مقدمة في أهداف التربية العربية القومية

قامت الحضارة الإسلامية بالأمس بأيدي العرب؛ فهي حضارة عربية في جذورها وأصولها، وقد عاون العربَ في تكوين تلك الحضارة جماهيرُ متعددة الأعراق متباينة الأجناس منها الآري، ومنها السامي، ومنها المغولي، ولكن الطابع الواضح لذلك المزاج كله هو الطابع العربي بعنصرَيه الرئيسيين: اللغة والدين؛ فطبيعي إذنْ أن لا نسمِّيَ تلك الحضارة إلا «حضارة عربية».

ويمتد عهد الحضارة العربية من فجر تاريخ الدول المتحضرة في جنوبي الجزيرة العربية وشماليها منذ الألف الثالث قبل الميلاد إلى أيامنا هذه، وقد ظلت أمم الفرس والترك والكرد والروم والمغول والهند والزنج والقوط والبربر، منذ أن دخل فيهم الإسلام إلى ما بعد سقوط الدولة العباسية، وهي تعمل في خدمة ركب الحضارة العربية. ومما لا ريب فيه أنها قد أدَّت لهذه الحضارة فوائد جليلة في كافة الفروع التي تتكون منها حضارتنا من فلسفة وعلم وتربية وفن وسياسة … فقد تفانى هؤلاء الأقوام جميعًا في تكوين ذلك البناء الرفيع الممتاز.

ولقد زعم شعوبيو الأمس واليوم من أعداء القومية العربية أن نصيب العرب من هذه الحضارة هو جزء يسير جدًّا، بل هو جزء لا يكاد يُذكر بالنسبة إلى ما قام به أبناء الأمم المفتوحة، فإن العرب قبل أن يتصلوا بتلك الأمم المفتوحة كانوا يعيشون في جهالة جهلاء، يأكلون الضباب، ويلبسون خشن الثياب، وأنهم قوم لا أخلاق لهم، ولا دين يردعهم، ولا مبادئ سامية إلى الكمال تحضهم، فلما جاء الإسلام اتبعه قوم فانصلحت أحوالهم، وأسلم له آخرون لم يلبثوا أن ارتدوا عنه بعد وفاة الرسول الكريم، وكانت الردة ردتين؛ إحداهن شكلية رجعوا عنها أيام أبي بكر الصديق، والأخرى حقيقية ظلت بعده، وظهرت آثارها في الفتن والحروب الداخلية العديدة التي قامت بينهم منذ مقتل عمر بن الخطاب إلى أن قضى المغول على ملكهم يوم احتلوا بغداد وقضَوْا على الملك العربي، ولم يرتفع للعرب منذ ذلك اليوم صوت إلا في أواخر عهد الخلافة العثمانية التركية حين شاخت دولتها، وحين دفعهم بعض أعدائها من الفرنسيين والإنكليز للوثوب عليها، فقام زعيمهم شريف مكة الحسين بن علي الهاشمي بثورته في الحجاز والشام، وكان من أمر هذه الثورة ما كان.

هذا ما يقوله أعداء العروبة وخصوم الإسلام، بل جُهَّال الحقيقة والتاريخ، ولئن كان هؤلاء الضالون قليلين في القديم، أو إنهم كانوا كثرة، ولكنهم لم يكونوا يجرءون على رفع عقائرهم بالأمس خوفًا من العرب الأقوياء الأعزة، فإنهم في أيامنا هذه كثيرون.

إن أعداء القومية العربية وخصومها الذين ينتقصون العرب اليوم هم واحد من ثلاثة: إما صهيوني مجرم يكره العرب ويعمل على تثبيت أقدام اليهود في فلسطين، وتوطيد دولة إسرائيل الظالمة التي أخرجت العرب من ديارهم وانتهكت حرماتهم، وداست مقدساتهم وملكت أراضيَهم وبيوتهم بالباطل والعدوان؛ وإما عميل خاسر من عملاء الأجانب وجواسيس الاستعمار ممَّن لهم مصالح استعمارية في ديار العرب، أو ممَّن يطمعون في السيطرة على جزء من ديارهم؛ وإما شعوبي ضال ملأ الحقد صدره وران الضلال على قلبه، فأخذ يلصق التهم الباطلة بالعرب وينقب مساوئهم وعيوبهم — وفي كل أمة مساوئ وعيوب — ويعمل على نشرها بين الناس لإيقاع الفتنة وبث الفساد.

هؤلاء هم أعداء القومية العربية اليوم، ولم يكن أعداؤها بالأمس البعيد إلا من هذا النمط؛ فقد كانوا أيضًا واحدًا من ثلاثة:

إما مجوسي حانق على العرب لقضائهم على دولة الأكاسرة وتحطيمهم لغتهم وهدمهم دينهم، وإحلال العربية والإسلام محلهما.

وإما مغولي أو رومي نفخ الشيطان فيه الغرور، ووسوس في صدره إبليس فزعم له أن هؤلاء العرب الذين احتلوا دياره، وقضَوْا على مملكته وفرضوا عليه دينهم ولغتهم وتقاليدهم وآدابهم ليسوا خيرًا منه، ولا لهم من الماضي والقوة ما له.

وإما عربي ملحد استهواه الكفرة بقوميته، وضحك عليه الهازئون بدينه، فاتبع أهواءهم وضل ضلالهم زاعمًا أنه حر الفكر واسع النظر، فأخذ يعمل وإياهم على هدم الإسلام والعروبة عن طريق انتقاص قومه والطعن في دينه، وهو يظن أنه يُحسن صنعًا.

هؤلاء هم شعوبيو الأمس الذين كان يمثلهم الحسن الأصفهاني وأبو الريحان البيروني وابن الراوندي والحسن الصباح والفردوسي، وغيرهم من القدماء الذين مجَّدوا الشعوبية، وألفوا في انتقاص العرب. وأما شعوبيو اليوم فهم نفر من مؤلفي الغربيين، وعلى رأسهم كثرة من المستشرقين ونفر من كُتَّاب العرب ومحرري بعض الصحف، ورجال السياسة والمعارف، وبعض الشبان الأغرار الذين استهوتهم أباطيل هؤلاء جميعًا.

