تقديم البروفسور رجيس بلاشير للطبعة الفرنسية من الكتاب

كانت الخلافة العباسية في بغداد في عهدها الأول واقفة نفسها على محاربة الفِرق والمذاهب المخالفة لها؛ فلم يُتَحْ لهذه الفرق أن تتقوى أو أن تقوم بأي عمل حازم إلى أواخر القرن التاسع للميلاد/الثالث للهجرة، ما خلا فترة قصيرة في عهد المأمون؛ فإن العلويين استطاعوا أن يبرزوا ويُكتب لهم بعض النصر. ولكن لما أطل القرن العاشر/القرن الرابع للهجرة برز كثير من هذه الفِرق بقوة وخطر، وكان أبرزها وأجلها شأنًا فرقة القرامطة التي تمُتُّ في أصل نشأتها إلى المذهب العلوي؛ فقد استطاع هؤلاء القرامطة بأهدافهم السياسية والدينية أن يتغلغلوا بين صفوف العامة ويجدوا لهم أنصارًا يعتنقون نِحلتهم ويتحمَّسون لمبادئهم، وتمكَّنت هذه الفِرقة بعد أن تركت نطاق الدعوة والقول إلى حيز النشاط والعمل أن تتحدى الخليفة العباسي في قلب عاصمته، خلال فترة لا تقل عن ثلاثين سنة.

ولقد برز خطر هذه الفِرق والمذاهب بمظهر أجلى حين اعتنق مبادئَها نفرٌ من رجال الإدارة والسياسة وذوي السلطان الذين أخذوا يناوئون الخلافة العباسية، كما أبان ذلك مفصلًا البروفسور لويس ماسينيون في المقالات المتعددة التي نشرها حول هذا الموضوع.

ولقد نبغت في القرن العاشر للميلاد/الرابع للهجرة أسرة من الوزراء وهم بنو الفرات، وأسرة من الكتاب وهم بنو نوبخت؛ فكان لهاتين الأسرتين الشيعيتين المتحمستين أثر كبير في إقصاء العناصر غير الشيعية عن إدارة البلاد، حتى إن الخلافة نفسها — منذ عهد المتوكل حتى أواخر عهد المقتدر — لم تستطِع على الرغم من الجهد الذي بذلته، وفي محاولات شتى، أن تحميَ نفسها من تدخُّل هؤلاء. على أن الإدارة المركزية التي قاومت هؤلاء بالعنف تارة وباللطف أخرى لم تستطِع أن تقضيَ على هذه الحركات، وعلى رأسها حركة القرامطة الذين كانوا يُلبسون حركتهم السياسية ثوبًا روحيًّا حتى عظم أمرهم. واضطُر الخليفة أول الأمر بما حاكُوه حوله من دسائس وما أثاروا عليه من حروب أن يخلع نفسه في أواسط القرن العاشر للميلاد/الرابع للهجرة؛ وهكذا كُتب لحركة هؤلاء القوم أن تنتصر وتفوز في المعركة، واستطاع القرامطة أن يؤسسوا لهم إمارة مستقلة في بلاد البحرين. كما استطاع المهدي عبيد الله الفاطمي أن يوطد أركان حركته في المغرب، التي استطاعت فيما بعدُ الاستيلاء على مصر؛ حيث أسس أحفاده الخلافة الفاطمية. وكذلك فعل الحمدانيون في سورية إذ استقلوا بها وجعلوها قاعدة علوية. كما استقل البويهيون في العراق وفارس وفرضوا عليهما المذهب العلوي.

أما أهل السُّنة فإنهم لم يستطيعوا الوقوف أمام هذه الحركات إلا بعد قرابة خمس وسبعين سنة؛ فإنهم تنبهوا للخطر وقاموا بحركة معاكسة قوية تجلَّت بالقضاء على آل بويه في العراق وإيران، وقيام آل سلجوق مقامهم واستيلائهم على بغداد. ولا شك في أن الدور الرئيسي قد قامت به شخصية جليلة هي شخصية الوزير نظام الملك (٤٨٥ﻫ/١١٩٢م)؛ فقد عمل هذا عملًا حاسمًا بمحاربة هذه الحركات، وبخاصةٍ الحركات الباطنية.

إن مكانة هذا الوزير الخطير تتجلَّى في اعتقاده بأن محاربة هؤلاء القوم لا ينبغي أن تكون في قهرهم عسكريًّا وسياسيًّا فحسب، بل وفي قهرهم ثقافيًّا وإداريًّا، ولم تكن هذه المعركة الثقافية والإدارية معركة سهلة؛ فقد بذل في سبيلها كل غالٍ وكل جهد حتى استطاع أن يتوصل إلى أغراضه.

