الفصل الرابع

مستقبل الجيل الحاضر

١

إذا نظرنا إلى الدولة نظرة خارجية بدت لنا في صورة هيئة تضم المواطنين الذين يسعون إلى تحقيق هدف مشترك، وهذه هي الحالة عندما ندرسها في المجال الدولي، كما أننا نؤمن بالمساهمة في التقاليد التاريخية العامة التي تجسمها الذكريات التي تربط أعضاءها معًا برباط حقيقي، كذلك الرباط الذي يربط أفراد الأسرة الواحدة. وإنا لننظر في خدماتها الاجتماعية التي تحاول أن تخفف من حدة الخلاف القائم بين الأغنياء والفقراء بشأن تحقيق الرخاء، كما أننا نؤمن بالمحاكم التي تتمثل فيها العدالة غير المتحيزة بالنسبة لأعضاء كل طبقة من الطبقات. وإنا لننظر إلى الهيئة التشريعية حيث لا يجد المواطن نفسه فحسب، وإنما سينال المعروفون منهم حق الانتخابات داخل إطار المجتمع الذي ينتمون إليه. وإذا عقدنا مقارنة بين وظائف الدولة الحديثة واختصاصاتها، وبين الدولة منذ قرن مضى، سهل علينا أن نقول: إن التغيير يمثل زيادة محدودة تعمق الضمير الاجتماعي، ومن الطبيعي أن نستفيد من هذا الاستنتاج، إذ إنه كلما تعمق الضمير الاجتماعي استطاع أن يقيم أسس الدولة واستطاع أيضًا أن ينظر إليها على أنها منظمة تسعى إلى تحقيق الخير العام لأعضائها.

ويعتبر هذا بمثابة استنتاج يسهل الوصول إليه، وهو استنتاج سطحي أيضًا إذا لم يكن موضوع هذا الكتاب؛ ذلك لأن الاتحاد الذي نجده في هذا المجتمع ليس اتحادًا يتم على الموافقة، ولكنه يتم على الإلزام والإجبار، كما أن السمعة الضرورية للدولة لا تتمثل في السعي وراء رخاء عام، وهذا الرخاء لا يعبر عن جوهر هذا الغرض، ولكنه رخاء محلي، والهدف الحقيقي للدولة هو الاحتفاظ بالمبادئ القانونية التي تدافع عن سيطرة أصحاب أدوات الإنتاج في داخل الإطار المعد لذلك. ويخضع الرخاء العام على الدوام لذلك الغرض الأساسي، وليست التشريعات الاجتماعية وليدة استعداد موضوعي لتحقيق الخير العام من جانب كافة الأعضاء، إن هذا هو الثمن الذي يُبذل من أجل المبادئ القانونية التي تدافع عن سيطرة الملاك، وهي تعد بمثابة مجموعة من الامتيازات التي تقوم بتغيير أية مقاومة حاسمة إلى المبادئ التي يمكن بها الإبقاء على هذه السلطة.

غير أن ذلك يعد تبسيطًا شائكًا لموقف شائك، ولا سيما من الناحية السيكلوجية. ويهمنا أن نضع ذلك في طريق صلد؛ لأن ذلك يلفت النظر بالنسبة للناحية المركزية في تحليلنا للدولة. فهي تؤكد تحكم السلطة الإلزامية التي يستخدمها أصحاب أدوات الإنتاج، كما أنها تصر على أن هذه الامتيازات التي تُقدَّم للجماهير لا يُدافَع من أجلها فحسب، ولكن القيود قد وُضِعت أيضًا، وهي قيود فرضتها الأركان القانونية الموجودة في نظام علاقات الملكية القائمة، ذلك النظام هو الذي يميز المجتمع الذي نظمته الدولة. ولكن إذا تعارضت مطالب الجماهير مع هذه الأركان وجب إجراء تغيير في نظام العلاقات الملكية قبل تحقيقها، وإن مثل هذا التغيير كما تشهد الناحية التاريخية لن يمكن إنجازه دون قيام ثورة من الثورات.

وإن مرحلة الانتقال من المجتمع الإقطاعي إلى المجتمع البرجوازي يمكن إتمامها عن طريق خوض غمار معركة عنيفة. وليس هناك أي سبب في افتراض إمكانية تغيير أسس المجتمع البرجوازي دون هذه المعركة، إذا لم تفترض أن الأفراد الآن قد أصبحوا أعقل منهم في أي وقت مضى، إلا أن افتراض النواحي العقلية يعد تضليلًا أوجدته ملابسات تاريخية خاصة أخذت تتوارى. وأدى الوضع الاقتصادي الغريب في القرن التاسع عشر إلى فتح المجال أمام الإنتاج المفاجئ، وأصبح من الممكن توزيع الامتيازات على نطاق واسع، وذلك من مقدار الفائض حتى يسد هذا مطالب الملاك ومطالب هؤلاء الذين ليس لهم إلا جهودهم، وبالتالي يظهر جو من التسامح يتمشى مع افتراضات مذهب الأحرار. وحينما أصبح في الإمكان الإنتاج والتوزيع والقدرة على سد احتياجات عامة، نجد أن كل هذا يبدو أمرًا غير ضروري بالنسبة لنواحٍ عديدة من الحضارة الغربية. فما من شك في عدم وجود تذبذب في مذهب الأحرار، ولكننا أقدمنا على تعميم هذا المعنى ليبدو جليًّا كأنه المثل الأعلى للأحرار قد تقبلته أوروبا الغربية وأمريكا.

٢

إن الطابع الذي تكلمنا عنه هو طابع الديمقراطية الرأسمالية، إلا أن عدد هؤلاء الذين داخلهم الشك في كفايته كوسيلة دائمة وناحية سليمة، هو عدد ضئيل. ولكن كيف وضح هذا العدد في عام ١٩١٤م عندما تمكنت الأحزاب في الدولة الثانية من قبول الارتباط بعجلة الحرب بغض النظر عما نادوا به من المبادئ الماركسية؟ فلقد واجهتهم بعض الصعوبات إلا أن الأفراد استطاعوا إدماج الرأسمالية والديمقراطية في قالب واحد بالرغم من أن ذلك كان وليد صدفة محضة، وحدث هذا عندما اتحد عامل الثورة الروسية وعامل الإنهاك من جراء الحرب، وعندما حاولا تجريد بعض الأمور في مآسي الحرب، وأدرك الناس مدى الدور الذي قامت به الصدفة لإيجاد هذا الإدماج بين الرأسمالية والديمقراطية. ولم يكن هذا وليد تناسق وتكامل للمعالم التي يتميز بها المبدأ الأساسي، ولكنه كان وليد فترة فيها التطور الاقتصادي عندما كانت الرأسمالية في مرحلة نموها. فلقد فرضت السلطة السياسية على الجماهير، ولكن على أساس أن السلطة السياسية يجب ألا تُستخدم في استئصال جذور الفروض الرأسمالية، إذ ربما قدمت بعض الإصلاحات الاجتماعية، طالما وأنها لم تعرض للخطر تلك العلاقات اللازمة للنظام الرأسمالي، ولكن عندما يحدث هذا كما حدث في سنوات ما بعد الحرب، فإن التعارض القائم بين الرأسمالية والديمقراطية قد يصبح سمة ضرورية تتميز بها الحضارة الغربية.

ويعبر هذا التعارض عن نفسه بطرق قد عودنا التاريخ عليها، لا سيما في كل فترة من فترات الانتقال الحرجة، إذ لا نجد في الائتلاف الذي قام بين الأحزاب الرأسمالية للاحتفاظ بجهة المصالح الرأسمالية التي لا تفصهم عراها، والتدخل في روسيا للقضاء بالقوة على النواحي المذهبية الهدامة التي تعرض النظام والقانون للخطر، وما نادى به المصلحون المعتدلون من أجل السلطة، وعندما أصبحت حدة التنافس شديدة، وأصبحت معارضة الديمقراطية معارضة تعسفية — كما حدث في ألمانيا وإيطاليا والنمسا — إذ يُنظر إليها على أنها أشد خطرًا على المبادئ الرأسمالية — لا نجد في كل هذا ما يستوجب إثارة دهشتنا، فلقد تكلم الأفراد كثيرًا عن الدستور البريطاني الذي لا يضارعه أي دستور آخر، كما تكلموا عنه عام ١٧٩٢م وأثنوا عليه، ولكنهم كانوا يوجهون التهم جزافًا إلى المصلحين المعتدلين؛ وذلك للقضاء على الضمانات التي يكفلها النظام والقانون في الوقت الذي يستخدمون فيه ذلك لكي يدافع عن مصالحهم الشخصية، ضد إمكانية إجراء أي تغيير دستوري، وتتفاوت العملية في البلاد المختلفة، إلا أن طابع هذه العملية هو نفس الطابع في كل مكان آخر. كما أن تعريض حرية المناقشات للخطر في الولايات المتحدة قد اتخذ مظهرًا يتسم بالعنف.

وسبب هذا التغيير الذي طرأ على الطابع العام سبب معقول، ولا يمكن للرأسمالية وهي في محنة أن تبالغ في اتخاذ سياسة حرة، ولكن من الممكن أن تخضع أعمالها الخارجية لمحاولات الضغط التي تقوم بها الديمقراطية؛ إذ ليس من طبيعتها أن تخضع دون وجود صراع داخلي، فإذا استمر الإصلاح الاجتماعي في أية فترة من فترات التدهور؛ فذلك يعني تغييرًا في أساس علاقات الملكية. وهذا بدوره يعني التخلي عن الامتيازات الخاصة، فهي تغير حكومة الأقلية الاقتصادية وتدمجها في مجتمع لم تعد ملكية أدوات الإنتاج فيه ملكية مميزات خاصة تختلف عن ذلك تمام الاختلاف. فكما جرت العادة، نجد عندما تتعرض الفكرة الأساسية للملكية للخطر أن أصحابها قد استولى عليهم الهلع، وتصبح الديمقراطية السياسية عدوًّا؛ لأنها تضع السلطة الدستورية في أيدي الجماهير. ويصبح عدم الرضا الذي تبعثه تلك المدلولات موضع نقاش وجدال، أما الأماني المصطلح عليها فقد حُرموا منها. ففي أثناء الثلاثين عامًا التي تلت الحرب نجد أن الديمقراطية التي قام ملايين الأفراد بتقديم حياتهم قربانًا لها لم تعد مثلًا عمليًّا يُحتذى في أمور كثيرة من الحضارة. فلقد تخلت الدولة عن المبادئ الحرة التي حسمتها لأعظم الأمور التي وقعت، واتخذت مرة أخرى طابعًا مجردًا للدفاع عن حقوق الملكية الخاصة من الهجوم عليها.

وتلوح أمامنا في الأفق بوادر معركة تهدف إلى امتلاك سلطة الدولة، وتتضح لنا حقيقة عامة هي أن العلاقات القائمة بين الطبقات في مجتمعنا قد أصبحت تتعارض مع صيانة السلام الاجتماعي، بل وكشفت عن التناقض القائم بين قدرتنا على الإنتاج، وقدرتنا على التوزيع، وذلك بطريقة تجعل معها التناقض الظاهري الموجود في عصرنا هذا يتمثل في الفقر المدقع الذي يحل بنا وسط ما يتميز به هذا العصر من وفرة في الإنتاج، كما أننا لا نصفح عن هؤلاء الذين يجب عليهم دفع ثمن ذلك، إلا أنه عندما نختار بين التغيير السلمي والمحافظة على الامتيازات الخاصة على حساب الصراع الدائر؛ فإن أصحاب الملكية قد أبدوا استعدادهم للقتال من أجل الامتيازات القانونية، لا من أجل التراخي والاستسلام، ولم يوضح هذا الموقف إبعاد الأسس الديمقراطية في الدولة الفاشستية فحسب، ولكن أوضحته أيضًا مقاومة الإصلاح الاجتماعي في الولايات المتحدة وبريطانيا، وذلك بالعداء الصريح الذي يكنُّه حزب اليمين للديمقراطية في فرنسا. فالدولة في أية دولة من هذه الدول لا يمكن أن تقوم بأية محاولة فعالة، ولكن عندما تتعرض حقوق الملكية للخطر تظهر ماهيتها كأمر إلزامي بوضوح وجلاء، إلا أن الجماهير هم أولئك القوم الذين يُفرض عليهم هذا الأمر.

ولقد قيل في بعض الأحيان: إن ظهور الصدع لا يرجع إلى امتناع الرأسماليين من القيام بالإصلاح، ولكنه يرجع إلى السرعة التي يسير عليها المصلحون لإجراء تلك التغييرات، إلا أنه ليس هناك اختلاف جوهري بين الموقف الذي يتخذونه اليوم، وذلك الموقف الذي واجهه مستر لويد جورج، عندما قدم بعض الاقتراحات منذ خمس وعشرين سنة خلت، وتقضي بإجراء تغييرات مالية ننظر إليها الآن على أنها تثير الانتباه لاعتدالها، إلا أن رفض مجلس اللوردات لتلك الميزانية لم يكن مجرد قرار حاسم. ففي مستهل عام ١٩٠٦م صرح اللورد بلفور لمعضديه أن من واجبهم معرفة قيام الحزب الاتحادي سواء أكان في الحكم أم في المعارضة بالتحكم في مصير هذه الإمبراطورية، ولقد أماط اللثام عما يقصده بعد ثلاثة أشهر عندما أعلن — بعد قراءته لقانون التعليم الذي صدر عام ١٩٠٦م، والذي لم يكلل بالنجاح — بوجوب حرية المناقشة في كل مكان. ولقد كانت دعوى صريحة للحق الذي يخول للملكية حق حكم البلاد مهما كانت إرادة الشعب. وقد قرأ ما كتبه نبلاء كثيرون عن الميزانية في أن لهم الحق في المحافظة على أنفسهم ضد أي إجراء يختارونه للنظر إليه على أنه أمر ينم عن المصادرة.

وما من شك في أن مستر آسكويت كان على صواب عندما حذر هيئة المنتخبين من أن النواحي الضمنية في دعوى مجلس اللوردات كانت بمثابة تهديد للقيام بالثورة.

وكتب معلق حينذاك يقول: «إن أعضاء حزب المحافظين لا يستطيعون وضع أنفسهم مكان أعدائهم، وهم لا يدركون أنهم حين يستخدمون السلاح الذي يستخدمونه في سلب الأعداء ثمار النصر، فإنهم لا يقدمون بذلك الدور، وأنه ليس هناك جريمة أبشع من هذه الجريمة في نظر المواطن البريطاني.» وليس هناك تغيير جوهري في السنوات الخمسة والعشرين الماضية؛ إذ إن هذه الدعوى ما تزال قائمة واختصاص مجلس اللوردات ينحصر في وقاية البلاد من حكومة حزب العمال التي تسعى جاهدة إلى وضع المبادئ الاشتراكية في صيغة تشريعات قانونية. أما المقترحات التي تقدَّمَ بها حزب المحافظين لإجراء بعض الإصلاحات في مجلس اللوردات، فلم يكن لها هدف معين ترمي إليه سوى الحيلولة بين مثل هذه الحكومة وتلك التشريعات.

ولا يعني هذا شيئًا، اللهم إلا ذلك المضمون الذي يذهب إلى أن إرادة هيئة المنتخبين يمكن لها أن تعمل في داخل النطاق الذي حددته أية جمعية، حيث نجد أن طابعها يتمثل في التعبير عن مصلحة الملكية.

أما الموقف الذي يتخذه مجلس اللوردات؛ فهو موقف يتسم بالطابع النقابي، إلا أنه أمر هام عندما ينظر إليه على أنه يشير إلى اتساع إطار العقل لا إلى ما يحويه في حد ذاته. ويتضح لنا هذا الإطار في الميادين المتشعبة، ويتمثل لنا في المقاومة الشديدة التي أبداها أصحاب الفحم لا بالنسبة للتأميم فحسب، ولكن بالنسبة لاتحاد الصناعات أيضًا، بالرغم من أن اللجنة الملكية قد أوصت بتغييرات في هذا المجال منذ الحرب، كما أن رفض تجارة القطن قد أوضح الأمر الذي يوصي بإعادة وضع أُسسها على ضوء الملابسات الجديدة التي تواجهها في ميدان التنافس. فإذا لم تُعِر تلك المصالح المخولة أي انتباه لنصيحة الأصدقاء، فليس من المحتمل أن تستسيغ تلك المقترحات التي كانوا ينظرون إليها كما ينظرون إلى الأعداء، ووضح هذا الأمر أمام المجهودات التي يبذلها مجلس اتحاد النقابات للنهوض بمستوى العامل، وعندما ينظر إلى ذلك على أنه اتجاه نحو الدكتاتورية، فمن الواضح إذن أن قليلًا من حسن النية سيبين لنا معالم العلامات الاجتماعية في فترة تسودها الأزمات الاجتماعية، ولا نتجنى عندما نقول: إن بوسع الملكية في بريطانيا أن تتقاسم مع الجماهير الثمار التي تنتج من الرخاء، ولكن على شريطة ألا تُثار مشاكل جديدة حول الحق القانوني بالنسبة لتلك الامتيازات، إلا أن التطور الاقتصادي هو الذي دفع هذه المشاكل إلى الظهور.

