الفصل الثالث

البناء الأنطولوجي للأمل

يحدد بلوخ أربعة تصورات أو مفاهيمَ أنطولوجيةٍ أساسية يصفها بأنها مفاهيم «مقولاتية» أو بالأحرى مقولاتٌ واقعية، تدل على حركة الواقع الجدلي للمادة والتاريخ، وتكشف عن صيرورتها نحو تحقيق الأمل اليوتوبي. هذه المفاهيم أو اللحظات الأساسية التي توضح حركة الواقع والعالم هي «اللا» التي يبدأ منها كل شيء، واﻟ «ليس-بعد» التي تعبر عن اندفاع التاريخ نحو الكل، أو تعثره وسقوطه في «اللاشيء» أو «العدم».

هذه المفاهيم أو المقولات الأربع تمثل المصطلحات الأساسية في نسق بلوخ الجدلي وبنائه الأنطولوجي، كما ترتبط ارتباطًا حميمًا بمقولة «الإمكان» وجدل «المادة»، بقدر ارتباطها بجدل الوعي البشري وأحلامه وتوقعاته عن المستقبل.

أولًا: المفاهيم الأنطولوجية لمقولة اﻟ «ليس-بعد»

(١) مفهوم «اللا» The Not

نبدأ «باللا» التي ذكرنا قبل قليل أن كل شيء يبدأ منها. وأبسط وصف لها هو أنها نقص شيءٍ ما، وفي الوقت نفسه محاولة تلافي هذا النقص. ولذلك فهي الدافع أو الاندفاع نحو شيءٍ مفتقد. هذا الدافع أو الاندفاع الكامن في كل ما هو حي هو الذي نصفه وصفًا مكثفًا بأنه «اللا»، فهو الحاجة، والسعي الدائب، والحافز المستمر، وهو الجوع أولًا وقبل كل شيء. و«اللا» في هذه الحالة الأخيرة بالذات — أي في حالة الجوع — لا يمكن أن تكون «لا شيء» أو عدمًا. بل إن الأمر هنا يتطلب ضرورة التمييز الحاد بين «اللا» غير المحدودة و«اللاشيء» أو «العدم» the Nothing المحدد، إذ إنها تبين بوضوح أن «اللا» في هذه الحالة تتعلق بنقص شيء أو موجودٍ ما وعدم امتلاكه، ولا تتعلق باﻟ «لا شيء» أو العدم الذي يعني انعدام كل شيء.١ وما يميز هذه المفاهيم الأنطولوجية التي نتناولها في هذا الفصل (وهي اللا والليس-بعد، والكل والعدم)، هو ارتباطها بالدوافع والانفعالات. ويتضح هذا عندما نتبين أن هذه المفاهيم الأنطولوجية، التي تبدو في الظاهر شديدة التجريد، إنما هي مرادفة للجوع واليأس من جهة، أو للطمأنينة والثقة في الخلاص من جهةٍ أخرى. بذلك تكشف المفاهيم عن الانفعالات الأساسية التي تقوم عليها، كما تلقي الانفعالات الضوء على المفاهيم وتبين الأصل الأنطولوجي الذي انبثقت عنه وتغذت على نيرانه — على حد تعبير بلوخ — واستضاءت به قبل أن تضيئه.
وليست «اللا» نهائيةً مطلقة، لأنها «اللا» المتعلقة بمبدأ الوجود، بوجود معين هناك، كما تعلن عن نفسها بوصفها اللاتملك. إنها بداية كل حركة تجاه شيءٍ ما، وليست «لا» مجردة أو نهائية وليست عدمًا، وإنما ترتبط بشيء أو موجود «هناك» تفتقده وتفتقر إليه وتسعى لامتلاكه والحصول عليه، ولذلك فهي في الأصل غير محددة ولا مؤكدة، إنها مجرد بداية، نقطة صفر وفراغ تنطلق منها الحركة المندفعة نحو الامتلاك والامتلاء. وهي بهذا المعنى لا تستطيع أن تحتمل حضور ذاتها، وإنما تتعلق — بطريقة تتسم بالاندفاع — بموجود هناك أو شيءٍ ما.٢

وإذا كانت الحاجة واللاتملُّك هما أول ما يواجه الإنسان في حياته، فإن ذلك يعني أن «اللا» مغروسة فيه، وجزء لا يتجزأ من تجاربه الأولى في الحياة. فهو يشعر بأنه في الحاضر الراهن ليس ما يمكن أن يكون عليه. ويلازمه هذا الشعور طالما أحس بالافتقار إلى شيء أو آخر ينقصه. وهذا ما يجعله يحتفظ «باللا» داخل وجوده، بذلك يكون السلب قد وجد في الإنسان قبل أن يوجد في المنطق الجدلي، وتكون هذه «اللا» هي المحرك الجدلي للواقع الطبيعي والوعي على السواء.

وإذا كانت الحاجة تلازم حياة الفرد على الدوام وتدفعه على العمل باستمرار، فقد كانت أيضًا هي الدافع وراء سلوك الجنس البشري بأكمله. فالحاجة علمت الإنسان أن يفكر، وأن يصنع الأدوات، ويشعل النار، ويبني الأكواخ، والحاجة هي التي علمت البشر أن يتجمعوا في العشيرة والجماعة والدولة، والحاجة علمت الإنسان كذلك أن يدعو ويصلي كلما قصرت قواه وعجزت قدراته عن إشباع حاجاته. بذلك يكون «اللا-تملك» هو الدافع الأساسي وراء الحركة والتغيير، ويبقى «اللا» على الدوام متعلقًا بالتملك الذي لم يتم الحصول عليه بعدُ، بحيث إن عدم التملك الذي يتصف دائمًا بالتكثف والنزوع هو الأصل المادي الديناميكي لكل ما يملك في المكان والزمان وهو الذي يدفع على الحركة ويغير الطبيعة، كما يفرض على الإنسان العمل على تغيير مادة التاريخ البشري.٣
إن «اللا» هي نوع من الفراغ أو الخواء، ولكنها في الوقت نفسه نوع من الاندفاع نحو الخروج من قبضة هذا الفراغ والخواء. فهي غير قادرة على أن تظل كامنة وموجودة في ذاتها، بل تسعى دائمًا للخروج من حالة الكمون، فكيف يتم لها ذلك؟ يتجلى هذا الخروج أو الاندفاع بوضوح في حالة الجوع أو الحرمان — كمثال يستشهد به بلوخ — حيث تتحول «اللا» إلى رعب من الفراغ Horrar Vacut، تتحول إلى حالة مقتٍ شديد.٤ وتنطلق «اللا» الكامنة وتخترق الجوع لإشباعه. فهذا الجوع أو الحرمان أو الفراغ هو نقطة البداية لكل وجودٍ مباشر. وتكمن البداية في ظلام «الوجود-هنا» الذي ما زال لم يتوسط مع ذاته.
إن الأصل والبداية لكل موجود هنا تكمن في الظلام الذي لم «يفض نفسه» أو لم يمر بعدُ بعملية التوسط الجدلي، أعني في ظلام «الآن» أو اللحظة المعيشة المباشرة. وليس هذا الظلام — الذي تبدأ منه كل حركة في العالم — بعيدًا أو متواريًا في ماضٍ كوني سحيق القدم، وإنما هو ظلامٌ مباشر وقريب وماثل في كل وجود «موجود هناك».٥ لذلك فإن نقطة البداية أو الأصل والأساس للعالم كله قائمة على التحديد في «الهنا والآن» الذي لم يخرج بعدُ ولم ينبثق من نفسه، أو لم يتحرك من مكانه على الإطلاق. كما أن «اللا» الكامنة فيه أو الملازمة له هي على التحديد «اللا» التي تحرك التاريخ، وتهيئ العمليات التاريخية لتحقيق أهدافها، دون أن تصبح هي نفسها تاريخية.٦ ومن ثم يجوز القول بأن الأصل هو المجهول الذي تتخلل حركته كل الأزمان والأشياء، وإن لم يبزغ هو نفسه من نفسه ولم يصبح شيئًا بعدُ. ولذلك فإن كل لحظة معيشة — إذا كان لها عينان — لا بد أن تكون شاهدًا على بداية العالم الذي يبدأ فيها، ولا زالت تتجدد في كل لحظة إلى أن تتحدد هذه «اللا» غير المحددة تبعًا لمضمونها، ومن خلال التجارب اللانهائية لعملية الصيرورة التاريخية بأشكالها وتحقيقاتها المتجددة التي لا حصر لها، لأن كل لحظة هي نقطة الصفر في بداية العالم كما تتضمن تاريخ العالم.
إن عملية التكوين والتشكل المستمرة والمتجددة عبر صيرورة العالم والتاريخ — التي تفترض الجديد — لا تتوقف مع كون الشيء قد صار، وإنما تبقى الصيرورة مستمرة. لكن السؤال الآن: هل تأتي عملية الصيرورة دائمًا — وبالضرورة — بما هو جديد بحق؟ طبيعي أن العملية يمكن أن تتمخض عن الجديد جدةً حقيقية، كما يمكن أن تفرز المظاهر الخداعة التي تظهر على الأفق في صورة الجديد، دون أن تعبر عن مضمون الجديد الحقيقي الذي اتجهت إليه حركة العالم والتاريخ، ودون أن تثمر الثمرة التي نفتقدها ونشعر دائمًا بالافتقار لها، أعني الافتقار إلى ذلك «الشيء الواحد» الذي هو خير، ذلك الشيء الواحد الذي سيأتي معه بالحل والخلاص، أي اليوتوبيا.٧

(٢) اﻟ «ليس-بعد Not yet»

هنا تتبدى «اللا» المتكررة والمستمرة في صورة اﻟ «ليس-بعد» التي تخترق الصيرورة التاريخية وتتخطاها في وقتٍ واحد، ويصبح الجوع هو «قوة الإنتاج في جبهة العالم الذي لم يتم أو لم يكتمل بعدُ.»٨ لكن كيف تتحول «اللا» الكائنة في «الهنا والآن» إلى اﻟ «ليس-بعد» الكائنة بطبيعتها في المستقبل؟ إن الدافع أو الحافز على هذا التحول يكمن فينا نحن، يكمن في جوعنا وتعطشنا وشوقنا لتحقيق الهدف. إنه يأتي من «اللا» التي لا تملك أو التي تحس في كل لحظة إحساسًا غامضًا ومباشرًا بأنها تفتقد شيئًا وتفتقر إلى شيء، فنحن لا نعيش لأجل أن نعيش، وإنما نعيش لأجل هدف، ولأجل هذا الهدف لا نشعر بالاستقرار ولا الاطمئنان لأمرٍ واقع، وإنما نشعر بالقلق الدائم بسبب هذه «اللا» النافذة في صميم كينونتنا القائمة. هذه «اللا» التي لا نتحملها ولا نطيقها فتتحول إلى اﻟ «ليس-بعد» هي التي تدفعنا إلى الهدف التاريخي الذي نسعى إليه.٩ وليس هذا الهدف سوى الحياة الأفضل التي تختمر في داخلنا، والتي يرسمها الحلم فتتأهب وتكافح، وتجرب، وتغير وتنذر نفسها لتحقيق ما لم يتحقق بعدُ.

هكذا تعبر «اللا» عن السخط على الصورة التي صار إليها الشيء المفتقد، بوصفها القوة الدافعة الكامنة تحت كل صيرورة في العالم، والدافع المحرك إلى الأمام في مجرى التاريخ، ولذلك تظهر في كل تعريف يقدم للموضوع وكأن لسان حالها يقول بلهجة الإنكار: كلا ليس هذا هو المحمول الذي يحدد الموضوع تحديدًا كافيًا. ومن ثم يتبين أن «اللا» تجعل من نفسها «ليس-بعد» يوتوبية وفعالة على الدوام، وتتخذ صورة «السلب» الذي يدفع الحركة الجدلية قدمًا، وينمو خلال كل وضع قد يبدو إيجابيًّا وإن لم يكن كذلك تمامًا من منظور «الكل» الذي لا زالت تتطلع إليه، والذي يمكن عنده وحده أن تستقر «اللا» بعد تحقيق هدفها المنشود.

لقد غدت «اللا» هي اﻟ «ليس-بعد» التي تمثل العنصر الهدام أو التناقض الذي يعمل على تدمير كل ما قد «صارت» إليه العملية الجدلية، لسببٍ بسيط هو أن كل مرحلة من مراحل التعريف أو التحديد لهذا الشيء الذي صار، لا بد أن تعوق تحقيق هدفها، لأن أي صيرورة نحو «الكل» لا تعبر عن التحقيق الكافي، ولا الإنجاز الناجح بحق، وتتمثل مناقضة الصيرورة في الذات والموضوع معًا باعتبارهما وجهَي الواقع المتحرك، فتتم في الذات البشرية أو في الوعي الذي يجد أن ما حققته الصيرورة غير كافٍ وربما يكون معوقًا، كما تتمثل المناقضة الموضوعية تجاه ما يظهر من ذلك «الموضوع» نفسه الذي أفرزته عملية الصيرورة، من جهة ما ينطوي عليه من نزوعٍ ناضج إلى تحقيق شكل الوجود المرتقب، أو بمعنًى أدق نزوع أنضجته قوى الإنتاج وشروط الأوضاع التاريخية والاجتماعية بوجهٍ عام. ومن ثَمَّ تصبح اﻟ «ليس-بعد» أكثر تحددًا وأقوى اندفاعًا نحو تحقيق المهام التي تستوجب التحقيق، وأشد وعيًا بالظروف الموضوعية التي تمكن من حلها والوفاء بها بطريقةٍ موضوعية أيضًا.١٠
يذهب بلوخ إلى أبعد من ذلك عندما يربط الفكر بمقولة اﻟ «ليس-بعد» ويدخله في قلب العملية الجدلية، وعندما يقول بأن على الفكر أن يكون دائمًا على أهبة الاستعداد وأن ينظر إلى الأمام، وأن ينظر فيما حوله، وأن يكون في قلب الحياة والأشياء وأن يتوسطها كذلك — بالمعنى الجدلي المفهوم من التوسط — بحيث يتجاوز الواقع باستمرار، ويعي دوره في التقدم إلى الأمام. وعلى هذا التجاوز والتقدم يتوقف كل شيء، فالفكر الذي يشده مغناطيس ويدفعه جوعه وشوقه للتقدم نحو الهدف، يكون فكرًا مبشرًا وأملًا نذر نفسه لتحقيق ما لم يتحقق بعدُ.١١ الواقع أن الحافز على هذا الفكر موجود في «اللا» الكامنة داخلنا والتي لا تطيق هذا الكمون فتتحول إلى اﻟ «ليس-بعد»، وكأن اﻟ «ليس-بعد» هي المغناطيس الذي يجذب الفكر إليه، كما يدفعه للتزود بالمعرفة الجادة المنهجية الواعية، والتسلح بالمفاهيم الدقيقة المحددة، واللغة المقتصدة، والإرادة النشطة الفاعلة التي تعلم إلى أين ولأي هدف؛ لذلك وصف بلوخ هذا النوع من التفكير «بإبرة المغناطيس» التي تخطط للهدف المقصود وتحدد الطريق إليه بدقةٍ متناهية.١٢
هذا الفكر المتجاوز والمتقدم إلى الأمام يحتاج بطبيعة الحال إلى «أنطولوجيا» من طبيعةٍ مختلفة عن أنطولوجيا الوجود العام الذي يرجع إلى الأصل ويريد الاستقرار فيه وإعادة كل شيء إليه كما نجدها عند هيدجر. ويطالب بلوخ بدراسة أنطولوجيا الوجود من خلال الموجود المتحرك الذي يحمل في داخله الموجود — الذي لم يتحقق — بعدُ (أو اﻟ «ليس-بعد»)، الموجود المتحرك بأشكاله المتفتحة على معاني الوجود المتحرك أيضًا إلى الأمام، لا الوجود العام الذي يلحُّ دائمًا على تمييز نفسه عن الموجود الجزئي فيما يسمى بالفارق الأنطولوجي الأساسي بينهما كما يزعم هيدجر. ولهذا لا تنفصل نظرية الوجود هنا عن الموجود ومجاله الممكن، كما لا تستغني في كل تعبيراتها عن هذا الوجود عن الكلام عنه من جهة «الإمكان» التي تصلح دون غيرها للإحاطة باﻟ «ليس-بعد» أو الموجود المستقبلي الذي لا يزال في مرحلة التشكيل والتفتح والسعي إلى التحقق.١٣ إنها الأنطولوجيا التي لا تبعد الوجود الأعم في مكانٍ مرتفعٍ متعالٍ على هذا الوجود، والتي تحدد ماهيات الوجود الأساسية من خلال الموجود المتحرك بأشكاله المفتوحة على دلالات الوجود. لذلك لا عجب أن تتجاهل أنطولوجيات الوجود مقولة الإمكان لأنها تتهيب المستقبل وتؤثر السلامة في رجوعها للقديم أو بالأحرى في انغلاقها فيه.
إن فكر اﻟ «ليس-بعد» يبدأ بدايةً جديدة، ولكنه كذلك «يتوسط» تحقيق الهدف، وينطوي على مضمونٍ مستقبلي. وهو يعبر عن نفسه بمثل هذه العبارة: «أنا أكون، لكني لا أملك نفسي، ولهذا فسوف نكون.» أو هذه العبارة: «نحن ذوات بلا أسماء، وطبيعتنا من نوع طبيعة كاسبر هاوزر،١٤ نرحل في سفرٍ مجهول على طريق لم نبدأه بعدُ.» فكأن الإنسان هنا كائن يعيش في الظلام الذي يلفُّ لحظته المباشرة، إنه لم يفهم نفسه ولم يصل حتى إلى الوعي بحضوره، ولهذا السبب عينه نقول إنه كائن له تاريخٌ ممتد أمامه كما هو ممتد خلفه. إنه لا يزال مع عالمه كله على سفر، ورحلته هي رحلة اكتشاف، وفي هذه المرحلة يمكن أن يتشكل وجوده ويتفتح هدفه. ومعنى هذا أنه دائمًا على الطريق إلى أرضٍ لم تُكتشف من قبلُ، وربما لم يسبق لها وجود قبل أن تطأها قدماه … وكلما نجح في إنجاز عملٍ خلاق أحس بأنه قد عبر الحاجز الذي كان يفصله عما «لم يتم الوعي به بعدُ»، وما «لم يصر بعدُ»، وشعر بأن العالم الحقيقي ينتظر من الإنسان الواعي أن يشق الطريق أمامه. والفلسفة التي تعي حقيقة اﻟ «ليس-بعد» وتتحرك بفضلها هي التي تعبر عن هذا العالم وعن الطريق الموصل إليه: بدءًا ﺑ «اللا» التي دخلت التاريخ على صورة اﻟ «ليس-بعد»، ووصولًا إلى «الكل» أو على العكس إلى «اللا شيء» أو «العدم».١٥

تلك هي أنطولوجيا اﻟ «ليس-بعد»، أي أنطولوجيا «الموجود» الذي لا يزال يتشكل خلال عملية الصيرورة المتصلة، دون أن يفقد صلته «بالوجود» الجوهري أو الكلي الذي يقوم الموجود نفسه بدور «التوسط الجدلي» على الطريق الصاعد إليه. وغني عن الذكر أن هذا التوسط يتم من خلال الجهد الذي يبذله الإنسان والعالم، أو الوعي والمادة، فكلاهما منخرط — كما رأينا — بحكم صيرورته المتصلة في اﻟ «ليس-بعد»، أي في اليوتوبي الممكن والواقعي على السواء.

والآن بعد أن تحولت «اللا» إلى اﻟ «ليس-بعد» وانطلقت هذه الأخيرة في التاريخ، واندفعت إلى الأمام، فإلى أين تتجه وما هو هدفها؟ إنها تتجه إلى المستقبل، وهدفها كما قلنا هو الوصول إلى الكل اليوتوبي، ولكن هل تسير اﻟ «ليس-بعد» دائمًا في المسار الصحيح، بحيث تدرك مباشرةً وبشكلٍ تلقائي هذا الكل اليوتوبي، وتبلغ بذلك قصدها وهدفها؟ أم يتعثر المسار فتصطدم «باللاشيء» أو «العدم» وفي هذه الحالة لا تبلغ اﻟ «ليس-بعد» هدفها المنشود؟

(٣) «الكل» اليوتوبي، واللاشيء أو «العدم»