وإنه لمن المؤسف المؤلم أن يكون عددهم بيننا أضحى يزداد يومًا بعد يوم لغزو المؤلفات الغربية ديارنا بكثرة، ولانحطاط الأخلاق المستمر وتدهور الوازع الديني، وفُشُوِّ الرجعية العقلية، وانعدام المناهج التربوية المفيدة التي تعتمد على خلق الروح القومية في الشاب العربي المسلم.

ونحن نرى أن النقطة التي يجب على القوميين العرب الاهتمام بها في هذه الآونة من تاريخنا، للتخلص من ربقة الذل، وطرد المستعمر المسيطر على بعض ديار العروبة من المحيط الأطلسي إلى الخليج الفارسي، بعد الاستعداد العسكري الكامل؛ هي دراسة أسس التربية العربية القومية والإسلامية، وبحثها من جديد للعمل على خلق جيل صالح مؤمن خير من هذا الجيل الحاضر المنحل في علمه ودينه وخلقه، وعلى قواعد علمية متينة.

فما هي هذه الأسس؟ وما هي تلك القواعد؟ وأين يجب البحث عنها للتعرف على أسرار التربية النفسية التي بها قامت الدولة العربية، وعلى مناهجها شيدت الحضارة الإسلامية؟

لقد فكرت في هذا الأمر طويلًا، واهتممت بالبحث فيه منذ زمن بعيد، وعُنيت بدراسة التربية العربية وقواعدها وأسسها؛ تلك التربية التي ساهمت مساهمة فعالة في بناء الحضارة العربية، والتي تعتبر بحقٍّ نقطة تطور هامة في تاريخ التربية في العالم. وقد ألفت في ذلك رسالتي التي قدمتها إلى السربون في فرنسة لنيل شهادة الدكتوراه في سنة ١٩٣٩م، وأنا منذ ذلك الحين أبحث وأدرس، وأدأب على التنقيب عن المناهج التربوية القويمة التي سار عليها العرب في خلق أطفالهم وتكوين شبانهم، وإنشاء رجالهم وتثقيف بناتهم، حتى استطاعوا أن يخلقوا تلك الحضارة العربية الخالدة.

لقد كتب في هذه الموضوع جمهرة من علمائنا القدامى الأفذاذ، وبحثوا فيه بحوثًا مفيدة لا تقل عن بحوثهم في سائر فروع العلم، أمثال: الإمام محمد بن سحفون، والقابسي، وابن العربي، وابن سينا، وابن رشد، والغزالي، وابن خلدون، والعلموي، والزرنوحي، وغيرهم ممن لا مجال للبحث عنهم وعرض بحوثهم هنا.

أما البحَّاثون المحدثون من أبناء الضاد فلم يؤتُوا هذا البحث صفة من العناية، ولم أرَ حتى الآن أحدًا من رجالات العرب وعلمائهم القوميين الصادقين اهتم بهذا الأمر ووفَّاه ما يستحق من جهد.

وأما البحَّاثون من المستشرقين، والغربيين بصورة عامة، ممَّن عُنُوا بهذه النواحي، فإنهم على قِلتهم أصحاب أغراض — في الغالب — يدسون السم في الدسم، ومهما يزعموا من أنهم مخلصون في أبحاثهم، وأنهم يكتبون ما يكتبون بروح علمية خالصة، فإنهم غير صادقين، اللهم إلا نفرًا قليلًا منهم يُعد على أصابع اليد الواحدة.

ثم إن فيما خلف لنا آباؤنا من تراث علمي في بحوث التربية، التي نُشر قسم قليل جدًّا منها، والتي ما يزال أكثرها مخطوطًا ينتظر الناشر؛ لَنظرياتٍ وبحوثًا وآراءً يجدر بالباحثين درسها ومناقشتها والوقوف عندها طويلًا للإفادة منها في توجيه حركاتنا الثقافية والعلمية والتربوية، والاهتداء بنورها في نهضتنا العربية المتوخَّاة، فإن أمةً استطاعت أن تخرج من جزيرتها وتسيطر على العالم المتمدن إذ ذاك، وتفرض عليه لغتها ودينها وقوانينها، وتطبعه بطابعها لَأمة جديرة بالبحث. ولا شك في أنه قد كانت لها أساليب ومناهج تربوية صالحة استطاعت بها أن تخلق أجيالًا صالحة تبدع ذلك الإبداع الذي خلفته في آثارها في السياسة والتشريع والعلم والفن والعمران.

إن الإمبراطورية التي شادها أسلافنا العرب بحضارتها وآثارها الباقية لم تكن أمرًا مرتجلًا، ولا أخبارها ملفقة مكذوبة، بل هي حقائق ثابتة تتبعت سنن النشوء والارتقاء، وسار عليها العرب متدرجين منذ أقصى عصور التاريخ حتى وصلوا إليها في فجر الإسلام، وإن تلك النهضة التي ظهرت يوم قيام الرسول الكريم كانت نتيجة طبيعية لحركات حضارية سابقة، ونتيجة لمقدمات حضارية متسقة تعتمد على التربية والأسس العلمية التي تدرَّج عليها العرب في دولهم قبل الإسلام. فلما جاء الإسلام اشتد ساعدها، واكتملت مقوماتها فوزعوها على العالم، وفرضوها على سكان إمبراطوريتهم المترامية الأطراف، فقبلها سكان تلك الديار طواعية لما اعتنقوا الدين الجديد، فما هي تلك التربية؟ وما هي أسسها؟ وما هي الأدوار الرئيسية التي مرَّت بها؟

إن تلك التربية التي قامت بها حضارتنا العربية هي تربية كانت تعتمد على المواطن المتعلم المؤمن القوي المهذب المضحي. أما أسسها فثلاثة، وهي: التعاون، والحرية، والمساواة.

ولقد مرت هذه التربية في أدوار أربعة رئيسية اكتملت في الدورين الأولين تمامًا، وآتت ثمرتها في الدورين الأخيرين.