ولا يختلف هذا الموقف في جوهره عن الموقف في الولايات المتحدة، فلقد تدخل الرئيس في مجال الصناعة؛ حتى يتم ضمان ملابسات الرأسمالية التي قاموا بتقديمها، إلا أنه يجد أن رفض تلك المصالح المخولة لمد يد المساعدة في المبادئ التي أعلن عنها قد أحبط مساعيه، ويرجع هذا إلى عدم الثقة التي يوليها للمقترحات التي يقوم بتقديمها.

ولكن طالما كانت استعادة سوق المال تعد بمثابة وظيفة لتلك الثقة، فيعتبر أنه شرط أساسي من شروط نجاحه، إلا أن العراقيل قد قامت في سبيل المجهود الذي يبذله من الناحية الأخرى؛ للمساهمة في عمل منظم حتى يضمن لها التقدير. أما الإضراب العام الذي قام في سان فرانسسكو، والإضراب الذي قام في خريف عام ١٩٣٤م الخاص بالنسيج، فيعدان من الحوافز الرئيسية التي ترمي إلى تصميم رجال الأعمال في أمريكا على مقاومة محاولات الضغط من أجل القيام بالإصلاح. إلا أنني وجدت أن هذا الضغط قد اصطحبه عداء متزايد للآراء الديمقراطية التي تبعث التوتر الذي يسود فترتنا هذه. أما معارضو روزفلت فنجدهم وقد قاموا بالنضال تحت راية الحرية، إلا أن حريتهم تعني دوام حقهم في المحافظة على ذلك الشرط في المجتمع الأمريكي الذي تمخضت عنه الأزمة الحالية.

ومن الضروري — وفي خضم هذه الظروف التي أمكننا الوصول إليها — ألا نتقيد بافتراضات النظام الرأسمالي حتى يمكن تحقيق إصلاح له أهميته يضمن له البقاء. وفي الإمكان تحقيق مثل امتيازات ذلك النظام القديم عندما يتسع نطاق ما حققته النواحي الرأسمالية حتى يمكن تحديدها دون القضاء على هذه الافتراضات. وإننا لا نواجه هذه الملابسات إلا لأننا استطعنا بلوغ هذه المرحلة من التطور الاقتصادي الذي تنبأ به ماركس عندما قال: إن المتناقضات التي تسيطر على الرأسمالية سينجم عنها دائمًا عدد كبير من العمال تتضاءل أمامهم إمكانية إيجاد أي عمل. ولقد علل وجود البطالة التكنولوجية (في الميدان العملي)، كما دلل على التزايد المطرد في تمويل رءُوس الأموال. وأوضح مظاهر نمو التوسع الاقتصادي، وإننا لا نستطيع التحكم في مدلولات هذه الاتجاهات في داخل إطار النظام القانوني القائم؛ إذ إنها قد تشابكت في بعض الأمور الموجودة في البنيان الاجتماعي. وإذا أقيمت الافتراضات نجد أن هناك شعورًا هامًّا، حيث يُنظر لها على أنها شرط لسعادتها ورفاهيتها. وإن أي هجوم عليها كما توضح الخبرة التي مرت بها حكومة حزب العمال في عام ١٩٢٩م، وكما يوضح أيضًا تاريخ التجربة التي مر بها روزفلت ستزعزع من تلك الثقة التي يعتمد عليها ما يؤديه هذا النظام من عمل تأدية تامة، وتتخذ وسيلة التغيير مظهرًا من مظاهر التعاون في هجوم الأفراد الذين من أجلهم يقوم هذا النظام لا كسلاح واقٍ لمصالحهم الخاصة فحسب، ولكن كضمان لرخائهم القومي أيضًا.

وإذا حاولت مثل هذه الاستراتيجية أن تتفادى هذا المأزق باستمالة الرأسمالية إلى الإذعان والخضوع — وذلك بوضع شروط تعويض سهلة لنقل الملكية — فعندئذ يمكن دفع ثمن عجزها عن زيادة الرخاء الذي يعتبر الهدف الذي تسعى لتحقيقه. ولقد أوضحت من قبل سبب عدم إمكان تحقيق مثل هذا التعاون؛ إذ إننا إذا جردناها من كل الأساليب البلاغية؛ فإن مقومات الدولة، وكذلك المذهب الذي تفرضه تأدية ذلك العمل، تشير إلى الاتجاه نحو التناحر والتصارع، لا نحو التعاون والتناسق. ويجدر بي أن أشير إلى أن ذلك ليس بمثابة سخط أخلاقي على هؤلاء الذين يرفضون هذا التعاون؛ إذ إن عجز الرأسماليين عن قبول افتراضات غير افتراضاتهم قد يرجع إلى الموقف الذي وجدوا أنفسهم فيه. فليس في مقدورهم إنكار ذلك المذهب الذي يؤمنون به، مثلهم في ذلك مثل مواطن عراقي لا يشك في صحة حقائق الإسلام. ولقد درج الناس على عدم التمعن في المبادئ التي يعتقدونها، اللهم إلا إذا حلت بهم كارثة أو وقعوا في محنة. ولكن عامل الزمن يبدو محدودًا جدًّا بحيث لا يتسع لهم الوقت لدراسة هذه المبادئ دراسة هادئة تقوم على الفكر والروية. وتثير المناقشات التي تدور حول حقوق الملكية شعورًا عميقًا أكثر مما يثيره موضوع آخر.

وهذا أمر طبيعي طالما تقوم العلاقات التي تثيرها بتحديد مسالك الحياة الاجتماعية. ولقد وجد الحق الإلهي للملوك، والتسامح الديني، وعدم تفادي الحرب، ووجوب قيام نظام العبيد؛ وجدت كل هذه الأشياء من يدافع عنها. وسيثير الانتباه قطعًا أي مبدأ له أهميته كالملكية الخاصة لأدوات الإنتاج؛ وذلك إذا استُثني من القاعدة العامة.

ويجب علينا أن نتذكر ماهية الفائدة التي تعود على الطبقة المالكة — وذلك في الظروف العادية — فللصحة والأمن وإتاحة الفرصة لنشر الثقافة، وغير ذلك مما له مكانته الاجتماعية — يعد بمثابة مظاهر لهذه الفائدة، وهي تمكن الفرد من ضمان وضع أبنائه. ولا تجعله — عندما يبلغ سن الشيخوخة — ينوء تحت تلك الأعباء التي تخيم دائمًا على حياة الطبقة العاملة. وهي تعني تلك القدرة على شراء بعض الأشياء من الآخرين، وكذلك القدرة — عن طريق المعرفة والترحال — على تفادي وحدة السياق الممل في هذا الوجود. ويرجع تغيير البنيان الطبقي — الذي يعد بمثابة تهديد إلى ذاك التوازن الذي يعني أمورًا عدة لنسبة للأفراد الذين ألفوا ذلك الاستمتاع، واستسلام تلك المدلولات عن طيب خاطر معناه تحول لا يمكن تخيله وتصوره. وليس هذا الترقب بمثابة دعوى لتصديق ديني للمبادئ، بل على العكس أن تلك الحالة تبدو وقد بُنيت لا على رفض ذلك التصديق الديني فحسب، ولكن على مواجهتها للخصومات القائمة بين الجماعات الدينية التي تعد بالنسبة لأفراد كثيرين التعبير الحقيقي عن الروح الدينية. ويجب علينا أن نفكر في الثمن، الذي تحدده الديانات التي تقوم على التبشير كالمسيحية مثلًا. وهي تعد بالخلاص الأبدي لهؤلاء الذين يؤمنون بها، دون إجراء تغيير جوهري في النظام الاجتماعي، وتحقيق تلك الأمور التي تتسم بروح التفاؤل الكامن في الافتراض بأن الطبقة المالكة التي تسيطر على سلطة الدولة ستساهم في القضاء على ما تتضمنه سلطة الدولة. إلا أن هؤلاء الذين ينتهجون نهجًا معينًا في الحياة نادرًا ما يُدفعون إلى التخلي عنها دون النضال في سبيلها، واقتنع هؤلاء الموجودون في داخل هذا الإطار بأن العالم الجديد الذي دعوا إليه ليس سوى هذا العالم الذي نعيش فيه.

وقد قيل إن هذا التغيير له مؤيدوه، إلا أن عدد أصحاب الملكية عدد ضئيل، أما البروليتاريا فعددهم كبير.

وعندما تشعر طبقة البروليتاريا بنفوذها تجدها وقد قامت بالسيطرة على الوضع الراهن، ففي بريطانيا مثلًا نجد أن أفرادها يقومون بالدخول في نطاق السلطة السياسية إذا أردوا ذلك، وعندئذ يسيطرون على نفس الوسائل.

وتعد القوات المسلحة للدولة الملجأ الأخير، وتعتمد هذه السيطرة على الطبقة المالكة.

ولا يقهر الدولة إلا كثرة العدد، ويمكن استمالة هذه الأعداد عن طريق الخبرة.

ولقد ناقشت الافتراضات التي تتضمنها هذه النظرة، إلا أن هناك بعض العوامل التي تناقضها.

ومن الأهمية بمكان أن نذكر أنه ليس هناك تأكيد من أن تلك الأعداد — إذا أمكن استمالتها — فإنها ستجد الطريق الذي يجب السير فيه.

إذ تشير الدلائل إلى أنه إذا أظهر اليساريون تصميمًا أكيدًا لتغيير المجتمع؛ فمن الممكن أن يحدث ذلك عندما تعتمد على حق التصويت، وذلك بالتخلي عن العملية الديمقراطية.

وفي هذه الحالة تجد أن القوة المسلحة يمكن لها أن تؤثر في هذا التغيير الاجتماعي.

وهذا ما يحدث اليوم في وسط أوروبا وإيطاليا.

ولكن بالرغم من تولي أية حكومة اشتراكية الحكم على أساس العنف نجد أن مشاكلها تبدأ في الظهور.

وإذا قام أي فرد بالنظر إلى وضعها، فلن يدفع إلى الإقلال من شأن تلك المحنة التي ستواجهها، ولكن عندما يبطئ سيرها، فستعاني من جميع الصعوبات التي تواجه أية حكومة تحاول جاهدة — على أساس الفروض الرأسمالية — أن تؤثر في هذا التغيير، فهي تحاول أن تثير المعارضين، وذلك بزعزعة تلك الثقة.

إلا أنها عجزت عن جذب مؤيديها؛ لعجزها عن تقديم عقيدة يمكن إدخالها في حيز التنفيذ.

ولكن إذا واصلت سيرها بخُطى حثيثة؛ فمن المحتمل أن تلقى مقاومة شديدة، وأن تقف العراقيل في سبيلها.

وفي هذه الحالة، ولتنفيذ السلطة المخولة لها، فهي تعتمد على الولاء لأصحابها، لا القوات المسلحة والبوليس فحسب، ولكن على مؤيديها أيضًا حيث يتعرض أمنهم كعامل للخطر.

ومن الأهمية في هذا المجال أن نلم بالمشاكل السيكولوجية القائمة في البنيان الطبقي للمجتمع الرأسمالي.

وعندما صدر البيان الشيوعي منذ تسعين عامًا تقريبًا، كان من الطبيعي أن يؤكد ماركس وإنجلز المتناقضات التاريخية بين البرجوازية والبروليتاريا، وأن يعالجا موضوع البرجوازية الصغرى؛ لما له من أهمية ثانوية.

إلا أنه سيُرغم على الاختيار بين الحزبين المتنازعين. ولقد صعبت الأمر تلك التحسينات الاقتصادية التي أدخلت حديثًا، إذ إنها زادت في تعقيد البنيان الاجتماعي.

ويشهد التاريخ على أن ماركس كان على صواب فيما تنبأ به من أن طبقة البروليتاريا هي الطبقة المتطورة والقادرة على وضع بعض المطالب؛ لكي تمحو العلاقات القائمة بين الطبقات في المجتمع الرأسمالي.

كما أنه كان على صواب أيضًا عندما أصر على أن البرجوازية الصغرى قد كتب لها الاعتماد على أمر آخر.

ولا يعتبر الوضع الحالي مجرد وضع يواجه فيه عدد قليل من الرأسماليين عددًا كبيرًا من أفراد طبقة البروليتاريا الذين يئنون تحت وطأة عبء ثقيل.

ويدفعهم هذا الوضع إلى القيام بالثورة، ويعتبر التناقض الكامل في الوعي الطبقي شديدًا للغاية.

ويجب ألا يغيب عن البال اختلاط الحدود بين الطبقات وتشابكها، إلا أن التطور الاقتصادي الذي اعترى الرأسمالية له أثره في صبغ نسبة كبيرة من طبقة العمال بالصبغة البرجوازية، كما كان للنواحي السيكلوجية أثر هام، وليس لاتحاد النقابات أي أثر على هؤلاء الذين يعملون في وظائف شخصية، كما أنهم لا يتأثرون بتطور الوعي البروليتاري. ولكن إذا أغفلنا كونها مادة طبيعية للدعاية الاشتراكية، فلقد أثبتت أنها مرتع خصب للآراء الفاشستية؛ إذ يبدو أن وجودها قد ارتبط بفترات التدهور الكبرى كما حدث في ألمانيا بعد الحرب؛ وذلك بسبب العدد الغفير من العاطلين، حيث لا أمل يرجى منهم في المستقبل. وينبغي لنا إذن أن نواجه موقفًا نجد فيه أن الصعوبات التي تواجهها الرأسمالية وهي في محنة تمكن الرأسمالي من القبض بيد من حديد على الدولة، وذلك بإمكان عقد تحالف فاشستي، ويمكن له أن يقضي على العناصر الديمقراطية. وهذا هو الموقف الذي واجهته أوروبا الوسطى وإيطاليا وقد نجحت الفاشستية هناك؛ إذ استطاعت إدماج البرجوازية الصغرى والكبرى من جهة، وتفريق الطبقة العاملة من جهة أخرى، وأول ما تسيطر عليه عندما تسيطر على الدولة هو الجيش، ولقد أوضحت مرة أخرى فحوى عجز بعض العمال غير المسلحين عن الوقوف أمام مثل هذه القوات، إلا أن هذا التحالف لن يُكتب له البقاء، ما لا يمكن تلافي معالم تلك الغاية التي تهدف إليها الدولة الحاكمة. وتتطلب الرأسمالية العملاقة التي صهرت حديثًا حشد الإدارة التي لم يمكنها سد مطالب الشركاء في إحراز النصر كما توضح لنا ذلك ألمانيا، وإيطاليا. وكما قال قبلن: إن مصالح رأس المال الممول يطور العلاقات الاقتصادية والسيكلوجية التي تجعل من الصعب عليها التمشي مع الفنيين؛ إذ ما لم يتحكم رأس المال هذا في السوق دائمًا، فيجب أن يقوم على الندرة لا الوفرة كأساس للسياسة المتبعة. وجدير بالذكر أن الاستعمار الاقتصادي ينكر عليه هذا، وما من شك في أن ذلك يسيء إلى الرجل الفني؛ لأن ذلك بعيد كل البعد عن مصالح البرجوازية الصغرى، ويعني هذا ظهور أزمة في مجال الصناعة، وانتشار البطالة بنفس الطريقة التي تسير على نهجها الديمقراطية الرأسمالية. ولكن سينفرط عقد هذا التحالف الذي يمكن الرأسمالية من هزيمة الطبقة العاملة.

وأعتقد أن الخبرة التي مرت بها روسيا لم تقلل من شأن هذه الدراسة، فالرأسمالية حديثة التكوين، ولكن أطيح بها في ملابسات خاصة. ولقد جعلت الحرب الفاشستية والمعاملة الوحشية من الجيش الوسيلة الوحيدة ليكون رأس الحرية القنوط الثوري.