إن اﻟ «ليس-بعد» وحدها (أو كمجرد «ليس-بعد» فحسب) قد تستطيع في الواقع أن تؤثر على الصيرورة غير الكافية أو تغير منها. و«اللا» التي تحولت إلى «ليس-بعد» وتطلعت إلى تحقيق «الكل» تدخل في علاقة مع العدم من أجل أن يكون «الكل»، ويستشهد بلوخ بصدق الحقيقة التي عبر عنها «جوته» في قصيدته الصوفية الشهيرة «الحنين المبارك» من ديوانه الشرقي وهي «مت لكي تكون» إذ يظل «العدم» حاضرًا في كل تغير يطرأ خلال عملية الصيرورة، سواء في صورة الإحباط والفشل، أو في صورة الاضمحلال والتلاشي. وفي كل الأحوال يظل «الكل» كذلك حاضرًا، ولا سيما في حالة النجاح النسبي الذي يتجلى بوجهٍ خاص في روائع الإبداع البشري.١٦ ولو لم يكن الأمر كذلك لأصبح الماضي طيَّ النسيان، ولما بقي شيء يمكن إنقاذه أو استمراره مما نسميه التاريخ. هنا تتأكد علاقة «اللا» واﻟ «ليس-بعد» بالكل، وهي علاقة بهدف يسعى وراءه العالم المادي والتاريخ البشري اللذان سيظلان في حالةٍ أشبه ما تكون بالمنفى أو بما قبل التاريخ حتى يتحقق ذلك الهدف وينطبق عليه التعريف الكافي للهدف الكلي.
أما علاقتها (أي اللا واﻟ «ليس-بعد») بالعدم فهي علاقة تتحدد بأسلوب فهمهما لمعنى السلب، سواء أكان ذلك بالتخلص من الصيرورة غير الكافية وتفجيرها من الداخل للمضي قدمًا نحو صيرورةٍ أكثر كفاية ومن ثم إلى الكل، أو بتكريس العدم وجعله وضعًا نهائيًّا، وذلك عن طريق تحويله إلى أداة تدميرٍ شامل بأيدي مستبدين يقتحمون التاريخ بين الحين والحين أو بالأحرى يوقفون مساره (كما حدث على يد طغاة مثل نيرون وهتلر على سبيل المثال) فالعدم هنا لم يعد هو العدم الجدلي الذي يقتضيه السلب «الإيجابي» المنتج الذي يسلب أو يرفع بدوره في مركبٍ أغنى وفق قوانين الجدل المنطقي والتاريخي، وإنما هو تثبيت له وإيقاف لمسار كل تاريخ وكل تقدم جدلي.١٧ لذلك يكون هذا العدم الأخير أبعد شيء عن العدم المتضمن في السلب الجدلي، الذي يسلب كل ما قد صار ليبلغ به مرحلةً جديدة، ويلبي على الدوام حاجة اﻟ «ليس-بعد» للسلب وسلب السلب بغية إزالة العوائق عن الطريق الموصل إلى الكل الحقيقي أو الجوهري، الذي ظهرت له في تاريخ الفلسفة من بارمنيدس إلى اسبينوزا بدائل «سكونية» كثيرة اتخذت اسم الطبيعة أو الكون، وأضفت عليها صورًا أسطورية أو واحدية أو آلية،١٨ وبعدت بذلك بعدًا شاسعًا عن صورته الجدلية المتحركة التي تفترض نقصه وعدم اكتماله ووضعه المؤقت لا وضعه القائم.
ولا شك أن الإحباط والفشل، أو العدم والموت الأخير، هما الخطر الدائم الذي يتهدد كل عمليةٍ جدلية، وهما — على حد تعبير بلوخ — التابوت الذي ينتظر على الدوام إلى جوار كل أمل.١٩ ولكنهما كذلك الوسيلة الوحيدة لكسر كل سكون، وتخطي كل حالة بلغتها الصيرورة المستمرة. بذلك يحتوي اللاشيء أو العدم المتضمن في السلب الجدلي على جوانبَ إيجابية تحميه من تلك الأخطار، وتساعده على التجاوز والتخطي مهما كانت العقبات والتحديات.
هكذا يكون العدم — إذا أحسنا فهمه وفقًا لجدل المادة والوعي المتقدمين دائمًا نحو «اليوتوبيا» — هو القوة المتنامية التي نفذت في التاريخ، كما قوَّت من الجدل المتقدم نحو الكل نفسه. والعدم — شأنه شأن «اللا» واﻟ «ليس-بعد» و«الكل» — هو أحد المفاهيم أو المقولات الأساسية في أنطولوجيا جدليةٍ متحركة نحو الكل اليوتوبي، لا أنطولوجيا ساكنة تتصور أنها «علم وجود» مستقر ومكتمل … وكلما ازداد الوعي بهذا العدم المتغلغل في صيرورة process المادة والتاريخ، ازداد كذلك الوعي بجدلية الحركة الشاملة نحو الكل.
والمهم بعد كل شيء أن نميز العدم الزائف — الذي يتبدَّى في مظاهر القوة والمجد والجبروت السطحية التي أدت دائمًا إلى عدمٍ سطحي وزائفٍ مثلها — عن العدم الإيجابي المرتبط ﺑ «ليس-بعد» مرجو، وﺑ «كل» ينتظر تحقيقه والوفاء به، أي باليوتوبيا التي سيرسو العالم والتاريخ على شاطئها، صحيح أن وجود هذه اليوتوبيا سيظل متأرجحًا بين إمكانَين واقعيَّين: فإما العدم المطلق وإما الكل المطلق. ولكن تبقى اليوتوبيا — في شكلها الواقعي أو العيني — هي الإرادة التي تضع نفسها موضع الاختيار على طريق تحقيق الوجود الكلي. والمهم أن تبقى عاطفة هذا الوجود مشتعلةً فيها، وأن تظل متعلقة بأمل ووجود لم يوجد بعدُ، ولم يحقق الخير الأقصى الكامن فيه، لا بوجود يتوهم أنه قائم على أساسٍ وطيد لا ينقصه شيء والأهم من ذلك ألا تغفل هذه الإرادة عن «العدم» الذي لا يزال يعمل عمله المدمر في التاريخ، ولا تتجاهل الخطر الماثل فيه بالانتهاء إلى العدم النهائي الذي اندفع إليه وسقط فيه أكثر من مرة. ولذلك فلا بد لهذه الإرادة أن تكون متفائلة ومناضلة باستمرار، حتى لا تتردى في بحر بلا شاطئ، ولا تغيب في ليل بلا صباح، ولا تنحدر إلى حضيض البربرية التي ينعدم فيها كل أمل، وتتكشف عن العبثية المطلقة للتاريخ والإنسان.٢٠ وعليها أن تختار بين البديلَين اللذين أشرنا إليهما: بين العدم المطلق الذي يعني الإحباط الكامل لليوتوبيا، والكل المطلق الذي يعني اليوتوبيا أو الوجود اليوتوبي.
لقد اتخذ الانتصار النهائي للعدم صورة الجحيم، كما اتخذ الانتصار النهائي للكل صورة السماء أو الفردوس. والواقع أن الكل نفسه ليس إلا الوحدة التي تضم الإنسان الذي عاد إلى نفسه مع عالمه الذي اكتمل لكي يكون في خدمته. وهذه الوحدة هي التي تحقق عبارة جوته الشهيرة في فاوست: «في البدء كان الفعل.» وعبارته الأخرى: «الشيء الناقص قد تم.»٢١ وهما عبارتان يصوغهما بلوخ في لغةٍ جدليةٍ اشتراكية على هذه الصورة المعبرة عن «روح اليوتوبيا» عنده: تطبيع الإنسان، وأنسنة الطبيعة، أي جعل العالم إنسانيًّا بتوسط الإنسان أو بإرادته.
إن هذا الأصل الأنطولوجي ليس إلا جوهر العالم المتحرك حركةً جدلية في لحظاته الثلاث الأساسية وهي: «اللا» واﻟ «ليس-بعد» و«اللاشيء» (العدم) أو على العكس «الكل» المقابل له. «فاللا» تدل كما سبق — على أصل العنصر المندفع لتحقيق «الموجود هناك» الكامن في كل شيء، واﻟ «ليس-بعد» تميز النزوع الرابض في عملية الصيرورة المادية لإظهار مضمونها، واللاشيء (العدم) أو «الكل» يشيران إلى الاتجاه: إما سلبًا فيكون «العدم» أو إيجابًا فيكون «الكل». إنهما يشيران إلى الهدف السلبي أو الإيجابي الكامن في هذا النزوع الذي يتجه إلى الأمام وينتهي بإشباع «الجوع» وتحقيق الحلم، أي ينتهي إلى «الكل» اليوتوبي، أو ينتهي بالقضاء عليه (قضاءً مؤقتًا على أقل تقدير) فيكون «اللاشيء» أو «العدم». وبذلك أيضًا يكون «الرعب من الفراغ» — الذي أفزع الفلسفة القديمة في زمن أرسطو فقالت بأن كل شيء ملاء — يكون هذا الرعب هو العامل الإيجابي الفعال الذي يحرك العالم ويحافظ على حركته ويضعه موضع التجربة، أو يجعل منه «معمل اختبار» لإفراز مضمونه الحقيقي.٢٢ وبذلك يصبح العالم — وهو دائمًا عالم الصيرورة المتصلة — هو التجربة الهائلة أو الاختبار الضخم الذي لا يتوقف عن السعي لبلوغ الحل الذي يكفيه ويرضيه، أو تقويم الحلول التي لم تشبعه ولم تلبِّ حاجته العميقة، ولا شوقه ورغبته ومقصده وحلمه الأصيل.٢٣ وعلى الرغم من ذلك فإن وجود العالم يظل على الدوام وجودًا ناقصًا غير مكتمل، أي أنه باختصار وجود «ليس-بعد». والفراغ الماثل في «اللا» الحاضرة في كل «آن» وفي صميم كل «موجود هناك» يدل على أن هذا الموجود لم يتحقق بعدُ ولم يبلغ ماهيته الحقة.
ويعبر بلوخ عن هذا المعنى بصورةٍ منطقيةٍ مركزة على النحو التالي: أ لم تصبح بعد هي ب، أي الموضوع لم يحصل بعدُ على محموله، أي أن ب (المحمول) الذي لم يصل إليها أ (الموضوع) هو «ما what» الماهية المفتقدة والخاصة «بين» الوجود (Quad pro Quod) that وبتعبير أوضح وأبسط: الموجود لم يحقق بعدُ ماهيته، أو لم يمتلك ذاته بعدُ … وكل هذا يمكن تكثيفه في صيغةٍ معبرة عن «الوحدة الأنطولوجية» بالصورة المركزة التالية: اللا = نقطة الصفر، الليس بعد = اليوتوبيا، العدم أو الكل = النواة.٢٤

•••

وأخيرًا قد تبدو الصيغة المنطقية السابقة مجردة أو غامضة أكثر مما ينبغي؛ ولذلك فهي تحتاج إلى وقفةٍ نقدية تعلق عليها وتوضحها. والواقع أننا لو رجعنا إلى تلك الصيغة أ لم تصبح بعدُ هي ب، لوجدنا أنها قد أثارت إشكالاتٍ أنطولوجيةً عديدة، فربما تبدو في ظاهرها يقينيةً واضحة، غير أنها تخفي في حقيقتها الحيرة والقلق. والفخ المنطقي والأنطولوجي الأول يكمن في كلمة «بعد»، فقد تعودنا في المنطق الصوري أو التقليدي أن نميز بين الوجود واللاوجود، وأن نفرق بين أ ولا أ بقولنا أ هي أ، والعكس كذلك صحيح — أ ليست هي لا أ. وكلتا الصيغتين تقومان على المعادلة الرياضية أ = أ وكذلك أ لا يمكن أن تساوي لا أ. كل هذا يؤكده منطق الثبات والتحديد التقليدي، لكن الأمر مع منطق الحركة والتغير مختلف؛ إذ يدخل على الصيغة والمعادلة طرفٌ جديد يهزُّ توازنها، وهذا الطرف الجديد هو كلمة «بعد» التي تغير نظرتنا إلى الموجود والوجود كله.

بهذا يدخل التناقض الجدلي في حسابنا ويصبح عنصرًا أساسيًّا من العناصر المكونة للوجود فتتغير الصورة التالية: أ لم تصبح بعدُ هي أ، أو بعبارةٍ أبسط: الموجود أ الذي ندركه ونتعامل معه في هذه اللحظة ما يزال بعيدًا عن تمثيل حقيقة أ، وربما يتاح له في المستقبل أو لا يتاح له أن يظهر مكنونه ويحقق وحدته مع ذاته. وحتى هذا التحقيق أو التوحد يحتاج أن نراه رؤيةً جدلية فنقول إنه لن يكون هو التحقيق الأخير ولا الكمال النهائي (وكلاهما يحمل معنى التوقف والتجمد والموت)، وليس الموجود إذن هو نفس الموجود، إنه شيءٌ مختلف عما هو عليه في ذاته. وستبقى أ = لا أ صحيحة ما بقي الموجود الذي يظهر لنا في الحاضر مختلفًا عما يمكن أن يكون عليه في المستقبل، ولكن ألا يعني تدمير الهوية أو الذاتية الراسخة أن يتصدع العالم، ويتفتت الموجود، ويغرق في نهر التحول الأبدي بحيث يستحيل أن نفكر فيه بأنه موجود؟ وكيف نسمي أو نتصور شيئًا يتشذر ويتغير من حال إلى حال بغير انقطاع؟

الواقع أن هذا هو الذي تقصده الصيغة السابقة. فكلمة «بعد» لا تدل من الناحية المنطقية البحتة إلا على علاقةٍ زمنية لا تلغي الوضع الحاضر الذي تعبر عنه أ = لا أ أو لا «ترفعه» كما يقول الجدليون (وإن كان من المحتمل أن تلغيه وترفعه في المستقبل) ومن الواضح أن هذه العلاقة بالمستقبل تعدل من وضع الحاضر نفسه ومن نظرتنا إليه،٢٥ لأنها توحي بأن أ في هذه اللحظة الراهنة ليست هي أ نفسها، ولكنها من ناحية المبدأ أو من جهة القوة والإمكان والاستعداد — إذا شئنا أن نستخدم لغة أرسطو وليبنتز — نستطيع أن نتعرف فيها الآن على ا، وإن كانت في حالتها الراهنة لا تزال شيئًا مختلفًا عنها أشد الاختلاف.

لا شك أن هذه الفكرة يمكن أن يُساء فهمها، ومن الممكن أن تضع فلسفة بلوخ في مهب الريح، وقد يقول البعض كيف يمكننا تسمية شيء بغير اسمه الصحيح بحجة أنه يمكن أن يكون صحيحًا في المستقبل؟ وقد يقول البعض كيف نجازف في هذه الحالة بإصدار حكم على الوجود على أساسٍ عاطفيٍّ هش هو الأمل أو الرجاء؟ الحق أن تبديد هذا الظن يتوقف على التمسك بالنظرة الجدلية والتعويل على إرادة الإنسان ووعيه الثوري … ولنبتعد عن الأنطولوجيا قليلًا ونضرب مثلًا من الحياة؛ فهل نسمي المجتمع الذي ينتج وسائل القهر والقمع والتعذيب وأبشع الجرائم والحروب بأنه مجتمعٌ إنساني أم بأنه لا إنساني؟! وهل نظلم الحقيقة إذا وصفنا البشر الذين يعيشون فيه، أو على الأقل المسئولين عن تلك الشرور، بأنهم ليسوا بشرًا؟ نعم إن الإنسان في مثل هذه المجتمعات يفتقر إلى هويته الإنسانية بسبب ظروفٍ مختلفة ومعقدة، ولكنه يمكن أن يتحد بهويته الجوهرية إذا تغيرت هذه الظروف، لأن اللا-إنسان الذي تزيد وحشيته أحيانًا عن الوحش لا يزال إنسانًا بحكم الطبيعة والإمكان، وإن لم يبلغ في ظل الوضع القائم مبلغ الإنسان، فإذا أضفنا كلمة «بعد» إلى العبارة المتناقضة: أ ليست هي أ، أو أ = لا أ وجعلناها أ لم تصبح بعدُ هي أ، فإن ذلك ينطوي على إضافة قيمةٍ معيارية إلى أ تعطيها فرصة التحقيق في المستقبل، على الرغم من عدم تحققها في واقع الأفراد الذين ينتمون إلى فئتها أو نمطها الكلي، ومعنى هذا — إذا شئنا أن نستخدم لغة أفلاطون — أن هنالك درجات في الاقتراب من الوجود الحق، أو من الوجود العام لكل موجود.

بهذا تكون الفكرة المحورية التي عبرت عنها صيغة بلوخ السابقة قد تمخضت عن نتائجَ ميتافيزيقية وإنسانية (أنطولوجية وأنثروبولوجية) بالغة الأهمية على الرغم من مشكلاتها العديدة التي تصدم الفكر وتتحداه. فإذا كان كل موجود يتحدد بمجموعة من الخصائص الجوهرية، أمكن مع غياب هذه الخصائص أو نقصها أن نحكم بوجود هذا الموجود، وأن يحدد هذا الحكم بصورةٍ أدق فيقال إن وجوده غير كامل، بحيث يترك للزمن أن يضيف الخصائص الناقصة، على نحو ما يقال إن المولود يفتقر إلى بعض القدرات والاستعدادات التي سيستكملها مع النمو والتقدم في العمر، وإن لم يمنع هذا من وصفه من البداية بأنه إنسان، ومعنى هذا مرةً أخرى أن هوية أ مع ذاتها موجودة في هذه الصيغة «أ وجود لم يتحقق بعدُ.» أي وجود على نحوٍ ناقص أو على وجهة السلب. بذلك تحل الصيرورة اللامتناهية محل الوجود الثابت، وتتاح من الناحية الموضوعية فرصة الانتقال من الإمكان إلى الواقع الفعلي، ومن الناحية الذاتية من الأمل إلى التحقق.٢٦ بيد أن هذا كله لن يريح من الأسئلة والمشكلات، فالحكم بعدم تحقق الهوية (أو على الأقل بتأجيل تحققها) يمكن أن يزلزل عبارة بارمنيدس الشهيرة التي قام عليها التفلسف كله، وهي أن الوجود موجود، وربما رد العالم الذي نعيش فيه إلى حالة الفوضى والعماء التي كان عليها قبل الخلق، فلا نكاد تميز فيه الموجود من اللاموجود، ولا نكاد تسمى شيئًا باسمه. أضف إلى هذا أن عملية التقدم أو التطور المستمر من الأمل إلى تحقيق الأمل ومن الإمكان إلى الواقع الفعلي، يمكن من ناحية المبدأ وبمنطق الجدل نفسه أن تستمر بغير حد ولا نهاية؛ إذ ينقلنا الواقع الفعلي إلى إمكانٍ آخر، ويظهرنا الأمل المتحقق على أملٍ جديد لم يزل في سبيله إلى التحقيق. فهل هي دورةٌ أبدية يسلم الهدف الذي تحقق لهدف يبدو في الأفق البعيد، ويتمخض الموجود المتحد مع ذاته عن إمكانات لم تنبثق بعدُ؟ ألا يقال بهذا أن العالم لن يحقق هويته أبدًا، لأن ذلك معناه السكون والموت ونهاية العالم ذاته؟

تلك أمثلة للأسئلة والمشكلات التي يتصارع معها تفكير بلوخ اليوتوبي على كل المستويات، فالمادة لن تكف عن التفتح والإبداع، والمجتمع الخالي من الطبقات لن يتوقف بتحقيق «الجماعة الشيوعية» كما توهمت الدول الشيوعية، والفن لن يسأم الصعود على درجات الكمال، والحرية لن تفرغ أبدًا من إتمام تحررها، والهوية النهائية لن تتحقق أبدًا بصورةٍ نهائية، والإنسان لن يكف أبدًا عن تجربة الحياة من جهة السلب والنقص، ولن ينفض يدَيه أبدًا من محاولة التجاوز والعلو على ذاته. وفي كل الأحوال لن تخلو أي يوتوبيا متحققة من بقيةٍ يوتوبية، لا لأن الكمال لم يتحقق فحسب في العمل الذي تم إنجازه، بل لأنه بعيد عن الصورة التي تم تصورها قبل البدء فيه وأثناء الجهد الذي بُذل في سبيل تحقيقه … ولا يرجع ذلك لأن الإنسان مخلوقٌ ساخط بطبعه، لا يقتنع بأي هدف يحققه، بل لأن للوجود درجات، كما أن للكمال درجات. والحقيقة أن المزيد من الوضوح والتميز في تمثل الوجود والوعي به — كما عند ليبنتز في مذهبه عن المونادات — واستكمال العمل الكامل، هما خطوات على الطريق إلى تحقيق مفهوم الهوية والوصول إلى الكل.

وهكذا يفلت الوجود على الدوام، ويخترقه السلب لكي يفسح مكانًا للصيرورة ومعها التغير والتحول، والفكر وحده هو الذي يتشبث بديمومة الوجود الذي وحَّده معه بارمنيدس في عبارته المشهورة (لأن الوجود والفكر واحد)، وإلا انزلق منه كل شيء، ولم يتكون من تدفق الظواهر عالم على الإطلاق. أما الواقع الذي يواجه الفكر ويتسرب إليه في مختلف الصور، فهو حركةٌ متصلة، وكل ما هو «واحد» فيه ينطوي على «الآخر» المختلف عنه، ولولا ذلك ما كان هو الواحد ولا أخرج الوجود من داخل اللاوجود كما بين أفلاطون ذلك في محاورة «بارمنيدس» واستطاع بذلك أن يتجاوز الوجود أو أن يجعله يتجاوز نفسه.

ومهما يكن الأمر، فغني عن الذكر أن تلك الصيغة الجدلية المكثفة لا يمكن أن تتضح إلا إذا تم استخراج مضمونها الغني من ثنايا التجربة البشرية التي تجلى فيها على أنحاءٍ مختلفة، وإن تكن قد ظهرت حتى الآن في صورٍ تاريخيةٍ جزئيةٍ مشتتة وغير كافية أو محققة للأمل اليوتوبي، وبيان هذا وشرحه معناه تتبع العملية الجدلية في مجالَيها التاريخي والكوني، وهي العملية التي لا يمكن تصورها إذا كان الوجود ليس على الصورة التي ينبغي أن يكون عليها، وأنه لم يزل على الطريق إلى تحقيق ماهيته. وطبيعي أن الهدف من هذا البحث هو شرح هذه العملية الجدلية الضخمة في صورها وأبعادها المختلفة التي لم تزل في مجموعها مجرد تجلياتٍ مؤقتة للكل اليوتوبي الأخير، أو لم تزل مجرد خطوات ومراحل من الرحلة الطويلة التي تتابع طريق التجربة والخطأ، والنجاح والفشل، والأمل وخيبة الأمل، وكأن جهد العالم كله، وجهد الإنسان الذي يمثل آخر فصل فيها هو مختبر الخلاص الممكن.

ثانيًا: مقولة الإمكان

من الواضح أن مقولة اﻟ «ليس-بعد» التي تم عرضها من الناحية الأنطولوجية تدور في فلك الإمكان الذي سيتم عرضه من الناحية المنطقية. وقبل الحديث عن مقولة الإمكان يقتضي الأمر التعريف بماهية المقولة، وكيف تطورت في تاريخ الفكر الفلسفي. إن كل كلمة في أية لغة تدل على تصور Concept. والتصور اسمٌ كلي يطلق على أشياءَ كثيرة، فهو بلغة المنطق يمثل فئة يندرج تحتها مفرداتٌ متعددة، وليست هناك تصورات للأشياء المادية وحدها بل هناك كذلك تصورات للأفعال والكيفيات والعلاقات.٢٧ وظهر في تاريخ الفلسفة تصنيف للتصورات أو الكليات، فهناك كلياتٌ عقلية — وهي التي ستعرف فيما بعدُ باسم المقولات — وهناك أيضًا كلياتٌ مستمدة من الحس.٢٨ أما عن الاشتقاق اللغوي لكلمة المقولة أو قاطيغوريا Kategoria فهي كلمةٌ يونانية كانت تعني في الأصل «الاتهام» ثم أصبحت تعني الصفة المنسوبة إلى شيءٍ ما. والكلمة العربية «مقولة» لا تبعد كثيرًا عن هذا المعنى، فهي تعني «ما يقال على الموجود» أو «ما يحمل على الأشياء». أما المرادف اللاتيني فتعني المحمول لأي موضوع، من هنا أمكن أن توصف المقولات بأنها قائمة من المحمولات يكشف أيٌّ منها عن نمط الوجود الجوهري الذي ينتمي إليه الموضوع — وفقًا للتعريف الأرسطي للمقولة — وقد كان أرسطو أول من وضع نظريةً خاصة بالمقولات.٢٩
هذا عن ماهية المقولة واشتقاقها اللغوي. أما عن تاريخها في الفكر الفلسفي فقد تطورت في ثلاث مراحلَ أساسية، تبدأ المرحلة الأولى منها في الفلسفة اليونانية بالمقولات الأرسطية العشر، وهي لون من التصورات الكلية العقلية التي تمثل الخصائص الأساسية للأشياء،٣٠ أي خصائص الموضوعات أو الموجودات، لذلك فهي مقولات تمثل جانب الموضوع أو جانب الوجود، أو بمعنًى آخر هي مقولاتٌ أنطولوجية. وتبدأ المرحلة الثانية من «تاريخ المقولات في الفلسفة الحديثة بمذهب كانط الذي ظهرت فيه المقولات بوصفها عمليات ذهنية ذاتية أي تصورات.»٣١ وفي هذه المرحلة انتقلت المقولات من الموضوع إلى الذات، فأصبحت مقولاتٍ إبستمولوجية عند كانط بعد أن كانت أنطولوجية عند أرسطو، فمقولات كانط تصوراتٌ ذاتية للعقل البشري؛ لذلك لم يستخدمها على أنها المبدأ الأول في تفسير العالم، إنما هي مبادئ إبستمولوجية للمعرفة، أي مبادئُ أوليةٌ قبليةٌ سابقة على كل تجربة لأنها الشروط التي تعتمد عليها التجربة.٣٢ ثم تأتي المقولات الهيجيلية في المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل تطور المقولات، وهي مركب المقولة الأرسطية والكانطية لأنها موضوعية وذاتية في آنٍ معًا، وهي أنطولوجية وإبستمولوجية في وقتٍ واحد٣٣ المقولة الهيجيلية إذن هي المقولة التي اتحد فيها الوجود والمعرفة، وهي المقولة التي جمعت شمل أنطولوجية أرسطو وإبستمولوجية كانط. تحولت المقولة من صورةٍ إبستمولوجية للمعرفة إلى مبدأٍ أنطولوجي لتفسير الكون. عند هيجل أصبح من الممكن استنباط العالم استنباطًا منطقيًّا من المقولات بعد أن استحال هذا الاستنباط عند كانط.

