيات … لمواصلة البحث على أسسٍ منهجية أقوم وخبرة ميدانية إثنوغرافية أكبر. خلص الباحثون من هذه الدراسات بنتائج متواضعة تفيد أن الثقافة تؤثر على الإدراك الحسي عن طريق بناء عادات استدلال حسي تعمل عملها في الظروف التي تتسم بالغموض. يقول مايكل كول في كتابه «علم النفس الثقافي» (١٩٩٦م):
إذا جمعنا الدروس المُستفادة من بعثة مضيق تورس مع الدروس المُستفادة من أبحاث الخِداع البصري، لبدا أن البيئة الثقافية لا تؤثر على حِدَّة الإبصار بحدِّ ذاتها، وإنما هي بالأحرى تُرسِّخ عاداتٍ لتأويل العالم المرئي تؤثر على الطريقة التي يتمُّ بها تفسير المُثيرات الغامضة كالخُدَع البصرية على سبيل المثال.٩٦

الفروق الثقافية في النمو الإدراكي

يقوم الجانب الأكبر من البحث الثقافي المقارن حول دور الثقافة في النمو الإدراكي، على العمل الذي قام به جان بياجيه. منذ بداية حياته العملية ذهب بياجيه إلى وجود فروق ثقافية هامة في عمليات التفكير. ميز بياجيه، مُستندًا في ذلك إلى أعمال ليفي برول وإميل دوركايم، بين نَوعَين من المجتمعات. وصف برول الأول منهما باستخدام مُصطلح «بدائي» والثاني باستخدام مُصطلح «متحضر»، وهما ما يُمكن أن نُطلق عليهما اليوم اسم «تقليدي» واسم «حديث». ذهب بياجيه إلى أنَّ كلَّ واحدٍ من هذين النوعين من التنظيم الاجتماعي يتميَّز ﺑ «ذهنية» خاصة تُميِّزه عن الآخر: «فالذهنية المُسمَّاة بالبدائية تحضُّ مجتمعات الانقياد أو المجتمعات القطعية. والذهنية العقلانية تخصُّ مجتمعاتنا المتميزة.» لم يتَّفِق بياجيه رغم ذلك مع ما ذهب إليه برول من وجوب عدم فرض تراتُب تطوُّري على هذين النوعين من العقلية: كانت وجهة نظر بياجيه حينذاك أنَّ ظهور العقلية البدائية يسبق ظهور العقلية المُتحضِّرة، تمامًا مِثلما يسبِق ظهور تفكير الطفل ظهور تفكير الراشد.

كشف فيض الأبحاث الذي بدأ في الستينيات من القرن العشرين مُعتمدًا على نظرية بياجيه عن وجود تنوُّع بين المجتمعات يزيد بكثيرٍ عمَّا كان بياجيه قد تنبَّأ به. كشفت بعض الأبحاث أن الأطفال في المجتمعات التقليدية غير الصناعية تصِل إلى مرحلة «العمليات العيانية» concrete operational بعد أطفال المجتمعات الغربية الصناعية بعامٍ أو أكثر، وأشارت أبحاث أخرى إلى عدَم وصول الأطفال ولا الكبار في بعض المجتمعات إلى مرحلة «العمليات العيانية» (فضلًا عن «العمليات الصورية»). وفي عام ١٩٧٢م واجه بياجيه الأدلَّة على وجود تنوُّع ثقافي في أداء اختباراته. وبينما بقِيَت الفروق الثقافية في العمليات العيانية محلَّ خلافٍ فقد كان إجماع الرأي قد استقرَّ على أن تفكير «العمليات الصورية» formal operational، كما يتجلى في مهام اختبارات بياجيه لا يظهر في العديد من الثقافات، وبخاصة تلك الي لا يُوجَد فيها تعليم مدرسي رسمي.٩٧
حاول بياجيه التوفيق بين فكرته عن عالمية مراحل النمو الإدراكي من ناحية وبين الحقائق التي كشفت عنها الدراسات عبر-الثقافية من وجود تفاوت بين الثقافات من حيث النمو الإدراكي. قدَّم بياجيه ثلاثة أسباب ممكنة للتنوُّع المُلاحَظ في معدلات التغير في عمليات التفكير العياني والتجريدي (الصوري) ودرجة إجادة كلٍّ منهما؛ الأول أنَّ هناك احتمالًا بأن بعض الثقافات يُقدِّم جملةً من التنبيه الذِّهني أكبر ممَّا يُقدِّمه البعض الآخر، والثاني أن العمليات الصورية قد تكون نوعًا من التخصُّص أشبَهَ بأحد الفروق الفردية في الذكاء والذي يسمح لبعض الأشخاص أن يُوغِلوا في بعض مجالات المعرفة بصورةٍ أعمق من الآخرين. والاحتمال الثالث، وهو الاحتمال المُفضَّل عند بياجيه، هو أن نفترِض أنَّ كلَّ الأفراد تصِل إلى مرحلة عالمية من تفكير العمليات الصورية، ولكن العمليات الصورية تظهر أولًا (وإن لم يكن فقط) في تلك المجالات التي يتخصَّص فيها الراشد (وهو الذي أطلق عليه هاريس وهيلاس اسم «مذهب البناء الموضعي» local constructivism. وهناك جهود في الوقت الحاضر لإعادة صياغة نظرية بياجيه عن مراحل النمو الإدراكي التي افترض عموميتها بحيث تتلاءم مع الأدلة التي تُشير إلى وجود فروق ثقافية في هذه المراحل: يميل الاتجاه العام في كلٍّ من الدراسات عبر الثقافية إلى فرض وجود كلٍّ من استعداد عالمي مُرتبط بنُضج الجهاز العصبي وفروق تعود إلى السياق أو المجال ناشئة عن اختلافات في كثافة الخبرة محكومة بدورها بأنماط مختلفة من النشاط الثقافي والقيم الثقافية.٩٨

المدرسة التاريخية الثقافية

تنحو المدرسة التاريخية الثقافية إلى عدم الاقتصار على فهم العقل كجهاز مُعالجة معلومات مركزي عمومي، إنما العقل كيان «انبثاقي» يبزُغ من خلال النشاط العملي المشترك بين الناس؛ إنه النِّتاج المُنبثق من امتزاج جوانب الخبرة المُباشِرة — الطبيعية مع الجوانب غير المُباشرة — الثقافية. ليس العقل شيئًا «عالميًّا» universal أو «ماهويًّا» essential يقبع خارج الزمن وخارج التاريخ، بل العقل شيء «حادث» أو «طارئ» أو «عارض» contingent محليًّا أو تاريخيًّا؛ شيءٌ يُحرِّكه مُحتواه ويحدِّده مجاله ولا يُمكن فصله عن العوالم التي يلعب دورًا تكوينيًّا فيها، وهي عوالم مُتغيِّرة تاريخيًّا ومنوعة ثقافيًّا. ينبثق العقل من النشاط المُشترك للناس الذين يُشاركون في تشييده معًا. إنه شيء «مشترك» وشيء «موزع» بمعنًى ما، والأفراد فاعِلون نشطون في عملية نموِّهم الخاص (وإن كانوا يعملون في ظروفٍ ليست من اختيارهم دائمًا).
تُفيد الدعوى الأساسية للمدرسة التاريخية الثقافية أنَّ بِنية العمليات النفسية البشرية ونُموَّها ينبثقان من خلال النشاط العملي النامي تاريخيًّا والذي «تتوسطه» الثقافة. فالعمليات النفسية البشرية ظهرَت في نفس الوقت الذي ظهر فيه شكلٌ جديد من السلوك قام فيه البشر بتعديل الأشياء المادية كوسيلة لتنظيم تفاعُلهم مع العالم ومع بعضهم البعض. يُطلَق على هذه الوسائل التي تُمثِّل بصمةَ الإنسان على الطبيعة اسم «المُنتَجات» artifacts. تتراوَح المُنتَجات بين أدواتٍ مادية، ووصفات وأعراف ودساتير، وعوالم رمزية خيالية يُمكنها أن تُشكِّل الطريقة التي نرى بها العالم الفعلي، ويُمكنها أن تؤدي إلى تغيير الممارسة القائمة، يختلف الإنسان عن الحيوان في أنَّ بمقدوره أن يصنع مُنتَجات ويستخدمها، فلا تلبَث المُنتَجات أن تفعل فعلها فيه هو وتُحدِث فيه تغييرًا وتطويرًا. إنها «تتوسط» فكره.
وبالإضافة إلى استخدام وصنع المُنتجات يعمل البشر على أن يقوم كلُّ جيلٍ لاحِقٍ بإعادة اكتشاف المُنتَجات التي قام بصُنعها كلُّ جيلٍ سابق، «إننا نعيش من المهد إلى اللَّحد في عالمٍ من الأشخاص والأشياء يعود الشكل الذي هو عليه إلى ما قامت بصُنعِه الأجيال السابقة ونقلته إلينا. في حالِ تجاهُل هذه الحقيقة يتمُّ النظر إلى الخبرة كما لو كانت شيئًا يجري داخل جسم فردٍ ما وعقله على وجه الحصر. وغنيٌّ عن القول أن الخبرة لا تحدُث في فراغ، فهناك مصادر خارج الفرد تُحدِث هذه الخبرة.»٩٩

يمكن فهم الثقافة من هذا المنظور على أنها المجموع الكُلِّي للمنتجات التي قامت الجماعة بإنتاجها عبر تجربتها التاريخية. عندئذٍ يُمكن النظر إجمالًا إلى المُنتَجات المُتراكِمة لجماعةٍ ما — أي الثقافة — على أنها الوسط الذي يتمُّ فيه نمو البشر، والخاص بالنوع البشري فقط. إنه التاريخ في الحاضر. هذه القُدرة على النمو داخل هذا الوسط والعمل على إعادة إنتاجه في الأجيال اللاحقة هي الخاصية المميزة للنوع البشري.

تؤكد المدرسة التاريخية الثقافية أيضًا على أن تحليل الوظائف النفسية البشرية يجب أن ينطلق من أعمال البشر اليومية. ويذهب ماركس إلى أن هذا المنهج هو الوحيد الذي يمكننا به تجاوُز ثنائية المادية مُقابل المثالية؛ حيث إن الناس لا تَخبُر التركة الفكرية/المادية لعمل الأجيال السابقة إلَّا في العمل.

يترتَّب على المبادئ السابق ذكرها للمدرسة التاريخية الثقافية أنَّ التراكُم التاريخي للمُنتجات وتشبُّع النشاط بها يُشير إلى الأصل الاجتماعي لعمليات التفكير البشري. إن كل وسائل السلوك الثقافي (أي «المنتجات الثقافية») هي أشياء اجتماعية في جوهرها، وهي اجتماعية أيضًا في نشأتها وتغيُّرها، كما يُعبِّر القانون الذي أطلَقَ عليه فيجوتسكي اسم «القانون العام للنمو الثقافي».

تظهر كلُّ وظيفة في النمو الثقافي للأطفال مرَّتَين (أو على مُستويين): الأولى على المستوى الاجتماعي، والثانية على المستوى النفسي؛ إذ تظهر أولًا بين الناس كمقولة بينذاتية، ثم تظهر داخل الطفل الفرد كمقولةٍ ذاتية. وغنيٌّ عن القول أنَّ هذا «الإدخال» internalization يُحوِّل العملية نفسها ويُغيِّر بِنيتها ووظيفتها. إن العلاقات الاجتماعية أو العلاقات بين الناس تتبطَّن من الوجهة النشوئية جميع الوظائف العُليا.١٠٠
(٣) «الحقبة التاريخية»: «النسبية التاريخية» Historical relativism (أو «التاريخانية» historicism في أحد معانيها الكثيرة) هي الدعوى القائلة بأن الجماعات التي تنتمي إلى أحقابٍ مُختلفة تكون لديها طرائق مختلفة من التفكير. ويُعدُّ الفيلسوف الإنجليزي ر. ج. كولنجوود من أهم المُفكرين الذين أبرزوا البُعد التاريخي للنسبية.
يُقدِّم كارل مانهايم، مُؤسِّس سوسيولوجيا المعرفة، صيغةً للنسبية التاريخية في قوله:
عندما نعزو إلى حقبةٍ تاريخيةٍ مُعينةٍ عالمًا فكريًّا مُعينًا ونعزو إلى أنفسنا عالمًا آخر، أو عندما تُفكر طبقةٌ اجتماعيةٌ معينةٌ مُحتمةٌ تاريخيًّا في ظلِّ مقولاتٍ (تصنيفاتٍ فئوية) مُغايرة لمقولاتنا، فإنَّنا إذ ذاك لا نُشير إلى حالاتٍ معزولة من محتوى الفكر، بل إلى أنساقٍ فكرية مُتباعدة على نحوٍ جوهري، وإلى طرائق في الخبرة والتأويل مُختلفة اختلافًا بعيدًا.١٠١

والحقُّ أن الفروق التاريخية تنجُم عن الفروق الثقافية واللغوية؛ ومن ثم فإن النسبية التاريخية لا تُضيف أي شيءٍ جديد جذريًّا إلى النسبية الثقافية واللغوية. غير أن إدخال التاريخ بوصفه متغيرًا مستقلًّا يُضيف نطاقًا جديدًا من الحالات، ويجعل بالإمكان استخدام النصوص التاريخية في دراسة مسائل من النسبية وبخاصة في العلم.

يرى هربرت بترفيلد أنَّ النظرة إلى التاريخ على أنه يشتمل على تطوُّر تقدُّمي تجاه ما نحن عليه اليوم هي خطأ كبير وصورة أخرى من إسقاطات «المركزية الإثنية» (العرقية) ethnocentrism. والحقُّ أن التاريخ ينطوي على تغيُّرات من شتَّى الأصناف تحدُث لأسبابٍ عديدة. غير أن التاريخ يُتيح لنا أن نرى الطرق المبكرة من التفكير على أنها طلائع لتفكيرنا نحن، الأمر الذي يفتح الباب للدراسات الخاصة بتغيُّر المفاهيم، كما أنه يُحيي الأمل في نوعٍ من الفهم الذاتي، ومن الاستبصار في كيف صِرنا إلى ما نحن عليه.
(٤) «البنيان المعرفي الفطري (البنية البيولوجية للمعرفة)»: يُعد الجدَل حول «الطبيعة/التنشئة» nature-nurture هو الجدَل الأبدي حول القوة النسبية للبنية البيولوجية الفطرية (الطبيعة) من جهة وبين عملية الإثقاف والتطويع الاجتماعي وغيرهما من صور التعلم (التنشئة) من جهةٍ أخرى. من الجليِّ أن كِلا العالمين ضروري للحياة الإنسانية السوية. ويبقى السؤال الحقيقي، الإمبيريقي قلبًا وقالبًا، سؤالًا حول مدى طواعية الطبيعة البشرية ومدى ثَباتها، وحول حدود ما هو ممكن بيولوجيًّا، وحول درجة تأثير بِنيتنا البيولوجية (وبخاصة تركيب الدماغ والجهاز العصبي) على الثقافة واللغة وأساليب التفكير.
إبان الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، إذ كان «المذهب السلوكي» behaviorism هو المذهب السائد في السيكولوجيا واللغويات والعلوم الاجتماعية الأخرى، كان البندول مائلًا بحدة تجاه قُطب «التنشئة» nurture، ذلك القطب «التجريبي» empiricist الذي يرى كلَّ محتوى العقل مُكتسبًا من عالم الخبرة ولا يعترِف بشيءٍ فطري مُتأصِّل في العقل منذ البداية باستثناء الآليات العامة للتعلُّم. ومن ثَمَّ فقد كان هناك مجال كبير لتأثير اللغة والثقافة في صَوغ طُرق التفكير.
على أنه في العقود التالية على ذلك ارتدَّ البندول بحِدَّة تجاه القطب المضاد — «الطبيعة» nature. فقد أكد اللغوي الرائد نوام تشومسكي وجود «عموميات لغوية» linguistic universals فطرية هي بمثابة أساس عميقٍ مُشترك يكمُن من تحت الفروق السطحية في اللغات. تزامن ذلك مع رَواج الاتجاهات الفطرية في عِلم الإدراك (المعرفة) مُتمثِّلة في «دعوى الوحدات» modularity القائلة بأن العقل حائز من الأصل على وحدات فِطرية جاهزة هي بمثابة عموميات إدراكية أو معرفية. هكذا تبيَّن أنَّ هناك بنيانًا معرفيًّا ثريًّا مُتأصِّلًا ومُبيَّتًا منذ البداية، الأمر الذي يُضيق من مجال تأثير الثقافة أو اللغة على طريقة إدراكنا للأشياء أو تفكيرنا عنها.

ومِثلما هو الحال في كلِّ ديالكتيك ثلاثي فقد أدى الإفراط في التوكيد على البنيان المعرفي ومُعالجة المعلومات في السنوات الأخيرة على حساب الثقافة إلى ردود أفعالٍ حتى بين بعض مؤسِّسي علم الإدراك من أمثال جيروم برونر، وأعيدت الثقافة مرة ثانية إلى المشهد وعاد الناس يسألون عن مدى تأثيرها على الإدراك. وإن صحَّ أن شطرًا كبيرًا من البحث الإمبيريقي يُشير إلى أن العقل الإنساني يأتي مُجهَّزًا حقًّا ومزوَّدًا بعتادٍ مُسبق يجعل لدَيه استعدادًا لتعلُّم اللغة، وتمييز الوجوه، وإعراب الكلمات … إلخ، ويجعل بني الإنسان، من ثم، يُفكرون بطرائق مُتماثِلة إلى حدٍّ كبير.

غير أنَّ المذهب الفطري المدعم بالشواهد العلمية الحديثة يُلقي في بحيرة الإبستمولوجيا بحجرٍ ثقيل. فإذا كانت هذه هي البنية البيولوجية المُشتركة لبني البشر فثَمَّة احتمال كبير بأنَّ جوانب مُعينة من الإدراك البشري هي نتاج تاريخ تطوري فيلوجيني١٠٢ عرَضي طارئ لا ضرورة فيه ولا إطلاق. وإذا كان تماثُل البشر في الإدراك راجعًا إلى ملامح عرضية لدماغنا وجهازنا الحِسِّي فإنَّ لنا أن نتوقَّع أن أية مخلوقات ذات بِنية بيولوجية مُختلفة عنَّا سوف تُدرِك الوجود وتفكِّر فيه بطرائق مختلفة تمامًا. من هذه الجهة، في حقيقة الأمر، نجد أن الملامح العرضية لبُنياننا المعرفي تبدو أشبَهَ بالحدود أو القيود أو القصور.
ومع تسليمنا بالوحدة الصميمة للطبيعة البشرية من وراء قِشرة الفروق الثقافية والتاريخية، فإنَّ الأسئلة المعيارية حول «الموضوعية» objectivity، و«التبرير»  justification، و«الصدق» truth، تبقى مفتوحةً بل مُلحَّة، ما دام هناك احتمال بأن الإدراك البشري هو دون الكمال من جهات عديدة: فلعلَّ ضغوط الانتخاب الطبيعي مثلًا قد حبَّذَت آلياتٍ إدراكية سريعة محدودة الدقَّة على آلياتٍ أخرى أبطأ ولكن أكثر دقة.
(٥) «الاختيار Choice»: إذا كانت هناك بدائل مُتاحة من أُطُر المفاهيم والاعتقادات والمعايير، فهل بمَيسورنا أن نُقرِّر أيها نختار؟ ثمَّة من يُجيب عن هذا السؤال بنعم؛ الأمر اختياري تقديري يعود إلينا، على أن ذلك لا يعني أنه اعتباطي عشوائي نزوي، فقد تكون هناك أسباب وجيهة أو مُبرِّرات عقلية، كالبساطة، ويُسر التناول، والشمول، تجعلنا نفضِّل بعض البدائل على بعض. إن لنا رأيًا أو صوتًا في الأمر ولنا سُلطة البتِّ في المسألة، وثمَّةَ من يرى أن البدائل قد تكون مُمكنة بمعنًى تجريدي مُعيَّن غير أنَّها ليست اختياراتٍ خالصة بالنسبة إلينا.
عند الطرف الأول من المطياف؛ مذهب الاختيار أو الإرادة voluntarism نجِد مُفكرين يذهبون إلى أن لدَينا هامشًا كبيرًا من حرية الاختيار. فالوجوديون، مثل سارتر، يُنكرون وجود حقائق موضوعية فيما يتعلَّق بالقِيَم والمبادئ الأخلاقية ويرون أنَّ علينا أن نختار قِيَمنا ونُبدعها بأنفسنا ولأنفسنا بقفزةٍ وجودية، باختيارٍ وجودي مصيري. وكثير من المفكرين الأنجلوأمريكيين الذين يذهبون في الأخلاق مذهبًا «غير معرفي» non-cognitivist،١٠٣ مثل آير، وستيفنسون، يرون رأيًا مشابهًا لذلك وإن يكن أقلَّ تطرُّفًا. ويذهب نيتشه في «إرادة القوة» (الذي صدر بعد وفاته) إلى أنَّ كثيرًا من الجوانب الأخرى من المعرفة هي أيضًا مسألة اختيار، بل إن مُفكرًا مُختلفًا تمامًا مثل كارناب يُنبئنا بأن بإمكاننا أن نختار أن نتحدث «لغة الشيء» thing-language حيث الموضوعات الفيزيقية هي الأمر المركزي، أو «لغة ظاهراتية» phenomenalistic language حيث الأمر المركزي هو مُعطيات الحس.

وعند الطرف المُضاد من المِطياف نجد مفكرين يذهبون إلى أنَّ من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن نُغير مفاهيمنا المركزية واعتقاداتنا ومعايير تقييمنا تغييرًا جوهريًّا. ليس بوسعنا مثلًا أن نُقرر ببساطة أن نشرع في التفكير عن العالم في حدود غير علِّية؛ أي باطِّراح مبدأ السببية اطِّراحًا تامًّا. والحق أنه إذا كانت مُعظم مفاهيمنا المحورية واعتقاداتنا المركزية هي جزء من جِبلَّتنا البيولوجية فإن من المُحال بيولوجيًّا أن نستغنيَ عنها، وستكون استحالة تغيير تفكيرنا عن الألوان إذا كانت تُحدِّده نيوروفسيولوجية جهازنا البصري (الحتمية البيولوجية) أكبر من استحالة تغييره إذا كان يُحدِّده مُعجم الألوان في لغتنا المحلية (الحتمية اللغوية). غير أن هذا لا يمنع القائلين بالنسبية اللغوية (مثل ورف) والثقافية (مثل بينيديكت) والتاريخية (مثل كولنجوود) من التوكيد على صعوبة التغيير. فالمرء في نظر ورف مثلًا لا يملك أن يصف الطبيعة بحيدةٍ كاملة، وإنما هو مقيدٌ بأساليب مُعينة من التأويل تُمليها لغته التي يتحدثها، حتى لو آنس في نفسه قدرًا كبيرًا من الحرية. يرى هؤلاء الكُتَّاب فيما يرون أن مفاهيمنا المركزية واعتقادتنا المحورية تتخلَّل تفكيرنا وتغمُره لدرجة أن معظمنا لا يخطر بباله أصلًا احتمال وجود بدائل لهذه الاعتقادات وتلك المفاهيم.

وبين هذين الطرفين نجِد مُفكرين يذهبون إلى أن بالإمكان في بعض الأحيان قيام مراجعات حاسمة وتنقيحات كُبرى للأطر التصوُّرية، وإن يكن ذلك في ظروف استثنائية فحسب. يقول توماس كون، بمعرِض حديثه عن لحظة اختيار العالِم أن يعتنق «نموذجًا شارحًا/إرشاديًّا» (بارادايم) جديدًا، إن قرارًا من هذا النوع لا يمكن أن يُتَّخَذ إلَّا إيمانيًّا. وكثيرًا ما يتحدَّث كُون عن قبول نموذج إرشادي جديد على أنه ضربٌ من الإيمان أو «التحوُّل (العقائدي) الحاسم» conversion.
ولعلَّ الرأي الأكثر رواجًا بين الفلاسفة المعاصرين هو أن البشر لا يمكنهم أن يُعدِّلوا أُطرهم إلَّا تدريجيًّا، وأن بعض أجزاء هذه الأطر ربما يظلُّ عصيًّا تمامًا على المراجعة في أية لحظة مُعطاة. وكثيرًا ما تُهيب هذه الدعاوى بتشبيه نويرات الخاص بإعادة بناء سفينة وهي مُبحرة (Neurath’s boat): إنَّ بإمكاننا تغيير السفينة جُزءًا جزءًا مُستندين على الأجزاء التي لا تتغيَّر فيها من أجل ثبات السفينة أثناء التغيير. غير أننا لا نملك أن نُعيد بناء السفينة برمَّتِها دفعةً واحدة.

كذلك الحال بالنسبة لأطرنا التصورية؛ فبالإمكان أن نُغيرها بالتدريج جزءًا جزءًا، ولكن ليس بإمكاننا أن نُغير أسطرًا كبيرةً منها دفعة واحدة. إننا إذن لا نملك تصوُّرات أو مبادئ نستخدمها في إنجاز عملية التغيير، لا نملك، على سبيل المثال، معايير نحكم بها ما إذا كان تعديلان مقترحان هما مُتَّسِقين أحدهما مع الآخر!

(٦) «عوامل أخرى»:

الأطر العلمية Scientific Frameworks

في الستِّينيات من القرن العشرين حدثت ردَّة فعلٍ من جانب مؤرِّخي العلم وفلاسفته ضد ما كانوا يَرونه في فلسفة العِلم السائدة آنذاك من إفراطٍ في النزعة الصورية وغيابٍ للبُعد التاريخي في دراسة العِلم وفهمه. كان على رأس هؤلاء الثائرين من فلاسفة العلم ن. ر. هانسون، وستيفن تولمن، وبول فييرابند، وتوماس كُون مؤلِّف «بنية الثورات العلمية» الذي بيع منه مليون نُسخة. لم يعتبر أي واحد من هؤلاء — باستثناء فييرابند في بعض حالاته المِزاجية — نفسه من النِّسبيِّين، غَير أنَّ العديد من أطروحاتهم [وبخاصة أطروحة «التحميل النظري» theory-ladenness للإدراك الحسي وأطروحة «اللامقايسة» (اللاقياسية) incommensurability وأطروحة استحالة تحديد مدى مُطابقة نظرية ما للوقع] كانت توحي لكثيرٍ من قرائهم بنتائج نسبية.

لا تبلغ النظرة العلمية للمرء مَبلغ الثقافة واللغة من حيث الشمول والإحاطة والتغلغُل في تضاعيف حياته، ومن ثَمَّ فقد كانت الأطروحات النسبية التي بزغَتْ في كتابات هؤلاء الفلاسفة فرعية ومحدودة بالنسبة لأطروحات النسبيين اللغويين والثقافيين. لقد قدموا حُجَجهم بحصافةٍ ودقةٍ، وكانت أمثلتهم مُستقاةٌ من مراحل من تاريخ العلم، وأمكنَهُم تقييمها دون حاجة إلى اللجوء إلى ثقافة أخرى أو إلى ضرورة التمكُّن من لغة أجنبية.

لقد ذاب قدرٌ كبيرٌ من عمل هؤلاء، باستثناء ما هو مُوغلٌ في النسبية، في التيَّار الرئيسي لفلسفة العلم، وبقيت المسائل النسبية رغم ذلك تبرُز إلى السطح في مباحث سوسيولوجية العلم وفي المناحي الجديدة من فلسفة العلم، ومن الأفرع المرتبطة بها مثل الدراسات الثقافية.

العقيدة

يذهب إميل دوركايم رائد علم الاجتماع الفرنسي إلى أن للعقيدة سطوة كبيرة في تشكيل سائر جوانب الحياة الإنسانية. إن شطرًا كبيرًا من حياتنا الإدراكية والاجتماعية يتأثَّر بشدَّة بالعقيدة. إنَّ مفاهيم أساسية من مِثل الجنس والنوع بل المنطق نفسه ترفده الأفكار والممارسات الدينية. كان دوركايم نفسه على قناعة بأن عقائد بني الإنسان هي من التقارُب بحيث إن هذه المفاهيم المُستقاة منها تبلغ أن تكون متطابقة عبر الثقافات. غير أننا إذا ضمَمْنا فكرته عن سطوة العقيدة إلى الوقائع الوصفية عن تبايُن الثقافات والعقائد لخلُصنا إلى نوعٍ مُعين من النسبية.

ويقول رائد علم الاجتماع الألماني ماكس فِبر إن الملامح المختلفة العديدة للبروتستانتية قد أفضت إلى ضربٍ من العقلانية الأداتية. وهذا يتضمَّن التحرُّر من شعوذة العالم القديم بكل قواعده وتنظيماته وكل ذلك الجهاز المُوحش من القياس وبيروقراطية الكتاب والاحتكام العبودي إلى النصِّ في كل كبيرةٍ وصغيرة.

وتتجلَّى سطوة العقيدة على طرائق التفكير حين نلتفِت إلى ثقافات مُعينة تضطلع فيها العقيدة بدورٍ مُهيمنٍ يفوق ما هو معهود في الثقافات الغربية. في الثقافات التقليدية ليس هناك فصلٌ بين الكنيسة والدولة، فالكاهن أو الشامان هو السُّلطة النهائية في كلِّ شيء تقريبًا، والأخلاق والقانون والعقيدة هي خيوط مُتضافِرة بإحكام. وفي ظلِّ العقيدة «الإحيائية» animistic تبدو الطبيعة كلها حيةٌ مُشخصةٌ قادرة على إلحاق الأذى. في مثل هذه الأوضاع قد يكون أثر العقيدة على أساليب الإدراك والتفكير والخبرة قويًّا بالِغ القوة.

النوع الجنسي، والعنصر، والطبقة الاجتماعية

في كثيرٍ من المُجتمعات تُعامَل بعض الجماعات الإثنية، أو بعض الطبقات الاجتماعية، أو نوعٌ جنسيٌّ (هو الإناث) معاملةً مختلفة عن الجماعات أو الطبقات الأخرى أو الجنس الآخر. وهي بذلك توضع موضعًا آخر يُقال إنه يؤدي إلى فروق هامة في طرائق التفكير ونماذج التقييم. وفضلًا عن ذلك فإن الطرف المُسيطر قد يُسفِّه، عن وعي أو بغير وعي، أو يقمع هذه النماذج وتلك الطرائق الخاصة بالطرف المقهور. ومما لا شك فيه أن إفساح المجال للجميع لكي يُوضِّح وجهة نظره يُعدُّ خطوةً تجاه تحقيق القوة والمساواة.

ولعلَّ طرْح ماركس لمسألة «الأيديولوجيا» هو من البواكير الأولى لهذا الفصيل من الآراء. غير أن هذا الموضوع قد تم تطويره بطرق عديدة على يدِ مُفكرين لاحقين. وقد اتصلت هذه الأفكار عند بعضهم، مثل ميشيل فوكوه، اتصالًا وثيقًا بمسألة الهيمنة والسلطة.

المذهب النسائي Feminism

تضطلع الفلسفة النسوية بمراجعةٍ جِذريةٍ للإبستمولوجيا والعلم، وتضيف بُعدًا جديدًا لفهمنا للإنسان وملكاته الإدراكية وقيمه الأخلاقية والاجتماعية والسياسية. ترفض الفلسفة النسوية ذلك التَّماهي العتيد والسائد منذ القِدَم بين الخبرة الإنسانية والخبرة الذكرية، وترى أن الفلسفة التقليدية قد فشِلت في أن تأخُذ مصلحة المرأة وهويتها وهمومها مأخذ الجد، وفي أن تُدرك أن أساليب النساء في الوجود وفي الفكر والفعل لا تقلُّ قيمةً وأهميةً عن أساليب الرجال، يعود هذا الفشل إلى تصوُّراتٍ مغلوطة عن «المعرفة» knowledge، و«العارف» knower، و«الموضوعية» objectivity، والممارسات الخاصة بالبحث والتبرير. وتُقدِّم الفلسفة النسوية توصياتٍ شتَّى للتغلُّب على هذا الفشل التصوري، وتفسر كيف أدَّى اشتراك النساء ودعاة المذهب النسوي في مجالات البحث الأكاديمي، وبخاصة في البيولوجيا والعلوم الاجتماعية، إلى إثراء هذه المجالات بأسئلةٍ ونظرياتٍ ومناهج جديدة. وتؤكد أنَّ هذه التغييرات تُمثِّل تقدُّمًا معرفيًّا وليس مُجرَّد تقدُّم اجتماعي.
يتمثل التصور المحوري في الإبستمولوجيا النسوية في مفهوم المنظور المعرفي، أو «العارف الذي يقع موقعًا معينًا» situated knower يفرض عليه أن يرى الأشياء من زاويته. إن المعرفة لتعكس منظورًا مُعينًا للذات العارفة، ومن شأن «النوع الجنسي» gender أن يضع الذات موضعًا مُعينًا يفرِض عليها زاويةً تنظر منها، ويُلوِّن لها الوقائع بلونٍ معين قد يختلف عن لونها الحقيقي اختلافًا بعيدًا.

المعرفة إذن وطريقة تحصيلها تعكسان موقع العارف أو منظور رؤيته: الناس مثلًا قد تُدرك العالم وتخبُره باستخدام الجسد (وأجهزته)، وهو شيء يتفاوت من شخصٍ آخر من حيث بنيته وجِبلَّته وموضعه المكاني والزماني. فالملاحظون الذين يقِفون أمام شيء ما يستقون منه معلومات تختلف عمَّا يَستقيه الملاحظون الذين يقفون بعيدًا عن هذا الشيء ويتمتَّعون في الوقت نفسه ببصرٍ حاد فكأنهم يرمقونه بعين طائر تجمع بين الشمول والدقة. كذلك يختلف الناس في أسلوب الإدراك؛ فمنهم من يرى الوحدة في التنوُّع فيميل إلى ضمِّ الظواهر وتجميعها، ومنهم من تستغرقه الاختلافات فيميل إلى تفتيت الظواهر وتفريقها.

كذلك تؤثر المواقع الاجتماعية للعارف على أسلوب معرفته ومادتها. وتتألف المواقع الاجتماعية من ضروب الهوية التي تُلصق به (النوع الجنسي، والعنصر، والتوجه الجنسي، والعِرق (الإثنية)، والطبقة، والقرابة …) ومن أدواره وعلاقاته الاجتماعية (وظيفته، حزبه السياسي، عضويته المؤسسية … إلخ). وبفضل ضروب الهوية المختلفة يحتل الأفراد مناصب مختلفة تمنحهم سلطات مختلفة وتنوط بهم واجباتٍ مختلفة وتجعل لهم أهدافًا ومصالح مختلفة. من شأن ذلك أن يفرض معايير مختلفة تُملي عليهم ما هو لائق بأدوارهم من فضائل وعادات وانفعالات ومهارات.

ويكتسب الأفراد فضلًا عن ذلك ضروبًا مختلفةً من الهوية الذاتية، فيتوحَّد الفرد بزُمرته الاجتماعية، وقد يتَّخِذ هذا التوحُّد ألوانًا مُتباينة؛ قد يقبل الفرد هذه الضروب المختلفة من الهوية التي فُرِضت عليه ويستريح لها ويُصادِق عليها، وقد يعتبرها قامعةً ظالمة (إذا كان المجتمع ينظر إليها بازدراء ويعدُّها شريرةً أو مُغثية) غير أنه يربط مصيره بزُمرته الاجتماعية وينذر نفسه للعمل الجماعي مع غيره من أعضاء الجماعة من أجل مقاومة هذا القمع ورفع هذا الظلم.

أسلوب الإدراك الأنثوي

ذهب بعض الباحثين إلى أنَّ هناك أسلوبًا إدراكيًّا (معرفيًّا) مُعيَّنًا يخصُّ كلَّ نوعٍ جنسي على حدة. وسواء صحَّ هذا الزعم أم أخطأ فقد تمَّ إضفاء صبغةٍ جنسية على هذَين الأسلوبين من الإدراك.

الإدراك الذكري الإدراك الأنثوي
تجريدي عياني
نظري عملي
استنباطي حدسي
تحليلي تركيبي
غير متجسد متجسد
منفصل عاطفيًّا مندمج عاطفيًّا
كمِّي كيفي
ذري (تفتيتي) علائقي
مُوجَّه تجاه السيطرة والتسلُّط مُوجَّه تِجاه قِيَم الرعاية والحذْب
من الذكورية أن يدفع المرء بدعواه عن طريق «الحُجَّة» argument أو الجدلية، ومن الأنثوية أن يدفع بها عن طريق «السرد» narrative أو الحكاية. يتمُّ دفع الحجَّة في عامة الأحوال كطريقةٍ عدائيةٍ من الخطاب يقوم فيها طرفٌ بإثبات دعواه عن طريق سحْق الطرف الآخر وقهر الرأي المُعارض. الحجة تنشد الإخضاع والغلبة على الطريقة الذكورية التنافُسية في الحرب والرياضة والأعمال التجارية. أما السَّرْد (أو الرواية) فهو أسلوب إغرائي من الخطاب يعمَد إلى إقناع الطرف الآخر بأنَّ يدعوه إلى اتِّخاذ منظور الراوي إلى المسألة، الأمر الذي يُثير خياله وشعوره. إن عمليات السرد أقرب إلى عمليات الحبِّ منها إلى عمليات الحرب. ومن هنا تُضفي على السرد صبغةً أنثويةً لأنه طريقة في الإقناع أكثر مُلاءمة للمرأة.
تُفضي هذه الظواهر إلى عديدٍ من الأسئلة الإبستمولوجية:
  • هل يؤدي استخدام المناهج الذكورية إلى تشويه المُمارسات الخاصة باكتساب المعرفة؟

  • هل يتمُّ إغفال صنوف قويمة من البحث بسبب ارتباطها بأساليب «أنثوية» من الإدراك؟

  • هل تفضي الأساليب المعرفية «الأنثوية» إلى ألوانٍ من المعرفة لا يتسنَّى للأساليب «الذكورية» أن تصِل إليها؟

يرفض دُعاة المذهب النسوي كل أشكال الثنائية الأنطولوجية، ويرون أن الميتافيزيقا التقليدية قد أخطأت خطأً كبيرًا حين فصلت الذات عن الآخر وفصلت العقل عن الجسد، ويُبينون كيف يمكن للمرء أن ينفُذ إلى ذوات الآخرين ونفوسهم ودواخلهم عن طريق «المواجدة» empathy، وكيف يمكن للعقل والجسد أن يُشكل كلٌّ منهما الآخر.

