الفصل الرابع

الزمان والتاريخ والجدل

ما هو الجدل؟ وما جوهره؟

الجدل هو منطق الزمانية ومنطق الصراع والتغير في الفكر والعالم. والجدل من الناحية الموضوعية هو الرفع الذاتي لوضعٍ معين بالانتقال إلى الوضع التالي له عن طريق توسط النفي (السلب) أو التناقض خلال عملية الصيرورة. أما من الناحية الذاتية فإن الجدل هو صياغة أو تكوين التناقض كشكلٍ فكري بأن يشمل العام نفسه وضده معًا. والجدل كخطوةٍ إيقاعيةٍ ثلاثية على الصورة المعروفة عند هيجل هو الموضوع ونقيضه والمركب الذي يستوعبهما معًا. والجدل المادي يفترض المجال المفتوح الذي تخرج فيه التناقضات من الموضوع ذاته كما يتم رفعها والتغلب عليها.

معنى هذا أن الموجود لا ينظر إليه على أنه في هوية مع ذاته، أي على أنه كامل وغير قابل للتغيير، وإلا فلن توجد التناقضات ولن يكون ثمة مجال للتغيير والاختلاف، أي لإمكانات لم تتحقق فيه بعدُ. وافتراض وجود الزمان ومعه الحدوث والتغير، يفترض اﻟ «ليس-بعد» أو عدم تحقيق الموضوع لهويته بعدُ. ذلك لأن الهوية (أو الذاتية) الخالصة ساكنة وبلا حركة. ولذلك أيضًا فليس الجدل إلا قانون الوجود الذي يتم بمقتضاه توسط الموجود مع ما لم يوجد بكل دلالاته وتناقضاته، وكذلك توسط الجزئي مع الكلي. وبهذا يعتبر الجدل، بجانب الإمكان — كأسلوب وجود — والزمان — كشكل وجود — من أهم التحديدات أو المقومات الأنطولوجية للموجود الذي لم يوجد بعدُ.١

ويسير الجدل مع الأحداث ويسبقها ويتقدم عليها. ولذلك فالجدل ليس منهجًا للتصور، وإنما هو منهج للتقدم، ومن ثم يتعلق تعلقًا أصيلًا بالكل الذي لم يتحقق أو لم ينتج بعدُ، أو بالكلية التامة التي ينتظر أن تظهر في آخر الزمان. ويحلل بلوخ تاريخ الفلسفة كله على أساس الفصل بين الذات والموضوع، فتارة يتم التركيز على الذات فتكون الفلسفات المثالية الوجودية، وتارة يحدث تركيز على الموضوع فتكون الفلسفات المادية والآلية الفجة التي هاجمها هجومًا شديدًا. لذلك يحاول في كل كتاباته أن يوحد بين الذات والموضوع وبين الوجود والماهية اللذين لم يتحدا بعدُ — في رأيه — وحدةً حقيقية، لأن تحقيقها مرهون بالوعي والإرادة البشرية، والنزوع الموضوعي والاتجاهات المستقبلية نحو هذه الوحدة.

أولًا: الجدل المادي عند بلوخ

لا يفهم الوعي في التفكير الجدلي (المادي والتاريخي) إلا باعتبار أنه هو العلم بمضامينه، أي باعتبار أنه متوجه نحو الموضوعات. ويدلنا تاريخ الجدل — حتى في تصوره المثالي — على توجهه الأساسي صوب الموضوع. والحقيقة أن لب الجدل لا يكمن في التفكير، لأنه كمنهج لا يتعلق بالتأمل، وإنما يتعلق بتأمل التأمل أو التفكير في التفكير، أي بتلك المرحلة التي لا يكون فيها الوعي مجرد انعكاس العالم على الوعي، وإنما يكون وعيًا أو تحليلًا واعيًا للوعي بالعالم.٢ وليس الجدل جديدًا في الفلسفة الحديثة التي يمثل هيجل — فيلسوف الجدل الأكبر — قمتها، فقد كان موجودًا عند القدماء من الفلاسفة أمثال حكماء الصين القدماء (في مبدأ الين واليانج أو السالب والموجب) وفي الزرادشتية في إيران (في ثنائية النور والظلام والخير والشر)، وفي الفلسفة اليونانية، بل ونستطيع أن نعد أفلاطون مخترع الجدل أو مكتشفه، وترتكز جدارته أو استحقاقه لهذه التسمية — كما يقول هيجل — على أن الفلسفة الأفلاطونية كانت أول من قدم صورةً علميةً حرة عن الجدل فضلًا عن أنها أول صورةٍ موضوعية كذلك، ولقد كان سقراط هو الذي وضع العنصر الجدلي في صورته الذاتية بصفةٍ خاصة.٣
لكن إذا كان أفلاطون هو أول من قدم الجدل بصورته العلمية، فهل معنى هذا أن التفكير الجدلي كان غائبًا عن الفكر اليوناني في مرحلةِ ما قبل الفلسفة الأفلاطونية؟ الحقيقة أن الفلسفة اليونانية بأكملها — سواء كانت فلسفة طبيعية تجعل من الطبيعة محورًا لها كما في فلسفات ما قبل سقراط، أو فلسفة جعلت من الإنسان محورًا لها كما فعل سقراط والسوفسطائيون — هذه الفلسفة قامت على مبدأ عدم التناقض. وهو مبدأٌ جدلي توَّجه بعد ذلك منطق أرسطو في قوانين الفكر الأساسية، وهي مبادئ الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع. ولقد قام الفكر اليوناني القديم على مبدأ عدم التناقض وسعى إلى تحقيق الانسجام والتناغم والتوازن؛ لذلك يرى بلوخ أنه ليس هناك تفكير من أجل التفكير ذاته، إنما التفكير من أجل أن يتحسس المرء طريقه ويدرك ما حوله. ولو نظرنا إلى بدايات التفكير الحر لوجدنا هدفه هو تحقيق الانسجام، مثلما سعى الحكماء السبعة لتحقيق الانسجام وتناغم الحياة بحِكَمهم التي تصور حياةً ساكنة وفكرًا هادئًا متوازنًا.٤ وإذا كان التفكير قد بدأ مع الإنسان، إلا أنه لم ينصبَّ عليه إلا في مرحلةٍ متأخرة. فقد كانت فلسفةُ ما قبل سقراط فلسفةً طبيعية تبحث عن العنصر الأصيل في الطبيعة التي تمثل جانب الموضوع، ولم ينصبَّ التفكير على الإنسان إلا مع السوفسطائيين وسقراط.
للجدل إذن جذوره في الفلسفة اليونانية، منذ الفلسفة الطبيعية قبل سقراط التي اهتمت بالبحث في طبيعة الكون واتخذت العناصر الأربعة مادةً أولية ومبدأً لكل الأشياء، وتحول هذه العناصر إلى بعضها عن طريق الانضمام أو الانفصال، أو عن طريق تغلب أحد هذه العناصر على غيره، إلى أن قال أنكسيماندروس (القرن السادس قبل الميلاد) ﺑ «الأبيرون» الذي هو لا نهائي الكم وغير محدد الكيف، أبدي، سرمدي، نشأت عنه كل الأكوان عن طريق اتحاد وانفصال العناصر الأربعة عن الأبيرون بعد أن كانت كامنة فيه وعن طريق توالد الأكوان والكائنات من صراع الأضداد. ويلمس بلوخ بذور الجدل الموضوعي عند أنكسيماندروس في علاقة العناصر الكونية حتى يأتي مع الزمن كل شيء للنور، في الانسجام اللامتناهي، فهذا الأبيرون اللانهائي هو المادة الأولى عنده، وهي تماثل عند أرسطو المادة التي يكمن في رحمها كل شيء.٥ وربما كان أنكسيماندروس بذلك أول فلاسفة التطور.
وإذا انتقلنا إلى هيراقليطس نجد المبدأ الأصلي عنده هو التغير والصراع والحركة، بل إن حقيقة الوجود تكمن في الصيرورة، أو النار الحية التي هي رمز الخلق والحياة والتغير، هذه النار التي لم يخلقها إله ولا بشر تتبادل مع كل الأشياء كما تتبادل السلع في المدن الأيونية: «هذا العالم، وهو واحد للجميع لم يخلقه إله أو بشر ولكنه كان منذ الأبد، وهو كائن وسوف يوجد إلى الأزل، إنه النار التي تشتعل بحساب وتخبو بحساب.» ويصف هيراقليطس هذه النار بأن بينها وبين جميع الأشياء تبادلًا «هناك تبادل بين النار وبين جميع الأشياء كالتبادل بين السلع والذهب أو الذهب والسلع.»٦ وإذا كانت نشأة الأكوان عند أنكسيماندروس نتيجة لصراع الأضداد، فإننا نجدها عند هيراقليطس نتيجة لوحدة الأضداد أو نقطة تلاقيها وتنازعها، لذلك يصعب وصف الموجود بخصائصَ دائمةٍ وثابتة، ولذا ذهب هيراقليطس إلى أن: «ما يوجد فينا شيءٌ واحد: حياة وموت، يقظة ونوم، صغر وكبر.»٧
على الرغم من أن أفلاطون كان أول من استخدم كلمة الدياليكتيك أو الجدل واعتبره هيجل مكتشف الجدل بصورته العلمية، فإن أرسطو يعد زينون الإيلي مخترع الجدل الذي استخدمه للدفاع عن فلسفة أستاذه بارمنيدس. وقامت فلسفة هذا الأخير على أن: ليس الوجود منقسمًا، لأنه كلٌّ متجانس ولا يوجد هنا أو هناك أي شيء يمكن أن يمنعه من التماسك، وليس الوجود في مكانٍ أكثر أو أقل منه في مكانٍ آخر، بل كل شيء مملوء بالوجود، فهو كلٌّ متصل لأن الوجود متماسك بما هو موجود.٨

وترتب على ذلك إنكار بارمنيدس للحركة، فالحركة تتطلب وجود الخلاء أو الفراغ، وهذا ما تنكره فلسفة بارمنيدس التي تقر بأن الوجود كله ملاء وليس هناك فراغ يسمح بالحركة والانتقال. وعندما سخر منه خصومه تصدى لهم زينون الذي قام جدله على التسليم بصدق قضية الخصوم ثم تفنيد آرائهم لينتهي إلى أنها تنطوي على التناقض والكذب، مما يترتب عليه إثبات صدق قضية أستاذه بارمنيدس وبذلك أقام منهجه الجدلي لإنكار الكثرة وليثبت بطلان الحركة. وقدم حججه الأربعة المعروفة لإثبات استحالة الكثرة، كما قدم أربع حجج لبيان استحالة الحركة.

وكان أنبادوقليس أول من صاغ الانسجام بشكلٍ واعٍ. قال بالعناصر الأربعة مجتمعة ولم يقل بمبدأٍ واحد كسابقيه ولا بإمكانية تحول هذه العناصر إلى بعضها. وإنما تجتمع العناصر وتفترق بفعل قوتَين كبيرتَين هما: الحب الذي يجمع والكراهية التي تفرق. فالحب يقرب بين العناصر الأربعة لتتوحد في انسجامٍ كامل، ويكمن هذا الانسجام في الكمال، وهو — على حد قول بلوخ — عنصر الأمل الحقيقي والأصيل عند أنبادوقليس. لكن تبقى الثنائية في هاتين القوتين الإلهيتين وهما الحب والكراهية. وبذلك اقترب أنبادوقليس من الصراع الذي نجده عند هيراقليطس، وإن كان يفتقد إلى الجدل المنتج كما هو عند هذا الأخير.٩
مع السوفسطائيين بدأت النظرة الداخلية إلى ذات الإنسان، على الرغم من أنها لم تكن نظرةً أصيلة بل نظرة شكية قائمة على المغالطات واستغلال تعدد المعاني. ويميز بلوخ الجدل عن الكذب واللامعنى (مثل حديد خشبي أو الدائرة المربعة الزوايا … إلى آخر هذه العبارات)، كذلك يميز الجدل عن قلب الحقائق باستغلال تعدد المعاني، فالسفسطائيون كان لديهم جدل يتمثل في انقلاب المفاهيم إلى أضدادها والتفكير من خلال التناقض واستخدام المفاهيم المتضادة.١٠ ولكن السفسطائيين كانوا على أية حال بمثابة حركة تنوير في أثينا تبحث عن العنصر الأصيل أو عما هو حق أو حقيقي داخل الذات، وتوقفت الطبيعة عن أن تكون في المقام الأول، وبدأ الوعي بالذات، فمنذ الشك السوفسطائي لم يتوقف الاقتراب من الذات. عندئذٍ بدأت النزعة المثالية التي هي من أهم ركائز التطور الفلسفي، ومنذ ذلك الحين أيضًا بدأ الصراع بين المثالية والمادية يأخذ مكانه في تاريخ الفلسفة. ويمتد خط الاقتراب من الذات من سقراط إلى كانط في نقد العقل الخالص، كما يمتد خط الاقتراب من الموضوع من الثنائية المانوية إلى الجدل الموضوعي عند هيجل.