(١) طبقات مقولة الإمكان

الواقع أن مشكلة الإمكان لم يتم تأملها في تاريخ الفلسفة بصورةٍ كافية. والفيلسوفان اللذان شغلًا بها على نحوٍ دقيق هما أرسطو وليبنتز. فالأول يرجع إليه وصف الأساس المادي للوجود بأنه الوجود بالقوة أو بالإمكان dynamei on كما يرجع إليه تمييز الوجود من ناحية الإمكان أو بحسب الإمكان Kata ton dynaton. أما لينتز فيرجع إليه الفضل في صياغة هذه المسلمة: كل ما هو ممكن ينزع للوجود Omne possibile existere غير أن مقولة الإمكان في رأي بلوخ مقولةٌ متعددة الطبقات والمستويات. ولعل من أهم فصول «مبدأ الأمل» وأشدها عمقًا هو ذلك الفصل الذي يكشف فيه بلوخ عن طبقات مقولة الإمكان، فقد تتعلق هذه المقولة كما قال هولتس (أحد تلامذة بلوخ المباشرين) — بجهة الحكم — أي الفكر والتعبير — أو بجهة الوجود، ولكن ارتباطهما ليس عن طريق الصورة والأصل كما يظن الواقعيون وبعض الوضعيين التحليليين بحيث يكون الإمكان من جهة الحكم صورة للإمكان من جهة الوجود، بل إن العلاقة بين الفكر والوجود علاقةٌ أعقد تشابكًا، وتوجد مراحل متداخلة؛ إذ يمكن أن يبدو «المستحيل الواقعي» ممكنًا من الناحية الفكرية، كما يحدث عندما نتخيل وجود حيوانٍ خرافي كالتنين، أو عندما يتصور الجائع هبوط الحمام المشوي إلى فمه في أرض الأحلام.٣٤
وكما أن الجهة في القضية هي التعبير في الحكم عن مرتبته من حيث تقرير الوجود «أو الإمكان» أو الضرورة أو الامتناع، فالحكم إما أن يكون ضروريًّا، أي معبرًا عن ضرورة الصلة بين الموضوع والمحمول، وإما أن يعبر عن أن هذه الصلة من الممكن وجودها بين كلا طرفَي القضية ويمكن أن تكون الرابطة رابطة امتناع بمعنى أنه من المستحيل أن ينتسب المحمول إلى الموضوع.٣٥ ولكن العلاقة بين هذه الأقسام ليست علاقةً حدية أو منفصلة، بل إن مقولة الإمكان علاقةٌ متشابكة. ونظرًا لتعقدها وتداخل مراحلها، فلا بد من تمييز الطبقات المختلفة لهذه المقولة الهامة والأساسية في نسق بلوخ الفلسفي، ولا بد من تمييزها بعضها عن بعض تمييزًا دقيقًا، إذا أردنا ألا يسير التفكير اليوتوبي سيرًا عشوائيًّا على غير هدًى، ولا بد كما يقول بلوخ أن يؤخذ الإمكان مأخذ الجد لأنه لو فقدت الموجودات — الواقعية والفكرية — صفة الإمكان لتوقفت الحياة نفسها وانتفى عنها التطور والصيرورة. والإنسان هو «كائن الممكن» الذي يحيط به الإمكان من كل ناحية، وربما يدل أيضًا على أن انفتاحه على الممكن ليس أمرًا تعسفيًّا يخضع لهواه، ولا هو شيء «غامض» يمكن أن يكون كل شيء أو أي شيء، وإنما يتضمن شروطًا وقواعد تحميه من أن يتحول إلى مجرد لعب بالكلمات والأفكار. وما دام الإمكان مقولة، فيمكن تحديد طبقات هذه المقولة وشروطها التي تصونها من أن تكون نوعًا من العبث أو الانسياق وراء الأحلام والأوهام. ويقسِّم بلوخ مقولة الإمكان إلى مستويات أو طبقاتٍ متعددة تعكس درجات المعرفة والإدراك، ولنبدأ بأول هذه الطبقات.

(أ) الممكن الصوري أو الشكلي The Formally possible

الممكن الصوري هو أول هذه الطبقات. وهو مجموعة من الكلمات يرتبط بعضها ببعض بشكلٍ لا معنى له، لكنه بناءات أو تركيباتٌ لغويةٌ ممكنة على مستوى القول لكنها بغير معنًى على الإطلاق مثل «شيء مستدير» أو «وإنسان ويكون» وغير ذلك من التركيبات الخالية من أي معنًى، وبصرف النظر عن الحقيقة التي تعبر عنها هذه القضية، وربما تأتي تركيباتٌ لغويةٌ أخرى غير العبارات الحمقاء السابقة، فتأتي مضادة للمعقول أو لا معقولة، وإن كان من الصعب إدراك أي معنًى لها مثل عبارة: «مربع دائري» أو تنطق بحكمٍ مضاد للعقل مثل: «إنه يصعد على ظهر سفينة رحلت من قبلُ.» والاستحالة هنا مباشرة وواضحة، فالعبارة لا تخلو من المعنى، وإنما هي مضادة للمعنى ولقوانين العقل والمعقول. ولذلك يمكن التفكير فيها — إذ إن ما يدخل في علاقة مع غيره ممكن التفكير فيه — ولكن لا يمكن تحديد معنًى معقول لها، ومن ثمَّ يكون الإمكان هنا هو الإمكان الصوري أو الشكلي.٣٦
وإذا كان أرسطو قد قسم القضية من حيث الجهة إلى أربعة أقسام: (أ) الضروري أو الواجب الذي لا يمكن أن يكون بخلاف ما هو كائن. (ب) الممكن باعتبار ما كان، وهو الشيء الذي حدث في الماضي وكان يمكن ألا يحدث، أي لم تكن ثمة ضرورةٌ وجودية تقتضي أن يكون قد وجد. (ﺟ) الممكن باعتبار ما سيكون، وهو ما لم يحدث بعدُ ولكن من الممكن أن يحدث يومًا ما. (د) والمستحيل أو الممتع الذي لا يمكن أن يكون أبدًا.٣٧ إذا كان أرسطو قد أقام هذا التقسيم، فإن العلاقات الكائنة بين أطراف العبارات والتركيبات — السالفة الذكر — هي علاقات تضاد أو تناقض ولكن يمكن التفكير فيها من الناحية الشكلية البحتة، لأن في هذا المستوى الأول من مستويات مقولة الإمكان يبحث بلوخ الممكن على مستوى الفكر وليس على مستوى الواقع. لذلك يمكن تركيب عدد لا حصر له من هذه التركيبات التي يرفضها منطق العقل والمعقول، والتي أخضعها بعض فلاسفة التحليل المعاصرين وبعض الوضعيين المناطقة — مثل رودلف كارناب — للفحص المنطقي الدقيق، وبيَّنوا أنها يمكن أن تكون سليمة من الناحية اللغوية والنحوية، ولكنها مرفوضة من الناحية المنطقية. ويذكر بلوخ من هذه العبارات اللامعقولة: «المثلث الغاضب»، «الحصان الراعد»، «قيصر عدد صحيح»، «الجبل الواسع الاطلاع»، وأمثال هذه التركيبات التي يمكن أن يكون بعضها موحيًا في اللغة الأدبية والشعرية، ولكن الذي يهمنا من هذا السياق هو إمكان التفكير فيها من الناحية الشكلية، ومهما تكن عقيمة وغير دقيقة وبلا معنًى، فهي تبين على كل حال «الممكن» الذي يقبل التفكير فيه، ولكن إذا كان مجال الإمكان بالنسبة للتفكير متسعًا بغير حدود، فهل ينطبق نفس الشيء على مجال الإمكان المفتوح أمام المعرفة؟ هل يمكن لهذا الأخير أن يكون أكثر تحديدًا أو أكثر موضوعية وإن لم يتحقق بعدُ بصورةٍ ملموسة؟

(ب) الإمكان الموضوعي من الناحية المعرفية The factually objectively

هذا الإمكان لا يكمن في التفكير بوجهٍ عام، بقدر ما يكمن في المعرفة. وعلى الرغم من الاتساع الهائل لإمكانات المعرفة بشتى مجالاتها وميادينها وموضوعاتها، فإن إمكاناتها من الممكن وصفها وتحديدها وبيان شروطها المعروفة أو القابلة للمعرفة، هذا الوصف وهذا التحديد يتعلقان بدرجات المعرفة ومستوياتها بالنسبة لموضوعٍ معين، لا بدرجات ومستويات الشروط الداخلية الكامنة في هذا الموضوع نفسه ومدى النضج الذي وصل إليه بحيث يكون «موضوعيًّا» بحق، ومعنى هذا بعبارة أوضح أننا لا نبحث هنا «الإمكان الموضوعي» أي بمفهومه الموضوعي الدقيق المتحقق بالفعل، وإنما نبحث من جهة كون معرفتنا به — سواء كانت موضوعية أو غير موضوعية — ملائمة أو غير ملائمة. ويتمثل هذا الإمكان في الصيغ والتركيبات التي تعبر عن اعتقاد أو ترجيح يقوم على مبرر أو مبررات تؤيده، فالتبرير هنا هو الشرط أو السبب الذي يجعلنا نعتقد في ذلك الإمكان أو نرجحه، مع العلم بأن هذا التبرير المعرفي لم يصل بعدُ إلى النضج الكافي لجعل الإمكان موضوعيًّا، كما لم يؤدِّ بعدُ إلى بلورته أو تحقيقه في صيغةٍ كاملة أو مُرضية. في هذه الحالة لم يتم التوصل بعدُ إلى معرفة كل شروط الإمكان — التي تحتم تحقيقه — معرفةً موضوعيةً كافية، أي أن الإمكان هنا يكون مشروطًا بصورةٍ جزئية، وبهذا وحده يوصف بأنه ممكن — والواقع أن هذا هو المعيار الذي نقيس به درجات الإمكان ومستوياته في كل أشكاله وتحولاته — ولو صرفنا النظر عن الإمكان الصوري أو الشكلي من الناحية الفكرية البحتة كما ذكرناه في البداية، لكان الممكن هو المنفتح بوجهٍ عام ودون تحديد، وذلك لعدم كفاية شروط تحققه أو لعدم كفاية معرفتنا بها أو للسببين معًا. وطالما أننا لا نعرف سوى بعض هذه الشروط، أي ما دمنا لا نعرفها كلها، فيستحيل أن نستدل من مثل هذا الإمكان على الوجود الواقعي. وهنا يصدق المبدأ المدرسي (الاسكولائي) المعروف الذي يقول: «لا يجوز الاستدلال من الإمكان على الوجود.»٣٨ نعود إلى الإمكان من الناحية المعرفية فنقول إن الذي يميزه — عن غيره من أشكال الإمكان — هو المعرفة الموضوعية الجزئية بشروطه (أي بالشروط التي تجعله ممكنًا بحق، أو ناضجًا للتحقق) ونحن نصف هذه المعرفة بأنها مشروطة وجزئية، لأن توافر مجموع الشروط التي تنقل الشيء أو الحدث إلى مرحلة التحقق لا يجعل هذا التحقق أمرًا محتملًا أو مرجحًا فحسب، وإنما يجعله أمرًا محققًا بصورةٍ مطلقة وغير مشروطة، ولذلك فلا يجوز أن نراهن على تحققه أو عدم تحققه بعد اكتمال المعرفة الموضوعية بكل شروطه، بل إن بلوخ ليؤكد أن ذلك الموقف لن يخلو — من الناحية الإنسانية — من الغباء.٣٩
ويتم التعبير عن الإمكان الموضوعي من ناحية المعرفة به في صورة حكمٍ شرطي hypothical judgement، أو في صورة حكمٍ احتمالي أو إشكالي problematic judgement. إذا كانت درجة اليقين في المعرفة به أقل. ويختلف الحكم الشرطي في هذا الصدد عن الحكم الاحتمالي أو الإشكالي في أن الأول لا يفترض بعدُ مقدماتٍ مؤكدة، على حين أن الحكم الاحتمالي أو الإشكالي يحتوي على مقدماتٍ مؤكدة (إذ تكون مقدماته مضمرة) بل يضيف كذلك مقدماتٍ مجهولة (ومن أمثلة الأحكام الإشكالية: يمكن أن تمطر اليوم، ربما يكون لويكيبوس قد عاش بالفعل … إلخ) ولهذا يعد الحكم الإشكالي هو الحكم المعبر عن الإمكان باعتباره أحد أحكام منطق «الجهة» أو إحدى مقولاته: ««أ» من جهة الإمكان مرتبطة ﺑ «ب».» وطبيعي أن تدخل أحيانًا في هذا النوع بعض الأحكام غير الأصيلة للإمكان، وهي الأحكام التي لا تقوم على دراسة أو معرفةٍ كافية أو الأحكام التي تصدر لأسبابٍ نفسية وتربوية عن وعيٍ غير كافٍ بالشروط التي استقر العلم عليها من قبلُ. فعندما يصدر أحد الحكم التالي من أحكام الجهة «يمكن أن ينحل الماء إلى عناصره عن طريق التيار الكهربائي.» فإنه يعبر بذلك عن جهله أو تجاهله للحقيقة المعروفة وهي أن التيار الكهربائي يتسبب في تحليل الماء إلى عناصره التي يتكون منها (هذا إذا لم توجد ظروف تعوق ذلك). إن مضمون هذا الحكم مبرر ولا يقبل الشك، وكل شروط صدقه متوافرة، ولكن العيب في مستوى معرفة قائله، أو بالأحرى نقص معرفته الذي جعله يصوغ حكمه في صورةٍ احتمالية بدلًا من أن يضعه في الصورة التوكيدية أو التقريرية التي تليق به. أي أن السبب وراء أمثال هذا الحكم ليست منطقية بل نفسية أو اجتماعية، ومن هنا لم يفرق الكثيرون بينه وبين الأحكام الإشكالية الأصيلة التي تصدر عن معرفةٍ جزئية (لا معرفة مغلوطة) بشروط الإمكان.٤٠
والواقع أن عبارات البحث العلمي أو فروضه التي تقوم على معرفةٍ كافية بشروط تحقيق نتائجه هي من قبيل أحكام الجهة الموضوعية الأصيلة. ومن ثمَّ تمثل المعرفة الموضوعية بالإمكان مستوًى معرفيًّا لم يصل بعد إلى الإحاطة «بجميع» الشروط الموضوعية لتحقيق ذلك الإمكان، وإن كان قد توصل إلى معرفة بعضها فحسب ولهذا يبقى الحكم في حالة التأرجح أو الاحتمال، كما تبقى كذلك إمكانية إثباته أو نفيه، وصدقه أو بطلانه، وكل من مارس البحث العلمي — الطبيعي أو الاجتماعي والإنساني — يعلم هذا، كما يعلم أن هذا هو الجانب الموضوعي الذي نقصده حين نحكم على هذا الحكم بالإيجاب أو السلب، وبالصواب أو الخطأ قبل المضي في بقية إجراءات البحث المنهجية لمعرفة بقية شروطه ثم التحقق منه بصفةٍ نهائية. وعندئذٍ يمكن القول بأن الحكم بالإمكان كان حكمًا موضوعيًّا على إمكانيةٍ موضوعية، وأن الترجيح أو الاحتمال الذي تضمنه الحكم الاحتمالي أو الإشكالي بالنسبة للمعطيات التجريبية في العلوم الطبيعية والإنسانية؛ قد تضمن كذلك نوعًا من التوقع أو المعرفة المسبقة بالشرط الأساسي أو بمجموعة الشروط الأساسية التي توجه البحث المنهجي في الموضوع تمهيدًا لتحقيقه بصورةٍ فعلية، وبذلك يجوز القول بأن الحكم الإشكالي الأصيل يعبر عن الصورة الشرطية أو الافتراضية والموضوعية — في آنٍ واحد — التي يقوم عليها البحث العلمي-الموضوعي بمعناه الصحيح، أي أن في استطاعتنا باختصار أن نصفه بأنه هو مبدأ اكتشاف الموضوع أو مبدأ الكشف عنه heuristic principle.٤١

وطبيعي أن يدخل البحث في مشكلة الإمكان الموضوعي الذي يعبر عنه الحكم الإشكالي الصحيح في مشكلاتٍ أخرى متعلقة بمنهجية البحث العلمي وبمدى قدرة المنهج «الاستقرائي» على إثباته أو نفيه من خلال قدرته على معرفة جميع شروطه أو معظمها، وربما يتعلق الأمر بمشكلة التعميمات الاستقرائية التي يبدو أنها لم تجد الحل اليقيني النهائي حتى الآن، وإن أقصى ما يمكن قوله عنها إنها فروض عمل تحتوي على أكبر قدر أمكن التوصل إليه من درجات الاحتمال أو الإمكان الموضوعي؛ ولذلك نكتفي بما قلناه عن الإمكان الموضوعي من الناحية المعرفية وننتقل إلى الإمكان الموضوعي من ناحية الموضوع نفسه.

