مقدمة

في بداية القرن العشرين، لاحظ عالِمُ الرياضيات العظيم ديفيد هيلبرت أن عددًا من البراهين الرياضية المهمَّة مُتشابهُ التركيب. وفي الواقع، أدرك هيلبرت أنه عند مستوًى مناسبٍ من التعميم يمكن اعتبارُها هي نفسها. نتجَ عن هذه الملاحظة — وغيرِها من مُلاحظاتٍ مُشابهة — فرعٌ جديد في الرياضيات، سُمِّيَ أحدُ مفاهيمه الرئيسية باسم هيلبرت. إن المفهوم الرياضيَّ لفراغ هيلبرت يُلقي الضوء على جوانبَ كثيرة من الرياضيات الحديثة؛ بدءًا من نظرية الأعداد وحتى ميكانيكا الكَمِّ، حتى إنك إذا كنتَ لا تعرف على الأقل مبادئَ نظرية فراغ هيلبرت، فلا يُمكنك أن تدَّعيَ أنك عالِم رياضياتٍ ضليع.

إذن ما فراغ هيلبرت؟ في المقرَّر النموذجي للرياضيات الجامعية يُعَرَّف فراغ هيلبرت بأنه فراغُ حاصلِ ضربٍ داخلي تام. ويُتوقَّع من الطلاب الذين يَدرُسون هذا المقرر أن يعرفوا من مقرَّراتٍ سابقة أن فراغَ حاصلِ الضرب الداخلي هو فراغُ متَّجهاتٍ مكتوبٌ بصيغةِ حاصلِ ضرب داخلي، وأن الفراغ يكون تامًّا إذا كانت كلُّ مُتتابعةٍ لكوشي في الفراغ تقارُبية. وبالطبع حتى تكونَ هذه التعريفات ذاتَ معنًى، فإن الطلاب بحاجةٍ أيضًا إلى أن يعرفوا ما يَعنيه فراغُ المتَّجهات وحاصلُ الضرب الداخلي، ومُتتابعةُ كوشي، والتقارُب. ولإعطاء مثالٍ واحد منها (ليس أطوَلَها): متتابعة كوشي هي متتابعة حيث يُوجَد لكلِّ عددٍ موجب عددٌ صحيح ؛ بحيث إنه لأيِّ عددَين صحيحَين و أكبرُ من تكون المسافةُ من إلى هي على الأكثر.

باختصار، لكي تأمُلَ في فَهم المقصود بفراغ هيلبرت؛ ينبغي لك أن تتعلمَ وتستوعب تسلسُلًا كاملًا من المفاهيم الأدنى مُستوًى أولًا. ولا عجَب في أن الأمر يستغرقُ وقتًا ومجهودًا. ولأن الأمر نفسَه ينطبق على عددٍ كبير من أهم الأفكار الرياضية، فإنه تُوجَد حدودٌ صارمة لما نستطيع إنجازَه من خلال أي كتابٍ يحاول تقديمَ مقدمة سهلة ومُستساغة إلى الرياضيات، لا سيَّما إذا كانت المقدمةُ قصيرةً جدًّا.

وبدلًا من محاولة إيجاد طرقٍ ماهرة للتحايُل على هذه الصعوبة؛ فقد ركَّزتُ على عائقٍ آخرَ أمام إيصالِ المفاهيم الرياضية. هذه الصعوبة فلسفيةٌ أكثرُ منها تِقنية، وهي تُفرِّق بين مَنْ هم راضون بمفهومٍ مثل اللانهاية والجَذْر التربيعي لسالب واحد والبُعد السادس والعشرين والفراغ المنحني، ومَنْ يَجدونها مفاهيمَ مُتناقضةً على نحوٍ مُشوَّش. ومن الممكن أن يَقنَع المرءُ بهذه الأفكار، دون التعمُّق في التفاصيل التقنية، وهذا ما سأُحاول توضيحَ كيفيته.