أما الجهاز الحكومي؛ فقد تدهور واضمحل، وأبدت طبقة الفلاحين استعدادها لتأييد أية حكومة تعدها بتحقيق السلام، وتمنحها الأرض. ولم يستطع ميليوكوف أو كيرينسكي أن يحشدا من ورائهما القُوى التي تتيح الفرصة لإحراز النصر، فالملابسات التي قامت في ظلها ثورة فبراير قد أوجدت شرطًا لا يسود إلا بعد حرب فاشلة. ولقد تركت البروليتاريا المدججة بالسلاح تواجه البرجوازية التي يمكن لها أن تستدعي قوة دفاعية لا تقارن لمساندتها. وعندما يضاف إلى كل هذا بُعد نظر لينين، فستُهيأ خشبة المسرح لأحداث يسيرها الوضع الأوربي أو الأمريكي.

أما في الوقت، فلا يمكن أن نعقد أية مقارنة، وينتج عن مثل هذا بعض المبادئ. فمن المحتمل في أية دولة يشتد فيها ساعد البرجوازية الصغرى؛ فمن المحتمل أن يكون هناك تشابه بينها وبين الرأسمالية لا الطبقة العاملة من الناحية السيكلوجية، فإذا لم تتحكم الطبقة العاملة في الفنيين، فإن البروليتاريا والإداريين وجزءًا كبيرًا من الطبقات المهنية وكذلك مجهودها الذي يُبذل للتغلب على الدولة بالوسائل الدستورية، لا يحتمل أن تكلل أعمالهم بالنجاح. ومن المحتمل أن تعجل الجندية بإلغاء تلك المطالب التي يجب على الدولة أن تحافظ على سننها الديمقراطية. ومن الواضح أن أية محاولة سيكتب لها الفشل طالما كان الجيش مخلصًا للدولة وكانت الحكومة تؤدي عملها بدقة، وإن مثل هذه المحاولة كفيلة بأن تعطل عمل السنن الديمقراطية، وإحلال السنن الفاشستية محلها. ولا مفر إذن من ظهور الاستبداد الذي أقامه كل من موسوليني وهتلر حتى دفعتهما المتناقضات الاقتصادية البرجوازية الصغرى إلى اتخاذ جانب الطبقة العاملة.

إلا أني لا أجزم بهذا القول؛ إذ إن اطراد النواحي الإنتاجية يتطلب كبت كل من التاجر والصانع. أما النصر الذي يحرزه في المجتمع الفاشستي فهو نصر يقرب من الاندحار؛ إذ يكتب له أن يصبح مجرد فرد يعتمد على رأس المال اعتمادًا على نطاق واسع، وذلك إذا وجدت الوسيلة التي تكفل التوسع الاقتصادي، إلا أن معناه إرغامه على مهاجمة حليفه إذا أراد أن يبقى. أما فرصة النجاح فتتمثل في محالفته مع طبقة البروليتاريا التي كان يسعى من قبل لهزيمتها، والقضاء عليها، ويتحقق له ذلك بإجراء تغيير على العلاقات القائمة بين الطبقات في المجتمع.

وعندئذ، وفي مثل هذه الظروف والملابسات يتسنى لطبقة البروليتاريا إحراز النصر، وذلك في ظل زعامة فعالة؛ إذ ليس في مقدر أية حكومة في هذا الوضع الاعتماد على القوات المسلحة، لكي تكبت دائمًا الشعور بالاستياء، ليس في مقدروها أداء عملها في وقت محدد. وتزداد حدة هذا الشعور كما حدث عام ١٩٤٨م مثلًا للإضعاف من سلطة الحكومة في سلطة الدولة. ويزداد الشعور بالاستياء والسخط، ولن يحدو الأمل أية طبقة وقد تزعزعت الثقة للاحتفاظ بالسلطة ما لم يتهم معارضوها بالوقوع في أخطاء لا تغتفر.

هناك موقف آخر أود تناوله في هذا المجال، فلقد اتخذت المناقشة طابع الصراع الداخلي من أجل تحقيق مظاهر السلطة حيث لا صلة بينها وبين الصراع الخارجي. ولكن إذا صح التصوير الذي قمت به عن الدولة الرأسمالية، وجدنا أنه لا يجب علينا استبعاد الصراع الخارجي من اعتبارنا. ولكن على العكس نجد — كما أوضحت — أن الطبيعة الكامنة في الرأسمالية في مظهرها الاستعماري تجعل الحرب الخارجية حقيقة منطقية لذلك الإجراء. ولكن ما هو الأثر الذي تتوقعه؟ يحق لنا القول إن الهزيمة تتيح لنا فرصة مقبولة للقيام بثورة في كل هذه الملابسات. إنها الهزيمة التي أتاحت فرصة قيام الثورة الروسية فتثبطت الروح المعنوية للجيش، نجد أنها لم تَحُل دون إبقاء وسيلة يُعتمد عليها في أيدي الدولة فحسب، ولكنها بدأت تكون عرضة لتأثير المناقشات فيها، هذه المناقشات التي جعلتها في جانب البلشفيك.

وكذا سوء التنظيم للعمال لكي يسلحوا أنفسهم، وأصبح ذلك شرطًا هامًّا لنجاح أية ثورة. أما أنصار نظام الضبط والربط في القوات المسلحة؛ فكان سببًا أودى بالمحاولات التي قام بها ميليوكوف وكيرينسكي لتكوين حكومة ثابتة، وعلى هذا الأساس لم تستطع حكومتا الأمير لفوف وكيرنسكي إصدار أي أمر تكتب له الطاعة، ولم يحدث التدهور العسكري في وقت واحد مع عجز السلطة المدنية لاستعادة حق القيادة.

وجدير بالذكر أن هذا التدهور كان سببًا في عجز هذه السلطة. وفي مثل هذا الوضع أصبحت السلطة في أيدي حزب واحد أقام دعائم استراتيجية على برنامج يتمشى مع مطالب الجماهير التي كانت واضحة بعض الشيء، إلا أنه مما أثار الانتباه في النصر الذي أحرزه البلشفيك في تلك الملابسات ليس هو ما حدث، وإنما كان على لينين الخوض في معركة عنيفة مع زملائه في اللجنة المركزية؛ حتى يكون له الحق في القيام بالهجوم الأخير.

ولكي نفهم أهمية الخبرة التي مرت بها روسيا، نجد أنه من الضروري أن نقارنها بالثورة الألمانية التي قامت في عامي ١٨ و١٩، ففي كلتا الحالتين سبقت الهزيمة العسكرية كارثة سياسية، إلا أن البلشفيك في الحالة الروسية استمروا في القبض على زمام السلطة، وذلك بخرق المبادئ القانونية التي تقوم عليها الدولة التي قاموا بإطاحتها، وطردوا الموظفين الذين لا يثقون بهم، كما أنهم قاموا بإخماد كل المنظمات الثورية المضادة، وفهموا فحوى الدرس الذي ألقاه ماركس عن عدم وجود أي فرد يستطيع أن يهزأ بالثورة. وليس من المحتمل أن يُصاب بخسائر فادحة ما لم يتسلح المعارضون وما لم ينضموا إلى الدول المتحالفة. وجدير بالذكر أنه لا يمكنهم الوصول إلى تسوية حول هذا الخلاف حتى يتم لهم الحق للتماسك في الداخل حتى يمكن لهم الاحتفاظ بالتوازن.

وتشعب الموقف في ألمانيا. أما الانهيار الذي لحق الحكم التوسعي فقد وضع سلطة الدولة في أيدي حزب ديمقراطي اجتماعي لم يستعد بعد للتعامل معه، إذ ليس له وحدة الغرض، فبدلًا من قيادة الجماهير نجد أنه ينساق لهم، وعندما يبدو أنه يقتفي خطاهم نجده وقد أخذ يعقد اتفاقيات سرية مع مؤيدي النظام القديم، ويضع صناعات معينة في أيدي السلطة الاقتصادية، ولم يلمس القوانين المدنية وقانون العقوبات التي سادت في فترة الاستعمار، ويترك التشريعات القديمة وتفسيرها التقاليد المحافظة. وقام بتكوين الجيش، إلا أن القيادة كانت في أيدي أفراد لا يؤمنون بالمبادئ الجديدة التي يسعى الجيش إلى فرضها، وكان حزم فكرة حياد الأزمات الاجتماعية فإنه يمس الكنيسة في ألمانيا، ولكنها كانت تتلقى بعض الموارد، ومنحت بعض الحقوق، وعندما رفضت مصادرة ملكية معارضيها أتيحت لهم الفرصة للقيام بثورة مضادة، وقامت محاولات ضد الحكم الجديد، إلا أن الفشل كان مصيرها. وقصارى القول إن جمهورية فيمار الألمانية قد تاقت إلى توفير حسن النية عند هؤلاء الأعداء، إلا أن الكوارث الاقتصادية لم تمكنها من الاحتفاظ بنفسها؛ ولذلك سهلت عملية القضاء عليها، ويرجع ذلك إلى عدم الثقة بالعمل الذي قُدر لهم أن يقوموا به.

وليست الحرب الفاشلة ضمانًا للقيام بثورة ناجحة، وتشهد بذلك الخبرات التي مرت بها ألمانيا وروسيا؛ إذ لا يقتصر هذا على الإمساك بزمام السلطة في الدولة أو الاستيلاء عليها؛ إذ أصبح من واجب القائمين عليها تحقيق الأغراض التي وضعوها. ولقد حاول أيبرت وزملاؤه عام ١٨ القيام بالثورة، إلا أنهم لم ينجزوها خوفًا من مغبة الثمن الكبير الذي يؤدي عن مثل هذا العمل. ولقد عرف النظام الذي سموه في أول الأمر بالنظام الديمقراطي السياسي، إلا أن نقطة الضعف التي اعترته كانت من الأهمية بحيث إنهم أغلفوا المشكلة الحقيقة التي تتمثل في السلطة الاقتصادية، فلم تتغير العلاقات القائمة بين الطبقات في ألمانيا قبل الحرب؛ إذ لم يكن من المستطاع إيجاد توازن ثابت عندما كانت الديمقراطية السياسية القديمة تتمشَّى مع الأزمة الرأسمالية. أما في منطق تطور ألمانيا فيما بعد الحرب؛ فنجد أنه لتوطيد دعائم النظام الجديد وجب تدعيم نفسه بالقضاء على أعدائه، وإلا فستكون الغلبة لهم. ولكي يسعى هذا النظام إلى تهدئتها بتحقيق مظاهر الحرية، بينما يرفضون طلب الجوهر الذي فيه وجدت هذه المظاهر التعبير عن نفسها، أما النتيجة فقد عرفت في الحل الأساسي الذي توصل إليه فيمار. ولم يستطع هتلر التغلب على الديمقراطية الألمانية عام ١٩٣٣م، إلا أن واضعيها استطاعوا التغلب عليها قبل ذلك بخمسة عشر عامًا، إذ تؤدي فترات الهدوء إلى هذه المبادئ التي يقوم عليها هذا البناء الشامخ.

ويتضح لنا أن منطق هذه الثورة يستبعد إمكانية الوصول إلى نقطة التقاء إذا كتب لها النجاح، فسلطة الدولة ليست بالسلطة التي تكمن في تلك المظاهر المعتمة، فإذا كان التعريف هو كل شيء أو لا شيء، فيجب أن يتم التلاؤم بين المظهر والمخبر، حتى نتمشى مع الأهداف الجديدة، إذ إن معنى أي شيء آخر هو إثارة الاضطراب. أما في السلطة الثنائية — كما حدث في روسيا عام ١٧ بين شهري مارس ونوفمبر — فنجد أن ما يحدث لا يقوم على أساس الاحتكام إلى العقل، ولكن على فعالية العناصر المشتركة في هذا الصراع. وهذا هو ما حدث للثورة الروسية وتولدت دولة جديدة استطاعت أن تحقق التماسك، أما في ألمانيا فالأمر يختلف؛ إذ أصبحت السلطة السياسية في أيدي الجماهير، بينما ظلت السلطة الاقتصادية في أيدي المستحوذين عليها من قبل، وربما يعد هذا إجراء لتقسيم السلطة في عصر يسوده الرخاء والرفاهية؛ إذ يمكن للامتيازات المادية الموجودة أن تسد مطالب العمال من تلك الثروات، إلا أن تلك الفترة تميزت بالكساد الذي زادت من حدته مرارة الفشل. إلا أنه لا يمكن التفكير في انقسام السلطة في ظل هذه الملابسات، غير أن المحاولات التي قصد منحها للمحافظة على ذلك قد أدت إلى انتقال السلطة إلى أيدي هؤلاء الذين أبدوا استعدادهم لدفع ما يمكن دفعه في سبيل إحراز النصر، وذلك خلاف ما قام به الاشتراكيون عام ١٨. أما النتيجة الحتمية التي توصل إليها فيمار، وهي نتيجة التوفيق، فتتمثل في تأجيل المعركة التي رفض أيبرت وزملاؤه أن يخوضوها.

٣

لو صح التحليل الذي أوردناه آنفًا، لكان من الواضح أن التاريخ يتيح للإنسان الفرص، وفي الوقت نفسه يتيح له الاستفادة من هذه الفرص واستغلالها، والثورة الروسية دليل على استغلال الأفراد للفرص الحسنة استغلالًا كاملًا، وهؤلاء الأفراد قد عودوا أنفسهم على انتهاز الفرص السانحة. أما الثورة الألمانية فهي دليل على الفرصة التي ضاعت ولم يتم استغلالها.

فبالرغم من أن الديمقراطيين الاشتراكيين كانوا يريدون خلق دولة اشتراكية، إلا أنهم لم يكونوا مستعدين — حين تسلموا مقاليد السلطة في أيديهم — أن يطبقوا هذه المقاليد على الأهداف الاشتراكية. لقد تركوا الأجهزة الرئيسية للسلطة السياسية في أيدي خصومهم. والذي حدث أن الثورة الألمانية المضادة كانت في طريقها منذ اليوم الذي انتهى فيه العهد القديم. ولم تخطر جمهورية فيمار على الإطلاق بذلك الإطار الفكري الذي يعزز الأسس السياسية. لقد كانت هذه الجمهورية تسعى جاهدة لكسب رضاء أعدائها عن الأوضاع الجديدة التي خلقتها. وفي غمرة هذا السعي نسيت أن أعداءَها لا يتوانون عن معاداة الأهداف التي تحققها هذه الأوضاع الجديدة بالضرورة، وبعد فرساي — على أقل تقدير — لم يكن ينقص الثورة الألمانية المضادة شيء سوى أن تتاح لها فرصة النجاح. وحين حانت هذه الفرصة أثبتت بالدليل القاطع أنها أيسر مما ظن أكثر دعائها تفاؤلًا. غير أن هذه الفرصة لم تثبت مدى مقاومة الرأسمالية للهجوم بقدر ما أثبتت أن التاريخ ينتقم من هؤلاء الذين لا يستفيدون من الفرص التي يتيحها لهم.

٤

ليس من اليسير الإفراط في تأكيد أهمية اللحظة المناسبة عند القيام بأي مجهود للإحاطة بسلطة دولة.

وفي مساء ثورة نوفمبر كتب لينين للبلشفيك قائلًا: «لن يغفر التاريخ للثوار الذين يستطيعون الانتصار اليوم أن يتلكئُوا في تصرفاتهم، وفي الوقت الذي يغامر فيه الثوار المتلكئون بالكثير انتظارًا للغد، نجد أنهم يغامرون بكل شيء في الواقع، فإن ميزان القوى في دولة ما مسألة ديناميكية لا تخضع للجمود، والهجوم الناجح الذي يوجه ضد هذا الميزان إنما هو في الواقع موقف تكون فيه سيكولوجية الجموع شاعرة بالحاجة إلى القضاء على العلاقات الطبقية التي تتعارض مع مطالب هذه الجموع.» إن عبقرية لينين — بوصفه زعيمًا ثوريًّا — تكمن قبل كل شيء في تغلغله إلى أعماق هذه السيكلوجية. لقد رأى — أكثر مما رأى أي شخص آخر — رأى في أحداث الثورة كيف أن السلطة الرأسمالية انهارت انهيارًا كاملًا، وكيف أن العداء المستحكم للرأسمالية قد سيطر على عقول العمال والمزارعين في كل ركن من بروسيا، غير أن لينين رأى أيضًا كيف أنه من العسير أن يترك مقعد السلطة — في فترة ثورية — دون تحديد مصيره. والمجتمع لا يستطيع أن يعيش إلا إذا أعاد تنظيم سياسته الإنتاجية، وهو يحتاج — على وجه السرعة — إلى إعادة تنظيم مبادئ القانون والنظام. لقد وصل الموقف في روسيا في عام ١٩١٧م إلى نقطة يجوز فيها الحل في قبض البلاشفة على مقاليد السلطة، أو قيام نوع من أنواع الدكتاتورية العسكرية. وقد كان من الممكن أن تؤدي هذه الدكتاتورية العسكرية إلى إعادة تشكيل العلاقات الطبقية في ظل الرأسمالية، وهو المبدأ الذي سعى البلشفيون إلى منعه. ولو فشل لينين في إقناع حزبه بالقيام بمحاولة ٧ نوفمبر، لانتصرت الطبقة البرجوازية في روسيا انتصارًا محققًا.