لقد طال الأمد على الثقافة الغربية وهي تربط العقلانية بالذكورية والانفعالية بالأنثوية، فتخلُص إلى أن النساء أقلُّ إنسانيةً من الرجال؛ لهذا يُحاج الفلاسفة النسويون بأن العقل والانفعال ليسا نقيضَين وأنهما يعملان بتآزُر مُتبادَل ويُعدَّان مصدرين مُتكافئين للمعرفة. إن المعرفة الديكارتية، بكلِّ يقينها ووضوحها، محدودة للغاية، فالناس يُريدون أن يعرفوا أكثر من أنهم موجودون … يريدون أن يعرفوا ما يُفكر الآخرون فيه ويشعرون به.

ويرى الفلاسفة النسويون أنَّ فلسفة العلم التقليدية تُبالغ في ادِّعاء الموضوعية؛ ذلك أن فلاسفة العلم التقليديين كثيرًا ما يربطون نجاح العلم بقُدرة العلماء على السيطرة على الطبيعة وإخضاعها وإذلالها، بينما يربطه النسويون بقدرة العلماء على الاستماع إلى صوت الطبيعة والإصغاء إلى ما تبوح به طوعًا ومن غير إكراه. ومن شأن العلم الذي يستنِد إلى شهادة الوقائع العيانية ويُصغي إلى ما تقوله الطبيعة أن يستخلِص نظريةً مُجرَّدة أكثر اقترابًا من الواقع وأن يكون أكثر موضوعية من العلم الذي لا يصغي.

وفي مجال الأخلاق يرى الفلاسفة النسويون أن قائمة الفضائل في علم الأخلاق التقليدي هي قائمة ذكورية، وأن النساء يقاربن العقل العملي من منظور مختلف. تقوم الفلسفة الخلقية والاجتماعية والسياسية التقليدية على القواعد والمبادئ، وسواء سعت إلى أقصى منفعة عامة (مذهب المنفعة) أو إلى أداء الواجب من أجل الواجب (مذهب الواجب)، فهي تُحيل السلوك إلى معايير عامة مُطلقة غير شخصية وتعرِضه على محكٍّ مُجرَّدٍ خالص، وتنظر إلى الأخلاق من منظور العدالة والحيدة والنزاهة المُجرَّدة. أما الأخلاق النسوية فهي تنظر من منظور «الرعاية» care وتؤكد على الحدب والتضامن والارتباط بأشخاصٍ بعينهم. ترتكز الأخلاق النسوية على المسئوليات والعلاقات أكثر ممَّا ترتكز على الحقوق والقواعد، وتولي اهتمامًا بالملامح الفريدة للموقف الأخلاقي المُعين أكثر من اهتمامها بمُتضمناته العمومية الكلية.

نقطة الاستشراف الإبستمولوجية Epistemological Standpoint

تدعي نظريات الاستشراف الإبستمولوجي أنها تُقدِّم تمثيلًا للعالَم من منظور يُمليه وضع اجتماعي مُعين ويُسبغ عليه امتيازًا إبستمولوجيًّا أو سُلطة معرفية. ثمة نقاط استشراف أفضل من الناحية الإبستمولوجية، وثمة دائمًا وضع يُتيح رؤية أفضل للأمر أو زاوية أفضل للرؤية أو منظورًا أعرض وأشمل للواقعة. مثال ذلك أن المُتخصِّص في ميكانيكا السيارات هو في وضع أفضل من مُستهلكي السيارات لمعرفة مواطن الخلَل في سياراتهم.

تدَّعي هذه النظريات أن منظور الفئات المقموعة سياسيًّا واجتماعيًّا هو أفضل من منظور الفئات المُسيطرة من الناحية الإبستمولوجية:
  • فهو أولًا يُتيح لهم رؤيةً للمجتمع أعمق من رؤية المُسيطرين ويكشف لهم القوانين الجوهرية العميقة التي تحكم سير الظواهر موضع البحث، بينما لا يُقدِّم منظور الفئات المُسيطرة إلا معرفة بالاطرادات السطحية للأمور.

  • وهو ثانيًا يقدِّم معرفة أعلى عن نمط الاطرادات السطحية وبالتالي معرفة أعلى من المُمكنات البشرية. وبينما يميل منظور الفئات المسيطرة إلى تصوير صنوف الظلم الاجتماعي على أنها شيء طبيعي وضروري، فإن منظور الفئات المقموعة يقدِّم لها الصورة الصحيحة وهي أنها أمور «عرضية» contingent طارئة اجتماعيًّا، أي حادثة وغير ضرورية. كما أنه يُبين كيف يمكن التغلُّب على هذا الظلم.
  • وهو ثالثًا يُقدِّم تمثيلًا للعالم الاجتماعي في علاقته بالمصالح الإنسانية العمومية. بينما يقتصر منظور الفئات القامعة على تمثيل الظواهر الاجتماعية في علاقتها بمصالح الطبقة المسيطرة ويُقدِّم تمثيلًا خاطئًا لهذه المصالح على أنها مُطابِقة للمصلحة البشرية في عمومها.

تقدم الماركسية نموذجًا كلاسيكيًّا لنظرية نقطة الاستشراف، وتُسبِغ على منظور رؤية البروليتاريا امتيازًا إبستمولوجيًّا فيما يتعلق بالمسائل الأساسية للاقتصاد والاجتماع والتاريخ. وترى الماركسية أن العُمَّال لا يملكون هذا المنظور بداية، وإنما يملكونه حين يكتسبون الوعي الجمعي بدَورهم في النَّسَق الرأسمالي وفي التاريخ. ثمَّةَ جوانب كثيرة للوضع الاجتماعي للعمال تمنحهم منظورًا أفضل إلى المجتمع من الوجهة المعرفية؛ فالعُمَّال مقموعون، والعمَّال هم العنصر الأساسي في أسلوب الإنتاج الرأسمالي، وهم مزوَّدون بأسلوبٍ معرفي قائم على التفاعُل المادي الإنتاجي العملي مع الطبيعة، وهم على وعي ذاتي جمعي بأنفسهم كأعضاء طبقة يمكن أن تكون عالمية. أما الظلم فيمنحهم مصلحة موضوعية في معرفة الحقيقة بخصوص أي الفئات يُحقق النظام الرأسمالي رغباتها ويخدُم مصلحتها في واقع الأمر. وأما كونهم العنصر الأساسي في أسلوب الإنتاج فيمنحهم منفذًا خبرويًّا إلى العلاقات الأساسية للإنتاج الرأسمالي. ولأنَّ وضع جميع الطبقات الأخرى في النظام الرأسمالي يتمُّ تحديده في علاقته بهم، فإنهم حين يشرعون في معرفة أنفسهم ومعرفة وضعهم الطبقي يكونون قد شرعوا في معرفة مجتمعهم ككل. وأما التفاعُل الإنتاجي العملي مع العالم فهو الطريقة الأساسية لمعرفته من وجهة نظر الإبستمولوجيا المادية، وهو يُفضي بهم إلى تمثيل عالمهم في حدود «قِيَم الاستعمال»، بينما يُمثله الرأسماليون في حدود «قِيَم التبادل». إن تمثيل العُمَّال للعالم هو التمثيل الأكثر جوهرية؛ لأن قوانين الاقتصاد والتاريخ الأساسية يُعبَّر عنها في حدود الصراع من أجل تملُّك فائض القيمة (قِيمة الاستعمال) وليس في حدود قِيَم التبادُل السطحي للنقود. وأمَّا العالمية فيلزَم عنها أنَّ العُمَّال يمثلون العالم الاجتماعي في علاقته بالمصالح الإنسانية العمومية وليس بالمصالح الخاصة بالطبقة، الأمر الذي يمنح تصورهم للمجتمع موضوعيةً أكبر من تصوُّر الرأسماليين. وأخيرًا فإنَّ للوعي الذاتي الجمعي خاصيَّة النبوءة المُحقِّقة لذاتها؛ ذلك أن استبصارهم الجمعي بمأزقِهم العام وحاجتهم إلى الخروج من هذا المأزق من خلال الفعل الثوري الجمعي يتولَّد عنه فهم ذاتي يتحوَّل إلى حقيقة عندما يتصرفون وفقًا له. هنالك يتحوَّلون إلى طبقةٍ عالمية ويكونون هم المُحرِّك الأساسي للتاريخ.

ثمَّة مُماثلة بين الأفضلية الإبستيمية لوضع المرأة الاجتماعي وبين الأفضلية الإبستيمية للبروليتاريا؛ فالمرأة مقموعة، والمرأة هي العنصر الأساسي في نسَق التكاثُر وتنشئة الأطفال ورعاية الأجساد مِثلما أن العمَّال هم العنصر الأساسي لنسق الإنتاج السلعي، ولأن المرأة مسئولة عن تلبية احتياجات كلِّ فردٍ من أهل البيت فهي في وضعٍ أفضل من الرجل لرؤية فشل النظام الأبوي (البطريركي) في الإيفاء بحاجات الأشخاص. يعمى الرجال، بحُكم وضعهم المسيطر، عن أن يروا كيف يدوسون مصالح من هم دونهم، أما النساء كطبقةٍ فإن لديهنَّ منفذًا أفضل لمعرفة عيوب النظام البطريركي ومعرفة الأطراف التي يخدُم هذا النظام مصالحها أكثر من غيرها.

وصفوة القول إنَّ المقموعين (النساء، العمال، الملونين … إلخ) لديهم فرصة أعظم لمعرفة الحقيقة، وأنَّ أفضليتهم المعرفية تستند إلى منظورهم الأعرض والأشمل إلى الأمور. ويطلق دوبوي W. E. B. DuBois على هذه الميزة اسم «الوعي المُتشعِّب» bifurcated consciousness: أي القدرة على رؤية الأشياء من منظور كلٍّ من المسيطر والمقموع، والقدرة، من ثم، على التقييم المقارن لكلا المنظورين. هكذا يتبيَّن أن الإبستمولوجيا النسوية تلفِت الأنظار إلى ضربٍ من النسبية الوصفية مفاده أن الوضع الاجتماعي (والجنسي والعرقي والزماني والمكاني … إلخ) للعارف يؤثر تأثيرًا حاسمًا في معرفته المحصلة. غير أن هذا لا يعني بحالٍ أن الإبستمولوجيا النسوية تدعم النسبية المعيارية. إنها، على العكس، تؤكد أنَّ هناك منظورًا أفضل من منظور، ومعرفة أقوم من معرفة، وتتخطى ذلك إلى المُناداة بإقصاء المنظور البطريركي، والدعوة إلى الفعل التحريري الذي ينطلِق من وعيٍ جمعي واستبصار معرفي؛ وعي بما ينطوي عليه الوضع القائم من اختلال ناجم عن القصور المعرفي للفئات المسيطرة، واستبصار بما يَسِم المنظور الذكوري من ضِيقٍ مُتأصِّل وكفيل بأن يُعطِّل التقدُّم الحقيقي للفلسفة والعلم، وحقيق أن يقود البشرية إلى مزيدٍ من الصراع والبؤس واستنفاد ثروات الأرض وتخريب البيئة.

الفرد Individual

ربما تكون جميع صِيَغ النسبية التي أسهب دُعاتها في الدفاع عنها تُعامل ظاهر النسبية على أنها ظاهرة اجتماعية. غير أن بإمكاننا أيضًا طرح صيغة ذاتية من النسبية ترى إليها على أنها حالة تضييق فطري تجعل كلَّ شخصٍ حبيسَ تصوُّراته الخاصة ومعاييره الإبستمولوجية ومبادئه الخلقية … إلخ. وقد أشار فرنسيس بيكون في «الأورجانون الجديد»، بمعرِض حديثه عن أوهام العقل الأربعة، إلى ما أسماه «أوهام الكهف» idola specus، ويعني به كهف الفردانية؛ ذلك أنَّ كلَّ فردٍ منا حبيس كهف تكوينه الفردي الخاص، فهو يرى الوقائع في ضوء مِزاجه وعاداته وتعليمه … إلخ، فمن الناس من يميل بطبيعته إلى إدراك الفروق بين الأشياء وتفحُّص التفاصيل الدقيقة، ومنهم من يميل إلى إدراك أوجه الشَّبَه وتأمُّل الكليات. ولكلٍّ من الطرفين أخطاؤه ومواقفه المتطرفة.١٠٤ كما أن بعض الناس ميَّالون إلى القديم وبعضهم الآخر ميَّال إلى التجديد، مع أن الحقيقة لا زمان لها، ولا يلزم بالضرورة أن تكون في القديم وحده أو الجديد وحده. وهكذا الحال في سائر أنواع التحزُّب والتعصُّب الفردي التي ينبغي التخلُّص منها لضَمان نزاهة البحث والتفكير.١٠٥

منذ أكثر من ألفي عام أعلن الفيلسوف اليوناني بروتاجوراس أن «الإنسان مقياس الأشياء»، وهو يعني بذلك، وفقًا لتفسير أفلاطون، أنَّ الحقيقة أمرٌ نِسبي يعود إلى اعتقادات كلِّ إنسان فرد. غير أن جميع المفكرين الذين دَعَوا إلى ضروب من النسبية منذ زمن أفلاطون قد قدَّموها كظاهرةٍ جمعية ولم يستمدَّ أيٌّ منهم إلهامه من بروتاجوراس، بل ذهبوا إلى أن أعضاء أي جماعة إنما تحكُمُهم طرائق من الفكر هي جُزء من مَوروثهم الاجتماعي. ويعود ذلك إلى عاملٍ مُشتركٍ بينهم من قبيل الثقافة أو اللغة أو البنية البيولوجية المشتركة.

(٤) تفنيد النِّسبية

تتعدَّد الاستجابات للنسبية وفقًا لتعدُّد صورها، وتختلف وفقًا لاختلاف صِيَغها. ورغم وجود بضع حُجَجٍ قبلية تعمد إلى إثبات أن بعض ضروب الاختلافات المعرفية والتقييمية هي في الحقيقة أمر غير مُمكن، فإنَّ مُعظم أنواع النسبية الوصفية هي عبارة عن دعاوى إمبيريقية ينبغي ألا يَفصِل في شأنها، بتأييدٍ أو بتفنيد، غير الأدلة الإمبيريقية. أما النسبيَّة المِعيارية فتقتضي، على العكس من ذلك، ردًّا فلسفيًّا خالصًا في أغلب الأحيان. ولعلَّ أكثر الحُجَج إفحامًا ضدَّ الصور الصارخة من النسبية المعيارية (مثل نِسبية الصدق/الحقيقة) هي أنها «تدحض ذاتها» self-refuting. وسوف نعرِض هنا حُجَجًا مُوجَّهة ضدَّ النسبية الوصفية بالدرجة الأساس وأخرى موجَّهة أساسًا ضدَّ النسبية المعيارية.

(٤-١) ليست هناك حقائق واقِعة عن المسألة

إذا لم تكن هناك مفاهيم ولا اعتقادات إذن لَمَا أمكن أن تختلف الجماعات من حيث مفاهيمها واعتقاداتها، وما أمكن للدعاوى الوصفية لنسبية المفاهيم والاعتقادات أن تجِد أرضًا تقِف عليها. كذلك لا يعود هناك معنى لأنْ تسأل أسئلةً مِعيارية عمَّا إذا كانت بعض المفاهيم أو الاعتقادات أفضل من بعضها الآخر.

على الرغم من أن كواين قد روَّج لتعبيراتٍ من قبيل «النسبية الأنطولوجية» فقد كان كواين نفسه مُناوِئًا للنسبية فيما يتعلَّق بالمفاهيم والاعتقادات والمعاني، بالضبط لأنه يرى أن ليست هناك حقائق واقعة عن مِثل هذه الأشياء.

تَستنِد كثير من شكوك كواين حول الأذهان والمعاني والتمثيلات الذهنية على افتراضاتٍ سلوكيةٍ غير مُدحضة. غير أنَّ هناك مذاهب أحدث مُضادَّة للواقعية حول «الذهن/العقل» من شأنها أيضًا أن تقضي على كثير من صور النسبية في مهدها. أشهر هذه المذاهب هو مذهب «المادية الحذفية» eliminative materialism الذي يرى أن حديثنا اليومي عن «المفاهيم» و«الاعتقادات» و«المقاصد» هو جزء من نظرية قاصرة مآلُها المحتوم إلى الزَّوال كلما تقدَّم العلم. تذهب المادية الحذفية إلى أن مفاهيم «السيكولوجيا الشعبية» folk psychology هذه الداخلة في صميم لُغتنا العادة ولغة «السيكولوجيا المعرفية» cognitive psychology وعلم النفس المرضي في الوقت الحالي هي مفاهيم مغلوطة وطرائق في التفكير لا تفضي إلى أي معرفة حقيقية، وهي من الخطأ والإفلاس بحيث لا تدَع لنا حيلةً تجاهها إلا حذفها. إنها نظريات بائدة تُلحَق ﺑ «الكيمياء القديمة» alchemy ونظرية بطليموس الفلكية، وتُلحَق بالخرافات العلمية المهجورة من مثل «الكالوريك» في تفسير الحرارة، و«الفلوجستون» في تفسير الاشتعال … إلخ، وتشكل عائقًا حقيقيًّا وحجر عثرة أمام تقدُّم الفهم العلمي للعمليات الذهنية التي هي عمليات مادية نيوروفسيولوجية قلبًا وقالبًا. وقد حان الوقت لا لتعديلها وتنقيحها بل لإقصائها وتنحيتها والاستغناء عنها تمامًا.١٠٦

غير أن التوجُّه الصارم المُضاد لواقعية المفاهيم والاعتقادات والمقاصد والتمثيلات الذهنية الأخرى، والذي يتطلَّبه تقويض مُعظم صور النسبية، هو توجُّه مُناقِض للحدْس والسليقة. وقلَّما نجد من الفلاسفة من تقنعه حقًّا تلك الحُجج التي يقوم عليها.

(٤-٢) الإدراك ليس «مُحمَّلًا بالنظرية» إلى حدٍّ يدعو لليأس

قُلنا إن النسبية الوصفية للإدراك هي دعوى إمبيريقية عن الكائنات البشرية، تُفيد أن الإدراك الحسي ليس نقيًّا وليس بكرًا وليس محايدًا وإنما هو مشحونٌ أو مُحمَّل مسبقًا بالتصوُّرات النظرية، مما يجعله نسبيًّا صميمًا يتفاوت من جماعةٍ لأخرى ومن حقبةٍ لأخرى، ومن الاستجابات المُضادة لهذه الدعوى أن الإدراك البشري وإن يكُن حقًّا مُحمَّلًا بالنظرية بعض الشيء إلا أنه ليس مُحمَّلًا بالنظرية إلى الحدِّ المؤيس الذي يُصوِّره النسبيُّون، فهناك حدود لهذا التحميل النظري، وهناك أدلَّة إمبيريقية على وجود عموميات إدراكية وافرة. وليس من المشروع الاستناد إلى نسبية وصفية هزيلة عن الإدراك الحسي لتدعيم نسبية معيارية عريضة؛ نسبية تدَّعي أن ليس هناك طريقة واحدة صحيحة مُستقلة عن الإطار لإدراك الأشياء، وأنَّ هناك طرقًا عديدة كلها صحيحة بالنسبة للمنظومات المختلفة من المفاهيم والاعتقادات.

صحيح أن ليس هناك لغة مُعطيات حسِّية محضة مُحايدة، وأن هذه اللغة المحايدة هي محض وهم، غير أنَّ معظم الدلائل تُشير إلى أن العالم المألوف المكون من أشياء فيزيقية هو دائمًا محايد بما يكفي لأن يُتيح لنا اختبار نظرياتنا العلمية وأن يُتيح درجة مقبولة من التواصُل عبر الفواصل الثقافية. مثل هذه الدعاوى التجريبية (القابلة للتعديل بالطبع كلما ظهرت أدلة جديدة) لا تتعلق إلا بالنسبية الوصفية للإدراك في حالة الكائنات البشرية، فليس ما يمنع أن تكون هناك مخلوقات ذكية أخرى، وبخاصة إذا كانت مزوَّدة بآليات حسية مختلفة عن آلياتنا كل الاختلاف (مثل إدراك الموضع بالصدى،١٠٧ أو الحساسية الدقيقة للمجالات المغناطيسية … إلخ) تدرك العالم على أنحاء مختلفة عنا اختلافًا بعيدًا.
(١) «البنيان المعرفي والعموميات المعرفية Cognitive Architecture and Cognitive Universals»: إذا تبيَّن أن الاستعداد لاستخدام مفاهيم مركزية مُعينة (الشيء الفيزيقي، الشخص، السببية … إلخ) واعتناق اعتقادات مركزية معينة (بعض الأحداث له سبب، البشر لهم مقاصد … إلخ) وتبني نماذج استدلالية معينة (الاستقراء بالتعداد … إلخ) هو استعداد فطري، لكان ذلك شهادة ضدَّ النسبية الوصفية للمفاهيم والاعتقادات وأساليب الاستدلال.

هل الرضيع البشري يأتي إلى الوجود مزوَّدًا بهذه الاستعدادات؟

هذه مسألة إمبيريقية لا يبتُّ فيها غير البحث الإمبيريقي (التجريبي). غير أنَّ هناك دلائل مُتنامِية تُشير إلى أنه كذلك، وإلى أن هناك على الأقل بعض العموميات الهامة اللغوية والمعرفية (الإدراكية) والثقافية.

تأتي هذه الدلائل من حقول عديدة:
  • من حقل اللغويات: كشف تشومسكي عن وجود عموميات لغوية مفطورة innate linguistic universals جعلتنا نرى العُمق المُشترَك من تحت الفروق السطحية بين اللغات البشرية.
  • من حقل علم نفس النمو: تبيَّن أن الأطفال حديثي الولادة يأتون إلى العالم مزوَّدين بميولٍ غرزية قوية للإدراك والتفكير بطرائق مُعينة. في كتاب «ما وراء الوحدات الذهنية: الضوابط الفطرية والتغيُّر النمائي» تقول أنيت كارميلوف-سميث «لقد كانت وجهة نظر بياجيه عن الحالة المبدئية لذهن الطفل الحديث الولادة وجهةً خاطئة، فمن الواضح أن بعض جوانب العقل البشري هي مُحدَّدة فطريًّا منذ البداية، وبشيءٍ من التفصيل في أحوالٍ كثيرة. إن المعرفة محددة المجال أو «نوعية المجال» domin-specific بدايةً وتفرض ضوابط على التعلُّم اللاحق من خلال التفاعُل مع البيئة. وبوُسعنا أن ننظُر إلى النموِّ اللاحِق داخل إطارٍ «بنائي».» constructive.١٠٨
    تحت تأثير بياجيه، على سبيل المثال، أمضى علماء نفس النمو سنواتٍ طويلةً وهم يحسبون أن القُدرة الرياضية تبدأ في الظهور في أواخر مرحلة الرضاعة، حيث يُصبح بإمكان الرضيع أن يتمثَّل بذهنِه شيئًا غائبًا. لقد أثبتت الأبحاث المعاصرة بما لا يدع مجالًا للشكِّ أنه مع بلوغ الأطفال مُنتصف عامهم الأول، أي قبل أكثر من عام من تمكُّنهم من الاشتراك في مُحادثة بسيطة، يكون بمقدورهم أن يستجيبوا لفكرة العدد وأن يَعدُّوا مجموعاتٍ صغيرة من الأشياء. هناك بعض الخلاف حول كيفية مُعالجة العدد عند الأطفال في المرحلة قبل اللفظية، غير أن هناك أدلَّة على وجود جهاز إحصاء قبل-لفظي يعمل كأساسٍ مُشترك للنوع، أو مجموعة مبدئية من الضوابط تنبني عليه مختلف أنظمة العدِّ فيما بعد. يقدم هذا الجهاز البنية المبدئية الخام الشبيهة ﺑ «الموديولات» (الوحدات الذهنية) والتي يمكن عليها تشييد نسقٍ رياضي ثقافي أكثر تعقيدًا.١٠٩
  • من حقل الأنثروبولوجيا: تُشير بعض الدراسات في الأنثروبولوجيا المعرفية وعلم النفس الثقافي إلى وجود عموميات ثقافية على درجةٍ من التعقيد. تشمل هذه العموميات استخدام الأدوات، والتمييز بين الأدوار الجنسية، ووجود أساطير شارحة، والموسيقى والرقص، وتعبيرات وجهية مشتركة عن انفعالات معينة (مثل الابتسام عند الفرح). فإن صح وجود مجموعة ثرية ودقيقة من العموميات الإنسانية، أي وجود لبٍّ مُشترك للطبيعة البشرية، تكُن هذه حجةً قويةً تُحجِّم النسبية الوصفية فيما يتعلق بالكائنات البشرية.
    تتَّجِه دعاوى العموميات البشرية بخطابها إلى النسبية الوصفية بالدرجة الأساس (والخاصة بالكائنات الإنسانية فحسب). غير أنها قد تبرُز أيضًا بمعرِض الحديث عن المسائل المعيارية. فمن الأفكار الرائجة تلك الفكرة القائلة بأن التطوُّر يتخلَّص من الأنماط الجينية التي كوَّنت أشخاصًا يأخذون الأشياء مأخذًا خاطئًا، وأن عملية التطوُّر تُحبِّذ بنيانًا معرفيًّا يؤدي أساليب صحيحة معياريًّا من الإدراك والاستدلال؛ ومن ثم فإن مُجرَّد بقاء مفاهيم واعتقادات مُعينة في جنسنا البشري لهو دليلٌ على أنها أقرب إلى الصواب. وهكذا تحدَّث عالم النفس دونالد كمبل عن الانتخاب الطبيعي على أنه تَصديقٌ وتحقيقٌ للمقولات (التصنيفات الفئوية) categories.١١٠

    يعني ذلك أن البقاء دليل على الصواب، وأن الانتخاب الطبيعي يُوحِّد المعرفة البشرية وينفي الشوائب ويحذف الخطأ، ويفضل البنية البيولوجية التي تدرك إدراكًا صحيحًا. غير أن هذه الدعوى العريضة يُقابلها رأي مُضاد يقول بأن البقاء (الانتخاب) إنما هو للأكثر «تكيُّفًا» لا للأكثر «صدقًا». فالتصرف السريع مع احتمال الخطأ أضمَنُ من البطء مع الدقة. مثال ذلك أن تصنيف بعض الحيوانات المأمونة للتوِّ واللحظة على أنها من الضواري هو أضمن للبقاء من استنفاد وقتٍ أطول ابتغاء المعرفة الدقيقة؛ حيث تُشترى الدقة بثمنٍ باهظ هو احتمال الافتراس. البقاء إذن بحدِّ ذاته ليس دليلًا على الصواب الإدراكي.

    وبنبرةٍ أكثر عُمقًا يذهب كريستوفر ستيفنز إلى أنه في ظروف معينة يُضفي امتلاك آليات ثابتة لتكوين الاعتقاد ميزة انتخابية، بينما لا يُضفي هذه الميزة في ظروف أخرى. والعبرة دائمًا هي في تكوين آليات لاتخاذ القرار نعرف بها ماذا نتوقَّع ومتى. ومن المهم بالطبع أن نتذكر دائمًا أن التطوُّر يشتمل على قوى أكثر من مُجرَّد الانتخاب الطبيعي، وأن من الممكن أن تأتي قوى تطوُّرية مُضادَّة وغير انتخابية (مثل الانحدار الجيني والهجرة) فتكتسح تأثيرات الانتخاب حتى في الحالات التي يكون قد حبَّذ فيها امتلاكُ اعتقاداتٍ صادقة استخدامَ أنماط استدلالٍ شديدةِ الثبات.

(٢) «الواقعية الدلالية Semantic Realism»:
  • الإشارة والنسبية: الإشارة (الإحالة) reference (أو المعنى الإشاري أو الحقيقي denotation) هي صنف ذو أهمية خاصة من أصناف المعنى. تُعدُّ الإشارة علاقة بين التعبيرات اللغوية من جهةٍ وبين الأشياء (أو الخواص) في العالم من جهة أخرى. ويُطلَق على الشيء أو الخاصة التي يُشير إليها تعبير لغوي ما «المشار إليه» أو «المرجع» referent.
    يُنظر إلى الإشارة أحيانًا على أنها تُقدِّم طريقًا للخروج من لُغةِ جماعةٍ ما أو مفاهيمها أو اعتقاداتها. وفي معرض نقد دعوى «اللامقايسة» incommensurability في فلسفة العلم كان كثير من خصومها الأوائل يُحاجُّون دعاتها بأنه مِثلما يمكن أن يكون لشاهِدَين في قاعة مَحكمةٍ اعتقادان مُختلفان عن شخصٍ واحد (المتهم) بينما يظلُّ الاثنان يُشيران «إليه»، كذلك من الممكن لعالِمين أن يكون لهما اعتقادان مُختلفان عن «الكتلة» أو «الجينات» دون أن تتغيَّر الإشارة إلى «الكتلة» أو «الجين» على الإطلاق.

    كذلك قد يكون لأعضاء ثقافتَين مُختلفتين كلمتان أو تعبيران يُشيران إلى نفس الصنف من الأشياء (الأرانب مثلًا) أو إلى نفس الشيء المحدد (مثل ذلك الأرنب بجانب شجرة الدردار). «المرجع» إذن (أو «المُشار إليه») يُمكن أن يكون قاسمًا مُشتركًا بين اللغات المختلفة، وأن يسمح للجماعات المختلفة أن تخرج من أُطرها المختلفة وأن يتحدَّث بعضها إلى بعض عن عالمٍ موضوعي مُشترك.

    وكثيرًا ما يَرُدُّ أنصار «اللامقايسة» بأن المعنى الإشاري (الحقيقي) للتعبير اللغوي يتحدَّد بمكانه في نظريةٍ كلية أو شبكة من الاعتقادات، وهو ردٌّ يستنِد إلى ما يُسمِّيه فلاسفة اللغة «النظريات الوصفية للإشارة» descriptive theories of reference، والتي تقول إنَّ المعنى الحقيقي (الإشاري) تُحدِّده الأوصاف أو مضامين الاعتقادات التي تُشكِّل معنى الكلمة أو «مفهومها» intension أو «مفادها» (مغزاها) sense. غَير أنَّ النظريات الوصفية قد تلقَّت ضربةً مُضنية من جانب دعاة «النظريات المُباشرة في الإشارة» التي تقول بالاتصال المباشر بين الألفاظ (والمفاهيم) وبين معانيها الإشارية دون وساطة كوكبة من الأوصاف. وعليه فمِن الحصافة أن يعترِف دُعاة النِّسبية السيمانتية بأنَّ الإشارة هي شيءٌ مُباشر وأن يتذرَّعوا بأنها تُشير إلى أشياء في عالمٍ منسوبٍ إلى إطارٍ مُعين ومحمول عليه.
  • الأفلاطونية والنِّسبية: «الأفلاطونية» Platonism هي فصيلة من الآراء اكتسبت اسمها لاشتمالها على كيانات (من قبيل القضايا، والخواص، والمجموعات) يُعتقد أنها، شأنها شأن «الصور الأفلاطونية» forms، مُجرَّدة وثابتة وموجودة خارج المكان والزمان. فقد ذهب أفلاطون قديمًا إلى أنَّ هناك عالمًا قائمًا بذاته من الحقائق المُستقلَّة عن الذهن والنفس والمادة، ويشمل هذا العالم جميع الكيانات الرياضية (كالأعداد والمُثلَّثات … إلخ) وجميع المفاهيم العقلية (كالمفهوم العقلي للأحمر، والمفهوم العقلي للمائدة … إلخ) ويُسمَّى هذا العالم أحيانًا عالم «المُثُل» أو «الأفكار» ideas. ويرى أفلاطون أن حواسَّنا لا تُغني شيئًا في معرفة هذا العالم وأنه لا سبيل لنا إلى معرفته إلا بالرؤية العقلية الخالصة المُبرأة من زيغ الحواس وتشتيتها.١١١

    وفي كثير من المداخل الأفلاطونية تُعبِّر المفاهيم عن خواص مجرَّدة وتعدُّ الاعتقادات علاقاتٍ بين الأشخاص وبين القضايا المُجرَّدة. يومئ ذلك إلى طريق يتفادى بعض ضروب النسبية ما دام بإمكان الناس من شتَّى الثقافات أن يعتقدوا نفس الاعتقادات (لأن بإمكانهم أن يعتقدوا نفس القضايا المُجرَّدة)، ولن يكون اعتقادٌ ما صادقًا إلَّا إذا كانت القضية الثابتة التي يُعبِّر عنها صادقة.

    قد يرُدُّ النسبي بأن التوجُّهات الأفلاطونية تُفضي إلى مصاعب شديدة في الإبستمولوجيا والدلالة؛ ذلك أنَّنا كائنات فيزيقية تعيش في عالم مكاني زماني وليس بإمكاننا أن نتفاعل سببيًّا (أو بأي طريقة أخرى يُمكن إدراكها) مع أشياء مُجرَّدة خاملة سببيًّا، كما أننا لا نعرِف أحدًا يعي أنَّ لدَيه أي قُدرة معرفية خاصَّة تجعله على اتصالٍ بعالمٍ لازماني من الأشياء المجردة. ولم يكتشف علماء الأعصاب أيَّ جزءٍ من الدماغ يؤدي مثل هذه القدرة. ولسنا نعرف بين طرق الأطفال في اكتساب المفاهيم والاعتقادات ما يُومئ إلى مثل هذه الوجهة من الرأي. ولا يُوجَد في علم الفيزياء ما يُشير إلى أي طريقة يُمكن بها لنظامٍ فيزيقي (الدماغ) أن يتَّصِل أيَّ اتصالٍ بأشياء لا مادية خاملة عِلِّيًّا. وفضلًا عن ذلك، فإذا لم يكن بمقدور عقولنا أن تعقد صلةً إبستيمية بمثل هذه الأشياء فكيف يُمكن لألفاظنا وممارساتنا اللغوية أن تتَّصِل إبستيميًّا بها؟

    على أن كل هذه الحُجَج لا تُثبِت أن القضايا المُجرَّدة غير موجودة، بل تُظهر فحسب أن وجودها أمر غير واضح. غير أنه لم يدُرْ جدلٌ يُذكر بين النسبيين والأفلاطونيين حول هذه المسائل؛ ربما لأن التَّوجُّهين هما من التباعُد بحيث يصعُب على أنصارهما أن يلتقيَ الواحد منهم بالآخر.

(٤-٣) مشكلة التوسط Mediation: المفاهيم ليست حِجابًا

من الحُجج الشائعة لفصائل عديدة من النسبية، شاملة نِسبية قيمة الصدق ونسبية الواقع، حُجَّة تدور على ما يُمكن أن نُسمِّيه «مشكلة التوسط» the mediation problem. تتَّخِذ هذه الحجة أشكالًا مُتنوعة، غير أن فكرتها الأساسية تمضي هكذا: نحن مُرتهنون داخل تصوُّراتنا أو اعتقاداتنا أو معاييرنا الإبستيمية، ومُرتهنون داخل أطرنا بطريقةٍ تحول دون أن نفحصها لنرى ما إذا كانت تنطبق على الواقع. أنا حبيس مفاهيمي ولغتي، تقِف تصوراتي وأفكاري حجابًا بيني وبين العالم «القائم هناك»، ولستُ مُوقنًا بما إذا كان هناك في الواقع ما يُناظر أفكاري الخاصَّة عنه، بل إنني لا أملك أن أفكر بدون مفاهيم (أو أتحدَّث بدون ألفاظ). ومن ثَمَّ فنحن لا نملك أن نخرُج من تصوُّراتنا (أو كلماتنا) لكي نُقيِّم مدى انطباقها مع العالم كما هو في الواقع وبمعزلٍ عن اللغة والفكر.