الدور الأول

أما الدور الأول فهو دور الفترة التاريخية الطويلة التي قضتها الأمة العربية في جزيرتها قبل الإسلام، وقبل أن تتصل اتصالًا قويًّا بالشعوب الأخرى كما حصل فيما بعد الإسلام. فقد قامت لعرب الجزيرة جنوبًا في اليمن حضارة قديمة عريقة كما قامت لعرب الشمال حضارة خالدة فاضلة، ولكلتا الحضارتين تاريخ لامع وآثار شاهدة، مما لا مجال لإفاضة الحديث عنه ها هنا. أما سكان وسط الجزيرة في الحجاز ونجْد، فقد كانت لهم حضارة أيضًا، وكانوا ضاربين بسهم غير قليل في الحياة الراقية التي لا تقل عن حضارة عرب الشمال وعرب الجنوب؛ ففي هذا الإقليم الوسط تقوم الكعبة التي تهوي إليها قلوب العرب أجمعين، والتي هي موضع عزهم، ومن هذا الإقليم أيضًا مكة أم القرى ومسكن قريش سيدة القبائل العربية وأعزها سلطانًا في الدين والدنيا، وفيه أيضًا يثرب أخصب أراضي ذلك الإقليم وأطيبها تربة وأعمرها بقعة، وفيه أيضًا الطائف مدينة العلم والنشاط الفكري والتجارة، وفيها أفصح القبائل العربية وأكثرها حكمة، وفيه أجلُّ أسواق الجزيرة العربية: عكاظ، ومجنة، وذي المجاز. وهذا القسم الأوسط من الجزيرة ممتاز عن القسمين الشمالي والجنوبي بأنه عربي بحت، لم تطأْه قدم محتل أجنبي ولا تسلط عليه إنسان غير عربي، بخلاف الشمال والجنوب؛ فالحجاز — وما إليه — بلد عربي عريق في عروبته، عريق في استقلاله وسيادته منذ أقدم العصور لمكانه الحصين، وحرمته المقدسة، وصموده أمام النكبات، وما ذلك إلا لمكانة مكة المقدسة وسيطرة قريش العزيزة.

وأترك الحديث عن حضارة العرب في الشمال والجنوب؛ فإن تاريخهم معروف وآثارهم في مجالَي التعليم والتربية والتقدم العلمي مبسوطة مقررة، وقد أُلفت في أخبارهم كتبًا جليلة، وبُحثت أحوالهم في دراسات مفصَّلة، وإنما أريد أن أقف وقفة قصيرة أمام عرب الوسط الذين غمطهم المؤرخون حقهم، وأهملوا البحث عنهم جهلًا أو تجاهلًا، ولا أريد أن أفصل البحث في تاريخهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي؛ فإن هذا ليس مجال البحث فيه،١ وإنما أريد أن أُبيِّن شيئًا عن التقدم العلمي والحياة العقلية الراقية، والتربية النفسية الصحيحة التي كان عليها عرب الوسط في ذلك الحين، وبخاصة قبل ظهور الإسلام.

إن الكُتَّاب الذين بحثوا في تاريخ الحركات العقلية والتربوية عند العرب في الجزيرة قبل الإسلام أهملوا الكلام عن هذا الأمر لاعتقادهم بأن العرب قبل ظهور النبي العربي العظيم لم يكونوا شيئًا مذكورًا. وهؤلاء الكُتَّاب إما مسلمون أو غير مسلمين. فالمسلمون إنما كتبوا ذلك ليصوِّروا أن العرب قبل الإسلام كانوا غارقين في الجهالة، فلما جاء الإسلام أنقذهم من جهالتهم، وقاموا بتلك الأعمال الجبارة بفضل الله ناسين أن لله سبحانه قوانين وسننًا لا تُنقض. وأما غير المسلمين فإنما كتبوا ما كتبوا محتجين بأنه لم يصلنا عن عرب الحجاز ووسط الجزيرة العربية كله أي أثر علمي مكتوب، كما أنه لم تُجرَ حتى الآن دراسات أركيولوجية وأتنوغرافية وفيلولوجية صحيحة تُثبت أن عرب الوسط كانت لهم حضارات، وأن ما نُقل إلينا عنهم لا يتجاوز شيئًا من الشعر والنثر، على ما فيه من منحول ومدسوس، وأن ذلك لا يقوم حجة قوية على وجود حضارة عريقة، ثم إن ما نقله الرواة إلينا من تاريخ ما قبل الإسلام مملوء بالخرافات والأساطير التي لا تعتمد على أساس علمي صحيح.

وكلا هذين الفريقين من الكُتَّاب المسلمين وغير المسلمين مغرض يحاول طمس الحقيقة، إما عن عجز وإما عن جهل؛ فقد كانت للقوم حضارة، وكانت لهم آداب، وكانت لهم أنظمة تربوية، فإن ذلك العمل الجبار الذي قاموا به — بعد الإسلام — لَيدل على ما ذهبنا إليه، وتثبت البحوث الأركيولوجية، والدراسات الفيلولوجية والأتنولوجية صدق ما نذهب إليه؛ فيجب على هؤلاء الكُتَّاب أن يتريثوا حتى توجد هذه البحوث فيُصدروا أحكامهم بعدئذٍ.