ولست أتحدث هنا عن احتمال استفادة روسيا من هذا الأمر، إذ إن مهمة هذا الكتاب لا تتمثل في التبرير والتأويل وإنما تتركز في التحليل. ونحن حينما نعترف بأن ميزان القوى في المجتمع هو ميزان ديناميكي لا يتوقف جامدًا، ونجد أن الضوء المسلط على مسألة غزو السلطة له دلالته الحيوية، إن هذا الميزان له أهمية خاصة في حالة المجتمعات الرأسمالية الأكثر قدمًا مثل مجتمعات بريطانيا العظمى والولايات المتحدة. ففي هذه المجتمعات يتضح بجلاء أن ضغط الأحداث الكبرى وحده هو الذي يساعد الطبقة العاملة على اكتشاف وحدة أغراضها من ناحية، وتعارُض أهدافها من ناحية أخرى مع النظام الطبقي في ظل الرأسمالية. وفي حالة عدم وجود فشل ذريع في ميدان الانتصارات التي تحققها هذه النظم، نجد أن تدهورها موزع بطريقة مضطربة اضطرابًا بالغًا بحيث يتعذر أن يؤدي هذا إلى ظهور روح الثورة، فهي لا تتضمن هجومًا مشتركًا موجهًا ضد كل مقاييس الطبقة العاملة في الحياة، ويحمل الهجوم في هذه الحالة طابع التشتت. وهذا يؤدي إلى إقناع الذين لا يتهددهم الخطر من قريب إلى الاستمساك بما يملكون، كما أنه يجبرهم على الإعلان عن تضامنهم مع زملائهم، وليس هناك تطرف عام يشابه ما تؤدي إليه وطأة التجربة الكبرى، كما حدث في روسيا عام ١٩١٧م؛ إذ لا يحمل الشعور بالعنف طابعًا عامًّا، وإنما يكون متفرقًا ومشتتًا في مظهره.

ويجب أن نربط بين هذا التفرق والعوامل السيكلوجية الأخرى الهامة؛ فالعامل المالك في إنجلترا والولايات المتحدة وفرنسا لا يشعر بذلك الشعور البروليتاري العنيف الذي كان العامل الروسي يحسه قبل عام ١٩١٧م، وأنى له أن يشعر وهو يمتلك — في غالب الأحيان — منزلًا، أو حسابًا في البنك، أو سيارة، أو بوليصة تأمين متواضعة؟!

أنى له أن يشعر بذلك وهو الذي كثيرًا ما تمتع بمستوى المعيشة الذي أخذ يرتفع — بصفة عامة — حتى الفترة الأخيرة، ذلك المستوى الذي يجعله يحس بفقدان شيء إذا ما تحطم الجهاز الإنتاجي؟! وفي بلدان الأنجلو سكسونية، وفي إسكندناوة بصفة خاصة، نرى أن طبقة البروليتاريا ما زالت متأثرة — إلى حد كبير — بميراث الانتصارات الديمقراطية. لقد رأت هذه الطبقة محيط الوظيفة التي تقوم بها الدولة وهو يتسع عن طريق الضغط الذي تفرضه «هذه الطبقة» وهي تميل إلى الاحتفاظ بسلطانها حتى يستمر هذا الضغط، وهي لا تنظر إلى الثورة باعتبارها أنها استمرار للوسائل التي يُعتمد عليها استنادًا إلى ماضيه التاريخي الخاص، وإنما تنظر إلى الثورة باعتبارها قضاء على هذه الوسائل.

إن الشيوعي الروسي حين يحس بالدهشة إزاء وجود روح الرجعية لدى العامل البريطاني، إنما يحكم عليه بناء على مقاييس روسية لا مقاييس بريطانية، وهو حين يقدر أثر التجربة يتجاهل معنى الزمن.

وأعتقد أن هذه الظاهرة تنطبق بصفة خاصة على البلدان الغنية نسبيًّا، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، وفي الولايات المتحدة تسيطر على الجموع تلك الفكرة التي تؤمن بوجود مجتمع غير جامد، يحمل فيه العامل عصا المليونير في حقيبته التي يحملها فوق ظهره، كما تسيطر عليه أسطورة الثروات اللانهائية التي ما زالت في حاجة إلى من يستغلها. ولقد حالت هذه الفكرة دون ظهور نقابات عمال قوية في الولايات المتحدة، كما أنها جعلت اتحاد العمال الأمريكيين ينظر إلى الاشتراكية باعتبارها نباتًا غريبًا لا يلائم الظروف الحميدة التي تتمتع بها الطبقة العاملة في أمريكا. لقد أوضح الكساد الكبير الذي حدث في الولايات المتحدة مدى تأصل سيكولوجية البرجوازية التافهة في التربة الأمريكية، ومن الواضح أن هذه النظرة لن تتحطم إلا إذا حلت بأمريكا كارثة كبرى. وأكثر من هذا أن مفعول هذه النظرة هناك يجعل طابع التطور الأمريكي أكثر ميلًا إلى حماية البناء الطبقي الحالي بواسطة الفاشستي بدلًا من التحول إلى وضع ثوري.

وينطبق هذا على بريطانيا أيضًا، ولكن بدرجة أقل، والطبقة العاملة هناك تؤمن إيمانًا عميقًا بالمبادئ الدستورية، كما أن النقابات العمالية تخضع في تصرفاتها لتاريخ النجاح الاقتصادي الذي أحرزه النظام الرأسمالي؛ ولهذا لم يكن غريبًا أن تؤمن باحتمال الاستفادة من الضغط الذي تفرضه على هذا النظام الرأسمالي، وهم لا يريدون المغامرة بالأمان الذي يتمتعون به عن طريق «المقامرة بالثورة»، خاصة بعد الأحداث التي تعرضت لها ألمانيا وإيطاليا.

إن الطابع العام لوجهة النظر البريطانية يخضع للإيمان بأن هزيمة المحافظين في الانتخابات، معناه في الوقت الحالي انتصار العمال. وهذا لا يعني — بالنسبة للكثيرين — مجرد تحول سلمي، وإنما يعني أيضًا الحق في الاستفادة من سلطة الدولة للدفاع عن حكومة العمال، إذا ما تعرضت هذه الحكومة لخطر يتهدد دستورها.

والآن، لا بد لكل استراتيجية ثورية تريد أن تحرز نجاحًا من أن تعتمد على تأييد الجموع لها، وهذا التأييد معدوم في إنجلترا وأمريكا. وليس هذا التأييد معدومًا لخوف الاشتراكيين الذين لا يسيرون في ركاب الثورة، أو لتفوق خصومهم الرأسماليين كما يعتقد دعاة الثورة؛ ذلك لأن التأييد الذي نتحدث عنه معدوم في هذه البلاد، لأن التجارب التاريخية لها لم تخلق الظروف (ومن ثم الحالة النفسية) التي تتطلبها الثورة الناجحة. وقد تؤدي الهزيمة في الحرب إلى هذه النتائج، أو قد تظهر النتائج إثر حدوث كارثة تؤدي إلى تدهور مستوى المعيشة، واستمرار هذا التدهور لمدة طويلة؛ بحيث تحس الجموع أن الأمل في صلاح الحال لا فائدة منه. وقد تظهر هذه النتيجة — كما حدث في إنجلترا — نتيجة للتلاعب بالدستور، ذلك التلاعب الذي قضى على إيمان العمال بالمذهب الدستوري. وأعتقد أن النقطة الجوهرية بسيطة وهي أن القضاء البطيء على الرأسمالية ليس من القوة بحيث يكون له أثره الواسع المدى، أو العميق في مدى فترة وجيزة من الزمن. ومن الواضح — من هذه الزاوية — أن المنهج المباشر الذي يلتزمه أي رجل يرغب في تغيير أوضاع البناء الطبقي لمجتمعات هذه البلدان يتمثل في استكشاف الفرص التي تتيحها هذه البلدان استكشافًا كاملًا.

ذلك لأن أية سياسة أخرى تتعرض لأزمة خطيرة، والطبقة العاملة هناك — بمستواها الاقتصادي الراهن — ليست من التآزر والاتحاد بحيث تستطيع أن تستولي على مقاليد القوة بمفردها، لو فرضنا أن هذه الطبقة متحدة وجدنا أنها لا تستطيع — مع ذلك — أن تستولي على مقاليد السلطة إلا إذا كانت مسلحة. وهي لا تستطيع — في ظل الدولة الحديثة — أن تسلح نفسها إلا بمساعدة خيرية من جانب سلطة الدولة، وليس هذا بالوضع المتاح كما يؤكد الواقع. ومن ناحية أخرى، نجد أننا لا نجافي الإدراك السليم إذا أصررنا على أنه إذا ثبت أن الانتصار الدستوري كان — لا محالة — انتصارًا خادعًا، فإنه أيسر وسيلة لإبراز هذه الخديعة، هو التعجيل بانتصار الطبقة العاملة في الانتخابات على أسرع وجه. وعلى ضوء هذه الظروف، يضطر الرجل الثوري في بريطانيا أن يوحد جبهته مع رجل الإصلاح، باعتبار هذا التوحيد أنجع وسيلة تثبت عدم جدوى الإصلاح.

ويُخيل إليَّ أن الأمر يقتضينا هنا أن نحلل — بإيجاز — السبب الذي جعل جهود رجل الثورة لتحقيق هذه الجبهة المتحدة تُمنى بالفشل الذريع في سنوات ما بعد الحرب. من السهل — بطبيعة الحال — أن نفهم لماذا لم تبذل هذه المحاولة — بصفة جدية — إلا حين أصبحت الفاشستية خطرًا يهدد الانتشار. لقد اعتقد المؤتمر الدولي الشيوعي الثالث أن الثورة العالمية ستتحقق بعد الحرب، وأن اتحاد قواها مع قوى الاشتراكية الإصلاحية ما هو إلا استمرار لآلام الوفاة التي يعانيها نظام يتدهور بسرعة. وأعتقد أن الفرح الطاغي الذي سيطر على الأفراد من جراء النجاح الروسي الذي تحقق بسهولة ويسر، قد أدى إلى الإفراط في التفاؤل والإيمان بأن هذا النجاح سيمتد إلى مسرح تاريخي أكثر اتساعًا.

ولكن، حالما يبدو أن الرأسمالية قد حققت استقرارًا جديدًا (وإن يكن مزيفًا) يتضح أن الافتراضات التي تستند إليها الاستراتيجية الثورية هي افتراضات مشوهة لدرجة خطيرة. إن هذه الافتراضات قائمة على أساس النظرية الشهيرة التي تنادي بأن الديمقراطية الاشتراكية هي في الواقع فاشستية اشتراكية. ويهمنا أن نتحقق من مدلولات هذا الرأي، ويبدو أن هذه النظرية قد صيغت بقسوة عن طريقة كارل راديك في المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي الروسي. لقد قال كارل راديك: «ليست هناك معركة من أجل الطبقة العاملة تكون منفصلة عن معركة الحزب البلشفي تحت راية لينين وزعامة ستالين، وكل من يحاول معارضة الاتجاه العام لحزب لينين يضع نفسه — بطريقة تلقائية — وراء الجانب الآخر من المتراس.» ما السبب في هذا؟ لأن الديمقراطية الاشتراكية «كما يقول ستالين» هي في الواقع جناح الفاشستية المعتدل، وليس هناك على الإطلاق ما يدعو إلى الافتراض بأن في استطاعة الجهاز الكفاحي للبرجوازيين أن يحقق انتصارات حاسمة في معاركهم أو في سعيهم لتزعم البلاد دون وجود تأييد فعال من جانب الديمقراطية الاشتراكية. وهذه الأجهزة لا تعارض إحداها الأخرى، وإنما تكمل كل واحدة منها زميلتها، ولا وجود للقضاء بينهما، وإنما هما توءمتان.

إن عبث هذه النظرة شيء واضح؛ ذلك لأن التجربة التي مرت بها الفاشستية، دلت على أن هذا المذهب لا ينتصر إلا إذا قضى على تنظيمات الديمقراطية الاشتراكية، أي على نقاباتها العمالية، وأحزابها السياسية، وحركاتها التعاونية. من أجل هذا نرى أن كل ما يقال في معرض التنديد بنظرية الديمقراطية الاشتراكية هو أن تعصبها للمسألة القانونية يفوت عليها فرصة استغلال الذين يتأثرون بها في الأهداف الثورية، وأن مقاومة الجموع الفاشستية مقاومة لا تثمر إزاء إضاعة هذه الفرصة. غير أن قوة الإضراب الديمقراطية الاشتراكية تكمن في سيطرتها على هذه الجموع التي لم تستعد بعد للسير وراء قيادة ثورية. ويرى الشيوعي أن مهمته الأساسية تتركز في اكتساب هذه الجموع إلى صفة. من أجل هذا ينادي بنظرية الجبهة المتحدة، ولكن في الوقت الذي يوضح فيه أنه يدعو إلى هذه النظرية ليستولي على نفس التنظيمات التي يطلب منها هذا التعاون والتضافر نجد أن هذه الدعوة تقابل بالرفض، بطبيعة الحال. وتثبت التجربة أن نظرية الجبهة المتحدة لا تستطيع أن تحرم الجموع من الاعتماد على زعمائها من الديمقراطيين الاشتراكيين، مهما كان هذا الاعتماد خاطئًا. ويرفض العمال — عن حق أو عن غير حق — أن يساهموا في تدمير منظماتهم الخاصة.

وتعتبر التجربة التي مرت بها ألمانيا أوضح دليل على عدم كفاية هذه النظرة، ففي ألمانيا استخدم الحزب الشيوعي تلك النظرية التي تقول: إن الديمقراطية الاشتراكية هي فاشستية اشتراكية، باعتبارها السبب الذي جعل الحزب الشيوعي هناك يقضي على وحدة الطبقة العاملة. وعلى ضوء هذه الاستراتيجية، سعى وراء جبهة متحدة من الأسفل، وهاجم زعامة الديمقراطيين الاشتراكيين من كل جانب، غير أنه حين شعر بالحاجة إلى الاتحاد مع هذه الزعامة — في الأيام الأخيرة لجمهورية فيمار — كانت قد خلقت شعورًا بالمرارة، وقضى هذا الشعور على أي إجراء موحد يتم في الوقت المناسب لمقاومة هتلر مقاومة جدية منظمة. لقد جرت هذه النظرية إلى كارثة؛ لأن الافتراض الذي يزعم أن الديمقراطيين الاشتراكيين كانوا في الواقع جزءًا من الجهاز الفاشستي هو افتراض القائل بأن من الممكن النظر إلى برونيخ، وفون بابين، وهتلر، باعتبارهم فاشستيين، وباعتبار الديمقراطيين الاشتراكيين فاشستيين أيضًا لأنهم لا يثورون — بصراحة — مع الشيوعيين ضد الآخرين.

إن الفشل في التعرف على هذه الحقيقة أمر يستلفت النظر، وذلك إذا ما تذكرنا أن الظروف التي عاصرت السنوات الأخيرة لحكم فيمار كانت ملائمة — بصفة خاصة — لأي إجراء موحد تقوم به الطبقة العاملة. وحين تسلم هتلر مقاليد السلطان وأشار المؤتمر الشيوعي العالمي على هيئاته التابعة له بمعالجة مسألة زعامة الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية على أساس الإقدام على إجراء مشترك ضد الفاشستية ضاعت النقطة الرئيسية في هجومه. لقد كان على استعداد في ذلك الحين ليتجنب الهجوم على المنظمات الديمقراطية الاشتراكية. غير أن الأربعة عشر عامًا السابقة من التشهير والإنذار قد قضت على الثقة في القيام بإجراء مشترك، ذلك الإجراء الذي كان كفيلًا — دون غيره من الإجراءات — بتحقيق هجوم ناجح ضد سلطة الدولة.