(١) جدل الذات

وننتقل من فلسفةِ ما قبل سقراط إلى سقراط نفسه الذي منه بدأ جدل الذات أو الجدل في صورته الذاتية، فالطبيعة في نظره لا تعلمنا شيئًا: «الريف والأشجار لا ترضى بتعلمي شيئًا بل رجال المدينة هم الذين يعلمونني.»١١ والقضية الأساسية عند سقراط هي في جملته المشهورة «اعرف نفسك». والمعرفة هنا هي معرفة الخير أو الفضيلة. هذه القضية قابلة للتعلم، ومعرفة الخير تعني بالضرورة فعله، والإنسان لا يفعل الخطأ بإرادته ولا باختياره. ففي مذهب سقراط ليس للإنسان الحرية في اختيار فعل الشر. والجدير بالذكر في جدل سقراط هو انتهاجه فن «التوليد» أي اكتشاف الحقيقة داخل الذات. فإذا كان الإنسان ليس لديه علمٌ صحيح، فإن في جوفه حقائق كامنة يستطيع أن يستخلصها من داخل نفسه ومن نفوس الآخرين، فهي حقائقُ كامنة لا يدري بها الإنسان.١٢

ويتطور الجدل على يد أفلاطون — المثالي الأعظم في التاريخ — فالفلسفة الأفلاطونية — كما أسلفنا القول على لسان هيجل — كانت أول من قدم صورةً علميةً حرة عن الجدل، فضلًا عن أنها أول صورةٍ موضوعية كذلك، ولكن هل يوافق بلوخ — الذي يؤمن بأن الجدل لا بد أن يكون منهجًا للتقدم وليس التصور، وأنه يجب ألا يسير مع الأحداث فقط بل أن يسبقها ويتقدم عليها، وألا يقف على عتبة الواقع بل أن يتجاوزه ويتعلق بما لم يصبح واقعًا بعدُ — هل يوافق على منطق الجدل بالمعنى الأفلاطوني؟

إن أفلاطون يؤمن بما هو مرئي أكثر من إيمانه بالأشياء المرئية؛ لذلك كان ينظر إلى أعلى برغبة واشتياق. والتقدم عند أفلاطون ليس تقدمًا للأمام وإنما هو صعود للأعلى.١٣ ومن المعروف أن أفلاطون أقام نظريته في المعرفة على أساس تفرقته الحاسمة بين العالم الحسي المرئي، والعالم المعقول غير المرئي. ويتدرج الفكر من الإحساس، إلى الظن، إلى العلم الاستدلالي ثم إلى التعقل المحض، والترقي في درجات الوجود والمعرفة يتم عند أفلاطون بطريقتَين: الجدل الصاعد الذي يبدأ من المحسوسات الجزئية صعودًا إلى المعقولات الكلية مرورًا بالأفراد ثم الأنواع والأجناس ووصولًا إلى الجنس أو الوجود الأعم أو ما يسمى بمثال الخير، وهو أسمى المثل أو الخير الأسمى والأقصى. وبعد إدراك مثال الخير بالحدس العقلي المباشر تبدأ رحلة الجدل الهابط من الجنس الأعم إلى الأنواع التي تندرج تحته ثم إلى الأفراد متبعًا في ذلك المنهج التحليلي أو القسمة. وعلى ذلك يمكننا أن نقول مع بلوخ إنه لا يمكن معرفة العالم المادي أو تفسيره إلا بمشاركة الأشياء الجزئية في المثل — الجدل الصاعد — وحضور المثل في الأشياء الجزئية — الجدل الهابط — ولذلك تعد نظرية المثل الأفلاطونية يوتوبيا تراتبية قمتها الكمال الأسمى. وظل مثال الخير عنده — أي أفلاطون — شمسًا مركزية، غاية، وكمالًا في ذاته؛ مما كان له تأثيره على كل الفلسفات الغائية بعده.١٤
أما عن كانط — أكبر المثاليين في العصر الحديث — فهو كما يقول هيجل، الذي أخرج الجدل من عالم النسيان ليعطيه المكانة التي يستحقها.١٥ نجد عند كانط بداية الوعي بالجدل في «نقد العقل الخالص». وقد سمي جدل كانط بالجدل الترانسندنتالي، والمقصود به أن يثبت وجود حدٍّ مطلق للمعرفة البشرية ولا يجوز لها مهما تطورت أن تتعداه، مما جعل الجدل الكانطي مجرد أداة لوضع حد تقف عنده المعرفة البشرية. وقد انتهى الفكر الكانطي إلى التناقض بين القدرة المحدودة للإنسان على المعرفة وبين قدرته غير المحدودة على السؤال والتفكير. لذلك كانت الكلمة الأخيرة في فلسفة كانط هي أن معرفة الظاهر وحده هي المعرفة الممكنة؛ معرفة ظواهر العالم الخارجي المحسوس من ناحية، وظواهر العالم النفسي الداخلي من ناحيةٍ أخرى.١٦ أما «الشيء في ذاته» فهو ما لا يمكن معرفته.
ويستبعد كانط المعرفة — كما هو معلوم — لكي يفسح مجالًا للإيمان، غير أن المعرفة التي يستبعدها ليست هي كل المعرفة ولا هي المعرفة بالنظام الآلي المحكم للطبيعة، وإنما يستبعد كل معرفةٍ قطعية تتعامل مع أفكار المطلق أو اللامشروط وتتجاهل أنها ليست سوى مظاهرَ متعالية أو بعبارةٍ أوضح تعامل الحقائق المطلقة وكأن لها وجودًا وواقعًا تجريبيًّا. من خلال هذا الرد لما هو أصيل إلى ما هو مطلق يمكن التطلع إلى تحقيقه في العالم، ظهر في فلسفته مجالٌ خاص لما هو مرغوب فيه، أي مجال للتطلع للكمال وتحقيقه. ويؤكد بلوخ أنه ظهر مرةً أخرى في هذه الفلسفة التي احتفظت بالنزعة المادية فيما يتعلق بوجود الواقع وبالنزعة المثالية فيما يتعلق بأخلاق الواجب، ووسط هذا الائتلاف بين المادي والمثالي نشأت بطبيعة الحال مملكةٌ جديدةٌ مكونة من عالمَين يميزان الثنائية الكانطية المعروفة وهما عالمٌ حتمي وآليٌّ بحت من ناحية، وآخرُ معقول ومتعالٍ١٧ من ناحيةٍ أخرى.
وفي مرحلةِ ما قبل النقد — حيث لم تكن ثنائيته قد اتضحت ولا تعمقت كما حدث بعد المرحلة النقدية — توجد صورةٌ أخرى لكانط الذي لم يغرق في عوالم الماوراء (ولم يكن قد شغل بالحقائق المتعالية إلى الحد الذي يوهم بأنه قد انصرف عن هذا العالم). وهذا النص يشهد على إيمان كانط في المرحلة المذكورة بوجود الأمل وضرورة تحقيقه في سياق التقدم الذي تنجزه البشرية نحو الكمال الأخلاقي والخير الأقصى، وإن كان في نفس الوقت يؤكد عجزه عن التحقق منه بشكلٍ علمي أو تأكيده بمبررات وأسبابٍ عقليةٍ خالصة: «لست أجد أن أي ميل أو أي نزوع فرض نفسه عليَّ بغير تدبر يمكن أن يسلب عقلي القدرة على تمحيص جميع أنواع الأسباب والمبررات التي تقف في صفه أو تقف ضده ولكن مع استثناءٍ واحد فحسب، فموازين العقل ليست في نهاية الأمر محايدة حيدةً كاملة، وأحد ذراعَي هذه الموازين — وهو الذي يحمل فوقه هذه الكتابة التي تقول: الأمل في المستقبل — هذا الذراع له ميزة آلية معناها أنه حتى أخف الأسباب والمبررات وزنًا في إحدى كفتَي الميزان تثير من الخواطر والتأملات ما يجعل الكفة الأخرى أثقل بكثير، هذه هي الغلطة الوحيدة التي ربما لا أستطيع تصحيحها والتي لا أنوي في الواقع أبدًا أن أصححها.» ومع أن الأمل الذي ينشده كانط في هذا النص يدل في ظاهره على مستقبل الأرواح في العالم الآخر، إلا أنه في الحقيقة يتضمن وجود عالمٍ معقول ليس المدخل إليه الموت، وإنما هو التاريخ بمعناه العالمي.١٨
وهنا يذكر على الفور تعبير كانط في مرحلته المتأخرة عن هذا الأمل في المستقبل بالنسبة للبشرية كلها وتقدمها الدائم المستمر نحو الخير والكمال على الرغم من كل العقبات والانتكاسات. ويكفي أن نذكر هذا النص: «لقد كان الجنس البشري يتقدم على الدوام نحو شيءٍ أفضل وسوف يواصل تقدمه على هذا الطريق.»١٩ ولكن ما هو هذا الشيء الأفضل الذي يسعى الإنسان لتحقيقه؟ إنه السعي الدائم للاقتراب من الخير الأسمى، فإذا كان الخير الأقصى للإنسان من وجهة نظر كانط؛ هو مقدمة للخير الأقصى الأولي وهو الله، فيترتب على ذلك أن تحقيق الخير الأقصى الإنساني ليس واجبًا فقط بل ضرورة، ولا يعني هذا اعتبار وجود الله أساسًا للإلزام الخلقي بل يعني أن الإلزام الخلقي يكشف عن الخير الأقصى.٢٠ ويكرر كانط في آخر هذا المعنى نفسه وهو التقدم نحو تحقيق القانون الأخلاقي باعتباره هو المثل الأعلى الجميل الذي «لا يمكننا أن نتنبأ به أو نتصوره سلفًا على صورة الكمال التجريبي، إنما نتطلع إليه فحسب من خلال التقدم المستمر والاقتراب المتصل أيضًا من الخير الأقصى الذي يمكن تحقيقه على الأرض أو الذي نستطيع أن نعد العدة له.»٢١
ولا شك أن منظور الأمل هذا عند كانط يهدف في النهاية إلى إقامة مملكةٍ أخلاقية لله على الأرض تعتمد في تحقيقها على المواطن المستنير (بأفكار الثورة الفرنسية) ولا شك أن الظروف البائسة التي عاش فيها المثقفون الألمان في أواخر القرن الثامن عشر قد ملأت قلوبهم بهذا الأمل وجعلتهم يتطلعون باستمرار إلى تحقيقه خارج الواقع التاريخي المتغير، كما بقي هذا الأمل في تصور كانط إلى حدٍّ كبير أملًا باطنيًّا بقدر ما هو مغرق في التجريد. ومع ذلك فإن هذا التجريد لم يدفعه (أي كانط) إلى رسم عالمٍ آخر أو عالمٍ ورائي على الإطلاق، وإنما تطلع إلى سماءٍ إنسانية يرتقي إليها البشر بالتدريج، وهذه النزعة الإنسانية الخالصة تدعمها المسلمات والفروض التي تطبق الأفكار المطلقة أو اللامشروط (الله، الخلود، الحرية) تطبيقًا خالصًا على الأخلاق. كما تخدمها مُثلٌ عليا يؤكد لنا كانط أنها «تصورات تنظيمية لما هو تام وكامل بشكلٍ مطلق في مجال العقل الإنساني».٢٢ ومن ثم نجد أن المسلمات الأخلاقية المعروفة والأفكار المطلقة أو اللامشروطة والمثل العليا للعقل ترسم لنا منظرًا فريدًا زاهيًا بالنجوم، وسماء للعقل العملي الخالص تسطع فيها الكواكب، التي قال في كلمته المشهورة المحفورة على قبره إنه لا يوجد شيء مثلها يؤثر على نفسه إلا القانون الأخلاقي الباطن في صدره. والتشبيه في هذه الصورة يبين أن هذه الأضواء الأخلاقية تشع بجلالها مثل الكواكب والنجوم إشعاعًا معياريًّا خالصًا يؤكد أن المثل الأعلى للعقل «الذي ينبغي على الدوام أن يقوم على مفاهيمَ محددة وأن يقوم مقام القاعدة والنموذج المحتذى، يظل مُعبِّرًا عن موقف يلزم الإنسان بالخضوع والإذعان لهذه القاعدة، أو يوجب عليه تقديرها وتقييمها.»٢٣
ومما يؤكد هذه النزعة الإنسانية البعيدة عن «الماورائية» أن كانط يحتج احتجاجًا صريحًا على اتهامه بأنه ينتمي لأولئك الذين استعاروا أضواءهم من أفلاطون، كما يؤكد من ناحيةٍ أخرى أن نزعته المثالية قد نقلت المثل الأفلاطونية من مستوى الوجود الميتافيزيقي إلى مستوى الإلزام الأخلاقي.٢٤ فقد نظر كانط إلى عالمَي أفلاطون، أي عالم المثال وعالم الواقع، على أنهما بمثابة تخلٍّ عن الواقع، الأمر الذي انتهى بأفلاطون إلى أن المثال هو الفكرة الأخيرة وهو الخير في ذاته.٢٥ أما عند كانط فمثال الخير هو أمل يسعى باستمرار للاقتراب من التحقق، في حين ظل عند أفلاطون — كما ذكر سلفًا — شمسًا مركزية وغاية وكمالًا في ذاته. ولهذا نجد المثل العليا عند كانط تسطع في مجال المستقبل الإنساني الخالص وتشع في سماء الإرادة الخيرة والنية الطيبة والغاية الأخلاقية النهائية. هذه النزعة المثالية التي يمثل أفلاطون قمتها القديمة وكانط قمتها الحديثة بقيت نزعةً مثاليةً ذاتية ولم تصبح مثاليةً موضوعية بعدُ. فقد ظل الجدل وقتًا طويلًا كمنهج للبحث لا كمنهج للموضوع المتحرك نفسه.