وقد مضى الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي بهذه الفكرة إلى مداها، فذهب إلى أن ليس هناك شيء من قبيل الحقيقة الموضوعية الخالصة، وليس لدَينا أي منفذ إلى أي حقيقة بمعزِل عن اللغة؛ ذلك أن فكرة الحقيقة الموضوعية الخالصة المستقلة عن أي وصفٍ لغوي هي فكرة مُستحيلة؛ لأن هذه الفكرة ذاتها لا يمكن أن تقوم إلا داخل أداءٍ لغوي مُعين. إنَّ حديثنا عن الواقع هو دائمًا حديث عن «واقع تحت وصفٍ ما»، وكل حقيقة يمكننا امتلاكها إنما هي حقيقة في ثوبٍ لغوي، حقيقة مرتهنة لوصفها ذاته ومُتأثرة بالتالي بسماتِ اللغة الواصفة وأحكامها وضوابطها. إنما نحن سجناء الإطار ولا وجه للحديث عن أيِّ شيءٍ مُستقل عن الإطار.

غير أن خصم النسبية يُمكنه أن يردَّ على هذه الحُجَّة بأن تصوراتنا، في الأحوال المُعتادة، ليست حجابًا بل هي التي تُتيح لنا أن نتعرَّف على الأشياء ونتعقَّلها. مثال ذلك أن مفهوم «كلب» يُتيح لي أن أتعرف على أفراد الكلاب وأميزها وأفكِّر عنها، ولكنه لا يقِف بيني وبين كلبي. بوسعي في الأحوال العادية أن أنظر فحسب فأرى أنَّ هناك كلبًا أمامي.

نعم من الممكن وجود أُطر مُختلفة من المفاهيم، وصحيح أنَّ من المُحال علينا أن نتحدث بدون لغة أو بدون مفاهيم، ولكن ما أن تستوي لدينا ذخيرةٌ من المفاهيم أو التصوُّرات حتى تكون الحقيقة في الأغلب واضحةً وموضوعية تمامًا. وما دُمنا لا نُصرُّ على وجود روايةٍ واحدة صادقة عن العالم مروية وفق معجم صحيح واحد من المفاهيم، فليس يلزمنا أن نتحقَّق مِمَّا إذا كانت مفاهيمنا هي تلك المفاهيم الصحيحة، وإنما يلزمنا أن نتحقَّق ممَّا إذا كانت اعتقاداتنا أو عباراتنا (في إطار مفاهيمنا أو ألفاظنا) صادقة. وليس من الضروري أن نذهب إلى «منفًى كوني محايد» أو أن نعثُر على «نقطة أرشيميدية» خارج كلِّ اللغة والفكر من أجل أن نفعل ذلك. إنه شيء نفعله في كلِّ وقت، شيء صحيح من موقعنا الحالي. فبمجرَّد أن يتكوَّن لديَّ مفهوم الكلب، على سبيل المثال، يكون من الحقِّ والصدق، حقًّا وصدقًا واضحًا لا إشكال فيه في أغلب الأحيان، أنَّ هناك كلبًا في الزاوية!

(٤-٤) الدحض الذاتي Self-Refutation

«الصدق» truth هو نقطة ضعف النسبية، هو مَقتلُها و«كعب أخيلها»،١١٢ فوفقًا للصِّيغة المعيارية المُتطرِّفة من «نسبية قِيمة الصدق» يُمكن للشيء عينه أن يكون صادقًا بالنسبة لإطارٍ مُعين وكاذبًا بالنسبة لإطارٍ آخر، أو أن يكون حقًّا بالنسبة لجماعات مُعينة وباطلًا بالنسبة لجماعات أخرى. ومنذ قدَّم أفلاطون تفنيده لهذه الصورة من النسبية في مُحاورة ثياتيتوس انعقد رأيُ كثيرٍ من الفلاسفة على أن هذه النسبية «مُتناقِضة ذاتيًّا» self-contradictory أو «داحضة لذاتها» self-refuting. تُعدُّ حجة أفلاطون بمثابة «قلبٍ للطاولة»! إنه يقلِب الخطَّ الاستدلالي لداعية النسبية، لكي يُبيِّن أن حُجته تخضع للنسبية ذاتها التي تدافع عنها. هكذا يُؤتى النِّسبي من مأمنه ويَشرَق بريقِهِ وينقلب سهمه إلى نحره. إنَّ النِّسبيِّين دائمًا عُرضة لخطرٍ مِهني هو نشْر الغُصن نفسه الذي يجلسون عليه! أما في حالة نسبية قِيمة الصدق فيبدو أنهم يقطعون الشجرة برمَّتها!
يُمثل «الدَّحض الذاتي» مشكلة عامَّة تنال جميع صور النسبية سواء كان الصدق منسوبًا إلى إطار المفاهيم أو إلى الاعتقادات أو المعايير أو المُمارسات، ويشمل الدعاوى العريضة على نسبية المعايير الإبستيمية. فإذا ادَّعى النِّسبي أنَّ كلَّ تبرير أو عقلانية إنما هي منسوبة لإطارٍ مُعين فإنه يُعرِّض نفسه لردٍّ «من جنس الدعوى نفسها»؛ أي أن دعواه ذاتها هي في أفضل الأحوال مُبرَّرة بالنسبة لإطاره الخاص، ومعقولة بالنسبة لمعاييره الخاصة، وأنها «تشييد اجتماعي» social construction ككلِّ شيء آخر مِثلما يقول النِّسبي ويُلحُّ في قوله.

تمضي حُجَّة أفلاطون ضدَّ الصيغة المُتطرفة من «نسبية قِيمة الصدق» هكذا:

إما أنَّ دعوى نسبية الصدق هي دعوى صادقة صدقًا مُطلقًا (أي صادقة بمعنًى غير نِسبي) وإما أنها صادقة بالنسبة لإطارٍ مُعيَّن فحسب. فإذا كانت صادقة صدقًا مُطلقًا إذن فهناك على الأقلِّ حقيقة واحدة صدقها غير نسبي (ليست مجرد حقيقة صادقة بالنسبة لإطارٍ معين)، وهو تناقُض أو عدم اتِّساق (وإذا استثنينا دعوى النِّسبي فعلى أيِّ أساسٍ نمنع بقية الاستثناءات؟!) وإذا كانت دعوى نسبية الصدق صادقة بالنسبة لإطارٍ مُعين فحسْب، فإنها إذن كاذبة في أطرٍ أخرى ليست أقلَّ وجاهة. (وليس ثمَّةَ ما يُلزمنا بإطار داعية النسبية دون غيره، فلعله إطارٌ مُغرقٌ في الذاتية أو ضِيق الأفق!)

(٥) نسبيَّات مُجهَضة

الاستبصارات الثقافية الثلاثة
ثمَّة بصائر ثلاث تقوم عليها النسبية المُعاصرة وإن أتت عند أصحابها الأصليين مشفوعةً بترياقٍ مُضاد للنسبية! لقد ألمحوا إلى شيءٍ نِسبيٍّ ثم أوقفوا الاندفاع نحوه، وسدُّوا الطريق دونه. أو لنقل، بتعبيرٍ أدق، إنهم أضاءوا حقيقةً مُعينةً تُغري العقول بالتسرُّع إلى استنباط نتائج نسبيةٍ منها، غير أنهم ما لبثوا أن أغلقوا هذا الطريق الاستنباطي بأن أضافوا إلى المُقدِّمات حقيقةً أخرى من شأنها أن تجعل النتائج النسبية مُمتنِعة:
  • (١)
    الاستبصار الأنثروبولوجي Anthropological Insight: ومفاده أنَّ هناك بالفعل ثقافات مُتباينة.
  • (٢)
    الاستبصار البنائي Constructivist Insight: ومفاده أن ملامح العالم كما نُدركه ونخبُره تُحدِّده الثقافة.
  • (٣)
    الاستبصار السيمانتي (الدلالي) Semantic Insight: ومفاده أن معاني الأنساق الرمزية تُحدِّدها الثقافة.

(٥-١) الاستبصار الأنثروبولوجي (أرسطو)

في معرض حديثه عن نُظم الحكم بين أرسطو أنَّ هناك تنوُّعًا هائلًا من الأنظمة السياسية القائمة بالفعل، فهناك النظام الملكي والأرستقراطي والطغيان والأيجاركية والديموقراطية ودولة المدينة. وهناك عدد كبير من الصور المزجية من أيٍّ من هذه النُّظم الستة. فهل يُفضي بنا ذلك إلى نسبية سياسية؟ يُجيب أرسطو بالنفي؛ وذلك لأنَّ هناك نظامًا واحدًا، وواحدًا فقط، من بين هذه النظم هو الصحيح أخلاقيًّا، وهو عند أرسطو «دولة المدينة» polis. إنه النظام الصحيح أخلاقيًّا لأنه النظام الذي فيه يُمكن أن تتحقَّق طبيعة «الإنسان» تحقُّقًا كاملًا، فهو نظام يحفظ للمواطن شخصيته ولا يُذيبها. ومن هنا يُعدُّ هو النظام الأفضل بالمعيار الأخلاقي وليس المعيار البراجماتي. من مآثر نظام «دولة المدينة» أنه يفتح المجال لمواطنيه لتنمية الفضيلة ولا ينصرف إلى مجرَّد حماية المصالح المادية لمواطنين مُجتهدين.
في كتاب «السياسة» Politics، الجزء الثالث، الفصل التاسع، يعرِض أرسطو للمعايير التي تُميِّز «الدولة» مثل «ذلك النظام الذي يُحقِّق الأمان من الظلم»، أو «ذلك النظام الذي يضمَن التبادُل التجاري»، ويُبيِّن أرسطو قصور هذه المعايير، ويخلُص إلى أنه: «يُوجَد المجتمع السياسي من أجل الأفعال النبيلة لا من أجل مُجرَّد الاجتماع أو الرفقة.» ولكن ماذا لو كانت هناك صور كثيرة للحكومة؟ يقول أرسطو إذا كانت فضيلة المواطن وفضيلة «الإنسان الصالح» مُختلفتَين فلا بدَّ أن تكون فضيلة المواطن نسبية تتوقَّف على الدستور الذي يشمله كعضوٍ فيه. ومن ثم فليست هناك فضيلة واحدة للمواطن الصالح تُعدُّ هي الفضيلة الكاملة، بعكس فضيلة «الإنسان الصالح». يفيد الاستبصار الأنثروبولوجي، وهو نتيجة الدراسات المقارنة، أنه في بعض الحكومات يكون «الإنسان الصالح» و«المواطن الصالح» شيئًا واحدًا، وفي بعضها الآخر يكون شيئًا مُختلفًا. فإن كان الإنسان والمواطن شيئًا واحدًا تكن هذه هي دولة المدينة الحقيقية؛ وذلك لأنَّ في دولة المدينة تُوجَد الحكومة لكي تخلُق البشر الفاضلين. تتَّصِف الطبيعة العُليا للإنسان بامتلاك العقل، وهذا لا تُمكن مُمارسته إلا في دولة المدينة، من خلال الحياة في ظل القانون، أي الحياة التي تُدار وفقًا للعقل ويُوكَل أمرها لا إلى نزوات أفرادٍ في السلطة بل إلى أوامر عُليا، إلى القوانين بوصفها أحكامًا وقضايا. تُقدِّم دولة المدينة نموذجًا مثاليًّا أو معياريًّا للفضيلة السياسية المُتَّصلة بماهية الإنسان، أي العقل.

تعميم الاستِبصار الأنثروبولوجي

يُمكن أن ننظر إلى استبصار أرسطو بوجود أساليب عديدة لتنظيم الحكومة على أنه حالة خاصة من دعوى التعدُّد الثقافي التي يمكن أن تمضي هكذا: ثمَّةَ عددٌ لا يُحصى من اللُّغات المُتمايزة ومصاحباتها من الممارسات القولية والمادية تُشكِّل ثقافة مُتمايزة. ثمَّةَ استنتاجان يُمكن استخلاصهما من هذه المُلاحظة الإمبيريقية: الأول: يذهب إلى أنه ليس هناك ثقافة عالمية في واقع الأمر، وهو استنتاج ما يزال مُتساوِقًا مع فكرة وضع مراتِب لشتَّى صور الحياة وفقًا لقيمةٍ مُطلقةٍ ما. غير أنَّ هناك أيضًا استدلالًا ثانيًا يُمثل دعوى نسبية مُتطرفة يقول بأنه لا سبيل إلى وضع مراتب للثقافات القائمة وفقًا لقيمة مُطلَقة.

(٥-٢) الاستبصار البنائي «كانْت»

ذهب إمانويل كانْت إلى أن المعرفة وإن كانت تستمدُّ مادتها الخام من التجربة (الحدوس/العيانات الحسية) إلا أنها تشكَّل وفق المبادئ العامة للعقل، أي «المقولات» categories التي يُضفيها الذهن من عنده من أجل تشكيل التجربة في صورة معرفة. ولما كانت المعرفة تتَّخِذ صورة الأحكام (القضايا) فلا بدَّ أن تكون هذه المقولات مُرتبطة بصورة الأحكام. استنبط كانْت قائمة مقولاته على أسس شكلية، ثمَّ انتقل إلى إثبات أن من المحال بدون المقولات قيام أيةِ تجربة يُمكن نقلها للآخرين. أما عن المكان والزمان فهما إطاران ذاتيَّان «قَبْليَّان» للحساسية ينتميان إلى الحدس الخالص للعالم الخارجي والداخلي على التوالي، وبدونهما أيضًا تستحيل التجربة. وفي هذه الناحية يكون المكان والزمان مُشابهين للمقولات. وهكذا فإن التجربة تتشكل بتصوراتٍ «قبلية» a pirori.
العالم كما نعرفه، إذن، هو «تشييد/بناء» construction عقلي يُسبِغُ النظامَ على فوضى العيانات الحسية، والنظام المكاني والزماني والسببي هو بالتالي انعكاس للبنية المنطقية للصُّور الممكنة للحكم. وبذلك يكون الاستبصار البنائي الكانتي مُقيدًا قبليًّا بفرادة مجموعة صور الأحكام.

هل يؤدِّي ذلك إلى النسبية؟

بالطبع لا، ما دام هناك نسَق واحد، وواحد فقط، من صور الأحكام يتجلى في بنية الخبرة الإمبيريقية، وضرب قَبْلي واحد فقط من ضروب القياس المكاني والزماني يتجلى في أشكال الحدس. لق كان استبصار كانْت قَمينًا أن يؤدي إلى القول بالنسبية الإبستيمية والأنطولوجية، أي القول بوجود أنساقٍ تصوُّرية لا حصر لها يؤدي كل منها، عند تطبيقه على فوضى الخبرة، إلى خلق عالمٍ فريد تجيء معرفته انعكاسًا لذلك النسَق، لولا أن كانْت أغلق هذا المجال بقوله بفرادة صور الأحكام.

وجدير بالذكر أنَّ كثيرًا من المفكرين بعد كانْت قد أخذوا باستبصاره دون أن يَشفعوه بفرادة المقولات والأحكام وثباتها وضرورتها وعموميتها (أي شمولها لجميع الكائنات المُدركة). لقد وافقوا كانْت في دعواه بأن تصوُّرات المرء واعتقاداته المركزية تلعب دورًا كبيرًا في تشييد العالم كما يُدركه ويعرفه، غير أنهم أردفوا أنَّ من الممكن في ذلك استخدام أُطرٍ مُختلفة من التصوُّرات والاعتقادات. فالأحقاب التاريخية والثقافات المُختلفة لديها أطرٌ مختلفة من التصورات والاعتقادات والمعايير، الأمر الذي يؤدي بأعضائها إلى أن يُشيِّدوا عوالمهم على أنحاء مختلفة. من هؤلاء المُفكرين الذين وافقوا كانْت في الشطر البنائي وخالفوه في شطر الثبات والضرورة؛ وليم جيمس، وهانز ريشنباخ، وإرنست كاسيرر، وكولنجوود، ورودولف كارنب. وإنه لمن المُفارقات الساخرة أن كانْت — رأس الموضوعية وبطل التنوير الذي لا يأتلِف فكره بحالٍ مع أيِّ نزعة نسبية — قد أدخل فكرةً صارت تلعب دورًا محوريًّا في كثيرٍ من حُجَج النسبية، بما في ذلك «نسبية الواقع» وهي أشدُّ صور النسبية غلوًّا وتطرُّفًا.

(٥-٣) الاستبصار السيمانتي/الدلالي (فتجنشتين)

يذهب فتجنشتين إلى أن معنى الألفاظ والإيماءات … إلخ، غير الأشياء التي تدلُّ عليها الألفاظ أو الإيماءات. إن للألفاظ والإيماءات معنًى فحسب بقدْر ما يكون لها استخدام مضبوط معياريًّا داخل مُمارسة حياتية إنسانية بعينها. ومن غير الممكن تثبيت معاني الكلمات بواسطة الإحالة إلى قاعدة أو أساس يتمثل في مجموعة ثابتة من الأشياء، حتى لو كانت مثل هذه المجموعة من الأشياء موجودة. يُطلِق فتجنشتين على قواعد استخدام الألفاظ، أو الضوابط المعيارية التي يخضع لها استخدام الألفاظ — اسم «أجرومية» (نحو) grammar. ولكي يتسنَّى لأعضاء مُجتمعٍ ما أن ينخرطوا في حديث مُشترك فلا بدَّ لهم من أن يتَّفِقوا على الطريقة التي يستخدمون بها الألفاظ، أي لا بدَّ لهم من أن يتَّفِقوا على أجرومِيَّتهم الخاصة. غير أنَّ الأجروميات هي بناءات بشرية وليست نظريات علمية عُليا عن العالم. قد يبدو إذن أنَّ البشر يختارون أجروميتهم كما يشاءون وأن الأجروميات «لها استقلالها الخاص»، فهل يقود ذلك إلى النسبية؟ كلا؛ لأن فتجنشتين قد أغلق السبيل دون ذلك في «أبحاث فلسفية».

في «أبحاث فلسفية» ذهب فتجنشتين إلى أنه ليس يكفي أن يتَّفق الناس في صور الحياة، أو في الأجرومية التي يستخدمونها، بل ينبغي أن يتَّفِقوا أيضًا في الأحكام، أي في وقائع حياتهم كما يَرونها، فأيًّا من كُنَّا، وأيًّا ما كان النسق الرمزي الذي اختَرْنا أن نستخدمه، فنحن عشيرة من البشر تحتال من أجل العيش في هذا العالم بهذا التكوين الفطري وهذه الجبلَّة الموروثة. والأجروميات لا يُمكن أن يتمَّ اختيارها كيفما اتَّفَق. صحيح أنه ليس هناك أساس واحد يتعيَّن أن تقوم عليه مجموعة واحدة لا غير من المعايير السيمانتية، إلَّا أنَّ الممارسات الرمزية المُمكنة على تنوُّعها محكومة بضوابط الطبيعة. إنها ليست مُقيَّدة فحسب بحقيقة أنَّ الاختيار السيئ لطريقة الحديث عن النظريات قد يُفضي إلى الموت بالتسمُّم، بل مُقيدة أيضًا بضرورة وجود تعبيرات طبيعية مُعينة عما نشعُر به على سبيل المثال، وضرورة وجود قُدرات طبيعية مُعينة يُمكن أن نفيد منها في وتيرة التدريب الأساسي التي تجعل اكتساب أي لغةٍ على الإطلاق أمرًا مُمكنًا.

اتَّخَذ بعض الفلاسفة استبصار فتجنشتين (أي: أجرومِيَّات صور الحياة ليست شيئًا ثابتًا تُرسِّخه خصائص العالم وحاله التي هو عليها) كنقطة انطلاق لحجةٍ تُفضي إلى نِسبية جِذربة للمعاني (نسبية سيمانتية)، وإن كان فتجنشتين نفسه لم يخلُص إلى هذه النتيجة؛ ذلك أن كل ثقافة أو لغة أو صورة حياة لا بدَّ أن تتأصَّل في الشروط المادية لوجودنا وتجسُّدنا في هذا العالم بالذات. ويستخدم فتجنشتين استعارة قاع النهر الذي يتحوَّل ببطءٍ لكي يُعبِّر عن «مذهب الأسس» foundationalism المُعتدل الذي أخذ به فيما يتعلق بصور الحياة القبلية التي تبزُغ وتزدهر وتنحطُّ داخل حدود صورة الحياة الإنسانية المشتركة. صحيح أن هناك تغيرات تجري ولكن المعنى لا يمكن أن يكون سريع التقلُّب بحيث يُهدِّد ديمومة الثقافة في الحياة اليومية ويُعرضها للخطر.

(٦) قيام الأنثروبولوجيا

شاهد إثباتٍ أم شاهد نفي؟!

من عجيب المُفارقات وساخر المُصادفات أن المذهب النسبي بصفةٍ عامة يستنِد إلى كشوف علم الأنثروبولوجيا الحديث، بينما يُمثل قيام هذا العلم نفسه وإمكان تأسيسه أصلًا، أول شاهد ضد النسبية؛ فلو صحَّ أن الفجوة الثقافية بين الجماعات هائلة ومستحيلة العبور لَمَا أمكن قيام الأنثروبولوجيا من الأصل، وما كان هناك معنى لأن نحاول إنشاء مثل هذا العلم. إذا كانت الجماعات المُختلفة تعيش داخل أنساقٍ رمزية مختلفة ومنفصلة ومُسيَّجة لتعذَّر علينا الخروج من نَسَقنا الخاص والدخول في نسَقٍ مُغاير بهدف الفهم والبحث المُقارن و… «المقايسة».

(٦-١) اللامقايسة

يفيد مبدأ «اللامقايسة» incommensurabiliy، الذي قال به كُون وفييرابند، بامتناع المُقارنة، أو المُفاضَلة، بين نظريَّتَين مُتتاليتَين في تاريخ العلم، أو بين مجالين مختلفين من مجالات الخطاب (مُتضمنةً الأُطُر التصوُّرية المختلفة للثقافات المختلفة كما تتجسَّد في لُغاتها وممارساتها … إلخ) لامتناع عرضها على محَكَّاتٍ مُشتركة وتحكيم مقاييس مُوحَّدة في شأنها والموازنة بينها بموازين موضوعية عامة. وبحسْب مبدأ «اللامقايسة» فإنَّ العبارات الخاصة بمجالٍ مُعينٍ من مجالات الخطاب لا تعود لها معنى حين تُقحَم في مجالٍ آخر. وقد استخدم كلٌّ من كُون وفييرابند مفهوم «اللامقايسة» لكي يقوِّض التصوُّر الوضعي عن تقدُّم العلم كعملية خطية من التراكُم المعرفي، ويُثبت أنَّ تقدُّم العلم ليس مُتصلًا صاعدًا وإنما يُمثِّل انفصالاتٍ وقطائع.

يرتبط مفهوم «اللامقايسة» عند «كون» ارتباطًا وثيقًا بمفهوم «النموذج الشارح» (البارادايم)، فالعبارات التي تندرج داخل نموذجٍ ما لا يعود لها معنى حين تُدرَج في نموذج مختلف، ولا يعود من الممكن تأويلها تأويلًا مُترابطًا داخل نموذجٍ مُنافِس. وفي المجال الذي يَعنينا هنا — أي التأمُّل الأنثروبولوجي — سوف نُوحِّد بين البارادايم وبين السياق الثقافي؛ ذلك السياق الذي يُمثل الموضع الذي يتمُّ فيه التشييد الاجتماعي للمعنى.

ذهب «كون» إلى أن «النماذج الإرشادية (الشارحة) paradigms» تُخبر العلماء أي ضروب من الكيانات تقطُن العالم، وأي ضروب من السلوك تتَّخِذها هذه الكيانات، وفي الوقت نفسه تُوعِز النماذج للعلماء بالأسئلة التي يمكن أن يطرحوها على الطبيعة وبالتقنيات التي يمكن أن يستخدموها بحثًا عن إجابات هذه الأسئلة. تنطوي النماذج على «جشطلت» (صورة كلية) Gestalt أو إدراك مُعين للعالم مُرتبط بتلك اللغة التي تصِفه، ومطمور فيها بشكلٍ لا محالة منه وضرورة يتعذَّر اجتنابها. ومن ثَمَّ فإن التحوُّل من نموذجٍ إلى آخر لا يمكن أن يتمَّ بالاشتقاق، وإنما يتمُّ بعملية «ثورة علمية» scientific revolution. ومع تغيُّر البارادايم يتغيَّر العالم نفسه. وبعد قيام الثورات العلمية يرى العلماء أشياء جديدةً ومختلفة عندما يستخدمون نفس الأدوات وينظرون إلى نفس الأشياء التي كانوا ينظرون إليها فيما سبق.
التحوُّل إذن بين النماذج غير مُسيرٍ بالمنطق، والنتيجة التي يسفر عنها هذا التحوُّل هي تعديل في الطريقة التي تربط الجهاز النظري لدى البشر بالطبيعة، وإعادة تعريف هذه الرابطة بحيث يُصبح إدراكهم للواقع إدراكًا مُختلفًا. يُفضي تغيُّر النموذج الإرشادي إلى تغيُّر المخطط التصوري؛ ذلك أنَّ الأمر ينطوي على تغيُّر في المعايير العقلانية التي تحكم تطوُّر العمل العلمي، وعلى تعديلٍ في تلك القِيَم والاعتقادات التي تقوم عليها هذه المعايير. ليس ثمَّةَ ضمان موضوعي يُقدِّم مقارنة بين النماذج، والانتقال بين النماذج، ما دامت هناك «لا مقايسة» بين مُصطلحاتها ومفاهيمها. لا يُمكن أن يتمَّ إلَّا بنوعٍ من «الردة» أو «التحوُّل العقائدي الحاسم» conversion.
بوسعنا أن نتبيَّن هذه الدعوى بوضوحٍ حين نأخُذ باعتبارنا فرضية أساسية تقوم عليها: ليس ثمَّةَ شيء من قبيل اللغة المُحايدة للخبرة، فالمُلاحظة لا تنتظِمها لغة تصِلنا بالخبرة صِلة مباشرة، إنما تعتمد اللغة على النظرية التي تنتمي إليها وتتشكَّل بها. ومن هنا تتعذَّر مقارنة نظريَّتَين مُختلفتين، ويدعم كُون استنتاجاته إذ يهيب بسيكولوجية الإدراك، مُشيرًا إلى أنَّ الإدراك الحسي يعتمِد على الإشراطات السابقة، الأمر الذي يجعل من الممكن لشخصَين مُختلفين أن يَرَيا شيئين مُختلِفَين رغم أنهما يَتلقَّيان نفس المنبِّه، هكذا يتدخل «التعلُّم» learning في عملية الإدراك الحسِّي ويتحكَّم في طريقة فهمِنا للعالم.
يخلُص كُون إلى أن أولئك الذين يضعون نظريات غير قابلة للمُقايسة لن يسَعَهم أن يتواصلوا فيما بينهم حول هذه النظريات. ليس هذا فحسب، بل إنهم لن يكون بإمكانهم حتى أن يُبرِّروا اختلافهم. يقول كُون إن الأشخاص الذين يقفون في نفس المكان وينظرون في نفس الاتجاه يتلقَّون بالضرورة نفس المُنبِّه، غير أن ما «يرونه» ليس المُنبِّه بل «الإحساس».١١٣ وفي المسافة الفاصلة بين المُنبِّه والإحساس ثمَّةَ نوع من التكييف/التشريط conditioning يضطلع به التعلُّم السابق، بحيث إن أولئك الأشخاص الذين ينشئون في مجتمعاتٍ مختلفة سوف يَمضون في حياتهم كما لو كانوا يُشاهدون أشياء مُختلفة. يعني ذلك أن من الممكن وجود خطابات مختلفة عن الواقع رغم أن مُخططًا تصوريًّا واحدًا قد يبقى ثابتًا مُتنقِّلًا من جيلٍ إلى جيل. ترتبط هذه النسبية التصوُّرية ارتباطًا وثيقًا بالنسبية الثقافية ما دامت المشاركة في التعلُّم لا تعدو أن تكون المشاركة في الاهتمامات وفي اللغة وفي الثقافة. ويرى النسبيون أنَّ لآليات الإدراك الحسي قيمة بيولوجية كبيرة؛ ذلك أنَّنا نتناقَل فيما بيننا أساليب الرؤية التي ثبَتَتْ فعاليتها في تنظيم سلوك الجماعة بشكلٍ إيجابي والتي مهَّدَت السبيل لهذا النظام لأنها تقدِّم تكيُّفًا أفضل مع البيئة.

إذا كانت عملية تعلُّم الإدراك الحسِّي عملية اجتماعية تخصُّ كل جماعة على حدة، نكون الآن بصدد موقفٍ شبيهٍ بما يحدُث في المناقشات العلمية قُبيل الثورات العلمية. ثمة صعوبات كُبرى تُواجهنا حين نُحاول تأصيل التواصُل مع ثقافة مختلفة وتفهُّمها وتأويلها، فاللامُقايسة القابِعة بين اللغات التي تُمثِّل مداخل مختلفة إلى الواقع تحُول بيننا وبين قيام أيِّ نوع من «الحوار» مع الثقافات الأخرى، وإذ يمتنع الحوار فإنَّ توماس كُون يرى أن كل ما بوسع الأطراف أن تفعله هو أن يدركوا أنهم أعضاء مُجتمعات مختلفة ذات لغات مُتباينة، ثم يُصبحوا مُترجمين.

يُواجِه الأنثروبولوجيون هذه الصعوبة حين يشرعون في العمل مع الثقافات، فالشيء الذي يُفترَض أن يكون الوسيلة لمُقاربة هذه الثقافات، أي اللغة، يتكشَّف عن عقبةٍ كئود. فإذا صحَّ أن أنماط بناء المعنى هي ذات طبيعة اجتماعية صميمة، فلا فِكاك من أن يترتَّب على ذلك أنَّ الأنساق الثقافية هي «كيانات كلية» wholes مُغلقة. وهو أمر يُحبط أي مُحاولة لفهم أي ثقافة مختلفة عن ثقافتنا. وقد كان يهون الأمر بعض الشيء لو تيسَّر للمرء صنفٌ ما من الترجمة بين تلك المعاني التي تُقدِّمها الثقافات، غير أنَّ الترجمة الدقيقة تبقى شيئًا لا ضامن له ما دامت اللغات تعتمد على مُخططاتٍ تصورية مختلفة تنجُم عن الطرائق المختلفة التي تنشأ خلالها التقاليد والمؤسَّسات والنظم. وليس من سبيلٍ إلى فهم ما سنُصادفه في الثقافات الأخرى من مواقف واعتقادات ما لم يتيسَّر لنا سبيلٌ إلى ترجمةٍ دقيقة إلى لُغتنا، ولكن نظرًا لعدم وجود وقائع موضوعية للمعنى فليس ثمة، فيما يبدو، أي إمكانية للتحقُّق من أن الترجمة التي نعنيها صحيحة. كما أننا سنُصادف إلى جانب ذلك صعوبة في أن نفهم كيف تتصور الثقافات الأخرى الواقع وكيف تُقاربه. يُطلَق على هاتين الأطروحتين «عدم التحديد في الترجمة» indeterminacy of translation و«النسبية الأنطولوجية» ontological relativism.

(٦-٢) عدم التحديد في الترجمة

تفيد دعوى «عدم التحديد في الترجمة»، التي دفع بها كواين في كتابه «الكلمة والشيء»، أنَّ من المُحال علينا أن نعرف ما إذا كان المرء قد حقَّق ترجمةً صحيحة بين لُغتَين مختلفتين. والمشكلة التي يريد كواين أن يُبرزها في هذه الدعوى هي أن من غير المُتاح لنا أن نكون على يقينٍ من ذلك الشيء الذي يُشير إليه مُحاورونا في أقوالهم؛ ومن ثم فمن غير المُتاح لنا أن نحدد ما هو المخطط التصوُّري وما هي الأنطولوجيا التي يتبنَّونها. قد يكون مُخططهم التصوري هو مُخططنا ولكن لا سبيل إلى أن نعرف ذلك من خلال السلوك الملاحظ الذي يُعدُّ هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن نتحدَّث عنه بيقين علمي. فإذا خلُصنا من ذلك إلى أن من المتعذِّر علينا أن ندخل سياقًا آخر مختلفًا عن سياقاتنا لترتَّب عليه أن الأنثروبولوجيا لا يُمكن أن تكون علمًا.

والدعوى الأخرى التي يطرحها كواين هي «غموض الإشارة» inscrutability of refernce (أي إلغازها واستغلاقها)، ذلك أن أيَّ لفظ من الألفاظ يرتبط باللغة التي ينتمي إليها ويعتمِد عليها في اكتساب المعنى. قد تكون الإشارة التي يعنيها مُحاورنا هي عين إشارتنا، ويكون الشيء الذي يقصده الشخص القبلي الذي يدرس الأنثروبولوجي لُغته من الصفر هو نفس الشيء عند الأنثروبولوجي، إلَّا أن أيًّا منهما لا يمكن أن يعلم ذلك عِلم اليقين. وهذا ما حدا بكواين إلى القول بأن المترجم «يُقحِم بقدْر ما يكتشف.» إنه يُقحم الأنطولوجيا الخاصة به من أجل أن يستوعِب سلوك مُحاوره (اللفظي وغير اللفظي). هناك أكثر من «كُتَيِّب إرشادي» للترجمة. كلُّها مُتساوقة بنفس الدرجة مع السلوك المشاهد. وليس ثمَّةَ أي مؤشر موضوعي يدلُّنا أي هذه الكُتيبات الممكنة هو الكتيب الصحيح. ليست المشكلة هنا هي ما إذا كانت الترجمة مُمكنة أم لا (فالحقُّ أن جهود الأنثروبولوجي لوضع ترجمةٍ تسير فيما يبدو دون أيَّةِ مشكلات تُذكَر). غير أنَّنا لن نحظى أبدًا بتبرير مُترابط ومحدَّد لصحة الترجمة يتخطَّى واقعة النجاح العملي. ومن شأن ذلك أن ينال من يقينية النتائج المُحصَّلة، وأن يُحبِط أيَّ مُحاولة لتبرير موضوعية الأنثروبولوجيا؛ وعليه فإن عدم قابلية الثقافات للمقايسات، بالإضافة إلى هذه الاعتبارات، تبدو مُؤيِّدة للنسبية.
السلوكية اللغوية linguistic behaviorism: كانت آراء كواين في مسألة الترجمة نتاجًا محتومًا للسلوكية اللغوية التي تتبطَّن جميع الحُجَج التي نسَجها بإتقان منطقي شديد. والسلوكية اللغوية لا تعدو أن تكون تطبيقًا للسلوكية السيكولوجية في مجال اللغة، فقولنا إن شخصًا ما يفهم الجملة س (أو يعرف ما تعنيه س) لا بدَّ أن يُترجَم إلى سلسلةٍ من العبارات حول سلوكٍ ظاهرٍ وقابلٍ للملاحظة العامة يقوم به الشخص المعني. تقوم السلوكية اللغوية، شأنها شأن السلوكية السيكولوجية، على ارتباطات بين «المثير» (المنبه) stimulus و«الاستجابة» response، فليس هناك كيانات ذهنية تُبرِّر عملية المعنى، وإنما علينا أن نتعامَل مع مُجرَّد ميول للاستجابة اللفظية تجاه مُثيرات خارجية، فهذا هو السبيل الوحيد الذي يكفل دراسةً موضوعيةً للمعنى اللغوي.

ويمتدُّ تأثير أطروحات كواين ليشمل عملية المقارنة بين النظريات، ويُمثل عقبةً أمام دراسة الثقافات المختلفة والمقارنة بينها، وأمام مُقارنة النظريات العلمية المُتضاربة، وأمام العلوم الاجتماعية كالأنثروبولوجيا. فإذا لم يكن هناك سبب موضوعي يُبرِّر اتفاق أو انفصال اللغات والثقافات وشتَّى ضروب الخطاب، فليس ثمة جدوى للحديث عمَّا كان العالم السابق يُريد أن يقوله، وكل ما بِحَوزتنا هو مجرَّد طرائق مختلفة، صائبة بنفس الدرجة، لتأويل أقواله.

تُفضي دعوى «عدم التحديد في الترجمة» عند كواين إلى دعوى «غموض الإشارة». ويفيد «غموض الإشارة» أنه قد تكون لدَينا كثرة من التأويلات البديلة المُتساوية الصواب حول الإشارة الخاصة بمُصطلحات النظرية العلمية، وليس لدَينا ما يحسم أيها هو الصحيح، فإذا كانت الإشارة بطبيعتها مُستغلِقة فلا سبيل لدَينا إلى اكتشاف ما كان يُشير إليه الآخرون أو يتحدَّثون عنه. ولكي يتسنَّى لنا أن نُقارِن بين النظريات تلزَمنا ترجمة وتحديد للإشارة، ولكن إذا صحَّت دعاوى كواين ولم تكن هناك ترجمة فريدة، فلن يعرِف أحد ما إذا كانت نظريته أكثر أو أقلَّ صدقًا من نظرية الآخر.

كانت دعوى «عدم التحديد في الترجمة» هي تفسير كواين لمشكلة «اللامقايسة»، غير أنه كان يرفض أن يتهمَّ بالنسبية، مؤكدًا التزامه بالواقعية. لقد كانت الفيزياء عنده هي المحكَّ النهائي لكلِّ حديثٍ عن الواقع، وكان يتَّخِذ موقفًا واقعيًّا تجاه الفيزياء.