وهناك مدلول آخر لهذا الخطأ، وهو مدلول له أهميته. إن الاختلاف الحيوي (وهو اختلاف لا نستطيع أن نبالغ فيه) بين الديمقراطية الرأسمالية والدولة الفاشستية هي أن الهيئات التي تحمي الطبقة العاملة — في ظل الديمقراطية الرأسمالية — لا تتحطم. من أجل هذا نرى أن المحاولة التي ترمي إلى القضاء على هذه الهيئات تتعرض لصعاب جمة، فهذه الهيئات تعمل في جبهة مشتركة ضد أية جهود تبذل للإضرار بأهدافها. ولكن إذا كانت هذه الهيئات منقسمة على نفسها، بل وإذا كانت — كما حدث في ألمانيا قبل عهد هتلر — تعادي إحداهما الأخرى تمامًا كما تعادي العدو المشترك، فإن القضاء على هذه الهيئات — في ظل الظروف الطبيعية — أمر لا مفر منه على وجه التقريب.

ذلك لأن انشقاقها لا يؤدي إلى إضعاف قواها وحسب (وهي القوى التي تحاول تلك الهيئات تنظيمها)، وإنما يؤدي أيضًا إلى خروج عدد كبير من العمال من كلا النظامين بعد أن اقتنعوا أن كليهما لا يستحق الإيمان، وإذا لم يتعلم هؤلاء، كما تعلم عشرات الألوف من العمال، أن يتقبلوا أنظمة الفاشستية الجذابة، فإنهم سيكرهون السياسة، ومن ثم يدعمون أهداف الفاشستية، ولو بطريقة غير مباشرة. من أجل هذا نرى أنه إذا ما وجهت الفاشستية هجومها ضد الديمقراطية الرأسمالية، فإنه يتعذر في ذلك الحين — تنظيم صفوف المقاومة التي تستطيع وحدها أن تجابه هذا الهجوم الفاشستي.

إن نظرية الفاشستية الاشتراكية — في أي مجتمع تكون فيه الطبقة العاملة النشيطة منقسمة على نفسها انقسامًا خطيرًا — يؤكد هزيمتها قبل نشوب المعركة.

إن التبرير الوحيد لهذا الرأي يمكن في تلك النظرية التي تقول: إن الدولة الفاشستية تجربة ضرورية، ولا بد للطبقة العاملة من أن تمر بهذه التجربة؛ لكي تؤلف جبهة متحدة ضد خصومها، أي إن على الطبقة العاملة أن تحس — على طريق الفاشستية بالحاجة إلى الإجراء الثوري. غير أن هذا الخطأ يذكرنا — في طابعه — بالخطأ الذي زعم لينين أن المنشفيك ارتكبوه. لقد أصر المنشفيك على أن روسيا يجب أن تمر بمرحلة الرأسمالية، في صورة جمهورية برجوازية (وديمقراطية في الوقت نفسه) باعتبارها تمهيدًا ضروريًّا للمجتمع الاشتراكي. ولم يعرفوا أن الظروف الواقعية كانت تشير إلى إمكان القيام بحركة في الفترة ما بين فبراير وثورة نوفمبر مباشرة. إن المشكلة هي مشكلة توزيع القوى توزيعًا استراتيجيًّا. ولقد كان من الممكن أن تتعرض الطبقة العاملة المتحدة في ألمانيا للهزيمة في مارس من عام ١٩٣٣م، غير أنها كانت ستجد نفسها في وضع من يقاتل، وكان من المحتمل في خضم المعركة أن تعدل القيادة المحنكة من وضع القوى، بحيث تقضي على أي احتمال لنجاح هتلر. وقياسًا على ذلك ينطبق هذا القول أيضًا على أية ديمقراطية رأسمالية لا تقضي فيها الطبقة العاملة على قواها عن طريق الانقسام مقدمًا، ولكن ليس هناك ما هو أقرب إلى بذر بذور هذا الانقسام من قبول مجموعة كبيرة من الطبقة العاملة لنظرية الفاشستية الاشتراكية. فهذه النظرية تدعم إيمان الديمقراطيين الاشتراكيين بشرعية قانون يلتزمونه حتى ولو تبدد طابع هذا الإيمان؛ من جراء تصرفات الخصوم المضادة. وهي تعزز من إيمان الشيوعي بالوسائل الثورية بنفس الطريقة التي يستخدمها الديمقراطيون الاشتراكيون في دعوتهم إلى الإيمان بالحكومة الدستورية، وتزداد هوة الشقاق بينهما، ويدفع الطرفان ثمن هذا الشقاق حين يسهل على الفاشستية أن تنتصر عليهما.

والدليل على دقة هذا التحليل وصدقه تلك السياسة التي انتهجها لينين خلال الثورة الروسية؛ وذلك حينما حاول كرينلوف الاستيلاء على مقاليد السلطة. ونحن نذكر بالطبع أن لينين كان مختفيًا بينما ضمت السجون تروتسكي وغيره من زعماء الحزب البلشفي. وليس هذا كل شيء؛ فلقد وقف لينين وكيرينسكي، الذي ثار كوينلوف ضدهما بوصفهما تعبيرًا عن هذا النظام البرجوازي الذي تحمس كورنيلوف للقضاء عليه. غير أن لينين لم يتوانَ عن حث حزبه على أن الواجب يقتضي منه أن يساعد كيرينسكي بكل ما لديه من قوة. لقد تحقق من أن الاختلاف بينهما عنصر ضروري لمستقبل البلاشفة أنفسهم. ولم يكن على استعداد لتأييد حكومة كيرينسكي، غير أنه أحس على الفور أن قضاء كورينلوف على هذه الحكومة يقلل إلى حد كبير — من فرصة انتصار البروليتاريا.

واكتشف أن انتصار البروليتاريا أمر ممكن إذا تحطم كورنيلوف؛ ذلك لأن انتصار كورنيلوف معناه القضاء على ثورة فبراير أيضًا، وقد كان من الممكن أن يؤدي هذا إلى حدوث تغيير شامل على مجال العلاقات التي كانت آخذة في الظهور في ذلك الحين، وذلك مما يساعد البرجوازيين الروس على توطيد سلطانهم من جديد.

والديمقراطية الرأسمالية تخلق نفس الموقف، وطالما ظلت منظماتها باقية، فإن الطبقات العاملة — إذا كانت متحدة — ستصير في وضع يتيح لها أن تستخدم عنصر المبادرة، كما حدث في إيطاليا وألمانيا، بينما تظل سلطة الهجوم في أيدي خصوم هذه الطبقات. من أجل هذا نرى أننا إذا أوجدنا انشقاقًا بين الطبقات العاملة فإننا بذلك نربكها. وإن مهاجمة الديمقراطية الاشتراكية بنفس الأسلوب الذي اتبعه الشيوعيون معناه إضعاف ثقة العمال في الاشتراكية دون التمكن من تحويل ولائهم إلى الشيوعية (كما دلت الأحداث). ولو قد ظل الشيوعيون جزءًا لا يتجزأ من الجهة الاشتراكية لأدى الخطر الذي تعرضت له حركة العمال بقسميها إلى إجبارهم على القيام بإجراء مشترك ضد العدو. والذي حدث في الواقع أن كل جناح كان يحارب في جبهتين، ولم يكن يدري من هو الخصم الذي يستحق عداوة أكثر، ولم يكن هناك غير طريق واحد يؤدي إلى الوحدة، ويتمثل هذا الطريق في التخلي عن نظرية الفاشستية الاشتراكية، وقد كان من الممكن أن يتيح للديمقراطية الاشتراكية والشيوعية — على السواء — حرية الكفاح معًا ضد العدو المشترك. وفي الوقت نفسه يصبح الشيوعيون في موقف يتيح لهم — في خضم الأزمة — أن يضموا الجماهير إلى صفوفهم، ويحضوهم على اتخاذ إجراء ما. غير أن السياسة التي ساروا عليها قضت على أي احتمال باتخاذ إجراء ما، قبل أن تكون هناك ضرورة هذا الإجراء بوقت طويل. إن نظرية الديمقراطية الاشتراكية التي التزموها قضت على هذه الثقة التي تقتضي الضرورة وجودها كأساس للتعاون. وحين أشار المؤتمر الشيوعي الدولي على أحزابه التابعة له في السابع عشر من شهر مارس عام ٣٣ بأن تقترح هذه الأحزاب على الديمقراطيين الاشتراكيين القيام بإجراء مشترك ضد الفاشستية، جاء هذا الاقتراح بعد فوات الأوان بأربعة عشر عامًا.

وأعتقد أن الدلالة التي تنطوي عليها هذه الحقائق هي دلالة ظاهرة. إن نجاح الثورة الروسية لا يتكرر إلا إذا تكررت ظروف هذه الثورة وملابساتها، فإذا انعدمت هذه الظروف عجزت الطبقات العاملة عن الوصول إلى السلطة إلا إذا ظلت متماسكة متحدة (بصرف النظر عن الخلافات القائمة في صفوف تنظيمها الحزبي)؛ ذلك لأن قوة الطبقات العاملة تكمن في قواها المحشودة. فإذا ما خارت قوى هذه الطبقات استطاع خصومها أن يتغلبوا عليها عن طريق الاستفادة من الانشقاق الذي تعاني منه. ومما هو معروف أنه لو كانت الدعوة إلى القيام بإضراب عام ١٩٣٢م احتجاجًا على فون بابين قد نفذت بعزم وتصميم لأدت إلى خلعه وإلى القضاء على الهتلرية تبعًا لذلك. غير أن الدعوة إلى الإضراب العام كانت صادرة عن الشيوعيين. وبالرغم من أنها كانت سياسة صحيحة، ولا شك، إلا أن زعماء الديمقراطية الاشتراكية نددوا بها لا لشيء إلا لأنهم لم يؤمنوا بالرجال الذين أشاروا باتباع هذه السياسة، وبالرغم من أن صفوف الديمقراطيين الاشتراكيين كانت مستعدة للقيام بإجراء من هذا النوع إلا أنها حين عرفت أن الدعوة إلى هذا الإجراء صدرت عن الشيوعيين استجابت على الفور لرأي زعمائها (من الديمقراطيين الاشتراكيين) الذين يعارضون هذه الدعوة. وأنى لهم أن يحيدوا عن هذا الرأي في الوقت الذي صرح فيه الشيوعيون أنفسهم بقولهم: إن هناك اختلافات جوهرية لا يمكن التغلب عليها «بين زعامة هذا الحزب وذاك»، وأنهم يكافحون ضد «السياسة الديمقراطية الاشتراكية»، وضد الحزب الديمقراطي الاشتراكي وضد ممثليه.

إن الأزمة ذات طابع حيوي هام، وما لم يتعرض تنظيم الدولة للانهيار؛ فإن الطبقات العاملة لا تستطيع أن تحصل على السلطة إلا إذا احتفظت بتماسك هيئاتها. غير أنها لا تستطيع أن تحقق هذا إلا إذا كان هناك انقسام في صفوفها، وهو انقسام أثارته الشيوعية منذ الثورة. والحل الوحيد — إذن — لضمان وحدة الإجراءات التي تقدم عليها الطبقة العاملة يتمثل في الدفاع عن هيئاتها مهما كان الثمن والاستفادة من وطأة الأحداث؛ لتحويلها إلى سياسة مرضية. وأي منهج يخالف هذا المنهج سيكون بمثابة «تلاعب على الثورة»، وهو التلاعب الذي حذر ماركس منه الطبقة العاملة في كلمات منسقة. إن طبيعة الديمقراطية الرأسمالية تعني — في عهود الأزمات — ميزانًا يعوزه الاستقرار بحيث يسهل عليه. وليس أدعَى إلى قلب هذا الميزان من حيرة العمال؛ أي اتجاه يأخذونه؟ فإذا ما حدث هذا فقدت — كالجيش — ثقتها بنفسها، وفاتتها اللحظة السيكلوجية المناسبة للقيام بإجراء ما. وفي اللحظة التي تصبح فيها أحوج ما تكون إلى القوة تفقد هذه القوة. ونظرًا لأن جوهر الدولة بأكمله ينحصر في الالتجاء إلى القوة للحيلولة دون تحقيق أهدافها، نجد أن شل إرادتها عن طريق الانشقاق، يؤدي إلى فنائها في الميدان. وما حدث في النمسا يصور لنا مدى ضيق الفرصة أمام العمال المسلحين إذا ما انعدمت فوضى مماثلة لتلك الفوضى التي شهدها عام ١٩١٧م. غير أن الطبقة العاملة في النمسا كانت متحدة على الأقل، ولكن حين يقضي الصراع الداخلي على الثقة بالنفس، كما حدث في ألمانيا فإن المعركة باءت بالفشل قبل أن تتجمع القوى وتتحد.

٥

دلت التجارب التاريخية على أن الاستيلاء على الدولة مغامرة عسيرة على الدوام، وتحتاج هذه المغامرة — إذا أريد لها أن تنجح — إلى اتحاد بين القوى المهاجمة لا يستطيع الأشخاص أو المبادئ أن يقضوا عليه. لقد كان هذا تاريخ ثورة كرومويل، وبمجرد أن فشل مؤيدوه في الوصول إلى اتفاق فيما بينهم أصبح الطريق معبَّدًا أمام شارل الثاني ليعود إلى الحكم كما كان هذا أيضًا تاريخ الثورة في فرنسا. فلقد ورث نابليون احتمالاتها وإمكانياتها، إذ بمجرد أن تم القضاء على نظام الامتيازات التي يتمتع بها الأرستقراطيون افتقر الأفراد — الذين قضوا على هذا النظام — إلى الأهداف المشتركة التي تجمعهم في صعيد واحد. وفي عصرنا الحاضر نجد ظروف التغير الجوهري ماثلة بين أيدينا. ولكن يبدو أننا لا نستطيع أن نستغل هذه الظروف لا لوجود خلاف يدور حول الأهداف بصفة خاصة فحسب، وإنما لوجود انشقاق مرجعه عدم الاتفاق على الوسائل التي تحقق بها هذه الأهداف.

إنني أقول: إن الظروف الكفيلة بإحداث تغير جوهري موجودة، فهناك تلك الحقيقة الاقتصادية الحيوية التي تشير إلى تعذر استغلال طاقات الإنتاج استغلالًا كاملًا في ظل العلاقات الطبقية القائمة في مجتمعنا الحديث. وعلى كل حال فقد دل هذا في الماضي دائمًا على احتمال حدوث تغير جوهري. ولقد تغلغلت آدابنا في هذا المزاج، حيث تمت دراسة القيم المتوازنة بطريقة نقدية. ولقد كان هذا (كما حدث في عهد الإصلاح وفي فترة الحركة الرومانتيكية) مقدمة للأزمة. لقد فقدت طبقاتنا المهيمنة ثقتها بنفسها، ولم تعد سياسة التسامح (التي تميز النظام الذي يشعر بالأمن والحماية)، لم تعد هذه السياسة تكتسب الرضا الذي كان شائعًا منذ جيل. أما الإيمان فيقدر العقل على تسوية الخلافات مع العدالة، فلم يعد يثير نفس الاستجابة التي كان يثيرها في القرن التاسع عشر، والأفكار تكون بتغطية نفسها برداء مسلح خشية أن تصير فضائلها جد معنوية، بحيث يتعذر أن تنتشر. وثبت أن القوى التي تنكر أشد سطوة من القوى التي تجزم وتؤكد. إننا نؤمن بسلطان العلم، ولقد رأينا كيف أن العلم خطر اجتماعي ما لم تخضعه لخدمة الأهداف المشتركة التي يتفق عليها الرجال في مجتمعاتهم المتابينة. لقد كان الدين قوة تستطيع أن توحد، غير أن اكتشافات العلم من جهة، وإخضاع الدين لمصالح الامتيازات من جهة أخرى، قد قضى على حق الدين في ضمان إخلاص الناس له. لقد كنا نعتقد أن المجتمع الذي يقوم على أساس التملك قد يكسب من الثروات ما يتيح ظهور مبدأ توزيع مُرضٍ. غير أن الذي اكتشفناه هو أنه لا سبيل — في هذا النوع من المجتمع — إلى الاحتفاظ بمبدأ للتوزيع ترضى عنه الجموع باعتباره مبدأ عادلًا. وسعينا — على ضوء ظروفه — نحو التخلي عن مطالب العدالة عن طريق سياسة تقديم امتيازات للجموع. غير أننا اكتشفنا أن منطق نظامنا يضيق الخناق — بخشونة وبقسوة — على هذا الجهد الذي يبذل لتأجيل المسألة الجوهرية.