وأرى الآن قبل أن توجد هذه البحوث والدراسات العلمية الاكتفاء ببعض المصارد والأدلة الثابتة التي لا يأتيها الباطل في دراسة أحوالهم. وفي طليعة هذه المصادر القرآنُ الكريم؛ فهو خير ما يمكن الاعتماد عليه لتبيين الحياة العقلية قبل البعثة المحمدية، كما أنه لا مانع من أن يُستعان بشعر ما قبل الإسلام وما بعده لأنه قوي الارتباط ﺑ «الجاهلية»، معتمد على ثقافتها، قائم بمقوماتها. ونحن إذا درسنا القرآن والشعر دراسة علمية عميقة، نجد أن العقلية العربية قبل الإسلام كانت عقلية راقية ذات ثقافة حسنة، وأنها لم تكن تستحق أصلًا أن توصف بالجهالة أو يطلق عليها اسم «الجاهلية»، وأن ناسها كانوا ناسًا ضاربين بسهم وافر في الحضارة والعلم والحكمة والمعرفة بصورة عامة، ويمكنني إجمال ذلك في النقاط الآتية:
  • أولًا: نظراتهم إلى الألوهية وما يتعلق بها؛ فإنهم كانوا قومًا مؤمنين بإلهٍ واحد قاهر نافع ضار، ولكنهم كانوا يشركون به، كما كان يشرك السومريون والمصريون واليونان والآشوريون فيعبدون آلهة متعددين شاركوا الإله الأعظم في ألوهيته. وقد اختلف العرب في هؤلاء الشركاء اختلاف تلك الأمم، فبعضهم جعل شركاءه الملائكة، وبعضهم جعلهم الشياطين والمردة، وبعضهم جعلهم الشمس والقمر والكواكب، وبعضهم جعلهم الأصنام والتماثيل. ولم يكن العرب متساوين في شِركهم؛ فقد كان للعقلاء والخاصة اعتقاد يخالف اعتقاد العامة والبدو؛ فالأولون كانوا يعتقدون بأن الله هو المعبود وأن شركاءه ليسوا إلا وسائط بينهم وبينه، والعامة يعتقدون غير ذلك.

    ومهما يكن من أمر فإنهم لم يكونوا غارقين في جهالة وحمق وضلالة من حيث نظرتهم إلى الخالق الأعظم، وهذا يدل على سموهم الفكري وتقدمهم في بحث فكرة الألوهية.

  • ثانيًا: تفوُّقهم اللغوي العجيب؛ فإن من يدرس لغتهم بنحوها وصرفها واشتقاقاتها وعَروضها وفنونها البلاغية، يرى أنهم قد بلغوا درجة رفيعة في الرُّقي اللغوي. وكلنا يعرف أن اللغة العربية هي إحدى اللغات التي سمَّوْها «سامية»، وأنه على الرغم من أن هذه اللغات كلها قد تولدت من أم واحدة في عصور متباعدة، فإنها تختلف اختلافًا كبيرًا فيما بينها، كما تختلف رقيًّا وفصاحة، ولا ريب في أن أخصها وأرقاها هي اللغة العربية كما تشهد بذلك أبحاث العلماء اللسانيين.

    ثم إن أقدم النصوص العربية الفصيحة التي عُثر عليها ترجع إلى فترة تمتد من القرن الثالث إلى القرن الخامس للميلاد، وهذه النصوص هي الشعر «الجاهلي»، والحكم «الجاهلية». ولكن من يدقق في هذه النصوص يجدها كاملة مهذبة، ذات نحو متسق، وصرف منتظم، وقواعد عَروضية وبيانية وشعرية راقية؛ فلا شك إذنْ في أن العربية قد مرت قبل ذلك بأدوار وأطوار حتى بلغت هذا الكمال والاتساق في القرن الثالث الميلادي، ولا شك أيضًا في أن هذا الكمال والرقي اللغوي والأدبي دليل على الرقي العقلي والثقافي.

  • ثالثًا: رقي مستواهم العلمي والأدبي، وعدم صحة النظرية الشائعة القائلة بأنهم كانوا أمة أمية منحطة، وأنهم جماعات بداة حفاة، وأقوام قساة عتاة، يعيشون في الصحراء أو شبه الصحراء، وأنهم قوم لا حضارة لهم، ولا مدنية عندهم، وأن غاية ما لهم من المعرفة هو بعض الأقوال المنظومة أو المنثورة التي صُقلت بعد الإسلام وكثير منها منحول مدسوس، وأن الجهل والأمية كانا متفشيين بينهم، وأن الإسلام لما جاء لم يكن بينهم في مكة — وهي عاصمتهم الكبرى — إلا سبعة عشر كاتبًا، وأن اليمن كلها لم يكن فيها كاتب واحد.٢
وهذه الأقوال على الرغم من تناقضها وتهافُتها لا تستند إلى حقيقة علمية، ولا تثبت أمام المناقشة المنطقية؛ فلا يُعقل أصلًا أن يكون في العرب فصحاء وخطباء وشعراء إذا لم يكن فيهم عدد كبير من الكُتَّاب المثقفين ذوي المستوى العلمي الحسن، والتفكير المنطقي المعقول، والذوق الفني الراقي. ثم إن القول بأميتهم قول خاطئ لا ينطبق على الواقع وتنقضه نصوص موثقة قديمة وأدلة علمية حديثة. أما النصوص القديمة فأجلُّها القرآن؛ فإن ما فيه من الآيات الكثيرة التي تذكر الكتاب والكتابة، وأدوات الكتابة، والصحف والسجل، والمِداد، والقلم، وما إلى ذلك مما يتعلق بالخط والأقلام لَدليل على ما نقول، حتى إن الأستاذ الفاضل عزة دروزة قد أحصى كلمات الكتابة ومشتقاتها في القرآن فوجدها تسعين كلمة ونيفًا بأساليب متنوعة. وقد علَّق على هذا الإحصاء بقوله: «فورود هذه الآيات الكثيرة في القرآن تحتوي أسماء وسائل وأدوات الكتابة والقراءة، وتحتفي بالقراءة والكتابة هذه الحفاوة الكبيرة دليل راهن على أن العرب في بيئة النبي وعصره قد عرفوا تلك الوسائل واستعملوها، وعلى أن القراءة والكتابة فيهم كانتا منتشرتين في نطاق غير ضيق …»٣

وأما الأدلة العلمية الحديثة، فقد بحثها مطولًا المستشرق الإيطالي الأمير كايتاني في الفصل الرائع الذي كتبه عن نشأة الخط العربي، وأثبت فيه بالأدلة العلمية المادية والاكتشافات النقشية والوثائق الخطية التي عُثر عليها في الشام والجزيرة العربية؛ أن الخط العربي قديم الوضع، وأن الكتابة العربية كانت ذائعة في الجزيرة ومشارف الشام قبل البعثة النبوية. ثم إن كثرة وجود أهل الكتاب في الحجاز ومشارف الشام من يهود ونصارى وصلتهم القوية بالعرب لَتجعل العرب من متهودين ومتنصرين يفيدون من إخوانهم في الدين أو جيرانهم في الدار فيتعلمون الكتابة والقراءة، حتى كتابة غير العربية وقراءتها من سريانية وعبرانية وكلدانية. وقصة أمر النبي لكاتبه زيد بن ثابت أن يتعلم العبرانية كما روى البخاري، قصة معروفة معقولة تدل على ما ذهبنا إليه … فهذا كله يدل على خطأ النظرية القائلة بأمية العرب وأن كُتَّاب مكة — وهي أكبر مدنهم — لم يكونوا يتجاوزون عدد الأصابع.