(ﺟ) الإمكان الموضوعي من جهة الموضوع نفسه The fact-based object-suited possible

يتميز الإمكان في هذا المستوى بأنه لا يتعلق بمعرفتنا بموضوعٍ ما، بل بالموضوع نفسه من حيث قدرته أو استطاعته أن يصير على هذا أو ذاك. معنى هذا أن الاهتمام ينصبُّ هنا على شروط الموضوع نفسه التي لم تظهر أو لم تتبلور بعدُ بشكلٍ كافٍ، لا على المعرفة غير الكافية بهذه الشروط — كما في المستوى السابق — فهنا يتم الانتقال من المعرفة بالموضوع إلى الموضوع نفسه وشروطه الكامنة فيه والعلاقات الموضوعية القائمة بينها، أي إلى الخصائص والعوامل الداخلية التي تشارك مشاركةً إيجابية في إنضاج صيرورته وتحقيق إمكاناته. بهذا نصل إلى طبقة الإمكان التي ترتبط ببنية الموضوع الموضوعية التي تجعله على هذا النحو أو ذاك، بحيث يظل — خلال صيرورته الواقعية — منفتحًا على إمكاناتٍ أخرى لا تنتهي حتى لو تصورنا أن معرفتنا «الموضوعية» بشروطه قد انتهت أو اكتملت من الناحية النظرية.٤٢
نحن نبحث إذن على هذا المستوى في «موضوعية الموضوع» أو «شيئية الشيء» من حيث بنيته وتركيبته الواقعية التي تتخللها عملية الصيرورة المستمرة، كما نبحث في مدى توافر الشروط الداخلية والخارجية التي تؤدي إلى إمكان تغييره من وجهة النظر «اليوتوبية الأصيلة»، أو تجعل هذا التغيير ينحرف إلى وجهةٍ زائفة. وقد ظهر مفهوم نظرية الموضوع للمرة الأولى بشكلٍ واضح لدى الفيلسوف النمسوي أليكسيوس مينونج٤٣ (١٨٥٣–١٩٢٠م) ولكنه كان مفهومًا «قبليًّا» خالصًا ولا يتعلق إلا بماهيات الموضوعات أو خصائصها الجوهرية المستقلة تمام الاستقلال عن وجودها أو عدم وجودها في الخارج (أي مع وضع هذا الوجود «بين قوسين» كما عبر بعد ذلك هوسرل وأصحاب فلسفة الظاهريات) وقد اعتبر مينونج أن نموذج هذه المعرفة الموضوعية المتحررة من التقيد بوجود الموضوع أو عدم وجوده هي الرياضيات أو المعرفة الموضوعية المجردة بالحقائق الرياضية البعيدة كل البعد عن أي علاقة بالواقع العيني الخارجي.٤٤ وهكذا «تموضع» المنطق أو «تشيَّأ» بالمعنى الذي ذكرناه، أي أصبح «وصفًا» قبليًّا خالصًا لأفعاله، وتحليلًا قبليًّا ومعنويًّا لمقولاته، مع وضع الوجود الطبيعي أو العيني للموضوعات «بين قوسَين» كما سبق القول.
وإذا كان بلوخ لا يناقش هذه المسألة الهامة مناقشةً تفصيلية، فمن الواضح أنه يرفض وجهة النظر «القبلية» والمعرفية المحضة عند كل من مينونج وهوسرل رفضًا حاسمًا، وذلك اتساقًا مع وجهة نظره المادية الجدلية التي تركز على البنية المادية للموضوع نفسه وانفتاحه على مختلف الإمكانات المادية أيضًا؛ فهو يتمسك «بنظرية الموضوع» ولكنه يربطها بوجوده الواقعي وعلاقاته وشروطه الواقعية أكثر مما يربطها بموضوعية المعرفة به أو «بموضوعية شيئيته» في حالتها الحاضرة أو الراهنة وهو يصر في النهاية على أن هذه هي الطريقة الصحيحة التي تعبر عن بنية الواقعية والموضوعية أو تعكسها بصورةٍ جدليةٍ حقيقية بعيدة عن الصورة المثالية المتعالية التي انتهت إليها فلسفة الظاهريات عند مؤسسها هوسرل، وربما أوضح وجهة نظره قليلًا حول «نظرية الموضوع» بقوله إن عملية الانعكاس التي تتم فيها العلاقات الموضوعية ليست مجرد عمليةٍ معرفية تتكون في الوعي، وإنما هي «نتيجة معرفية» بالموجود الواقعي أو بالموضوع الواقعي نفسه وتلائمه. وتتخذ هذه النتيجة المعرفية شكل «التعريف الواقعي» الدقيق الذي لا يكتفي بتقديم الخصائص اللغوية والتصورية للموضوع، وإنما يقدم خصائصه التكوينية أو البنائية الواقعية الكامنة في داخل الموضوع أو في داخل السياق الاجتماعي والتاريخي الذي يوجد فيه. ويعطينا بلوخ مثلًا على ذلك يصوغه بلغته الاشتراكية المفضلة لديه، فالتعريف الواقعي والاشتراكي في نظره لمفهوم «الأمة» هو المفهوم الذي يعكس البنية الواقعية المكونة «لموضوع» الأمة ويعرفنا بها بعيدًا عن المفاهيم الفاشية أو الاشتراكية الوطنية، والنازية المتعصبة.٤٥
إن نظرية الموضوع التي يقدمها بلوخ على هذا النحو هي في رأيه «مقر المقولات» باعتبار أن المقولات هي أعم أشكال الوجود الواقعي العيني وأكثرها تميزًا وتحددًا. وفي إطار هذا المستوى الموضوعي — أو هذه الطبقة من طبقات الموضوعية — تتحدد طبيعة الإمكان الموضوعي أيضًا، وتبرز أهمية التفرقة التي أشرنا إليها بين «الموضوع» (الذي اكتملت شروطه الداخلية وأصبح قابلًا للمعرفة) وبين «الشيء» (كمدركٍ حسي) في واقعة الراهن، بين الإمكان البنائي والموضوعي المنخرط في جدل الواقع والمنفتح على وضع أو أوضاعٍ أصيلة، وبين الحالة الحاضرة أو الراهنة التي صار إليها الشيء الواقعي أو صارت إليها إمكاناته، ومن ثم تساعد «نظرية الموضوع» على تمييز مقولة الإمكان في أبعادها الموضوعية، أي من ناحية الشروط التي تحددها بنية الموضوع ونمطه وسياقه الاجتماعي ونسق علاقاته وقوانينه الداخلية … إلى آخر ما يقوم على أساس الموضوع نفسه ويجعل انفتاحه على الممكنات — حين نعبر عنه في شكل أحكام شرطية أو احتمالية وإشكالية — أمرًا محددًا ببنية الموضوع ذاته، ومبررًا بشروطه. وهذه الشروط — كما ذكرنا — داخلية وخارجية، وهي متشابكة ومتفاعلة تفاعلًا يحفظ لكلٍّ منها طبيعتها النوعية.٤٦
ويبقى الإمكان الموضوعي قائمًا على ما هو عليه، حتى في حالة تحقق أحد الشرطَين أو إذا قارب التحقق. فقد يحتوي النبات بحكم شروطه الداخلية على إمكان نضوج الثمرة الكامنة فيه، ولكن ظروف الطقس غير المواتية — أي الشروط الخارجية — لا تساعد على ذلك النضوج. وقد تتوافر الشروط الخارجية وتغيب الشروط الداخلية أو تفتقر إلى العناصر المهمة التي تعمل على تحقيق الإمكان الموضوعي. فالبشرية تضع أمامها على الدوام أهدافًا تسعى إلى تحقيقها، حتى إذا جاءت لحظة التحقق التاريخية لم تجد سوى بشرٍ ضعافٍ عاجزين، ومن ثم يبقى التحقق مجرد إمكان ينتظر توافر شروطه.٤٧
ومن أمثلة ذلك العديد من الثورات والانتفاضات الشعبية التي لم تتحقق على الوجه الأكمل من وجهة نظر التقدم والتحرر والعدل والاستنارة الجديرة بهذا الاسم، وذلك لغياب أحد الشرطَين السابقَين أو نقصهما، ومن أمثلته تأخر جني الثمار الناضجة بعد فترات النهوض أو عصور النهضة عند كثير من الشعوب كما هو الحال مع نهضتنا العربية الحديثة التي عوقتها غيبة كثير من الشروط أو عجزها وعدم وصولها إلى النضج. وينطبق نفس الشيء على تطور العلوم والفنون والآداب والنظم الفكرية في كثير من البلاد والعصور والحضارات.٤٨ والمهم أن الشرطين يظلان في حالة تفاعلٍ دائب، مهما أصابهما من نقص أو ضعف، على الطريق إلى «الإمكان الموضوعي» الذي يتوقف على الأمرَين معًا: قدرة الإمكان الداخلي الفعال على تحقيق «التغيير» و«قابلية» الواقع أو استعداده لهذا التغيير، أي باختصار لإمكانية الفعل القادر على التغيير، وإمكانية الصيرورة نحو التغير في ظروف العصر والبيئة والمجتمع المواتية.
ويتضح مما سبق أن الشكل الأساسي للإمكان الإيجابي الفعال يتوقف على قدرة العوامل الذاتية أو البشرية، وهذه العوامل البشرية لا تستطيع بدورها أن تحقق شيئًا بغير العوامل الموضوعية والخارجية المرتبطة والمتفاعلة معها والتي تكون في حالة انتظار لمن يحركها ويوجهها إلى التغيير الذي يؤتي ثماره. وهكذا تتكشف مقولة الإمكان الموضوعي — إذا تحققت لها الشروط السابقة — عن تدخل الإنسان لتغيير الواقع أو العالم الذي يقبل التغيير، كما تتكشف هذه المقولة عن مفهوم «الخلاص» أو «الأمل» نفسه. أما عدم نضوج هذين الشرطَين أو أحدهما فيمكن أن يفسح المجال للتغيير الزائف، ويكشف عن مفهوم اللعنة أو الكارثة واليأس المدمر بدلًا من مفهوم الخلاص والأمل. وما أكثر ما حدث هذا مع الثورات الزائفة التي قامت بها نظم القمع والاستبداد سواء في عصرنا الحاضر أو في العصور الماضية مع اختلاف أشكالها باختلاف السياقات التي تمت فيها. ومع العلم أيضًا بأن عدم نضوج الشرطَين اللذين تحدثنا عنهما — وهو يمثل العنصر السلبي في الإمكان الموضوعي — يمكن أن يتدرج صعودًا أو هبوطًا من كارثة الطغيان المطلق إلى كارثة يسببها حادث تصادم بين سيارتَين أو قطارَين. كما أن نضوجهما يمكن من ناحيةٍ أخرى أن يتراوح بين الحظ السعيد الذي يمكن أن يصيب إنسانًا، «ومملكة الحرية» التي تتقدم في التاريخ بوصفها إمكانية تحقيق المجتمع الاشتراكي. مع العلم أيضًا بأن الحالة الأولى يمكن أن تخضع للصدفة العرضية المباشرة التي تقع على هامش العملية الجدلية، أما الثانية فتنمو وتبلغ النضج بحكم الضرورة الجدلية والموضوعية الكامنة في عملية الصيرورة التي تتم في باطن المادة والوعي، وفي الطبيعة والتاريخ بحكم القوانين الجدلية ذاتها (على غرار التفرقة التي نجدها في الفقرة ٢٥٠ من موسوعة العلوم الفلسفية لهيجل، حيث يفرق تفرقةً دقيقة بين الصدفة العرضية والضرورة الجدلية التي تحتوي على «الإمكان الموضوعي» المفتوح والكامن في الصيرورة الجدلية نفسها على النحو الذي صوره بلوخ وفسره كما رأينا وفقًا لفلسفته اليوتوبية في الأمل والخلاص عن طريق تحقيق الاشتراكية) هذه القوانين الجدلية التي لا تستبعد الصدفة على المستوى الأعلى، وهو مستوى الخلق والإبداع الذي يحقق تنوع الإمكانات الموضوعية وثراءها بصورة قد تبدو للنظرة السطحية وكأنما تحمل طابع الصدفة أو المفاجأة، مع أنها تكمن في طبيعة التوسط الجدلي الذي يبدع الجديد باستمرار، ويتعارض مع الصدفة العارضة تعارضه مع الضرورة العمياء على السواء. ولن تدرك النظرة السطحية ذلك حتى تتعمق العملية الجدلية وما تنطوي عليه من إمكاناتٍ موضوعيةٍ مفتوحة على آفاق التجدد والتغيير على المستويَين المادي والإنساني.٤٩

(د) الإمكان الواقعي في الواقع نفسه The Objectively-Real possible

كل ما قيل عن الإمكان حتى الآن يمكن أن يبقى مجرد كلامٍ عقيم لا يتمخض عن نتيجةٍ ملموسة، ولا يتولد عنه تغييرٌ حقيقي فعال، فلا يكفي تبرير الإمكان من الناحية المنطقية والشكلية، ولا ترجيحه من الناحية الموضوعية، بل لا يكفي القول بأنه إمكانٌ مفتوح تقتضيه الشروط الداخلية والخارجية للموضوع نفسه. إن هذا كله يمكن أن يبقيه في دائرة التمني والاحتمال إذا لم يكن له أساس في الواقع المادي، وإذا لم يستطع أن يحدد هذا الواقع تحديدًا مستقبليًّا ينبع من الواقع ويدفعه ويوجهه نحو تحقيق الأمل «العيني المحدد». وينقلنا هذا إلى طبقةٍ أخرى من طبقات مقولة الإمكان، ونقصد بها الإمكان الواقعي، وليس هذا الإمكان الواقعي إلا المادة نفسها، هذه المادة التي تظهر كل الأشكال الكامنة في رحمها بفضل الصيرورة الدائبة فيها، ولو سئل على سبيل المثال لتوضيح ما هو الإنسان لكانت الإجابة: الإنسان هو الإمكان الواقعي لكل ما صار إليه هذا الإنسان خلال تاريخه كله، ولكل ما يمكن أن يصير إليه بحكم التقدم الذي لا حدود لآفاقه وإمكاناته. وهي إمكانات لم تزل أبعد ما تكون عن النضوج، فلم يستهلكها هدف وصلت إليه، مهما جل هذا الهدف، ولم تُستنفَد في مرحلة مرت أو تمر بها، مهما بالغنا في عظمة هذه المرحلة. ذلك أن الإنسان ليس مجرد شجرة استنفدت كل جهدها في مد الأغصان وإنضاج الثمار، وإنما هو المجموع الكلي لشروطه وإمكاناته الداخلية والخارجية التي لم تصل بعدُ إلى النضج النهائي الأخير ولن تصل إليه أبدًا.٥٠
بهذا المفهوم الشامل للإمكان الواقعي الذي نسميه المادة يمكن أن نفهم فكرة «الوجود بالقوة» أو «الوجود — في حالة — الإمكان» التي حدد بها أرسطو مفهوم المادة. ويستحق هذا المفهوم أن نذكِّر به ونتتبع تطوره في هذا السياق باختصارٍ شديد، قبل أن نرجع إليه بشيء من التفصيل فيما بعدُ عند التعرض «لأنطولوجيا» المادة. فإذا كان هيراقليطس في تاريخ الفكر الفلسفي الغربي هو أول من أدرك وجود التناقض في الأشياء نفسها، فإن أرسطو هو أول من تعرف إلى الإمكان الواقعي (dynamei on) في مادة العالم: «كل ما يصير في الطبيعة أو الفن له مادة، لأن كل ما يصير فهو قادر (أو لديه إمكان dynaton) على أن يكون وألَّا يكون، وكل ما يمكن أن يكون ولا يكون فإنما هو المادة في كل شيء.»٥١ ومن المعلوم أن أرسطو قد ميز العامل الفعال في هذا الإمكان، وهي الصورة، أو الأنتيليخيا Entelechy، التي تحقق ذاتها «وكمالها الأول» عن المادة، بحيث وضعهما في شكل الثنائية التقليدية بين الصورة والمادة. ومن المعلوم أيضًا أن هذه الثنائية قد تراجعت تراجعًا ملحوظًا عند عددٍ كبير من فلاسفة العصور القديمة والوسيطة والحديثة، وأنها عانت من الصراع المستمر بينهما لتقديم أحدهما على حساب الآخر عند عددٍ كبير أيضًا من الفلاسفة. ومن الطبيعي أن نجد بلوخ يتابع مفهومه عن الإمكان الواقعي (أو المادة الفعالة حاملة الصور في داخلها) عند الفريق الأول الذي تخطى تلك الثنائية ووحد بين المادة والصورة أو بين الإمكان السلبي والإمكان الإيجابي الفعال أو الواقعي.
فالمتكلمون المسلمون يرفضون بطبيعة الحال أن يوحدوا بين الإمكان والمادة، ومن ثم يحولون هذه المادة إلى عدمٍ مطلق خلق الله العالم منه بقدرته وإرادته، ثم يضع بلوخ بعض فلاسفة الإسلام والمسيحية واليهودية — مثل ابن سينا وابن رشد وأمالريش البيني٥٢ وابن جبيرول٥٣ (١٠٢٠–١٠٦٩ / ١٠٧٠م) ضمن القائلين بوحدة الوجود المادية، ويزعم أنهم جعلوا المادة (أي الإمكان الواقعي) أساس العالم، بل جعلوا فعل الخلق الإلهي لحظة من لحظات المادة ووحدوا في النهاية بين المادة والألوهية. بل إن بعضهم في رأيه — مثل ابن رشد — قد اعتبر أن تطور العالم (أو حركته) هو ظهور الصور من المادة، وأن المادة نفسها هي التي تعطي الصور وبذلك يصبح الخلق — بعد استبعاد ثنائية الصورة والمادة — حركةً ذاتية أو إخصابًا ذاتيًّا تقوم به المادة الإلهية التي يكمن فيها الإمكان بغير حاجة إلى محرك أول من خارج العالم.
وتتجدد هذه النزعة المادية في عصر النهضة الإيطالية مع جوردانو برونو (١٥٤٨–١٦٠٠م) فيغدو العالم بأكمله تحقيقًا واقعيًّا للإمكانات. وتلتقي الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة في السماء وفي الأرض، وفي الأعلى والأسفل، أي في المادة الدائمة، الأزلية، المبدعة، المادة الأم. بذلك تصبح المادة التي تطور مفهومها على يد برونو تطورًا جسورًا هي «حامل» الإمكان الواقعي أو قوامه، وهي مصدر الصور ومنبعها لا مجرد وعاءٍ حاوٍ لها «ولهذا يجب أن تحتفظ المادة، التي تظل خصبة على الدوام، بحقها المتميز في أن تكون هي المبدأ الجوهري الوحيد، وأن يُعترف بها بوصفها هي التي توجد وتبقى. ولهذا انتهى بعض أولئك الذين بحثوا مسألة الصور في الطبيعة — بقدر ما فهموها عن أرسطو وغيره ممن يسايرونه في اتجاهه — إلى أن الصور ليست سوى تحديدات المادة، وأن الحق في التميز بالفعل والأنتيليخيا (الكمال الأول) يجب أن ينسب إلى المادة.»٥٤

هكذا نظر الفلاسفة السابقون إلى الإمكان الواقعي نظرةً واقعية، واستخلصوا من ذلك — حسب تفسير بلوخ — النتيجة التي استهدفها منذ البداية من نظرته الحيوية والمستقبلية إلى المادة التي تشمل في رأيه الحياة والعقل وتمثل الرحم الخصب على الدوام والنزوع المستمر لإنجاب الصور والأشكال القابلة للتحقق في الواقع.

ولكن هذا التفسير المادي — المتأثر بغير شك بالأفلاطونية المحدثة — لفكرة أرسطو عن الوجود بالقوة أو بالإمكان dynamei on قد تراجع تراجعًا شديدًا مع سيطرة النزعة المادية الآلية أو الميكانيكية، وسيادة العلم الطبيعي ومناهجه الكمية والقياسية التي أخذت منذ عصر النهضة الأوروبية إلى منتصف القرن التاسع عشر في استبعاد النزعة الحيوية ونفي التفسير الغائي من دائرة العلم. وقد مهدت الفلسفة المدرسية (الاسكولائية) لهذا التراجع عندما استبعدت مفهوم المادة الأرسطي كما استبعدت مفهومها عند الفلاسفة السابقين لسقراط (وهو المفهوم الذي يشير إليه ضمنًا جوردانو برونو في عبارته السالفة الذكر) وكانت النتيجة أن تحول الإمكان الواقعي إلى واقعٍ كميٍّ إحصائي، وأصبحت المادة كتلةً غليظة بلا تاريخ، ودخلت العالم في القرن التاسع عشر (على حد تعبير عالم الفيزياء جون تيندال John Tyndall ١٨٢٠–١٨٩٣م) دخول الشحاذ الذي سلبه اللاهوتيون المتشددون حق الميلاد، أي صارت منذ البداية شيئًا متجمدًا. إلى أن دخل المفهوم الأرسطي للمادة أو الإمكان الواقعي — وهو الذي لم تنقطع تطوراته وتحولاته على يد الفلاسفة الذين سبق ذكرهم ولدى غيرهم حتى ليبنتز (١٦٤٦–١٧١٦م) على أقل تقدير — في المادية الجدلية التاريخية، فتشابك فيه العامل الذاتي أو الإنساني، مع نضج الشروط الواقعية باطنية كانت أو خارجية، وتحول الكم — حسب منطق الطفرة الجدلية — إلى كيف، وإلى حتمية التغير الجذري … إلى آخر هذه «اللحظات الجدلية» التي لم يكن من الممكن أن تتلاءم مع التصور الآلي والكمي الجامد والأحادي للمادة. وبذلك أمكن أيضًا أن نخرج من مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية، وأن تتلاقى فيه الأطراف الثنائية المتباعدة (كالطبيعة والمستقبل، والمادة والتوقع، والواقع والحلم)، وأصبحت المادة عملية صيرورة غنية ومنفتحة على إمكانات التغيير «الواقعية» التي تكمن بذورها فيها، أو بالأحرى على «الجديد» اليوتوبي، «والكل» The Totum المأمول.٥٥

لم يعد من الممكن إذن أن تستقر المادة — أو على الأصح الإمكان الواقعي — في الأنطولوجيا السكونية المغلقة للوجود بما هو موجود، فقد اهتدت، بعد عناء البحث الطويل، إلى وطنها الحقيقي في أنطولوجيا جديدة تحتاج باستمرار إلى تأسيسٍ جديد من جهة الزمان والمكان معًا، وأعني بها «أنطولوجيا الوجود» الذي لم يوجد بعدُ، والذي يكتشفه «الوعي بالمستقبل» في الماضي نفسه وفي تاريخ الطبيعة بأسرها، كما يصبح المكان هو «بُعد الأمام» أو التقدم المستمر لحركة المادة الجدلية التي تطبق عليها مقولة الإمكان الواقعي وهل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك بعد أن نظرنا إلى المادة وخصائصها نظرةً مستقبلية؟ وهل يستقيم تصورنا للواقع والواقعية إن جردناهما من بعد الانفتاح على المغاير والجديد؟ ولكن كيف نفهم هذا «الجديد» و«الكلي» الذي يكمن في بذور الإمكان الواقعي ويتفتح باستمرار على المستقبل؟ وإلى أين تندفع إمكانات المستقبل المفتوح على الطفرات اللانهائية لعملية الصيرورة الجدلية الدائبة؟

إن الإمكان الذي تحدثنا عن بذوره المتفتحة للنمو والتطور، هو كذلك «الجذر» و«الأصل» الذي تنبثق عنه الظواهر والصور على اختلاف مستوياتها ومضامينها، فيسقط منها ما يسقط من قشورٍ غير أصيلة ولا جوهرية، ويبقى ما يبقى من إمكاناتٍ واقعية تنزع باستمرار إلى المزيد من الأصالة والجوهرية والواقعية. ويضرب بلوخ مثلًا حيًّا على ذلك «بالإنسان العامل» الذي هو في رأيه «جذر» الصيرورة البشرية نحو الإنسان «المثالي» الذي سيعيش في المجتمع الخالي من الطبقات، أو في «الوطن» الحق الذي تتجه إليه مسيرة المادة والوعي معًا عبر تاريخها الطويل. هذا الإنسان — الذي هو معرض للتحولات خلال تاريخه الماضي وسوف يتعرض للمزيد منها خلال تاريخه الآتي — قد بدأت بذرة تطوره وتقدمه على طريق المستقبل عندما بدأ يسير منتصبًا على قدمَيه. لقد كان هذا السير المستقيم هو البذرة الأولى التي انطوت فيها الاستقامة الكاملة منذ البداية، أي الاستعداد الكامن لتحقق مملكة الحرية، وهو الاستعداد الذي طالما تحقق عبر التاريخ بصورٍ واقعيةٍ جزئية في العديد من الثورات الواقعية والجزئية أيضًا حتى يصبح المجتمع الخالي من الطبقات حقيقة تجسد الإمكان الكامن في تاريخ الإنسان حتى الآن. ومهما تكن طبيعة هذا التجسد الواقعي، فسوف تظل علاقته «بالكلي» النهائي الكامن في الإمكان علاقةً جوهرية، أي أنها ستظل هي العلاقة الجدلية القائمة بين المظهر والحقيقة، أو بين الوجود والماهية، ذلك لأن العملية الجدلية — إذا فهمت على حقيقتها — تستبعد تحقيق «الكلي» مع تحقق المجتمع الخالي من الطبقات، لأن الإنسان في ظل هذا المجتمع لن يكفَّ ولن تتوقف مسيرته المندفعة نحو الوضع (أو الحالة) التي يتحد فيها المظهر والحقيقة، والوجود والماهية.٥٦
ومع ذلك فإن تاريخ الإنسان في صيرورته الواقعية حتى الآن قد تخلله على الدوام أو تغلغل فيه الإمكان الواقعي الجوهري بصورٍ متزايدة تفوق صوره الخادعة أو السطحية، بل إن صور هذا الإمكان كانت تتألق بين الحين والحين على حافة المسيرة البشرية. وأبسط دليل على هذا هو «اليوتوبيات» الاجتماعية كلها على وجه التقريب التي انعكست عليها أشعة الأمل بصورٍ مختلفة، كما تجلت من الناحية النفسية في صور التمني والحلم بالمستقبل، ومن الناحية «الأخلاقية» في «المثل العليا» الإنسانية، ثم تجلت من الناحية «الجمالية» في العديد من «الرموز» الطبيعية والموضوعية. فأما صور التمني والحلم بالآتي فقد ظل مضمونها هو «إمكان» الحياة الأفضل، وأما المثل العليا فكان مضمونها هو الوجود الإنساني الكامل بقدر الطاقة، والعلاقات الاجتماعية الأكمل مما هي عليه في الواقع؛ ولهذا بقيت (أي المثل العليا) في كل الظروف والأوضاع نماذج يحتذيها الإنسان ويسعى إليها٥٧ (ومن أهمها وأسماها فيما يرى بلوخ نموذج الإنسان في ظل المجتمع الخالي من الطبقات الذي ظل يحلم به قبل انهياره الأخير بعد وفاته بحوالي ثلاثة عشر عامًا).
وأخيرًا فإن «الرموز» توحي دائمًا من بعيد بإمكان الوحدة المفتقدة بين الوجود والماهية في الطبيعة، وإزالة اغتراب الإنسان عن حقيقته الجوهرية (خصوصًا على نحو ما صورها ماركس الشاب في المخطوطات الاقتصادية الفلسفية عام ١٨٤٤م) ولما كان مضمون الرموز هو الإيحاء بالممكن والدلالة على شفرات معانيه، كان الرمز دائمًا أكثر غموضًا وخفاء من المثال، كما كان أكثر منه قدرة على الإشارة إلى وحدة الماهية الأساسية التي تكمن وراء إيحاءاته ومعانيه المتعددة. ولهذا تلاقت الرموز الأصيلة دائمًا حول معنًى مركزي أو ماهيةٍ أساسية وصفت عبر التاريخ (لاسيما بتأثير الأديان) بأنها هي الواحد والحق والخير، ولأن مضمون الرمز بعيد عن الظهور والتحقق، فقد بقي من الناحية الواقعية والموضوعية مجرد شفرة توحي بالممكن ولا تحدده. والمهم في نهاية الأمر أن يعكس التعبير الرمزي في الأدب أو الفلسفة ذلك الإمكان الواقعي والكلي الذي تحدثنا عنه، وأن يوحي على طريقته بمسافة البعد الفاصلة بين «ظهوره» و«تحققه»، ويشير إلى «وحدة» معناه وراء المعاني الغامضة والمتعددة التي تنبعث منه، وبذلك يكون — إذا صح هذا التعبير — رمزًا واقعيًّا ولا يفقد مضمونة الصلة بواقع العالم والإنسان بالهروب إلى المستحيل أو الافتتان بسحر الكلمات وألاعيبها المضللة. ولا شك في أن الرموز والتمنيات والأحلام التي فاضت عن الوعي أو اللاوعي البشري في تاريخه الطويل قد حاولت على اختلافها أن تعبر عن «نماذج المعنى» الكامنة فيما سميناه الوجود الذي لم يتحقق بعدُ، كما حاولت الاقتراب من ذلك «الكلي» الذي يتحدد عنده المظهر والحقيقة، والوجود والماهية، ويتجه إليه النزوع الكامن في المادة والوعي اتجاهه إلى الأمل البعيد وغير المستحيل.٥٨

والملاحظ أن بلوخ يظل هنا أسير عقيدته الماركسية المتزمتة على الأقل من ناحية الهدف لا من ناحية السبل والطرق الموصلة إليه. فهو يصوغ هذا الأمل البعيد في تحقيق الماهية الكلية في الصيغ الماركسية المعروفة مثل «تطبيع الإنسان وأنسنة الطبيعة»، والقضاء على اغتراب الإنسان عن الطبيعة والعكس، «والتصالح بين الموضوع والذات والضرورة والحرية». ولن يتحقق الأمل في هذا الإمكان الواقعي إلا بتوسط الجدل الفعال والتفاؤل المناضل بعالمٍ أفضل.