وفي استطاعتنا أن نتحدث عن هذه المسألة الجوهرية في عبارات بسيطة أن المجتمع الذي يفتقر إلى المساواة، أي الذي يقوم على أساس تمتع الأقلية بالامتيازات لا يستطيع أن يحتفظ بسلطانه إلا عن طريق الرضا والقبول، أو عن طريق القوة. وهو لا يستطيع أن يحوز هذا الرضا والقبول إلا إذا استطاع أن يتيح للروسيين من الامتيازات الأمل الدائم في تحسين أحوالهم. ومعنى هذا أنه يتحتم على ذلك المجتمع أن يتيح لهم الأسباب التي تجعلهم يؤمنون بأن في استطاعتهم أن يحققوا الأمان ويحققوا الأمل. وحين يتسع نطاق النظام الذي يقوم على الامتيازات كان هذا بمثابة مغامرة يحتمل وقوعها. ولا تتعرض نوايا هذا النظام للتحدي؛ إذ تبدو انتصاراته في نظر الجموع الغفيرة من المواطنين، وكأنها تبرير لوجوده، تبرير لا يحتاج إلى توضيح.

ولكن حالما يتعرض النظام — في إحدى فتراته — لأزمة يتعذر فيها التلويح بالأمل أو الأمان، صار التعرض للعقبات الخطيرة أمرًا لا مهرب منه. وينسى الناس ما حققه هذا النظام من انتصارات، فهم غاضبون من جراء حالة التوقف والغموض التي يعيشونها. ويبدأ هؤلاء في اختيار الأسس وفحصها، ويطالبون بتفسيرات منطقية لتلك الأحكام والآراء التي يغلب عليها طابع العادة أكثر مما يغلب عليها طابع المنطق أو طابع العدالة. وتتضاعف الشكوى، وترتفع الأصوات، ويصيح الشاكون وهم يطالبون باستمرار الامتيازات التي كان من المستطاع تحقيقها في الماضي دونما تردد أو جهد. غير أن تحقيق هذه الامتيازات في فترة الأزمة معناه مطالبة الذين استمروا يتمتعون بهذه الامتيازات، بحيث صارت دينًا بالنسبة لهم، بأن يتخلوا عنها عن طيب خاطر. وعندئذ تبدو الأشياء — التي كانت معقولة من قبل — في صورة مدمرة هدامة، وتبدو المسائل — التي كانت قابلة فيما مضى للنقاش — في صورة أشياء تهدد القانون والنظام. والذين يتحكمون في روح النظام ينكرون قدرته على إتاحة المطالب الموضوعة. وهم ينظرون إلى دعاة الإصلاح باعتبارهم ثوريين، ويصرون على أن هؤلاء الثوار أعداء للمجتمع. وهم يعبئون قوى الدولة الإلزامية ليستأصلوا شأفة الانشقاق، ويبدأ الخوف يتسلل إلى نفوس هؤلاء الذين يعيشون على الملكية. وحين يسيطر الخوف على عقول الناس، فإنهم لا يستمعون إلا إلى صوت المتطرفين، وحينئذ يتجمع الذين ينعمون بالامتيازات حول الذين يعدون — عن طريق اتخاذ إجراءات عنيفة — باستعادة سلطان الدولة التقليدي. إن التطرف يثير التطرف، وفي خضم المتناقضات العنيفة المتصارعة ينهار كل أمل في الوصول إلى تسوية معقولة.

أعتقد أننا نواجه هذا الموقف في الوقت الحالي. لقد مضت أكثر من ثلاثة قرون ونحن نخلق دولة تخدم أهداف مجتمع يقوم على أساس التملك، وتغلغلت هذه الأهداف في كل جانب من جوانب هيئاتها، ويتطلب هذا الوضع نظامًا للعلاقات الطبقية، ومن أجل الاحتفاظ بهذا النظام جندت له ديانات الدولة وقوانينها، وقواتها المسلحة، ووظائفها المدنية، وجهازها التشريعي، وهيئاتها التعليمية. ولكن لم يعد في الإمكان — داخل نطاق هذه العلاقات الطبقية — إشباع مطامع هؤلاء الذين يعيشون في المجتمع من بيع عملهم. وحين تميز المجتمع القائم على أساس التملك بسياسة التوسع أصبح من الممكن إسكات هؤلاء بالامتيازات. واليوم نجد أن هذه الهبة، على أي نطاق يعتبره الذين يتلقونها شيئًا مناسبًا، تضرب في الصميم تلك القوة التي تعتمد عليها الامتيازات للمحافظة على بقائها. ولكي تحافظ على حقوقها من غائلة الهجوم نضطر إلى مهاجمة أسس النظام الذي كان يحقق الامتيازات في الماضي. وهي تجد نفسها فريسة الحيرة، فإما أن تسير قدمًا نحو مجتمع تسوده المساواة، وإما أن ترجع القهقرى إلى نظام اجتماعي لا يحق فيه لمجموعة الرجال أن تؤكد جوهرها بمقتضى نظرية الديمقراطية السياسية.

وفي خضم هذه الحيرة يناشد الملاك سلطان الدولة حتى يحميهم من غائلة الهجوم، كيف لا وقد علمتهم تجارب القرون الثلاثة أن من حقهم أن يفعلوا ذلك؟ لقد شقوا طريقهم للوصول إلى السلطة في الماضي بفضل الحرب وبفضل الثورة؛ ولهذا لا يشكون في صدق دعواهم وسلامتها من الناحية الأخلاقية. وهم يرون أن التحدي الذي يتهددهم صادر عن الرجل العادي الفاشل العاجز نصف الحي الذي ينذر هؤلاء الذين وصلوا إلى مراكزهم تحت الشمس بفضل قدرتهم وطاقتهم وجهودهم. إن القانون يقف إلى جانبهم، وفي حوزتهم ذلك القانون الدائم الذي يغري الناس بأن يعترفوا بوجود نظام خالد في تراث الماضي. وفي مقدورهم أن يضربوا على وتر الخوف من المجهول ومن الجديد. وقد نجح هذا الخوف — على الدوام — في كسب ولاء الخائف والعاجز، وتصرفاتهم تحمل طابع الأمر. فلقد تعودوا على ذلك منذ القدم، وهم يعرفون أن أي نظام للسلطة تعود عليه الناس يؤدي إلى ظهور عواطف ودية عميقة لا يمكن أن ينفصلوا عنها بسهولة. وحين يرون جمود الجماهير وبلادتهم ينتهون إلى أن التذمر الذي يلمسونه إنما يرجع إلى رجال أشرار، وهؤلاء يمكن القضاء عليهم وتوجيه هجوم عنيف ضدهم في اللحظة المناسبة. إنهم لا يؤمنون بأن أيامهم قد ولت وانتهت. إن الأزمة بالنسبة لهم أزمة وقتية دائمًا، وهي أن في استطاعة جهة شجاعة غير هيابة أن تقف في شموخ كالتمثال، وهم يحدثون أنفسهم قائلين: إن النظام صالح في حد ذاته، وإن الأمر لا يتطلب سوى القضاء على هذا أو ذاك.

بهذا حدث الملك لويس السادس عشر نفسه في الأيام الأخيرة للعهد القديم، وبهذا آمن نيقولا الثاني والطغيان القيصري يلفظ أنفاسه الأخيرة. غير أن كلًّا منهما كان مخطئًا؛ لأنهما لم يكتشفا أن النظام الذي يمثلان مبادئه يقف حجر عثرة في طريق التغير الذي لا محيد عنه. إن الذي يدعو إلى الانقلاب لا يؤثر على الجموع إلا إذا كانت هذه الجموع تحس إحساسًا عميقًا بالمظالم التي يطالب هذا الداعية بالتخلص منها. والمظالم لا تعبر عن نفسها عن طريق العنف إلا إذا جاءت عن طريق المعاناة الجماعية. ولكي نتجنب المظالم يجب أن تكون هناك سياسة للإصلاح الدائم، غير أن هذا لا يتحقق إلا إذا كان ثمن الإصلاح ومداه يتعارض مع طبيعة النظام الموجود. إننا لا نستطيع أن نحقق الإصلاحات التي يتطلبها نظام اقتصادي حر في القرن التاسع عشر. لا نستطيع أن نحقق ذلك في ظل النظام الإقطاعي؛ ذلك لأن مطالب الإصلاح تتعارض مع مطالب الإقطاع. وتشير الدلائل إلى أنه ليس من المحتمل أن نجعل المجتمع الرأسمالي يتقبل المبادئ التي يتطلبها ظهور الاشتراكية؛ إذ إننا بهذا نطالب الرأسماليين بأن يرضوا لأنفسهم بالتدمير. وليس هناك (في الحضارة الغربية على الأقل) طبقة أعربت بعد عن استعدادها للتخلي عن الامتيازات التي نظمت الدولة من أجل صيانتها.

كيف تفعل ذلك، وهؤ تؤمن إيمانًا عميقًا بعدالة الامتيازات التي تتمتع بها كما دلت على ذلك الشواهد؟ إن هتلر وموسوليني وسادة إمبراطورية المال الأمريكية وحكام بريطانيا العظمى الصناعيين يعتقدون اعتقادًا جازمًا أن تنازلهم سيقضي على رفاهية المجتمعات التي يتحكمون فيها. إنهم لا يحترمون حكم الأغلبية احترامًا كبيرًا، وهم يعرفون حيدًا كيف يضعون هذا الحكم بمنتهى السهولة. وهم ليسوا على استعداد لالتزام ثمار المنطق أو بوجه أصح: إنهم يصرون على قدرتهم على تحديد المقدمات المنطقية التي يجب أن تثير الجدل بمقتضى مبادئها. وهم يحرصون على تحديد هذه المقدمات بحيث يتم الرجوع إلى سلطة الدولة للحيلولة دون الشك في شرعية وجودهم. وموجز القول أنهم يلعبون اللعبة وفي جعبتهم ذلك العائق الهائل الذي يتيح لهم فرصة وضع قوانين هذه اللعبة. وهم يحرصون على تحديد هذه القوانين بحيث لو شك البعض في سلامتها لطردوا من المعلب.

هذا هو المعنى الذي يكمن وراءه استحواذهم على سلطة الدولة، إن هذا الاستحواذ يجعلهم قادرين على استخدام القوة ليقرروا نتيجة المباراة، إذا ما جرؤ شخص على تحدي عوائقهم. فإذا ما جاء هذا التحدي في صورة إضراب مثل الإضراب الذي قام به عمال النسيج في الولايات المتحدة في خريف عام ٣٤؛ فقد حيل دون نجاح هذا الإضراب عن طريق إلقاء القبض على الزعماء المحليين، بحيث يتعذر وجود اتصال بين نقابات العمال وأعضائها. وإذا ما جاء هذا التحدي في صورة احتجاج على قيام حرب، صدر قانون يقضي بأن التفوه بأية كلمة تساعد العدو أو تدخل عليه الطمأنينة يعتبر جريمة. وفي ظل هذا القانون يُفتح المجال الذي لا نهاية له أمام العقوبات. ولا يقتصر استحواذهم لسلطة الدولة على مجرد تحديد قواعد المباراة، إنهم يملكون الصحف إلى حد كبير. والقدرة على التحكم في الأنباء لها أثر لا تتيسر المبالغة في وصفه. والسلاح الجديد — سلاح الإذاعة — وهي إشارتهم إلى حد كبير أيضًا، خاصة في فترات الأزمات. وهم يملكون المدارس، ومن ثم يستطيعون إعداد عقول الأجيال الحديثة بحيث تتقبل المبادئ التي يرغبون — بالطبع — في فرضها.

وفي ظل هذه الظروف لا يوجد خطر كبير يجعلهم يشعرون بالخوف على سلطانهم من أن يتعرض للتحدي، اللهم إلا في حالتين. فمن الممكن ظهور هذا التحدي في أعقاب حرب فاشلة حين تقلل الهزيمة وخيبة الأمل من الهيبة المعتادة التي تتمتع بها الدولة. ومن الممكن أيضًا أن يظهر هذا التحدي حين تحطم التجربة الطويلة (التي تعتبرها الأقلية ظلمًا) الآمال المعقودة. وفي هذه الحالة لا تسطيع الدولة أن تركن إلى الولاء التقليدي للأجهزة التي تعتمد عليها. وبصرف النظر عن هذه المواقف نجد أن الحكومة التي تصمم على الاحتفاظ بسلطان دولتها مهما كان الثمن لا شك أنها ستفعل ذلك (ما لم ترتكب خطأ استراتيجيًّا جنائيًّا). وينطبق هذا القول على عصرنا الحديث أكثر مما كان ينطبق على الثلاثمائة عام الماضية؛ وذلك لسببين، فقوى الدولة الحديثة المنظمة تنظيمًا عاليًا يتمتع بامتيازات ضخمة في أية معركة تخوضها مع الجموع التي تفتقر إلى التنظيم الكامل. كما أن الأسلحة اللازمة لثورة ناجحة كالطائرات والغازات السامة، والمدفعيات الثقيلة، والمدافع الرشاشة، ليست في متناول الرجال الذين يريدون الاستيلاء على الدولة. إن التجربة التي مرت بها النمسا وأسبانيا توضح بصورة قاطعة أن أية ثورة لا تستطيع حتى أن تأمل في النجاح ما لم تكن القوات المسلحة في جانبها، ما لم تلتزم هذه القوات المسلحة جانب الحياد وسط الظروف التي تنشب الثورة في ظلها.

من هذا يصح لي أن أنتهي إلى القول بأن الدولة التي تسيطر فيها الطبقة على سلطان الدولة لن تفرط في هذه السيطرة إذا ما جعلها هذا التفريط تتنازل عن الامتيازات التي تتمتع بها. إنها ستقوم بالإصلاح — حين يتحتم عليها ذلك — على شريطة ألا يعني هذا الإصلاح القضاء على ما لم تره ضروريًّا لوجودها. إنها لن تقدم على الإصلاح إلا إذا أمنت بأن الامتيازات التي ستتنازل عنها لن تورطها في تضحيات جوهرية. فإذا لم تتحقق هذه الشروط حاربت الطبقة المهيمنة. وما زال التاريخ يُرينا كيف أنها ستحارب على الدوام، وهي تؤمن إيمانًا عميقًا بأن الحق في جانبها. فإذا ما نشب الصراع في هذا النوع من المجتمع الذي نطلق عليه صفة المجتمع الديمقراطي الرأسمالي؛ فلا شك أن الذين يستحوذون على السلطة الاقتصادية سيعمدون إلى خنق النظام الديمقراطي إذا ما تدخل هذا النظام في سياسته، في أسس الرأسمالية. وأعتقد أنهم سينجحون في هذه المهمة، اللهم إلا في الأحوال التي أشرت إليها آنفًا.

إن المعنى الذي يكمن وراء هذا كله معنى واضح، وهو أن الديكتاتورية السافرة بديل للحكومة التي تحكم بموافقة الشعب. وليس هناك من سبب جوهري واضح يجعلنا لا نصدق أنها تستمر لفترة من الزمن. ولست أرى ما يدعو إلى الافتراض بأن الرجال الذين يفقدون الحرية السياسية طواعية سيقدرون — أو سيرغبون عن طيب خاطر — على تنظيم علاقاتها في ظل الظروف الحاضرة. وليس من شك في أن الدكتاتوريات تحطم نفسها — بمرور الوقت — بعجزها عن إرضاء الشعب الذي تحكمه. غير أن هذا لا يحدث إلا بعد مرور فترة من الزمان. وليس من شك أيضًا في أن الظروف الاقتصادية في عصرنا الحاضر لدولة أوتوقراطية تحاول كما حاولت ألمانيا أو إيطاليا أن تطيل أمد النظام الطبقي للرأسمالية. وقد يؤدي ذلك إلى ظهور سياسة خارجية ذات صبغة عسكرية. ومعنى هذا — بمرور الوقت — الحرب. غير أن الحرب لا تؤدي إلى ظهور الديمقراطية بكل تأكيد، كما أنها لا تؤدي بالضرورة إلى ظهور دكتاتورية برولتيارية (في الوقت الذي تندثر فيه الدكتاتورية حين تفشل في هذه الحرب).