الموقف القصدي intentional stance: لقِيَت أطروحات كواين مُناوأة شديدة من قِبل أوساطٍ عديدة على الرغم من ترابطها واتساقها المنطقي. وكان ذلك أمرًا طبيعيًّا؛ فقد كانت مُتضمَّناتها عنيفة سواء فيما يتعلق بعِلم اللغة أو بالمعرفة الأنثروبولوجية. ولعلَّ أهم نقدٍ مُوجَّه إليها هو أنها تنطوي على مُقدِّمات تفتقر إلى الدقة فيما يتصل بفهم السلوك الإنساني ذي المعنى وكيفية عمله؛ ذلك أنَّ السلوكية اللغوية التي تبنَّاها كواين قد حملتْه على قَبول آراء مُوغِلة في الراديكالية ولا تتَّفِق مع الاتجاه المُسلَّم به على نطاقٍ عريض عن الصبغة «القصدية» intentionalist للسلوك الإنساني. إنَّ مدخل عالم اللغة الميداني عند كواين هو «جمل الملاحظة» observation sentences ذات اللفظ الواحد، وتحديد الاتفاق والاختلاف معها يتم استقرائيًّا، ولكن الموافقة والمخالفة هي تصوُّرات «مفهومية» intensional (و«قصدية» intentional أيضًا)، فالمرء إذ يُوافق لا يُوافق على جملة (أي تقرير بأن الأشياء هي على هذا النحو أو ذاك) بل على ما يفهمه بقدْر ما يعتقد أنه حق. التعرُّف على الاتفاق والاختلاف إذن يفترض مُسبقًا النظر إلى السلوك المُلاحَظ لا كمجرد حركة جسدية بل كسلوك «قصدي». ويبدو أن النزعة السلوكية الصارمة عند كواين لا تؤهِّله لمِثل هذا «الموقف القصدي».
و«الموقف القصدي» intentional stance (وهو المصطلح الذي أدخله دانييل دينيت D. Dennett) تجاه أي نظام من الأنظمة هو. ببساطة، ذلك الموقف الذي يعزو إلى النظام اعتقاداتٍ ورغبات إذا تبيَّن أن «التفسير الأفضل» لسلوكه هو أن ننسِب له اعتقادات ورغبات. يقول دينيت إن من الصائب والمشروع لنا أن نعزو مواقف قضوية (اعتقادات، رغبات … إلخ) إلى أي نظام من الأنظمة سواء أكان حيوانًا أم نباتًا أم معدنًا، إذا كان من المُمكن أن نفسر سلوك هذا النظام كسلوك عقلاني في ضوء غاياته ومراميه. يقول دينيت إنَّ امتلاك مخلوق من المخلوقات ذهنًا يعني بالتحديد أن من المفيد عمليًّا أن نعتبره يمتلك ذهنًا، وربما يصِل ذلك من الوجهة العملية إلى حدِّ معاملة هذا المخلوق باعتباره واحدًا منا: أي كائنًا لديه اعتقادات عن العالم ورغبات في أشياء معينة، ويعمل بعقلانية في ضوء تلك الاعتقادات والرغبات. فهذا، على سبيل المثال، طائر دائب في اصطياد الديدان في الحديقة؛ إنك تفسر سلوكه بأن تفترض أنه جائع ومن ثم يلتمِس الطعام، وأنه يعتقد أن الديدان طعام وأنها تُلتمَس في الحديقة، وبالتالي فهو يصطاد الديدان في الحديقة. إنه، باختصار، يسلك في ضوء اعتقاداته ورغباته. إننا في تفسير سلوك الطائر بالإشارة إلى الاعتقادات والرغبات نتبنَّى ما أسماه دينيت «الموقف القصدي»، إنه الموقف الذي نتَّخِذه كيما نُضفي معنى على سلوك أي كائن ونتنبأ به.١١٤

ذهب كواين إلى أننا إذا شئنا أن نفهم لغة أخرى أو مخططًا تصوريًّا مختلفًا فإن علينا أن نترجمه. هناك فرق بين الفهم والترجمة؛ فالفهم يتعلَّق بقُدراتٍ والترجمة شيء ينخرط فيه المرء، يعني ذلك أنهما أمران مختلفان وأن أحدهما يعتمد على الآخر؛ ذلك أن عملية الترجمة (أو التفسير) تفترض الفهم مسبقًا. ويتجلَّى ذلك في الطريقة التي نسلُك بها، فالاستجابات التي نُبديها تُبيِّن كيف تأتَّى لنا أن نفهم السلوك القصدي للآخرين. وبهذه الطريقة أيضًا يتبيَّن أننا نشارك تلك الثقافة، أو اللغة، المختلفة من حيث المبدأ، شكل الحياة الأساسي نفسه. وإذا استبعدْنا ذلك فنحن إذن ننفي أي إمكانٍ لاعتبار الآخرين بشرًا، وأي إمكانٍ لحدوث أي نوع من التواصل.

والنقد الآخر المُوجَّه إلى أطروحات كواين يتَّصِل بمشكلة «الإشارة/الأنطولوجيا»، فقد دفع كواين بدعوى «عدم التحديد في الترجمة» والتي ترتكز على دعوى «غموض الإشارة»، فإذا كان مُنطلقُنا هو السلوك المُلاحَظ (السلوكية) فليس بإمكاننا على الإطلاق أن نعرِف على أيِّ شيءٍ تصدُق ألفاظ لغةٍ ما وإلى أيِّ شيءٍ تُشير. يرى دونالد دفيدسون أن هذه الفكرة لا تعدو أن تكون تأييدًا لنظرةٍ نسبيةٍ إلى الإشارة، وهو يُؤيِّد كواين في أطروحته عن «عدم التحديد في الترجمة» و«غموض الإشارة» ولكنه يرفض مُنطوياتهما ويُدرك المشكلات التي تَجلُبها النتائج المُستمدَّة منهما، ذلك أن دفيدسون يرفض نسبية الإشارة ويذهب إلى أن الأنطولوجيا بأسرِها شيءٌ ثابت.

إذا صحَّ مذهب كواين يكون من الممكن للإشارة، وكذلك للأنطولوجيا، أن تُثبَّت إلى إطارٍ وتُنسَب إليه، ولكن القول بأن الإشارة مُثبَّتة بلغةٍ ما يتضمَّن النظر إلى اللغة باعتبارها «لغةً-موضوعًا» object-langauge، أي أننا لا نستطيع أن نُدخِل هذا الأمر في الاعتبار ونضعه موضعه ما لم نتَّخِذ «لغةً شارحة» أو «مِيتالغة» metalanguge (لُغة تتحدَّث عن لُغة) ونستخدم اللغة استخدامًا «ميتالُغويًّا»، أي أنَّنا لا نملك أن نتحدَّث عن تلك النسبية ما لم نلجأ إلى لغةٍ مختلفة. غير أنَّنا ما إن نفعل ذلك حتى نجد أنفسنا مُضطرِّين إلى أن نظلَّ نُبدئ نفس الإجراء ونُعيده إلى غير نهاية. وهذه واحدة من نقاط الفشل الواضحة في النسبية؛ فلكي نتحدَّث حول النسبية علينا أن نخرج منها، وعندئذ نرفضها، وينسحب هذا أيضًا على مشكلة الأنطولوجيا؛ فإذا صحَّ أن الأنطولوجيا، كما ذهب كواين، هي أنطولوجيا بالنسبة لمُخططٍ، أو نسَقٍ، من الإحداثيات فلن يُمكننا أن نُقرِّر ذلك إلا بأن نُعيد تأويل الأنطولوجيا في حدودٍ نظريةٍ مختلفة، غير أن هذه العملية تجابه بالمشكلات نفسها؛ فمثل هذه النسبية الأنطولوجية لا يمكن استنباطها من تلك القرارات المُتعلقة بالمخطط أو النسق.

يُحاول دفيدسون أن يتَّخِذ موقفًا وسطًا يأخُذ المُخطط التَّصوُّري بالاعتبار دون الوقوع في النسبية الأنطولوجية التي تبدو لصيقةً بمذهب كواين، فنحن بحاجةٍ إلى مخطط تصوُّري لكي نفهم أيَّ شيءٍ من أشياء العالم (ذلك أنَّ الأشياء لا تُوجَد بمعزِل عن المخططات التصورية) ونحن لا يمكن أن ننفصل عن أفكارنا لكي نقارنها بالواقع. غير أن هذا ليس نسبية ولا يعني صِدق النسبية، بل هو، على حدِّ قول بتنام، نوع من الواقعية البراجماتية.

نخلُص من ذلك إلى أنَّ هناك أكثر من طريقةٍ لمُقاربة الواقع. غير أن هذا ينبغي ألا يمضي بنا بعيدًا إلى موقفٍ نِسبي مُتطرف، وإنما الحل العملي أن نتَّخِذ موقفًا وسطًا بين طرفي الواقعية الميتافيزيقية من جهة والنسبية الأنطولوجية من جهة أخرى. إن قدَرَ الأنثروبولوجي أن يُواجِهَ مصاعب وحدودًا حين يشرع في تناول موضوع دراسته، غير أنَّ لديه بعض الأدوات التي يُنجِز بها عمله ويُبرِّره. إنه يُسلِّم بتلك المصاعب والحدود التي يمكن أن تؤدِّي المُبالغة في تقديرها إلى أُطروحتي «عدم التحديد في الترجمة» و«غموض الإشارة». ربما لا يضمَن الأنثروبولوجي الدقة المُطلقة في دراسته، ولكن هذا لا يعني أنه صفر من أيِّ تبرير وجيه لبحوثه. إن مصاعب الدراسة الثقافية هي مصاعب التواصُل في المعنى. ويعتمد تأويل (وترجمة) الثقافات الأخرى (ومجالات الخطاب الأخرى) على قُدرتنا على تمييز التَّشابُهات والقواسم المشتركة في الآخرين، أي إدراك أهمية تلك الأنماط من السلوك المُشتركة بيننا جميعًا. أن نفهم «عبارة» يعني أن نفهم «لغة»، وأن نفهم «لغة» يعني أن نفهم «صورة من صور الحياة» a form of life.

(٦-٣) بعض مُشكلات «اللامقايسة»

قُلنا إن «اللامقايسة» تعني عدم وجود عنصر مُشترك يمكننا بواسطته المقارنة، والمفاضلة، بين خطابَين مختلفين. تُفضي «اللامقايسة» إلى مصاعب كبرى في الفهم، وتُوقِع عجزًا تواصُليًّا بين الأشخاص الذين ينتمون إلى أنساقٍ مختلفة، بحيث يستحيل عليهم تبادُل المعنى فيما بينهم؛ فهذه الأنساق هي شيء مُغلق مُنكفئ على حاله. ومن هذا المُنطلق تُعدُّ «اللامقايسة» مُؤيدًا وظهيرًا لتصورٍ نِسبيٍّ عن الواقع.

يَتناول بتنام مبدأ «اللامقايسة» بالنقد الشديد، فيقول بأنها دعوى «مُدحِضة لذاتها» self-refuting، أي أنها لو صحَّت لاستحالت! لو صحَّ أن ليس ثمَّةَ نظائر للمعنى أو الإشارة الواحدة بين اللغات أو الثقافات المختلفة لاستحالت ترجمة اللغات الأخرى إلى لُغتنا، وترجمة المراحل السابقة للُغتنا ذاتها إلى لُغتنا الحالية. لو صحَّت «اللامقايسة» لوجَب أن تظلَّ أعضاء الثقافات الأخرى بالنسبة لنا كحيوانات تُصدِر «استجابات» responses إزاء «مثيرات» stimuli (مُتضمِّنة ضوضاء اتَّفَق لها أن تكون هي الإيطالية أو الإنجليزية أو الإسبانية). إنَّنا لا نملك أن نقول بأنَّ تصوُّراتنا تختلف، وفي أيِّ شيء تختلف، ما لم نتمكن من أن نُترجمها. لو استحالت الترجمة لاستحال أن نعرِف ما إذا كُنَّا مُتفقين واستحال أن نعرف حتى ما إذا كُنَّا مختلفين. «اللامقايسة» إذن تُفضي بنا منطقيًّا إلى استحالة «اللامقايسة»!
ويتناول دفيدسون بالنقد فكرة توماس كُون عن أهمية مبدأ اللامقايسة ومُتضمَّناته. يرى دفيدسون أن الحديث عن علماء مختلفين يعيشون ويعملون في «عوالم مختلفة» لا يعدو أن يكون استخدامًا «استعاريًّا» metaphorical للألفاظ، ويقدِّم دفيدسون نقدًا مُستفيضًا للنسبية التصورية التي تتبطَّن دعاوى مثل دعوى «اللامقايسة». ثمَّةَ صِلة وثيقة عند النسبيين بين المُخطَّط التصوُّري واللغة التي يتمُّ بها التعبير عن هذا المخطط، ويذهب هؤلاء إلى أن الواقع مُرتبِط بمخطط تصوري (هو نسق «المقولات» categories التي تُنظِّم الخبرة/التجربة). ومن غير الممكن أن تكون المخططات المختلفة نظائر حقيقية بالنسبة لأولئك الذين ينتمون إلى كل مُخطط مُعين. وقد أشار دفيدسون، وهو بمعرِض فحصه لدعاوى بنيامين ورف، إلى أن ورف كلما حاول تبيان أن لغة «الهوبي» واللغة الإنجليزية لا تُمكن مُقارنتهما لاختلاف النَّسَق الميتافيزيقي القابع في كل منهما، كان يستخدم الإنجليزية ليشرَح مضمون العبارات «الهوبية».

يذهب بنيامين ورف إلى أن اللغة تُفرز تنظيمًا مُعينًا للخبرة، إذ تصنِّف تيار الخبرة الحِسِّية فتسلك الأشياء في نَسَقٍ معين وتُضفي على العالم نظامًا معينًا. بهذا المعنى يتَّضِح بجلاءٍ وجود فرقٍ أساسي بين اللغة الإنجليزية ولغة «الهوبي». يقول ورف إن لغة الهوبي مُزوَّدة بأدواتٍ لتناول الظواهر التي لا يمكن لمُصطلحاتنا العلمية أن تُعبِّر عنها كما يجِب؛ وذلك ببساطة لأنَّ الهوبي تخلق مقارنة بين ضروبٍ من الخبرة مختلفةٍ عن تلك التي تستطيع لغتنا العلمية تمييزها.

يرى دفيدسون أنَّ الفروق بين اللغات ليست من الضخامة بحيث لا تستطيع التعبير عنها إلا باستخدام لُغة فريدة؛ ولذا فهوي ذكَّرنا بأن توماس كُون كان يستخدِم لغة ما بعد الثورة العلمية كلما أراد الحديث عمَّا كان يحدُث فيما قبل الثورة العلمية. ويذهب دفيدسون إلى أنه لا معنى لأن نتحدَّث عن وجهات مختلفة من الرأي ما لم يكن هناك منظومة إحداثيات مُشتركة لكي نمثل فيها هذه الوجهات من الرأي. ومتى كان هناك منظومة مُشتركة يُصبح التفاوت الضخم شيئًا من قبيل التناقُض.

وعندما نُريد أن نُقدم تأويلًا للاعتقادات والاتجاهات التي نرى أنها موجودة في عبارات من يُحاورنا فإن علينا أن نفترض إمكان ترجمة ما يقول إلى لُغتنا، فإذا فشِلنا في الوصول إلى ترجمة فلَنا أن نَستنتج عندئذٍ أنَّ نسَقَه التصوري غريب عنَّا تمامًا. غير أننا في حقيقة الأمر لا نعيش في عوالم مختلفة، وإنما نعيش في عالمٍ واحد ولا تفصلنا إلا الألفاظ. يرى دفيدسون أنَّنا نفهم شيئًا ما على أنه لغةٌ إذا كان مُرتبطًا باللغة ومُنظمًا لها، ويعود هذا التنظيم إلى الأنطولوجيا التي تتبطَّن هذه اللغة وتُتيح لها أن تُفرِد الأشياء وتُعينها. فإذا كان بإمكاننا أن نعقد «ارتباطًا حمليًّا» predicative correlation بين لُغتَين مختلفتَين يكون بإمكاننا أن نفترض مُسبقًا وجود أنطولوجيا مُشتركة. ويذهب دفيدسون إلى أنَّ التَّشابُهات كبيرة بين الأنساق المُمكنة لتنظيم الخبرة.
وعلينا في الوقت ذاته حين نشرع في فهم لغةٍ أخرى أن نفترِض أن المُتحدِّث على صواب فيما يقول. يُطلِق على هذا المبدأ «مبدأ الإحسان»١١٥ (الحُسنى) principle of charity. علينا أن نُسلِّم بأن مُحاورينا عقلانيُّون وأنهم منطقيون بالأساس ومُتَّسِقون ذاتيًّا فيما يقولونه، وأن لدَيهم اعتقادات، فإذا كان بوسعنا التوفيق بين مبدأ الإحسان وبين الشروط الصورية للنظرية، نكون قد فعَلْنا كلَّ ما يلزمنا لضمان التواصُل. وليس بإمكاننا أن نفعل أيَّ شيءٍ آخر، غير أننا لسنا بحاجة إلى أي شيء آخر.
لا شكَّ أن مبدأ «اللامقايسة» يَلفِتنا إلى الصبغة الاجتماعية للمعرفة. ومن الحق أن أفراد كل جماعة يتشرَّبون تقاليدها ونُظُمها من خلال «التعلُّم» learning (وهو عملية اجتماعية بكلِّ معنى الكلمة)، الأمر الذي يجعل المُتغيرات الثقافية قائمة في أي موقف خاص مُسبِغةً المعنى على السلوك ومُضفِيةً عليه ترابطًا رمزيًّا. أما أن نقول بأن ما يكونه العالم يتوقف على العناصر الاجتماعية داخل تأويلاتنا فهو مجرَّد شطط ومُغالاة وامتداد بالمعقول إلى حدود غير معقولة. ثَمَّة فروق بين الجماعات في فهم العالم والتكيُّف معه، وثَمَّة تَحيُّزات تعود إلى التعلُّم وإلى الإثقاف وإلى اللغة التي تختزِن التقاليد والقِيَم وصورة العالم. غير أن هذا شيء علينا أن نُقدِّره ونحسِب حسابه دون أن يُؤيِسَنا ويُوقِعنا في ضربٍ انهزامي عدَمي من النسبية.

إذا صحَّت الدعوى النسبية القابعة في مبدأ «اللامقايسة» لمَا كان بوسع الأنثروبولوجيين أن يطرحوا أي أسئلة أو يقترحوا أي أجوبة. ولكي تكون الأنثروبولوجيا مُمكنة فلا بدَّ لأهالي القبائل التي ندرُسها أن يكونوا مُشاركين لنا في تصوُّراتنا عن الحقيقة وفي الترابُط والاتساق العقلي بين الاعتقادات. ورغم مصاعِب التواصُل فإن بإمكاننا أن نعرف أشياء كثيرة عن مُحاورينا. ورغم إدراكنا للدور الحاسم للترجمة في تحديد مدى صحَّة دعوى النسبية الثقافية، فإننا، مع اعترافنا باستحالة الترجمة الدقيقة وقَبولنا لقيودها وحدودها، نلمس بأنفسنا أنَّ التواصُل مُمكن. وتُقدِّم لنا المُمارسة العامة دليلًا حيًّا على ذلك.

صحيح أنه ليس بوُسعِنا أن ننسلِخ عن أفكارنا لكي نُقارِنها بالواقع، وصحيح أنَّ تلك الكيانات التي نتعامَل معها هي كيانات «مُشيدة» construction بقدْر ما هي مُكتشفة. وصحيح أن «الموضوعية» هي «موضوعية بالنسبة لنا»، وأن فكرة «المشاهد الميتافيزيقي» الخالِص هي وَهْم لا وجود له. غير أن تصوُّراتنا عن الاتساق والقبول العقلي هي أمر وثيق الصلة بسيكولوجيتنا، وبالتالي ببِنيَتِنا البيولوجية المُشتركة، وإن تأثرت بثقافتنا واهتماماتنا الخاصة وقِيَمنا. إنَّنا نُشارك، حتى أعْجَب الثقافات وأغربها، عددًا ضخمًا من الافتراضات والاعتقادات عمَّا هو مُتَّسِق وعمَّا هو معقول. هذه هي النقطة الفاصلة التي ينبغي ألا تغيب عنا ونحن نُوغِل في مُناقشة النسبية؛ لأنها تُذكِّرنا بأهمية مفهوم «الطبيعة البشرية» human nature المشتركة، أيًّا ما كان رأيُنا عن هذه الطبيعة وقولنا فيها.

(٧) من النسبية إلى الفوضوية: (فييرابند – رورتي)

ثمَّة نفرٌ من المُفكرين أوغلوا في النسبية حتى مزالِق «الفوضوية» anarchism. ومن الأهمية بمكانٍ أن نُبيِّن تهافُت مثل هذا التمادي المُفرط؛ لأنه يُؤذي الصِّيغ المقبولة من النسبية ويُسيء إلى صورتها، وسنعرِض هنا لمِثالين شهيرين في الفلسفة المعاصرة لهذا التطرُّف النسبي: بول فييرابند وريتشارد رورتي.
تتَّسِم كتابات هذَين المُفكرين الكبيرين بتورُّط في الفوضوية يقوم على خلطٍ بين الخطاب العلمي والخطاب الثقافي، وهو نمط من الاستدلال المُغالط يمكن أن نُسمِّيه «مُغالطة التشابُه العائلي أو الأسري» family-resemblance fallacy. والتشابُه الأُسَري مصطلحٌ جديد أدخله لودفيج فتجنشتين، ومفاده أنَّ الأشياء التي يُشير إليها حدٌّ (مصطلح) من الحدود قد ترتبط معًا لا بخاصية مُشتركة واحدة بل بل بشبكةٍ من التشابُهات العديدة والمتداخلة جُزئيًّا بعضها مع بعض، كشأن الأشخاص الذين تشترك وجوههم في ملامح مميزة لأسرةٍ مُعينة. وقد أوضح فتجنشتين أن كثيرًا من المصطلحات الشائعة تُستخدَم بطرائق مختلفة اختلافًا دقيقًا، وليس ثمَّةَ ماهية مشتركة بين جميع الكيانات والأنماط والعمليات التي تُشكِّل النطاق الكامل لاستخدام المصطلح، فلفظة rule مثلًا لها مجالٌ هائل من الاستخدامات، وليس ثمَّة سمةٌ واحدة تجمع بين كلِّ المراسيم والتعليمات والمواضعات والأوامر … إلخ التي نُطلِق عليها من وقتٍ لآخر كلمة rule. تشكل مثل هذه المجالات من الاستخدام في الأغلب حقلًا من التَّشابُهات الأسرية وليس مجموعة من القواسم المشتركة الخفية. حين يفترض المرء وجود ماهية مُشتركة بالضرورة لمجرَّد أنه يستخدم لفظة واحدة فإن ذلك يُغريه بأن يرتكز على أحد الاستخدامات ويُعامل بقية الاستخدامات على أنها تنويعات دقيقة عليها، فتدفعه إلى أن يفترِض تماثُلًا حيث لا تَماثُل، ويرى هويةً حيث لا يُوجَد غير نمط من التشابهات والاختلافات. بل إن الأعضاء الشديدي التباعد من أسرة الاستخدامات قد لا يجمعهم أي شيء على الإطلاق.

أن تنزلق إلى افتراض ماهية مُشتركة هو أن تقَع في «مُغالطة التَّشابُه الأسري»، وإنَّ من الخطأ دائمًا أن تُصدِّر مبادئ «نحو» يحكم استخدام كلمة في جزء من مجالٍ معينٍ إلى جزء آخر من ذلك المجال. وفي حالة فييرابند ورورتي نجِد أن أدِلَّتَهما تقع في مُغالطة التشابُه الأسري. ويتجلَّى ذلك بشكلٍ خاص في فشلهما في الاحتفاظ بفروق جِذرية بين مجالات الخطاب القائمة بين الثقافات، كما تُكيَّف لتناول الظواهر التي من صُنع الإنسان وبين الخطاب الخارج عن الثقافة حيث تواجِه النظريات (وإن يكن ذلك بشكلٍ غير مباشر) العالم المادي العنيد والواقع الصُّلبَ المُحايِد.

(٧-١) فييرابند

في كتابه «ضد المنهج» Against Method ذهب فييرابند إلى عدم وجود منهجٍ مُحدَّد للبحث العلمي يؤدي اتباعه دائمًا وأبدًا إلى اكتساب المعرفة، وإلى أنَّ من العبث أن نأمُل في اختزال العلم إلى بعض القواعد المنهجية البسيطة، وذلك نظرًا لتعقُّد تاريخ العلم. لم يكن تاريخ العِلم في نظر فييرابند تاريخ عقلانية، وإذا كان ثمَّةَ تقدُّم واضح للعيان أحرزه العلم وما يزال يُحرزه فإنما يعود ذلك إلى أنَّ العلماء قد حطموا كل قاعدة يمكن تَصوُّرها للعقلانية. ويُشير فييرابند إلى حِقَبِ مشهورة في تاريخ العلم لم تكن عقلانيةً ولم يكن العلماء يسلكون فيها سلوكًا عقلانيًّا. وإن العقل، على الأقل بالصورة التي يأخُذ بها المناطقة وفلاسفة العِلم وبعض العلماء، لا يمكن أن يساهم في نمو العلم، وعلى أولئك الذين يُعجَبون بالعلم ويعبدون المنطق العقلي في الوقت نفسه أن يختاروا لهم شيئًا واحدًا: إما العلم وإما النزعة المنطقية، إذ إنهم لا يمكن أن يحتفظوا بالاثنين معًا.
ويدعو فييرابند بناءً على ذلك إلى «تعددية منهجية» methodological plurality أو «فوضى منهجية» methodological anarchism رافعًا شعار «كل شيء يجوز» (كله ماشي) anything goes، فليس هناك منهج علمي واحد، أو إجراء وحيد، أو مجموع قواعد تُشكِّل الأساس لكلِّ نموذج بحث والضمان لعلميته ووثوقه، فكل مشروع وكل نظرية وكل إجراء إنما يخضع في الحكم عليه لأهليته الخاصَّة، ووفقًا لمعايير تنسجم مع العمليات التي يبحث فيها. ليس معنى ذلك أن البحث العلمي يمضي كيفما اتَّفَق بل يعني أنَّ هناك معايير للبحث العلمي غير أنَّ هذه المعايير تأتي من عملية البحث ذاته وليس من وجهات نظرٍ عقلانيةٍ مُجرَّدة؛ تأتي بالبحث ومن خلال البحث ولا تُفرَض من خارجه وبشكلٍ مُسبَقٍ عليه. إنَّ تعدُّد النظريات مُفيد جدًّا للعلم بينما يُضعِف الثبات والانتظام من قوته النقدية. ولا ينبغي النظر إلى تعدُّدية النظريات على أنها مرحلة أولية للمعرفة سيأتي عليها زمنٌ تُصبح فيه نظرية واحدة صحيحة، بل يجِب أن نُسلِّم بالتعدُّدية لأنها سِمةٌ جوهرية لكلِّ معرفة تُعلن أنها موضوعية. مثل هذه التعدُّدية هي التي تسمح بانتقادٍ حادٍّ لأفكار سائدة وليس مُقارنة هذه الأفكار مع وقائع تدَّعي أنها مُستقلة عن الاعتبارات النظرية. هذا هو التبرير المنهجي للتعدُّدية النظرية عند بول فييرابند.
أراد فييرابند من دراسته لتاريخ العِلم أن يشجُب النزعة المنطقية ويُبيِّن عُقمَها في تفسير مسار العلم ونجاحاته. وإذا كان المنطق لا يحكم سَير العلم فليس ثَمَّ غير اللاعقلانية والفوضى. ها هنا مُنزلقٌ آخر استُدرِج إليه فييرابند إذ فاته أنَّ هناك بدائل أخرى للنزعة المنطقية كتفسيرٍ للعلم غير الفوضوية، وأن البرهنة على قصور النزعة المنطقية لا تكفي للتصوُّر المنطقي للمنهج العلمي كتأويلٍ لنشاط العلم.١١٦
يقوم مبدأ الفوضى المنهجية عند فييرابند على عملية قلب ساخرة للتصوُّر المنطقي للمنهج العلمي وبخاصة في صيغته البوبرية. يقول فييرابند إنَّ من يُريد صيغةً، مثل حدوس بوبر وتفنيداته (conjectures and refutations)، تحصر ماهية المنهج العلمي، فإنَّ أفضل الصِّيَغ المرشحة هي anything goes. لم يكن فييرابند بالطبع يعني بهذا الشعار أنَّ أيَّ شيءٍ سوف يفي بالغرض كجواب عن سؤالٍ علمي ما. لقد جعل هَمَّهُ أن يملأ الفجوة بين القصور الواضح لما دأبْنا على أن نَعُدَّه من الوجهة الرسمية بينةً على وجهة نظر جديدة (أو بارادايم بتعبير توماس كون) وبين السُّرعة التي يتمُّ بها التقبُّل الفعلي لهذه الآراء الجديدة، لا كمُجرَّد تجديداتٍ بل كتقاليد وأصول.
ينصبُّ اهتمام المذهب النسبي عند فييرابند على ما سيُعدُّ ملاحظةً دالةً في تقدير العلماء أثناء مُزاولتهم لعلمهم العلمي. يرى فييرابند أن هناك دائرة تصوُّرية مُحكمة الإغلاق بين النظرية التي يتنَّباها المرء وبين اختياره للمُلاحظات الدالَّة التي يعتبرها مُدعِّمةً للنظرية. ليس الواقع واقعًا إلا «بالنسبة ﻟ» relative to وجهةٍ معينةٍ من النظر. إن «ما هو واقع صُلب» و«ما هو طبيعي» (وبالتالي مُسلَّم به)، وكل سمة أخرى لعناصر مناهج البحث الاستقرائية التقليدية أو الفرضية الاستنباطية، إنما هي كذلك «بالنسبة ﻟ» وجهةٍ ما من الرأي فحسب. وهي بهذا الاعتِبار تدعَم هذه الوجهة من الرأي التي لم يصِل إليها المرء بفضل الدور الذي لَعِبته هذه العناصر في صيغةٍ منطقية مُعيَّنة.
تترتَّب على هذه الملاحظات عن الممارسة العلمية عدة نتائج هامَّة عند فييرابند. ومن أهم هذه النتائج في هذا السياق تلك الظاهرة المعرفية/اللغوية المُسمَّاة ﺑ «اللامقايسة» incommensurability. تصدُر فكرة عدم قابلية طرائق التفكير عن العالَم للمُقايسة من سماتٍ مُعينةٍ للاستخدام اللغوي. وقد اقتبس فييرابند حُجَجه من بنيامين ورف، وبخاصة أطروحته القائلة بأنَّ اللغة تُفرِز كوزمولوجيا، وأن كلَّ لغةٍ تُفرِز كوزمولوجيا خاصَّة بها. يتجسَّد ذلك في تصنيفاتٍ مُضمَرة فيُفضي بحُكم نموذجه ونمَطه إلى مقاومةٍ لوجهات النظر التي تختلف عنه اختلافًا كبيرًا، فتمنع أي شخص من إدراك أنَّ بديلًا ما للتقليد السائد قد طُرح. فإذا اتَّفَق أن لُغتَين تُفرزان صورتَين للعالم غير مُتساوِقَتين نكون بإزاء «لامقايسة» بين صُورَتي العالم التي ترسُمهما كلا اللُّغَتَين لمُستخدميها. يقول فييرابند إنَّ ظاهرة اللامقايسة بين اللغات تنسحِب بتمامها على النظريات العلمية المُتعاقِبة. ولسوء الحظ لم يقدم فييرابند أمثلةً أخرى من العلوم، وإنما انتقل إلى التغيرات في التقاليد والأساليب الفنية لكي يُوضِّح نظريته، وهو انتقال بات مألوفًا لدى الكُتَّاب الفوضويين.١١٧
وفي معرِض مُلاحظاته حول تطبيق هذه الأفكار على العلم يأتي فييرابند للمبدأ المحوري وهو «نظرية الكلية» holism في اللغة. وبِمُقتضى هذه النظرية حين يتمُّ إدخال مُصطلح جديد في لغةٍ قديمةٍ فإنه لا يترُك هذه اللغة كما كانت. عند هذه النقطة بالتحديد يبدأ المُنزلَق من النسبية إلى الفوضوية. يذهب فييرابند إلى أنه إذا كان هناك لغتان — «أ» و«ب» — تُلائم كلٌّ منهما كونها الصحيح، فقد يَعنُّ لنا أن نحاول التعبير عن الانتقال من النظرية أ القديمة إلى النظرية ب الجديدة بالطريقة التالية: أضِف الألفاظ ب الغائبة إلى اللغة أ، والبناءات ب الغائبة إلى العالم أ المُدرَك، تحصل على العالم ب، اللغة ب، الإدراك ب. غير أنَّ هذا أمرٌ مُمتنِع في نظر فييرابند؛ فلا ألفاظ الحس المُشترك ولا النظريات الفلسفية ولا المفاهيم الفنية ولا الدينية ولا الفكر النظري سيتضمَّن أيَّ عنصرٍ من أ بمجرَّد أن يتمَّ الانتقال إلى ب. لماذا؟ لأن طبيعة أي شيء في أ تُحدِّدها عناصر الشيء والعلاقة بين العناصر، فالعناصر والعلاقات تُشكِّل الشيء. إنَّ إضافةً ما لا تُضيف، في حقيقة الأمر إلى العالم أ، بل تجتَثُّ المبادئ الضروري لتشييد النمط أ من الأشياء، بذلك تكون نظرةٌ بأكملها للعالم قد ذابت، وعالمٌ بأكمله من الفكر والكلام والإدراك قد تلاشى.

ها هو ذا الانتقال من النسبية إلى الفوضى. فإذا كان التَّلاشي بالعُمق والضخامة التي يُعلنها فييرابند، فليس بوسع أحد قطُّ داخل العالم ب أن يحوز أيَّ بصيصٍ من المعرفة عما كانتْهُ الحياة في العالم أ وماذا كانت نكهة أن تقطُن العالم أ.