(٢) مقولة الإمكان وموقف بعض المناطقة والفلاسفة منها

ما أكثر ما لم يتم الوعي به في شعور الإنسان! وما أكثر ما لم يتحقق بعدُ في العالم! وعلى الرغم من التسليم بأن اﻟ «ليس-بعد» حقيقة حية في كل ما هو حي فينا أو حولنا، فإن مقولة الإمكان قد عانت من سوء الحظ ولم تدرس دراسةً كافية لا على المستوى الأنطولوجي ولا على المستوى المنطقي. لقد ظلت على الدوام محيرة من الناحية المنطقية، ولم تتحدد بصورةٍ حاسمة كما حدث لغيرها من المفاهيم؛ ولذلك أهملتها الأنطولوجيا أو نظرية الوجود إهمالًا يكاد أن يكون تامًّا، واقتصر ذكرها في المنطق — أو كاد — على كتب المنطق الصوري، وحتى عندما تتعرض نظرية المقولات للممكن فيما يوصف بمقولات الجهة، فإنها تقتصر على تحديد نوع المعرفة بالموضوع، ونادرًا ما تتطرق إلى تحديد الموضوع نفسه. إن مقولة الجهة٥٩ تشير من ناحية الأحكام إلى درجة اليقين في الحكم أو إلى طريقة الربط بين الموضوع والمحمول في الحكم. ومقولات الجهة كما حددها كانط هي الإمكان والواقع والضرورة، وتناظر مقولة الجهة جهات الحكم التالية: الحكم الإشكالي أو الاحتمالي، الحكم التقريري، والحكم اليقيني. والإمكان أو الاحتمال — عند كانط — يعبر عن حالة التردد أو التوقف عن الحكم، لأن معنى الاحتمال هو أني لا أستطع أن أضيف صفة المحمول إلى الموضوع، كما أنني لا أستطع بيقين نفيها عنه، فأنا متردد بين السلب والإيجاب، وهذا لا يكون حكمًا، فحالة الاحتمال إذن هي حالة توقف في الحكم. أما إذا كان الحكم معبرًا عن إمكان الخروج عن قانونٍ طبيعي ضروري فهذه الحالة تكون حالة احتمال أو إمكان، فالجهة فيها الاحتمالية فإذا تصادف ووجدت غربانًا مختلفة الألوان عما نألفه، فإن هذا ممكن الحدوث، ويكون حدوثه مخالفًا لقاعدة مطردة فيما يتصل بألوان الغربان السود دائمًا، فالإمكانية هنا تعبر عن إمكان الخروج عن قاعدة كشواذ لهذه القاعدة.٦٠
ويصدق هذا الإهمال لمقولة الإمكان على صغار المناطقة والفلاسفة وعلى كبارهم، فالجميع يتشابهون في تفريغ مقولة الإمكان من مضمونها الواقعي، ويشتركون في عدم التفرقة بين المعرفة الجزئية بالشروط وبين الشروط نفسها في وجودها الجزئي، ويسوون بين الحكم الاحتمالي أو الإشكالي بوجود حقيقةٍ موضوعية مقررة، والحكم التوكيدي على حقيقةٍ موضوعية لم تتقرر بعدُ أي على إمكانٍ موضوعيٍّ قائم.٦١ فالحكم الاحتمالي بأن: «من الممكن أن يكون محمد في البيت.» يختلط بالحكم التوكيدي: «من الثابت أن من الممكن في زمنٍ قريب إطلاق مركبةٍ فضائية للهبوط على سطح القمر.» والفرق الواضح بين الحكم الأول والحكم الثاني ليس فرقًا من الناحية المنطقية والسيكولوجية فحسب، وإنما يدل على الطابع الخارجي أو الواقعي لقدرٍ كبير من أحكام الجهة. ولو اقتصرت طبقات مقولة الإمكان — كما رأينا من قبلُ — على طبقة الترجيح المعرفي، لما أمكن التعبير عن الإمكان الموضوعي أو الواقعي في العالم الخارجي، أو لبقي على أحسن الفروض مجرد تصورٍ ذاتي ومثاليٍّ أجوف، أو وهم من أوهام الخيال وإسقاطٍ بشري على العالم الخارجي، وكأن لم يتعرض إنسان أبدًا لأخطار الممكن، ولا حاول أن ينجو منه أو يحسب حسابه أو وقع ضحية له، بل كأن الكائنات العضوية كلها لم تزود بأجهزة السلوك المنعكس وردِّ الفعل على الممكنات الموضوعية والواقعية المحيطة بها في العالم الخارجي، وذلك ابتداءً من الكائنات ذات الخلية الواحدة إلى الوحش الكاسر والإنسان العاقل المفكر. ويكفي مثلًا ذكر الإمكانات الموضوعية التي يحفل بها القانون المدني والقانون الجنائي.٦٢
ولو نظرنا في كتب المنطق التقليدية، مثل كتاب سيجفارت٦٣ (١٨٣٠–١٩٠٤م) لوجدناه يُعرِّف الإمكان تعريفًا صحيحًا بأنه هو «ما يعرض للفرد من ناحية كونه يحتوي على السبب الجزئي لما سوف يكون.»؛ وبذلك يكون الإمكان في رأيه مجرد تعبير عن موقفٍ ذاتي لم يحسم أو عن تسليم بقصور معرفتنا. والمهم أن المبالغة في تأكيد أحكام الجهة المتعلقة بالترجيح والاحتمال على حساب الأحكام المتعلقة بالإمكان الموضوعي يدل على تجاهل المثاليين أو إنكارهم للإمكان الموضوعي، كما يدل بصفةٍ أعم على أن معظم المفكرين الكبار — الذين لا يدخلون في عداد المثاليين ولا الذاتيين — ينكرون هذا الإمكان الواقعي بسبب تفكيرهم «السكوني» الذي يدور حول «المعطى» و«الماضي» بدلًا من الانطلاق إلى الآفاق المفتوحة على الجديد والممكن.٦٤ والغريب حقًّا أننا نجد هذا عند فلاسفة لا شبهة في تفكيرهم التطوري (مثل أرسطو) والجدلي (مثل هيجل)، بالرغم من تصور «الوجود بالقوة أو الإمكان» وتأثيره العظيم عند الأول، وبالرغم من الجيل الواقعي الشامل عند الثاني، ولعل التصور السكوني للعالم أو لله — على أساس أنه الواحد والكل الذي تحقق فيه كل إمكان — هو المسئول كذلك عن غياب مفهوم الإمكان الواقعي عند مفكرَين آخرَين لا شبهة أيضًا في جدليتهما وهما: نيقولا الكوزي (١٤٠١–١٤٦٤م) الذي يصف الله بأنه هو الإمكان (posses) المتحقق تحقيقًا كاملًا، وجوردانو برونو (١٥٤٨–١٦٠٠م) الذي يرى أن العالم بكليته لم يبقَ فيه شيءٌ ممكن لم يتحقق٦٥ … وكأن الجميع قد نفروا من «الجديد» و«الآتي» فأداروا له ظهورهم ولم يهتموا بالانفتاح عليه أو التفكير فيه تفكيرًا جادًّا.
والواقع أن النفور من «الإمكان» و«الممكن» أقدم بكثير من المفكرين والفلاسفة الذين ذكرناهم. فحتى السوفسطائيون الذين زلزلوا كل ثابت ومستقر، لم ينل الإمكان منهم غير التهكم والسخرية. وقد أصبح كل شيء عندهم مساويًا للاشيء، لأن كليهما ممكن على حدٍّ سواء. فقد قال جورجياس (من حوالي ٤٨٣ إلى حوالي ٣٧٥ق.م.) إنه لا شيء موجود، لا اللا-وجود ولا الوجود ولا حتى ما يقع بينهما بحيث يمكن أن يفسد أو أن يكون، أي بحيث يرتبط بأحدهما بعلاقة الإمكان.٦٦
ولم يكن إنكار المدرسة الميجارية٦٧ للإمكان بأقل حدة وإصرارًا من إنكار السوفسطائيين، إذ ارتبطت هذه المدرسة بمذهب الأيليين في الوجود الواحد الثابت من الأزل إلى الأبد، وبذلك استبعدت الإمكان، كما استبعدت المدرسة الأيلية الحركة من كل نوع. وقد اشتهر برهان الميجاري «ديودوروس الكرونوسي» Diodoros Kronos ضد الإمكان، وهو برهان يذكرنا ببراهين زينون الأيلي على بطلان الحركة، وقد ذاع صيته وانتشر لعدة قرون إما بسبب براعته الجدلية أو لافتتان أصحاب الفكر السكوني به. وقد وصل إلينا هذا البرهان على شكل القياس التالي: «لا يمكن أن يخرج من الممكن شيء غير ممكن، ولما كان من الضروري أن يتمخض الممكن، الذي لم يتحقق في الواقع، عن شيء غير ممكن، وأن يكون شيئًا آخر غير الشيء الذي يكونه، فإن هذا الممكن نفسه غير ممكن، وبذلك يثبت أن الواقع هو الممكن الوحيد.»
وعلى الرغم من ضعف هذا القياس، فقد تبنَّته الرواقية الرومانية، واقتنع به الرواقيان الشهيران إبيكتيت (من ٥٠ إلى ١٣٨م) والقيصر ماركوس أو ليوس (من ١٢١ إلى ١٨٠م) لتدعيم، إيمانهما بالضرورة التي تحكم النظام الكوني وخلوه من أي إمكان، كما تحول عن طريق شيشرون٦٨ (من ١٠٦–١٤٣م) إلى ما سمي بعد ذلك بحب القدر Amor Fati واجتمع إنكار الممكن، والرواقية الجديدة، وحب القدر في مذهب اسبينوزا الواحدي الذي تلخصه عبارته المعروفة «الرؤية من منظور الأبدية» sub Quadam aetemilatis specie.٦٩ ومعنى هذه العبارة بحسب تعريفها هو النظر إلى كل ما هو ممكن على أنه ضروري وواقعي. فكل شيء من منظور الأبدية محكم ومترابط ترابط الأسباب والنتائج (وكأن علاقة السببية هي القدر الرياضي للعالم). وما من شيء في هذا العالم يمكنه أن يفلت من السببية الكلية، ومن ثم فلا مجال فيه للإمكان أو الممكن.٧٠
ولكن هل ينطبق هذا على أعظم فلاسفة الإمكان بعد أرسطو، وهو ليبنتز (١٦٤٢–١٧١٦م)؟ ألم يقل بما استبعدها اسبينوزا بالاختيار بين الإمكانات المنطقية المتعددة؟ ألم يذهب إلى أن الله (سبحانه وتعالى) قد اختار أن يخلق هذا العالم — أي ينقله من حالة الإمكان إلى التحقق — من بين عدد لا حصر له من العوالم الممكنة؟ إن الواقع يقول بأن ليبنتز قد عرف الإمكان من حيث هو استعداد، وإن يكن استعدادًا لا يظهر جديدًا ولا يطور مضمونًا ينطوي عليه العالم القائم. أضف إلى هذا أن الإمكانات الأولى primae possibilitates للعوالم التي أراد الله أن يختار منها «أبدع عالم ممكن» وأن يحقق هذه الإمكانات الأولى، لا توجد إلا في العقل الإلهي، أي لا علاقة لها بالعالم الواقعي الذي وقع عليه الاختيار وليست من ممكناته. ألا يحق لنا أن نقول إن ليبنتز قد ترك الإمكان المنطقي محصورًا في دائرةٍ لاهوتيةٍ مغلقة، وأن تصوره القاصر للإمكان لا يختلف في نهاية المطاف عن تصور اسبينوزا الذي نفى الإمكان والاختيار عن الله نفسه حيث يقول في كتابه الأساسي «الأخلاق»: «لم يكن من الممكن أن يخلق الله الأشياء بطريقةٍ أخرى أو على نظامٍ مختلف عن الطريقة والنظام اللذين خلقا بها.»٧١
ويستمر النفور من الإمكان عند فلاسفةٍ آخرين لا يمكن اتهامهم بإلغائه أو إهماله كل الإهمال. ونبدأ بكانط (١٧٢٤–١٨٠٤م) وهيجل (١٧٧٠–١٨٣١م) اللذين نعتقد أنهما لم ينصفا الإمكان الواقعي، لا في «نقد العقل الخالص» ولا في «المنطق» و«موسوعة العلوم الفلسفية». فالفيلسوف النقدي الأكبر في العصر الحديث قد رفع من شأن «المثل» العقلية والأخلاقية في فلسفته النظرية والعملية. ومع ذلك يضع «الإمكان» مع الأشكال الخالصة للفكر الخالص، مؤكدًا إمكان وجود الأشياء عن طريق التصورات أو المفاهيم القبلية، بالإضافة إلى الإمكان «الذي لا يستمد إلا من واقع التجربة» من أشكال الفكر الخالص أو من المقولات. صحيح أنه يقول بوضوح إن جميع هذه الأشكال أو المقولات — ومن بينها مقولات الجهة (وهي الإمكان والوجود أو الواقع والضرورة) — هي التي تكون التجربة بوصفها «نظام الظواهر» المؤسس على المقولات. ولكنه ينبه — بما يشبه التحذير — إلى الدور الخاص الذي تقوم به مقولات الجهة بالنسبة للتجربة وذلك حيث يقول: «إن مقولات الجهة لا تزيد في التصور أو المفهوم، الذي تضاف إليه كمحمول، أدنى زيادة من ناحية كونه تحديدًا — أو تعيينًا — للموضوع، وإنما تعبر فحسب عن العلاقة بملكة المعرفة.»٧٢ ونستخلص من هذا كله أن كانط لا يعرف الإمكان الواقعي والموضوعي ولا يعترف به، إذا إن «الواقعي الموضوعي» لا يضاف عنده إلى الواقعي الممكن إلا عن طريق الحدس أو العيان، لا عن طريق ربطه بحكمٍ تقريري أو توكيدي، أي حكم من أحكام الجهة يتعلق بالواقع.

بيد أن كانط يفسح مجالًا للإمكان في فلسفته العملية بعد أن استبعده من فلسفته النظرية كما سبق القول، ففي ذلك المجال الذي يتعلق بمعرفة التجربة الأخلاقية عن طريق العقل العملي لا النظري، نجده يضع المثل والمبادئ أو المسلمات الأخلاقية التي يمكن أن تلزم الإنسان الذي يتجاوز ثنائية عالم الظواهر وعالم الحقائق المعروفة التي احتفظ بها في فلسفته النظرية، أي الإنسان الذي يعلو على الطبيعة والمنفعة، ويطيع أمر «الواجب المطلق» باعتباره كائنًا أخلاقيًّا ينتمي انتماءً أساسيًّا لعالم الحقائق الذي تسكنه «إمكانات» عليه — بحكم القانون الأخلاقي الصوري الصارم — أن يحققها في الواقع.

ويأتي فشته (١٧٦٢–١٨١٤م) الذي بنى فلسفته — أو نظريته في العلم كما سماها — على فلسفة كانط الأخلاقية، وجعل منها مذهبًا مثاليًّا مطلقًا عن «الفاعلية» الأخلاقية والعالمة بذاتها للشخصية أو «للأنا المطلق» على حد تعبيره، يأتي فشته فيقدم مسلمته أو مبدأه الشهير (postulat) الذي يعبر فيه عن الإمكان كقدرة أو استطاعة (potence) «أنت قادر لأنه ينبغي عليك.» وإذا كان فشته يفيد كذلك من المثل الأعلى Ideal الذي قدمه كانط في ثوبٍ تجريدي وهو «نشر سيدة الحرية الأخلاقية» ويربطه «بالسلوك الفعلي»، فإن الإمكان يظل في هذه الحالة أيضًا محاولةً دائبة للاقتراب من ذلك المثل الأعلى في التاريخ. ومع ذلك فليس هذا بالإمكان الواقع والموضوعي الذي يلائم «الواقع الجدلي» للعالم والإنسان، لأن «عالم التجربة» من منظور المثالية المطلقة أو من منظور المثالية الشارطية (الترنسندنتالية) لا يسمح له بالتحرر من القوالب الصورية والفكرية الخالصة (أي المقولات) لكي ينمو ويتحرك حركةً جدليةً واقعية. وحتى عندما أصبح الإمكان عند فشته هو إمكان الواجب الأخلاقي الملتزم بالمبدأ السابق الذكر أو بالمثل الأعلى؛ لم يتغير وضع الإمكان كثيرًا عما كان عليه عند كانط، فمن منظور الوعي أو الأنا المطلق (كما يسميه فشته) — وهو منظور غير تاريخي — لا يوجد ثمة مستقبل ولا أمل في المستقبل، اللهم إلا أن يكون نوعًا من «الميل» أو الرغبة التي لا ترقى إلى مستوى الإمكان الواقعي ولا تعبر عن بنيته العميقة. وهكذا يجوز القول بأن كانط وفشته قد ضيقا مجال الإمكان ومفهومه وحصراه داخل عقلٍ — نظري أو عملي — غير تاريخي يختزن مُثلًا عُليا Ideals غير تاريخية ولا واقعية كذلك.٧٣
والآن، ما هو موقف هيجل من الإمكان، وهو المعروف بأنه مفكر «العقل العيني الحي» لا «الفهم المجرد»؟ الحق أننا نفاجأ (في موسوعة العلوم الفلسفية، الفقرة ١٤٣) بأن هيجل يقتبس عبارة كانط التي سبق أن أوردناها عن مقولات الجهة التي يبعدها — أي كانط — عن الموضوع الواقعي ويدخلها في عداد «أشكال الفكر الخالصة» مما يرجح أن هيجل يوافقه على رأيه. ويزيد من قوة هذا الترجيح أن هيجل يضيف مباشرةً بعد الاقتباس السابق عن كانط: «الحق إن الإمكان هو التجريد الفارغ للتأمل في ذاته، هو ما سمي من قبلُ بالباطن، وإن كان «يوضع» الآن كذلك بوصفه ذلك الذي تم رفعه، ووضعه فقط، وتحديده باعتباره الباطن الخارجي، ومن ثم باعتباره مجرد الحكم (Modatity) وحسب، وتجريد غير كافٍ، وباعتبار أنه — إذا أخذ من الناحية العينية — لا يتعلق إلا بالتفكير الذاتي … وبوجهٍ خاص لا يجب في الفلسفة أن يتكلم أحد عن أن شيئًا ممكن أو أن شيئًا آخر غيره ممكن أيضًا، وأن هناك شيئًا — كما يعبر البعض كذلك — يقبل التفكير فيه.»٧٤
والغريب أن هيجل لا يكتفي في بعض الأحوال بوصف الإمكان بأنه «تجريدٌ فارغ التأمل في ذاته» وإنما يتقدم أبعد من ذلك فيقول عنه إنه «لحظة في ذاتها moment of reality in itself» من لحظات الواقع، غير أن هذا الإمكان الذي يصفه بأنه واقعي تحيط به دائرة الماضي أو على الأصح دائرة الواقع القائم الذي تم بالفعل. ويكفي أن نقرأ العبارة التالية من «المنطق» لنتأكد مما نقول «ولذلك فإن ما هو ممكن إمكانًا واقعيًّا، لا يمكن بعدُ أن يكون شيئًا وآخر (مختلفًا)، وتحت هذه الشروط والظروف لا يمكن أن ينتج شيءٌ آخرُ مختلف.»٧٥
ولا بد لإنصاف هيجل من معرفة قصده من أمثال هذه العبارة والسياق الذي ترد فيه. فهو هنا يتكلم باعتباره عدوًّا للآراء الجوفاء المطلقة من كل قيد، وإدخال الظن والتكهن والكلام السهل عما «كان يمكن» أن يحدث في التاريخ، أو ما كان يمكن أن تكون عليه «الدولة» أو الإنسان … إلخ من منظور المثل الأعلى المجرد. ومع ذلك فلا بد أيضًا من القول بأنه لا يتحدث ولا يفكر من منظور المستقبل، وإنه يؤكد هنا أيضًا أنه «جدلي الماضي» الذي يدور جدله على الدوام في دائرة ما حدث ويحدث على الدوام، وما سيعود عودة الدائرة إلى الأبد، ولعلنا لا نظلمه كثيرًا إذا قلنا إنه — على الأقل في كلامه عن الإمكان — يؤكد رأي بعض خصومه ونقاده بأنه هيجل «الرجعي» الذي لا مكان للتغيير المستقبلي في فلسفته، وهيجل الذي يقول صراحةً في المقدمة المعروفة لفلسفة الحق إن «فكرة العالم لا تظهر إلا حين يكتمل الواقع الفعلي وتنتهي عملية تطوره.»٧٦ وكأنما يؤكد بعباراتٍ أخرى ما سبق أن أكده الجدلي الميجاري الذي سبق أن أوردنا قياسه المثير الذي لم يخلُ من المغالطة ولا من السخرية من الحركة والتغيير ومن ثم من أي إمكانٍ واقعي للمستقبل. وكلا للرجلَين الجدليَّين — مع الفرق الشاسع بينهما — يثبت الزمان على الماضي الذي تلتف دائرته الحتمية حول رقبة العالم كله.
ولا شك أن هذه النزعة السكونية عند الفيلسوف الجدلي الكبير لا بد أن تثير الدهشة والانزعاج أيضًا. وموقفه من «الإمكان» هو الذي يثبت هذه الشكوك التي وصلت عند الكثير من خصومه إلى حد الإدانة والاتهام، وأنستهم أنه مؤسس قوانين الجدل التي زلزلت العالم والوعي وأدخلتهما في ملحمة الصراع (الذي تم في رأي هؤلاء الخصوم في الماضي، ويكتفي الفيلسوف باستعادة دائرته الكلية والضرورية) على نحو ما يقول مثلًا في الفقرة ١٣٩ من موسوعة العلوم الفلسفية: «إن ما هو داخلي فهو كذلك موجود في الخارج والعكس صحيح، والظاهر لا يبدي شيئًا ليس موجودًا في الماهية، كما أن الماهية ليس فيها شيء لم يتم ظهوره أو تجليه.»٧٧
ولا شك أيضًا أن الأمر مع النصوص الهيجيلية السابقة ليس بالبساطة التي نتصورها، ومجرد الظن بأن فيلسوف الجدل الأكبر مفكر «رجعي» و«محافظ» و«سكوني» و«عدو للتغيير» … إلى آخر هذه الأوصاف التي يحتدم حولها الأخذ والرد، لا يعفينا من القول بأن المشكلة أعقد مما تبدو عليه حتى من نصوص الفيلسوف نفسها. وهل يمكن أن يصدق الأوصاف السابقة من يتذكر مقدمة «ظاهريات الروح» الذي يرجع كما هو معلوم لتاريخٍ سابق (١٨٠٧م) على تأليف علم المنطق (١٨١٢–١٨١٦م) وموسوعة العلوم الفلسفية (١٨١٧م) التي يقول فيها: «ليس من الصعب أن نرى أن عصرنا هو عصر الميلاد والانتقال إلى مرحلةٍ جديدة. لقد قاطع العقل عالم وجوده وتصوره الذي عاش فيه حتى الآن، وعقد العزم على إسقاطه في الماضي وعلى العمل على تشكيله تشكيلًا مختلفًا.»٧٨
ولعل هيجل — كما يرى بلوخ — لم يستخلص النتائج الخطيرة المترتبة على هذا النص الفريد، ولم يتبين مثلًا أن العصر الذي يكون في حالة المخاض أو الميلاد لا بد أن يكون كذلك هو التربة التي ينمو فيها الممكن الواقعي ويتخلق على مهل حتى «يولد» ثم ينضج ويتحقق، وأنه حينما يكون العمل على التغيير أو التشكيل بصورةٍ مختلفة عن الأشكال الماضية فلا بد بطبيعة الحال أن «يكون إمكان التشكيل» أو القدرة عليه، وإمكانية تقبل التشكيل شيئًا يزيد عن كونه «تجريدًا أجوف للتأمل في ذاته» كما عبر عن ذلك في نصٍّ سابق، ولذلك فربما لم يظلمه بلوخ عندما قال إن منطق الإمكان و«أنطولوجياه» قد سحقهما وهْم السكون أو الثبات الذي أدى به إلى الزعم بأن كل ما هو ممكن في مجال الواقع قد تم تشكيله وانتهى الأمر، وكأنما هو السنبلة التي نمت حباتها أو قطع الشطرنج الساكنة بعد انتهاء اللعب. والحقيقة الجدلية أو على الأصح المادية الجدلية تكذب زعم هيجل، فتفسير العالم التفسير الصحيح يؤكد أنه في صيرورةٍ مستمرة ولا تنتهي أبدًا، وأن المهم هو تغييره وليس الاكتفاء بتفسيره فحسب (على حد تعبير ماركس وإنجلز المشهور في كتابهما عن الأيديولوجية الألمانية). ولذلك يمكن القول بأن تغيير العالم القابل للتغيير أو المسكن التغيير إمكانًا واقعيًّا، هو جماع «النظرية والممارسة» بالنسبة للإمكان الواقعي الذي يتطلب تحقيقه في العالم بفضل كفاح الإنسان. بهذا ينتهي اغتراب الإمكان الواقعي عن نفسه في الفلسفات التأملية السكونية والمثالية الذاتية. لأن هذا الاغتراب هو المشكلة الحقيقية للعالم، وهو العائق الرئيسي الذي يحول دون تحقيق الوحدة بين الوجود والماهية، وبين المظهر والحقيقة.٧٩