رأى نظام الملك أن النشاط العلمي لهؤلاء القوم يجب أن يجابَه بنشاط ثقافي مثله، وأن الدعاوة العلوية والباطنية يجب أن تقاوَم بدعاوة مثلها؛ ولذلك أخذ يفكر جديًّا في إنشاء مراكز ثقافة تقف أمام ذلك النشاط. ولا شك في أن هذا كله قد ولَّد في ذهن نظام الملك السلجوقي ضرورة إيجاد معاهد علمية منظمة تُخرج رجالًا يستطيعون الوقوف أمام الدعاوات الباطنية، وكانت تلك المعاهد تحمل اسم ذلك الوزير، وفي مقدمتها «المدرسة النظامية» في بغداد.

وإن الأستاذ الدكتور محمد أسعد طلس في أطروحته هذه بقسمَيها: الأول عن تاريخ التربية، والثاني عن النظامية١ لم يكشف لنا عن الحقائق المجهولة في هذه القضية فحسب، بل إنه أبان العوامل الفعالة التي دعت إلى تأسيس «المدارس النظامية»، كما بيَّن — بوضوح وجلاء ودقة — المعالم الحقيقية التي تميِّز هذه المدارس النظامية عن المؤسسات العلمية الأخرى المماثلة لها، وبيَّن الآثار التي كانت لهذه المدارس النظاميات في المدارس الأخرى التي وُجدت في العراق بعدئذٍ.

والحق أن هذه المدارس النظاميات، وبخاصةٍ مدرسة بغداد، بتاريخها العلمي الحافل، قد استطاعت أن تؤديَ المهمة الجليلة التي شادها نظام الملك من أجلها، كما أنها أنتجت النتائج التي أرادها لها ذلك الوزير الخطير؛ فاستطاعت أن تقف أمام الدعاوات التي كان يشنها أعداء السنة على أهلها.

والحق أيضًا أن نظامية بغداد لم تكن — كما سيرى قارئ رسالة الدكتور طلس — مركزًا علميًّا أو معهد أبحاث وحسب، بل كانت مؤسسة ثقافية واسعة ذات طابع جامعي بحت، وكانت خلال الدهور الطويلة المتعاقبة التي عاشتها مقرًّا لنفر من كبار العلماء والحكماء والمشاهير، كما أنها خرَّجت جمهرة من مشاهير الطلاب الذين أفادوا من درسها ولمع اسمهم في العالم الإسلامي بأسره.

وإنه لَمِمَّا هو جدير بالشكر والفخر، ذلك الجهد الجبار، والصبر الطويل المثمر، اللذان يتجليان في هذه الدراسة التي يقدمها لنا الدكتور طلس؛ فقد بذل أجلَّ الجهد في التنقيب عن تاريخ التربية الإسلامية، كما بحث بدقة عن المدرسة النظامية وآثار أساتذتها وطلابها في كافة أنحاء العالم الإسلامي في القرون الوسطى. وسيرى قارئ «تاريخ المدرسة النظامية» أن تلك القائمة الطويلة التي تنتظم أسماء الأساتذة وأحوالهم هي قائمة حافلة بأخبار نفر كبير من العلماء الفحول في شتى نواحي العلم الثقافية، كما أنهم كانوا من مواطنَ متعددةٍ، وبلاد نائية متباعدة، كما يلاحظ القارئ أن تلك القائمة الحافلة قد خرجت بالبحث عن الحدود التي ينتظمها عنوان الرسالة، ولكنها الضرورة العلمية التي حتمت على الدكتور طلس سلوك هذه الطريق؛ لأنه أراد أن يوضح الدور العلمي الخطير الذي قام به هؤلاء الأساتذة والطلاب الفضلاء.

فجاء عمله هذا جليلًا ومفيدًا لأنه اختص بدراسة ناحية من نواحي العلم والثقافة والنشاط الفكري العالمي في بقعة واسعة من بقاع الدنيا؛ فكشف لنا بعمله هذا عن حقيقة أمرها ومقدار فعاليتها خلال أحقاب طويلة من التاريخ.

١  أرجو أن يتاح لي نشر القسم الخاص ﺑ «المدرسة النظامية في بغداد» بعد ترجمته إلى العربية في وقت قريب إن شاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