ومنذ دفع فييرابند بهذه الدعوى دفع التاريخيُّون بوابلٍ من الأمثلة المُضادَّة. إن الانزلاق من بعض حالات امتناع الفهم المُتبادل إلى الدعوى بأن جميع حالات الاختلاف اللغوي تُولِّد امتناع الفهم هو انتقال واضح الخطأ، وهو ليس خطأً لأنَّ لدَينا أمثلة عديدة على التغيُّر التدريجي في قواعد استخدام المصطلح فحسب، بل أيضًا لأنَّ فوضوية فييرابند تنطوي على تناقُض. فلِكي نُدرِك أنَّ أمرًا قد شهد تغيرًا في نموذجٍ إرشاديٍّ ما فلا بُدَّ أن يكون لديه شيءٌ ولو ضئيل من المعرفة عن المعنى الأصلي للمُصطلَحات، مثل «الكتلة» و«الفترة الزمنية» … إلخ، في النموذج القديم للفيزياء، وإلا فلن يُمكنه أن يُدرك أن هذه المصطلحات قد غيَّرت الآن معناها. صحيح أن هناك علاقة بين اختيارنا للغة وبين ما يُمكننا أن نلتقِطه من العالم الطبيعي، غير أنَّ هذا لا يترتَّب عليه أنَّ ما نلتقطه هو ظاهرة من صُنع اللغة، أو أنَّنا غير مُتاح لنا أن نفهم كيف يظهر العالم لمُستخدِمي اللغات المختلفة أو يُهيب بهم.١١٨

(٧-٢) ريتشارد رورتي

تقوم دعاوى رورتي الفوضوية على خطَّيَن من الاستدلال مُرتبِطَين على أنهما مُستقلَّان، في كتابه المُبكِّر «الفلسفة ومرآة الطبيعة» philosophy and the Mirror of Nature (١٩٧٩م) يُقدِّم رورتي تحليلًا نقديًّا مُؤصَّلًا من الوجهة التاريخية لنشأة الإبستمولوجيا. وفي كتابه الأحدث «العرضية والسخرية والتَّضامُن» Contingency, Irony, and Solidarity (١٩٨٩م) ينتقل رورتي إلى مُحاولة تدعيم أطروحتين حول «الصدق/الحقيقة» truth و«طبيعة اللغة» the nature of language. ويخلُص رورتي من كتابيه إلى أننا نحن البشر نعيش إلى الأبد داخل اللغة، ومِن ثَمَّ لا يمكننا تقييم خطاب هذه الجماعة الثقافية أو تلك — بما في ذلك جماعة العُلماء الطبيعيين — إلَّا بالإشارة إلى مسائل المُلاءمة العملية. يقول رورتي في تبرير هجمته الفوضوية على ادِّعاء العلم بأنه مُنشغلٌ بالحقائق المُطلَقة:
إن كبار العلماء يخترعون أوصافًا للعالم، وهي أوصافٌ نافعةٌ تخدُم أغراض التنبُّؤ والتحكُّم فيما يجري، تمامًا مِثلما يخترع الشعراء والمُفكِّرون السياسيُّون أوصافًا أخرى لأغراضٍ أخرى. غير أنه ليس هناك معنًى تكون به أيٌّ من هذه الأوصاف تمثيلًا دقيقًا لِما هو عليه العالم في ذاته.١١٩
من يتصفَّح كتابَي رورتي يجِد فيهما ميلًا إلى جلب الملاحظات والاستبصارات والمبادئ التي نستخدمها استخدامًا سديدًا في بحث خصائص الأعمال الفنية والتكوينات الاجتماعية وغيرها من المُنتَجات الثقافية، واستخدامها كمناهج ومعايير لتقييم المعرفة العلمية. هذا المَيل إلى الخلْط بين الخطاب العلمي والخطاب الثقافي، أو بين الظواهر الواقعية و«الظواهر الصُّنعية» artifacts يُميِّز تحليلات «ما بعد الحداثة» post-modernism، في تناولها ونقدها ﻟ «الحداثة» modernism. غير أنها تنتَهِك واحدًا من أعمَقِ استِبصارات فتجنشتين: وهو ضرورة عدَم الخلْط بين علاقة «التَّشابُه العائلي» family resemblance وعلاقة «الهوية» identity. وتُعدُّ حجَّة رورتي مثالًا بارزًا ﻟ «مُغالطة التَّشابُه العائلي» التي تحدَّثْنا عنها آنفًا، فليس بين مفاهيم «المعرفة» و«البحث» و«الصدق/الحقيقة» كما تُستخدَم في تناوُل «الأعمال الإنسانية» وبينها كما تُستخدَم في تناول «أعمال الطبيعة» غير «تَشابُهٍ عائلي» على أعلى تقدير.
يذهب رورتي إلى أنَّ علينا أن نَعُدَّ الثورات العلمية «إعادة وصف استعارية» metaphoric redescription للطبيعة، وليس استبصارًا في خصائصها الباطِنة الصميمة. ولكن كيف نُوفِّق بين هذه الدعوى وبين أحداث من قبيل: اكتشاف الدورة الدموية، واختلاف الطبيعة الجنسية للنباتات المزهرة، والوصف الأيوني لكيمياء المحاليل، وغير ذلك مما هو أعقد وأكثر إشكالًا؟ إنَّ رورتي لا يُقدِّم لدعواه دليلًا ولا أمثلة عيانية توضيحية.
تقوم حُجَّة رورتي «المضادة لمذهب الأسس» antifoundationalist على عقْد مُقارنة بين صِيغتين للمعرفة:
  • المعرفة بوصفها علاقة بين القضايا، (أو الحقيقة بوصفها علاقة ترابط بين القضية المطروحة وبين بقية القضايا، أو «الترابط» coherence بوصفه معيارًا للحقيقة).
  • المعرفة بوصفها علاقة بين «الأشياء» وبين «القضايا» propositions التي تتحدَّث عن هذه الأشياء، («التطابق» correspondence بوصفه معيارًا للحقيقة).
فإذا اعتبرنا المعرفة علاقة «ترابُط» بين القضية المطروحة وسواها من القضايا فليس ثَمَّة نهاية لسلاسل القضايا الممكنة التي علينا أن نتناولها لتبرير القضية المطروحة. وإذا اعتبرنا، كما هو سائد في التُّراث الفلسفي، أن المعرفة علاقة «تطابق/تناظر» بين القضايا وبين أشياء العالم (تطابق ما في الأذهان مع ما في الأعيان) فإن علينا أن نتجاوز «المُبررات» (الأسباب العقلية) reasons إلى «الأسباب» causes، وأن نمضي وراء الحُجَّة إلى ضغط الشيء — موضوع المعرفة وإملاءاته القهرية علينا؛ أي أنَّ علينا أن نُبيِّن كيف لموضوع المعرفة أن يُسبِّب المعرفة في عقلٍ إنساني ما. ونحن في مُمارسة الفلسفة نخضع لهذا التوجُّه، ونلتمس في العقل الذي يعكس الطبيعة فئةً من التَّمثيلات التي هي من الوثوق والتحقُّق بحيث لا يُمكن أن نشُكَّ في دِقَّتِها ويَقينها. وحين نصل إلى هذه النقطة نكون قد وصلنا إلى أُسس المعرفة. قدَّم عديد من الفلاسفة اقتراحات، مُتشابِهة نوعًا ما، لما تكونه هذه الفئة من التمثيلات: اقترح لوك «الأفكار البسيطة» simple ideas، واقترح هيوم «الانطباعات الحِسِّية» impressions، واقترح رسل «المُعطيات الحسية» sense data.

يذهب رورتي إلى أنَّ ليس هناك تمثيلات ذات امتياز تُمثِّل أسسًا للمعرفة. والحقُّ أن كل ما رشحه الفلاسفة ليكون تمثيلات ذات امتياز ويكون بالتالي أسسًا نهائية للمعرفة اليقينة قد تمَّ تفنيده ولم يثبُت للنقد. ولكن إنكار وجود أُسُس نهائية للمعرفة لا يعني أن نُنكِر وجاهة التصوُّر التقدُّمي عن تحسُّن المعرفة، وهو تصوُّر مُسترشد بالعالم الموضوعي وليس مُنغلقًا في الذاتية ووسائلها في تمثيل الطبيعة.

والخطوة الثانية من الانزلاق من النسبية إلى الفوضوية تقوم على حُجَّةٍ محورية يُقدِّمها رورتي في إطارٍ تاريخي. فبعد أنَّ حقق المثاليون الألمان استبصارهم الكبير بأن العالم التجريبي هو عالم مصنوع يُشيِّده العقل الإنساني، ما لبثوا أن وقعوا في خطأ اعتبار العقل (أو الرُّوح أو الذات الإنسانية) كشيءٍ له طبيعة داخلية، وقد كان عليهم، في رأي رورتي، أن يُكملوا طريقهم فيرفضوا أي فكرة عن أي شيء له طبيعة داخلية ينبغي أن تُترجَم أو تُمثَّل. يقول رورتي في تدعيم هذه الدعوى التي تُعدُّ هي الدعوى المحورية في مذهبه الفوضوي:
علينا أن نُفرِّق بين القول بأن العالم قابعٌ هناك وبين القول بأن «الحقيقة» أو «الصدق» truth قابع هناك … إن مُعظم الأشياء الكائنة في المكان والزمان هي معلولات لعِلَلٍ، وهذه العِلَل لا تتضمَّن الحالات الذهنية البشرية. والقول بأن «الحقيقة/الصدق» ليس ماثلًا هناك هو ببساطة أن تقول بأنه حيث لا تكون عبارات لا يكون صدق، وأن العبارات هي عناصر من اللغات البشرية واللغات البشرية هي اختراعات بشرية.١٢٠
هذه الملاحظة المُتواضعة قام رورتي بتضخيمها بواسطة دعواه بأن ليس هناك «وقائع» facts في العالم، فما الوقائع عند رورتي إلَّا أشياء مُشكَّلة بالجمل اللغوية؛ صياغة لغوية. وهي استعارة جذَّابة وإن تكن سطحية، قد ينجرِف المرء إلى الظنِّ بأن العالم يُساعدنا على أن نُقرِّر بين أن نقول «الاستركنين سام.» أو أن نقول «الاستركنين مُغذٍّ.» غير أن رورتي يُفرِّق بين الدعوى بأن العالم يتضمَّن عِلَلًا لتبرير اعتقادنا بشيءٍ وبين الدعوى بأن العالَم يتضمَّن شيئًا يجعل الجُملة صادقة، ويرى أن بوسعنا التخلُّص من فكرة أن حالات العالم هي صانعة الصدق، وذلك بالالتفات إلى «الطبيعة الكلية» Holism للغة. ها هنا يُقدِّم رورتي أبلغ مِثال على خطأ تَشبيه الخطاب الفني والسياسي بالخطاب العلمي. صحيح أن حالات العالم لا تجعل مُعجم جيفرسون السياسي أفضل من مُعجم أرسطو، ولكن ذلك لا يترتَّب عليه بالضرورة أنَّ العالم لا يجعل مفردات نيوتن أفضل من مفردات أرسطو في وصف قوانين سقوط الأجسام على سبيل المثال.١٢١

إنَّ تشبيه العلم الطبيعي بالفلسفة السياسية لينمُّ على سوء تأويلٍ لدعوى فتجنشتين عن استقلال النحو (الأجرومية). وهو فهم خاطئ كان شائعًا في يومٍ من الأيام وإن يكن مُضَلِّلًا غاية التضليل. لقد أشار فتجنشتين إلى أنَّ لنا مُطلَق الحرية في اختيار أي مواضعات نُريدها للخطاب، وأنَّ العالم لا يُمكن أن يُقيِّده اختيارنا للنحو. لقد كان بإمكاننا مثلًا أن نقول بأنَّ سطحًا ما يمكن أن يكون كله أحمر وأخضر في آنٍ معًا، غير أنَّ من الأربح لنا بكثيرٍ أن ننزل في نحونا قاعدةً تُوجِب استخدام لفظتي «أحمر» و«أخضر» بهذه الطريقة المُفرِّقة، ويضيف فتجنشتين إضافةً بالغة الدلالة إذ يقول بأننا لكي نُحقِّق صورة مشتركة للحياة فإن علينا ألا نتفق فحسب في مواضعات لغتنا، بل علينا أيضًا أن نتفق في أحكامنا العملية؛ ذلك أن بعض ضروب النحو هي أبلغ في تقديم قصصٍ مُترابطة عن الحال التي يوجد عليها العالم، وفي سنِّ برامج مُرشِدة للفعل تُلائم العالم أكثر من غيرها.

ومرة ثانية يتجلَّى تشبيه الخطاب العلمي بالخطاب الإنساني والسيكولوجي عند رورتي حين يكتُب عن الماهيات:
إنَّ الإغراء الذي يحمِلنا على البحث عن معايير (لتقرير ما إذا كانت منظومة نحوية ما أكثر كشفًا للواقع من غيرها) هو فرعٌ من إغراءٍ أهمَّ وأشملَ يحمِلنا على تصوُّر العالم، أو الذات الإنسانية، على أنه يمتلك طبيعةً داخلية أو ماهية.١٢٢
ذلك أنه بينما كلُّ شيء نعرفه الآن عن الأصل الخطابي (القولي/اللغوي) لشتَّى صور الإحساس بالذات يُشير إلى أن ليس هناك طبيعة إنسانية ماهوية، فإن كلَّ ما نعرفه الآن عن نشأة العلوم يُشير إلى أن هناك ماهيات في عالم الفيزياء. إن الماهية الحقيقية لذرة الهيدروجين هي أنها تحتوي على بنيان ذَرِّي يتضمَّن بروتونًا واحدًا وإلكترونًا واحدًا، وإن الذرَّات التي لا تحتوي على هذا البنيان، مثل تلك التي تتضمَّن نيوترونًا واحدًا أو أكثر في نواتها تُسمَّى «ديوتيريم» و«تريتيم» على التوالي.١٢٣
وتمضي إساءة تأويل فتجنشتين أبعدَ من ذلك، فيضفرها رورتي ببعض آراء دفيدسون عن طبيعة اللغة، والتي لا تبرأ من الميل والشطط. يقول رورتي إنَّنا يجِب ألا ننظُر إلى اللغة على أنها وسط لتمثيل كيف تكون الأشياء (معي أو معك أو مع العالم الطبيعي) بل على أنها أداة فعَّالة إلى حدٍّ ما للتنبُّؤ بما هو مُرجَّح أن يُقال أو يُفعل تحت هذا الظرف أو ذاك. وهو يُقحِم على تحليل فتجنشتين الدقيق توجُّهًا وضعيًّا بدائيًّا:
هذا الموقف الفتجنشتيني، الذي أسَّسه رايل ودينيت بالنسبة للعقول، وأسَّسه دفيدسون بالنسبة للُّغات، قد أضفى الصبغة الطبيعية على العقل وعلى اللغة بأن جعل كلَّ الأسئلة عن علاقة العقل أو اللغة ببقية العالم أسئلة عِلِّية؛ كمُقابلٍ للأسئلة عن مدى كفاءة التمثيل أو التعبير.١٢٤
هكذا يُعلن رورتي تآكُل فكرة معايير الصواب ذاتها، أو فكرة «المعيارية» normativity التي تُميِّز الشئون البشرية تمييزًا شديدًا. وهنا يُسفر الجانب الفوضوي من الإباحة بعد-الحداثية عن نفسه في أوضح صورة. فالرأي الصائب والخاطئ عن أحوال العالم كلاهما معلول لعالم. مثال ذلك أن التقدُّم للزواج من جهةٍ والاغتصاب المُوبِق من جهة أخرى كلاهما قد يكون مُسبَّبًا على حدٍّ سواء عن الجاذبية التي يُمارسها كائن إنساني على كائن آخر. إن تاريخ الثقافة عند رورتي ليس له «غاية» أو «عِلَّة غائية» Telos (من قبيل تحرير البشرية)، فثقافتنا إنما هي شيء ما اتَّخَذَ من شكل كنتيجةٍ لعددٍ كبير من «العوارض» contingencies المحضة.
فإذا صحَّ ذلك فكيف لنا أن نحكم بين معلولين بالتساوي لنفس العلة؛ بين الزواج والاغتصاب؟! هذا بالتأكيد مثال ﻟ «الخُلف» ad absurdum الذي يَسِمُ موقف «ما بعد الحداثة» من الأخلاقية.١٢٥
ويجمُل بنا في النهاية أن نُنوِّه مرة ثانية بأن المُداولات الحديثة حول «الواقعية» realism كسمةٍ من سِمات مشروع العلوم الطبيعية لم تَعُد تأخُذ بفكرة «التطابق» correspondence بين العبارات والوقائع، بين شيء لُغوي وشيء غير لُغوي؛ فالسبيل الوحيد لربط أيِّ شيء لُغوي ربطًا مباشرًا بأيِّ شيء مادي هو النظر إلى ذلك الشيء اللغوي كقواعد أو «وصفات» أو خطط لتشييد شيء مادي. وبهذه الرؤية تكون قوانين الطبيعة (المُشيَّدة في صورة نظريات) هي، من الوجهة الوظيفية، هذه القواعد والوصفات ليس إلا. إنها قواعد لتشييد نماذج عوالم خائلية virtual worlds هي بدائلنا البشرية للعالم الواقعي الذي لا نملك إليه إلا منفذًا غير مباشر. غير أننا ما إن نُتِمَّ بناء هذا العالم الخائلي، في المُختبَر أو في المُخيلة أو على الورق، وما دام هو شبيهًا بالشيء، حتى يُمكننا أن نُقارنه بالعالم، الذي هو أيضًا شبيه بالشيء، في تلك الجوانب التي يُمكن أن نملك إليها منفذًا إدراكيًّا. ومن شأن المُقارنات أن تُمكِّننا من أن نتحدَّث عن مدى دقَّة عالمنا الخائلي في رسم خريطة العالم الواقعي. ومن شأن الإلمام بتقنيات العلوم الطبيعية في الوصول إلى المعرفة أن يعصمنا من الانزلاق من الوصف «البنائي» constructivist للعالم الإنساني إلى الوصف «البنائي-الوضعي» للعالم الطبيعي، وأن يُمكِّننا من التَّخلي عن خرافات النزعة المنطقية دون تبني النزعة الفوضوية بعد-الحداثية.١٢٦

(٨) تجاوز النسبية

لا يسع أحدًا أن يُنكر بعض المُقدِّمات الأساسية التي يستخدمها النسبيُّون في تأييد وجهات نظرهم. إنَّنا حقًّا كائناتٌ «وُضِعت» موضعًا وأُحِلَّت موقعًا تاريخيًّا وثقافيًّا، بحيث لا تملك أن تأبق خارج مفاهيمها وتصوراتها ومعاييرها واعتقاداتها لكي تُقدِّر مدى انطباق هذه المفاهيم والمعايير مع واقعٍ ما ﻟ «الأشياء في ذاتها» بمعزلٍ عن العقل واستقلالٍ عن الذهن ومقولاته. زد على ذلك أننا رغم قدرتنا على تبرير كثير من مُعتقداتنا المركزية ومعاييرنا الإبستيمية بطريقةٍ تدريجيةٍ تجزيئية، فنحن لا نملك أن نُبررها جميعًا دفعةً واحدة. ولعلَّنا لا نملك تبرير بعضها، كمبدأ الاستقراء مثلًا، على الإطلاق.

ويبقى التحدِّي الحقيقي والعمل المُجدي هو أن نُنصِف مثل هذه الوقائع النسبية و«نأخذها» بعين الاعتبار دون أن نسمح لها أن «تأخذنا» بعيدًا وتنتهي بنا في مُستنقَع النسبية المُتطرفة. ويُهيب بنا كثير من المفكرين أن نتجاوز النسبية ونتخطاها، مُشيرين علينا بأن نتَّخذ لنا مسارًا حصيفًا بين خطرَي النسبية المتطرفة من جهة والنزعة المُطلقة الساذجة من جهة أخرى. غير أنَّ اتخاذ هذا المسار هو أسهل على الخريطة المرسومة منه في البحر الحقيقي، أسهل في القول لا في الفعل. وتظلُّ هناك محاذير ونصائح و«وصفات» يُقدِّمها لنا هؤلاء المُفكرون لنعمل بها في مسيرنا المحفوف بالمخاطر.

كثيرًا ما تبدو لنا الدعاوى النسبية أفضل حالًا على مستوى المُجرَّد، حتى إذا ما نزلنا إلى صعيد الخبرة الحيَّة واشتبكنا بالأمثلة العيانية بدت النسبية بعيدةً عن الصدق بعدًا شديدًا؛ فما من أحدٍ، على سبيل المثال، يفترض بالفعل أن بوسع شاهدٍ «بعد-حداثي» post-modernist أن يُبرر شهادته بأنه رأى فلانًا يرتكب جريمة القتل على أساس أنَّ «كل شيء هو تشييدٌ اجتماعي social construction وأنه هكذا يُشيد الأشياء ليس إلا!» الحق أنَّ اعتقادنا بأن مثل هذه الأفعال غير مقبولة هو أقوى بكثير من اعتقادنا في مُعظم المقدمات المُستخدَمة في الحُجَج المُدعِّمة للصيغ المتطرفة من النسبية.

الحقُّ أنه ما إن يستوي لدينا إطارٌ ويشرع في العمل حتى تتجلَّى كثيرٌ من الحقائق عن ما هو صوابٌ وما هو خطأ، وما هو مُمكن وما هو غير ممكن، وما هو حقٌّ وما هو باطل. كما أن الأُطر المترابطة والعاملة لا يمكن خلقُها بجرَّة قلم. لقد استغرق تشييد أُطر العلم الحديث ألوف السنين من الجُهد المضني والتخيُّل الخارق من جانب ألوف وألوف من بني البشر. الأمر إذن ليس خبْط عشواء ولم يكن حقًّا قطُّ أن «كل شيء يجوز».

إن التغيُّرات التصوُّرية والإبستيمية لتحدُث بالفعل، وإن الحديث عن انحباسنا في شرك اعتقاداتنا ومعاييرنا القائمة قد يكون مُبالغًا فيه؛ فالأطفال يتعلمون أشياء جديدة عليهم تمامًا، والكبار أحيانًا ما يكتسبون قِيَمًا واعتقاداتٍ بالغة الجِدة، والعلماء في مراحل مُعينة قد يعتنقون نظرياتٍ جديدة بدرجةٍ انقلابية. بل إن الناس كثيرًا ما تَعتبِر رؤيتها الجديدة للأشياء أفضل من رؤيتها القديمة.

ولعلَّ أفضل الاستراتيجيات للعثور على طريقٍ وسطٍ بين النسبية المتطرفة من جهةٍ والنزعة المُطلقة المُفرطة في التبسيط من جهةٍ أخرى، هي أن نحاول التوفيق بين الطبيعة العرضية التاريخية المُقيَّدة بالثقافة وبين قُدرتنا فيما يبدو على الوصول إلى طرقٍ أفضل (وليس مُجرَّد طُرق مختلفة) من التفكير. يبدأ أنصار هذه الطريقة من المفكرين، في أغلب الأحيان، بملاحظة أننا ينبغي أن نبدأ من حيث نحن، أينما كنا، بما في حوزتنا من تصوُّرات واعتقادات ومعايير ونقاط قوة ونقاط ضعف (فنحن لا نملك على أيِّ حالٍ أن نبدأ من أيِّ موقع آخر). ثُمَّ يمضون إلى القول بأنَّنا لا يلزمنا أن نُبرِّر اعتقاداتنا ومعاييرنا ما لم تُواجهها تحدياتٌ بطريقةٍ ذات صلة. غير أنَّ هذا لا يعني أننا أُسارى وجهات نظرنا القائمة أبد الدهر؛ لأن ضغوطًا عديدة يمكن أن تُفضي بنا إلى أن نُدخل تحسيناتٍ. غير أننا كثيرًا ما نُغفل احتمال التحسُّن هذا إذ يستحوذ علينا نموذجٌ مُعيَّن مُفرط الطموح للعقلانية أو التبرير، نموذج لا يَعتبِر أي شيء تحسينًا ما لم نأتِ بما يُشبه البُرهان الصوري على أنه أفضل مما كان سابقًا.

كثيرًا ما تقترن هذه التصوُّرات المُغالية في العقلانية بالنظرة القائلة بأن للعقلانية قوة تكفي، من حيث المبدأ، لحلِّ جميع المسائل الصعبة أو لحمل الأشخاص العقلاء جميعًا على الاتفاق فيما بينهم. غير أن هذا التصوُّر يُغفل الاحتمال بوجود تصوُّرات للعقلانية أقل عنترية، وهي وإن لم تضمَن الاتفاق أو الإجماع لكنها تُفضي إلى ضروبٍ عدة من التحسينات الإبستيمية في معايير واعتقادات الفرد أو الجماعة. ليس ما يلزمنا هو معايير إبستيمية مُستقلة عن الإطار تمام الاستقلال، بل المحاولة الدءوب لكي نستخدم ما في يدِنا أفضل استخدام، والاعتراف الصريح بأنَّ لدَينا ضروبًا شتَّى من الشواغل والتَّحيُّزات على أن نحاول جهدنا أن نُسلط الضوء على هذه الأوجه من القصور وأن نتلافاها ما استطعنا إلى ذلك من سبيل.

وقد اقترح عديد من الفلاسفة طرائق يمكن بها تحسين اعتقاداتنا ومعاييرنا على مرِّ الزمن رغم حقيقة أننا كائنات محكومة بموقعها التاريخي والثقافي. فذهب جون ديوي مثلًا إلى أن معاييرنا الإبستيمية تتطوَّر من خلال المحاولة والخطأ القائمة في عملية البحث نفسها. ويقترح آخرون أن معايير التغيُّر العقلاني، حتى في العلم، تتضمَّن أشياء من قبيل القُدرة على حلِّ المشكلات وليس على الاقتراب من الحقيقة حول واقعٍ مُعيَّن بمعزِل عن لغتنا وتفكيرنا. كذلك قد تُتيح لنا طريقة «التوازن الفكري (التأملي)»١٢٧   reflective equilibrium تحسين كل معاييرنا العامة واعتقاداتنا الخاصة، من الداخل ودون اللجوء إلى استخدام معايير أبدية ثابتة. ورغم أن هذه الطريقة لا تضمَن للجماعتَين اللتين تنطلقان من معايير واعتقادات مُختلفة أن تتَّفِقا في النهاية فإنها قد تؤدِّي بكِلتا الجماعتين إلى مجموعتين شاملتَين من المعايير والاعتقادات أفضل تبريرًا من ذي قبل.
ومهما يكن ترشيدنا لاحتياجاتنا من العقلانية والتبرير يبقَ هناك شعور غير مريح ﺑ «عرضية» contingency طرائقنا الخاصَّة في التفكير والتقييم. إن التنوع الثقافي والتاريخي الذي يزداد جلاءً يومًا بعد يوم ليفتح أعيننا على أساليب في الفكر والفعل مختلفة عن أساليبنا اختلافًا مهمًّا، وأحيانًا مقلقًا. من الحق إذن أننا لو كنَّا نشأنا في زمنٍ ومكان مختلفين اختلافًا بعيدًا لانتهينا إلى أساليب جدِّ مختلفة من الفكر ومعايير التقييم والحدوس بما هو واضح. أضف إلى ذلك أن بعض هذه البدائل لا ينطوي على أي قصورٍ بيِّنٍ في العقلانية أو أي انتهاك للمعايير الإبستيمية.

إنه لأمرٌ يدعو إلى القلق؛ لأنَّ إدراك هذه الاختلافات — وبخاصةٍ تلك الاختلافات التي تبدو عصيَّةً على التسوية بطريقة لا تصادر على المطلوب — يبقى في توتُّر مع حقيقة أنه من المُحال تقريبًا في الممارسة العملية أن ننظر إلى مفاهيمنا المركزية واعتقاداتنا ومبادئنا كمجرَّد مجموعة بين غيرها من المجموعات العديدة المُتساوية في الوجاهة. إننا نريد أن يكون بمُكنتنا أن نقول شيئًا أكثر من «حسنٌ، هكذا نفعل عندنا.» أو «أنت على خطأ؛ لأنك لا تقيس الأمور بمقاييسي.» وإنه لمن دواعي الرِّضا أن نجد طريقة نتجنَّب بها التوتُّر الذي يمكن أن يُولِّده هذا الشعور بالعرضية. ولكن لا تبدو في الأفق بارقة أملٍ في وجود طريقة.

(٩) فهم «الآخر»: بعض الوصايا الصريحة والضِّمنية

(٩-١) التأويلية الحديثة

نظرية التأويل (الهرمنيوطيقا) هي المبحث الخاص بدراسة عمليات الفهم، وبخاصة فيما يتعلق بتأويل النصوص. ويمتدُّ مفهوم «النص» في نظريات التأويل الحديثة ليشمل كل «كيان شبيه بالنص» بما في ذلك الأثر التاريخي، والعمل الفني، والشخص البشري. بمقدورنا أن نصوغ مهمَّة التأويلية الحديثة بمُصطلحات مبحث النِّسبية، فنقول إنَّ التأويلية هي فنُّ (وعلم) اختراق الأطر المُغايرة، والتغلُّب على «اللامقايسة»، والإصغاء إلى «صوت الآخر» واتِّخاذ إطاره المَرجعي وفهْم رموزه وأقواله دون أن يفرض عليها المرء مقولاته هو أو تصنيفاته الذهنية (categories).

(٩-٢) دلتاي: الحياة تفهم الحياة

ذهب دلتاي إلى أن الحياة قاسم مشترك بين الأحياء، وأن الخبرة قاسم مشترك بين الأشخاص. إن بمقدوري أن أعرف الحياة الباطنة لشخصٍ آخر لأنني أيضًا شخص. رأى دلتاي أنَّ التأويلية هي المبحث المركزي الذي يمكن أن يُقدِّم الأساس الذي تقوم عليه العلوم الإنسانية (التي كان يُسمِّيها دلتاي «العلوم الروحية» Geisteswissenschaften) أي جميع المباحث التي تنصبُّ على فهم أفعال الإنسان وكتاباته وفنِّه.
لكي نُؤوِّل أي تعبير عظيم للحياة الإنسانية يلزمنا، في رأي دلتاي، فعلٌ من «الفهم التاريخي»، وهي عملية تختلف جوهريًّا عن الفهم العلمي الكمِّي للعالم الطبيعي؛ ذلك أن ما نقوم به في هذه العملية من الفهم التاريخي هو معرفةٌ شخصيةٌ بما يعنيه كائنٌ إنساني آخر. يكمن الفرق بين العلوم الطبيعية والعلوم الثقافية، في رأي دلتاي، في موضوع الدراسة ومنهجها أيضًا: تضطلع العلوم ﺑ «تفسير» explanation الطبيعة بينما تنصرف الدراسات الإنسانية إلى «فهم» understanding تعبيرات الحياة. أما العلوم الطبيعية فهي تفسر موضوعها من خلال الروابط «السببية» causal: إنها تعرف موضوعها من الخارج. ويبقى موضوعها غريبًا عن العالم الإنساني. أما «الفهم» فهو في المقابل «يعرف» موضوعه (كائن إنساني أو إنتاج إنساني) من الداخل: بوسعي أن أعرف الآخر لأن الحياة التي تنطق بلساني تنطق أيضًا بلسانه. ليست هذه معرفةً بالروابط السببية بل معرفة بشبكةٍ من المعاني مُماثلة لشبكة المعاني التي أفهم بها نفسي.
ذهب دلتاي إلى أن العلوم الإنسانية يلزمها «نقد» آخر للعقل يقدم للفهم التاريخي ما قدمه كانْت في «نقد العقل الخالص» للعلوم الطبيعية، ذلك هو «نقد العقل التاريخي». كان جيامباتيستا فيكو يُسلِّم في كتابه «العلم الجديد» بتميُّز الطبيعة الإنسانية ويَثِق بأن علمه الجديد يُمكن أن يؤدِّي إلى مجموعة عالمية من المبادئ الخاصَّة بالطبيعة الإنسانية؛ ذلك أنه حتى المُجتمعات التي لا يُوجد بينها أي اتِّصال تُواجِه نفس المشكلات الوجودية،١٢٨ أخذ دلتاي بتعاليم فيكو وذهب إلى أن الدراسات الإنسانية مُتاح لها شيء غير مُتاح للعلوم الطبيعية وهو إمكان فهم الخبرة الداخلية لشخصٍ آخر من خلال عملية انتقال ذهني مُلغِزة وسرية. إنها عملية إعادة تشييد أو إعادة مُعايشة لعالَم الخبرة الداخلية لشخصٍ آخر. غير أن اهتمامنا لا ينصبُّ على الشخص الآخر بل على العالم نفسه. وهو عالم ننظُر إليه كعالم «اجتماعي-تاريخي». إنه عالم الأوامر الأخلاقية الداخلية، عالم مُشترك من المشاعر والاستجابات ومن الخبرة المُشتركة بالجمال. وإن لدَينا القدرة على النفاذ إلى هذا العالم الإنساني الداخلي لا من خلال الاستبطان بل من خلال التأويل؛ أي فهم تعبيرات الحياة وقراءة بصمة الإنسان على الظواهر وفك رموزها.
إن الحياة لتكشف عن ذاتها وتُعبِّر عن نفسها في الأعمال (الأدبية والفنية … إلخ). غير أنَّ التعبير في هذه الحالة ليس تعبيرًا عن واقع فردي وشخصي محض؛ لأنه عندئذٍ يتعذَّر فهمه من جانب شخص آخر. عندما يأخُذ التعبير شكل الكتابة فإنه يستعمل اللغة، وهي وسيط مُشترك بين الكاتب والمُتلقِّي. وبالمثل فإن الخبرة هي شيء مُشترك بين القائل والمُستمع، فالفهم يأتي في حقيقة الأمر بفضل تماثُل الخبرة. هكذا يُمكننا أن نفترِض وجود بناءات عمومية يحدُث الفهم الموضوعي فيها ومن خلالها. التعبير إذن ليس تعبيرًا عن شخص على الإطلاق كما تذهب النزعة السيكولوجية، بل عن واقع اجتماعي-تاريخي يكشف عن نفسه في الخبرة، ذلك هو الواقع الاجتماعي-التاريخي للخبرة ذاتها.١٢٩
ولكلمة «الفهم» معنى خاص عند دلتاي يختلف عن معناها في الاستعمال الدارج، فهي لا تُشير إلى فَهْم تصور عقلي مثل مسألة رياضية مثلًا، بل يدخر دلتاي كلمة «فهم» لكي يُسمِّي بها تلك العملية التي فيها يقوم العقل بفهم عقلٍ آخر. إنها ليست عملية معرفية خالصة على الإطلاق، بل هي تلك اللحظة الخاصة حيث الحياة تفهم الحياة. إننا «نفسر» explain بواسطة عمليات فكرية محضة، ولكننا «نفهم» understand بواسطة النشاط المشترك لجميع القوى الذهنية في الإدراك. ويُعبر دلتاي عن هذه الفكرة في عبارته المُحكمة المأثورة: «نحن نفسر الطبيعة، أما الإنسان فإنَّ علينا أن نفهمه.» الفهم إذن هو العملية الذهنية التي يتمُّ لنا بواسطتها إدراك الإنسانية الحية. إنها الفعل الذي يُشكِّل أفضل اتصال لنا بالحياة ذاتها.

يفتح لنا الفهم عالم الأشخاص الفرديين، وهو بذلك يفتح لنا أيضًا الاحتمالات الكامنة في طبيعتنا نحن. ليس الفهم مُجرَّد فعل فكري، وإنما هو انتقال وإعادة معايشة العالم كما يجده شخصٌ آخر في الخبرة المعيشة. وليس الفهم عملية مقارنةٍ واعية تأمُّلية، بل عملية تفكير صامتٍ يتمُّ فيها انتقال المرء بطريقةٍ سابقة على التأمُّل إلى دخيلة الشخص الآخر. إنَّ المرء ليُعيد اكتشاف نفسه في الشخص الآخر.

(٩-٣) هسرل: الموقف الفينومينولوجي

يتألَّف الموقف الفينومينولوجي من تفحُّص الفرد لوعيه بدقَّة وبلا فروض مُسبقة. والتعبير المفتاح هنا هو «لا فروض مسبقة» presuppositionlessness. إن ملاحظاتنا بصفة عامة هي نتاج تفاعُل عاملين: (١) ذلك الذي هناك ونحن بصدد ملاحظته. (٢) categories المقولات العقلية التي وفقًا لها نُنظِّم ملاحظاتنا ونُصنِّفها. وفي العادة تتشكل ملاحظاتنا وفقًا لنظرياتنا، أي أن ملاحظاتنا عادة تفترض مسبقًا مقولاتنا ونظرياتنا. ونحن حين نستخدِم المنهج الفينومينولوجي فمن المفترض أننا «نعلق» suspend مقولاتنا والتزاماتنا النظرية ونصِف ما يظهر لنا كيفما يظهر.١٣٠
تفترض فينومينولوجيا هسرل، شأنها شأن تأويلية دلتاي، أننا لكي نصِل إلى تأويل سديد للموضوع يلزمُنا سياق صحيح أو إطار ذهني. غير أنها لا تحفل بالأُطر الخارجية التاريخية والثقافية، وترى أنَّ النص يعكس إطاره الذهني الخاص. وحين رفع هسرل شعار «إلى الأشياء ذاتها» فإنما فعل ذلك لأنه يعتبِر الموضوعات أشياء تامَّة في ذاتها. أن تفسر إذن يعني أن تعزِل النص منهجيًّا عن كل ما هو دخيل عليه، بما في ذلك تحيُّزات الذات، وأن تُتيح للنصِّ أن يُوصِّل معناه إلى الذات. فهدف الفينومينولوجيا هو أن تقبض على حقيقة النص كما هي، دون أي تلوين من جانب الذات أو إسقاط من جانب القارئ؛ فالتأويل من الوجهة الفينومينولوجية ليس شيئًا «يفعله» القارئ بل هو شيء «يحدُث له». وبقدر ما يضرب صفحًا عن السياق التاريخي والثقافي الصارم الذي تلتزم به تأويلية دلتاي فإنه يُولي انتباهًا شديدًا لعملية نفي التحيُّزات (أو تقويسها أي وضعها بين أقواس bracketing)، وعملية التمعُّن الدقيق والوصف المُفصَّل والتأمُّل العميق للنص، من أجل الوقوف على حقيقة النصِّ كما هي.

(٩-٤) هيدجر: مراجعة الإسقاطات المُسبَقة

كان هيدجر، شأنه شأن دلتاي، يبحث عن منهج من شانه أن يكشف الحياة في ضوء الحياة ذاتها. وقد وجد في فينومينولوجيا هسرل منهجًا يمكن أن يُسلط الضوء على حقيقة الوجود الإنساني بطريقة يمكن للمرء بها أن يكشف النقاب عن الوجود ذاته لا عن مجرَّد أهوائه وتحيزاته وأيديولوجيته. غير أنه تجاوز كلًّا من دلتاي وهسرل فأخذ التأويل إلى مستوًى جديد وأضفى عليه بعدًا أنطولوجيًّا؛ ذلك أنه وصف الفهم والتأويل كطبيعة ماهوية للكائن الإنساني؛ فالإنسان كائن تأويلي في صميم طبيعته، والفهم ليس شيئًا يفعله الإنسان بل هو شيء يكونه. كما أكد هيدجر تاريخية الفهم، فليس بوسع المُؤول أن يبدأ عمله من «نقطة أرشيميدية»، وإنما هو مغمور منذ البداية في تاريخيته الخاصة. لا يملك الإنسان أن يخرج من تحيُّزاته وفهمه المُسبق لكي يبدأ من وعيٍ فينومينولوجي مُبرَّأ من الفروض المُسبقة presuppositionless. لا يملك الإنسان أن يأبق من موقعه الزماني، ولا يلزمه ذلك. إن محاولة الوصول إلى تأويلٍ مُبرَّأ من أي تحيُّز أو فرض مُسبق هي محاولة عابثة لأنها تمضي في حقيقة الأمر ضدَّ الطريقة التي يتمُّ بها الفهم. إن «ما يظهر من الشيء» أو الموضوع هو ما يسمح له المرء أن يظهر، وهو أمر يتوقَّف على فروضه المسبقة والبُنى المُسبقة لفهمه. ومن السذاجة أن نفترض أن ما هو «هناك حقًّا» هو أمر «واضح بذاته»، بل إنَّ تعريف ما نفترض وضوحه الذاتي هو نفسه شيء يقوم على حشْد غير مرئي من الفروض المُسبقة. تلك الفروض الحاضرة العتيدة في كلِّ بناء تأويلي يُشيده المُؤوِّل الذي يظنُّ نفسه «موضوعيًّا» وبريئًا من الفروض المسبقة. وقد اعتبر تلميذه جادامر أن حملة النزعة التنويرية ضدَّ التحيزات المُسبقة هي نفسها تحيز؛ «تحيز ضد التحيز»! لقد أماط هيدجر اللثام عن هذا الحشْد من الفروض المُسبقة القائمة والمُندسَّة في كلِّ تأويل مُمكن وذلك في تحليله لعملية الفهم.١٣١

إنَّ المرء لا يمكنه أن يعرف العالم إلا من خلال الفهم المُسبق. لكي «يفهم» المرء ينبغي أن «يفهم سلفًا»! ذلك أن البِنية الذهنية المسبقة هي «عُدتنا» للفهم (أو شِباكنا التي نصطاد بها المعنى) وأنه لا مناص لنا من أن نبدأ من حيث نحن. إننا لا يمكن أن نقرأ نصًّا ما إلا بتوقعات مُعيَّنة، أي بإسقاطٍ مسبق. غير أن علينا أن نُراجع إسقاطاتنا المُسبقة باستمرار في ضوء ما يمثل هناك أمامنا، وبإمكان كل مراجعة لإسقاط مُسبق أن تضع أمامها إسقاطًا جديدًا من المعنى. ومن الممكن أن تبزُغ الإسقاطات المُتنافسة جنبًا إلى جنب إلى أن تغدو وحدة المعنى أكثر وضوحًا ويتبيَّن كيف يمكن أن تترابط الرموز والعالم. هذه العملية الدائمة من الإسقاط الجديد هي حركة الفهم والتأويل، وعلى المرء لكي يبلغ أقصى فهمٍ ممكن ألا ينخرِط فحسب في هذا الحوار مع النص، بل أن يفحص على نحوٍ صريح منشأ المعنى المسبق الذي بداخله ومدى صحة هذا المعنى.