ثم إنه لا شك عندي في أن الكتاتيب ودور التعليم كانت معروفة في الجاهلية؛ فالمؤرخون يؤكدون أن يوسف الثقفي أبا الحجاج كان يعلِّم في كتَّاب له بالطائف، وأن أبا قيس بن عبد مناف بن زهرة، وأبا سفيان بن أمية بن عبد شمس قد علَّمهما بشر بن عبد الملك العبادي فكانا؛ يعلِّمان أهل مكة. ولا شك في أن هؤلاء المعلمين في الجاهلية لم يكونوا وحدهم يقومون بذلك العمل الثقافي، بل كان هناك معلمون آخرون.

وينقل السيد عبد الحي الكتاني عن الماوردي في «أدب الدنيا والدين» عن ابن قتيبة أن العرب كانت تعظم أمر الخط وتعده أجلَّ نافع، حتى قال عكرمة: «بلغ فداء أهل مكة أربعة آلاف حتى إن الرجل ليفادى على أنه يعلِّم الخط، لما هو مستقر في نفوسهم من عظيم خطره وظهور نفعه. وقال الله لنبيه: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، فوصف نفسه بأنه علَّم بالقلم كما وصف نفسه بالكرم، وعدَّ ذلك من نعمه العظام وآياته الجسام حتى أقسم به في كتابه فقال: ن ۚ وَالْقَلَمِ فأقسم بالقلم وما يخط بالقلم، وهذا يُبطل ما قاله ابن خلدون عن جهلهم بالخط، فإن عكرمة كان يتكلم عن مشاهدة وابن خلدون قال ما قال عن تخمين …»٤ هذا ما قاله الكتاني، وهو في قوله يشير إلى ما قاله ابن خلدون في المقدمة من أن الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية، وأن العرب كانوا بعيدين عنها لأنهم كانوا بداة بعيدين عن الحضارة غير مجيدين لها، شأن الصنائع إذا وقعت بالبدو قلما تكون محكمة المذاهب ولا مائلة إلى الإتقان والتنميق،٥ إلى آخر ذلك الكلام الطويل الغريب المبني على التخمين والزعم، البعيد عن البحث العلمي الصحيح.
هذا وقد كان للنبي كُتَّاب بلغ عددهم ما يُنيف على الأربعين،٦ وكان أكثرهم من الشبان والمدنيين، ولا شك في أنهم قد تعلموا الخط والقراءة وما إليهما في بعض كتاتيب المدينة ومكة قبل الإسلام. ثم إن الكتاتيب كانت معروفة بكثرة في الشام ومصر وفارس والعراق قبل الإسلام، فلا غرابة إذا نقل القرشيون ذلك عنهم في رحلاتهم التجارية، كما أن الجواليَ النصرانية واليهودية في الجزيرة قد كانت تعلِّم أبناءها في المدارس أو الكتاتيب أو الكنائس أو الأديرة، وليس بعيدًا أن يكون جيرانهم قد أفادوا ذلك منهم.
أما ما كان يتعلمه الأطفال العرب في تلك المدارس والكتاتيب، فهو في ظنِّنا أشياء كثيرة، منها ما يأتي:
  • (١)

    معرفة أخبار الماضين من العرب وأحوالهم؛ فإن في القرآن إشاراتٍ إلى أن العرب كانوا يعرفون شيئًا كثيرًا عن قصص الأنبياء العرب وغيرهم كما هو مفصل في القرآن.

  • (٢)

    أخبار حروبهم وأيامهم وقصصهم وأنسابهم. وقد كثر في عرب الجاهلية علماء النسب والإخباريون ولم تخل قبيلة أو عمارة أو فخذ أو بطن من نسابين وإخباريين.

  • (٣)

    معلومات جغرافية عامة عن الكون والبلدان المحيطة بهم وأقاليمها؛ فقد أفادوا من رحلاتهم التجارية وسفراتهم البحرية والبرية فوائد جليلة، وكان لأهل الحجاز والبحرين ونجْد رحلات مفيدة. ويدل سفر نفر من المسلمين الأولين إلى الحبشة على أنه قد كانت للقوم معلومات عن تلك الأصقاع، كما كانت عندهم معلومات عن بلاد النوبة وفارس ومصر والجزائر المحيطة بديارهم.

  • (٤)

    معلومات فلكية وطبيعية. وقد أطنب البلدانيون العرب والمسلمون في معرفة أهل «الجاهلية» بالنجوم ومنازل الشمس والقمر والأفلاك وحركاتها والاهتداء بها في البر والبحر، كما ذكروا أنهم كانوا ملمين بالأحوال الجوية والطبيعية لديارهم، وفي شعر ما قبل الإسلام وبعده كثير من النصوص التي تدل على هذا، ولا شك في أنهم أفادوا معلومات كثيرة من جيرانهم الصابئين والكلدانيين.

  • (٥)

    معرفة جيدة بالطب والبيطرة والصيدلة والبيزرة وما إلي ذلك. وقد اهتدَوْا إلى كثير من هذا بتجاربهم الخاصة، كما أفادوا كثيرًا من خبرة جيرانهم الكلدانيين فيه. والطب العربي القديم طب ذو شقين: شِق يعتمد على العقاقير والنباتات والمداواة المادية من كيٍّ وجراحةٍ وفصْد وبتْر وشَقٍّ، وقد كان لهم في هذا النوع من الطب فضل وعلم وافر. وشِق يعتمد على الرُّقَى والتعاويذ والتمائم والسحر، وليس في هذا النوع علم ذو شأن أو خطر. ومن مشهوري أطبائهم حكيم العرب لقمان، وابن حزيم، والحارث بن كلدة الثقفي الفيلسوف، والعاص بن وائل السهمي، وكان بارعًا أيضًا بعلم الحيوان … وغيرهم.