(٣) تحقيق الإمكان

الإنسان كائن ينتظره الكثير ولم يزل أمامه الكثير. وهو ما زال يتشكل بصورٍ مختلفة من خلال عمله، ويجد نفسه على الدوام وجهًا لوجه أمام الحدود التي يدرك أنها لم تعد حدودًا ثابتة، وأن عليه أن يتخطاها لما وراءها. إن «الشيء الحقيقي» — في نفسه وفي العالم — لم يتحقق بعدُ، ولم يزل معرضًا للتلف والضياع، أو منتظرًا على أمل النجاح. ذلك أن «الممكن» يمكن أن يؤدي للوجود، كما يمكن أن يفضي إلى العدم. ومعرفتنا بشروط تحقيقه الفعلية أو شعورنا بنضج هذه الشروط شعورًا يبلغ حد اليقين أو على الأقل أقصى حدود الاحتمال هو الذي يجعل منه ذلك الإمكان الواقعي الذي تحدثنا عنه. وإذا لم تتدخل مبادرة الإنسان وشجاعته في «اللحظة الممتلئة» المناسبة، فسوف يبقى هو والإمكان في حالة تأرجح بين الخوف والرجاء. فهل فطن الرواقيون إلى ذلك عندما نصحوا الإنسان بأن يبتعد عن الأوضاع التي لا يمكنه السيطرة عليها، أم كان هذا نوعًا من الحكمة المتعالية التي تمسكوا بها في أصعب المواقف والظروف وكانت — برغم شجاعتها — حكمةً سلبيةً يائسة؟

مهما يكن الأمر فإن قدرة الإنسان على الفعل عنصرٌ أساسي من عناصر الإمكان، كما أن شجاعته ومبادرته إلى هذا الفعل تزيد من احتمالات الأمل في تحقيق الإمكان، وتقلل من احتمالات الهروب إلى اليأس أو العدم، ولا شك أن الشجاعة التي نقصدها هي الوسط بين نقيضَين متطرفَين: التهور البطولي من ناحية، والجبن المتخاذل من ناحيةٍ أخرى، وإذا فهمناها فهمًا جدليًّا فلا بد أن تكون هي الشجاعة التي تأتي «بتوسط» الشروط الواقعية التي بلغت مرحلة النضج ودرست علاقتها بالسياق التاريخي والاجتماعي دراسةً فاحصةً دقيقة. وحينئذٍ يكون تدخل الإنسان «ممارسة» لا تنفصل عن النظر، ونظرًا لا يكتمل إلا بالممارسة.٨٠
ولا شك أن الإخلال بشروط هذه الممارسة المكافئة لإمكانات الواقع أو لواقع الإمكانات «يمكن» أن تؤدي — وقد أدت بالفعل — إلى ألوانٍ عديدة من «خيبة الأمل» منذ أن تعلم الإنسان الثورة على الواقع القائم ومحاولة تغييره من جذوره. لقد استمرت بطبيعة الحال عملية الصيرورة التاريخية والمادية التي لا تنتهي أبدًا، ولكن «النظر والممارسة» الإنسانيين لم يستطيعا — في رأي بلوخ — نقل «الأمل» أو «الإمكان الواقعي» إلى مرحلة التحقق، ويعني به «تطبيع الإنسان وأنسنة الطبيعة»، ولم يستطع كذلك بلوغ «أرض الأحلام» التي يتجسد فيها «كل» الإمكان من خلال التوسط التاريخي والعيني، لا من خلال التمنيات والأحلام الخيالية ولا من خلال اليوتوبيا المجردة. لقد أصبح الزمان — بعد ماركس — هو المجال التاريخي الذي يتم فيه الصراع الجدلي-المادي الذي يشمل العالم والإنسان، كما أصبح بعد المستقبل هو مجال الإمكانات الواقعية الكامنة فيهما والمتطلعة دائمًا إلى التحقق المادي والعيني بجهد الإنسان وعمله، هذا الإنسان الذي يلخص تطور تلك الصيرورة الكونية، وتتفتح فيه أروع زهراتها، كل ذلك بالعمل الذي صار به الإنسان إنسانًا، وبالثورات التي كانت وستكون «القابلة» التي تساعد على ميلاد مجتمع المستقبل الذي يحمل الحاضر في أحشائه «جنينه» أو إمكانه الواقعي.٨١
وبذلك يتلاقى العامل الذاتي (كإمكان للتحول الذي لم يتم) مع العامل الموضوعي (كإمكان لم يتم أيضًا لتحويل العالم وتغييره) وكل ذلك في إطار الشروط والقوانين التي تعين ذلك الإمكان ومدى قابليته للتحويل أو التحول، دون مبالغة أو تغليب لأحد العاملَين المتشابكَين على الآخر، حتى لا ينحرف ذلك التشابك أو التلاحم الجدلي ويتمزق ضحيةً ذاتيةً مثاليةً متعالية، أو ضحيةً موضوعيةً وضعيةً جامدة أو ميكانيكيةً فجة … وعندئذٍ يصبح البشر صانعي تاريخهم ومنتجيه الواعين، ويصبح العالم أو الواقع هو عالمهم وواقعهم المتغير والمتحول «يتوسطهم» وغير المغترب عنهم ولا المغتربين عنه. بهذا يتحقق صنع التاريخ أو إنتاجه الواعي، وتظهر مكنوناته وإمكاناته في صورها المختلفة، ويتغير المجتمع والطبيعة من جذورهما، ويظهر الموضوع الذي لم «يتشيأ» في وحدته الحميمة مع الذات التي لم تغترب. هذه الذات العاملة المنتجة التي كانت وسوف تبقى هي «العلة الذاتية» للتحول والتغيير، أي لتحقيق الإمكانات الواقعية في أفق المستقبل الواقعي.٨٢

أما عن هذا المستقبل الواقعي الذي ينتهي فيه اغتراب تلك الذات العاملة والواعية ويقضي على اغترابها واستغلالها واستعبادها، كما ينتهي كذلك اغتراب العالم والطبيعة الخارجية التي لا تصنعها هذه الذات، وإن كانت تؤثر عليها «وتُؤَنسنُها» بتوسطها، فإن معالمه ستتضح عند الكلام عن «اليوتوبيا الواقعية» التي رسم ماركس ملامحها، وجاء بلوخ فعمق هذه الملامح بحيث أصبحت هي «وطن» الحرية والإخاء البشري الذي يسكنه؛ على حد تعبير جوته في نهاية فاوست: «شعب حر يعيش على أرض حرة.» ويحقق الإمكان الذي يقبل التحقق كما يتحتم أن يتحقق.

والآن ماذا أضافت مقولة الإمكان — التي اتهم بلوخ الفلاسفة بإهمالها طوال التفكير الفلسفي — بطبقاتها أو مستوياتها المتعددة إلى الفكر الفلسفي من ناحية، وما أهميتها في فلسفة بلوخ السياسية من ناحيةٍ أخرى؟ يمكن القول بأن الانفتاح الهائل لمقولة الإمكان على المستقبل جعل مهمة التفكير المقولاتي لا تقتصر على المعرفة، وإنما تتدخل بشكلٍ إيجابي في مسيرة العملية الكونية، ولذلك يمكن القول بأنها أنطولوجية وعملية أو سياسية، بقدر ما هي منطقية ومعرفية. ولو وقف بلوخ عند هذا الجانب النظري الأخير لكان متناقضًا مع روح فلسفته الثورية ومقاصدها العملية والسياسية. ولذلك يكون من الطبيعي أن يحاول رفع التناقض بين النظرية والتطبيق، وبين الفكر والوجود، لأن العمل والنجاح فيه هما اللذان يتجه إليها في نهاية الأمر أي تفكيرٍ صحيح وصادق. ولذلك فإن التفكير يملك الكلمة الأولى في التعبير عن منطق العصر، ولكنه من ناحية المهمة التي ينبغي الالتزام بها لا يملك الكلمة الأخيرة، لأن هذه ملك الفعل والتغيير. بيد أن الفعل أو العمل مستحيل بغير التصور أو المفهوم، وهذا الأخير هو قائد التحول الثوري ورائد الوصول إلى الهدف الصحيح.

والمهم في النهاية أن النظر في تفاعلٍ مستمر مع العمل، وأن العلِّية هنا متبادلة وليست من طرفٍ واحد. فالعمل أو التطبيق العملي مرتبط بالنزوع الموضوعي الكامن في الوجود الواقعي، والنزوع الموضوعي يمكن معرفته عن طريق دراسة التطور التدريجي لإمكانات ذلك الوجود. ومن ثم يكون العمل أو التطبيق العملي هادفًا باستمرار، كما يكون العمل أو الفعل متطابقًا مع النزوع المدروس بدقة وعناية لتمييزه عن أي نزوع كان أو غير ناضج. وهكذا نجد أن نجاح العمل لا يتوقف فحسب على التحديد الفكري أو المقولاتي، وإنما يعتمد كذلك على إمكان التحقيق العملي لإحداث التغيير الحقيقي. وكل هذا مترتب بالضرورة على كون الماهية الكامنة في الوجود الفعلي لم تصبح واقعًا حقيقيًّا بعدُ، وأنها تظل في حاجة إلى التحديد الفكري والمعرفي بقدر حاجتها إلى التحقيق العملي والواقعي. إنها الماهية التي تتطلب باستمرار الظهور والتحديد بصورة تقترب من الكمال بقدر الإمكان، كما تنتبه على الدوام إلى الإمكانات الواقعية والموضوعية التي تنزع إلى التحقق وتدعو الإرادة والعقل إلى تحقيقها في الواقع بعد تحديدها في المفهوم والتصور. ولا بد هنا من تدخل العامل الذاتي في إطار العملية التاريخية ووفق خطةٍ اقتصادية واجتماعيةٍ محددة لإبراز الممكن العيني إلى حيز التحقيق.

ثالثًا: أنطولوجيا المادة

يقود الحديث عن مقولة الإمكان، وهي أهم مقولات أنطولوجيا اﻟ «ليس-بعد»، إلى مشكلةٍ هامة في فلسفة بلوخ، ألا وهي مشكلة المادة. لقد كانت المادة هي مبدأ الشر والباطل والمظهر الخداع في فلسفاتٍ سابقة مثل الأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة والغنوصية؛ إذ كانت هي ذلك الجزء من الوجود الذي ينبغي تجاوزه، وكان العالم المادي في فلسفاتٍ أخرى هو عالم اللاحرية والحتمية والتبعية، وكلما نسب إلى العالم المادي قدر من الواقعية كانت النتيجة هي ثنائية المادة والروح، وكلما سلبت المادة من واقعيتها وأصبحت مجرد مظهرٍ خداع كانت النتيجة هي الواحدية الروحية. وفي الحالين كان يُنظَر للعالم الطبيعي نظرة احتقار، وكأن ماهية الوجود لا مكان لها إلا في عالمٍ آخرَ مختلفٍ تمامًا عن العالم الطبيعي المادي. لذلك لم يكن تاريخ الخلاص تاريخًا للعالم، بل كان هروبًا من العالم ومن الواقع العيني داخل العالم فكان — كما هو الحال عند أوغسطين — نوعًا من الفرار من «المدينة الأرضية» إلى «مدينة الله». وبالمثل كانت كل اليوتوبيات الدينية روحانية، ولو أمكن أن نجعل مضمونها جزءًا من العالم نفسه بحيث يكون هو أفضل شكلٍ ممكن للمجتمع البشري يقضي فيه على الظلم والحاجة، عندئذٍ يصبح التفكير اليوتوبي تفكيرًا واقعيًّا، ويكون السؤال عن الشروط المادية اللازمة لقيام «مملكة الحرية» التي هي القصد والهدف البعيد لفلسفة بلوخ اليوتوبية.

(١) مفهوم المادة عند بلوخ

تتركز الفكرة المحورية لبلوخ عن المادة في أنها الرحم الخصب الذي تتولد عنه كل الأشكال الممكنة، وتخرج منه دائمًا مختلف أنواع الواقع المتجدد. ويبدأ بلوخ بتعريف المادة بمحاولة الاقتراب منها عن طريق التعرف السلبي، أي بتجريدها من المفاهيم غير الجدلية. فليست المادة كتلةً ميتة، تحرك بالضغط والدفع وتبقى هي هي بلا تغيير. وحتى إذا فهمت علاقتها الصرورية بالحركة، فليست هي المادة التي ترجع دائمًا إلى نفس الصور والأشكال القديمة التي خرجت منها؛ إذ لا يصدق هذا إلا على المادية الآلية التي رفع عصر التنوير من شأنها، وتصور أن مفهومه عنها مفهومٌ ثوري، ثم أصبحت بعد ذلك هي المادية الساذجة أو المادية الشعبية. وليست هي المادية التي ينظر إليها المثاليون ورجال الدين نظرة التعالي والازدراء، ويسلبونها حق الميلاد الذي أعطى لها منذ الفلاسفة قبل سقراط وأرسطو و«اليسار» الأرسطي من ابن سينا وابن رشد إلى عصر النهضة، حتى أصبحت هي الطبيعة الطابعة عند جوردانو برونو ثم اسبينوزا من بعده، ومنذ أن تغنى بها الشاعر الروماني لوكريتس (من حوالي ٩٦ إلى حوالي ٥٥ق.م.) في مطلع قصيدته «الأبيقورية» عن «طبيعة الأشياء».

أنت يا من ترفعين الكائنات إلى ضوء النهار،
يا من تجودين بكل بهجة وتنعمين بكل رقة ولطف،
اقتربي مني الآن وساعديني لأبدأ أغنيتي عن الكون.
كانت هذه المادة — عند الشاعر الروماني — هي «الأم» التي تغذي الكون كله، كما كان هو أول من نبه إلى أن كلمة أم Mater هي الجذر الأصلي لكلمة مادة Materia وأن المادية تعني السعادة الأرضية، والقضاء على الخوف من الموت والآلهة (الذين لا يكترثون بالبشر كما زعم أبيقور)، وفهم العالم من خلال العالم نفسه لا من خلال أية قوةٍ مفارقة أو سحرية.٨٣ لذلك يرفض بلوخ التصور اللاهوتي المثالي للمادة، كما يبتعد عن التصور الآلي. ذلك أن المادة في رأيه — إذا نظرنا إليها نظرة ترجع إلى ما وراء مظهرها الراهن — لا يمكن أن تفهم فهمًا كاملًا من خلال التصور الآلي وغير الكيفي، بل إن هذا الفهم سيصبح مستحيلًا إذا نظرنا إليها نظرة تدفعها إلى الأمام بحيث تكون قابلة للتشكل المستمر.
لذلك فقد أدى رد الفعل على المادية الآلية في رأيه إلى أشكالٍ مختلفة من المثالية عند فلاسفة العصر الحديث وعلمائه، وقد أخلت مكانها للمادية الجدلية أو لجدل المادة منذ أن قدَّمه هيجل نفسه في ثوب مثالي وروحي حتى كشف ماركس عنه ذلك الغطاء، ومنذ ذلك الحين شد القوس الذي يربط المادة باليوتوبيا، أو على الأصح يؤكد وجود اليوتوبيا في المادة؛ هذه المادة المتحركة المشحونة بالطاقة، المادة التي لم تعد ذراتها أشبه بأحجار البناء الثابتة، ولم تعد بنيتها هي بنية المكان الإقليدي الساكن الجامد، لأنها امتلأت بمجالات الإمكان المختلفة التي لا حد لها (كهرومغناطيسية، عضوية، اجتماعية، ثقافية٨٤ … إلخ) لقد صارت المادة هي الأم الأزلية التي خرجت من رحمها الأزلي الأشكال المتجددة باستمرار ولم تزل تخرج منه دون أن تنفد أو تستنفد إمكانياته أبدًا، كما يرجع الفضل لأرسطو وأتباعه — من الفلاسفة الذين يسميهم بلوخ «باليسار» الأرسطي — في اكتشاف مفهوم الإمكان ولو بمعناه الناقص، فالربط بين مفهوم الإمكان ومفهوم المادة هو الذي وحد بين الوظيفة الثورية لليوتوبيا وبين المادية الأصيلة. كأن اليوتوبيا الثورية قد فعلت مع المادة مثل ما فعل ماركس مع الجدل الهيجلي (إذا صح الافتراض بأنه قد صححه ووضعه على قدمَيه بعد أن كان يقف على رأسه كما تقول العبارة المشهورة) فاليوتوبيا الثورية تزعم كذلك أنها قد ساعدت المادية على أن تولد من جديد، وأن تطرح عنها ثوب الآلية العلمية أو الساذجة الذي تدثرت به بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة منذ عصر النهضة، وأن تصحح اتجاهها فتندفع إلى الأمام والجديد بعد أن كانت تتجه إلى الوراء والخلف، وتنفتح على المستقبل بعد أن ظلت مغلقة تدور حول نفسها أو حول الماضي، وأن تكون هي المادية الواقعية والإنسانية، وأن تسع في داخلها كل مضامين «الأمل» البشري وغير البشري (أي المستقل عن الوعي البشري)، ولا عجب بعد يكون «الإمكان الواقعي والموضوعي» هو الضمان الوحيد لظهور الجديد، وأن تكون «المادة» هي مستقر هذا الإمكان وحامله وأساسه.٨٥
وخلاصة القول عن تعريف المادة عند بلوخ أنها — كما سبق — ليست كتلةً آلية، وإنما هي من ناحية — حسب المعنى المتضمن في تعريف أرسطو لها — الموجود بالقوة أو بالإمكان (كاتا تو ديناتون Kata to dynaton) أي ما يحدد شروط الموجود الذي يمكن أن يظهر في التاريخ تحديدًا ماديًّا تاريخيًّا، كما هي من ناحيةٍ أخرى الموجودة في حالة الإمكان (ديناموي أون dynamei on) والمتضايفة مع كل ممكنٍ واقعي وموضوعي، ومن ثم فهي باختصار أساس الإمكان أو حاملته ومهاده وقوامه Substrat في العملية الجدلية كلها. إنها تختمر في «اللا» — كما سبق القول أيضًا — وتتولد في اﻟ «ليس-بعد» وتحمل كل شيء وتملأ كل شيء وتشمله.٨٦
والمادة متحركة بحكم تفتحها على الممكن الكامن فيها، أي بحكم كونها وجودًا ناقصًا أو مفتقرًا للوجود التام على الدوام، ولا يعني هذا أنها سلبية كالشمع مثلًا، لأنها لا تتوقف عن تشكيل نفسها خلال حركتها المستمرة، وما نسميه العقل أو الروح ليس شيئًا مستقلًّا عنها أو مضادًّا لها، وإنما هو ثمرة هذه المادة التي تخرج منها ولا تنفصل عن أساسها الذي ظل يتشكل وينتظم في بلايين الأشكال والتنظيمات العضوية واللاعضوية منذ «الأصل» الذي يقع إلى الوراء بلايين السنين وحتى مراحله الأخيرة مع ظهور الإنسان، وإذا استخدمنا لغة اسبينوزا كان هذا الأساس هو «الطبيعة الطابعة» والطبيعة المطبوعة في وقتٍ واحد، وكان بمثابة «مختبر الخلاص» الهائل الذي يتوهج بكل المضامين التي يحملها، وبصور وأشكالٍ لانهائية، تعبر عن نزوع صيرورته إلى «الناتج الأقصى» الذي يمكن أن يكون هو الكل أو العدم، وهو النعيم أو الجحيم. ولذلك يحتاج في مواجهة هذين البديلَين المحتملَين إلى أكثر الأشكال والتنظيمات العضوية التي وصل إليها وعيًا وشجاعة، يحتاج إلى الإنسان «البروميثي» الذي يصب عليه ناره ويوجه مساره إلى المستقبل نحو «الكل» وبعيدًا عن «العدم» الذي لا زال يهدد تاريخ الطبيعة والإنسان، ويظهر فيهما في صورٍ كوارثيةٍ مختلفة.٨٧
إن «الواقعي» أو «الواقع» محاط ببحر الإمكان الزاخر الذي تظهر دائمًا على سطحه أجزاءٌ جديدة من الواقع العضوي وغير العضوي. وهذا الواقع الأخير الذي نسميه الطبيعة غير العضوية هو الذي استقرت فيه «الكتلة» الغليظة التي تصورتها المادية الآلية، وهو كذلك «الجثة الميتة» كما تصورتها المثالية العقلية والروحية.٨٨ لذلك ينصح بلوخ بالرجوع للمثاليين لفهم طبيعة المادة التي تمثل عندهم مشكلةً محيرة والرجوع إلى الماديين الذين يرون أن المادة هي الحل لفهم طبيعة العقل أو الروح التي تمثل عندهم مشكلة. والواقع أن المادة غير العضوية قد ظلمت ظلمًا شديدًا على يد المثالية المطلقة. فهيجل يرى أن الأرض جثةٌ هائلة تتمدد هامدة تحت أقدام البشر، وأن الطبيعة مجرد قشرةٍ غير تاريخية أو سابقة على التاريخ، وقد خرج منها الإنسان منذ زمن طويل.٨٩ غير أن الطبيعة ليست على الإطلاق كما صورها هيجل، بل هي مجال مشع بالأشكال، يتكون جوهره باستمرار، كما أن الوجود في حالة الإمكان — أي الوجود المادي كما نجده في «طبيعة» ابن سينا وبرونو وجوته وغيرهم منذ أرسطو إلى ماركس — هو أبعد ما يكون عن الوجود الميت تحت بصر الروح العضوي الحي.