إن الحرب لا تؤدي إلى الديمقراطية، إذ إن الفوضى التي تجيء نتيجة للقضاء على نظام أوتوقراطي قلما تستطيع الوسائل الديمقراطية أن تغلب عليها. ومن الواضح أن روسيا وإسبانيا والنمسا وألمانيا يعرفون هذا الدرس. إن فك القيود — وهو الشيء الذي يحدث في العادة بعد سقوط الدكتاتورية — يتطلب بديلًا آخر في صون حكومة قوية. والعيب الجوهري الذي تمنى به الأتوقراطية هو أنها تقضي على عادات التسوية والتعاون التي تعتمد عليها الديمقراطية، حتى يتسنى لها أن تنجح في مهامها، وحتى لو أضيف فصل ديمقراطي إلى التمثيلية التي تمثل، كما حدث في إسبانيا وألمانيا. اتضح أن شروط استمرارها تتمثل في تحقيق رخاء يساعد على القيام بإصلاحات كبرى دون الإضرار بالآمال المعقودة إضرارًا جسيمًا. فإذا ما انعدمت — كما حدث في إسبانيا وألمانيا — تذمرت الطبقات التي تدفع ثمن الإصلاحات الكبرى. وتكون النتيجة أن يربطوا خسارتهم بالنظام الديمقراطي، وتتولد الكراهية في صفوف القلة، وتسود البلاد صفوف الكثرة. وهذا هو الطريق المباشر الذي يفضي إلى الثورة المضادة، وإذ ذاك نجد ميلًا إلى ناحية روح الأزمة التي تتطلب تشريعات استثنائية. فإذا ما تحقق هذا بالقوة أقدم خصوم النظام المتهورون على إجراءات يائسة، وإذا ما ظلت عاطلة أقنعتهم على الأقل بضعف الديمقراطية، ومن ثم أغرتهم ببذل مزيد من الجهود للقضاء على هذه الديمقراطية. ولا أعتقد أن هناك كثيرين يشكون في أن تسامح جمهورية فيمار إزاء خصومها الذين نظموا صفوفهم قد أقنعت هؤلاء الخصوم بأن أسس هذه الجمهورية من الضعف، بحيث تجعل القضاء عليها أمرًا يسيرًا. ولو قد أبدى «أبرت» وزملاؤه من الحزم إزاء مؤيدي اليمين، ما أبدوه إزاء مؤيدي اليسار لتغير تاريخ الفاشستية الألمانية.

كما أن الحرب لا تؤدي بالضرورة إلى دكتاتورية البروليتاريا. إن دكتاورية البروليتاريا ليست لها بد منها في تاريخ التطور الاجتماعي، وهي ليست مجرد ثمرة لظروف اقتصادية خاصة، فهي أيضًا ثمرة هؤلاء الزعماء الذين لهم — مثل لينين — عين ترى، ويد تبطش، كما أن لديهم استراتيجية ملائمة يتم تنفيذها في الوقت المناسب. إن الظروف العلمية التي تعمل الحكومة العصرية في ظلها تجعل من الممكن أيضًا أن تكون نتيجة الحرب عودًا إلى البربرية، كما أنه من الممكن أن يكون من نتيجتها انتصار الطبقة العاملة. غير أن هناك شروطًا كثيرة يتطلبها انتصار الطبقة العاملة؛ إذ يجب أن تكون مسلحة، ويجب أن يقودها حزب ثوري مزود بالعتاد الاستراتيجي للقيام بمهامه. ويجب أن تكون من القوة بحيث لا تتغلب مع مقاومة خصومها فحسب، وإنما تقاوم وطأة التدخل الأجنبي. ويجب أن يكون في مقدورها أن تتأكد من كفاية المواد الغذائية، وأن تقيم حكومة مدنية على وجه السرعة. إنه عمل ضخم إذا نظرنا إليه من أية زاوية، وإذا نظرنا إليه من أية زاوية أيضًا وجدنا أن نجاحه أشبه ما يكون بمعجزة. والذي يستعرض تاريخ الثورة الروسية لا يستطيع أن ينكر أن نجاحها في تكوين دكتاتورية بروليتارية يرجع قبل كل شيء إلى عاملين؛ العامل الأول: ضعف البرجوازية الروسية، ومن ثم خارت قواها وهي تقاوم. العامل الثاني: وجود لينين لا باعتباره المحرك الأول في معركة الاستحواذ على السلطة فقط، وإنما باعتباره الرجل العظيم الذي حقق تماسكها ووحدتها. لا شك أن الثورات تبرز الرجال الذين هم من الطراز الأول وتضعهم في المقدمة باستمرار، غير أن التاريخ الحديث بأكمله لم ينجب رجلًا أكثر صلاحية من لينين لمعالجة مشاكله الضخمة العميقة.

٦

ما معنى هذا كله إذن؟ يخيل إلى أن التحليل الذي أوردناه يؤدي إلى القول بأن السياسة الدولة في العصر الحديث قلما تؤدي إلى ظهور ثورة ناجحة. ومن المحتمل أن التغيرات التي تحل بالعلاقات الطبقية لا تتحقق إلا إذا آمنت الجموع إيمانًا عميقًا بحاجتها إلى هذا التغير. وما لم يكن هناك موقف تتيح فيه الأحداث العارضة فرصة المبادرة بالإقدام على إجراء ما. وروسيا هي المثال التاريخي الوحيد على ذلك، فإن هذا التغير لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق حكومة يعضدها رأي عام يتصف بالقوة وبالتصيمم. وحتى لو تحقق هذا فإن الدلائل تشير إلى احتمال تعرض هذه الحكومة للتحدي. وليس من المحتمل أنها ستقدر حين تواجه التحدي على الاحتفاظ بسلطانها عن طريق الاعتماد على السياسة الكلاسيكية للديمقراطية. وأي هجوم سافر موجه ضدها يورطها في إجراءات السيطرة والقمع. وفي هذه الحالة تصبح تلك الإجراءات الثمن الذي تدفعه من أجل البقاء.

من أجل هذا يصبح من الضروري لأي حزب يحاول تغيير الأسس الاقتصادية للمجتمع أن يحتفظ لأطول مدة ممكنة بنظام أساسي يتيح له استعادة قوته بطريقة سافرة، أما الصورة البديلة لهذه الصورة فتتمثل في تحول الحزب، كما حدث في ألمانيا، من حركة إلى مؤامرة. وفي هذه الحالة يقامر الحزب (الذي جعلته الدولة يمارس نشاطه في سرية) بأهدافه. وعلى أية حال سيكون من العسير — بمقياس السرعة التي يتحقق بها نجاحه داخل إطار نظامه — أن يحول بين خصومه وبين أن يوجهوا الضربة الأولى. والذين يكشفون خطرًا يهدد أسس النظام الذي يؤمنون به بسهولة. والواقع أنهم يقنعون أنفسهم دائمًا بإخلاص بأن لهم الحق في اتخاذ إجراءات حاسمة تكفل الإبقاء على هذا النظام. ولقد تعودت الملكية ملكية الأشياء طيلة تاريخها اعتبار الهجوم أحسن وسيلة للدفاع. ونظرًا لأن الملكية في المجتمع الرأسمالي تستحوذ على سلطان الدولة، فإن فرصة القضاء على الديمقراطية التي تهدد امتيازاتها فرصة واضحة وجذابة.

وعلى ضوء هذا التحليل سرعان ما ينظر الناظر إلى هذه الأحداث كيف أن طابع الحرية التي عشقها الناس هو طابع هش.

إن الحرية في أي مجتمع مسألة أمانة، وحين يتعرض هذا الأمان للخطر يسهل على الذين يدافعون عن النظام القائم أن يقضوا عليه. ويكفي للدلالة على هذا أن نقارن بين روح فرنسا عام ١٧٨٩م وروحها عام ١٧٩٢م، وأن ننظر إلى طابع إنجلترا السياسي أيام بيت وسيد مواث والاستهانة بالحرية. وهي الاستهانة التي تعتبر من سمات الدكتاتورية الحديثة سواء منها دكتاتورية البروليتاريا أو الدكتاتورية الفاشستية. لا يمكن الإبقاء على الحرية إلا إذا جاءت التغيرات المقترحة نتيجة للرضا العام أو كانت من الضيق بحيث يشعر الذين يتأثرون بنتائجها بأن السلام أفضل من الصراع. ولقد شعروا بهذا بصفة عامة حينما كانت هناك إصلاحات تدريجية محدودة المدى، وذات نتائج تظهر شيئًا فشيئًا، وقلما شعروا بهذا حين تؤثر التغيرات المقترحة في نفس الأساس الذي يقوم عليه كيان العلاقات الطبقية.

والنتيجة البسيطة التي تستخلص غالبًا من هذه الحقيقة أنه ما دامت الحرية تعتمد في وجودها على الأمان وجب على دعاة الإصلاح إذا ما كانوا يهتمون بالحرية أن يدفعوا لها الثمن. وطريقة ذلك أن يضمنوا للطبقة التي تمتلك وسائل الإنتاج الاستمرار في التمتع بتلك الامتيازات التي تتيحها الملكية لفترة من الزمن، إلى أن يتعودوا على النظام الاجتماعي الجديد، ويرضوا عنه. غير أن هذا النوع من التعهد لا يسهل الوعد به بإخلاص، إذ إنه يتضمن تكوين طبقة جديدة من المستأجرين تضمن لهم الدولة بنواياها الحسنة حق التمتع بنصيبهم من الدخل القومي. وإلى أن تحقق الملكية القومية مميزات التنظيم الذي أعيد بناؤه، فمعنى ذلك تعطيل أي إصلاح لحالة العمال في أية صناعة تستولي عليها الدولة، اللهم إلا على حساب مجموعة من المواطنين بوصفهم دافعي ضرائب أو مستهلكين. وهناك جميع الأدلة الممكنة التي تعارض ذلك النوع من المصادرة وهذا النوع يجعل الطبقة المالكة تتصارع. ويجدر بنا أن أن ندفع ثمنًا لا بأس به حتى يتقبلوا النظام الاجتماعي الجديد عن طيب خاطر، غير أن الثمن الذي يُلقي على كاهل هذا النظام عبئًا جديدًا ممثلًا في الدين الذي يطيل من عمر نظام الامتيازات بطريقة محتلفة غير مرغوب فيها، دون أن يتعرض أصحابها للخطر. وهذا سيؤجل فقط مشكلة دفع الثمن دون أن يوجَد أساس لحل هذه المشكلة حلًّا معقولًا.

من أجل هذا أعتقد أنه يتحتم علينا أن نتوقع حلول عهد تهمل فيه النظرة إلى الحرية التي كانت تميز المدنية الغربية بصورة عامة، وبريطانيا بصورة خاصة، وذلك في خلال القرن التاسع عشر، ولكنها حقيقة مرة؛ إذ أوجد هذا المزاج عادة التسامح والغضب من المظالم، وهي من أكبر الانتصارات التي حققتها الروح الإنسانية. ولا بد أن يكون هناك قلة من الناس يعجزون عن الاستجابة لشعر يدعو فيه بيرون وشيلي وهايني وفيكتور هيجو إلى تحرير الجنس البشري من الأغلال التي تقيده. ولا بد أن يكون هناك فئة — أقل من الأدنى عددًا — لم تحس بأن تحرير إيطاليا من الطغيان النمسوي والحملة المتحررة ضد فظائع الأتراك، وتحرير العبيد في الولايات المتحدة، ودخول أعضاء حزب العمال مجلس العموم أضافت أشياء إلى مجموع رفاهية المدنية. ومع ذلك اتضح في أيامنا هذه أن أبناء أولئك الرجال الذين رحبوا — في حماسة — بهذه الأحداث على استعداد باسم حقوق الملكية للقضاء على جميع المزايا التي حققها التقدم الذي يمثلونه. لقد اعتدنا في جميع أنحاء العالم على بربرية جديدة، ويبدو أن الرجال يفرضون هذه البربرية باسم المبادئ التي يتمسكون بها في حرارة. إن خنق الدكتاتوريات (سواء أكان هذا في روسيا أم في ألمانيا أم في أي مكان آخر) للأحزاب التي لا تقبل أيديولوجية الذين يمسكون بأزمة الحكم، وجعل اليهود في ألمانيا جنسًا مستعبدًا وما تؤدي إليه الخلافات السياسية من فرض ألوان التعذيب التي لا يستطيع رجل حساس أن يتصورها دون أن يشعر بالهلع وارتكاب هذه الأفعال بكل بساطة، دون أن يستيقظ الذين يعلمون؛ من بلادتهم. وقدرة كل دولة على منافسة أعدائها في استغلال وسائل الحرب التي تعرف جيدًا أنها تتعارض مع طيب العيش، كل هذا يوحي بقدوم عصر فولاذي تفقد فيه القيود الأخلاقية التي يفرضها الأمان على أساليب السلطة كل أمل في تحقيق هذا التأثير الذي كنا نعتقد أنه صار جزءًا من عادات البشر المستقرة. لقد أدى اغتيال مانيوتي، بإيعاز من موسوليني، إلى ظهور تذمر (مؤقت فقط) ضد الدكتاتور الإيطالي، واغتيال هتلر ليفر من كبار زملائه دون محاكمة، شيء يمكن للمشرعين المرموقين من ذوي الشهادات العالية أن يدافعوا عنه باعتباره تحقيقًا لفكرة العدالة. وخلاصة القول أن أشكال الحكومات التي نقرأ عنها في التاريخ، ونعتبرها ممثلة لأحد طغاة الشرق أو جبابرة إيطاليا في العصور الوسطى، هذه الأشكال قد قام حكام الدول الغربية في القرن العشرين بتنظيمها عن عمد دون أن يحسوا على ما يبدو بوخز الضمير. إن للإرهاب ما يبرره بوصفه الطريق الذي يؤدي إلى السلطة. ويقال: إن السلطة هي الحيز الأسمى بحيث لا تثير الوسائل التي يحققها أي احتجاج من جانب الذين يشاهدون هذه الوحشية.

وحين تسلح الآراء نفسها استعدادًا للصراع يتعذَّر وصول صوت العقل إلى الأسماع. وحين تطغى قعقعة السلاح الجارفة على صوت العقل، يكف الناس عن الإنصات لنداء يدعو إلى الحرية، ويتم القضاء على الإجراءات الخاصة بالحكومات التي تحكم عن رضا، وينتصر الذين يملكون السلاح. ولا نعني هذا بالضرورة أن امتلاك الأسلحة معناه قضية أحسن. لقد كان هذا هو المزاج الذي ظهر كلما اقترب نظام اجتماعي من شفا الهاوية. ويدافع النظام القديم بوحشية عن ممتلكاته دون أن يلقي بالًا إلى معاني الصراع؛ وهكذا حارب الكاثوليك البروتستانت في أوروبا في القرن السادس عشر، وهكذا حارب الجنوب الشمال أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، وهكذا حاربت القيصرية دعوة الإصلاح السياسي والاجتماعي في روسيا قبل الثورة. والأفراد الذين أمسكوا بزمام السلطة واعتنقوا فكرة خاصة بالصالح العام سيحاربون دفاعًا عنها بدلًا من الاعتراف بأن هذه الفكرة لم تعد تلائم الاحتياجات التي تواجههم.

إنهم لا يفعلون هذا بدافع من الرعونة أو عدم الإخلاص؛ وإنما لأن آراءَهم في الخير والشر تتاح للبيئة التي ترعرعوا فيها؛ ولأن الآراء المعادية لهم تهدد الأسس التي تعلموا عن طريق التجربة كيف ينظرون إليها باعتبارها شيئًا لازمًا لا يمكن التخلي عنه. وهم يتسامحون بل يصبحون كرماء حين يرون أن الآراء المعادية لا تهدد هذه الأسس، فإذا كانت تهددها بالفعل فضَّلوا استخدام وسائل القمع بدلًا من الجدال، باعتبار القمع أيسر وسيلة للدفاع عن أنفسهم. لقد صار من عادة النظام الاجتماعي الذي يشعر بأن ثمة خطرًا يتهدده أن يحيل الأرض إلى صحراء ليقول بعد ذلك: إن السلام يسودها، ولقد كانت سلطة الدولة — على الدوام — هي الوسيلة التي تُستخدم لصنع هذه الصحراء.