  • (٦)

    علم الآداب من نثر وشعر، وأمرهم في هذا أشهر من أن نبحث عنه ها هنا.

  • (٧)

    بحوث في الكهانة والعرافة والفراسة والريافة وما إلى ذلك، وقد تواترت عنهم في هذا معلومات طريفة مفيدة اختلط فيها الباطل بالفاضل، مما لا مجال للبحث عنه هنا، ولكنه على أية حال يحتوي على كثير من المعلومات العملية المفيدة.

  • (٨)

    إلمامات واطلاع على شيء من أحوال اللغات الأجنبية من كلدانية وسريانية وعبرانية ورومية وحبشية وفارسية. فأغلب ظني أن نفرًا من أهل مكة والمدينة والطائف وخيبر كانوا يُتقنون بعض هذه اللغات، وأنهم كانوا يثقفون بها أذهان أبنائهم، وخصوصًا من كان يطمع منهم في أن يجعل ابنه تاجرًا يزور ديار تلك اللغات أو متدينًا بديانة اليهود والنصارى يريد أن يتعمق في دراستها. ثم إن كثيرًا من مفردات تلك اللغات قد غزت اللغة العربية منذ أقدم العصور، وجاء بعضه في القرآن والشعر القديم؛ فلا شك إذن في أن هذه اللغات كانت معروفة بينهم، فاشية أو شبه فاشية في محيطهم.

هذا — فيما نظن — نمط مما كان يعرفه العرب في «جاهليتهم»، وهو دالٌّ دلالة قاطعة على أن القوم قبل ظهور الإسلام كانوا أمة مثقفة لها علم ولها اطلاع على كثير من مقومات الحضارة، كما كانت لهم معرفة بقواعد التربية والتعليم ومؤسسات خاصة بالتربية والتعليم. وإنهم في الدور الأول من هذه الأدوار التاريخية الأربعة كانوا أصحاب علم ورجال فكر، فلما جاء الإسلام في الدور الثاني جاء ليتمم ما كان عندهم ويكمل لهم العدة لتثقيف العالمين ونشر دين الله في الخافقين. فلننتقل إلى الدور الثاني لنرى آثار الإسلام في تطوير النفس العربية وفي صقلها وتهيئتها للرسالة الملقاة على عاتقها، ولنتعرف إلى تلك المبادئ التربوية التي جاء بها الرسول العربي محمد الأمين .

الدور الثاني

هو دور ظهور الرسول العربي بالدعوة الإسلامية. وقد رأينا في الدور الأول أن الأمة العربية كانت منقسمة في ثلاثة أقاليم؛ في الشمال والوسط والجنوب، وأنه قد كان في كل إقليم من تلك الأقاليم أسس خاصة بالتربية وما إليها من ركائز الحضارة وأعمدة العمران، ولكنها كانت متفرقة لا رابط قويًّا بين أجزائها، فلما أن جاء الرسول عمل على توحيد الأمة في ميادين السياسة، بل في كل شيء، وكان عمله حاسمًا وسريعًا جدًّا، والسبب في ذلك أن القوم — كما رأينا — كانوا مزوَّدين بما يجب لهذه الوحدة؛ فتحمَّسوا للدعوة الجديدة، وتوحَّدوا بسرعة بنعمة الله وفضله؛ فصاروا أمة موحدة، ذات مبادئ واحدة وأهداف مشتركة ورسالة خالدة تشعر بوجوب تأديتها، وصار الفرد العربي الذي كان يعتز بقبيلته وأفقها المحدود واسع الآفاق، كبير الآمال يتلو قول الله في القرآن: ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، فيرى أن من واجبه الديني أن يعمل بكل قواه على الدعوة في سبيل الله، وعلى بسط رسالة السماء في العالمين؛ تلك الرسالة المقدسة التي اختار الله لها محمدًا وصحابته الأبرار فصارت الدعوة هجيراه، وصار نشر الإسلام ديدنه، ووجب عليه الجهاد بالسيف والقلم واللسان، وبذل النفس والنفيس، والتضحية بالأرواح والمُهَج حتى تصبح كلمة الله هي العليا وكلمة الذين خالفوا دينه هي السفلى. ولم يكن لدى العربي شيء من ذلك قبل الدعوة المحمدية، وهكذا تبدَّلت النفس العربية الهادئة المستكنة بوحي السماء إلى نفس ثائرة متحررة تجدُّ وتدأب، وكان طبيعيًّا بعد هذا كله أن يربَّى الجيل الجديد المسلم تربية جديدة صالحة ملائمة للدعوة الجديدة، فوضع النبي أسس تلك التربية معتمدًا على ما لقومه من مواهب وما رآه فيهم من استعداد؛ فاهتم أول الأمر اهتمامًا كليًّا بالأطفال، وكان يرفق بهم ويداعبهم ويوصي بهم آباءهم وأمهاتهم ويعمل وسعه على تعليمهم وتهذيبهم؛ فإنهم فلذات الأكباد، ورياحين الآباء والأجداد، وإنهم عدة الغد وأمل المستقبل.