(٩-٥) جادامر: التحام الآفاق

أخذ هانز جيورج جادامر، تلميذ مارتن هيدجر، على عاتقه استخلاص المُتضمَّنات الخصبة لفكر أستاذه. ارتكز جادامر أيضًا على فكرة «تاريخية الفهم»، فالمُؤوِّل لا يَسعُه أن يغادر موقعه لكي يفهم النص بحيدة كائنٍ مُفارق. إنه مغمور في تاريخيته الخاصة بل هو «مجبول» بها. والتأويل هو لقاء بين باحث موجود في الحاضر وعلى وعيٍ ودراية بمقولات فهمه المشروطة تاريخيًّا وبين ماضٍ يعرض نفسه لعملية التأويل، من هذا المنظور تُصبح فكرة «موضوع تاريخي» مُنفصل عني كمؤولٍ له هي نفسها فكرة غير ذات معنى. يقول جادامر إنَّ النصَّ لا يُفهم إلَّا إذا كان يتمُّ فهمه كل مرة على نحو جديد!

تُعدُّ فكرة التحرُّر من التحيُّزات التي ينطوي عليها الرأي السائد في الزمن الراهن وتنقية الفهم والتأويل من هذه التحيُّزات فكرة جدُّ شائعة بيننا جميعًا. لقد درجْنا على القول بأن من السُّخف أن نحكم على إنجازات عصر مضى بمقاييس اليوم، وبأن من المُحال إذن تحقيق ما نصبو إليه من معرفة تاريخية إلا بالتخلُّص من سيطرة الأفكار والقيم الشخصية على الذات والانفتاح الذهني الكامل على عالم الأفكار والقيم الخاصة بذلك العصر الماضي. وكان استكشاف دلتاي ﻟ «نظرة العالم» الخاصة بكل عصر مُستندًا إلى ضربٍ من النسبية التاريخية التي تقول بأن الانفتاح العقلي يقضي بأن لا يَحكم المرء على عصر تاريخي مُعين بأحكام عصر آخر. واقع الأمر أننا لا يمكن أن نُغادر الحاضر لكي نذهب إلى الماضي، وأن «معنى» أي عمل من الماضي لا يمكن أن نراه في حدود ذاته فحسب؛ الأمر على النقيض من ذلك، فمعنى العمل الماضي إنما يتحدَّد في ضوء الأسئلة التي تُوجَّه إليه من الحاضر. وإذا تمعَّنَّا في بنية الفهم فنحن نرى أن الأسئلة التي نسألها تنتظم بحسب الطريقة التي نُسقط فيها أنفسنا، أثناء عملية الفهم، في المستقبل.

ثمَّة حدٌّ لعالمنا الخاص، لواقعنا المدرك، ليس بمقدورنا أن نتجاوزه. ثمة «أفق» horizon ليس بوسعنا أن نرى وراءه. «الأفق» هو مجال الرؤية الذي يشتمِل على كلِّ ما يُمكننا رؤيته من منظورنا الخاص: هو categories «مقولات» الفهم المُتاحة لنا والتي نرى بها ولا نملك أن نرى أبعد منها، كما أن للنصِّ الذي نُواجهه (وللآخر كيفما كان) أُفُقه الخاص، أي نطاق المعارف عن العالم التي كُتب النص في ظلِّها. يلتقي أُفُق القارئ بأُفُق النص، القارئ يقرأ بفهمه وبأُطُره المرجعية، ولكن ما يقرؤه هو بناء له عناصره وعلاقاته التي تحكمها آفاق الزمن الذي كُتب فيه. القراءة إذن موثوقة بالنص وتاريخيته. كل قراءة هي محض تأويل، دخول تاريخية القارئ في تاريخية النص. ليست هناك قراءة دائمة، هناك فقط قراءة تاريخية. ليس هناك معنًى دائم أو مِثالي، هناك فقط معنًى وجودي، أي المعنى كما يبزُغ خلال فهم القارئ التاريخي للنصِّ التاريخي، ونحن حين نستخدم كلمة «تاريخي» إنما نُريد أن نُذكِّر بأن النفس كيان ثقافي، وأن المعنى هو بناء ثقافي مُشيَّد بالعلامات، وأن آفاق المرء يُحدِّدها الوجود الثقافي للمرء.
قُلنا إنَّ أُفق القارئ يلتقي بأفق النص، هنالك يتداخل ويلتحِم أفق الحاضر (القارئ) بأفق الماضي (النص) أو ينصهران إلى أُفق أكبر. هذا الالتحام أو الانصهار يتحدَّد وفقًا لما أسماه جادامر «منطق السؤال والجواب»، فالنص يَسلُكنا في حوارٍ حول موضوعه، ويهيب بنا بوصفه جوابًا عن سؤالٍ مُضمَر أن نواجِه نفس السؤال الذي واجهه. يتبيَّن إذن أن الفهم التأويلي للماضي ليس مُجرَّد إعادة تشييد للسياق الذي انبَثق فيه النص التاريخي، إنما هو بالأحرى حوار مع التراث، حوار تظلُّ تشغلنا فيه نفس القضايا التي شغلت الحقبة التاريخية التي نتناولها.١٣٢

إن إعادة بناء السؤال الذي يُعدُّ النص أو الفعل التاريخي جوابًا عنه ليست عملية مُغلقة على ذاتها ولا يمكن تصوُّرها كذلك على الإطلاق، ذلك أن أُفُق المعنى الذي يقف داخله النص أو الفعل التاريخي تتمُّ مُقاربته من داخل الأفق الشخصي للمرء، فالمرء عندما يقوم بالتفسير لا يترُك أفقه الخاص وراءه، بل يُوسِّعه بحيث يدمِجه بالأفق الخاص بالنص أو بالفعل التاريخي. كما أن التفسير ليس مسألة الوقوف على مقاصد الكاتب أو الفاعل التاريخي، إنَّ الموروث نفسه يتحدَّث في النص، وجدل السؤال والجواب يُحدِث انصهارًا للأُفقين أو التحامًا بينهما. فما الذي يجعل هذا الالتحام مُمكنًا؟ ما يجعله مُمكنًا هو حقيقة أنَّ كِلا الأُفُقَين بمعنًى ما هو شيء عام وشامل ومؤسَّس في الوجود؛ ولذا فإن الالتقاء بأُفُق النص القديم، في واقع الأمر يُضيء الأفق الخاص بالمرء ويؤدي إلى الفهم الذاتي والكشف الذاتي، فاللقاء يُعدُّ لحظة انكشاف أنطولوجي. إنه حدث فيه يبزُغ شيءٌ ما من «السلب» — أي من إدراك المرء أن هناك شيئًا ما لا يعرفه. إنَّ الأشياء ليست كما كان المرء يفترض، الانكشاف، بعبارة أخرى، يأتي كواقعة ديالكتيكية لها بنية الخبرة وبنية السؤال والجواب.

أن تسأل سؤالًا أصيلًا، في نظر جادامر، يعني «أن تُقيم في العراء»؛ لأنَّ الجواب لم يتحدَّد بعد، ومعنى أي سؤال إنما يدرك في المرور خلال هذه الحالة من عدم التحدُّد، التي يُصبح فيها سؤالًا مفتوحًا غير محسوم، وكل سؤال حقيقي يتطلَّب هذا الانفتاح، فبدون هذا الانفتاح يكون السؤال مجرَّد سؤال ظاهري؛ سؤال زائف. لا سبيل إلى الظفر بالسؤال الصحيح إلا بالانغمار في الموضوع نفسه؛ ولذلك فالحوار الحقيقي هو نقيض الجدل أو المناظرة، لأن «المجادل» بطبيعته يتمسَّك بالجواب الذي بدأ به. أما «المحاور» فهو لا يُحاول أن يُحرج الطرف الآخر، بل يختبِر دعاواه في ضوء الموضوع نفسه. ونحن إذا أنعَمْنا النظر في مُحاورات أفلاطون عن الحبِّ أو الأخلاق أو العدالة … إلخ، نجد الحوار يتحرَّك في اتجاهاتٍ غير مُتوقَّعة؛ لأنَّ المُتحاورين في هذه المُحاورات يقودهم انغماس عام في المسألة موضوع المناقشة. وحين يُريد المرء أن يختبر دعاوى الشخص الآخر فهو لا يُحاول أن يُضعفها، بل على العكس يُحاول أن يُقوِّيها، أي يُحاول أن يجد نقاط قوتها الحقيقية في تناول الموضوع نفسه. هذا ما يجعل محاورات أفلاطون، في رأي جادامر على أعلى درجة من الأهمية في زمننا المعاصر.١٣٣
قريب من ذلك قول بوبر في كتابه الأخير «أسطورة الإطار»:
يجد كثير من المُنخرطين في مناقشة عقلانية، أي مناقشة نقدية، صعوبةً خاصة في أنَّ عليهم نِسيان ما تعلَّموه من غرائزهم (وما حدَث أن تعلموه من كلِّ تجمُّع سجالي)؛ أي أنهم يجِب أن ينتصروا، فما يجِب أن يتعلَّموه هو أن الانتصار لا يعني شيئًا، بينما يكون النجاح العظيم في أبسط توضيح لمُشكلةٍ ينشغل بها المرء، بل وفي أضأل مُساهمة في السير قدمًا نحو تفهُّمٍ أوضح لموقفه الخاص أو موقف واحدٍ من خصومه. إن المناقشة التي تنتصر فيها بينما تفشل في أن تُعينك على تغيير أو توضيح أفكارك ولو إلى حدٍّ يسير، يجِب اعتبارها خُسرانًا مُبينًا.١٣٤

(٩-٦) ريكور: الارتياب والانفتاح

في تناوله للاستعارة (والحكاية الرمزية) خلص ريكور إلى أنَّ تدمير المعنى الحرفي يُتيح لمعنًى جديدٍ أن يظهر. وبالطريقة نفسها تتبدَّل الإشارة في الجُملة الحرفية وتحلُّ محلَّها إشارة ثانية هي تلك التي تحملها الاستعارة. هكذا تخلُق الاستعارة إشارة جديدة تُتيح لنا أن نصف العالم أو جزءًا من العالم كان مُتمنِّعًا على الوصف المباشر أو الحرفي. ثمة توتُّر في الاستعارة (وكذلك في الحكاية الرمزية) بين عنصر الإثبات (المعنى الحرفي) وعنصر النفي (المُقيَّد الذي يدلُّ على أن المعنى الحرفي غير مقصود). من شأن هذا التوتُّر أن يُسقط عالمًا أمام النص. هذا العالم المُسقط هو «المشار إليه» الحقيقي في الاستعارة وفي الحكاية الرمزية. ويرى ريكور أن معنى الاستعارة وإشارتها هما شيء في انتظار أن يتملَّكه القارئ الراهن من خلال عملية إضفاء القرينة أو السياق التي يضطلع بها من جديد كلُّ قارئ للنص.

تناول ريكور بالبحث منهج الارتيابيِّين العظام: ماركس ونيتشه وفرويد، وقال إن ثلاثتهم في حقيقة الأمر كانوا يهدفون إلى «تنقية الأفق من أجل عالم أكثر أصالة، وحُكم جديد للحقيقة، لا من طريق النقد الهدْمي فقط، بل بابتكار فنِّ للتأويل.»١٣٥ عندما تُطبَّق هذه التأويلية على نصٍّ من النصوص فإنها تُفضي إلى إمكان الوصول إلى ما أسماه ريكور «براءة ثانية» second naivete والتي يُمكن بواسطتها تحقيق هدف التأويل وهو إيجاد «عالم أمام النص، عالم يفتح إمكانات جديدة للوجود». إنَّ من أيسر الأمور وأكثرها رجحانًا عندما يقرأ المرء نصًّا من النصوص، وبخاصَّة إذا كان مألوفًا، أن يفعل ذلك بتصلُّب ورضًا ذاتيٍّ يميل إلى «تجميد» معنى النص تجميدًا لا رجعة فيه. ويبدو أن مُقاربة النصِّ بارتيابٍ مُعيَّن — أي بتساؤل عما إذا كان ما يبدو أن النصَّ يقوله هو مُطابق حقًّا لرسالته الحقيقية التي يُريد إبلاغها — هو عملية تأويلية صحيحة وضرورية أيضًا.

ثَمَّة نقطة أخرى أوضَحها أساتذة الارتياب (ماركس ونيتشه وفرويد) وهي أنَّ الارتياب يجب أن يكون مُزودجًا يتوجَّه إلى المشاركين (المجتمع بصفة عامة أو أفراد المجتمع) وإلى النسَق (العقيدة). كذلك يجِب أن يكون الارتياب مزدوجًا في تناول أيِّ نصٍّ من النصوص، فعندما أُقارب نصًّا ما يلزمني أن أُطبِّق الارتياب على نفسي (هل أقوم بإقحام معنًى ما على النص؟) وأن أطبق الارتياب على النص (هل يقول النص ذلك حقًّا؟) يقول ريكور إن كِلا قُطبي الارتياب صحيح وضروري إذا شئنا أن نُصغي إصغاءً جديدًا لما يُريد النصُّ أن يقوله. علينا أن نُقارِب النصَّ بطريقة نقدية وارتيابية حتى يتسنى لنا أن نسمع رسالته وبلاغه، وحتى لا ندع فهمنا المُسبق وقناعاتنا المسبقة تُغشِّي على الحقيقة وتحجُبها.

لقد انتهى المطاف بالهرمنيوطيقا اليوم إلى أن ترتكز على القارئ وتسنِد إليه دورًا مُتعاظِمَ الأهمية في العملية التأويلية. لم يقنع ريكور، رغم أنه يعمل داخل إطار «هرمنيوطيقا القارئ»، إن صحَّ التعبير، بالذاتية الصميمة المُرتبطة بهذه الهرمنيوطيقا، فأراد أن يتَّخِذ المسار الضيِّق والخطَّ الرفيع الممدود بين دعوة الموضوعية (المُرتكزة على النص نفسه) وبين البقاء في حالة «انفتاح» مُعيَّن على ما «يعتمِل في باطن النص، ولعلَّه كان قمينًا أن يقوله». تُمثل هرمنيوطيقا الارتياب عند ريكور مُحاولته الإبقاء على كلٍّ من الطابع العلمي والطابع الفني للتأويل دون منح أيٍّ منهما منزلة مُطلقة. ذهب ريكور إلى أن حيوية الهرمنيوطيقا يكفُلها هذا الدفاع المزدوج: الشكُّ والإصغاء، التمرد والإذعان، «الأول يتعلَّق بمُهمة «إزالة الأصنام»، أي أن نُصبح على وعيٍ نقدي بأنفسنا عندما نُسقط رغباتنا وبناءاتنا الذهنية على النصوص. وبهذا الوعي النقدي لا تعود إسقاطاتنا الذاتية تُخاطبنا من خارج أنفسنا على أنها «آخر». والثاني يتعلق بالحاجة إلى الإصغاء بانفتاحٍ إلى الرمز وإلى السرد، وبذلك نُتيح لأحداثٍ خلَّاقة أن تحدُث «أمام النص» وتمارس تأثيرها علينا.»١٣٦

(٩-٧) بوبر: المُقارنة بين مُعقِّبات الأُطر لا أُسسِها

يذهب كارل بوبر إلى أنَّ اصطدام الأُطر هو خير لا شر؛ إذ يتولَّد عنه الحسُّ النقدي. ومن الاختلاف في الرأي ومن النقد المُتبادل ينشأ العلم وتنمو المعرفة. إن الحضارة هي نتاج للصدام بين الأطر المُختلفة؛ فالحضارة الغربية مثلًا نتجت من الصدامات بين الإغريق والرومان ومن الصدامات السابقة على ذلك مع الحضارة المصرية والفارسية والفينيقية وحضارات الشرق الأوسط الأخرى، ثم الصدامات اللاحقة مع الحضارة اليهودية، ثم مع موجات الغزو الجرماني والإسلامي. إن «المعجزة الإغريقية» ونشأة كلٍّ من الشعر والفن والفلسفة والعلم الإغريقي تعود إلى صدامٍ ثقافي. لقد بدأ الفكر الإغريقي في المُستعمرات الإغريقية: في آسيا الصغرى، وجنوب إيطاليا، وصقلية، حيث تمَّت المُجابَهة بين المُستعمرين الإغريق وبين حضارات الشرق العظيمة.١٣٧
من شأن الصدام بين الأطر أن يُحرِّر أصحابها من انحيازاتهم اللاشعورية، ومن تسليمهم دون وعيٍ بنظرياتٍ مطمورة في البِنية المنطقية للُغَتِهم، وذلك بفعل النقد الذي يتولَّد عن الصدام الثقافي. إن «الوعي/المعرفة» قوةٌ مُغيِّرةٌ مُحرِّرة تُتيح لنا أن نُحطِّم سجن الإطار. إننا نعيش حقًّا داخل سجن عقلي صنعَتْهُ القواعد البنائية للُغَتِنا، كما أشار بنيامين ورف، دون أن نَعِيَ بذلك. ومن شأن الصدام الثقافي أن يُبصِّرنا ويجعلنا على وعيٍ به. هنالك يُتيح لنا هذا الوعي ذاته أن نُحطِّم قضبان السجن إذا ما صدقَتِ المحاولة وخلصت النية، وأن نعلوَ على سجننا عن طريق دراسة اللغة الجديدة والمقارنة بينها وبين لغتنا:
إن السجون هي الأطر، وأولئك الذين يَمقُتون السجون سوف يُعارضون أسطورة الإطار، سوف يُرحِّبون بالمناقشة من مشاركٍ آتٍ من عالمٍ آخر، من إطارٍ آخر؛ لأنَّ ذلك يُتيح لهم اكتشاف أغلالهم التي لم يشعروا بها حتى الآن، وأن يُحطموا تلك الأغلال؛ وبالتالي أن يتعالَوا على أنفسهم. ولكن من الواضح أنَّ تحطيم المرء لقُضبان سجنِه بهذه الطريقة ليس مسألةً روتينية، ولا يُمكن أن يتأتَّى إلَّا من خلال جهدٍ نقدي وجهدٍ إبداعي.١٣٨
يرى بوبر أنه ما دامت رؤيتنا للعالم «محملة بالنظرية» theory-laden فإن الخطوة الجوهرية للتقدُّم نحو نظريات أفضل هي «الصياغة اللغوية لمُعتقداتنا»؛ لأن هذه الصياغة تجعلها «موضوعات» objects، أي تنقلها من العالم ٢ (عالم الخبرة الذاتية) إلى العالم ٣ (عالم المعرفة الموضوعية)، وبالتالي يفصلها عن الذات العارفة ويجعلها هدفًا سانحًا للنقد. بهذا تحلُّ نظرياتنا محلَّ مُعتقداتنا ونستطيع التقدُّم من خلال المناقشة النقدية لهذه النظريات.
وإذا كانت بعض عناصر أُطُرنا هي نظريات مطمورة في صميم بِنيتنا البيولوجية الموروثة كتكييفاتٍ مع نُظم البيئة تشكَّلَت واستتبَّت عبر أحقابٍ من التطوُّر الفيلوجيني (تطوُّر النوع البشري)، فما يزال بإمكاننا أن نعلوَ على فسيولوجيتنا المؤسَّسة وراثيًّا باتِّخاذنا المنهج النقدي. إن منهج العلم، منهج المناقشة النقدية، هو الذي يجعل من المُمكن لنا أن نعلوَ ليس فقط على أُطرنا المُكتسبة من الثقافة بل أيضًا على أُطرنا الفطرية. هذا المنهج يجعلنا نعلو ليس فقط على حواسِّنا بل أيضًا على مَنْحانا الغريزي جُزئيًّا نحوَ اعتبار العالم كونًا من الأشياء المُحدَّدة وخصائصها، ومنذ عهد هيراقليطس يُوجَد الثوريون الذين يُخبروننا أن العالم يتألَّف من «عمليات» processes، وأن الأشياء أشياء في المظهر فقط بينما هي في الحقيقة عمليات؛ مما يُبين كيف يستطيع التفكير النقدي أن يتحدَّى الإطار ويعلو عليه حتى لو كان الإطار ضاربًا بجذوره، ليس فقط في اللغة المُتعارَف عليها بل أيضًا في جِيناتنا الوراثية، فيما يمكن أن نُسمِّيه الطبيعة البشرية.١٣٩

وصفة بوبر للتغلُّب على اللامقايسة

إن المبدأ القائل باستحالة المناقشة العقلانية للأسس، وبالتالي استحالة المقايسة بين الأطر المختلفة، هو نتاج للنظرة الخاطئة القائلة بأن كل مناقشة عقلانية لا بدَّ لها من أن تبدأ بمبادئ أساسية نُسلم بها تسليمًا حتى نتفادى «النكوص اللانهائي» ad infinitum. ومن ثم فإننا حين نخضع الأسس البديهية للنقاش العقلاني فلا بدَّ أن نلتجئ مجددًا إلى مبادئ أو بديهيات، وفي العادة فإن أولئك الذين يَرَون الموقف هكذا إما أن يُؤكِّدوا على صدق إطار من المبادئ أو البديهيات وإما أن يُصبحوا نِسبيين يقولون بأن هناك أطرًا مختلفة وليس ثمَّة مناقشة عقلية فيما بينها.
غير أن هذا بأسره خطأ صراح؛ إذ يقوم على افتراضٍ مُضمر مفاده أن المناقشة العقلانية لا بدَّ أن تكون لها خاصية «التبرير» justification، أو «البرهان» أو «الإثبات»، أو الاشتقاق المنطقي من مُقدِّمات مُسلَّمٍ بها. لكن المناقشات الجارية في العلم جديرة أن تُعلِّم فلاسفتنا أنَّ هناك أيضًا صنفًا آخر من النقاش العقلاني: النقاش النقدي الذي لا يبحث عن إثباتٍ أو تبريرٍ أو اشتقاقٍ من مُقدِّمات أعلى، بل يحاول اختبار النظرية موضع النقاش عن طريق اكتشاف ما إذا كانت «مُعقِّباتها» consequences المنطقية (أي النتائج التي تنتُج عن صميم منطوق النظرية أو الأطروحة) جميعها مقبولة. إنه بهذا منهج يقوم على المُقارنة بين مُعقِّبات النظريات (أو الأطر) المُختلفة، ويحاول اكتشاف أيها له مُعقِّبات تبدو أفضل لنا. وبهذا نجده منهجًا على وعي ﺑ «اللامعصومية» fallibility الكامنة في كلِّ المناهج، على الرغم من أنه منهج يحاول أن يستبدِل بجميع نظرياتنا نظرياتٍ أفضل. ولنسلم جميعًا بأن هذه مهمة شاقَّة، لكنها ليست أبدًا مهمَّةً مُستحيلة.١٤٠

(٩-٨) بنيامين ورف: الإلمام بلغات أخرى

لعلَّ الوصفة التي يمكن استخلاصها من فكر بنيامين ورف اللغوي والأنثروبولوجي لمُغالبة الحتمية اللغوية، هي الإلمام بلغة أخرى أو أكثر من لغة: «فمن يُرد أن يكون أكثر حيدةً وأقلَّ انصياعًا للحتمية اللغوية فعليه أن يصير عالمًا لغويًّا استأنس بكثيرٍ من الأنساق اللغوية التي تختلف فيما بينها اختلافًا عميقًا. وهو شأنٌ لم يبلغه أحدٌ من علماء اللغة حتى الآن.» يعني ذلك أن فكر بنيامين ورف ينطوي في داخله على دعوةٍ إلى «إصلاح اللغة»؛ تلك العدسة المُحرِّفة التي تقِف بيننا وبين العالم (وربما إلى دعوةٍ أخرى إلى «إصلاح الإنسان نفسه» بتبصيره بسطوة العادات اللغوية على إدراكه وفهمه لماجَرَيات الواقع، وبإنماء وَعيه بالسياق المُباشر للواقع الخام). إن بعض اللغات، في رأي ورف، تُفضي إلى صورةٍ للعالم أدقَّ مِمَّا تفضي إليه اللغات الأخرى، بل إن «نظرة العالم» القائمة في لغة الهوبي تفوق تلك القائمة في اللغات الهندوأوربية في نواحٍ عديدة. على المرء أن يلتفت إلى تلك اللغات الأخرى التي تطوَّرَتْ بشكل مُستقل عن تطوُّر لغته المحلية، ووصلت من ثم إلى تحليلات مبدئية مختلفة على أنها منطقية بنفس الدرجة، وتجد فيها الترياق الضروري لذلك التضييق والتحريف الذي تخلُقه حتمية اللغة الواحدة وتفرضه على العالم. ويستلزم ذلك وجود «مستوًى ميتالغوي» عالمي يُمكن عنده التعبير عن هذا التحريف وذلك التضييق.١٤١

(٩-٩) جودمان ورولز: «التوازُن الفكري (التأمُّلي)»

في عملية «التوازن التأمُّلي» reflective equilibrium نبدأ بمعاييرنا الإبستيمية العامة (أو مبادئنا الكلية) من جهة، وبأحكامنا الجزئية (أو اعتقاداتنا في الحالات الجزئية الخاصة) التي نرضاها فيما يتعلق بما هو حقٌّ وما هو مُقنع من جهة أخرى. عندئذٍ نمضي في العمل جيئةً وذهابًا فنراجع معاييرنا العامة في ضوء أحكامنا الجزئية، ونراجع أحكامنا الجزئية في ضوء معاييرنا العامة. وما نزال نُعدِّل من هذه ونُحوِّر من تلك إلى أن نظفر بمجموعة من المعايير العامة والأحكام الجزئية تتَّسِم بالتوافُق والانسجام. يقال للمعايير التي نصِل إليها بهذه العملية المثالية إنها في حالة «توازن فكري أو تأملي». ويرى بعض الفلاسفة، مثل جودمان ورولز، أنها طريقة، وربما تكون الطريقة الوحيدة، لتبرير المبادئ.

من الاعتراضات الموجهة ضدَّ طريقة التوازن التأمُّلي أنها لا تضمَن لجماعتَين تنطلقان من مجموعتَين مُتباينتَين من المبادئ والأحكام أن تنتهِيا إلى تبرير معايير مُتماثلة. ولعلها تؤدي بشخصَين ينطلقان من نفس المبادئ والأحكام إلى عمل تكييفاتٍ مُختلفة تنتهي بهما إلى نُقطتي توازُنٍ مُختلفتَين. بل إنَّ هذه الحقيقة تُعدُّ نقطةً في صالح النسبية إذ إنها تعني أنَّ من الجائز تبرير مجموعتَين مُختلفتين من المبادئ والأحكام. ومهما يكن من أمر هذه الانتقادات فإن تقنية «التوازن التأمُّلي» حَرية في أحوالٍ كثيرة أن تؤدي بالمُختلفين إلى معايير واعتقادات أفضل تبريرًا مِمَّا كانت عليه قبل استخدام هذه التقنية.

(٩-١٠) دونالد دفيدسون: مبدأ الإحسان Principle of Charity

يذهب عدد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع، من بينهم كواين وكمبل ودفيدسون، إلى أنَّنا لا يُمكننا أن نفهم الآخرين أو نُترجمهم ما لم يكونوا مُتفقين معنا إلى حدٍّ كبير حول ما هو حق أو ما هو مقبول أو مُبرر … إلخ. وتُعدُّ أطروحة دفيدسون هي أشهر هذه الأطروحات وأكثرها تفصيلًا. يُهيب بنا دفيدسون أن نتَّخِذ «مبدأ الإحسان» إذا شِئنا أن نُترجم أو نُؤوِّل أو نفهم ثقافةً مُغايرة لنا حديثة الاكتشاف، أو إذا شئنا أن نفهم أيَّ شخصٍ آخر لا عهد لنا به. وبغضِّ الطرف لحظةً عن الصياغات التفصيلية يُشير علينا المبدأ أن نُؤوِّل الآخرين بطريقةٍ تجعل أكبر قدْرٍ ممكن من اعتقاداتهم صحيحًا.

ليس مبدأ الإحسان مبدأً فلسفيًّا فحسب، وإنما يعدُّ مبدأ ميثودولوجيًّا مُهمًّا في الأنثروبولوجيا المقارنة وعلم النفس الثقافي. وكما أوضح كمبل:
فقد تبيَّن أن العلامة الرئيسية التي تدلُّ عالِم الأنثروبولوجيا على تحقُّق التواصُل هي التماثُل بين استجالة الآخر للمُنبِّه وبين الاستجابة التي كان الأنثروبولوجي نفسه حريًّا أن يأتيها، كما تبيَّن أن عدم اتفاق الاستجابتَين هو دليلٌ على فشل التواصُل.١٤٢
تكمُن المشكلة الأساسية التي يتعيَّن على «التأويل الجِذري» radical interpretation أن يتناولها، في أن المرء لا يستطيع أن يُضفي معانيَ على منطوقات المُتحدِّث دون أن يعرِف اعتقاداته، ولا يستطيع في الوقت نفسه أن يُحدِّد اعتقادات المُتحدِّث دون أن يعرِف ما تعنيه أقواله! تلك مُعضلة تأويلية، فيما يبدو، ما دُمنا مُطالبين بتقديم نظريةٍ عن الاعتقاد ونظرية عن المعنى في آنٍ معًا. يطرح دفيدسون «مبدأ الإحسان» (الحسنى) principle of charity كحلٍّ ممكن لهذه المعضلة. ووفقًا لهذا المبدأ فنحن نبدأ بافتراض أنَّ اعتقادات المُتحدِّث (على الأقل في الحالات البسيطة والأساسية) مُماثلة لاعتقاداتنا إلى حدٍّ كبير، وأنها بالتالي صحيحة إلى حدٍّ كبير. عندئذٍ يمكننا أن نستخدم اعتقاداتنا نفسها كدليلٍ مرشدٍ إلى اعتقادات المُتحدِّث. ثُمَّ بافتراض أنَّ بإمكاننا تحديد العبارات الإخبارية البسيطة لدى المُتحدِّث يُمكننا، من خلال الصِّلة بين الاعتقاد والمعنى، أن نستخدِم اعتقاداتنا كدليلٍ مُرشد إلى معاني منطوقات المُتحدِّث. هكذا تستوي لدينا نظريةٌ مبدئيةٌ في الاعتقاد ونظريةٌ مبدئيةٌ في المعنى. وما إن نصِل إلى تحديدٍ مبدئي لمعاني عددٍ كبيرٍ من المنطوقات حتى يكون بمُكنتنا اختبارها في ضوء السلوك الجديد الذي يبدُر من المُتحدِّث ونُعدِّل هذه المعاني وفقًا لما يَجِدُّ من سلوك. وفي ضوء المعاني التي نُحصِّلها بشكلٍ متزايد يُمكننا أن نختبر الاعتقادات المبدئية التي أسبغناها على المتحدِّث حين طبَّقْنا عليه مبدأ الإحسان ونُعدِّلها أيضًا إذا لزم الأمر. وهذا بدوره يُتيح لنا مزيدًا من تعديل المعاني، ثم مزيدًا من تعديل الاعتقادات، وهكذا دواليك إلى أن نصِل إلى نوعٍ من «التوازن» equilibrium. هكذا نُعدِّل المعاني في ضوء الاعتقادات ونُعدِّل الاعتقادات في ضوء المعاني إلى أن نصِل إلى نظريةٍ شاملة في سلوك المُتحدِّث تجمع كلًّا من نظرية المعنى ونظرية الاعتقاد في نظريةٍ واحدة في التأويل.

وصفوة القول في «مبدأ الإحسان» هو أن الترجمة أو التأويل الناجح لا يكشف فحسْب عن قدرٍ كبيرٍ من الاتفاق في أغلب الأحيان، بل إنَّ قدرًا كبيرًا من الاتفاق هو شرطٌ مُسبَق لكلِّ ترجمةٍ أو تأويل ناجح!

(٩-١١) فيكتور تيرنر: الموقف الحَدِّي

كان الأنثروبولوجي الأمريكي فيكتور تيرنر مُولعًا بدراسة حالةٍ معينةٍ يَخبُرها الأشخاص إذ يمرُّون بالعتبة الفاصلة بين مرحلةٍ من الحياة ومرحلةٍ أخرى. لاحظ تيرنر، على سبيل المثال، أن طقوس المرور بمرحلة البلوغ لها مراحل ثلاث: انفصال المرء عن وضعه كطفلٍ بين أهله، ثُم مرحلة بينية أشبَهُ بالعتبة، ثم الاندماج أخيرًا في المجتمع كعضوٍ مُكتملٍ ومُستقلٍّ له حقوقٌ وعليه واجباتٌ لم تكن تُثقِل كاهل المُراهق من قبل. في هذه المرحلة الحَدِّية، مرحلة المابَين، يتغيَّم وضع المرء ويلتبِس، ويكون مُؤرجحًا مُعلقًا بين أي نقاطٍ ثابتةٍ للتصنيف،١٤٣ وتُعلَّق في شأنه أحكام كلٍّ من المرحلة السابقة التي كان فيها والمرحلة الآتية التي سيئول إليها. في هذه الآونة يكون المرء غريبًا ليس في العير ولا في النفير. إنه على الحدود، في حالةٍ بينية غير مُحدَّدة الملامح. لا حصانة للمرء هنا من الرؤية النقية ولا فروض ثقافية مُسبقة تعصب عينيه. تلك خبرة فينومينولوجية نادرة الصدق يتقلَّب فيها الوجود مُنكشفًا عاريًا في نواظر جديدةٍ صافيةٍ بكر.

يبدو، من وجهة نظر فيكتور تيرنر، أنَّ اتخاذ موقفٍ شبيهٍ بهذا الموقف، والنظر من المنطقة الحدودية، هو ما يُتيح لكبار الفنانين ونقاد المجتمع رؤيةً تتجاوز الأشكال الاجتماعية، وتسمح لهم أن يشهدوا المجتمع من خارج وأن يُبلِّغوه رسالةً ممَّا وراءه. هذا الموقف الحَدِّي أو الحالة البينية، أو هذا المُقام في «الصدع ما بين العوالم» على حدِّ تعبير كارلوس كاستانيدا، هو مصدرٌ لكلٍّ من الإبداع والنقد؛ نقد الصور السائدة من الفكر والوجود. وبتعبير آخر يُمكننا القول بأن هذه القدرة على الانفصال عن الوسط الاجتماعي للحكم عليه، أو الانسلاخ عن «الثقافة» المُحيطة لرؤيتها وجعلها «موضوعًا» للنقد والتقويم، هي قُدرة لا يتحلَّى بها إلَّا القلَّة من المُبدعين والمُصلحين؛ فالخروج من أقطار العالم الثقافي الذي نشأ المرء في كنَفَهِ وانغمر في قلبه هو رحلةٌ شاقَّة وسفر طويل ومُغامرة خطيرة.

يتَّفِق قول فيكتور تيرنر بشكلٍ لافتٍ مع ما وجده أبراهام ماسلو زعيم المدرسة الإنسانية في علم النفس. وجد ماسلو في دراساته الإمبيريقية عن «تحقيق الذات» self-actualization أنَّ هناك قواسم مشتركة تجمع بين أولئك الذين يُحقِّقون ذاتهم على أكمل نحوٍ ويصِلون بإمكاناتهم إلى نضوجٍ حقيقي، منها «مقاومتهم للإثقاف» resistance of enculturation واستعصاؤهم على التطويع الاجتماعي. يعيش هؤلاء الأشخاص في توافُقٍ مع الثقافة المُحيطة ولكن مع احتفاظهم بانسلاخٍ داخلي مُعيَّن عنها. إنهم تقليديُّون في المأكل والملبس والروتينات المُعتادة، أما في الأمور المحورية والجوهرية فإن لهم رأيهم الذي كثيرًا ما يختلف اختلاف الضِّدِّ مع الرأي السائد. على أنهم مُلتزِمون التزامًا هادئًا طويل النَّفَس بالإصلاح الاجتماعي. ورغم أنهم يُدركون نواحي الفساد في المجتمع فهم يَقبلون حقيقة أن الإصلاح أمرٌ بطيءٌ وشاقٌّ ولكنه لا يتحقَّق على أفضل نحوٍ إلا بالعمل من خلال المنظومة نفسها ومن داخل النسق ذاته.