كل هذا يفسر لنا لماذا كانت سلطة الدولة — في المجتمع الذي لا تسوده المساواة — وسيلة لقمع المحرومين من الامتيازات التي تحميها هذه الدولة. كما أنه يفسر لنا لماذا يتحتم على المحرومين أن يسعوا نحو الحصول على هذه السلطة؛ لكي يرتد إليهم نفعها. ولكن لم يحدث في التاريخ أن فتحت إحدى الدول صدرها لهذا الإجراء، حتى عن طريق الإرادة الشعبية التي تعبر عن نفسها في إطار دستوري. لقد كانت هيئاتها في خدمة مصالح الذين يمتلكون وسائل الإنتاج الرئيسية في المجتمع، وكانت الأشكال السياسية على الدوام قناعًا تقف الطبقة المالكة خلفه؛ لتحمي سلطانها الذي أضفته عليها الملكية من غائلة الخطر. وحين كانت الأشكال السياسية تهدد حقوق الملكية عمدت الطبقة المالكة على الدوام إلى إخضاع هذه الأشكال لاحتياجاتها. وما من شك في أنها قدمت على الدوام من الأسباب ما يبرر محاولاتها. لقد حاولت أن تظهر (كما أظهر هتلر في ألمانيا) أن هذا الإخضاع يخدم مصالح المجتمع بأكمله. ولكن حينما تحقق الإخضاع بنجاح (كما حدث في إيطاليا وألمانيا في عصرنا الحاضر) اتضح لنا أن العلاقات الطبقية في المجتمع تظل ذات نفوذ مهما كان نوع الدفاع، ومهما بذل من إخلاص في هذا الدفاع.

لقد حاول كتابنا هذا أن يوضح أن هدف الدولة الجوهري هو دائمًا حماية نظام معين خاص بالعلاقات الطبقية. ولقد قيل: إنه أينما وجد مجتمع مقسم إلى طبقات اقتصادية تختلف كل منها عن الأخرى من حيث الملكية — داخل في نطاق الوظيفة الإنتاجية — صارت الدولة حاجزًا يحول دون القضاء على الطبقات. من أجل هذا تجد أن منطق الدولة — في الحضارة الرأسمالية — يجعل من هذا سلاحًا يُستخدم ضد الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وحينما كانت هذه المدينة ثرية أو توسعية أدت قدرتها على إتاحة الامتيازات للجموع إلى التخفيف من تصارع المصالح التي تقوم هذه المدينة على أساسها. ولكن حينما تعرضت المدينة للأزمة — كما يحدث في أيامنا هذه — صار الصراع قاسيًا وحاسمًا، وتظهر الدولة بمظهر السلطة ذات السيادة التي تشتغل لحماية أسس الرأسمالية من الرجال الذين يريدون الاستفادة من تغيير النظام الرأسمالي.

لقد قلت هنا: إن الذين يستغلون الدولة بهذه الطريقة لا يتصرفون هكذا بوحي من دافع أنانية محضة. إنهم ليسوا بأقل من خصومهم إيمانًا بأنهم يعملون للصالح العام. والآراء التي تتصارع إنما يعادي بعضها بعضًا؛ لأن البيئة والتجربة التي تفسرها الطبقات في المجتمع تؤدي إلى تفسيرات لما يتضمنه الصالح العام. وفي فترة التدهور الاقتصادي تصبح هذه التفسيرات متعارضة فيما بينها. وحين تتضح هذه النقطة في تاريخِ مجتمعٍ ما، يضطر أفراد هذا المجتمع إلى اختيار أحد أمرين: إما الاستسلام أو الحرب الاجتماعية. ولقد دل التاريخ — حتى الوقت الحالي — على أن الطبقة التي تسعى إلى إعادة تحديد موقفها في الدولة بطريقة أساسية تضطر دائمًا إلى تحقيق أهدافها عن طريق الثورة العنيفة. ولقد أشرت على هذه الصفحات إلى أن الحقائق التي نواجهها في الوقت الحالي لا تضمن لنا أن تجربتنا ستختلف عن التجربة التي مرت بها العصور السالفة.

ولم أسلِّم في الواقع بأن احتمال وقوع ثورة عنيفة يعطي حق الانتصار للحزب الذي يهدف إلى خلق مجتمع بلا طبقات. ولقد أشرت إلى أن مثل هذا الحق يعتمد في وجوده على ظروف متعددة يندر أن تتضافر في وقت واحد. وليس من المحتمل أن يتحقق هذا التضافر في أغلب المواقف العادية التي نستطيع أن نتنبَّأ لها. وحاولت بصفة خاصة أن أدلل على أن ارتباط المجتمع الرأسمالي بدولة من النوع الديمقراطي وصيانتها لا يضمن — ضمانًا أكيدًا — تحقيق الفكرة الديمقراطية وصيانتها في فترة تختبر فيها صحة الاقتراحات الرأسمالية عن طريق الأزمة. وقلت: إن الارتباط المشار إليه يرجع إلى ظروف تاريخية خاصة، وليس من المستطاع القضاء على دولة إقطاعية إلا إذا تحالفت الطبقات الوسطى والعاملة (كما حدث في فرنسا وبريطانيا). ولقد كانت الآراء الديمقراطية هي الثمن الذي دفعته الطبقة الوسطى لهذا التحالف. ولقد أمكن — من جراء فترة التوسط الطويلة — إخفاء تباين المصالح بين المتحالفين، والآن وقد حلت فترة التقلص بتزايد الاختلاف بصورة واضحة، غير أنني حاولت أن أوضح أنه نظرًا لأن حقائق الديمقراطية السياسية مقيدة ببعدها عن المجال الاقتصادي — وهو مجال اهتمامات الطبقة الوسطى، فضلًا عن كونه مجالًا للسلطة الأساسية — فإن الحقائق تحيل التحالف الذي لم تعد له وظائف كبرى يؤديها إلى شيء عدائي. وموجز القول أن الشكل الديمقراطي للدولة في المجتمع الذي يقوم على أساس التملك، وهو المجتمع الذي خلقه التطور الرأسمالي، إنما يخفي سلطان الحكام الأثرياء ومن يركنون إلى هذا السلطان الذين لا يرون في الديمقراطية شيئًا يلائم المصالح التي يسعون إلى حمايتها.

من أجل هذا نرى أن أية فلسفة سياسية لا تستطيع أن تتصرف بنجاح مع مفهوم سلطان الدولة الذي يُفسر على أنه جهاز لرفاهية المجتمع الذي تتحكم فيه هذه السلطة. وطالما عبرت الدولة عن مجتمع منقسم إلى طبقات اقتصادية صارت دائمًا خادمًا للطبقة التي تملك أو التي تتحكم في ملكيته وسائل الإنتاج. والمنطق الذي يكمن وراء هذا الوضع هو أنه ليست هناك دولة تستطيع أن تحقق رفاهية مجتمع بأكمله ما لم يشترك المجتمع بأكمله في امتلاك وسائل الإنتاج. فإذا ما تحقق هذا استطاعت سلطة الدولة أن تحمي مصالح كل فرد من أفراد المجتمع دون تحيز؛ ذلك لأن رغبات المواطن لا يُنظر إليها بعين الاعتبار، ولا تحظى بالاستجابة المطلوبة إلا إذا اعتبر عضوًا متساويًا مع جميع أعضاء المجتمع الآخرين، لا باعتباره عضوًا في طبقة لها وضعها المعين في هذا المجتمع. ومن الممكن أن يكون هذا المجتمع مجتمعًا يتمتع بالمساواة، بمعنى أن الاستجابة للاحتياجات لا تتم على أساس القدرة على الحصول (ومرجعها حقيقة الملكية العادية)، وإنما على أساس خدمات تؤديها وظيفة يتم قيامها بميزان قيمتها الاجتماعية. وفي مقدور المجتمع الذي يتمتع بالمساواة أن يضع تخطيطًا لحياته بحيث يجني أعظم الفوائد من موارده الإنتاجية. وفي أي شكل آخر من أشكال المجتمع، يحول طابع الدولة (الذي يحمي هذا الشكل الآخر) دون تحقيق هذا الهدف.

لقد كتب هيجل يقول:

إن الدولة الحقة والحكومة الحقة لا تظهر إلا عندما يكون هناك تباين بين الطبقات، وحين يكون هناك غنى فاحش وفقر مدقع، وحين يتطور الموقف فتجد مجموعة من الناس أنه لم يعد في استطاعتها إشباع مطالبها، بعد أن تعودت — فيما سبق — على إشباعها. ومن الواضح أن مثل هذه الدولة لا تستطيع — بطبيعة نشأتها — أن تتخطى هذه الفوارق الموجودة بين الطبقات. ومن المحتمل أن تدفعها نشأتها إلى القيام بوظيفة من يحمي الأغنياء ضد الفقراء.

وكتب البروفيسور جيز يقول:

حين تسيطر أية طبقة اجتماعية على السلطة السياسية؛ فإنها تسارع باستغلالها لخدمة مصالحها الخاصة، ولا شك أنها تفعل ذلك بنية حسنة، ومن أجل هذا تعتقد أن مصالح طبقتها هي في الواقع مصالح المجتمع العامة.

ويتضح هذا الأمر جليًّا في الدول التي لا تتبع نظامًا ديمقراطيًّا، ولقد حاولت — في هذا المجال — أن أوضح أن الأمر ينطبق أيضًا على الدولة الديمقراطية مع فارق واحد، وهو أن هذا الطابع الديمقراطي يساعد الذين لا يساهمون في ملكية وسائل الإنتاج على التعبير عن مطالبهم بطريقة أوقع مما يستطيع الذين يعيشون في ظل نظام سياسي مغاير.

هذا هو السبب في أن أي تحليل للدولة يؤدي إلى القول بأن جوهرها — مهما كانت مطالبها — يتمثل في سلطة إلزامية تخدم الذين يتمتعون بالنفوذ الاقتصادي. ولو تركز هذا النفوذ — كما هو الحال عندنا — في أيدي الأقلية لمالت الدولة إلى خدمة مصالح هذه الأقلية؛ ذلك لأن طابع هذا النفوذ حين يحدد علاقات المجتمع الطبقية، سيحدد أيضًا المطالب القانونية للرجال، وهي المطالب الخاصة بحقهم في إنتاج الإجراءات الاقتصادية. وموجز القول أن أية دولة لا تستطيع أن تذهب إلى أبعد من معاني اتجاهاتها الاقتصادية؛ إذ إن هذه الاتجاهات تحدد طابع أفعالها بطريقة حاسمة، وستخضع أخلاقيات سلوكها دائمًا لتلك الاحتياجات التي تؤكدها الاتجاهات التي تحدثنا عنها، ولن يكون هناك تغير أساسي في طابع هذه الأخلاقيات — مهما كان شكلها السياسي — ما لم يكن هناك تغير في الاتجاهات الاقتصادية للمجتمع.

ولقد سبق لي أن قلت: إن هذا التغير أصعب عملية عرفها التاريخ الاجتماعي، وهو يستلزم منتهى الحذر والمهارة. وهو يثير أعمق مشاعر الرجال، وهو يغوص إلى أعمق أعماق عاداتهم وشعورهم بالأمان. وتحقيق التغير بطريقة سلمية يتطلب — في فترة الأزمة — تغليب العقل على العاطفة. وليس هناك تجربة أشد من هذه التجربة في تاريخ الجنس البشري. وليس من المحتمل أن تكون هذه تجربتنا؛ حيث إن الشيء الذي يتأثر بالتغير هو العامل الأساسي في جميع العلاقات الاجتماعية، وإن التطور السلمي للأنظمة يتطلب — من أجل تحقيقه — أن يتفق الناس حول الأهداف التي يجب أن يتطلعوا إليها، والتضامن هو أساس ذلك الاتفاق. ويجب ألا يكون الاتفاق مجرد شيء لفظي؛ إذ يجب أن يتحقق كل يوم في حياة الرجال العاديين والنساء العاديات. إن الدلائل التي تحيط بنا من كل مكان لتشير إلى أن هذا الاتفاق لم يعد ممكنًا. لقد دخلنا في تاريخنا إحدى هذه الفترات الحرجة التي يتحتم علينا إزاءها أن نعيد تحديد الأهداف الأساسية لسياستنا الاجتماعية. إن تقاليد الماضي المتوارثة تنهار أمام عيوننا، وبانهيارها نواجه تحديًا لا مهرب منه يتهدد العلاقات الاجتماعية التي كانت أساسًا لهذه التقاليد المتوارثة.

لقد مر التاريخ الحديث بفترتين متشابهتين، اضطر فيهما الجنس البشري إلى مواجهة خطر مماثل. لقد حطم عهد الإصلاح فكرة المجتمع المسيحي الموحد (وهي الفكرة التي ظهرت في العصور الوسطى)، وباندثار هذه الفكرة حلت الفكرة الدنيوية للمجتمع محل الفكرة الدينية. وكان هذا التغير انعكاسًا لنظام طبقي جاء نتيجة لعجز النظام الإقطاعي عن الاعتراف بالقوى الإنتاجية الكامنة في المجتمع، وأتاح عهد الإصلاح للطبقة البرجوازية ركيزة داخل حدود النظام السياسي الجديد الذي قدم بقدوم عهد الإصلاح، غير أن تحقيق أهدافها لم يكن كاملًا. وفي أواخر القرن الثامن عشر ظهرت هذه الحركة الضخمة التي نوجز ذكرها تحت عنوان الثورة الفرنسية، وساعدت هذه الحركة الطبقة المتوسطة في استكمال إجراءات تحريرها. وفي كل حالة من هذه الحالات أثرت الاحتياجات الاقتصادية الجديدة على القيم الاجتماعية. وفي كل حالة من هذه الحالات كان الصراع العنيف، بين القديم والحديث، الثمنَ الذي يُدفع لقاء المجهود المبذول. لقد مر النظام، الذي نُعتبر نحن جزءًا منه، بفترة استغرقت ثلاثة قرون، ليحرر نفسه تحريرًا كاملًا من أساليب الماضي.

وفي مقدورنا أن نلمس الآن، مرة أخرى، تباشير نظام جديد، ومرة أخرى يتعارض النظام الاقتصادي مع الأشكال السياسية التي يعيش في ظلها، ومرة أخرى كذلك يبدأ الصراع بين حقائق الحاضر وآراء الماضي، هذا الصراع الذي يتطلب دائمًا إعادة تشكيل مبادئ الحكم.

وإزاء هذا النوع من المواقف يصبح واجب الفلسفة السياسية الأول دراسة طابع السياسة من حيث وقعها الملموس، لا من حيث فكرتها النظرية. فطبيعة الدولة تكمن فيما تفعله حقًّا لا فيما تدعي أنها تفعله، لقد كان من عادة الفلسفة السياسية — حتى الوقت الحاضر — أن تبرر بدلًا من أن تفسر، كما كان من عادتها أن تحمي الماضي بدلًا من أن تفتح المجال أمام تحرير المستقبل. ويجب أن تبدأ النظرية السياسية الملائمة من الأسس، فتنادي بتعارض الدولة ذات السيادة مع النظام الاقتصادي العالمي الذي تحتاج إليه، كما يجب أن نوضح أن الدولة — قبل كل شيء — تعتبر راعية للعلاقات الطبقية التي تحرمنا من المدنية الأكثر ثراء، تلك المدنية التي كان من الممكن أن نتمتع بها.

إن إماطة اللثام عن هذه الحقيقة وجعلها أمرًا حاسمًا يتطلب جهدًا طويلًا شاقًّا، وجميع التنظيمات التي تمتعت بماضٍ مجيد تستطيع حتى في تدهورها أن تؤخر موعد ظهور التنظيمات الجديدة. لقد اعتدنا على هذه التنظيمات القديمة حتى صارت سجنًا مألوفًا، بل وعزيزًا يفضل ارتباطه بتاريخ العمر. ويخيل لمعظمنا ونحن نمكث في داخل هذا السجن أن النظر خارج نوافذه غامض يدعو إلى الشك، ويتطلب الجهود المضنية ونحن نزن، في قلقٍ، ثمنَ الهرب من أسوار السجن، دون أن تكون لدينا الشجاعة الكافية للهرب. غير أن بذل المجهود هو الذي يجعلنا نتقدم آملين. وبغير هذه الطريقة لا نستطيع أن نضيف للمغامرة الإنسانية وقارها الخلاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