فكيف لا تهتم الأمة بهم؟! وكيف لا يُعنَوْن بتعليمهم وتزويدهم منذ نعومة أظفارهم بفاضل الأخلاق ونبيل المزايا وشريف العلم؟! وكيف لا يفادى الأسرى من مثقفي قريش بتعليم أطفال المسلمين القراءة والكتابة؟! وقد حفظت لنا كتب السنة النبوية طرفًا جليلًا من الأحاديث المتعلقة بتأديب الأطفال، وألَّف في ذلك جماعة من مربينا القدامى أمثال محمد بن سجفون، والقابسي، والغزالي، وابن جماعة، والعلموي، وغيرهم ممن سنعرض بعدُ إلى دراسة كتبهم، ثم إنه اهتم بالشبان والشابات فأحسن توجيههم حتى خلق منهم رجالًا ونساءً مؤمنين برسالته متفادين في نصرته ونشر دعوته، واثقين من نصر الله للمؤمنين الصادقين، شاعرين بثقل العبء الملقى على عاتقهم، والرسالة الخطيرة التي حملها رسول الله إلى الأمة العربية، فشمَّروا عن سواعد الجد والنشاط، وتطلَّعوا إلى الآفاق البعيدة، وانزوت لهم الدنيا من أقصاها إلى أقصاها، واعتقدوا أن لغة الضاد يجب أن تعم الأرض، وأن دين محمد يجب أن يسيطر على الخافقين؛ فعملوا بكل قواهم في سبيل تحقيق ذلك، وكان لهم في أقل من نصف قرن ما أرادوا، ولم يكد يمضي عهد الرسول الكريم حتى كانت تلك االنفوس قد تربَّت تربية جديدة، واعتنقت مبادئ الإسلام وأفادت منها، فخلقت ذلك الفاتح العربي الذي قال بعد أن بلغ الأطلانتك: والله لو علمت أن وراءك يابسة لخضت البحر إليها في سبيل الله.

هكذا ربَّى محمد قومه وصحابته، وبهذا زوَّدهم لنشر دينه ولغته، وعلى تلك الأسس القويمة ربَّى أطفالهم وهذب بناتهم … فلننتقل بعدُ إلى الدور الثالث الذي قام به خلفاؤه من الصحابة والتابعين، لنرى كيف نُشِّئ ذلك الوليد المحمدي، وكيف اشتد ساعده.

الدور الثالث

هو دور انتشار الإسلام خارج الجزيرة العربية في عهد الخلفاء الراشدين والأمويين؛ فقد استولى الإسلام في عهدهم على ديار الشام والعراق وآسية الصغرى ومصر وشمالي إفريقية والأندلس غربًا، كما امتد إلى إيران والأفغان والسند والتركستان حتى بلغ حدود الصين شرقًا، ولم يبقَ من العالم المتمدن القديم إلا جزء صغير بالنسبة إلى ما استولَوْا عليه.

وهكذا تكوَّنت المملكة الإسلامية فضمت أخصب بلاد العالم القديم وأرسخها قدمًا في الحضارة والعلم. وقد كان لسياسة الأمويين العربية الحكيمة الرشيدة تأثير كبير على طبع هذه المملكة بالطابع العربي؛ فخضعت الشعوب المفتوحة التي اعتنقت الدين الإسلامي لسلطان العرب الأدبي والخلقي، وتعشقت اللغة العربية وآدابها، إلا نفرًا قليلًا من الشعوبيين والملاحدة واليهود الذين يكرهون العرب على الرغم من إحسانهم إليهم وتخليصهم إياهم من ظلم الرومان وقسوة الفرس، وحمايتهم من ملوكهم وقادتهم العتاة، ولكنهم نسُوا ذلك، وما إن رأوا العرب المساميح وقد تركوهم وشأنهم حتى أخذوا يكيدون لهم كل كيد، محاولين القضاء على الأمة العربية وتمزيق أوصالها، وتشتيت الملك العربي الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، ناسين فضله عليهم، ولكن القافلة العربية سارت قُدمًا إلى الأمام فلم تحفل بهم، ولم يكد يمضي الشطر الأول من العهد الأموي بعد أيام معاوية ومروان وابنه عبد الملك حتى توطدت أركان الدولة في ميادين السياسة والحرب، وشرعت في تنظيم حقول العلم والدرس، وترتيب أسس الحضارة، ونشر ألوية العلم والعرفان والصناعة والفنون، مستفيدين من حضارات الشعوب المفتوحة، مختارين منها ما يلائم دينهم وذوقهم وعرفهم، مضيفين ذلك إلى تراثهم التربوي والتهذيبي الذي ورثوه عن آبائهم ومربيهم وسادتهم وقادتهم قبل الإسلام وبعده؛ فتكوَّن من ذلك كله مزاج عربي مستقيم الخطوط، واضح القسمات، عليه الطابع العربي الإسلامي، والنزعة القومية العربية، وهكذا مهَّد عهد الراشدين والأمويين للعباسين في الدور الرابع.

الدور الرابع

جاء هذا الدور مع العصر العباسي؛ ذلك العصر الذي تغلغلت النفس العربية فيه إلى الثقافات القديمة والحضارات العتيقة القويمة التي حل العرب في ديار أهلها، فانتقَوْا منها ما أرادوا ومزجوا به علمهم وأدبهم وحضارتهم؛ فأنتج «الحضارة العباسية» الزاهرة. وقد لعبت دولة العباسيين والدول المتعددة التي تولَّدت عنها — أو عاشت في كنفها في المشرق والمغرب الإسلاميَّين — دورًا خطيرًا في تاريخ الحضارة العالمية؛ فقد وجد العباسيون، ومن اعتمدوا عليهم من كبار رجالات دولتهم، أن الدولة الإسلامية كانت قد توطدت أقدامها سياسيًّا وعسكريًّا في العصر الراشدي والأُموي، فيجب أن تتوطد ثقافيًّا وعلميًّا وحضاريًّا في هذا العصر؛ فانصرفوا إلى ذلك وإلى تهيئة أسبابه. وها هنا لا بد لنا من إشارة إلى فكرة خاطئة يزعمها بعض المؤرخين، وهي أن الدولة العباسية دولة فارسية النُّجَار، أعجمية المَحْتِد، مجوسية التقاليد، عربية المظهر، وأنها كانت بعيدة عن روح التربية العربية، قَصِيَّة عن التقاليد الراشدية والأُموية. بل ذهب بعض العلماء كالمسعودي والجاحظ — غفر الله لهما — إلى أن دولة بني العباس كانت دولة أعجمية … فهذا قول خاطئ؛ لأن الواقع يخالفه والحوادث التاريخية تناقضه؛ فإن الخلفاء العباسيين وإن تأثروا ببعض المظاهر الدولية الفارسية — وقد تأثر الأُمويون قبلهم ببعض المظاهر الدولية الرومية بل والعباسية — فإنهم لم يجتازوا حدود القومية العربية، ولم يتخطَّوْا أساليب التربية الإسلامية، بل كانوا جد متعصبين لها. ولقد وقف السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد والأمين وقفات مضريات أمام التيار القومي الأعجمي، حتى قضَوْا عليه.