(٢) جدل الموضوع

وفي خط الموضوع يتحول التفكير إلى الخارج، إلى المادة التي أضفى الإغريق عليها الحيوية، فقال طاليس بالماء كأصل للحياة، وقال أنكسيمنيس بالهواء … إلى آخر ما ذهبت إليه الفلسفة الطبيعية قبل سقراط. لكن بدايات الجدل الموضوعي تمتد من الثنائية الفارسية، هذه النزعة التي تجلت بوضوح عند القديس أوغسطين (٣٥٤–٤٣٠م) فاعتنق مذهب ماني الذي يقوم على ثنائية الخير والشر، النور والظلام، وأن الشر جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية، إلا أنه ابتعد عن المانوية بعد تسع سنوات واتجه إلى الكنيسة الكاثوليكية وسط جو سيطر عليه الفكر الأفلاطوني-الأفلوطيني، وحين تأمل المبادئ الفلسفية لأفلوطين على ضوء الوحي الذي جاء به الكتاب المقدس فإنه سرعان ما شعر بعدم كفايتها وضرورة تجاوزها. فقد أدرك أن المادة لا يمكن أن تعتبر شرًّا حتى ولو لم نرَ فيها شيئًا سوى مبدأٍ بسيط للإمكان واللاتعيُّن.٢٦ وكتب أوغسطين «مدينة الله» — التي تعد نظريةً كاملة في التاريخ — و«المدينة الأرضية». ولكن هل هناك انفصال بين الأولى (مدينة الله) والثانية (المدينة الأرضية)، بحيث توجد واحدة في السماء والأخرى في الأرض؟ حقيقة الأمر أنه ليس هناك انفصال، فسوف تبني مدينة الله نفسها بالتدريج بقدر ما يستمر العالم، وهذا العالم نفسه لا مبرر لدوامه واستمراره إلا بقدر ما ينتظر تحقيق غايته النهائية، فهو يمهد لتحقيق مدينة الله أو المجتمع الأبدي الذي يتألف من السعداء،٢٧ فإن مملكة الله الحقة تتحقق من خلال المدينة الأرضية والخطيئة والطبيعة الساقطة. في مدينة الله ينتهي السكون ويتوقف التكرار الخالد للدائرة ويتوحد تاريخ العالم، ويتقدم التاريخ نحو النور الأبدي في مراحلَ ست، يتقدم فيها من الظلام إلى النور. إن صيرورة التاريخ عند أوغسطين تسعى إلى الخلاص، إلى النور الحق. وتاريخ الخلاص لا يلغي الزمان، فالزمان لا يمكن أن يتوقف في مدينة الله المقدسة «مملكة الله تحركت من المدينة الأرضية مثلما تكونت السماء من الأرض.»٢٨ والحقيقة أن الجدل عند أوغسطين لا يتضح إلا من خلال موقفه من مشكلة الزمانية؛ نظرًا للتداخل الشديد بين جدل التاريخ والزمان. ولا نريد أن نستطرد هنا طويلًا عن موقفه من الزمان — فهذا هو موضوع الجزء التالي — ولكن نكتفي بتفسير بلوخ لجدل أوغسطين ومفهومه عن الزمان الذي يتقيد بالواقع القائم على التجربة. فالعبور إلى المستقبل يتم من خلال الواقع، من خلال اللحظة الهاربة، أي من خلال ما لم يعد له وجود No Longer Being فقد أكد إمكانية تحويل العالم أو أكد القدرة على التغيير بحيث جعل الصيرورة ممكنة. نظر أوغسطين للزمان نظرةً جدلية بوصفه رحلةً خارج العدمية، يتجه فيها ناحية التقدم والتوقع الممتلئ، ومع ذلك فإن مفهوم أوغسطين عن الزمان يتسم بمسحة أو تصورٍ ميثولوجي. إن الله يحفظنا من فوق، لكن الأحداث تتحرك داخل المستقبل المفتوح لتحقيق إمكانيات الخلاص. وعلى الرغم من ذلك نجد السكون في نهاية التاريخ، في اللحظة الثابتة الخالدة، وتلك اللحظة هي النور الأصلي. إن نهاية التاريخ هو الاكتمال المكاني للنور.٢٩
استمر تأثير النزعة المانوية واستمر التفاعل بين الداخل والخارج، بين الإنسان والعالم. وظل جدل الذات والموضوع يمتد حتى عصر النهضة، فنجد باراسلس (١٤٩٣–١٥٤١م) يقول بالتوافقات بين العالم الداخلي والعالم الخارجي، فليس من الممكن عند باراسلس أن نفهم العالم الداخلي الذي هو الإنسان بدون البدء من العالم الخارجي، تمامًا كما لا نفهم الثمرة إلا بواسطة البذرة. والفلسفة عنده ليست سوى الطبيعة غير المرئية والطبيعة ليست سوى الفلسفة التي جُعلت مرئية.٣٠ وعلى الإنسان أن يثق ثقةً غير محدودة في القدرة الإنسانية وكمال الطبيعة الخفي. في عالم باراسلس يتماسك كل شيء، ويتداخل كل شيء، العالم الكبير والعالم الصغير، الداخلي والخارجي، الكون الأصغر والكون الأكبر، (الميكروكوزم والماكروكوزم).٣١
ويتساءل بلوخ كيف يرتبط العالم الكبير بالخيال المتفائل؟ إن الخيال يمثل بالنسبة لبلوخ وظيفةً يوتوبية مُكلِّفة بإنضاج إنسانٍ أفضل وعالمٍ أفضل. ووظيفة الخيال هي الدفع للأمام، نحو النور. وهنا يضع بلوخ يديه على الفروق الكبيرة بين برونو وباراسلس، فالإنسان عند برونو مكتوف الأيدي لا حيلة له أمام لا محدودية الكون، هو إنسان بلا فعالية ولا أفضلية، قطعةٌ متناهية الصغر عند باراسلس لا تنتج شيئًا يكون سلفًا وبذاته كاملًا، إذ يكون على الإنسان أن ينجز ويتمم كل شيء، فالطاقات الحيوية للميكروكوزم لا حصر لعددها ولا تقل عن طاقات الماكروكوزم.٣٢
ثم يأخذ الجدل بعدًا آخر عند ياكوب بوهمه (١٥٧٥–١٦٢٤م) والملامح الخاصة لهذه الفلسفة الجدلية تتخذ أبعادًا هائلة — على حد زعم بلوخ الذي عدها أول جدل موضوعي منذ هيراقليطس — حيث يصبح قوام العالم هو التضاد. والسؤال الأساسي عند بوهمه هو: من أين يأتي الشر في العالم؟ وتتطلب الإجابة على هذا السؤال أن نغوص بالتفكير داخل ذواتنا. وبما أننا مخلوقون على صورة الله فبوسعنا — بشرط أن نغوص داخل نفوسنا — أن نلمس بدايات كل شيء، نلمس بدايتنا المدفونة داخل أعماقنا، نلمس بداية الأشياء بالغوص بنظرنا في الطبيعة الوحشية للأصول. فما دامت الطبيعة وكل الكائنات والله نفسه موجودون داخل الإنسان، فلا بد أن يقرأ الإنسان هذا الكتاب الذي ليس سوى ذاته.٣٣ وحين نبحث في أصل تناقضات هذا العالم نجدها تكمن في الجانب المظلم للطبيعة الإلهية. فثمة وجهان لهذه الطبيعة — طبقًا لفلسفة بوهمه التي تقوم على الثنائيات المتضادة — جانب نورٍ مضيء وآخر مظلمٌ شرير يصفه بأنه شيطاني ومتكبر، أو رعب ونار متلألئة.٣٤ ولا بد أن تتلاقى هذه الثنائيات، فيتلاقى الضيق والرحابة، الحموضة والعذوبة، الرعب والنور «أحدهما يعارض دومًا الآخر ليس بنيةٍ عدائية بل كي يتحرك ويظهر.» فيصبح التضاد أو النفي هو الأصل في كينونة العالم الظاهرة. ولو لم يكن هناك العنصر النافي أو السالب لما كان ثمة كشف أو تجلٍّ للخير، فإن المغايرة هي التي تدفع الأشياء للظهور.
ونستطيع أن نكتشف العنصر السالب أو النفي بالاستبطان الذاتي، ففي هذا النفي يلمح بوهمه بالرغبة التي يصفها بأنها نبضة أو نزعةٌ إرادية تتولد جوهريًّا من الإحساس بالنقص وتعبر عن نفسها في الجوع،٣٥ فعندما يغوص الإنسان داخل ذاته يدرك الجوع والقلق والرغبة التي تدفعه باستمرار، نجد هذا السلب أو النفي يعمل في الطبيعة في شكل صيرورةٍ مستمرة، ولولاه لغرق العالم في العدم، فالخلق لا يتم دفعةً واحدة، لكنه يتجدد أو يخلق من جديد في كل لحظة بفضل العنصر المنتج،٣٦ الذي أطلق عليه بوهمه اسم النفي أو السلب. إن ياكوب بوهمه يعطي للصراع بين النور والظلام شكل الجدل الموضوعي، فليس ثمة حركة بدون حركةٍ مضادة، والشر أو الظلام يجعل من نفسه واسطة لانكشاف النور، فالنور يحتاج إلى الظلام لكي يظهر، و«النعم» لا توجد بدون «اللا».٣٧
انتهى الطريق الذي بدأ من الثنائية المانوية إلى الطبيعة المادية فلم ينظر أحد للمادة بكل هذا الجلال مثلما فعل جوردانو برونو (١٥٤٨–١٦٠٠م)، فقد تغنى برونو باللانهائي، وقال باختفاء الأرض والشمس وبقاء العالم اللانهائي المتمركز في كل مكان، في انسجام «الحد الأدنى» كالنقطة، الذرة، والموناد، وفي «الحد الأقصى» كالكون اللامحدود الذي لم يوضع في إطار. ومع برونو بدأ الوعي الكوني؛ الكون الذي يوازن نفسه في انسجام عن طريق الحب والكراهية، والحركة والسكون، والإمكانية والواقعية، وهي إمكانيةٌ قابعة في هذا العالم، في الكمال الكوني. إن القوة المشكِّلة للعالم والملازمة للأشياء لا تسأم خلق أشياءَ جديدة في هذا الكون التام أو الكامل.٣٨
الطبيعة عند برونو هي الطبيعة الطابعة، الطبيعة الفاعلة، الطبيعة الخالقة التي بفضلها يشكِّل العالم ذاته بذاته، وبرونو الذي يصف الطبيعة بأنها فنان، لا يعتبرها شخصًا مفردًا معزولًا ولا متعاليًا. إنها بالنسبة إليه القوة الطبيعية، وليست كائنًا يجذب العالم نحو الأعلى بموجب التصور الأرسطي للعلاقة بين العالم والإله، حيث يكون الله هو المحرك الذي لا يتحرك والكائن المتعالي عن العالم. إن برونو يقف بقوة ضد فكرة تصور الإله الخالق، وضد فكرة خلقٍ واحدٍ وحيد ويستعيض عنها بفكرة الطبيعة الطابعة بوصفها قوةً داخلية، محايثة للعالم.٣٩ ويعبر برونو عن ذلك في كتابه عن «السبب، والمبدأ والواحد» في الحوار الثالث حيث يقول أحد المشاركين في الحوار: «نرى في الطبيعة كل الأشكال تغادر المادة وتعود إلى المادة، لهذا السبب لا يبدو أي شيء دائمًا بالفعل، ولا ثابتًا أزليًّا جديرًا بأن يعتبر مبدأ، إلا المادة حيث تنشأ الأشكال وتنعدم، ومن حضنها تظهر وإلى حضنها تعود، لهذا السبب يجب أن نقرَّ للمادة المماثلة لذاتها دومًا والخصبة دومًا، بالامتياز المهم، امتياز الاعتراف بأنها هي المبدأ الماهوي الوحيد وبأنها هي ما هو كائن وسيبقى كائنًا على الدوام، بينما مجموع الأشكال لا يمكن الاعتراف بها إلا بوصفها التعينات التي تأتي وترحل، وتنقطع وتُجدَّد، ولا تستطيع، لهذا السبب عينه، أن تكون مبدأ لأن المبدأ هو ما يدوم.»٤٠ وهنا نشير إلى أن فكرة الطبيعة الطابعة قدمها إلى برونو فلاسفة العصور الوسطى العرب: ابن سينا، ابن رشد، ابن جبيرول، كما سبق أن قلنا في حديثنا عن المادة.
ثم ينتقل بلوخ من العصور الوسطى مقتربًا من جدل الموضوع في العصر الحديث ليجد في وحدة وجود اسبينوزا (١٦٣٢–١٦٧٧م) تأملًا مطلقًا. فالواقع والكمال شيءٌ واحد، لأن الطبيعة أو المادة عند اسبينوزا ساكنة وليس بها حركة ولا جدل ولا صيرورة. إن طبيعة اسبينوزا الطابعة ليست هي القوة الخلَّاقة اللانهائية كما هي عند برونو: «إن الله يبدع الأشياء في أقصى صورة من الكمال لأنها قد نتجت بالضرورة عن طبيعته البالغة أقصى حدود الكمال.»٤١ وهذا الإنتاج الضروري معناه أن الأشياء قد تأدَّت عن الطبيعة الإلهية بطريقةٍ هندسية، وبنفس الاتساق الضروري الذي نجده في الرياضيات باعتبارها نموذج المعرفة الضرورية. ووفقًا لهذا نجد أن الأفعال والدوافع البشرية نفسها (حتى عندما يدين اسبينوزا أغلبيتها باعتبارها انفعالاتٍ غير كافية أو اضطرابات) ينظر إليها كما ينظر الباحث الرياضي في الخطوط والمساحات والأجسام. والواقع أن الجديد في مذهب اسبينوزا هو أن وحدة الوجود عنده وحدةٌ رياضية تتميز بوضوح عن وحدة الوجود العاطفية عند برونو، لكنها تلتقي مع فلسفة برونو (ومع فلسفة ابن سينا وابن رشد من قبله) في هذه النزعة الباطنة المحايثة القوية، وإن كانت تتخذ عند اسبينوزا صورةً كونيةً شاملة تضم الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة كلتيهما، «الواقع أنه ينبغي علينا أن نفهم من الطبيعة الطابعة ذلك الذي يكون في ذاته ويفهم من خلال ذاته أو صفات الجوهر التي تعبر عن الجوهرية الأزلية واللامتناهية، أما عن الطبيعة المطبوعة فإنني أفهم منها كل شيء يتأدى عن ضرورة الطبيعة الإلهية أو عن ضرورة كل صفة من صفات الله، أي كل أحوال الصفات الإلهية بقدر ما ينظر إليها على أنها أشياء.»٤٢
ومن ثم يدل تعبير اسبينوزا المشهور «الله أو الطبيعة» على الفعل الطبيعي الشامل، كما يعتبر أساسًا يقوم عليه العالم الكامل الذي يتمخض عنه هذا الفعل الطبيعي. إن المادة بوصفها لا متناهية ونابعة — ككل شيءٍ آخر — عن طبيعة الله، لا بد أن تتمشى بدورها مع الكمال الإلهي.٤٣ ولعل البيتَين الشهيرَين اللذين يقولهما جوته على لسان روح الأرض، لعلهما يعبران عن هوية الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة عند اسبينوزا:
هكذا أعمل على نول الزمان الصاخب،
وأنسج ثوب الألوهية الحي.٤٤

وفي أعماق عالم اسبينوزا الذي ينتهي باتحاد حب القدر أو حب الضرورة والحب العقلي للألوهية تسود تلك السكينة وذلك الانسجام الذي ينمحي فيه مد الحياة وجزرها، ورياح الفعل وعواصفه، ويسود التحقق الكامل كما في قصيدة جوته الشهيرة:

فوق كل القمم سكون،
على أعالي الشجر لا تكاد تسمع نأمةً واحدة.
فبناء القصيدة نفسه يعكس التجانس والتوازن الكامل بين الرؤية الكونية وبين الإحساس الكوني، إن «الأنا» لا تفسد الانسجام الشامل السعيد، إنها تشعر بنفسها متحدة مع العالم المحيط بها، «ما من صراع أو تضاد تحاول القصيدة أن تعبر عنه، بل استسلام وديع وانتظار هادئ.»٤٥ كما تعبر عن هذا السكون أيضًا عبارة جوته أن كل سعي وكل صراع ما هو في النهاية إلا راحةٌ أبدية في الإله الخالق. هكذا يتصف عالم اسبينوزا، بالسكون لا إله يقحم نفسه عليه من الخارج، والزمان عنده مفتقد، والتاريخ مفتقد، والتطور مفتقد، ليس هناك تعددية في الجوهر، فالعالم ممتلئ بالجوهر الواحد الكامل وليس له غاية لأن الكمال لا يحتاج إلى غاية.٤٦
هكذا انتهى الطريق الذي بدأ من الثنائية المانوية إلى الجدل الموضوعي الذي انتهى إلى الصيرورة. لكن هذه الصيرورة انتهت كما يقول بلوخ إلى السكون الذي لا يختلف في نهاية الأمر عن سكون نزعة اسبينوزا. ثم يأتي ليبنتز (١٦٤٦–١٧١٦م) ويستند على صيرورة باراسلس وبوهمه. وتتحدد الصيرورة التي تتجه إلى النور والتي ترتبط بالإنسان والزمان والعالم في خمس نقاطٍ أساسية: أولًا: افتراض أن الوجود كله مكوَّن من مونادات، وأن كل مونادة لها حياتها الكاملة والمستقلة عن الأخرى. ثانيًا: تتميز هذه المونادات بالنزوع من الظلام إلى النور. ثالثًا: تتجه هذه المونادات ناحية المستقبل: «فكما أن الجسم المرن الذي تقلص يتجه بكل جهده إلى التمدد، كذلك تصنع المونادة حالتها التي ستكون عليها في المستقبل.» على نحو ما يقول أيضًا في أحد ردوده على الفيلسوف بايل Bayle عام ١٧٠٢م: «يمكن القول بأن حاضر الروح كما في أي شيءٍ آخر يحمل المستقبل في أحشائه.»٤٧ إن الجدل الموضوعي هنا أكثر وضوحًا من ذي قبل وأكثر اقترابًا من الصيرورة التي لا تتوسط مع الماضي فحسب ولكن مع المستقبل أيضًا، على الرغم من أنها لا تتفتح على المستقبل الأصيل أو الحقيقي وأنها ضد كل جديدٍ فعلي. رابعًا: أن التوجه الكامن في المونادات لا يمكن تصوره بدون الغائية. وعلى الرغم من سعي ليبنتز لتأسيس فكرته عن الغاية أو الهدف باعتباره هدفًا إلهيًّا يتجه إلى أفضل عالمٍ ممكن، فإنه لا يلغي الحتمية العلية أو السببية الموجودة في هذا العالم والتي لا استثناء لها. بل إن هذه الحتمية جزءٌ مكمل للآلية.٤٨ إنما الواقع أن مفهوم الغاية يطبقه ليبنتز على النزوع الداخلي باعتبار أن الهدف هو الذي يربط بين العالمَين الطبيعي والأخلاقي، كما يضمن تحقيق الكمال في العالم.
وربما يعود انغلاق فلسفة ليبنتز عن المستقبل الحقيقي الجديد الفعلي إلى التفسير الآلي الذي كان من أهم الكشوف العلمية في عصره، فلم يستطع أن يتحرر من التصور العلي الذي قيدته الآلية في أغلالها. إنه يقبل فكرة الآلية من ناحية، ولا يريد من ناحيةٍ أخرى أن يفرط في فكرة الغائية، ولهذا نجده يحاول التوفيق بينهما.٤٩ خامسًا: أن كل مونادة في عالم من الإمكانات اللامتناهية وأن العالم الموجود هو تحقيقٌ جزئي لها، مصداقًا لعبارته المعبرة عن النزوع «كل ما هو ممكن يقتضي الوجود.» ويتناول ليبنتز مفهوم الإمكان لأول مرة بعد أرسطو، بحيث صار هذا الإمكان هو نزوع المونادات الذي أطلق عليه اسم «مملكة الإمكانيات اللانهائية». ويرى بلوخ يوتوبيا ليبنتز في هذه النقاط الخمس، كما يرى أيضًا أنها لا تنطوي على الجديد الفعلي، فمن ضمن عوالمَ ممكنة كثيرة اختار الله أفضل عالم ممكن ولم يترك مجالًا لاستكمال هذا العالم في المستقبل.٥٠

(٣) الجدل الموضوعي بين أفلاطون وهيجل

هكذا أثبت الجدل وجوده كمنهج في تاريخ الفكر الفلسفي، ولكنه لم يصبح موضوعًا للتأمل الجاد إلا في حالاتٍ نادرة. ومن المعروف أن كانط في «نقد العقل الخالص» قد حطَّ من قيمته وجعل منه مجرد «منطق للمظهر» والخداع الذي يقع فيه العقل كلما حاول أن يحلق إلى الحقائق المتعالية ويقيم البرهان عليها. لذلك عطل البداية الحقيقية الخصبة لجدل الواقع في مطلع العصر الحديث. ولهذا لم يحتفظ الوعي الفلسفي في عصر الأنساق الكبرى للمثالية الألمانية إلا بجدل المفاهيم الأفلاطوني الذي كان له أكبر الأثر على هيجل. ولا بد لأي باحث في الجدل من أن يدخل في حوار مع هيجل والتراث الأفلاطوني الذي يقوم عليه. وبقي أفلاطون وهيجل النموذجَين المعبرَين عن المنهج الجدلي بعد أن حجب تراث الجدل المادي والواقعي من العصر الوسيط وعصر النهضة حتى ليبنتز، بل إن «الانقلاب» الذي أحدثه ماركس في مفهوم الجدل قد بقي في جوهره متعلقًا بمنهج هيجل وفلسفته التي زعم (أي ماركس) أنه خلَّصها من قشرتها المثالية.

يمثل هيجل قمة الجدل الموضوعي في العصر الحديث والمعاصر. والسؤال: هل هو جدلٌ ساكن أم متحرك؟ هل هو جدلٌ مغلق على مرحلةٍ تاريخية بعينها — وجدها هيجل في الدولة البروسية — أم هو جدلٌ منفتح على المستقبل؟ إن الدراسات المعاصرة قدمت تفسيراتٍ عديدة وجديدة لفلسفة هيجل، وكان بلوخ ممن ساهموا في هذه الدراسات فقدم شروحه على هيجل والتي جعل عنوانها «الذات-الموضوع». وقد سلط الأضواء في هذا الكتاب على الجوانب الحية الباقية من الجدل الهيجلي، كما بيَّن الجوانب التي تتوقف فيها حركته وانفتاحه وسيولة مفاهيمه ويركن إلى الجمود والسكون. ولما كانت فلسفة هيجل قد قدمت نموذجًا للمنهج الجدلي بمعناه الموسوعي والكوني الشامل، فلم يكن أمام الفلسفة الجدلية التي تحاول تجاوزه إلا أن تبذل ما في وسعها لتحديد العقبات والحواجز التي أقامها هيجل في وجه الانفتاح غير المحدود للجدل على «المستقبل» و«الجديد» ومحاولة إزالتها من وجهة نظرها المادية والتاريخية وأهدافها الإنسانية والثورية.

ولا شك أن الجدل الهيجلي مدين لأفلاطون بالكثير، فمن أهم الأفكار الأفلاطونية التي أثرت في هيجل أولًا: الاهتمام بالكليات واعتبار الفكر هو الأساس الحقيقي وراء هذا العالم. ثانيًا: التفرقة بين المعرفة الحسية والمعرفة العقلية ثم تقسيم العقل إلى «قوة الفهم» و«العقل الخالص». ثالثًا: «سير الجدل بين الكليات فقط دون الجزئيات أو المحسوسات».٥١ لكن أهم الأفكار التي تركت بصمتها على الجدل الهيجلي هي الفكرة الأفلاطونية المعروفة بأن العلم تذكُّر — وهي الفكرة التي عرضها أفلاطون في محاورتَي «مينون» و«فيدون» — وأن هذا التذكر يجعل كل اكتشاف للجديد مجرد إعادة تذكر للأبدي الخالد، بحيث تسير عملية الصيرورة الكونية في مسارٍ دائري يردها باستمرار إلى نفس الأصل الذي بدأت منه. ومن المعروف أن هيجل قد صور «تخارجات» العقل أو الروح المطلق ومراحل «فضه» لنفسه في صورة نسقٍ دائريٍّ مؤلف من دوائرَ أخرى عديدة، بحيث يمكن وصف المبدأ الذي تقوم عليه فلسفته — على الرغم من جدليتها — بأنه مبدأٌ سكوني يتلخص في موعظة معبد دلفي الشهيرة التي أخذ بها سقراط «اعرف نفسك»، وهي الموعظة التي تنطق — على لسان كاهنة المعبد — بأن المستقبل معروف سلفًا! لكن بلوخ يقول على العكس من ذلك بصوت لا نخطئ فيه النغمة الوجودية: أبدع نفسك والعالم المادي والإنساني الذي تنتمي إليه، بشرط ألا يأتي هذا الإبداع عن التعسف والهوى، بل يهتدي «بعلم الأمل» Docta Spes الذي يفجر سدود «التذكر» ودوائره المحكمة ويفتح طريق المستقبل على كل جديدٍ مبدع.٥٢

والجديد في فلسفة هيجل هو القضاء على ثنائية الفكر والوجود وإزالة الحدود الفاصلة التي وضعها الفكر الفلسفي طوال تاريخه بين المنطق والميتافيزيقا أو بين المعرفة والوجود فكانا عنده علمًا واحدًا. والمنهج الجدلي الذي انتهى عند كانط إلى النقد والسلب تحول عند هيجل إلى منهج إيجابي فكان هو حركة الواقع نفسه، وكان أساس فلسفته التاريخية، كما كان هدفه النهائي هو السيطرة على الواقع. وعلى الرغم من ذلك يقول هيجل في فلسفة «الحق»: «إن ما هو معقولٌ واقعي، وما هو واقعيٌّ معقول.» إيذانًا بتوقف الجدل عند هذه المرحلة، مرحلة ما قد أصبح واقعًا. لذلك كانت شروح بلوخ على هيجل في كتابه السالف الذكر معارضة لهذا الرأي وتأكيدًا على ضرورة التقدم المستمر إلى الأمام، ابتداءً من الآن، أي ابتداءً من الحاضر، وتأمل الماضي، لا إحيائه باعتباره قد مضى.

وانطلاقًا من هذا المفهوم نظر بلوخ إلى هيجل ليجد أن الفكرة عنده تأتي بعد أن يكون الواقع قد تم وانقضى بحيث لا يبقى إلا تذكُّره. ويبرز بلوخ ميول هيجل إلى القديم (إلى الفلسفة الإغريقية) وإلى التذكر، ومع ذلك يذكر نصوصًا مناقضة تدل على ترحيبه بالجديد، كقوله عن الثورة الفرنسية بعد قيامها بثلاثين سنة أنها شروق الشمس الرائع؛ وهذا يدل على تردد هيجل بين السكونية والحركية، بين تذكر القديم الماضي والاهتمام بالتطور الأكثر واقعية، بين عقد سلام مع الواقع ووقوفه في صف التقدم، بين التذكر والتطور.