(١٠) درس النسبية

ويبدو واضحًا لزقاقِنا أنَّ الواقعي والعادي أشياء من صُنعه هو ذاته ومن صُنع منازله وأكوام قمامته.

طاغور
قُلنا إنَّ «النسبية الثقافية»١٤٤ هي الدعوى التي تعزو إلى الثقافة سطوةً كبيرة في تشكيل البشر وصياغتهم، وتفيد بأن ثقافة المرء تؤثر تأثيرًا كبيرًا على أسلوب إدراكه وتفكيره وسلوكه وتقييمه للأشياء، ومن الواجب بالتالي أن تُدرَس كل جماعة في إطارها الخاص لا في إطار جماعةٍ أخرى، وأن تُقيَّم وفقًا لقِيَمها ومعايير سلوكها وليس وفقًا لقِيَم غيرها ومعايير سلوكه. إن القيم التي تُضفيها كل جماعة بشرية على مُواضعاتِها وتقاليدِها تنبُع من خلفيتها التاريخية الخاصة، ولا يمكن أن تُقيَّم إلا في ضوء هذه الخلفية. ونحن حين نُقيِّم الآخرين بمعايير ثقافتنا الخاصة إنما نقع في خطأ مزدوج: فندمغ ثقافتهم بالتناقُض وهي غير مُتناقِضة، ونُسبِغ على معاييرنا صِفة الكمال المُطلق وهي نسبيةٌ عرضية محلية.
يبدو أن انغمار المرء في ثقافته الخاصة منذ الصِّغر يجعله «لا يرى الثقافة»! فيظنُّ العرضي مُطلقًا والمحلِّي عالميًّا والتاريخي أزليًّا. فإذا ما شبَّ على ذلك صار فريسةً ﻟ «المركزية الإثنية» ethnocentrism والتحيُّز العرقي، فجعل يقيس الآخر بمقاييسه فيراه ناشزًا، ويُقيِّم أفعال الآخرين وفقًا لدستوره الأخلاقي فيجدها شرورًا ورذائل. إنَّ من تشبَّع بالمركزية الإثنية لن «يرى» الآخرين حتى لو ارتحل إلى أصقاعهم وعاش في كنَفَهم؛ لأنه سيظلُّ يقرؤهم بأبجديته ويُؤوِّلهم بمفاهيمه ويُدركهم بنماذجه، فلا يزيده الاطلاع عليهم إلَّا جهلًا وتعصُّبًا.
لقد أدرك علماء النفس منذ عقود أنه إذا لم يقُمِ الباحث بدراسة إمكانية التنوُّع الثقافي للعمليات النفسية التي يدرُسها فإنَّ من المُستحيل معرفة ما إذا كانت هذه العمليات عالميةً أو مقصورة على ظروفٍ ثقافية مُعينة. وفي هذا الصَّدَد يُشير جون وبياتريس وايتينج إلى أنه «إذا درسْنا الأطفال داخل حدودٍ ثقافية واحدة فقط فإننا عندئذٍ نأخُذ العديد من الأمور على أنها أمور «طبيعية» أي على أنها جُزء من «الطبيعة البشرية»، وبالتالي لا ننظر إليها على أنها مُتغيِّرات. الحقُّ أنَّنا لا نُعامِل مثل هذه الأمور على أنها مُتغيِّرات فعلًا إلَّا إذا وجدْنا أن هناك شعوبًا أخرى لا تقوم بهذه الممارسات التي كُنَّا قد عزَوناها إلى الطبيعة البشرية.»١٤٥
وفي كتابه «الأمر الأخلاقي» يقترح علينا فنسنت رجيير ونحن نُقيِّم سلوكًا بشريًّا ما أن نقوم بخطواتٍ ثلاثٍ لكي نتخلَّص من المركزية الإثنية ونخترق خِداع المظهر وننفُذ ببصَرِنا إلى ما وراء الأسطح الخارجية:
  • (١)

    أن ندرُس السياق الثقافي الذي يحدُث فيه الفعل.

  • (٢)

    أن نُحدِّد الملابسات والأحوال والظروف الزمانية والمكانية التي تُحيط به.

  • (٣)

    أن نَكتَنِهَ المنطق الخاص الذي يتبطَّنه والقيمة الأخلاقية التي يعكسها.

ها هنا تكمُن أهمية أن نتعلَّم كيف نضع أنفسنا في موضع الآخر ونتَّخِذ إطاره المرجعي ونرى الأشياء بعيونه (وبخاصة تلك الأشياء غير المألوفة لدَينا) قبل أن نُقدِم على تقييمه والحُكم عليه.

تُهيب بنا النسبية الثقافية أن نتسامح مع الآراء المُغايرة وأن نحتمِل الاختلاف والتنوُّع، وأن نَحْذر التزمُّت والدوجماطيقية. ذلك أنَّ قِيَمنا ليست تعكس جميعها حقائق أخلاقيةً موضوعية، وأن كثيرًا من مُمارساتنا واعتقاداتنا هي ذات صِبغةٍ محلية: إنها طريقتنا فحسب، ولكنها ليست الطريقة الصحيحة بالضرورة. إنها مواضعةٌ واتفاق ولكنها ليست بالضرورة صوابًا موضوعيًّا. إن لنا أن نتمسَّك بها ونُحافظ عليها، على أن نحفظ حقَّ الجميع في النقد المُتبادل، وألا نزهوَ ونتباهى بأنَّنا الجماعة الأفضل من حيث القِيَم والأعراف.

إذا كانت النسبية الثقافية تبُثُّ فينا ارتيابًا صحيًّا في أزليَّةِ أي قِيمة تُقدِّسها جماعةٌ مُعينة، فإنها لا تنفي وجود مُطلقاتٍ أخلاقية، بل إنَّ استخدام المنهج المُقارن ليزودنا بوسيلةٍ علمية لاكتشاف مثل هذه المُطلقات: فإذا أجمعت الأُمَم قاطبةً على ضوابط مُعينةٍ تفرضها على سلوك أعضائها فإنَّ هذا يُعدُّ حجةً، أو على الأقل قرينة، قوية على أنها ضوابط صائبةً بادئ الرأي، وأنها قد تكون ضرورية وقد تعكس قِيَمًا مُطلقة.

وإذا كانت النسبية الثقافية تُشير علينا ألا نُقيِّم سلوك المجتمعات الأخرى إلا في ضوء البنية الكلية لأشكالها الاجتماعية والثقافية وقوانينها التي تسنُّها، فليس يعني ذلك أن الممارسات الثقافية كلها صحيحة بنفس الدرجة. وإذا كان علينا أن نفهم كلَّ مُمارسة ثقافية في سياقها وإطارها الخاص، فإنَّ ذلك لا يعني أن كل الممارسات الثقافية مُلائمة ومُستحِقَّة للتسامُح والاحترام. ليسوا سواءً: بعض الثقافات خيرٌ من بعض، وبعض الممارسات الثقافية أفضل من بعض؛ فالمحراث المعدني والفأس الحديدي أفضل من المحراث أو الفأس الحجري من حيث الجدوى الإنتاجية، والطبُّ الحديث أنجَعُ من الشعوذة والسحر في استئصال الأمراض. وهذا الحكم ليس وليد المركزية الإثنية، وإنما هو تطبيقٌ لمبدأ براجماتي مفاده أن الأجدى عمليًّا هو الأفضل: فأي اعتقاد أو ممارسة تُمكِّن الناس من التنبُّؤ بأحداث حياتهم والسيطرة عليها بدرجةٍ أكبر من النجاح، وتُتيح لهم بالتالي تكيُّفًا أفضل مع العالم، يُمكن أن نعدَّها ممارسةً أفضل أو اعتقادًا أفضل. وأي قِيَمٍ تنتهك القِيَم العالمية التي تُعتبَر عادة «حقوقًا للإنسان» (مثل: حُرمة الحياة، وكرامة الآخرين …) ينبغي أن تُدان مهما صبَغَها دُعاتها بصبغةٍ مُطلقةٍ وادَّعوا أزلِيَّتها وضرورتها. ومن حقِّ الشعوب والثقافات الأخرى، بل من واجبها، أن تعترض على هذه المُمارسات المهينة للإنسانية، وأن تعمل على وقفها وإزالتها. على أن تفعل ذلك دون زهوٍ ودون تباهٍ بأفضلِيَّتها الثقافية، فليست هناك ثقافةٌ أو مجتمع يُمكنه أن يدَّعي أن سِجلَّ تاريخه نقيٌّ تمامًا من أي انتهاك عارض لحقوق الإنسان أو سلامة البيئة.

(١٠-١) حدود النظرة الأنثروبولوجية

للنسبية الثقافية بعدَ كلِّ شيء مُشكلتها الخاصة التي تصدُق أيضًا على أي مبحثٍ يُريد أن يرقُب الواقع من منظوره الضيِّق فقط. هذا ما يُطلِق عليه أبراهام كابلان «قانون الأداة أو العُدة» law of instrument، وهو مِصداقٌ للمثل القديم «إذا كان كلُّ ما لديك هو مطرقة، فسوف يبدو لك كلُّ شيءٍ كأنَّهُ مِسمار.» فالأداة تُحدِّد المشكلة، وتُحدِّد الحلَّ أيضًا! هكذا يكشف لنا «قانون الأداة» تلك المُغالطة القائمة في أيِّ مجالٍ من مجالات البحث، وهي أن يُحاول المرء أنْ يُفسِّر الواقع كلَّهُ من المنظور الخاص بمبحثٍ واحد، ويجهل أنَّ مجاله العلمي هو مُجرَّد طريقةٍ واحدة للنظر إلى الظواهر: هب أنك أهديتَ طفلًا لعبةً جديدةً تتكوَّن من مطرقة (شاكوش) ولوح وأوتاد تُدَقُّ من وجهي اللوح. بديهٌ أنه سيظلُّ يدقُّ الأوتاد حتى يملَّ اللعبة. غير أنه لن يملَّ المطرقة! وسرعان ما سينصرف عن اللوح إلى أشياء المنزل فيُعرِّف عالمه الصغير وفقًا لأداته، ويجِد أن مُشكلات «عالمه» هي أن الأشياء بحاجةٍ إلى دق، والحل بديهي لا لبْس فيه، وهو أن يَدُقَّ الأشياء المُعوَجَّة والخائرة بمطرقته. هكذا يُوقِن الفيزيائي أن فهم الأشياء والأحداث مَنوطٌ بفهم مكوناتها الفيزيائية، ويظنُّ المُحلل النفسي أن دينامياته السيكولوجية تكفيه لفهم كلِّ ما يجري في العالم، ويظنُّ السوسيولوجي والأنثروبولوجي أن الثقافة المُقارنة هي حسْبُه لفهم الواقع، ويُغفل كل هؤلاء أنَّ علمهم هو مُجرَّد منظور واحد وزاوية واحدة لرصد العالم.
تستنِد الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع إلى مُقدمةٍ أساسيةٍ مفادها أنَّ كل خبرة من الخبرات إنما تتوسطها الثقافة، وكل واقع كما نعرفه هو واقع مُحدَّد ثقافيًّا (أو اجتماعيًّا)، وليس ثمة واقعٌ متاحةٌ معرفته يتجاوز الواقع الثقافي أو الاجتماعي. فإذا ما سلَّمْنا بذلك لترتَّب عليه منطقيًّا أن كل أساليب الإدراك وكل أحكام القيمة هي أيضًا مُكيفةٌ ثقافيًّا ما دامت الثقافة تُشكِّل نَسَقًا مُغلقًا «مفهومًا لذاته». تتضمَّن هذه الدعوى أن الثقافة «واقعٌ مطلق» بمعنى أن الثقافة وحدها هي المُستقلة غير المُعتمِدة على غيرها، وأنَّ جميع ضروب الخبرة والتفكير البشريَّين هي منسوبة للثقافة ومُعتمِدة عليها في شكلها ومضمونها.١٤٦
ثمَّة واقع يعلو على الثقافة، واقع «مياثقافي» إن جاز التعبير. إنه واقع يُوجَد مُستقلًّا عن الخبرة البشرية، ويظلُّ يُكتشَف شيئًا فشيئًا دون أن يُفهم فهمًا كاملًا في مسار الخبرة البشرية. إنَّ طريقة المرء في خبرة الواقع لا تستنفد طبيعة هذا الواقع أبدًا. هكذا يظلُّ هناك فائضٌ من الحقيقة لا تطاله الخبرة. ثمَّةَ طرائق مختلفةٌ للنظر إلى العالم وتأسيس معرفةٍ عنه. وما العلم إلا طريقة واحدة من هذه الطرق تقوم على افتراض أن المعرفة يُمكن أن تكون موضوعية خالية من أحكام القيمة، وأنها يُمكن أن تُفسِّر مُجريات العالم الإمبيريقي ويمكن التحقُّق منها على أساس الملاحظة الدقيقة للأحداث الإمبيريقية، غير أن هذا التصوُّر عن العلم هو ذاته مغلوط ما دام أحدٌ لا يرى العالم رؤيةً موضوعية؛ ذلك أن الواقع المتاح في حقيقة الأمر ليس هو ما يقبَع أمامنا بل ما يقبَع داخل رءوسنا. وغاية شَوطنا من الموضوعية هو «البينذاتية» intersubjectivity أي اتفاق ذواتنا حول معرفةٍ مُعينة، وليس «الموضوعية» objectivity بمعناها الحرفي الصارم.
من المصادر الأخرى للمعرفة التي تتجاوز الثقافة وتعلو عليها، الوحي الديني. وهو يتحدَّث إلى البشرية في نصوصٍ مُقدَّسة تتضمَّن قضايا معرفية وتعاليم أخلاقية كثيرًا ما تتخطى الثقافات. غير أن هذه النصوص، شأنها شأن الضروب الأخرى من الواقع، يفهمها البشر خلال خبرتهم الثقافية الخاصة، ولا مَحيد لهم عن أن يُدركوها إدراكًا ثقافيًّا. إن الوحي ليتحدَّث إلى كائناتٍ بشرية مُنخرطة في سياقاتٍ اجتماعية مُعينة، ولا بدَّ أن يُخاطبهم في سياقاتهم وينفُذ إلى أطرهم لكي يفي بحاجاتهم ويكون ذا معنى لدَيهم. إن الوحي شيءٌ إلهيٌّ مُفارق، ولكن فهمه أو تأويله (وهو الحاكم الفعلي de facto ruler الأبدي) هو شيءٌ بشري عرَضي تاريخي مُتقوِّم بالثقافة ومجبولٌ بها.

ومن مصادر المعرفة المُتجاوزة للثقافات الخبرة الصُّوفية، وهي خبرة الالتقاء بالحقيقة أو بالواقع النهائي بطريق الإشراق أو الذَّوق المباشر، والمعرفة الرياضية وهي ترتبط بعالَم «فوق بشري» من الكيانات المُجرَّدة والعلاقات المنطقية التي تتخطى العالم الثقافي والإمبيريقي، وتتَّصِف بالضرورة المُطلقة وتنطبق على كل «عالمٍ ممكن».

وتُعدُّ الخبرة الفنية أو «الاستطيقية» من مصادر المعرفة الميتاثقافية بامتياز. ويزعم بعض مُنظِّري الفن أن الخبرة الاستطيقية قد تكون ضربًا من الالتقاء بماهية الأشياء وخبرة ﺑ «الواقع النهائي» أو «الأشياء في ذاتها»، ويقولون إن الوَجْد الاستطيقي قد يكون مُجرَّد «نتاج ثانوي» لهذا الضرب الخاص من «المعرفة» أو «الإدراك». إنه إدراك ﻟ «الواقع في ذاته»، وهو لا يكون إلا «إدراكًا انفعاليًّا» بالدرجة الأساس. ربما يفسر ذلك حقيقة أن الوَجْد الاستطيقي لا يَحدُّه الزمان ولا تردُّه الحدود الجغرافية: إنَّ آية الفن العظيم أنَّ جاذبيته عالميةٌ خالدة، فالشكل الجمالي يبقى مشحونًا بالقُدرة على إثارة انفعال استطيقي في أيما شخص قادر على الشعور به. إن أفكار البشر لتموت عاجلًا وتذهب أدراج الرياح، وإن البشر ليُبدِّلون مُؤسَّساتهم ويُغيِّرون عاداتهم كما يُغيِّرون سترتهم. وحدَهُ الفن العظيم يبقى ثابتًا لا يذهب بهاؤه، لأن المشاعر التي يُوقِظها مُستقلة عن الزمان والمكان؛ ذلك أن مملكة الفن ليست من هذا العالم. فماذا يهم بالنسبة لأولئك الذين يملكون حسًّا بدلالة الشكل إن كانت الأشكال التي تُحرِّكهم قد أُبدِعت في باريس أمس الأول أم في بابل منذ خمسين قرنًا؟ إن أشكال الفن لا تنضب ولا تُستنفَد، بل تؤدِّي جميعًا عن الطريق نفسه؛ طريق الانفعال الاستطيقي، إلى العالم نفسه؛ عالم الوجد الاستطيقي.١٤٧

هكذا تكون النسبية الثقافية، بوصفها طريقةً جديدة للرؤية، بمثابة نواظر جديدة ضرورية لإدراك الواقع الاجتماعي الثقافي في مجتمع اليوم العالمي المُتعدِّد الثقافة. وهي جديدة بمعنى أن مُعظم الناس تغلب عليهم التنشئة الاجتماعية داخل منظور «المركزية الإثنية»، فيكون التخلِّي عن هذا التَّوجُّه واتخاذ منظور نسبي ثقافي أمرًا مُؤلمًا وصادمًا لهم في كثيرٍ من الأحيان. غير أنَّ هذا المنظور لا بدَّ منه إذا شاء الشخص أن يكون «مواطنًا عالميًّا»، أي أن يكون شخصًا لديه القدرة على تجاوز واقعه العرقي والثقافي والسياسي والتوحُّد مع الجنس البشري على امتداد العالم وعلى جميع مستويات الحاجة البشرية. إنه شخصٌ مُفارقٌ لا تحدُّه الحدود الاجتماعية المألوفة، غير أنه يعمل بمبدأ العطف و«المواجدة»؛ أي القدرة على اتِّخاذ دور الآخر من أجل مزيدٍ من الفهم والإنصاف ورفع المُعاناة. إننا في أمسِّ الحاجة في القرن الحادي والعشرين إلى مِثل هذا المواطن العالمي، وإنَّ المدخل التعدُّدي الثقافي إلى التعليم هو سبيلنا لصُنعه.

(١٠-٢) وهم الغزو الثقافي

يبدو أن الخطأ الأكبر القابِع في فكرة الثقافة والذي تتولَّد عنه كلُّ ضروب الخلط وسوء الفهم والتوجُّس المجاني هو تصوُّر الثقافة كشيء مُحدَّد إقليميًّا، ومحصور مكانيًّا، ومُسيَّج بتُخوم جغرافية فاصلة، وكأنَّ الثقافة عالمٌ معزول داخل حظيرةٍ تصوُّرية، أو جزيرة معزولة عن غيرها من الجُزر، أو فقاعة تُشكل فضاءً تصوريًّا منفصلًا عن الخارج ومُحاطًا بجدارٍ عازل من الفكر واللغة شبيه بالحدود الجغرافية ومُقترِن في الذهن بمعنى الحجْز والعزل والانفصال والمكانية والتَّناهي.

من الطبيعي أن تُلجئنا الضرورة اللغوية إلى أن نتحدَّث عن «الحواجز الثقافية» أو «الفواصل الثقافية». غير أنَّنا ندفع في ذلك ضريبةً باهظةً تُخصم من حساب التواصُل الحقيقي والهارمونية الذهنية التي تُحقِّق الوحدة في التنوُّع. فإذا كان المعنى كله شيئًا محصورًا داخل حدودٍ ثقافيةٍ كتيمة (غير مُنفِذة) فإنَّ كلَّ شيءٍ أفعله لن يَحظى بالمعنى إلَّا داخل الحدود الصارمة لثقافتي، ولا يعود ثَمَّة احتمالٌ مُشجِّع للتواصُل الحقيقي. ولن يُجدي في ذلك حتى تكنولوجيا الاتصال الحديثة والسماء المفتوحة والفضائيات والإنترنت ما دام الفاصل فاصلًا تصوُّريًّا والحاجز حاجزًا لغويًّا فكريًّا قيميًّا.

أما أسوأ الشرور التي يَجرُّها التصوُّر الجغرافي للثقافة فهو ما يَبثُّه من خوف وتوجُّس بين الثقافات، وما ينفُثُه من إحنٍ وضغائن. إن صورة الحدود مُرتبطة في الأذهان بصورة الغزو، وتصوُّر العزل مُرتبط بتصوُّر الانغلاق، ونموذج الجزيرة أو الحظيرة أو الفقاعة مصحوب لا محالة بأفكارٍ عن «الكسر» و«الانهيار»، و«الاقتحام»، و«التحصن»، و«الدفاع». هكذا تتغذَّى فكرة الغزو الثقافي على مفهوم خاطئ وتعيش عليه. فإذا كانت الثقافة شيئًا مكانيًّا جغرافيًّا مُتناهيًا محصورًا بحدود خطية صارمة لترتَّب على ذلك أن نُفكِّر (بكثيرٍ من الجزع والتوجُّس): «كيف نحمي أنفسنا؟» «ألا يُحتمَل أن تُهدِّدنا الثقافة الأقوى وتقتحم حدودنا؟» «كيف نُغيِّر ونطوِّر من ثقافاتنا دون أن تتصدَّع وتنهار؟» «كيف ننفتِح على الآخرين دون أن نُقوِّض عالمنا ونُدمِّر كياننا؟» «كيف نُدخل ثقافة الآخرين للإلمام بها والتعرُّف عليها دون أن نُغادر ثقافتنا ونخرج منها ونتنكَّر لها؟» «كيف نستوعب الثقافة الأخرى ونتمثَّلها دون أن نُبدِّد ثقافتنا ونمحو هويتنا؟»

نعم من الطبيعي أن يتورَّط في هذه المخاوف من يتصوَّر الثقافة كإقليمٍ محصور؛ ذلك أن المرء لا يمكنه أن يتواجد في مكانَين ويشغل حيِّزَين في الوقت الواحد. هكذا تقول قوانين الطبيعة، فيما يبدو، وهكذا تقول أحكام العقل، بل هكذا جُبل العقل الإنساني نفسه وشُكِّلت أُطره ومقولاته. بل إنَّ هذه الصورة المكانية للثقافة لتُؤدي بالعقل إلى تصوُّر أن تقديره لثقافةٍ أخرى لا يتأتَّى إلا ﺑ «نزوح» أو «هجرة» أو «ارتحال» ثقافي عن «مكان» الثقافة الأم، ربما لما هو أفضل. غير أنَّ هذا التَّوجُّه بكلِّ شئونه وشُجونه هو وهمٌ ناجمٌ عن تصورٍ خاطئ للثقافة، وعن مُخططٍ ذِهني غير صحيح.

(١٠-٣) هيدجر: الثقافات أشبَهُ بطُرق (مسالك/مسارات/سكك)

لا يَتصوَّرَنَّ أحدٌ أن بإمكاننا محوَ هذه الاستعارات المكانية المحفورة في عقولنا والتخلُّص منها بجرَّة قلم، ويبدو أنه لا فِكاك للعقل من أن يتصوَّر الفروق الثقافية في هيئة مسافات قائمة على خارطة شبه مكانية. غير أن العقل لا يلزمه أن يفكر دائمًا في المسافات المعهودة أو في الانزياح الخطِّي المُتصلِّب. لا يلزم العقل أن يتصوَّر الثقافات كأقاليم تُتاخِمها مسافةٌ من كل جانب. إنَّ للثقافات تخومًا تصوُّريةً حقًّا ولكنها ليست بالضرورة معزولة عن غيرها، وإنما وجه الأمر أنَّ كل ثقافة يجِب أن تُفضي بطريقةٍ طبيعيةٍ إلى الثقافات الأخرى.

ثمَّةَ صورةٌ أقوم للثقافة يطرحُها هيدجر. يتصوَّر هيدجر الثقافة الفلسفية كشيءٍ غير محدود، كمجموعةٍ من المسالك غير المُقيَّدة أو المحصورة. ولعلَّ هذا هو المُخطط الأصوب للثقافة ككل. بوسعنا أن نتصوَّر الثقافة كمجموعات من المسالك أو المسارات أو السكك تمتدُّ بهذه الطريقة أو تلك، بفواصل مُتفاوتة بينها وأحيانًا بغير فواصل، وكلما أوغَلْتَ في سكةٍ منها فإن سككًا أخرى تقترِب، وأُخرى تبتعد. وبوسعي الالتقاء بثقافةٍ أخرى — سكةٍ أخرى — دون أن أُغادر حدود سِكَّتي. ولنتصوَّر المسالك في الغابة؛ إنها تتقاطع، وتبدو مُسترسِلة بغير نهاية.

هكذا يُسعفنا تصوُّر هيدجر للثقافة، ويُذكرنا بملامح ثقافيةٍ كثيرًا ما نُغفلها أو نتناساها؛ إذ نفكر في أمر الثقافة تحت هيمنة نموذج الإقليم المحصور المُتناهي:
  • ثمَّة ملمح الشمول والعمومية: فالحالة الطبيعية للثقافة ليست هي العزلة والانزواء بل التداول والتبادُل.

  • وثمة ملمح الاتِّساع والترامي: فالثقافة لا تنضب ولا تُستنفَد ولا تحصرها المعرفة على نحوٍ تامٍّ ونهائي.

  • ثمَّة تَوحُّدٍ وتماهٍ في الثقافة: فنحن لا يُمكننا أن نرى أنفسنا ونعرفها كثقافةٍ إلا بالنظر إلى الثقافات الأخرى.

ليس من الصعب أن نرى هذه الملامح في فكرة هيدجر: فمن طبيعة المسالك أن تتقاطع وأن تلتقي وأن تتشارك كثيرًا في بعض الأجزاء، بل إنَّ كل نقطةٍ وكلَّ مُنعطف في أيِّ مسارٍ من المسارات هو مَوضعٌ لتقاطعٍ مُمكن. كما أن من طبيعة المسالك أن تُفضي بنا أحيانًا إلى حيث لا نعرف إلى أين نمضي، إلا أن نُتابع المُضيَّ في الطريق، أو أن يقودنا الطريق من موقعٍ حاضرٍ نألفه إلى موقعٍ مُستقبل ربما لا نعرفه ولا نألفه. وأهم من كل ذلك أن المسالك كثيرًا ما تُوضَع في علاقةٍ مع مسالك أخرى. وعندما تكون الغابة مُظلمةً مثلًا فإنني لا أستطيع أن أتبيَّن سِكَّتي إلَّا بأن أُحدِّدها داخل شبكةٍ مُتصالبة من السكك البديلة، وربما لا يُمكنني أن أتعلم دراسة مسار طريقي إلا بملاحظة الآخرين وهم يجوسُون خلال طرقهم، مُقبلين تجاهي أو مبتعدين عني.

ولكن ما هو الشيء الذي يقوم بدور مسالك هيدجر في الثقافة الحقيقية؟

وفي أية غابة تُمدُّ هذه الطرق؟

يجيب هيدجر: إنها، «الكلمات»؛ الكلمات بوصفها تواريخ سيمانتية أو سِيَرًا من المعنى. فالكلمات بهذا المفهوم هي طرقٌ أو مسالك تُرتادُ خلال الزمان والمكان. إن كلَّ لفظةٍ أو مُصطلح أو مفهوم علمي، كما يقول باشلار، يُسمَّى خليطًا من المنتجات التصورية لعصورٍ أقدم! «فالعلم أشبَهُ بمدينةٍ مُجدَّدَة جُزئيًّا، حيث يقف الجديد جنبًا إلى جنب مع القديم.»١٤٨ ومن الممكن تعميم ما يقوله باشلار عن الكلمات العلمية ليشمل الألفاظ جميعًا، وهذا ما تفطَّن إليه هيدجر. ويكفي أن تلقي نظرةً عابرة على أي معجم من أي لغة لكي تُدرك على الفور أن ما أمامك هو تواريخ واضحةٌ وسِيَرٌ حقيقية. انظر غزارة المفردات المُستعارة التي تُشكِّل المعجم الإنجليزي على سبيل المثال: انظر كلمة algorithm (لوغاريتم)، alchemy (الكيمياء القديمة)، arsenal (دار صناعة/ترسانة)، assassin (حشاش — نسبة إلى جماعة الحشاشين المعروفة بالاغتيال وسفك الدماء)، checkmate (الشاه مات)، sufism (الصوفية)، tariff (التعريفة)، syrup (شراب)، guitar (قيثار) … إلخ.

إنك هنا في عُقر التاريخ، فالكلمة لا يمكن أن ترتحل من دارٍ إلى دارٍ غير مصحوبةٍ بحاشيةٍ تصوُّرية وتقنية وإدارية. وغني عن القول أنه إذا كانت كلماتي وتصوُّراتي هي ميراثٌ «عبر-ثقافي» فإن أفكاري كذلك ليست خاصتي وحدي؛ فأنا لا يُمكن أن أفكر إلا عبر أزمنةٍ أخرى، وثقافات أخرى.

هكذا تتحلَّى الكلمات عند هيدجر بملامح الثقافة: العمومية، الاتساع، التماهي. انظر إلى أيِّ بابٍ من المعجم: إنه تقاطع للعديد من المسالك اللفظية حيث الكلمات، سواء من لُغتي أو من لغة الآخرين، تلتقي معًا. وانظر إلى نطاق الكلمة ومداها: إنه هائلٌ لا نهائي، وليس ثمَّة شيء يمكن أن يُفَصَّل ابتداءً على أنه غير ذي صِلة بالتمكُّن اللفظي، لكي تفهم لفظةً ينبغي، بمعنًى ما، أن تفهم كلَّ شيء! ولكي تفهم الجزء ينبغي أن تفهم الكل. هذه بالضبط هي «دائرة التأويل» hermeneutic circle الشهيرة ودينامية الفهم ذاته.١٤٩ أما عن الاتساع والترامي فيكفي لكي تُدركه أن تتعقَّب تاريخ مُعظم الألفاظ، فأغلب الاحتمال أنك لن يمتدَّ بصرك إلى بداياتها المطلقة. أما «التماهي» فندركه إذ ننظر في تعريف أية لفظة: إنه لا يكون إلا في ألفاظٍ أخرى. إن فهم أي كلمة لا يتأتَّى إلا بالنظر في غيرها وباعتبار سواها. وبدون هذه الكلمات الأخرى، أي هذه المسالك الأخرى، فلن يتسنى التمكُّن من أي كلمة، هذا التمكن اللغوي. هذا الترحال في السِّيَر والتوغُّل في التاريخ، ليس مسألةً سيكولوجية أو مهمةً هينة، فالترحال الحقيقي هو عمل شاقٌّ وجهد جهيد وسفر طويل في فقه اللغة وتاريخ المجتمعات والثقافات.

(١٠-٤) هيجل: «البيت» في مُقابل «المنزل»

ينبغي أن أتعرَّف على نفسي في الغريب.

يبدو بعد كلِّ شيء أنَّ الاستعارات «المكانية» للثقافة لا تخلو من جانبٍ وجيه. ويبدو أن الثقافة مُرتبطة بالجغرافيا بطريقةٍ ما. وقد قدَّم هيجل تصوُّرًا للثقافة يُقرِّبها من مفهوم «البيت» — أي المكان «المجرد»، حيث تأوى الروح في نهاية المطاف — كمقابل ﻟ «المنزل» أي المكان العياني الملموس الذي أدخله متى شئتُ وأخرج منه، وأبنيه وأهدمه. وهو تصوُّر غير بعيدٍ عن تصوُّر هيدجر للثقافة بوصفها تقصيًا تاريخيًّا للجوانب المشتركة مع الآخرين، وغير بعيد عما ذهب إليه هيدجر من أن فكرة الثقافة نفسها — الثقافة المُفردة الواعية بذاتها — تتطلب، من أجل تحقق هويتها، المقارنة بالثقافات الأخرى. يقول هيجل في ذلك (بصياغة هانز جادامر):
أن يتعرَّف المرء على خاصَّته في المُغاير. أن يكون «في بيته» وهو في المُغاير. تلك هي الحركة الأساسية للروح، الروح التي يتألَّف وجودها من العودة إلى نفسها ممَّا هو آخر.١٥٠
يؤكد هيجل على أنَّ الثقافة ليست حيزًا عيانيًّا كالمنزل، وإنما هي بُقعة أكثر تجريدًا كالبيت. ويذهب أيضًا إلى أن المرء لا يتأتَّى له أن يُميز ثقافةً ما ويُقدرها — حتى ثقافته الأم — إلَّا بالتأمُّل في الثقافات الأخرى والانعكاس عليها؛ «إن عليَّ أن أتعرف على نفسي في الغريب.» لقد غدَتْ هذه الآن حقيقةً أنثروبولوجية بديهية، غير أنها كثيرًا ما يتمُّ إغفالها في غمرة الخلافات حول «ثقافة التعدد» multiculturalism. والحق أن ما يقوله هيجل هو أكثر من مجرَّد مُصاداة لفكرة التعرُّف الذاتي التي يتضمَّنها تصوُّر هيدجر السالف الذكر عن الثقافة كطريقٍ أو مسلك، والتي تقول بأن ليس لدينا معالم نحدد بها مسار طريقنا سوى النظر إلى الطرق الأخرى. أن أُميِّز نفسي في الغريب ليست مسألة نظرٍ أو حتى حركة جسدية؛ فالتقاء الثقافات الذي يتطلَّبه وعيُ أي ثقافة بذاتها لا يُشبه تغيير المنازل، إنما هو عند هيجل مهمة أصعب من ذلك بكثير، مهمة أن أجعل بيتًا لنفسي في الغريب، أن نتخذ ثقافات بديلة بأن نجد بيوتًا هناك — في تلك الثقافة الجديدة — وأن نعود إلى أنفسنا إذ ذاك!

ليست السُّكنى في الغريب واتخاذ بيتٍ في المُغاير شيئًا ثانويًّا أو ترفًا زائدًا يمكن أن يتمَّ الأمر بدونه، بل إن «روح الثقافة نفسها تتألف حصرًا من العودة إلى ذاتها مما هو آخر.» فأن نكون في بيتنا حقًّا في مكانٍ ما يتطلب منا أن نكون في بيتنا في أماكن عديدة!

كل ذلك يطرح علينا سؤالًا مُلحًّا: كيف نُعلم النشء ثقافة التعدد؟

كيف نصنع مواطنًا عالميًّا لا ينخذل ولا ينهار في عصر ثقافة التعدد؟

يرى جادامر أن العنصر الجوهري في هذه التربية الجديدة هو «الذوق» بالمعنى الذي أشار إليه هلمهولتز (Takt). ذهب هملهولتز إلى أن اﻟ Takt هو القانون المُسيِّر لعملية فهم الأحقاب التاريخية البعيدة عنَّا زمنيًّا، غير أنه ينسحب أيضًا، وبشكلٍ مباشر، على فهم الثقافات الأخرى المُعاصرة لثقافتنا. وعلينا بادئ ذي بدء أن نَحذَر الخلط بين Takt كما أرادها جادامر (وهلمهولتز) وبين tact في الاستعمال الإنجليزي الدارج والذي يعني اللَّباقة والدَّماثة وحُسن إدارة المحادثة بطريقة دبلوماسية. إن اﻟ Takt عند جادامر هو تنمية تلك القدرة غير الذاتية الكامنة فينا جميعًا والتي يُمكننا بها أن نُلبي دعوة هيجل إلى أن نتَّخِذ لنا بيوتًا في الغريب ونعود إلى أنفسنا هنالك. تتطلَّب تنشئة هذا الذوق بطبيعة الحال إلمامًا بمعرفةٍ ومعلوماتٍ وخرائط مُرشدة عن هذه المجتمعات والثقافات الغريبة. غير أن المعلومات لا تكفي ولا تُغني عن الذوق الذي يعني أن «يبقي المرء نفسه في حالة انفتاحٍ على ما هو آخر، على وجهات النظر الأخرى الأكثر عالمية، وينطوي على حسٍّ بالتناسُب والمسافة بالنسبة لذاته، ويتألف بالتالي من العلو على ذاته إلى العالمية.»
هذه الصبغة «المعمارية» في ملاحظة جادامر ليست وليدة المُصادفة، ذلك أن تربية «الذوق» Takt تتضمَّن عملية «تشييد» edification، أن يخلُق المرء في نفسه إدراكًا استطيقيًّا. قد يُجديه هنا شيءٌ من المعرفة التقنية، الفنية مثلًا، غير أنَّ هذه المعرفة ليست كل شيء؛ فالذوق ليس مجرَّد شعور أو لا شعور، ولكنه في الوقت نفسه «أسلوب» في المعرفة و«أسلوب» في الوجود. إن ما يدعوه هلمهولتز Takt يتضمَّن «التشييد» edification، وينجُم عن التعلُّم الاستطيقي والتاريخي.١٥١
بهذا الذوق الجادامري يتعيَّن على المرء أن يبقى «مُنفتحًا على ما هو آخر»، على أن هذا الانفتاح هو فضيلةٌ أخلاقية بقدر ما هو تحصيلٌ معرفي. الذوق — باختصار — هو التمكُّن التام من «اتِّخاذ بيتٍ في الغريب». إنه أمرٌ كلي شامل يتخطَّى حدود التخصُّص الأكاديمي ولا تحصُره نتفٌ من المعلومات والمعارف؛ ﻓ «التشييد» edification مُشربٌ بمعنى «التنوير» ومعنى «القداسة» كما يدلُّنا تاريخ الكلمة المأخوذة من كلمة aedificere اللاتينية والتي كانت تعني بناء مكانٍ مُقدَّس. والمكان ليس «معلومة». «الذوق» ليس حُكمًا مُفردًا أو مجموعة أحكام وإنما يتطلَّب «أسلوبًا» في الحكم؛ ذلك الأسلوب الذي أُبديه في تعلم البناء على ذلك المكان. وغنيٌّ عن القول أنه أمرٌ استطيقي. وما دام أيُّ تشييد صحيح يتطلَّب قبول الآخر، فإن أيَّ تشييد حقيقي هو تَعدُّدي الثقافة بطبيعته وفي صميمه.