ثم إن نواحيَ التربية والتعليم في هذا الدور ظلت هي هي كما كانت في الدور السابق ولم يُصِبْها أي تغيير، اللهم إلا ما تقضي به سُنة النشوء والارتقاء من الإفادة من العلوم الجديدة والدروس المفيدة، التي نشطت في البيئة العباسية نشاطًا عجيبًا بفضل الخلفاء والأمراء العباسيين. ولقد ساهم العرب والأعاجم على السواء في هذا النشاط؛ فقد كان لهذه المساهمة المشتركة أثر حميد أفاد منه العلم، وتطورت به التربية العربية تطورات محسوسة. كما كان لهذا الأمر أثر آخر مفيد في تماسك أجزاء الأمة العربية الإسلامية روحيًّا بعد انقسامها سياسيًّا حين ضعفت الدولة العباسية في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، فأخذت بعض الأقاليم تنفصل عن الدولة الأم، ولكن هذا الانفصال لم يكن إلا انفصالًا سياسيًّا، فإن كل هذه الدول التي انسلخت عن الجسم العباسي من سامانية وصفارية وحمدانية وطولونية وبويهية وسلجوقية … كانت كلها ذات طابع واحد هو الطابع العربي-الإسلامي، وكانت الحياة العقلية والمذاهب التربوية في كل هاتيك الدول واحدة متسقة تمام الاتساق، وكان العالِم أو المربي العربي في أية بقعة من بقاع العالم العربي يجوب الديار فيحاضر ويدرس ويناقش ويناظر، وهو بين قوم يفهمونه ويفهمهم تمام الفهم، ولا فرق أصلًا بين الكاشغري والطنجي والبغدادي والقرطجي والمعري والقيرواني والمصري والطاشقندي والحلبي والبخاري … فالكل يدورون في فلك واحد ويسيرون إلى هدف واحد، ويدرسون برنامجًا تعليميًّا واحدًا، ويتربَّوْن تربية علمية مشتركة لها طابع خاص وقواعد متسقة، وربما اختلفت الصور والأشكال والهيئات والأساليب، أما حقائق الأمور وطبائع الأشياء فثابتة متحدة. وقد استمر هذا النشاط العلمي ذو المذاهب التربوية الموحدة والأغراض الثقافية المتحدة في دار الإسلام من أقصى المشرق الإسلامي إلى أقصى المغرب الإسلامي، وكان أهله يُنتجون إنتاجًا علميًّا مفيدًا ذا خطر في كافة نواحي العلم من دين وأدب وطب وكيمياء وفلسفة ورياضيات، وكانوا يكتبون كل ذلك بلغة القرآن وبأدب العرب إلى أواخر القرن السابع للهجرة؛ أي إلى ما بعد القضاء على الدولة العباسية في بغداد. فلما قُضي عليها اضمحل أمر العرب وذهبت ريحهم، ولم يبقَ لهم أثر ذو شأن كبير في العلم والفلسفة والعمران والفن، وخلق من بعد العباسيين خلق أضاعوا مجد العرب، ولم تَقُمْ لهم قائمة ذات خطر إلا في عصر النهضة واليقظة العربية. فعليهم إذا ما أرادوا أن تكون نهضتهم اليوم نهضة صحيحة سالمة من كل زيف أن يعمدوا — بعد الاستعداد العسكري — إلى الاستعداد التربوي الصحيح الذي يخلق من الأطفال رجالًا ومن البنات نساءً ذوات مواهب وكفايات، وأن يُنشئوا شبابًا وشاباتٍ أحرارًا متعاونين مؤمنين بالمساواة، مخلصين لأمتهم، عاملين في سبيل قوميتهم، معتمدين على أسس التربية الثلاثة التي قامت بها حضارتهم بالأمس، وهي: التعاون، والحرية، والمساواة.

فالجيل الذي لا يتعاون أهله فيشعرون كأنهم بنيان واحد لا مصلحة للفرد منه إلا ضمن مصلحة الجميع؛ جيل لا خير فيه. والجيل الذي لا يحتقر العبودية للأجنبي ويتعشق الحرية في كافة ضروب الحياة من سياسية واقتصادية واجتماعية؛ هو جيل مهدم للوطن. والجيل الذي لا يؤمن أبناؤه بروح المساواة، وأنه لا فرق بين مواطن ومواطن أصلًا، ولا مَزِيَّة لأحد على أحد إلا بالعلم والمعرفة؛ هو جيل ضار لا خير فيه للوطن.

أما بعد، فإن القومية العربية ليست إلا فكرة طاهرة نقية نبيلة سامية، ترمي إلى التوحيد بين جماعات تربط بينهم روابط الإقليم واللغة والتاريخ والعادات، وتهدف إلى غرض سامٍ هو تعاون تلك الجماعات على خلق حضارة مفيدة، وأداء رسالة رشيدة، مطبوعة بطابع تلك الجماعات.

والقومية العربية وحضارتها — كما رأينا — لا تهدف إلا إلى هذا الغرض السامي، فكيف يسوغ للبعض من أبنائها مهاجمتها زاعمين أن ثَمَّةَ فكرةً أنبل منها تدعو إلى غرض أسمى من غرضها؟

١  لقد بينت ذلك وأسهبت في كتابي الكبير الذي أرَّخت فيه للأمة العربية تأريخًا مفصلًا.
٢  راجع كتاب البلاذري، والإسلام والحضارة العربية للمرحوم كرد علي.
٣  انظر كتاب «عصر النبي» لعزة دروزة، ص٢٦٩-٢٧٠.
٤  كتاب التراتيب الإدارية لعبد الحي الكتاني، طبع المغرب ٤٩/١.
٥  المقدمة لابن خلدون، ص٤٩٤.
٦  كتاب التراتيب الإدارية للكتاني، ج١ ص٨٤، ١٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