ويستشهد بلوخ بنصوص من هيجل تنطق بوقوفه في صف التقدم والواقع العيني الذي يأتي في نهاية التطور لا في وصف المبادئ العامة المجردة: «إن ما يمثل البداية — من حيث إنه هو ما ينطوي عليه مما لم يتطور بعدُ ولم يحتوِ على أي مضمون — لا تتم معرفته في البداية معرفةً حقة، ثم يأتي العلم وعلى وجه الخصوص من خلال تطوره الكامل، فيكون هو المعرفة الكاملة الغنية بالمضمون، والقائمة بحق على أساسٍ قوي.»٥٣ ومن هنا يكون التطور إلى الأمام هو العودة إلى الأساس. ومعنى هذا أن التطور كان مجرد تأمل في الأساس نفسه، في الجذور، أي كان تطورًا تراجعيًّا.
ظل الميل إلى الوراء هو الأقوى لدى هيجل، بحيث لم يبقَ للفكر إلا تذكر ما حدث ومضى واستعادته، بحيث يصبح الهدف هو معرفة ما قد عُرف، أي المعروف من قبلُ، ويعزز هذا الرأي نص من الظاهريات يقول: «إن الهدف، وهو المعرفة المطلقة أو الروح الذي يعرف أنه روح، طريقه هو تذكر الأرواح على طبيعتها التي هي عليها وكيف تنجز تنظيم مملكتها.»٥٤ وإذا نظرنا إلى كلمة التذكر عند هيجل نجدها تعني معناها الأصلي وهو الاستيعاب أو الإدخال في الوجدان الباطن: «إذا أخذنا التذكر بمعنى استحضار تصور سبق لنا أن تمثلناه في وقتٍ سابق، فإن للتذكر معنًى آخر مستمدًّا من اشتقاق الكلمة نفسها وهو إعادة استبطان شيء مضى أو التغلغل في الذات أو الاستيعاب، وهذا هو المعنى الفكري العميق للكلمة. ولا شك أن تعبير التذكر عند أفلاطون يكتسب في كثير من الأحيان هذا المعنى التجريبي الأول.» ويستنتج من هذا النص لهيجل أن التذكر عنده استيعاب وليس مجرد إعادة إنتاج تصورٍ قديم كما هو عند أفلاطون، ويبقى العامل المشترك بينهما هو الارتداد للماضي وتأمله عند كلٍّ منهما؛ لذلك يظل هيجل أقرب إلى أفلاطون في «مينون» منه إلى تراث التطور منذ أرسطو إلى ليبنتز.٥٥ وليس أدل على ذلك من نص لهيجل يؤكد فيه موافقته على التذكر بالمعنى الأفلاطوني وتأكيده على أن حركة العالم الحق نحو ذاته، أو صيرورته إلى ذاته، أو كما يقول عودة الروح إلى ذاته: «هذا هو مفهوم العام الحقيقي في حركته، فالعام أو النوع هو في ذاته صيرورته الخاصة، وهو يكون كذلك بمعنى أنه يصير حقيقته؛ ومن ثم تكون حركته هي العودة الدائمة إلى ذاته. والواقع أن أفلاطون يتصور وجود الروح في ذاته في الزمان؛ فالحق لا بد له إذن أن يكون قد وجد بالفعل بالنسبة لنا في زمنٍ آخر.» إن تأثر هيجل بأفلاطون واضح في هذا النص. وهو في تأمله لعودة العقل أو الروح إلى ذاته يقف موقفًا سلبيًّا قريبًا من موقف أفلاطون، وهو يقترب منه أيضًا في فهمه للتذكر أو في تذكره آخر المطاف لعالم المثل التام السابق للزمان؛ هذا العالم الذي يسمى عند هيجل عالم المنطق السابق على وجود العالم.٥٦
هكذا يعترف هيجل حرفيًّا بالتذكر anamnesis وذلك بعد انتهائه من تأليف كتابه عن المنطق، كما يدل هذا النص من الموسوعة: «إذا نظرنا إلى المنطق على أنه نسق من الأنماط الخالصة للفكر، فسوف نجد أن العلوم الفلسفية الأخرى، مثل الفلسفة الطبيعية وفلسفة الروح، تبدو لنا وكأنها منطقٌ تطبيقي، فالمنطق هو الروح التي تشيع الحياة في هذين الفرعَين من الفلسفة (فلسفة الطبيعة وفلسفة الروح)، وستكون مشكلتها في هذه الحالة هي التعرف على الصور المنطقية على نحوِ ما تتشكل في عالم الطبيعة وفي عالم الروح، وهي أشكال ليست سوى نمطٍ جزئي من التعبير عن صور الفكر الخالص.»٥٧ لكن هل يعني هذا أن فلسفة هيجل انتهت إلى الأفلاطونية، كما قد يبدو من السطور السابقة؟ الواقع أن هناك فرقًا جوهريًّا بين هيجل وأفلاطون. إن الأخير يحط من شأن الظواهر، فالموجودات الحسية عنده مظاهر، أوهام، ظلال، نسخٌ باهتة. بينما هي عند هيجل ظواهر للمطلق، أي يتجلى فيها المطلق، والعام بدونها وحيد وبلا حياة؛ لأن الظاهر أو الخاص عنده هو تجسيدٌ عيني للعام في ذاته، ولأن الحقيقة عنده عينية وهي كذلك نتيجة لا تظهر إلا من خلال الظواهر. وعندما يتخارج العقل عن نفسه ويتجلى في الطبيعة، والأهم من ذلك عندما يوجد لذاته في الوعي الإنساني، تكون حقيقته على الدوام حقيقةً عينية، وذلك مصداقًا لكلمة هيجل المشهورة «الحق عينيٌّ». وهكذا نجد أن الحقيقة عند هيجل ليست كما كانت عند أفلاطون حقيقةً خالدة وخالية من الصيرورة، وسابقة على الزمن، وإنما الحقيقة عنده هي دائمًا نتيجة أو محصلةٌ أخيرة.٥٨
وقد تأثر التذكر الكوني (أو الكوزمولوجي) عند هيجل بالأفلاطونية المحدثة، فكان تأثير فكرة الفيض أو الصدور والرجوع للواحد الأول أو النور الأول. إن بروكلوس — الأفلاطوني المحدث وأحد شراح أرسطو — هو أول من أدخل صيغة القضية ونقيضها والمركب منهما في الجدل. فكانت صياغته لها على هذا الشكل «الواحد – الخروج – الرجوع للواحد الأول» أو بمعنًى آخر «الثبات – الخروج – العودة» وتحولت هذه الصيغة عند هيجل إلى الإيقاع الثلاثي «الموضوع والنقيض والمركب».٥٩ والحقيقة أن هيجل — وريث بروكلوس — هو الذي احتوى في نسقه الكلي كل الجدل الموضوعي السابق عليه، وأعتقد أنه فسر تطور مضمون العالم كله من خلال الحركة الذاتية للفكرة، أي من خلال حوار الروح المطلق مع نفسه. وقد حرص هيجل على إزالة التناقض، لأن الحق هو الخالي من التناقض، ولكنه كذلك عمليةٌ جدليةٌ متطورة وليس عملية جاهزة للتحصيل. أي أن التناقض هو الذي يدفع بالموجود المتناقض أو غير الكامل إلى الوحدة والحقيقة «المستديرة» كهدفٍ نهائي. وبذلك وضع هيجل اﻟ «ليس-بعد» في المطلق الحاضر، على حد قول بلوخ.٦٠
وعلى الرغم من الاختلاف بين المدرسة الأفلاطونية وبين هيجل في تصور الخير الأسمى، فإن التذكر الذي يربطهما يظل باقيًا عند هيجل، بل إنه يزيد عنده في وصفه للتطور الجدلي بأنه دائرة، وللحقيقة بأنها دائرة الدوائر.٦١ وقد امتزجت عملية الصيرورة بالتذكر عند هيجل لحساب الحقيقة الأولى الساكنة وعلى حساب التقدم نحو الجديد والمستقبلي، وكأن التقدم للأمام هو تراجع إلى الأصل، وهذا أيضًا ما يؤكده نص لهيجل من كتابه علم المنطق يبين فيه أن البدء أو الأصل باقٍ في كل ما يخرج منه، أي أن الأصل أو الأساس حاضر في كل هنا وكل آن: «إن الانطلاق مما يكون البداية يجب ألا ينظر إليه إلا على أنه نوعٌ آخر من التحديد، بحيث إن البداية تظل هي الأساس الذي يقوم عليه كل ما يتبع تلك البداية ولا يختفي منها أبدًا، بذلك يمكننا القول بأن بداية الفلسفة هي الأساس الذي تقوم عليه كل التطورات اللاحقة، ويبقى حاضرًا فيها جميعًا، أي هو العنصر الكامل والباقي في كل تحديداته التالية.»٦٢
بذلك يصبح الآن العيني، وكل أشكال عملية الصيرورة الكونية، مستوعبًا في الفكرة الأصلية أو الحقيقة الأولية التي تُتذكر وتحضر في كل الظواهر وتوحد المفهوم (أو التصور) مع الواقع، ولا يكون ثمة مجال للتقدم نحو الجديد والكلي الكامل واليوتوبي. وهذا أيضًا يؤكده تاريخ الفلسفة من طاليس إلى هيجل. ففي تلك الفترة الزمنية الطويلة من تاريخ الفلسفة يصح القول بأن «الماهية هي الماضي الذي تم واكتمل» ولهذا فإن الماضي، وليس المستقبل باعتباره الشكل الزمني لما ليس-بعد، هو الذي يتعلق بالأبدية.٦٣
من هنا كان نقد ماركس للجدل الهيجلي يتجه إلى نقد الروح المطلق الذي يحل كل التناقضات الواقعية في الروح، أي في رأس هيجل نفسه! بذلك أعاد الجدل إلى القلق العيني الواقعي، وأرجعه إلى حاضر هذا الواقع ومستقبله، وهذا هو المعنى الحقيقي لتعبيره عن «قلب» الجدل الهيجلي بحيث يقف على قدمَيه لا على رأسه. لكن نقد ماركس للجدل الهيجلي لم يمنعه من إنصاف هذا الجدل ووصفه بأنه ثوري ونقدي للواقع كما يشهد بذلك نص ماركس: «لقد كان الجدل في شكله الصوفي الغامض بدعةً ألمانية لأنه أراد فيما يبدو أن يسلط الضوء على الأوضاع القائمة، أما في شكله العقلاني فقد كان مبعث ضيق وفزع للبرجوازية الألمانية والمذهبيين الناطقين بلسانها لأنه — أي الجدل — عندما فهم الأوضاع القائمة فهمًا إيجابيًّا انطوى في نفس الوقت على الفهم لنفي هذه الأوضاع وضرورة انهيارها، كما أنه لم يتردد عن إدراك كل شكل من أشكال الصيرورة في مجرى الحركة، أي من جانبها الزائل أيضًا بحيث كان هذا الجدل في جوهره نقديًّا وثوريًّا.»٦٤
هكذا انتهى بلوخ في تفسيره للجدل الهيجلي إلى أنه — على الرغم من تردد بعض نصوص هيجل بين الرجعية والتقدمية — لا ينطوي على الجديد الفعلي ولا ينفتح على المستقبل الحقيقي. ولو نظرنا إلى محاولةٍ أخرى من الفكر الغربي لتفسير الجدل الهيجلي لوجدنا هربرت ماركيوز في كتابه «العقل والثورة» يحاول تفسير فلسفة هيجل على أنها فلسفة ثورة وأن العقل عنده لا بد أن يؤدي بالضرورة إلى ثورة.٦٥ ومما لا شك فيه أن هذا التفسير يختلف اختلافًا جذريًّا عن تفسير بلوخ، فهو ينظر إلى الجدل الهيجلي نظرةً ثورية، ويقيم ماركيوز تفسيره هذا على أساس أن السلب هو روح الجدل، وأن السلب أو النفي هو بطبيعته رفض للواقع. إن السلب الذي يطبقه الجدل ليس فقط نقدًا للمنطق التقليدي الذي يرفض الاعتراف بحقيقة المتناقضات، بل هو أيضًا نقد للأوضاع القائمة على نفس الأرض التي تقف عليها، والقدرة على التفكير السلبي هي القوة الدافعة للفكر الجدلي التي تستخدم أداة لتحليل عالم الوقائع من خلال ما فيه من نقصٍ باطن.٦٦ إن محاولة ماركيوز تفسير منطق هيجل تفسيرًا سياسيًّا هي محاولة تنزع إلى المبالغة إلى حدٍّ كبير.٦٧

والواقع أنه لا خلاف على ثورية هيجل ومنهجه الجدلي الذي أدخل العقل في التاريخ، لكن الخلاف ينصبُّ على رؤيته للواقع أو الحقيقة، فالسؤال هنا هو هل هذه الرؤية تتجه إلى المستقبل أم ترتد إلى الماضي وتتخذ صورة الدائرة المكتملة؟ وهنا يمكن أن نقول إن بلوخ له الفضل في تأكيد عدم مستقبلية النظرة الهيجيلية بسبب تأثرها — كما سبق القول — بالعبارة الأفلاطونية «إن العلم تذكر.» وأيضًا بسبب دائرية نسقه الفلسفي.

(٤) الجدل بين هيجل وبلوخ

يكمن اختلاف الجدل المادي عند بلوخ عن إيقاع الجدل المثالي عند هيجل في أن عملية التقدم نحو الهدف النهائي اليوتوبي غير ممكنة إلا بالابتعاد عن التذكر، أي بالتوقع والأمل المتجدد؛ لأن كل وجود يتحقق، وكل يوتوبي نتصور أننا وصلنا إليه لا يوقف عملية الصيرورة المستمرة نحو الأكمل والأكثر وجودًا أو تحققًا. والمهم أن التقدم نحو الأشكال الفعلية الجديدة يتم بلا تذكر يرجع بنا للقديم أو يتوقف بنا عند محطاتٍ تاريخيةٍ ساكنة.٦٨ وإنما يهتدي باﻟ «ليس-بعد» في مسيرته حتى لا ننسى أن اليوتوبي وأن الحقيقة والواقع لم يتحققا بعدُ ولم يكتسبا بعدُ.
إن الجدل المادي عند بلوخ يظل حركة تحمل ما لم يتحقق بعدُ، وينبغي تحقيقه في داخلها باستمرار، ولذلك فهو جدل القلق، أي عدم التحقق وعدم الامتلاء النهائي. وعدم حضور الكمال فيما هو غير كامل أو ناقص هو الذي حرك هيجل لكتابة هذه العبارة: «إن غير الكامل، بوصفه الضد لذاته، هو التناقض وهو دافع الحياة (أو الدافع الحي) الذي يحمله في ذاته ويدفعه لكسر قشرة اغترابه الذاتي واختراقها.»٦٩ ولكن إذا كان هيجل قد وضع أرضه الجدلية الشاقة — أي بصراعاتها ومصاعبها — في سماء فكرته المطلقة والمغلقة، فإن نسق الجدل المفتوح المستنير لا يجعل من الحركة الجدلية القلقة حركةً لا نهائية، ومن ثم حركةً عقيمة وإنما يحولها إلى حركة تحمل في أحشائها الكمال الكامن الذي يجعل من المستحيل وجود تاريخ أو تجربة بدون يوتوبيا.٧٠

إن الطريق الجدلي نفسه — حتى لو كان جدلًا مثاليًّا — يشهد بالتوجه نحو الهدف الواقعي الأخير الذي هو عند بلوخ «مملكة الحرية» الأخيرة في مجتمعٍ شيوعيٍّ واقعي يجسد في تصوره الإنسانية الحرة الكاملة، والارتباط في نفس الوقت بالواقع التاريخي المتعين، بحيث لا يكون الجدل هو مجرد الانعكاس التأملي لهذا الواقع، بل يفترض كذلك انعكاس الانعكاس، وتأمل هذا التأمل دائمًا من منظور التقدم المستمر نحو الأمل الكامن في داخل الواقع، والذي ينزع باستمرار نحو التحقق والاكتمال اليوتوبي. ومعنى هذا بتعبيرٍ آخر أن المبدأ اليوتوبي الواقعي عند بلوخ كامن في الواقع والوعي معًا. وهو ينزع باستمرار إلى تخطي معوقاتهما ليتجه باستمرار نحو الهدف الكلي الذي يتحرك نحو مبدأ الأمل، وهو تحقيق مملكة الحرية الشاملة.

إن مبدأ الأمل، هذا المبدأ اليوتوبي كامن في الوعي، كما هو كامن في الواقع، في هذا العالم الخارجي غير المكتمل وغير التام، الذي يتميز دائمًا بالصيرورة المستمرة. والواقع في صحيحه صيرورة Process. وهذه العملية هي التوسط بين الحاضر والماضي والمستقبل الممكن الذي يمثل أهم أبعادها. أجل إن كل ما هو واقعي، ومن خلال عملية الصيرورة هذه يصب في الممكن. وكل ما هو جزئيٌّ مشروط فهو ممكن، أي لم يتحدد بعدُ تحددًا تامًّا. والمتحرك المتغير والقابل للتغيير، والذي يعبر على نحوٍ ما عن نفسه تعبيرًا ماديًّا جدليًّا، إنما يحمل في أساسه إمكانية الصيرورة التي تتم ولم تنتهِ بعدُ، كما أن هذه الإمكانية هي التي توجهه أيضًا نحو أفقه البعيد.٧١
وإذا كان بلوخ قد عارض سكون الجدل الهيجلي ودائريته، فلا يعني هذا التقليل من شأن فيلسوفٍ كبير مثل هيجل، استطاع أن يحسم الرأي في شان الجدل الذي ظل ردحًا طويلًا من الزمن يتأرجح بين الذات تارة، والموضوع تارةً أخرى، حتى جاء هيجل ليقدم صورةً متكاملة لجدل الذات والموضوع. وعلى الرغم من أن بعض الفلسفات التي جاءت بعده — على اختلاف أنواعها — سعت سعيًا دءوبًا لهدم هذا الصرح الشامخ، فقد ظلت المثالية الهيجيلية مصدرًا ومادةً خامًا للعديد من الفلسفات والتفسيرات والتأويلات. ويكفي هيجل أن جدله كان أول من أخرج الصراع من كمونه، وأطلق هذا العملاق الجبار ليعمل في التاريخ، بعد أن ظل يعمل طويلًا في عقول الفلاسفة دون أن يصطدم بأرض الواقع. إن الثورية — وهي السمة التي يجب أن تميز الجدل بصفة عامة — ربما ظلت كامنة في جدل هيجل بشكلٍ خاص ولم تتفجر إلا على يدَي ماركس الذي اكتملت عنده صورة الجدل المادي التاريخي. لكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن الجدل المادي الماركسي في جوهره لا يختلف عن الجدل المثالي الهيجلي، فلا نستطيع أن نقول إن ماركس قد أتى بمنهجٍ جدليٍّ جديد يختلف عن المنهج الجدلي الهيجلي. لكن نقطة الخلاف تكمن في نقطة البداية عند كلٍّ منهما، فبينما انطلق هيجل من الفكر، انطلق ماركس من المادة. يكمن الخلاف إذن في «المقابلة بين التصور الفلسفي للعلاقة بين الفكر والوجود عند كلٍّ من الفلسفة المثالية والفلسفة المادية. هيجل يجعل الفكر أساسًا أوليًّا عليه يعتمد الوجود بأسره، أما ماركس فيطالب بأن نقلب الوضع بحيث يكون الأساس هو مادة الواقع الصلبة.»٧٢

إن أساس المنهج الجدلي هو واقع التناقض التاريخي، فإذا كان الجدل في رأي هيجل هو أداتنا لفهم الحركة الجدلية للواقع وترتيبها في نسق أو نظام فإن ماركس مقتنع مثل هيجل بأن الجدل هو الذي يحدد مسار التاريخ. إلا أنه لم يقصر الجدل — مثل هيجل — على فهم الواقع ووضعه في نسق، وإنما ذهب إلى أبعد من ذلك فجعله هو الأداة العلمية الوحيدة لفهم المستقبل، هذا البعد الغائب عن فلسفة هيجل. إن كلًّا من هيجل وماركس ينظر إلى المجتمع على أنه ظاهرةٌ جدلية تنطوي على التضاد، كما تنطوي على إمكان حله. لكن ماركس يعتبر التناقض ظاهرةً إنسانيةً اجتماعية تتخذ صورة تقسيم العمل وصراع الطبقات والتناقض بين قوى الإنتاج وعلاقاته، وتدفع التاريخ نحو غايته وهدفه الأخير، ألا وهو المجتمع الحر الخالي من الطبقات. ولقد انطلق ماركس من أفكار هيجل التي قدمها في «فلسفة الحق» عن جدل العمل والحاجات وإشباع الحاجات، فطوَّرها وحوَّلها إلى جدل الصراع الطبقي الذي هو أساس التاريخ البشري، بحيث لم يعد الصراع ولا التاريخ هو مجرد تقدم الوعي بالحرية على نحو ما قال هيجل.