وإذا جاز القولُ إن لهذا الكتاب رسالةً، فرسالتُه هي ضرورةُ أن يتعلم المرءُ التفكيرَ المجرد؛ لأن كثيرًا من الصِّعاب سوف تختفي ببساطةٍ عند فِعل ذلك. وسوف أشرح بالتفصيل ما الذي أَعنيه بالطريقة المجردة في الفصل الثاني. يهتمُّ الفصل الأول بأنواعٍ أكثرَ أُلفةً وترابطًا من التجريد: عملية استخلاص السِّمات الأساسية من المسائل المُستقاة من الواقع، ومن ثَم تحويلها إلى مسائلَ رياضية. في هذَين الفصلَين والفصلِ الثالث أُناقش المقصودَ بالبرهان الدقيق في الرياضيَّات عمومًا.

سأُناقش بعد ذلك موضوعاتٍ أكثرَ تحديدًا. أما الفصل الأخير، فهو يُعْنى بعلماء الرياضيات أكثرَ من الرياضياتِ نفسِها، ومن ثَم فطابَعُه مختلفٌ إلى حدٍّ ما عن الفصول الأخرى. أُوصي بقراءة الفصل الثاني قبل قراءة أيِّ فصلٍ من الفصول اللاحِقة، ولكن بصرف النظر عن ذلك فإن الكتاب قد نُظِّم بطريقةٍ غير مُتدرِّجة كلما أمكنَ ذلك، ولا أفترض، بالاقتراب من نهاية الكتاب، أن يستوعبَ القارئُ ويتذكَّر كلَّ ما وردَ ذِكره سابقًا.

يلزم لقراءة هذا الكتاب الإلمامُ بقدرٍ ضئيل من المعلومات المستقاة من مراحلَ تعليميةٍ سابقة (يمكن الاكتفاءُ بالثانوية أو ما يُكافئها)، ولن أُحاول جذْبَ انتباهِ القارئ؛ لأنني سأفترض ضمنًا أنه مُهتم.

ولهذا السبب؛ لم أتطرَّق في الكتاب إلى سردِ حكاياتٍ مُسلِّية أو الاستعانة برسومٍ كاريكاتورية أو جُملٍ إنشائية، أو الإتيانِ بعناوينَ هزلية للفصول، أو استخدامِ صورٍ من مجموعات ماندلبرو. وتجنَّبتُ أيضًا موضوعاتٍ مثلَ نظرية الفوضى ونظريةِ جودل، اللتَين تستحوذان على خيال العامَّة بما لا يتناسبُ مع تأثيرهما الضئيل على الأبحاث الرياضية الحاليَّة. على أي حالٍ فقد عُولِجَت هذه الموضوعاتُ جيدًا في كتبٍ أُخرى كثيرة. وبدلًا من ذلك، تناولتُ عددًا من الموضوعات البسيطة، وناقشتُها بالتفصيل؛ لتوضيح كيف يمكن فهمُها بطريقةٍ أدَق. وبعبارةٍ أخرى، قصدتُ إلى التعمُّق بدلًا من العرض بسطحية، وحاولتُ جاهدًا أن أنقل جاذبيةَ الرياضيات السائدة بِجَعْلِها تتكلم عن نفسها.

أودُّ أن أشكر لمعهد كلاي للرياضيات وجامعة برنستون دعْمَهما وضيافتَهما لي أثناء مرحلةٍ من تأليف الكتاب. وإنني لَممتنٌّ جدًّا لجلبرت أدير، وربيكا جاورز، وإميلي جاورز، وباتريك جاورز، وجوشوا كاتز، وإدموند توماس؛ لقراءتهم المسوَّداتِ الأولى. ومع أنهم على قدرٍ كبير من الذكاء وسَعة الاطلاع لا يجعلهم في مصاف عموم القراء؛ فقد أكَّد لي ذلك على الأقل أن ما كتبتُه مفهومٌ لغير الرياضيِّين. وقد أثمرَت تعليقاتُهم كثيرًا من التحسينات. وإنني لأُهدي هذا الكتابَ إلى إميلي؛ على أملِ أن يُعطيها فكرةً بسيطة عما أفعله طَوال اليوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