إن من حق الطبيعة العضوية واللاعضوية — في رأي بلوخ — أن تحتل مكانها في التاريخ البشري، وأن تحيط به كذلك إحاطةً كونيةً شاملة. ومن الواجب على التاريخ الحضاري — كما حدث في عصر النهضة — أن يضع نفسه داخل الطبيعة المادية، دون أن يضطر لدفعها بالآلية أو لوضع شاهدٍ مثالي على قبرها — على حد تعبير بلوخ — ودون أن يضطر كذلك للفرار الرومانسي إليها في الرسم والشعر (الذي يكسوها بأثواب الجمال والجلال ويغفل عن جوهرها الجدلي الحي) أو الزعم بأن العلم الطبيعي-الرياضي ونتائجه التقنية قد تحكمت فيها وأحاطت بكل إمكاناتها الكامنة.

بذلك يمكن أن توضع المشكلة الأنثروبولوجية الواقعية (التي تتعلق بحقيقتنا كبشر) في داخل المشكلة الكونية الواقعية، وأن تشملهما معًا حقيقة «الإمكان» التي ينبغي علينا أن نقترب منها بكل حذر وفي الوقت نفسه بكل موضوعية. ومعنى هذا أن الفهم «الكيفي» للمادة ينبغي ألا يخضع لأهواء الفهم الرومانسي أو يتراجع إليه بعد أن تأكد مرارًا أن مشكلة المادة يجب أن تفهم من منظور الإمكان المندفع دائمًا إلى الأمام. ولو وضع البشر تاريخهم داخل المجال الكوني الشامل العضوي وغير العضوي لتبين حقيقة السعي الدائب إلى «الوجود» الأصيل على أنه السعي إلى الوطن الحقيقي، ولتابعنا خطواتنا على الطريق محاطين بالإمكان الواقعي في كل ما حولنا وفي داخلنا على السواء. فحتى الطبيعة اللاعضوية — لا التاريخ البشري وحده — يمكن أن تكون لها يوتوبياها.٩٠ كما أن الطبيعة التي طالما وصفها الكثير من المثاليين والوجوديين بأنها ميتة أو صماء ومغلقة على نفسها؛ حتى هذه الطبيعة اللاعضوية ليست ميتة، لأنها جزء من العملية الجدلية الشاملة التي لا تتوقف عن تشكيل إمكانات المادة فيما لا حصر له من الصور والأشكال.

كان من الطبيعي أن يرجع بلوخ إلى مفهوم المادة عند أرسطو بوصفها «الموجود بالقوة أو الإمكان» وأن يتتبع فكرتها كإمكانٍ غير محدود منذ أرسطو إلى أن بلغت ذروتها وتفتحها عند ابن سينا، ثم تابعت نموها عند عددٍ كبير من مفكري العصر الوسيط وعصر النهضة، أمثال ابن رشد وابن جبيرول وابن ميمون حتى باراسلس وجوردانو برونو إلى أن وصلت إلى مفهوم الطبيعة الطابعة عند اسبينوزا والمونادة الحية عند ليبنتز، ثم إلى تصورها الكيفي والعضوي الحي عند شيلنج وجوته، حتى اكتملت في المادية الجدلية عند ماركس وإنجلز.

كان هدف بلوخ من بحثه في المادة أن يؤكد إذا استعملنا لغة أرسطو — الطابع الغائي للعالم أو أنتيليخيا العالم — أي أن المادة كإمكان غير محدود تنطوي على الغاية الكامنة فيها أو على الكمال الذي يسير نحو التحقق دون أن يبلغه أبدًا بصورةٍ نهائية، ويؤكد بلوخ في نفس الوقت أن تحقيق هذه الغاية وهذا الكمال هما واجبٌ ملقًى على الإنسان الذي يعد آخر ما أبدعه جدل الطبيعة، هكذا يكون بلوخ اليوتوبي قد وجد الأساس المادي والطبيعي ليوتوبياه الواقعية التي اتجه إليها تفكيره منذ البداية. لكن يبقى السؤال: هل اعتنق بلوخ المفهوم الأرسطي للمادة كما عرفناه؟ الواقع أنه قدم تصورًا جديدًا لمفهوم المادة عند أرسطو فليست المادة مجرد القوة أو الإمكان فحسب وإنما هي أشكال الوجود الكامنة في الإمكان، أو ما يعبر عنه أرسطو بالموجود في حالة الإمكان Dynamei on، وهو المبدأ الميتافيزيقي للوجود الممكن ذاته. فالمادة هي الموجود الذي لا يزال في حالة الكمون، أو الذي لم يتحقق بعدُ، وإن كان في لحظته الراهنة مفعمًا بشتى الميول والنزعات التي تتجه نحو التفتح، وتسير به على الطريق الطويل نحو التحقق والتوحد بماهيته أو هويته. وليست الطبيعة إلا مملكة هذه المادة التي لا تتوقف عملية صيرورتها وتفتحها عن موجودات لم تكتمل بعدُ. وكل ما ظهر في الطبيعة أو بسبيله إلى الظهور، لا يخرج عن كونه لحظةً من لحظات هذا العالم الذي لم يزل على الطريق إلى ذاته، أو حلقة من حلقاته. والإنسان — وهو وعي الطبيعة بذاتها — ليس استثناءً من هذا التسلسل أو التطور.٩١
ويؤكد بلوخ أن المادة تبدع — بفضل الإمكان الكامن فيها وحده — جميع أشكال وجودها المتنوع من ذاتها. وليست حركة المادة وحدها بل المادة في مجموعها — من حيث هي قوة أو إمكانٌ فعال — هي التي تظل أنتيليخية غير مكتملة. والمشكلة الأخيرة التي تعبر عنها هذه الصيغة، وهي أن الجوهر هو في نفس الوقت ذات، تعبر أيضًا عن أن المادة هي أنتيليخية غير مكتملة وكامنة في هذين العالمَين وهما: التاريخ الإنساني والطبيعة الكونية.٩٢ فالمادة ليست هي الوجود بالقوة أو الوجود السلبي، وإنما تحرك نفسها أثناء تشكلها على صورٍ مختلفة. وهكذا نجد أن فكرة الوجود بالقوة لم تعد أشبه بالشمع غير المحدد الذي تنطبع عليه الصور (الأنتيليخيا)، لأن طاقة المادة أصبحت في النهاية هي الميلاد والقبر، وهي موطن الأمل الجديد للصور الكونية بوجهٍ عام.٩٣

(٢) تطور مفهوم المادة لدى اليسار الأرسطي

تتبع بلوخ تطور مفهوم المادة بعد أرسطو في كتابه «ابن سينا واليسار الأرسطي» فعرض كيف أن المادة (الإمكان) والصورة (العلة الغائية والأنتيليخيا) والصورة الخالصة (العقل الفعال أو الفكر الإلهي الخالص) بدأ «تطبيعها» بعد أرسطو مباشرة على يد ستراتون٩٤ — العالم الطبيعي وثالث رئيس للمشائين — فحول فلسفة أرسطو إلى نوع من وحدة الوجود الطبيعية. فالطبيعة هي الله نفسه، وهي تعمل بغير وعي ولا تتوجه إلى تحقيق هدف أو غاية، وليس النشاط النفسي عنده سوى نشاطٍ جسدي، ولا يوجد بجانبه ما يسمى عقلًا أو روحًا. والآلهة في رأيه ليست هي التي خلفت العالم لأنها لا تخرج عن أن تكون ظواهر للطبيعة.٩٥
ثم تطور مفهوم المادة عند شارح أرسطو الكبير الإسكندر الأفروديسي٩٦ الذي أكد طاقة المادة، ولم ينكر دخول العقل الإلهي في النفس الإنسانية، ولكنه وحَّد بين العقل الفعال والألوهية. ووصف العقل الإنساني بأنه عقلٌ منفعل، ومن ثم فهو عقلٌ فانٍ بفناء الجسد، ولهذا سمي الفلاسفة الأرسطيون في عصر النهضة (وعلى رأسهم بومبوناسيوس أو بومبوناتسي ١٤٦٢–١٥٢٤م) الذين أنكروا خلود النفس بأنهم إسكندريون.٩٧
ويعرض بلوخ كيف ازدهر التراث اليوناني الوثني والعلم التجريبي عند العرب، ويشيد في كتابه السابق الذكر بالحرية العقلية للفكر العربي الإسلامي في العصر الوسيط حيث كانت بغداد موطن هذه الحرية العقلية التي انتقلت منها إلى قرطبة. وكان الفيلسوف الإسلامي طبيبًا وعالمًا طبيعيًّا ولم يكن رجل دين فقط، ولم يكن الخليفة بابا — كما كان الأمر في العصور الوسطى المسيحية — بل كان يزين قوته بالعلم الدنيوي، وعلى الرغم من انطلاق تفكير الفلاسفة العرب من أرسطو ومن التصوف الأفلاطوني المحدث، إلا أنه لم يكن تفكيرًا كهنوتيًّا. فقد تحول الإيمان بالقرآن الكريم (أو الوحي) إلى إيمان بقوة العقل الإنساني، ومن ثم تحدد تأثير الوحي على مسار العلم ووُضع في حدوده. كذلك لم يبقَ في الدين شيءٌ غيبي فوق العقل، فقد فُضَّت قشرة اللغة المجازية للقرآن بحيث لم يبقَ فيها سر مغلق. وأصبح أرسطو هو أعلى تجسيد للعقل البشري، كما صار هو تجلي العقل عند ابن رشد. لذلك كانت العلاقة بين الدين والفلسفة عند فلاسفة المسلمين مختلفة كل الاختلاف عنها عند المدرسيين، ولم يعتبر فلاسفة الإسلام أرسطو ممهدًا لمحمد كما فعل المدرسيون في القرن الثاني عشر عندما اعتبروه سابقًا على المسيح، وساعدت الحركة الصوفية أيضًا — فيما يرى بلوخ — على ابتعاد المفكرين العرب عن الإيمان السلفي بالكتاب، فقد كانت حركة احتجاج على الأرستقراطيين وأهل السلف.٩٨
وكان ابن سينا (٩٨٠–١٠٣٧م) من أهم معالم التطور الذي سارت فيه فلسفة أرسطو الحقيقية، كما كان علمًا من أعلام التنوير الوسيط والإعلاء من شأن المادة. فتصنيف العلوم عند ابن سينا أقل في نزعته اللاهوتية منه عند الأرسطيين المسيحيين؛ إذ بدأ هذا التصنيف بالمنطق والرياضيات يتبعها العلم الطبيعي والفلسفة الطبيعة ثم الميتافيزيقا التي تُبنى عليها.٩٩ ويتجلى تطبيع ابن سينا لأرسطو، في أراء الأول عن العلاقة بين الجسم والنفس والعقل الفعال، والعلاقة بين المادة والصورة، فلم تعد الصورة منفصلة عن المادة كما كانت عند أرسطو، بل أصبحت كامنة فيها ومتعددة بتعدد أنواع المادة. كما أصبحت المادة عنده — أي عند ابن سينا — مادة فاعلة، والصورة هي النار الكامنة أي الحقيقة النارية للمادة.١٠٠
إن هذا التفسير المادي لابن سينا يحتاج إلى وقفة، فهل كان ابن سينا فيلسوفًا ماديًّا كما فسره بلوخ؟ إن نصوص أي فيلسوف هي مجالٌ خصب لتأويلات وتفسيرات عديدة ومتنوعة، فهناك من الشروح والتفسيرات ما يخالف رأي بلوخ، كما أن هناك ما يوافقها، وربما كان التفسير المادي لابن سينا للمفكر العربي حسين مروة من أبرز التفسيرات التي تتفق في خطوطها العامة مع رأي بلوخ. وتستند هذه المحاولة على مسألة الوجود والماهية، فكلاهما يعد من المواقف الفاصلة بين الاتجاهَين الأساسيَين في الفلسفة وهما الاتجاه المادي والاتجاه المثالي. فالقول بأصالة الماهية، أي أنها الأصل في النظام الكوني، هو إعلان للانحياز إلى المثالية، أما القول بأصالة الوجود، أي كونه هو الأصل، فذلك هو القول الذي يشترط كل نزعةٍ مادية وذلك لأن القول بأصالة الماهية يعني نفي الوجود الموضوعي للواقع، وأن الماهية هي الحقيقة الثابتة دون الوجود المتعين، أي الموجود، ويعني القول بأصالة الوجود عكس ذلك، أي كون الواقعي له وجوده الموضوعي، ومن هنا تبدأ الخطوة الأولى نحو المادية الفلسفية.١٠١
يتضح من موقف ابن سينا في نظريته عن المادة والصورة، أنه تناول هذه النظرية في مجالَي العالم الميتافيزيقي والعالم الطبيعي، وكانت نقطة انطلاقه في هذا التناول هو العالم الخارجي المحسوس، وقد كان لممارسته علوم الطبيعة نظريًّا وتجريبيًّا، ولارتباطه المباشر بالمشكلات الاجتماعية والسياسية، أثرٌ عميق في تحديد قاعدة الانطلاق هذه، ومن هنا تتضح المسألة الهامة في فلسفته برمَّتها ألا وهي حركة العالم، أي حركة التغير والتحول والصيرورة في الطبيعة والمجتمع وما يتصل بها من أشكال الوجود المادي.١٠٢ يقول ابن سينا في تحديده موضوع العلم الطبيعي إنه — أي موضوع هذا العلم — «هو الأجسام الموجودة بما هي واقعية في التغير وبما هي موصوفة بأنحاء الحركات والسكونات.»١٠٣
ويتفق تفسير حسين مروة مع رأي بلوخ في أن ابن سينا كان أبعد شوطًا من أرسطو في الاتجاه نحو المادية الفلسفية، وذلك حين جعل لمقولتَي المادة والصورة مكانًا أكثر فاعليةً وتأثيرًا في وجود العالم المادي، وأوشك أن يرى الحركة الذاتية في الأشياء، وأن يرى في الحركة كونها شكلًا من أشكال وجود المادة، فخطا بذلك خطوةً بالغة الأهمية في تحديد اتجاهه الفلسفي المادي، اقترنت بها خطوةٌ أخرى نحو هذا الاتجاه برؤيته العلاقة الجدلية بين المادة والصورة على نحو يؤدي إلى نفي الثنائية التي فرضها الفكر الأرسطي على هذه العلاقة.١٠٤
وإذا كان عددٌ كبير من الباحثين يرون أن ابن سينا قد تخلى عن المواقف المادية في فلسفته في آخر مؤلفاته وهو «الإشارات والتنبيهات» فإن حسين مروة ينفي هذا ويؤكد تمسك ابن سينا بمواقفه حتى آخر حياته، خاصة في قوله بقدم العالم بل وفي تعميق فكرة نفي الخلق أي نفي إيجاد العالم من عدم. وقد ترتب على قول ابن سينا بقدم العالم أن توسع في بحث مسألة العلة والمعلول ليستخرج منها الكثير من الأفكار المؤدية إلى وحدة العالم على أساسٍ مادي لا على أساس وحدة الوجود بمفهومها الصوفي.١٠٥ ولذلك كانت النتيجة المنطقية لتلاحم العلة بالمعلول أن أصل العالم: وحدةٌ ضروريةٌ قائمة — أزليا — بين العلة الأولى «المبدِعة» (بكسر الدال) ومادة العالم «المبدَعة» (بفتح الدال). وينتج عن ذلك أن الفارق بين «العلة الأولى» ومعلولها «العالم» فارقٌ اعتباريٌّ محض، لأن كليهما يجتمع مع الآخر ضمن وحدة تنتفي بها الحدود المميزة للعلة من المعلول، بحيث تكون العلة هي المعلول وبالعكس. ذلك أن القول بقدم العالم يستلزم الأخذ بفكرة التلازم والتلاحم بين واجب الوجود بذاته وواجب الوجود بغيره، أي بين العلة الأولى ومعلولها، وهو العالم المادي، وإلا كان على ابن سينا أن يقول بقديمَين اثنيَن منفصلَين: أحدهما واجب الوجود بذاته والآخر العالم أو المادة، وكان عليه كذلك أن يقول بالفصل بين العلة الأولى ومعلولها.١٠٦
هذا التطبيع الذي بدأ مع ابن سينا بلغ عند ابن جبيرول (١٠٢٠–١٠٧٠م) الفيلسوف الأندلسي اليهودي إلى تصور المادة الكلية التي كانت خطوةً هامة فيما بعدُ نحو عبارة اسبينوزا الله أو الطبيعة، ووصل هذا التطبيع إلى ابن رشد فتمت خطوةٌ كبيرة نحو الطبيعة الطابعة في تصوره للمادة الأزلية المتحركة الحية، بحيث لا تحتاج — بوصفها طبيعةً طابعة — إلى عقلٍ إلهي من خارجها أو من فوقها.١٠٧ واحتوت المادة على كل الصور كبذور حياة، بل نسبت الحركة إلى المادة أساسًا لا إلى الأنتيليخيا، بحيث صار التطور هو خروج الصورة عن المادة بدلًا من خروجها عن الإله الخالق.١٠٨
وجاء التحول عن التأليه في عصر النهضة إلى نزعةٍ مادية تتصف بوحدة الوجود وتصير هي الحياة الكلية اللامتناهية ولكن بلا عالمٍ آخر، انتهاء إلى فكرة المادة المبدعة عند جوردانو برونو، أي في نفس الخط الذي بدأ من فكرة الصورة أو المادة عند أرسطو حتى وصل إلى الاستغناء عن فكرة الطاقة الإلهية بالطاقة المادية الفعالة، وهو خط «اليسار الأرسطي» حتى توما الأكويني، فزاد العقل الأرسطي ارتفاعًا أو علوًّا عن المادة، وبذلك يمكن القول بأن تأثير ابن سينا امتدَّ لا إلى توما الأكويني، بل إلى جوردانو برونو وتابعيه، أي إلى كل ما يمكن تسميته باليسار الأرسطي الذي شد العقل الأرسطي إلى الأرض كما فعل اليسار الهيجلي مع العقل المطلق.١٠٩
ويتوسع بلوخ في مفهوم المادة وفهم الطبيعة — بالمعنى الحرفي للكلمة التي تدل عليها في اللغة اللاتينية Natura التي يحمل جذر الفعل فيها nascere معنى النشأة والميلاد ويتضمن الاتجاه للمستقبل — فهمًا تاريخيًّا باعتبارها التاريخ الجدلي للعالم أو على حد تعبيره «باعتبارها المتصل الجدلي المتقطع لموادَّ مختلفة فيما بينها اختلافًا كيفيًّا، صعودًا مما هو آلي وكيميائي وعضوي إلى ما هو اقتصاديٌّ تاريخي.»١١٠ بل يذهب بلوخ إلى أبعد بكثير مما فعلت المادية الجدلية، فلا يكتفي بأن يفهمها فهمًا تاريخيًّا واقتصاديًّا فحسب وإنما يجعلها المنبع الدائم لإمكاناتٍ متجددة تتخلق في أشكالٍ مختلفة على مستوى الطبيعة العضوية وغير العضوية، وفي الكون والإنسان على السواء أن الطبيعة المادية هي الأساس الذي يقوم عليه كل تاريخٍ ممكن، وبالأخص تاريخ العمل البشري الواعي الذي يغير من الطبيعة نفسها دون أن ينفصل عنها أبدًا. وبهذا يربط المادي الكوني غير العضوي بالأساس التاريخي للوجود، أي بالوطن الإنساني، «فحتى الطبيعة غير العضوية — لا التاريخ البشري فقط — لها يوتوبياها» بل هي مجالٌ مشعٌّ بالأشكال يتكون جوهره باستمرار. بذلك يصبح تاريخ البشرية جزءًا من تاريخ الطبيعة، وإن كان في الوقت نفسه هو الضد المقابل لها، لأنه يقوم على الوعي والتخطيط، فالمادة متفتحة على إبداع الجديد من الناحية الكيفية ومتضمنة لكل أشكال التحقيق المقبلة التي تكمن في داخلها قبل ظهورها.١١١
تأثر بلوخ بآراء فيلسوف المثالية شيلنج (١٧٧٥–١٨٥٤م) وفكرته عن المادة. فقد تأثر شيلنج بفكرة المادة المختمرة وعمليات التخمر التي كشفت عنها الكيمياء في عصره. كما تأثر بعلم السيمياء القديم الذي أحياه باراسلس منذ أوائل عصر النهضة، وأضفى فلاسفة هذا العصر الصورة البشرية على المادة بحيث أصبح الإنسان هو ابنها الذي فتحت به عينَيها وتأملت نفسها من خلاله. وقد نظر شيلنج نظرةً بيولوجية للطبيعة، فتصور المطلق كصيرورة وحقق إلهه المطلق نفسه وإمكاناته وغاياته في تيارٍ زمني في الطبيعة والفن، فكانت الطبيعة قوةً متطورةً خلاقةً تتفجر لتحقيق أشكالٍ جديدة لا تنتهي، وتصبح على وعي بذاتها من خلال الإنسان نفسه.١١٢ وتقوم فلسفة شيلنج كلها على فكرة الحرية والإرادة: حرية إيجاد دينٍ جديد يطلق عليه اسم الدين الفلسفي، وإرادة الخروج من الذاتية إلى الموضوعية لتحقيق مبدأ الهوية المطلقة. وقد كان من الطبيعي أن يستعين بلوخ كذلك بتصور «جوته» للطبيعة في صورةٍ عضويةٍ حية لكائنٍ كلي وأبديٍّ فعال، وأن يلجأ كذلك لفكرة الكل الحي القديمة مع فكرة الطبيعة الطابعة التي بدأت من عصر النهضة وتحددت في القرن السابع عشر مع اسبينوزا، ولا يكفُّ بلوخ عن محاولته إثبات حركة المادة وإمكانياتها الفعالة وأن قوتها لم تعد سلبيةً بل إيجابية تسمح بالتطور. فهو يرى أن الفكرة الكلية عند هيجل تحتوي على قدرٍ كبير من الطاقة المادية التي أصبحت فعَّالة، إذ أخذ هيجل مفهوم التطور الأرسطي وجعل فكرته عن الوجود في ذاته مرادفة لفكرة الإمكان أو الوجود بالقوة عند أرسطو، وبغير هذا التراث السابق من أرسطو إلى برونو لم يكن في استطاعة ماركس أن يعدل من وضع الفكرة الشاملة بحيث تقف على قدمَيها بصورةٍ طبيعية. ولا كان من الممكن أن تخلص جدلية هيجل من الروح المطلق ليعبر عنها ماركس تعبيرا ماديًّا ولتصبح قانونًا لحركة المادة.١١٣
إن تصور بلوخ للمادة هو من أكثر أجزاء فلسفته غموضًا وأغناها بالمفارقات وأكثرها إثارة للإعجاب والحيرة معًا. وأول سؤال يخطر على بال القارئ هو كيف تتفق ماديته مع التصورات العلمية الحديثة للمادة؟ يرى بعض الباحثين١١٤ أنه قد ابتعد عن التصور العلمي الحديث للكون، كما حجب عن عينَيه رؤية البنية اللانهائية لعالم النظم الشمسية والنجمية والمجرات الشاسعة، وانجذب للنزعة البشرية التي تتصور الكون في صورةٍ حيوية «أنتيليخية» يحتل الإنسان مركزها ويمثل وعيها المتطور كذلك تطورًا طبيعيًّا، ومعنى هذا أننا نجد لديه صورةً كلية وحيوية للعالم يعبر عنها ميتافيزيقيًّا وشاعريًّا وبصورةٍ مجازية زادتها غموضًا كما يحرص على إيقانها في إطار المادية التاريخية والجدلية، ولكنه عبر في نفس الوقت عن عجز المادية الجدلية — منذ إنجلز وجدل الطبيعة لديه — عن إقامة فلسفةٍ طبيعة وجدلية ملائمة للتصور العلمي الحديث ومناهجه الكمية والرياضية التي تؤكد «الاحتمال» و«اللاتحدد» بقدر ما تبتعد عن الإطلاق والضرورة.