وعلى الرغم من الاختلاف بين هيجل وماركس، إلا أن هذا الأخير ينصف جدل هيجل في «المخطوطات الاقتصادية الفلسفية» حين يقول: إن أعظم ما في «ظاهريات الروح» هو أنها تفهم جوهر العمل وتدرك الإنسان الموضوعي بوصفه نتيجة عمله. فظاهريات هيجل كانت أول عمل يتناول بجدية المفهوم الديناميكي الإبستمولوجي للعمل على الأقل في الحدود التاريخية-المثالية. لقد فسَّر هيجل العمل البشري تفسيرًا عقليًّا وليس ماديًّا، هذا بالمقارنة مع النزعة المادية في العصر الحديث التي أغفلت مفهوم العمل ولم تختلف بذلك عن سلفها القديم ديمقريطس. إن نظريات المعرفة منذ ديمقريطس — أكبر الماديين في الفلسفة اليونانية — حتى فلسفات ما قبل ماركس، كانت نظريات معرفة سلبية، تقوم على فكرة المتلقي ولم تعكس عملية الصيرورة، بمعنى أنها نظرياتٌ ذات نزعةٍ ميكانيكية، وكان من الطبيعي ألا يكون هناك فعالية إبستمولوجية في مجتمع مثل المجتمع اليوناني يقوم على ملكية العبيد واحتقار العمل. ولكن لم يكن من الطبيعي — في نظر بلوخ — أن يمتد هذا إلى النزعة المادية في العصر الحديث،٧٣ هذه النزعة التي افتقرت — على حد قول ماركس في قضاياه عن فويرباخ — إلى العلاقة التي تربط الذات بالموضوع وهي العمل، ويندرج فويرباخ نفسه تحت هذه النزعة التأملية حيث حذف النشاط البشري من الوجود الواقعي، ولم ينظر للإنسان إلا بوصفه وجودًا مرتكزًا على الطبيعة، وضيع بذلك العلاقة الجدلية المتبادلة بين الذات والموضوع عن طريق توسط العمل،٧٤ هذا التفاعل بين الذات والموضوع الذي يؤكد عليه ماركس في هذه العبارة: إن الإنسان ونشاطه يبقى دائمًا الأساس التاريخي المادي.
من هنا كان هجوم ماركس على كل الفكر القائم على التأمل، وكل الفلاسفة الذين فسروا العالم بطرقٍ مختلفة وارتبط تفسيرهم بالتأمل. والمعرفة اللا-تأملية هي التي قصد إليها ماركس في كتابه «رأس المال» الذي اتجه مباشرة للفعل، إلى معرفة القوانين الجدلية للتطور في المجتمع والطبيعة ككل.٧٥ والنقطة الأصيلة في الفكر الماركسي هي القدرة على التغيير للأفضل واكتشاف أفق المستقبل. فكل المعرفة السابقة قامت على العلاقة المتبادلة بين المعرفة والماضي. ولم يكن لصيرورة العمل أي اعتبار في هذه المعرفة القائمة على التذكر التي امتدت من أفلاطون إلى هيجل، لقد ظلت علاقة المعرفة بالصيرورة — حتى ما قبل ماركس — مطبوعة بطابع التأمل، ولا يستثنى من هذا فيلسوف التطور أرسطو، فالوجود عنده هو ما كان موجودًا. ولا يستثنى كذلك فيلسوف الصيرورة الجدلية الأكبر هيجل، فالوجود عنده هو الواقع الذي أصبح بالفعل أو الذي تم بالفعل.٧٦ وفي الفكر الماركسي وحده تكمن الفكرة المبدئية ومحورها الإنسان العامل، والتغيرات الاجتماعية التي تتفاعل مع الطبيعة نفسها. ولن يتسنى تغيير العالم بدون ممكنٍ حقيقيٍّ موضوعي يوجد داخل هذا العالم حتى يمكن إعادة بنائه على هذه الأرض.

ثانيًا: بنية الزمان التاريخي

إذا كان الجدل هو منطق الزمانية فما الزمان؟ وما ماهيته؟ هل للزمان بداية ونهاية؟ وهل هو كائن منذ الأزل وسيظل إلى الأبد، أم أنه حادثٌ مخلوق مع الطبيعة؟ هل له وجودٌ مستقل عن الظواهر الطبيعية والأحداث التاريخية؟ أسئلة شغلت بال الكثير من المفكرين طوال عمر التفكير البشري. فمشكلة الزمانية من كبرى المشكلات الفلسفية التي احتلت حيزًا هامًّا في الفكر الفلسفي قديمه ووسيطه، حديثه ومعاصره. أثيرت المشكلة على مستويين: مستوى التنظير العقلي الفلسفي، ومستوى العالم الطبيعي الفيزيائي، فلم يوجد فيلسوف ذو شأن إلا وقدم تصورًا للزمان يتفق مع نظريته الفلسفية. كما لم يوجد باحث في علم الطبيعة استطاع أن يتجاهل هذا البعد الهام للزمان.

دارت مشكلة «الزمانية» على محورَين أساسيين: محور الزمان ومحور المكان، وارتباط كلٍّ منهما بالآخر بحيث لا يمكن التفكير في الزمان بمعزل عن المكان. واختلاف وجهات النظر في هذه المشكلة يرجع إلى الاختلاف حول هذين المحورَين، فقد رد بعض الفلاسفة الأول (أي الزمان) إلى الثاني (وهو المكان)، وقال البعض الآخر بعكس هذه النظرية. وللمشكلة جذورٌ فلسفية وعلمية يشهد عليها التفكير الفلسفي من ناحية وتطور علم الطبيعة أو الفيزياء من ناحيةٍ أخرى.

(١) الزمان الدائري في الفلسفة اليونانية

لمشكلة «الزمانية» جذورٌ عميقة في الفكر اليوناني منذ الفلاسفة الطبيعيين قبل سقراط، قال بعضهم (أمثال هيراقليطس والفيثاغوريين) بأن ماهية الوجود تتحدد في إطار الزمان والمكان، فقصر وجود العالم الخارجي على حدوده الزمانية المكانية. وعندما طرح سؤال: هل للزمان وجود وماهية؟ قال البعض (مثل زينون الإيلي) بإنكار الزمان كنتيجةٍ مترتبة على إنكاره للحركة. ورد البعض الزمان برمته إلى المكان، بحيث لا يفهم الزمان إلا على غرار المكان من حيث كونه يشغل حيزًا في المكان. واختلفت الآراء حول أبدية الزمان، فبينما يؤكدها هيراقليطس بقوله «البدء والنهاية في محيط الدائرة واحد.»٧٧ ينكرها أفلاطون في محاورة طيماوس: «ولما رأى أبو العالم ووالده، أنه ولد صورة للآلهة الأزليين، وفكر أيضًا أن يجعله أكثر شبهًا بمثاله، فكما أن ذاك المثال حيٌّ سرمدي (…) ففكر أن يضع صورةً متحركة للأزل … وهي ما سميناه زمانًا لأن النهار والليل والشهور والسنين لم تكن قبل حدوث السماء، ولكن الله استنبط حدوثها عندما كان يركب الفلك.»٧٨ بذلك ينتهي أفلاطون إلى أن الصانع خلق الزمان في لحظة خلق العالم، ثم يأتي أرسطو ليعارضه ويقول بأبدية الزمان وارتباطه بالحركة الدائرية عندما فسر علاقة الزمان بالحركة ونظر إليه باعتبار «إن الزمان عدد الحركة من قبل المتقدم والمتأخر، وأنه متصل.»٧٩ فليس هناك زمانٌ فارغ، كما أنه ليس هناك مكانٌ خلاء. لكن يأتي أفلوطين بعد ذلك لينتهج نهج أفلاطون وينطق بلسانه فيقول بخلق الزمان: «الأبدية والزمان شيئان مختلفان، فالأبدية ترجع إلى الطبيعة الخالدة، أما الزمان فمجاله عالم الأحداث الجارية في عالمنا المحسوس.»٨٠

(٢) الزمان المستقيم في الفلسفة الوسيطة

إذا انتقلنا للعصور الوسطى التي سيطر عليها الفكر الديني وجدنا السيادة المطلقة للتصور الأفلاطوني-الأفلوطيني، أي لسيطرة فكرة خلق الله للزمان في لحظة خلقه للعالم. ويؤكد هذا التصور الخط المستقيم لزمن الأديان الذي ينتفي معه الشكل الدائري للزمان اليوناني. ويمثل القديس أوغسطين (٣٥٤–٤٣٠م) هذا الاتجاه، فهو يؤمن بإلهٍ خارج عن العالم، وهو روح لا يسري عليها الزمان، ولا تخضع للعلية أو التطور التاريخي. وعندما خلق الله العالم خلق معه الزمان. فنحن لا نستطيع أن نتساءل عما حدث قبل خلق العالم؛ إذ لم يكن هناك زمان يمكن أن نسأل بشأنه هذا السؤال.٨١
ويرى بلوخ أن مفهوم الزمان عند أوغسطين — على الرغم من طابعه الذاتي — مرتبط بالواقع القائم على التجربة،٨٢ فالماضي الذي لم يعد له وجود يتم استدعاؤه في الحاضر عن طريق الذاكرة، كما أن العبور للمستقبل الغامض يتم أيضًا من خلال الواقع الحاضر عن طريق التوقع، والنفس تستجمع الزمان بكل أبعاده في اللحظة الحاضرة بالانتباه. بذلك يمكن القول إن الزمان يصبح حاضرًا دائمًا: «لا ماضي لا يكون موجودًا، ولا مستقبل ليس حاضرًا، وليس هناك إلا اﻟ «هو» اﻟ «كائن» وليس هناك «كان» ولا «سيكون» لأن ما كان لم يعد كائنًا وما سيكون لم يكن، فهناك الكائن لا غير.»٨٣ وكما كان أوغسطين أول من فكر في الزمان، فهو كذلك أول فيلسوف تاريخ، فهناك علاقةٌ جدلية بين الزمان والتاريخ عنده، وتاريخ الخلاص لا يلغي الزمان، حيث أدرك الوظيفة الموضوعية للزمان (أي جدلية التحول وتعرض كل ما في الزمان للفساد). وعلى الرغم من ذلك فهو يرى أيضًا أن الزمان يتقدم نحو مدينة الله المقدسة.٨٤

(٣) الزمان المطلق في العلوم الطبيعية

ثم تعقدت مشكلة الزمان وتشابكت مع تقدم العلوم الطبيعية والرياضية وتطورها في عصر النهضة، فابتعدت عن فكرة ارتباط الزمان بالمكان والحركة، أي ابتعدت عن تصور الزمان معتمدًا على حركة العالم الطبيعي، وهي الفكرة التي سادت التصور اليوناني للزمان، وسيطرت على العصور الوسطى فكان الزمان الذي لا يستشرف المستقبل بسبب غياب فكرة التطور والتقدم من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل إلى أن جاء إسحاق نيوتن (١٦٤٢–١٧٢٧م) وأقام صرح العلم الطبيعي الحديث على أساس من الحتمية العلمية، وصور العالم كآلةٍ ميكانيكيةٍ هائلة تسير وفق قوانينَ رياضيةٍ دقيقة لا تحيد عنها، وجعل الكون يتحرك في المكان والزمان المطلقَين. أعقب هذا التطور الهائل في العلوم الطبيعية، تطورٌ مماثل في الدراسات الفلسفية التي رفعت لواء العقل في عصر التنوير واستندت إلى ميكانيكا نيوتن. وربما كان أوضح مثال على هذا هي فلسفة كانط (١٧٢٤–١٨٠٤م) النقدية التي جعلت المكان والزمان صورتَين قبليتَين للتجربة.

(٤) الزمان كبُعدٍ رابع في النظرية النسبية

واستمر تطور العلم الطبيعي والرياضي إلى أن جاءت نظرية النسبية لأينشتين لتنحي الفيزياء الكلاسيكية لنيوتن جانبًا، وتقول بالمتصل الزماني-المكاني، وتجعل من الزمان المندمج مع المكان بُعدًا رابعًا مضافًا إلى الأبعاد الثلاثة لفيزياء نيوتن وهي الطول والعرض والارتفاع. انهار التفسير الميكانيكي للكون، وترتب على ذلك انهيار الزمان والمكان المنفصلَين المطلقَين. ويلخص رسل الأسباب التي جعلت من الضروري إحلال عبارة متصل «المكان-الزمان» بدلًا من المكان والزمان، فالفصل القديم بين المكان والزمان يقوم على اعتقاد بأنه لا لبس هناك في أن نقول إن حادثتَين في مكانَين متباعدَين قد وقعتا في زمنٍ واحد بعينه، وبالتالي كان من المعتقد أننا نستطيع وصف «طبوغرافية» (وضع) الكون في لحظةٍ معينة بمصطلحاتٍ مكانيةٍ بحتة. ولكن بعد أن أصبحت الآنية منسوبة إلى مشاهدٍ معين، لم يعد ذلك ممكنًا. فما يعده مشاهدٌ ما وصفًا لحالة العالم في لحظةٍ معنية، هو بالنسبة لمشاهدٍ آخر سلسلة من الحوادث وقعت في أزمنةٍ مختلفة، وليست علاقاتها مكانية فحسب، بل زمانية أيضًا. ولهذا السبب نفسه، نحن معنيون بالحوادث لا بالأجسام.