التحليل النفسي بعد-الحداثي: التعدُّد هو الأصل

العقل حوار؛
العقل أصواتٌ عديدة لا صوتٌ واحد؛
العقل كثرةٌ لا وحدة.

هكذا يحسم التحليل النفسي بعد الحداثي أمر التعدُّد الثقافي، ويبدَهُنا بتصورٍ للعقل على أنه عقول عديدة في حوارٍ دائب! بل إنه يؤكد «الطبيعة الحوارية للعقل»، ويرى أن تعدُّد الأصوات هو الأصل وهو السواء، وأن محاولة اختزالها إلى صوتٍ واحد قد تنطوي على قمعٍ غير صحِّي لصوت «الآخر» في عقولنا.

إننا جميعًا نميل إلى أن نتخيَّل «جمهورًا» أو «مُستمعين» إلى كل شيء نقوله، ونميل إلى أن نُلبِّي ما يطلُبه هذا الجمهور، وأن نحسب حسابه ونخشى بأسه أحيانًا ونُذعِن له. تسفر الطبيعة الحوارية للعقل عن نفسها بوضوح عندما تُغادر جدالًا مع صديق لك وتُتابع الجدال في عقلك وأنت تقود سيارتك عائدًا إلى بيتك. هذه هي قُدرتك على أن تتخيَّل شخصين أو أكثر في حوارٍ وتترك كلًّا يمضي في حديثه دون مُقاطعة. إنَّ عقلك يخلُق طرَفي المحادثة، غير أنه يُصنِّف ويُميِّز ويفصل الأفكار الخاصة بك عن الأفكار الخاصة بالشخص الآخر. وعليه يُمكننا القول بأن الحوار يتكوَّن من نوعَين من الأصوات: صوت النفس، وأصوات الآخرين التي نُطلِق عليها مُجتمعةً «صوت الآخر».١٥٢

قد يكون «الآخر» في بعض الأحيان هو صوت شخصٍ محدد كصوت أمك (قائلًا لك «زَرِّر سُتْرتكَ» مثلًا)، وقد يكون صوتًا غامضًا كصوت حزب المعارضة في جدالٍ سياسي. غير أن المرء يعرف هذه الأصوات جيدًا بحيث يستطيع أن يعكس الأدوار ويتحدَّث هو بما يخلُق بمُعارضه أن يقوله. وفي أحيان أخرى لا يتحدَّث «الآخر» في العقل على الإطلاق بل يُشكِّل فحسْب جمهورًا أو سياقًا أو مهادًا للمونولوج الخاص بالمرء. غير أنَّ أصعب شيءٍ في مفهوم العقل الحواري هو أن نُدرك أنَّ هناك دائمًا سؤالًا يتعلَّق بتحديد صاحب هذه الأصوات.

تُشكِّل الطبيعة الحوارية للعقل شطرًا كبيرًا ومهمًّا من نظرية التحليل النفسي. تأمَّل مثلًا ما يقوله المرضى في عملية «التداعي الطليق» free association: إنهم يقولونه كاستجابة للمُحلِّل المُتخيَّل الذي يُمثل موضوع «الطرح» transference عندهم. هذا المحلل المُتخيَّل هو مثال جيد ﻟ «الآخر» القابع في العقل. وقد أدرك لاكان أهمية الطبيعة الحوارية للعقل فذهب إلى أن مفتاح اللاشعور إنما يكمن في فكِّ شفرة ما يقوله «الآخر المُتخيَّل»، ما دامت تعقيبات المرضى وتداعياتهم هي استجابة لهذا الآخر المُتخيَّل. من شأن صوت «الآخر المُتخيَّل» أن يُضفي على تداعيات المريض صبغةً حوارية أو بين شخصية. يقول لاكان:
اللاشعور هو ذلك الجزء من الخطاب العياني، بقدر ما يكون بينشخصيًّا (حواريًّا)، الذي يخرج عن مُتناول الشخص في محاولته وصل خطابه الشعوري.١٥٣
إنه شيء لغوي مائة بالمائة؛ لأنه يتضمَّن خطاب الآخر داخل شفرته. وإنما بفك شفرة هذا الحديث أعاد فرويد اكتشاف لغة الرموز البدائية التي ما تزال تعيش في مُعاناة الإنسان المُتحضِّر.١٥٤

علينا ألا نقمع الطابع الحواري لعقولنا، إنه طابعٌ عظيم النفع، وبدونه تغدو عقولنا مُسطحةً مُصمتة. فلكي يكون لديك «آخر مُتخيَّل» يتعيَّن عليك أن تفضَّ مركزيتك وتحاول أن تفهم ما يقوله «الآخر». إن قُدرتنا على تخيُّل ما قد يفكر فيه الشخص الآخر أو يقوله هو ما يُمكِّننا من أن نفهم الوجهات الأخرى من الرأي، أن نؤثر ونتأثر، أن نتوحَّد بالآخرين و«نُواجِدهم» (نتمثَّل وجداناتهم). هذا الفهم لوجهات النظر الأخرى يُساعدنا على أن نتجاوز همجية الثنائيات والاستقطابات من قبيل «جيد/رديء»، «أنا/أنت» … إلخ. ومن الخطأ الفادح أن يُوصف هذا التعدُّد الكامن في العقل بالتناثُر والتشظِّي. إن من يعجز عن التوحُّد بهذه الطريقة مع آراء الآخرين سيكون في الأغلب شديد التحيُّز والتعصُّب والتمركز على الذات.

قد يقع في الظنِّ أن «فض المركزية» decentering واتخاذ الإطار المرجعي للآخرين ربما يجعل المرء أقل إقدامًا وحسمًا، ولكن هذا خطأ فادح؛ فإذا كانت العقول حوارية بطبيعتها وأصلها لترتَّب على ذلك أنَّ أي محاولة لتبسيط العقل واختزاله إلى وحدة مُتجانسة ينبغي أن تُعدَّ قمعًا غير طبيعي ﻟ «صوت الآخر» المُتردِّد في عقولنا. تذهب كارن هورني إلى أن قمع الأصوات المُصطرعة في عقولنا هو شيءٌ غير صحي، وتصف «الذات الحقيقية» the real self بأنها مُكونةٌ من مُركبٍ من الأصوات، تلك هي «الذات بعد الحداثية» post-modern self. وتدمغ كارن هورني الذات «الحداثية» المُبسَّطة الانسيابية بأنها هي المُتناثرة والمُتشظية والمريضة في حقيقة الأمر.
يميل الشخص العصابي بشدَّة إلى التعامي عن القِيَم المُتناقضة المُتعايشة معًا في أعماقه.١٥٥

هكذا تقدِّم هورني نفس الدعوى التي يُقدِّمها مفكرو ما بعد الحداثة عندما يقولون بأن هناك أصواتًا مُتعددة داخلنا تُتيح لنا أن نتماهى مع أكثر من وجهةٍ واحدةٍ من الرأي. ونحن عندما نحاول قمع هذه الأصوات فنحن لا نستأصلها حقًّا، وإنما نغترِب فحسب عن جزء من أنفسنا ونزيد إحساسنا بالتشظِّي والتناثُر. إن عملية التكامل النفسي هي أن نتعلم كيف ندمج هذه الأصوات في حسٍّ بالنفس يستطيع العيش بل الاحتفاء بالتركُّب والثراء العقلي الناجم عن الطبيعة الحوارية للعقل. ومن عمل التحليل النفسي بعد الحداثي أن يُساعدنا على إدراك الأصوات المختلفة بداخلنا؛ أصوات من صراعات الطفولة، أو أصوات تجادلنا، أو أصوات توافقنا وتُقدِّرنا. يساعدنا التحليل بعد الحداثي على أن نعرف هذه الأصوات كجُزء مما هو نحن. مثال ذلك أن تساعد مريضًا على أن يتعرَّف على نفسه في حلمٍ يبدو في الظاهر كما لو كان يدور حول شخصٍ آخر.

غير أن التحليل النفسي ليس دائمًا بعد حداثي، وحيثما أضفى المُحللون النفسيون الصبغة المرَضية على الطبيعة الحوارية لعقل المريض، وحمَلوه على أن يقمع الرأي البديل، يكونوا قد تخلَّوا عن الموقف بعد الحداثي وأصبحوا حداثِيِّين، وأصبح موقفهم مؤذيًا للمريض؛ ذلك لأن الاعتقاد الحداثي بأن الذات الداخلية يجِب أن تكون مُتجانِسة الرغبات والدفعات، يُمكن أن يبُثَّ القلق في الناس عندما يكتشفون أنهم شخصيًّا يحسُّون برغبات مُتصارعة. يُريد الإنسان «الحداثي» أن يجدَ له تصنيفًا واحدًا مُتَّسقًا ويضع نفسه في خانةٍ فئوية بسيطة، ويظنُّ أن الشخص الهادئ لا يمكن أن تُساوره أفكارٌ عدوانية، وأن الغيري لا يعرف الأثرة، الأمر الذي يقلقه ويقضُّ مضجعه إذا ما آنس في نفسه شيئًا آخر وطاف بعقله طائفٌ مُختلف. إن هذه الرغبة في البساطة الكاملة والتجانُس التام هي مرَض الحداثة في رأي دُعاة ما بعد الحداثة.١٥٦
ربما يقع التحليل النفسي في «الحداثة» أحيانًا، غير أن جذور التحليل النفسي «بعد حداثية» إلى حدٍّ بعيد. إنه «بعد حداثي» إذ يُساعد المرضى على أن يُصغوا إلى أنفسهم عندما يتحدَّثون بأصواتٍ «ممنوعة» censored (أي أفكارهم ورغباتهم الخاصَّة التي تمَّ كبتُها بواسطة الرقيب الداخلي). تتحدَّث هذه الأصوات خلال الأحلام والخيالات مُتنكرة في هيئة أشخاصٍ آخرين، يقول المريض مثلًا: «أظن أن الناس تُريدني أن أهرب.» بينما يُساعده المحلل النفسي بعد الحداثي في أن يسمع هذه العبارة على أنها تعبيرٌ عن صوتٍ «ممنوع»؛ صوته هو ولكن «الرقيب» الذي قد قمعه أو كبته. عندئذٍ يمكن للمحلل النفسي أن يقول له: «لعلك أحيانًا تفكر في أنه ينبغي عليك أن تهرب.» إنَّ المحلل يساعد المرضى على تملك بعضٍ من أصواتهم الممنوعة واسترداد بعض من مُقاطعاتهم النفسية المُنفصلة عن ملكهم.
قد يُطلِق النقاد على الأصوات بعد الحداثية «شظايا» fragments، ولكن الشظايا هي أجزاء غير مُتعالقة. فالكوب المكسور على الأرض يتفتَّت شظايا لم يعُد يجمعها شيء، بينما أصوات الآخرين في عقولنا هي روابطنا بالعقول الأخرى التي نتعلَّق بها. هذه الأصوات تمثل تصوُّرنا لما يريد أن يقوله الآخرون، ونحن نحمل هذا التصور داخلنا كصوتٍ ينطق بوجهة نظرهم حتى إذا اختلفنا معها، وحتى إذا أنكرنا صدقها وازْدَرَينا مُحتواها.
تنبثق الهوية بعد الحداثية لا من شظايا مُتفتتة لا معنى لها، بل كجوقةٍ من هذه الأصوات العديدة، كتملكٍ مُستمرٍّ للأصوات في أحلامنا ورؤانا ورغباتنا التي نجِدها داخلنا. وغاية التحليل النفسي بعد الحداثي ليست في تفتيت العقل إلى أجزاء غير مُتَّصِلة، بل في مساعدة الناس على أن يتعلموا الإصغاء إلى الهارمونية والكونتربونت الكامِنَين بين الأصوات التي ترنُّ في عقولهم الحوارية.١٥٧
١  هنترميد، الفلسفة: أنواعها ومشكلاتها، ترجمة د. فؤاد زكريا، الطبعة الثانية، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، ١٩٧٥م، ص٣٧٦.
٢  المصدر نفسه، ص٣٧٧.
٣  Summer, Graham, “Ethics are Relative”, In James A. Gould (Ed.), Classic Philosophical Questions, second edition, Charles E. Merrill Publishing Company, Howell company, Columbus, Ohio 43216, pp. 82-83.
٤  Ibid., p. 83-84.
٥  يُطلَق على هذا الخطأ المنطقي أحيانًا اسم «المُغالَطة البَعدية» a posteriori fallacy، ومنطوقها هو: «بعد ذلك، إذن، بسبب ذلك» post hoc ergo propter hoc.
٦  Ibid., pp. 84-85.
٧  Ibid., p. 85.
٨  Ibid., p. 87.
٩  Ibid., p. 87-88.
١٠  Ibid., p. 96.
١١  Ibid., pp. 97-98.
١٢  Ibid., pp. 98-99.
١٣  Ibid., pp. 99-100.
١٤  Ibid., pp. 100-101.
١٥  Ibid., pp. 102–104.
١٦  أو «ماصدقات» extension إن شئتَ التعبير التقني.
١٧  مِن البَيِّن أنَّ ولتر ستيس يُلحُّ على التفرقة بين ما صار يُعرف ﺑ «النسبية الوصفية» descriptive relativism وما صار يُعرف ﺑ «النسبية المعيارية» normative relativism، وأنه يقصُر نقدَه وتفنيده على النسبية المعيارية، على اعتبار أنَّ النسبية الوصفية حقيقة مُبتذلة الوضوح وقول نافِل لا خِلاف فيه وليس من الوجيه تناوُله بتفنيدٍ ولا بتأييد.
١٨  Ibid., pp. 104–106.
١٩  Ibid., pp. 106–109.
٢٠  Ibid., p. 110.
٢١  Earl, W. J., Introduction to Philosophy, McGraw-Hill, Inc., 1992, p. 150.
٢٢  Ibid., p. 89.
٢٣  Harré R., and Kruasz, M., Varieties of Relativism, Blackwell, Oxford UK & Cambridge USA, 1996, pp. 11-12.
٢٤  بيكون، الأورجانون الجديد، الكتاب الأول، قسم ٥٩.
٢٥  Cassirer, Ernst, The Philopsphy of Symbolic Forms, Vol., 1: Language, trans R. Manheim, New Haven, CT: Yale University Press, 1955, p. 12.
٢٦  Sapir, Edward (1929) “The Status of Linguistics as Science”, Language, 5; 207–214.
٢٧  Whorf, Benjamin Lee, Language, Thought, and Reality. Cambridge: M.I.T. Press, 1956, p. 215.
٢٨  Ibid., p. 262.
٢٩  Ibid., pp. 269-270.
٣٠  Berlin, Brent and Kay Paul (1969) Basic Color Terms: Their Universality and Evolution. Berkeley, CA: University of California Press.
٣١  Piatelli-Palmerini, M. ed., Language and Leanring: The Debate between Piaget and Chomsky. Cambridge, Mass: Harvard University press, 1980, p. 167.
٣٢  مايكل كول، علم النفس الثقافي؛ ماضيه ومستقبله، ترجمة د. كمال شاهين ود. عادل مصطفى، دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٠٢م، ص٢١٩–٢٤٩.
٣٣  Penn, J., Linguistic Relativity Versus Innate Ideas: The Origins of the Sapir-Whorf Hypothesis in German Thought. Paris: Mouton, 1972, p. 33.
٣٤  Wason, P. and Johnson-Laird, P. (eds.) Thinking. cambirdge: cambirdge university press, 1977, p. 411.
٣٥  Earle, W. J., An Introduction to Philosophy, p. 171.
٣٦  Lucy., J. A., and R. A. Shweder. 1979, Whorf and his critics: Linguistic and nonlinguistic influences on colour memory. American Anthropologist 81: 581–615.
٣٧  Wassman, J. and Dasen, p. 1998, “Balines Spatial orientation”. Journal of Royal Anthropological Institute, 4(4) 689–713.
٣٨  Peterson, C., and Siegal, M., 1995, Deafness, conversation, and theory of mind. Journal of Child Psychology and Psychiatry. 36: 459–474.
٣٩  كارل بوبر، أسطورة الإطار، ترجمة أ.د يمنى الخولي، عالم المعرفة، الكويت، العدد ٢٩٢، أبريل-مايو ٢٠٠٣م، ص٧٨.
٤٠  Palmer, R. E., Hermeneutics. Northwestern University Press, 1969, pp. 29-30.
٤١  Ibid., p. 30.
٤٢  عبد السلام بنعبد العالي، في الترجمة، دار الطليعة، بيروت، ٢٠٠١م، ص٣٧-٣٨.
٤٣  Palmer, Hermeneutics, p. 205.
٤٤  عادل مصطفى، مَدخل إلى الهرمنيوطيقا، دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٠٣م، ص٢٩٩-٣٠٠.
٤٥  رولان بارت، درس السيمولوجيا، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، الطبعة الثالثة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ١٩٩٣م، ص١١-١٢.
٤٦  المرجع السابق، ص١٢–١٤.
٤٧  Art Berman, From the New Criticism to Deconstruction, Urbana: U of Illinoise P, 1988, p. 217.
٤٨  عبد العزيز حمودة، المرايا المُحدَّبة، عالم المعرفة، الكويت، العدد ٢٣٢، أبريل ١٩٩٨م، ص٢٥٠.
٤٩  المرجع السابق، ص٢٥٢.
٥٠  المرجع نفسه، ص٢٥٦-٢٥٧.
٥١  محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت والدار البيضاء، الطبعة الرابعة، ١٩٩١م، ص٨٧.
٥٢  زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي، دار الشروق، بيروت، ١٩٧٣م، ص٢٠٥.
٥٣  Varieties of Relativism, p. 193.
٥٤  Rorty, R., Achieving Our Country: Leftist thought in Twentieth Century America. Cambridge, MA: Harvard University Press, 1998, p. 13.
٥٥  Whorf. Language, thought, and reality, pp. 218-219.
٥٦  أي التي تصِف ما هو عليه الحال دون أن تتجاوَزَه إلى ما ينبغي أن يكون.
٥٧  أي تعذُّر المُقارنة، والمُفاضلة، بين النظريات العلمية المُتتالية والنماذج الإرشادية المُتعاقبة بعَرْضها على محكٍّ واحد و«مقايستها» بمِقياسٍ واحد.
٥٨  المُتغيِّر التابع dependent variable هو أيُّ عاملٍ يتوقَّف على غيره من العوامل ويعتمِد عليه، أو، بتعبيرٍ أدق، هو أي عامل تُعتبَر قِيَمُه نتاجًا للتغيُّرات القائمة في عامل آخر هو «المُتغيِّر المستقل» independent variable.
٥٩  هي الأنساق التي تُشيَّد بطريقةٍ مُحكمة منطقيًّا، فتتضمَّن (١) تقسيم الحدود إلى حدود غير مُعرَّفة واستخدام هذه «اللامُعرَّفات» في تعريف جميع الحدود الأخرى تعريفًا صريحًا. (٢) البدء بمجموعة من «البديهيات» axioms أو المُسلَّمات الأساسية أو«المُصادرات» postulates. (٣) اتِّباع مجموعة من قواعد التحويل أو المبادئ المنطقية الخالصة. (٤) استخلاص «المُبرهنات» theorems الخاصة بالنَّسق المعنيِّ من التعريفات والمصادرات باستخدام قواعد التحويل. وتُعدُّ «الهندسة الإقليدية» خير مِثال على هذا الصنف من الأنساق الصورية.
٦٠  هناك تفرقة عامة في الفلسفة بين «النمط» (النوع) type و«النموذج» (المثال) token، أي بين النوع العام وبين الشاهد أو المِثال instance الجُزئي من هذا النوع. من ذلك أنَّ مصنعًا للسيارات ينتج كلَّ عام ستَّة «أنماط» (موديلات) من السيارات غير أنه يُنتج من هذه الأنماط ألوفًا من الأمثلة الفردة أو النماذج. ومن ذلك أنَّ دارًا للنشر تطبَعُ كلَّ عام عشرين عنوانًا (نمطًا) جديدًا من الكتب غير أنها تطبَع من هذه الأنماط ألوفَ النُّسخ أو النماذج الفردة.
٦١  Putnam, Hilary (1981) Reason, Truth and History. Cambridge University Press, 1981, p. 52.
٦٢  Ibid., p. 54.
٦٣  «المفهوم» intension الخاص بحدٍّ من الحدود يتألَّف من جميع الخصائص التي تدخُل في تعريفه. أما «الماصَدَق» extension الخاص بهذا الحدِّ فيتألَّف من جميع الأفراد الذين ينطبِق عليهم هذا الحد. مثال ذلك أن مفهوم كلمة «أحمر» هو، ببساطة، كُون الشيء أحمر، وماصدق كلمة «أحمر» هو جميع الأشياء الحمراء. ومفهوم كلمة «إنسان» هو «حيوان عاقل» وماصدقها هو «جميع أفراد البشر».
٦٤  انظر في ذلك: كول، علم النفس الثقافي، ص٦٧–٨٧.
٦٥  علم النفس الثقافي، ص٩٠.
٦٦  Beatti, John (1964) Other Cultures: Aims, Methods and Achievements in Social Anthropology. London: Cohen & West. p. 75.
٦٧  Goodman, Nelson (1972) Problems and Projects. Ny: Bobbs-Marrill, p. 142.
٦٨  Earle, W. J., Introduction to Philosophy, McGraw-Hill, Inc. 1992, p. 15.
٦٩  Piaget, Jean (1972) Judgment and Reasoning in the Child. Totowa, N. J.: Littlefield, Adams & Company, p. 163.
٧٠  «شكل الحياة» Lebensform هو مصطلح أدخله الفيلسوف فتجنشتين وشاع استخدامُه الآن بين كلِّ الفلاسفة وعلماء الاجتماع ليُشير إلى الثقافة الإجمالية لعشيرةٍ ما.
٧١  رولان بارت، درس السيميولوجيا، ص٦٢-٦٣.
٧٢  مدخل إلى الهرمنيوطيقا، ص٣٣٨–٣٤١.
٧٣  Earle, W. J., Introduction to Philosophy, pp. 172-173.
٧٤  أثارت آراء كواين ردودَ فعلٍ عنيفة من جانب عددٍ كبير من الفلاسفة المُعاصرين الذين تناوَلوها بالنقد والتفنيد، ودخلوا مع كواين في جدلٍ طويل مُثمر. وسوف نعرِض لطرفٍ من هذا النقد في موضعه.
٧٥  مايكل كول، علم النفس الثقافي، ص٢١٠.
٧٦  المرجع نفسه، ص٢١١.
٧٧  Earle, W. J., Introduction to Philosophy, p. 23.
٧٨  Goodman, Nelson (1984) Fact, Fiction, and Forecast. Cambridge: MA: Harvard University Press, pp. 120–124.
٧٩  من نظريات المعنى نظرية ترى أن فَهْمنا لجملة معينة هو، ببساطة، أن نعرف الشروط التي في ظلِّها تكون هذه الجملة صادقة، مثال ذلك أنني إذ أفهم جملة «السماء تُمطر» فإنما أفهمها لأنني أعرف صنف الطقس الذي من شأنه أن يجعلها صادقة وصنف الطقس الذي يجعلها كاذبة، وأستطيع تمييز كلٍّ من الصنفين حين يحدُث ويكون، وأستطيع بالتالي أن أُقرِّر أي قِيَم الصدق هو الذي تحمله الجملة في أية مناسبة من المناسبات.
٨٠  Structure of Scientific Revolutions, p. 266.
٨١  Aesthetics, in, Earle, W. J., Introduction to Philosophy (1992) pp. 252-253.
٨٢  جيروم ستولنيتز، النقد الفني، ترجمة د. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٨١م، ص٦١٧–٦٢٠.
٨٣  النقد الفني، ص٥٨٨.
٨٤  المرجع نفسه، ص٦٠٣-٦٠٤.
٨٥  المرجع نفسه، ص٦١١.
٨٦  المرجع نفسه، ص٦٣٦.
٨٧  قد يكون اختلال الترشيح بالطبع نتيجةً للفصام لا سببًا.
٨٨  Bartlett, F. C., Remembering. Cambridge: Cambridge University Press, 1932, p. 250.
٨٩  Ibid., p. 226.
٩٠  مايكل كول، علم النفس الثقافي، ص١٠٥–١٠٧.
٩١  المرجع السابق، ص١١٣-١١٤.
٩٢  انظر كتاب والتر ج. أونج «الشفاهية والكتابية» ترجمة د. حسن البنا عز الدين، مراجعة د. محمد عصفور، عالم المعرفة، عدد ١٨٢، الكويت، فبراير ١٩٩٤م.
٩٣  Benedict, Ruth (1934) Patterns of Culture. Boston: Houghton Mifflin, pp. 2-3.
٩٤  مايكل كول، علم النفس الثقافي، ماضيه ومستقبله، ص٢٩.
٩٥  المرجع السابق، ص٥٣.
٩٦  المرجع السابق، ص١١٢.
٩٧  المرجع السابق ص١٣٩–١٤٢.
٩٨  المرجع السابق، ص١٤٦.
٩٩  Dewey, L., Experience and Education. New York: Macmillan, 1938–1963, p. 39.
١٠٠  Vygotsky, L. S., The genesis of higher mental functions, in J. V. Werysch, ed., the Concept of Activity in Soviet Psychology. Armonk, N. Y.: Blackwell., 1981, p. 163.
١٠١  Mannheim, Karl (1929–1936) Ideologie und Utopie. Bonn: F. Choen. Trans. By L. Wirth & E. Shilds as Ideology and Utopia. New York. N. Y.: Harcourt Brace & World, p. 57.
١٠٢  أي مُتعلق بتطوُّر النوع.
١٠٣  «المذهب المعرفي» cognitivism في الأخلاق هو المذهب القائل بأن العبارات الأخلاقية مثل «السرقة خطأ»، «الكذب على العدو مباح» … إلخ، هي عبارات حقيقية، أي عبارات تحتمِل الصدق والكذب، أي عبارات تحمِل «قِيَم صدق» truth-values، وأن الأسئلة الأخلاقية من مثل «هل السرقة خطأ؟» هي أسئلة موضوعية، أي أسئلة لها إجاباتٌ صحيحة وإجابات خاطئة؛ ذلك أن الأخلاقية شيء موضوعي، وأن هناك شيئًا من قبيل المعرفة الأخلاقية يُحصِّلها الناس عندما تستوي لديهم اعتقادات صادقة مُبرَّرة عن الأخلاقية. وهو يُقابل كُلًّا من «مذهب الأمر»، و«المذهب الانفعالي»: أما «مذهب الأمر» imperativism فيقول بأنَّ العبارات الأخلاقية هي في الحقيقة قواعد وأن الجدل الأخلاقي هو بالتالي جدَل حول أيِّ القواعد يجِب أن يتَّخِذها البشر في حياتهم ويعملوا بمُقتضاها. وأما «المذهب الانفعالي» emotivism فيقول بأنَّ العبارات الأخلاقية هي جُمل تعجُّبية مُتنكِّرة تُعبِّر عن انفعالات إيجابية أو سلبية ومشاعر استحسان أو استهجان.
١٠٤  الأورجانون الجديد، ١–٥٥.
١٠٥  من الواضح أن بيكون يعرِض ضربًا من النسبية الوصفية، وأنه مُناوئ لنظيرتها المعيارية، ويُقدِّم وصفةً لتلافيها. انظر عن بيكون أيضًا كتاب د. فؤاد زكريا «آفاق الفلسفة»، مكتبة مصر، القاهرة، ١٩٩١م، ص١٠٢-١٠٣.
١٠٦  Churchland, Patricia Smith, Neurophilosphy, The MIT Press, ninth edition, 1996, pp. 259–312.
١٠٧  مثلما تفعل الخفافيش في عالمنا المألوف.
١٠٨  karmiloff-Smith, A. Beyond modularity: Innate constraints and developmental change. In Carey and Gelman, eds., Cambridge, Mass.: MIT Press, 1991, p. 152.
١٠٩  مايكل كول، علم النفس الثقافي، ص٣٠٤–٣٠٦.
١١٠  Campbell, Donald T. “Evolutionary Epistemology”, in The Philosophy of Karl Popper. LaSalle, IL: Open Court, 1974, p. 444.
١١١  Earle, W. J., Introduction to Philosophy, p. 114.
١١٢  إشارة إلى أخيل، أعظم أبطال الإلياذة، وكان كعبه هو نقطة ضعفه الوحيدة، ومقتله اليسير لمن شاء قتله، وتأويل ذلك أن أمَّه أرادت أن تجعله خالدًا فغطَّسته، وهو طفل رضيع، في نهر سحري، غير أن كعبَهُ الذي كانت تقبض عليه إذ ذاك ظلَّ على حاله ولم يشمله تأثير النهر.
١١٣  الإحساس الذي يُعنيه كُون في هذا السياق هو الإحساس الذكي المُدرك، أو ما صِرْنا نُطلِق عليه «الإدراك الحسي» perception لكي نميز بينه وبين الإحساس الخام أو الغُفل sensation.
١١٤  John Heil, Philosophy of Mind, Rutledge, London and New York, 1998, p. 154.
١١٥  سنعرِض لمبدأ الإحسان في القسم الخاص بتجاوز النسبية.
١١٦  Varieties of relativism, p. 192.
١١٧  Varieties of relativism, p. 194.
١١٨  Ibid., pp. 195-196.
١١٩  Richard Rorty, Contingency, Irony, and Solidarity. Cambridge: Cambridge University Press, 1989, p. 4.
١٢٠  Contingency, Irony, and Solidarity, pp. 4-5.
١٢١  Varieties of relativism, pp. 202-203.
١٢٢  Contingency, Irony, and Solidarity, p. 6.
١٢٣  Varieties of relativism, p. 204.
١٢٤  Contingency, Irony, and Solidarity, p. 15.
١٢٥  Varieties of relativism, p. 205.
١٢٦  Ibid., pp. 205-206.
١٢٧  سنعرض لمفهوم «التوازن التأملي» في حينه.
١٢٨  علم النفس الثقافي ص٥٢.
١٢٩  Palmer, Richard E., Hermeneutics. Northwestern University press, Evanston, 1969, pp. 112–114.
١٣٠  Earle, W. J., Introduction to Philosophy, p. 13.
١٣١  مدخل إلى الهرمنيوطيقا، ص١٦٣.
١٣٢  James Phillips, Key concepts: Hermeneutics, In, Philosophy, Psychiatry, & Psychology 3.1 (1996) p. 62.
١٣٣  مدخل إلى الهرمنيوطيقا، ص٢٣٦–٢٣٨.
١٣٤  بوبر، أسطورة الإطار، ص٧١.
١٣٥  Paul Ricoeur, Freud and Philosophy, translated by Denis Savage, New Haven and London, Yale University Press, 1970, p. 33.
١٣٦  Antony Thisleton, NEW Horizons in Hermeneutics, Grand Rapids: Zondervan, 1992, p. 26.
١٣٧  بوبر، أسطورة الإطار، ص٦٣.
١٣٨  المرجع نفسه، ص٨٠-٨١.
١٣٩  المرجع نفسه، ص٨٧-٨٨.
١٤٠  المرجع نفسه، ص٨٨–٩٨.
١٤١  انظر الفصل الخاص بالنسبية اللغوية لمزيدٍ من التفصيل حول موقف بنيامين ورف.
١٤٢  Campbell, Donald T., “Distinguishing Difference of Perception Failures of Communication in Cross Cultural studies”, in F.C.S. Northrop and Helen Livingston, eds., cultural Understanding. N. Y: Harper & Row, 1964, p. 37.
١٤٣  Victor Turner, “Passages, Margins, Poverty”, in his Dramas, Fields, and Metaphors, Symbolic Action in Human Society (Ithaca: Cornell University Press, 1974), p. 232.
١٤٤  نعني في هذا المقام بالطبع الضرب «الوصفي» descriptive من النسبية.
١٤٥  Whiting. J. W. M., and Whiting, B. B., Contributions of anthropology to the methods of studying child rearing. In P. H. Mussen, ed., Handbook of Research Methods in Child Development. New York: Wiley. p. 933.
١٤٦  Bidney, David. “The Philosophical Presupposition of Cultural Relativism and Cultural Absolutism”. In Ethics and Social Sciences, ed. Leo R. Ward. Notre Dame, In: Notre Dame, 1959, pp. 51–76.
١٤٧  كلايف بل، «الفن» Art، ترجمة د. عادل مصطفى، مراجعة د. ميشيل ميتياس، دار النهضة العربية، بيروت ٢٠٠١م، ص٦٠–٩٥.
١٤٨  Bachelard, G., The New Scientific Spirit, trans. A. Goldhammer. Boston: Beacon Press, 1984, p. 7.
١٤٩  دائرة التأويل هي المُفارقة الكامنة في عملية الفهم، فهم نصٍّ من النصوص على سبيل المثال: ذلك أن فهم أي عنصر من عناصر النص لا يتأتَّى إلَّا بفهم النصِّ ككل، والعكس أيضًا صحيح؛ إذ لا يتسنَّى للمرء فهم النصِّ ككل إلا بفهم عناصره المكونة! وإذا أخذنا الجملة اللغوية كوحدةٍ كلية فإنَّنا نفهم معنى الكلمة المُفرَدة داخل الجملة بإحالتها إلى الجملة الكلية. والجملة بدورها يعتمد معناها الكُلِّي على معنى كلماتها المُفردة، وتمتدُّ هذه العلاقة التبادُلية لتشمل المفاهيم الذهنية: فكلُّ مفهوم مفرد يستمدُّ معناه من السياق أو الأفق الذي ينسلك فيه. ومع ذلك فإن الأفق أو السياق إنما يتكوَّن من العناصر نفسها التي يُضفي عليها معناها. وخلال هذا التفاعُل الجدلي بين الكلِّ والجزء يمنح كلٌّ منهما الآخر معناه ومغزاه. الفهم إذن عملية دائرية، والمعنى في الحقيقة لا ينهض إلا داخل هذه الدائرة؛ ونحن لذلك نُطلِق عليها «دائرة التأويل». من الواضح أن مفهوم دائرة التأويل (علاقة الجزء والكلِّ وتوقُّف معنى كلٍّ منهما على الآخر) ينطوي على تناقُض منطقي ظاهري (مفارقة paradox)، وأنه مفهوم يبدو مُستحيلًا ومُمتنعًا للوهلة الأولى. والحق أنه مفهوم مُمتنع إذا كنَّا نفكر في الأمور تفكيرًا «خطيًّا» linear مُستقيمًا. غير أن المنطق الخطي يعجز عن تقديم شرح مُقنع لعمل الفهم. أما وجه الأمر فهو أنَّ هناك «قفزة» تحدُث إلى داخل دائرة التأويل، وأنَّنا في الحقيقة نفهم الكل والأجزاء معًا، فالفهم عملية إحالية مُقارنة من جهة، وحدسية استشفافية من جهةٍ أخرى. ولكي تعمل دائرة التأويل على الإطلاق فهي تفترض بالضرورة عنصرًا حدسيًّا. وقد حسم فتجنشتين المشكلة الشبيهة بهذه المشكلة والخاصة ﺑ «كلية المعنى» holism of meaning بقولته المأثورة: «إن النور ليطلع شيئًا فشيئًا على الكل.»
١٥٠  Hans-Georg Gadamer, Truth and Methods, trans. J. Weidsheimer and S. G. Marshall. New York: The Crossroad Publishing Company, 1990, p. 19.
١٥١  Truth and Method, p. 15.
١٥٢  Lois Shawver, “What Postmodernism Can Do For Psychoanalysis”. The American Journal of Psychoanalysis, Vol. 56, No. 4, 1966, p. 375.
١٥٣  Locan, J. “The function and field of speech and language in psychoanalysis. In J. Lacan (ed.), Ecrits. New York: W. W. Norton, p. 49.
١٥٤  Ibid., p. 69.
١٥٥  Horney, K., Neurosis in Human Growth: The struggle Toward Self-Realization. New York: W. W. Norton, p. 180.
١٥٦  Lois Shawver, What Posmodernism Can Do for Psychanalysis, p. 377-378.
١٥٧  Ibid., p. 378.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