والواقع أن الفلسفة المادية الجدلية لم تزل تعاني من اتساع الفجوة بين جدلها التاريخي بقوانينه ومبادئه الضرورية والقبلية من ناحية، وبين الجدل التجريبي للطبيعة من ناحيةٍ أخرى، وهي فجوة لم تستطع الفلسفة الماركسية حتى الآن أن تتخطاها أو تقرب بين طرفَيها المتباعدَين بصورةٍ مقنعة. ومن الواضح أن أي فلسفة تعجز عن تفسير العالم الطبيعي والتاريخي ابتداء من مبدأٍ نسقي ومنهجيٍّ شامل لا بد أن تبقى فلسفةً قاصرة، وإذا كان الذي لاحظناه في تصور بلوخ «غير العلمي» للمادة يرجع في الحقيقة إلى قصور النظرية المادية نفسها، فإن هذا لا يقلل في شيء من الجهد الفلسفي الذي حاول به تأسيس «أنطولوجيا جدلية للتاريخ الإنساني» ولمضامين الوعي الذي يتأمله، على أنطولوجيا أعم عن المادة وتفتحها الجدلي في الطبيعة، مهما أُخذ عليه الابتعاد عن طريق الفلسفة العلمية الحقيقة واللجوء إلى التصوير الفني والخيالي والحيوي بلمساته الشعرية والصوفية الواضحة للعيان. ذلك أن تصوير العالم في صورة كلٍّ حي لا يمكن أن يتم إلا عن طريق تشبيهه بالعمل الفني الحي المتكامل، وإن كان من الضروري أن نستدرك هنا فنقول إن كليهما (أي العالم والعمل الفني) يظل في حالة صيرورة ولا يكتسب هويته أو ماهيته النهائية إلا في المستقبل البعيد، وكل ما «ليس-بعد»، أي كل ما هو على الطريق فهو كذلك على الطريق إلى «يوتوبياه» التي ستكتمل مع غيرها في أحضان «اليوتوبيا الكلية» المأمولة، ولا نقول النهائية حتى لا نخرق قوانين الجدل التاريخي أو المادي. ومجمل القول أن مفهوم المادة ومن ثم الطبيعة لا يخلو عند بلوخ من إشكالات، إن لم نقل من مفارقات وتناقضات، فإذا قلنا إنها تتخذ صورة «الطبيعة الطابعة» — كما نجدها عند اسبينوزا في نسقه الواحدي أو في وحدة وجوده المعروفة — فهي إذن الخالق (الذي يواصل فعل الخلق والحفظ المستمر على حد تعبير الأشاعرة وديكارت) والمخلوق (الذي تتواصل عملية خلقه بلا توقف)، وهي كذلك المحرك الأول — بلغة أرسطو — وعلة ذاتها — بلغة العصر الوسيط واسبينوزا — التي لم تحقق ذاتها بعد، وإن كانت في سبيلها إلى تحقيقها. وهنا تكون المادة بمثابة الرحم الذي خرجت منه كل الأشكال الموجودة والأشكال التي ما زالت في طريقها إلى الوجود، بالإضافة إلى أنها تضمن تحقيق الوحدة التي تضم التنوع اللامتناهي الهائل للتاريخ الطبيعي. وهنا يبدو هذا السؤال: هل تكمن جميع الإمكانات التي تحققت بالفعل، فضلًا عن تلك التي لم تتحقق منذ البداية في داخل المادة التي لم تتطور على الإطلاق؟ وهل هذه الإمكانات بمثابة رصيدٍ مدخر من الماهيات الممكنة، على نحو ما تصورتها الميتافيزيقا الوسيطة بوصفها «أفكار الله الخالدة»؟ إذا صح هذا يكون قد تم افتراض وجود عالمٍ كامل وثابت للإمكانيات على غرار عالم المثل الأفلاطونية بجانب عالم الواقع أو على الأصح وراءه، ويصبح عالم الواقع في هذه الحالة هو عالم الظواهر أو عالم الظلال الأفلاطونية لتلك الإمكانيات الأبدية.

ومع أنه من المستبعد أن يكون هذا «الحل» قد خطر على بال بلوخ، فقد كان عليه — لكي يكون متسقًا مع فكره — أن يقول بإمكانيات لم توجد داخل المادة منذ البداية، إمكانات تضاف مع الزمن إلى مسيرة التاريخ الطبيعي والبشري، أي أن يقول «بجديد» من ناحية التحقق الفعلي ومن ناحية القوة والإمكان على السواء. ولكن كيف يستطيع في هذه الحالة أن يفكر في إمكانات لم تكن ممكنة على الدوام ومنذ البداية؟ ألا يكون عليه أيضًا في حالة القول بالإمكانات الجديدة أن يبين الشروط والأسباب التي حلت محل الظروف السابقة التي أبطلت الإمكانات القديمة؟ بعبارةٍ أوضح: أليس من الضروري — إذا أراد أن يفهم الوجود في سياقٍ مترابط يخضع فيه كل موجود لقوانين طبيعية دقيقة — أليس من الضروري في هذه الحالة أن تكون كل الإمكانات قد نشأت عن سلسلةٍ مترابطة ولا متناهية من السياقات العلِّية التي تمكننا من تتبع تلك الإمكانات منذ بدايتها بحيث نقول عنها إنها وجدت وكانت «ممكنة» على الدوام؟ وإذا لم نفترض هذا ليكون تصورنا علميًّا بقدر الطاقة، فسوف يكون البديل — الذي يرجح أن يكون لينتز قد لجأ إليه عند حديثه عن عوالم الإمكان والأسباب المنطقية والغائية التي تكمن وراء اختيار أحدها للتحقق الفعلي — سيكون هو افتراض عالم الإمكانات الشبيه بنسق المثل الأفلاطونية، أو التسليم بتدخل فعل الخلق الإلهي لتبرير ظهور الإمكانات الجديدة بغير سبب علِّي كافٍ. ومن الواضح أن مثل هذا التدخل الإلهي لا يمكن تصوُّره في عالمٍ مادي أو طبيعي يفترض صاحبه أنه يخضع لقوانينَ ضرورية.

هكذا تقع فلسفة بلوخ الطبيعية في أسئلة وإشكالات يبدو أنها لن تجد الإجابة عنها إلا في الحلول اللاهوتية، فالفلسفة التي تقوم على افتراض نسقٍ مفتوح للتاريخ البشري داخل هذا العالم لا بد أن يؤدي تطبيقها على التاريخ الطبيعي وعلى العالم المادي في مجموعه: إما إلى مفارقة «الحدوث» المطلق لهذا العالم (مع ضرورة التسليم بوجود الإله الخالق على العكس مما يريد الفيلسوف)، وإما إلى افتراض عالمٍ «أفلاطوني» مستقل من الإمكانات الأبدية التي ستبدو جدتها وتفتحها مجرد انعكاس للانهائي على الوعي النهائي والبشري المحدود. ومعنى هذا أن فكرة بلوخ المحورية عن المادة من حيث هي وجودٌ ممكن أو وجود لم يتحقق بعدُ ستنطوي في الحالَين على صعوبات وإشكالات لم يحلها بلوخ أو لم يستطع أن يصل إلى الحل الذي يتسق مع فلسفته ولا مع التطور العلمي لمفهوم المادة التي أصبحت — على حد تعبير رسل وغيره — سلسلةً من الأحداث المحايدة. وربما يرجع السبب العميق في ذلك إلى عجز المادية الجدلية عن إقامة فلسفة طبيعية متسقة مع مبادئها المنطقية والقبلية من ناحية، ومع الرؤية العلمية المعاصرة للمادة والعالم من ناحيةٍ أخرى.

١  Bloch. Ernst: principle of Hope. V. I. p. 306.
٢  Ibid: p. 306.
٣  Bloch. Ernst: Tübinger Einleitung in die philosophie S. 248.
٤  Bloch. Ernst: principle of Hope. p. 306.
٥  Ibid: p. 307.
٦  Ibid: p. 308.
٧  Ibid: p. 308.
٨  Ibid: p. 309.
٩  Bloch: Tübinger Einleitung in die philosophie. S. 213.
١٠  Bloch. Ernst: principle of Hope. p. 309.
١١  Bloch: Tübinger Einleitung in die philosophie. S. 213.
١٢  Ibid: S. 213-214.
١٣  Ibid: S. 215.
١٤  Kaspar Hauser: شخصيةٌ معروفة في التاريخ والأدب الألماني، وهو ابن غير شرعي لأحد النبلاء الذي اضطر لحبسه منذ الطفولة، وعهد به لحارسٍ أمين يتولى رعايته في الخفاء خشية الفضيحة. وبعد موته النبيل يرقُّ له قلب الحارس الذي شعر بدنو الأجل، فأطلق سراحه بعد أن جاوز سن الشباب، وسلمه لقسيسٍ طيب ليقوم على تعليمه وتلقينه لغة البشر وعاداتهم وتقاليدهم، ومحاولة تربيته بالبدء من «الصفر»، وكأنما هو حيوانٌ بشريٌّ أعجم أو «روبنسون كروزو» أو «حي بن يقظان» ولد في جزيرةٍ مهجورة ولم يأخذ من الغزال الذي أرضعه ورباه سوى الأصوات والهمهمات، وقد ألهمت هذه الشخصية وما تزال تلهم الأدباء والفنانين الذين تناولوها في صورٍ مسرحية وسينمائيةٍ مختلفة.
١٥  Ibid: S. 217-218.
١٦  Bloch, Ernst: the principle of Hope. V. I. p. 310.
١٧  Ibid: p. 310.
١٨  Ibid: p. 311.
١٩  Ibid: p. 312.
٢٠  Ibid: p. 312.
٢١  وردت العبارة الأولى في البيت رقم ١٢٣٧ من القسم الأول من فاوست جوته، والعبارة الثانية في البيت رقم ١٢١٠٩ من القسم الثاني، والبيتان ذكرهما بلوخ في المرجع السابق، ص٣١٣.
٢٢  Bloch. Ernst: the principle of Hope V. I. p. 3070.
٢٣  Ibid: p. 309.
٢٤  Bloch: Tübinger Einleitungin die philosophie. S. 219-220.
٢٥  Holz. Hans Heinz: Ernst Bloch. S. 14.
٢٦  Ibid: S. 15.
٢٧  إمام عبد الفتاح إمام، دراسات هيجيلية، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ١٩٨٥م، ص٢٤١.
٢٨  المرجع السابق، ص٢٤٢.
٢٩  المرجع السابق، ص٢٤٣.
٣٠  المرجع السابق، ص٢٤٤.
٣١  ستيس، والتر: فلسفة هيجل، الترجمة العربية، ص١١٠.
٣٢  المرجع السابق، ص٩٨-٩٩.
٣٣  إمام عبد الفتاح إمام، دراسات هيجبلية، ص٢٦٤.
٣٤  Holz. Hans Heinz: Ernst Bloch. S. 66.
٣٥  عبد الرحمن بدوي، المنطق الصوري والرياضي، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثالثة، ١٩٦٨م، ص٩٦.
٣٦  Bloch. Ernst: the principle of Hope. p. 224.
٣٧  عبد الرحمن بدري، المنطق الصوري والرياضي، ص٩٧-٩٨.
٣٨  Bloch. Ernst: The principle of Hope. p. 225-226.
٣٩  Ibid: p. 226.
٤٠  Ibid: p. 226-227.
٤١  Ibid: p. 227.
٤٢  Ibid: p. 229-230.
٤٣  Meinong: ولد في لامبيرج عام ١٨٥٣م وتوفي عام ١٩٢٠م في حراتس التي عمل أستاذًا بجامعتها، قدم نظريته عن موضوعية الموضوع، بصرف النظر عن وجوده العيني أو عدم وجوده أو كيفية هذا الوجود، مع أخذ طبقاته الرئيسية الأربع في الاعتبار وفقًا للطبقات الأربع للتجربة وهي: التمثل (الإدراك)، والتفكير، والشعور والرغبة، وبذلك قسم طبقات الموضوع إلى أربع: الموضوعات (أو الأشياء)، و«الموضوعية» و«المعيارية» و«المرغوب» فيها؛ فالحق والحر والجمال تنتمي للموضوعات المعيارية، والواجب والغاية ينتميان لموضوعات الرغبة، والحقائق أو الماهيات الرياضية والمنطقية للموضوعات الموضوعية. وقد كان لهذه النظرية تأثيرٌ كبير على فلسفة الوعي والقيم، ومن المعروف أن هوسرل تأثر في «الفينومينولوجيا» بنظرية مينونج تأثرًا شديدًا ظهر بوجهٍ خاص في كتابه «بحوث منطقية» الجزء الأول، مقدمات للمنطق الخالص، حيث دافع عن موضوعية الموضوع — أي بنيته المنطقية — وهاجم النزعة الذاتية والسيكولوجية في المنطق، وكذلك في الجزء الأول من كتابه الأساسي أفكار لظاهرياتٍ خالصة وفلسفةٌ ظاهرية (١٩١٣م) (C. F. Lacey. A. R.: A Dictionary of philosophy. London. Routledge Kegan Paul. 1976 p. 126-127).
٤٤  Bloch. p. of H. V. I. p. 230.
٤٥  Ibid: p. 230-231.
٤٦  Ibid: p. 231.
٤٧  Ibid: p. 231-232.
٤٨  يقدم بلوخ مثالَين من ثقافته وتراثه، وهما فشل الثورة الاشتراكية التي اندلعت في ألمانيا في التاسع من نوفمبر عام ١٩١٨م، وعقم المرحلة الفنية التي جاءت بعد «دورر» ولم تظهر رسَّامين عظامًا كما كان المتوقع.
٤٩  Bloch: Ibid: p. 233-234.
٥٠  Ibid: p. 235.
٥١  Aristotle: Metaphysics. With an English Translation by Hugh Tredennick. London Leob Classical Library 1936 VII, VII. 2. p. 337.
٥٢  أمالريش البيني Amalrich of Bena (نسبة إلى بلدة بين بالقرب من شارتر في فرنسا) متصوف ولاهوتيٌّ فرنسي، مات عام ١٢٠٦م وعلَّم في كلية الفنانين في باريس، أدان المجمع الكنسي في عام ١٢١٠م مذهبه هو وأتباعه الأمالرالكيين في وحدة الوجود وحكم عليهم بالزندقة.
٥٣  هو سليمان بن يهودا بن جبيرول (المعروف في اللاتينية الوسطى باسم أفيفيبرون أو أفينسيبرول) ولد في ملقا بالأندلس حوالي عام ١٠٢٠م ومات حوالي عام ١٠٧٠م يُعدُّ أول فيلسوفٍ يهودي بالمعنى الحقيقي، كان له تأثيرٌ كبير على الفلسفة المدرسية (الاسكولائية) التي عرفها بتراث أرسطو والأفلاطونية المحدثة. يميز في نظرته إلى «المادة الكلية» بين المادة الجسمية والمادة الروحية، إلا أن الروح عنده مادة، والله وحده الصورة الخالصة من المادة، وهو الذي يخلق العالم ويحركه بإرادته التي تجمع الصورة مع المادة وتربطهما معًا. كتابه الرئيسي المتأثر بالأفلاطونية المحدثة هو «نبع الحياة» (C. F. Flew. Antony (editorial consultant). A Dictionary of philosophy London, Macmillan Press. 1979. p. 147).
٥٤  ورد نص جوردانو برونو في: Bloch: p. of H. V. I. p. 36.
٥٥  Bloch, Ibid: p. 237.
٥٦  Ibid: p. 238.
٥٧  Ibid: p. 238-239.
٥٨  Ibid: p. 240.
٥٩  مقولة الجهة Modality مشتقة من الكلمة اللاتينية Modus وتعني أسلوب، أو طريقة الوجود أو الحدوث.
٦٠  عبد الرحمن بدوي، المنطق الصوري والرياضي، ص١٠٠-١٠١.
٦١  Bloch: Ibid: p. 241.
٦٢  Ibid: 241-242.
٦٣  هو كريستوف سيجفارت Sigwart (١٨٣٠–١٩٠٤م)، وقد كان لكتابه عن المنطق تأثيرٌ كبير عند ظهوره لأول مرة في أواخر القرن الماضي (بين سنتي ١٨٧٣ و١٨٧٨م) ويقيم سيحفارت منطقه على أسسٍ سيكولوجية. وعنده أن فن التفكير الصوري هو الذي يحدد قواعد التفكير الصحيح ومادته اليقينية العامة دون التعرض لمضمون التفكير نفسه (C. F. Rosenthal, M and Yudin. p. (edited): A Dictiorary of philosophy. Moscow, Progress Publishers, 1967. p. 409).
٦٤  Bloch: Ibid: p. 242.
٦٥  Ibid: p. 242.
٦٦  Ibid: p. 243.
٦٧  المدرسة الميجارية أو الميجاريون هم أتباع إقليدس الميجاري (من حوالي ٤٥٠ إلى ٣٨٠ق.م.) أحد تلاميذ سقراط الذين تركوا أثينا بعد الحكم بالموت على أستاذهم، وقد اهتمت المدرسة بالمنطق بوجهٍ خاص وبفنِّ المجادلة بالكلام، كما ربطت الأخلاق السقراطية بالمذهب الأيلي عن الوجود الواحد الأبدي الثابت (انظر د. عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، ج٢، ص٤٥٧).
٦٨  انظر كتاب شيشرون عن القدر: C. F. Cicero: De ortatore III Together (6, 7 De Fato) With De Fato With English Translation by Rackham, the Loeb classical library, London.
٦٩  Spinoza: Ethics II Edited, With a revised translation by G. H. R. parkinson London, Every man’s Library. 1989. Proposition 44, addition 2. p. 73.
٧٠  Bloch: Ibid: p. 243.
٧١  Spinoza: Ethics I, proposition 33, p. 27.
٧٢  Kant, Immanuel: Critique of pure Reason. Transl. by J. M. D. Meiklejohn, New york. Willey Book Co. 1943. p. 142.
٧٣  Bloch: Ibid: p. 244-245.
٧٤  Bloch: p. of H. V. I. 245.
٧٥  Ibid: p. 245.
٧٦  هيجل، أصول فلسفة الحق، المجلد الأول، ترجمة وتقديم وتعليق د. إمام عبد الفتاح إمام، بيروت، دار التنوير للطباعة، الطبعة الثانية ١٩٨٣م، ص٩١.
٧٧  Hogel: The Phenomenology of Mind Translated with an introcudtion and Notes by J. B. Baillie Second Edition, Revised and corrected throughout. London George Allen, Unwin LTD. 1931. p. 75.
٧٨  Hogel: The Phenomenology of Mind Translated with an introcudtion and Notes by J. B. Baillie Second Edition, Revised and corrected throughout. London George Allen, Unwin LTD. 1931. p. 75.
٧٩  Bloch: Ibid: p. 246.
٨٠  Ibid: p. 247.
٨١  Ibid: p. 248.
٨٢  Ibid: p. 248.
٨٣  Bloch: Tübinger Einleitung in die philosophie S. 230.
٨٤  Ibid: S. 232.
٨٥  Ibid: S. 232-233.
٨٦  Ibid: S. 233.
٨٧  Ibid: S. 234.
٨٨  Ibid: S. 235.
٨٩  Ibid: S. 235.
٩٠  Ibid: S. 235-236.
٩١  Bloch: p. of H. V. I. p. 206-207.
٩٢  Bloch: Das Materialismus Problem. S. 476–478 nach Silvia Markun: Ernst Bloch. S. 64.
٩٣  Bloch: the principle of Hope. p. 207.
٩٤  ستراتون فيلسوفٌ طبيعيٌّ يوناني من لامبساكوس ومات عام ٢٦٩ق.م. وأطلق عليه اسم «الطبيعي» أو «الفيزيائي»، تولى رئاسة المدرسة المشائية من ٢٨٧–٢٦٩ق.م. (C. F. Flew, Antony: A Dictionary of philosophy p., 317).
٩٥  Bloch: Avicenna und die Aritotelische Linke, Berlin, Suhrkamp. 1963, S. 32.
٩٦  الإسكندر الأفروديسي Alexandre D’Aphrodise: أكبر شراع أرسطو في العصر اليوناني الروماني. عاش في الربع الأخير من القرن الثاني بعد الميلاد والربع الأول من القرن الثالث الميلادي. قام بتدريس الفلسفة الأرسطية في أثينا في المدة ما بين سنة ١٩٧ وسنة ٢١١ بعد الميلاد (انظر، عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، ج١، ص١٥٣).
٩٧  Bloch: Avicenna und die Aristotelische like. S. 32.
٩٨  Ibid: S. 15–20.
٩٩  Ibid: S. 29-30.
١٠٠  Ibid: S. 44.
١٠١  حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، بيروت، دار الفارابي، الجزء الثاني، الطبعة السابعة، ١٩٩١م، ص٤٧٢.
١٠٢  المرجع السابق، ص٦٢٣.
١٠٣  ابن سينا: النجاة، الناشر محيي أدبي صبري الكردي، القاهرة، مطبعة السعادة، الطبعة الأول، ١٣٣١ﻫ، ص١٥٨.
١٠٤  حسين مروة، المرجع السابق، ص٦٢٥.
١٠٥  المرجع السابق، ٦٣١.
١٠٦  المرجع السابق، ص٦٣٦.
١٠٧  Bloch: Avicenna und die Aristotelische Linke. S. 33.
١٠٨  Ibid: S. 44-45.
١٠٩  Ibid: S. 31.
١١٠  Bloch: Das Materialismus problem S. 362 nach Silvia Markun: Ernst Bloch. S. 63.
١١١  عبد الغفار مكاوي، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، تمهيد وتعقيب نقدي، الكويت، حوليات كلية الآداب، الحولية الثالثة عشرة ١٩٩٣م، ١١٢.
١١٢  فرانكلين ل. باومر، الفكر الأوروبي الحديث ج٣، ترجمة د. أحمد حمدي محمود، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٨٩م، ص٢٩.
١١٣  Bloch: p. of H. V. I. p. 208.
١١٤  من أهمهم هانز هاينس هولتس في مقدمة كتابه «مختارات من بلوخ».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