وقد كان من الممكن في النظرية القديمة النظر إلى عدد من الأجسام، كلها في نفس اللحظة، وما دام الزمان واحدًا بالنسبة إليها جميعًا، فمن الممكن تجاهله. أما الآن، فإننا لا نستطيع أن نغفل ذلك إذا أردنا الحصول على تفسيرٍ موضوعي للوقائع الفيزيائية، فلا بد من ذكر التاريخ الذي ننظر فيه إلى الجسم، وبهذا تم الوصول إلى «حادثة» أي إلى شيء يحدث في زمنٍ معين، وحين نعرف زمان ومكان حادثةٍ ما في نظامٍ تسجيلي لمشاهد فإننا نستطيع أن نحسب زمانها ومكانها وفقًا لمشاهدٍ آخر. بيد أنه ينبغي علينا أن نعرف الزمان والمكان أيضًا لأننا لم نعد نستطيع أن نسأل ما هو مكانها بالنسبة للمشاهد الجديد في «نفس الوقت» بالنسبة للمشاهد القديم؟ وليس هذا شيئًا كنفس الزمان بالنسبة للمشاهدَين المختلفَين، اللهم إلا إذا كانا ثابتَين الواحد بالنسبة للآخر، ونحن نحتاج إلى أربعة قياسات لتحديد وضعٍ ما، وأربعة قياسات تحدد وضع حادثةٍ ما في متصل «المكان زمان» لا مجرد جسم في المكان. ولا تكفي ثلاثة قياسات لتحديد أي وضع. هذا هو جوهر ما نعنيه باستبدال متصل «المكان زمان» بالمكان والزمان.٨٥ واحتدمت الآراء وتعارضت حول نظرية النسبية التي تعد أهم وأحدث ما وصل إليه التقدم في العلوم الطبيعية. ولسنا بصدد عرض لإشكالية الزمان وتطورها التاريخي، فليس هنا مجاله ولا هو هدفنا. ولكننا نعرض لهذه المشكلة من الزاوية التي تناولها بلوخ الذي اهتم اهتمامًا خاصًّا ببنية الزمن التاريخي. فهناك كما نعلم زمنان: الزمان الفلكي الكوني، زمان الساعة الآلي، الزمان الكمي؛ والزمان النفسي الوجداني، زمن التجربة الحية، الزمان الكيفي.

(٥) الزمان الذاتي في الفكر المعاصر

كانت مشكلة الزمان النفسي محور فلسفات عددٍ كبير من فلاسفة القرن العشرين، من أهمهم برجسون وهوسرل وهيدجر. تناول كلٌّ منهم زمان الذاتية الفردية، وميزوا بين زمن الساعة والنتيجة المطرد — الذي لا يمكننا من فهم المشكلة الفلسفية الزمانية — وبين زمن التجربة الحية.

عندما عالج برجسون (١٨٥٩–١٩٤١م) مشكلة الزمان فرق تفرقته المشهورة بين زمان التجربة الكيفي الحي المتدفق وهو الزمان الحقيقي الذي يسميه الديمومة La durée؛ وزمان الساعة الكمي السكوني الآلي المتجانس الذي نتج عن إقحام فكرة المكان في صميم فكرة الزمان. والديمومة أو المكان الحي هو المحور الذي تدور حوله كل فلسفة برجسون. فقد هاجم الميكانيكية العلمية وعارض العقل الذي يقتصر إدراكه على كل ما هو قائم على الثبات والسكون، ووضع في المقابل فلسفته الحيوية بمنهجها الحدسي، ورفض أن تعامل الذات معاملة العلم الطبيعي للعالم الخارجي الذي يتصف بالامتداد والكثرة، وتحكمه الحتمية العلمية؛ ذلك لأنه «فيما يتعلق بالحياة النفسية نلمح دون مشقة أن الزمن هو نسيجها نفسه.»٨٦ ويؤكد برجسون على أن الديمومة تبشر بالجديد دائمًا على مستوى الذات والكون على السواء: «إن الكون يدوم في الزمن، وكلما تعمقنا في فحص طبيعة الزمن فهمنا أن الديمومة تدل على الاختراع وخلق الصور، والإعداد المستمر للجديد على وجه الإطلاق.»٨٧
ليست الديمومة لحظة تحل مكان لحظةٍ أخرى، وإلا لما كان هناك سوى الحاضر، ولما كان هناك امتداد للماضي في الحاضر ولا تطور ولا ديمومة محددة بالذات «إن الديمومة هي التقدم المستمر للماضي الذي ينخر في المستقبل كلما تقدم.»٨٨ وهي الزمان النفسي حيث تتحرك الذات — التي تحيا في الزمان — وفق حياتها الباطنة الداخلية. وهذه الديمومة لا تمت بصلة للمكان والزمان اللذين تتحدث عنهما العلوم الطبيعية. وجدير بالذكر أن ديمومة برجسون قد تطورت فخرجت عن نطاق اكتشاف الحياة الباطنة للذات الفردية لتشمل الأشياء المادية «إن تيار الزمن يكتسب سرعةً لا نهاية لها، وإن ماضي الأشياء المادية وحاضرها ومستقبلها ينبسط دفعةً واحدة في المكان.»٨٩ بذلك لم تقتصر الديمومة على الذات الفردية، بل امتدت إلى العالم المادي ليتصف هو الآخر بالجدة والإبداع المستمر.
أما عن هوسرل (١٨٥٩–١٩٣٨م) مؤسس فلسفة الظاهريات فقد رفض رؤية الظواهر في المكان واتجه لرؤيتها في الزمان، خاصة وأن الفينومينولوجيا (أو الظاهريات) قد نشأت أساسًا كتحليل للشعور الداخلي بالزمان؛ فالشعور عند هوسرل يتكون في ثلاثة أبعاد للزمان هي التوتر والاستدعاء والانتظار.٩٠ ونقطة البدء عند هوسرل هي الأنا المتعالية وعالمها المتفرد وحريتها وتجربتها الحية التي أحالت كل الظواهر إلى تجربةٍ حية في الشعور. فكان زمانها هو زمان الذاتية الداخلي أو الباطني. يقول هوسرل في «تأملات ديكارتية»: «إذا كان الأمر يختص بحالة من حالات الشعور يكون فيها الموضوع المفكر فيه، موضوعًا من موضوعات العلم، فإنه يجب أن نميز المدة الموضوعية التي تظهر من المدة «المباطنة» لعملية الشعور. فهذه المدة تنقضي على فترات، وعلى مراحلَ زمنيةٍ خاصة بها.»٩١
وبفضل تلك المدة المباطنة تظهر جميع «حالات الأنا التي يمكن تأملها بحسب ترتيبها في الزمان — على نحوٍ متتالٍ — أي أن لها بداية ونهاية فيه، في داخل الأفق اللانهائي والدائم للزمان المباطن. ويمكن أن نعبر عن التمييز بين الشعور بالزمان وبين الزمان ذاته بوصفه تمييزًا بين حالة الشعور الداخلية في الزمان، وبين الأحوال الزمنية لظهوره.»٩٢
إذا انتقلنا إلى فيلسوفٍ آخر تناول التجربة الذاتية كمحورٍ هام لفلسفته نجد هيدجر (١٨٨٩–١٩٧٦م) — أحد أهم تلاميذ هوسرل — قد تناول مشكلة الزمانية بأبعادٍ جديدة في كتابه «الوجود والزمان» ربط هيدجر الوجود بالزمان في علاقةٍ جدلية انتهت إلى أن الموت هو إمكانية عدم وجود الذاتية بل هو أعلى إمكانيات هذا الوجود. فكان الموت هو المعيار الغائي للزمانية، وإمكانية ستحدث حتمًا في لحظةٍ زمنية محددة لكل إنسان، هذا المخلوق المحكوم عليه بالفناء، والذي يجب أن يواجه مصيره بمفرده في تجربةٍ منفردة، وكأن الوجود هو الوجود-للموت. وانتبه هيدجر إلى ما سماه «الاستباق إلى الإمكانيات الخاصة للفرد» وهي قدرة الآنية على استباق ذاتها إلى ما لم يوجد بعدُ — أي إلى موتها — هذه القدرة على أن تكون في المستقبل هي التي تمكنها من الرجوع إلى زمنها المنقضي وصونه من الضياع، فكأن استشعار الموت والإحساس بالنهاية هو الذي يحيى الماضي «إن الزمن المنقضي ينبثق على نحوٍ من الأنحاء من المستقبل.»٩٣
لم يعد الزمان سلسلة من الآنات متعاقبة الحلقات، ولا مسافة فاصلة بين نقطتين آنيتين مما نقيسه ونحسبه. فالمجال الزمني هنا هو الانفتاح أو المجال المفتوح الذي تتحد فيه أبعاد الماضي والحاضر والمستقبل في عناق الحضور.٩٤ هذا الحضور يعني الحاضر بلغة هيدجر، فإذا ذكرنا الحاضر فلا بد لنا أن نذكر زمن الماضي وزمن المستقبل. وقد وضع هيدجر هذه الأبعاد الثلاثة في كليتها والحياة الفردية نصب عينَيه. واعتبر أن الزمان الحقيقي هو وحده هذه الأبعاد في لحظة التصميم، وهي لحظة تحقيق الوجود الذاتي الأصيل، ليؤكد فكرة استباق الإنسان لإمكانياته الخاصة.

هكذا نجد أن كلًّا من هوسرل وهيدجر قد حصرا نفسيهما في الزمان الذاتي للفرد، ولم يختلفا كثيرًا عن برجسون. فالفلاسفة الثلاثة قصروا تحليلاتهم على ما يمكن أن نسميه زمان الذاتية الفردية. أما مشكلة الزمان التاريخي فلم تحظَ باهتمام أيٍّ من الفلاسفة السابقين الذين تناولوا مشكلة الزمان. وعلى مدى تاريخ الفكر البشري سادت دائمًا فكرة أن هناك زمانَين: زمان الطبيعة الكمي، وزمان الوجدان الكيفي. وفي عرضنا لمشكلة الزمانية وجدنا كيف فرق الفلاسفة بين الزمانَين تفرقةً حاسمة وقاطعة، وأن كل من أخذ بأحد الزمانين كان لا بد له من إنكار الزمان الآخر. ففريق يقول بالزمان الكمي، وفريقٌ آخر ينكره لحساب الزمان الكيفي. كان لا بد من الاختيار، هذا، أو ذاك! أما التداخل بين الزمان الكمي والزمان الكيفي فلم نجده إلا عند بلوخ.

لقد أدرك هيدجر — كما أشرنا من قبلُ — العلاقة بين الزمان والإمكان، ولكن من منظور الزمان الذاتي. وإذا انتقلنا الآن إلى بلوخ، فيلسوف الإمكان، فكيف ارتبط الزمان عنده بمقولة الإمكان، وهي أهم المقولات في فلسفته اليوتوبية؟ الحق أن واقعية مقولة الإمكان تتعلق بالزمان، فليس هناك معنى للحديث عن الإمكان إلا حيث يكون هناك مستقبل، كما أن كل حديث عن المستقبل هو بالضرورة حديث عن الإمكان، لأن كل ما هو ممكن ولم يتحقق بعدُ في الواقع لا بد أن يصبح في المستقبل واقعًا، وإلا لم يكن ممكنًا بل مجرد شيءٍ غير واقعي. فالمستقبل بحسب طبيعته وماهيته ليس إلا الوجه الزمني للإمكان. كما أن الإمكان ليس إلا جهة ذلك الامتداد الزمني الذي نسميه المستقبل.

(٦) الزمان التاريخي عند بلوخ

إن مشكلة الزمان التاريخي الذي تتفاوت سرعته وكثافته (من ناحية الامتلاء بالمضمون) لم يلتفت إليها أحد ممن عالجوا مشكلة الزمانية. فالزمان يتفاوت ويختلف سواء نظرنا إليه من جهة الماضي الذي تحرك في مراحل تطور مديدة وبطيئة أو في مراحلَ ثوريةٍ متوثبة وغير متجانسة، أو نظرنا إليه من زاوية المستقبل الذي تلحُّ عليه الإمكانات المتلاحقة وتتميز بعض لحظاته المنتظرة بشدة الإحساس بالتوقع — ويتغلغل الزمن في الأحوال الثلاثة ويفقد طابعه «التاريخي» أو الزمني الخالص — فقد توجد فيه «مناطق» تركيز مكثفة تتسم بالقرارات الجادة والحاسمة، بجانب مناطقَ أخرى مسطحة ورتيبة إلى حدٍّ كبير. كل هذا يؤكد أن مشكلة بناء الزمان أو بنيته يجب أن تبحث في علاقتها الوثيقة بالإمكان الجديد.

يوجد عند بلوخ هذا التداخل العميق بين الزمان الفلكي والكوني الذي لا يخلو عنده من التطور والصيرورة الكيفية المتجددة، وبين زمان التجربة الإنسانية التي تصنع التاريخ البشري المتجدد باستمرار. فهو يؤكد أن مشكلة الزمان التاريخي الذي تتفاوت كثافته وسرعته وتتخذ صورًا مختلفة لم تناقَش بعدُ مناقشةً وافية. والزمان بأكمله ليس هو فحسب الزمان المتتابع في خطٍّ واحد، وهو الزمان الذي يحسب بالساعات. صحيح أن الزمان يوجد مستقلًّا عن الإنسان، ولكنه من جهة الماضي ليس مستقلًّا عن المضمون المتحرك المتغير الذي يمثل الزمان مجاله العيني؛ ولهذا لا يخلو زمان الساعة المطرد المتتابع في صورة كمٍّ مجرد ومتكرر، لا يخلو من الزمان الواقعي على اختلاف صور هذه الواقعية.٩٥
والزمان الكوني من منظور الماضي قد مر بمراحل تطور طويلةٍ متجانسة، كما مر بفتراتٍ قصيرة تميزت بالتفجر وعدم التجانس. ومن ناحية المستقبل بما ينطوي عليه من إمكانياتٍ مختلفة تنزع إلى التحقق، فإن الزمان مختلف في الحالَين، ويفقد صورة التتابع المطرد في خطٍّ مستقيم. ويترتب على هذا أن كميات (آنات) الزمان المختلفة ليست متجانسة، وإنما هي في معظم الأحوال متفاوتة تفاوتًا كيفيًّا عن بعضها البعض. ويتجلى هذا قبل كل شيء عندما نقارن بين أشكال الماضي من ناحية تاريخ الطبيعة، وأشكاله من جهة تاريخ البشرية، فنتبين أنهما لا يسيران في خطٍّ واحد. فملايين السنوات التي استغرقتها العصور الجيولوجية لم تمر بنفس الطريقة التي مر بها زمان البشر التاريخي، ولم تتتابع على سبيل المثال تتابع الحرب البلوبونيزية والحروب الصليبية. إن الزمان الجيولوجي أو بالأحرى الزمان الكوني ليس أطول بما لا نهاية له من زمان التاريخ البشري الذي نحسبه عادة بما لا يزيد عن تسعة آلاف سنة. بل إن الماضي الكوني بكل ما تم فيه من أحداث وما احتواه من مضامين ليس مجرد ماضٍ انقضى وإنما هو باقٍ ومحيط بنا إحاطةً هائلة.٩٦
يضاف إلى هذه التفرقة بين الزمان الطبيعي والزمان التاريخي، أن التاريخ البشري نفسه توجد فيه أشكال من التاريخ الزمني الذي يشبه تتابع الزمان الفلكي أو زمان الساعة كما فيه عصورٍ تاريخيةٍ متميزة من حيث بنيتها الممتلئة بمضامين التطور ومعانيه المختلفة في الاقتصاد والفن والتقنية … إلخ، ومعنى هذا أنه لا يصح أن نساوي بين البناءات المختلفة للزمان في داخل التاريخ البشري نفسه.٩٧ فنحن نجد في داخل هذا التاريخ البشري صورًا مختلفة من التفاوت الكيفي والكثافة النوعية، نجد مجالات إمكان تتميز بقدر عالٍ من الحسم والالتزام، بجانب مجالاتٍ أخرى شديدة التسطح والاستواء. هناك أزمان تميزت بتجانسٍ شديد وأزمانٌ أخرى وقعت فيها تصادماتٌ مروعة. ولذلك يجب التفكير في البنية الزمنية المرنة في التاريخ بالمقارنة بتصور المكان في هندسة ريمان (١٨٢٦-١٨٦٦م) الذي وضع نسقًا لهندسة لا إقليدية، هندسة ربطت المكان بالمادة وجعلته متغيرًا تبعًا لتغيرها. هذا التصور المرن للمكان عند ريمان يجعلنا نتصور مفهوم الزمان التاريخي تصورًا مرنًا. فاعتماد المكان على المادة أو الموضوع المادي الذي يحل فيه ويغير مقاييسه — طبقًا لهندسة ريمان — لم يجعل من المكان شكلًا متجانسًا وساكنًا، بل أصبح متعلقًا بالحدث المادي المتغير؛ ولذلك فإن التوزيع والحركة المختلفة للمادة في الكون هي التي تحدد المقاييس المكانية المختلفة عن المقاييس الإقليدية.٩٨
هذا التصور يمكن أن يطبق بالمماثلة على مفهوم الزمان التاريخي الذي يختلف فيه توزيع المادة، بذلك يمكن أن نتصور الزمان التاريخي ذا اتجاه وقابلًا للانحناء والانكماش أو الامتداد، أي متغيرًا بحسب المضامين التي يملأ بها.٩٩ إن تقسيم الزمان الإنساني — على حسب الأحداث — إلى عصورٍ قديمةٍ ووسيطة وحديثة لا يجعل منه زمانًا تاريخيًّا، لأنه يظل زمانًا تأريخيًّا، فليس التأريخ ولا الكتابة التاريخية هي التي ميزت وحددت الأبنية الزمنية، بل أنظمة الوجود والوعي التاريخي، وذلك مثل زمان العمل الذي يقاس بحسب الإنتاج الذي يتحقق فيه، والزمان الإبداعي في الموسيقى والشعر وأشكال العبارة، كالزمان المتطاول في «الفوجة» Fuge، والمتوتر في السوناته، وزمان الدراما. وللحضارات أيضًا زمنها المختلف والخاص بها كما يتجلى في أساطيرها ودياناتها، كالزمان الإغريقي الذي هو بلا مستقبل، والزمان المسيحي المستقبلي.١٠٠ كذلك هناك زمان اللحظات الممتلئة أو «الكايروس Cairos». من هنا يختلف بناء الزمان التاريخي، زمان الأحقاب والعصور الممتلئ، عن زمان الساعة المتجانس. إن تقييم هذه الأبنية الزمنية التاريخية — التي تستمر بالتطور الاقتصادي والتقني والفني — يكون حسب الهدف الذي يغير هذه الأبنية نفسها ويفاضل بينها بما يماثل الزمان «الريماني» الذي تتعدد أبنيته بحسب تعدد وتغير مضامينه وأهدافه، كما يسمح بالتفرقة بين زمان ما قبل التاريخ — جيولوجيا وكوزمولوجيا — وبين الزمان التاريخي الإنساني الحضاري، وهو الزمان الكيفي الكثيف في بنائه.١٠١
إن الزمان كالهيكل العظمي، والبنية الزمنية لا قيمة لها في حد ذاتها. فالزمان التاريخي — كما سبق — لا يعرف بنية زمن الساعة المجردة المحايدة، لأنه يتغير حسب مضمونه التاريخي والإنساني، ولأن بنية الزمان التاريخي المتطور لا تنفصل عن بنية الحياة الاجتماعية.١٠٢ والتصور الجدلي للزمان يسمح بتصور العمليات المتطورة والمتغيرة فيه. وهذا التصور الجدلي يختلف بالضرورة عن التصور السكوني للزمان، وهو تصورٌ إقليديٌّ صوري. فالتطور لا يتم في شكل تسلسلٍ زمنيٍّ متجانس، بل يدور في مستوياتٍ زمنيةٍ متداخلة ومتقاطعة. والزمان في سياقه الواقعي يتميز دائمًا بالانفصال وعدم التجانس حتى بين لحظاته المتزامنة أو المتعاصرة، ويمكن أن نتصور أزمنةً مختلفةً متعاصرة في أماكنَ مختلفة. فاليوم الذي سقطت فيه القنبلة الذرية على هيروشيما ينتمي لنظامٍ تاريخي مختلف عن نفس اليوم الذي عاشت فيه الولايات المتحدة أو أوروبا بعيدين عن تلك الكارثة المدمرة التي حددت المستقبل في الحالين بصورةٍ مختلفة. والحياة في قريةٍ هنديةٍ بسيطة في إيقاع سرعتها مختلفة عن الحياة في مدينةٍ أوروبيةٍ كبيرة. كما أن التاريخ في عشيرةٍ أفريقية يتميز بزمانيةٍ مختلفة عن تلك التي نجدها في مجتمعٍ حديثٍ متطور، فكأن هناك مستوياتٍ وصورًا مختلفةً للتزامن من النواحي التقنية والاقتصادية والاجتماعية والروحية تنطوي في ذاتها على صورٍ أخرى من عدم التزامن.١٠٣ ونستطيع أن نقول: إن الفترات الزمانية المتعاصرة من الناحية التاريخية تنطوي في نفس الوقت على اختلافاتٍ كيفية في داخل العصر الواحد، أي أن هناك عدم تعاصر في داخل التعاصر، وكأن الحاضر التاريخي يتميز بمستويات وطبقاتٍ مختلفة.
إن بنية الزمان التاريخي المتطور تتم في إطار وحدةٍ كونية-إنسانية تظل في حالة صيرورة متنوعة الأشكال، وكأن هذه الوحدة التاريخية والكونية الفعالة والمتطورة هي الشكل الزمني للهوية، أي هي صيرورة اتحاد الذات البشرية والطبيعة الكونية في الزمان صوب الكلي والجديد النهائي. هذه الوحدة التاريخية والكونية تكون كالبذرة في حالة بدء، وتكون مستمرة لكي تتطور باستمرار نحو حالة من «عدم الاغتراب» في علاقة الإنسان بالإنسان وبالطبيعة. بذلك لا يكون الزمان محايدًا ولا خارجيًّا أبدًا بالنسبة لمضامينه المتغيرة المتنوعة. وهو باعتباره أسلوب الوجود المفتوح للمضامين وللحركات والعمليات المادية يشارك فيها مشاركةً مرنة، كما يحدد عن طريقها — على هيئة عصورٍ تاريخية ومناطقَ حضارية — تحديدًا ماديًّا.١٠٤

هكذا قدم بلوخ تصورًا لمشكلة الزمان يتفق مع رؤيته الجدلية لكل ما يدور على المستوى الإنساني والكوني. فإذا كان المكان والزمان بُعدَين هامَّين لتحديد الوجود، فلا بد من فهمهما فهمًا غير تقليدي، وإذا كان الوجود متغيرًا وغير ساكن، فلا بد أيضًا أن يكون ما يحدد هذا الوجود متغيرًا متحركًا وغير ساكن. وقد استطاع بلوخ أن يربط جدل الزمان — كأحد بُعدي الوجود — بمقولة الإمكان، فالآن الذي يوجد فيه «ما لم يوجد بعدُ» ليس هو الحاضر تمامًا، لأن الآن يتضمن الماضي والمستقبل معًا. يصدق هذا — من وجهة النظر الجدلية — على كل أشكال الوجود التي يمكن التعرف على صيرورتها وتفانيها، كما يستحيل أن ينفصل فيها الجانب المنطقي عن الجانب التاريخي. وهذا ما عبَّر عنه مفهوم بلوخ عن الزمان، وهو مفهوم تأثر إلى حدٍّ كبير بأهم أفكار النظرية الماركسية ألا وهي فكرة المقايضة، وإن كان قد تجاوز النظرية إلى آفاقٍ أرحبَ وأوسع بكثير، فتفرقته بين زمن الساعة، المتواتر أو المتجانس في مقاييسه الكمية تنبع — في رأينا — من فكرة المقايضة أو القيمة المتبادلة للسلع، وهي التي تسوي تسويةً كمية من ناحية السعر بين أشياءَ مختلفة فيما بينها اختلافًا شديدًا من الناحية الكيفية. إن الزمان لا تتتابع فيه الأحداث واحدًا بعد الآخر كما لو كان قناة أو أنبوبةً طويلة تتلاحق فيها أحداث التاريخ بالتدريج، وليس الزمان مخططًا مجردًا للتغير، وإنما هو المجال العيني المرن لهذا التغير.

ولما كان الزمان يتغير وفق نوع التغير وطريقته ومضمونه، أي أنه هو الزمان المتغير بحسب المضامين التي يملأ بها، ولما كان بلوخ يتصور زمان العمل بأنه هو الذي يقاس بحسب الإنتاج الذي يتحقق فيه، فإن هذا التصور يمثل أيضًا — في رأينا — أثر الفلسفة الماركسية عليه في فكرة من أهم أفكارها وهي «القيمة»، فالقيمة الحقيقية للسلعة تعادل كمية العمل المتحقق فيها، وتقدر هذه القيمة تبعًا للزمان المخصص لإنتاج السلعة، وربما كان هذا سببًا في أنه لم ينظر إلى المكان — وليس الزمان فقط — نظرةً تقليدية. فلم يتصور المكان — كما فعل أرسطو مثلًا — وكأنه وعاءٌ هائل أو حقيبةٌ كبيرة تحتوي الأشياء والأحداث التاريخية، بل تصور المكان الذي يتشكل فيه الوجود تصورًا غير تقليدي، أي في إطار ما يسمى بمكان «ريمان» ذي الأربعة أبعاد الذي قامت عليه نظرية النسبية العامة لأينشتين، وهو مكانٌ طيع بالنسبة للأحداث المادية التي تتفاعل فيه، ومن ثم تختلف مقاييس هذا المكان ولا تتحدد بمقياسٍ واحد، لأنه يعتمد اعتمادًا كليًّا — أو سببيًّا — على المادة ويتغير بتغيرها. كذلك فإن الزمان عند بلوخ أسلوب وجود مفتوح على المضامين المادية، فهذه المضامين هي التي يتحقق فيها اتحاد الذات والموضوع تحققًا جزئيًّا، وهي التي تمتلئ بها لحظاتٌ متميزة في التاريخ بما تحويه من تغير وجدة وإبداع. فما هي إذن هذه اللحظات، وإلى أي مدًى امتلأت بالخير الأسمى؟ وهل كانت لحظاتٍ ممتلئة بحق، أم كانت إعدادًا للحظات أو بالأحرى للحظةٍ أخرى بذاتها يقصدها بلوخ، وما هي هذه اللحظة المقصودة؟

ثالثًا: اللحظة الممتلئة

يسعى بلوخ للوصول إلى اللحظة الممتلئة؛ تلك اللحظة التي يتَّحد فيها الذات والموضوع، ويتحقق فيها الوجود الأسمى. وهو يفتش عن هذه اللحظة في معنًى أو مغزى الأعمال الأدبية في التراث الأدبي العالمي، وفي البناء السيمفوني للموسيقى التي يعدها أهم الفنون التي يتحقق فيها الوجود الأسمى، كما يتتبع الحضارات البشرية القديمة والحديثة التي وجدتها في لحظة الموت، والحضارات التي وجدتها في الدين، وأخيرًا يلتمس اللحظة الممتلئة في الخير الأسمى. لكن إلى أين انتهي بلوخ بعد رحلته الطويلة في تاريخ الفكر والحضارات البشرية المختلفة؟ أين وجد اللحظة الممتلئة؟ وكيف يتحقق فيها الوجود الأسمى؟

(١) اللحظة الممتلئة في المغزى الأدبي

يستعرض بلوخ بالدراسة والتحليل العديد من الأعمال الأدبية التي تجعل من اللحظة محورًا لها، ساعيةً بذلك إلى تحقيق الوجود الأسمى أو الاقتراب منه. أهم هذه الأعمال وأكثرها قربًا من عقل بلوخ ووجدانه ومن لحظته الممتلئة التي تنشد هذا الوجود الأسمى، قصيدة جوته الدرامية الكبرى «فاوست»، ثم يقارن البحث بين اللحظة التي جربها فاوست وبين اللحظة في عملٍ أدبي آخر وهو «دون كيشوت» لسرفانتيس، وأخيرًا يتتبع تطور الوعي اليوتوبي في فاوست بالمقارنة مع تتبع مراحل الوعي في ظاهريات الروح لهيجل.

لا شك أن جذور فلسفة بلوخ راسخة في التراث الألماني برمته. يتساوى في هذا الفلسفة بمدارسها المختلفة، والأدب بكل فروعه، والموسيقى بتنوع أشكالها، والفنون التشكيلية والمعمارية على اختلافها، والشعر في شتى صوره. وعلى الرغم من ذلك لم نجد فيلسوفًا أو أديبًا أو موسيقيًّا أو فنانًا أو شاعرًا قد ترك بصماته بوضوحٍ كامل على فلسفة بلوخ مثلما فعل جوته شاعر الألمان الأكبر. فقد تمثل بلوخ كل أعماله وتغلغلت في كيانه وسيطرت على عقله ووجدانه؛ مما دعا بعض الباحثين إلى القول بأن مفتاح بلوخ الأدبي يكمن في فاوست جوته التي كان بناؤها حاضرًا في كل أجزاء مبدأ الأمل التي امتلأت بإشاراتٍ واضحة أو مضمرة لهذا العمل الكبير.١٠٥ ولا نبالغ إذا قلنا إنه لا يخلو فصل من فصول «مبدأ الأمل» من ذكر جوته والاستشهاد بنصوص من أعماله أو أبيات من شعره.
إن جوته في رأي بلوخ مثال على حضور العقل Presence of mind في اللحظة. وهو من الشخصيات النادرة في التاريخ التي تملك قدرةً غير عادية على الاتصال الحقيقي باللحظة من خلال التجربة، أي لديهم القدرة على الفعل في اللحظة. ويتمتع جوته أيضًا برؤيةٍ عينيةٍ ثاقبة لواقع اللحظة غير الملحوظة أو غير المرئية التي ليس لها امتدادٌ تاريخي، ويشهد على ذلك عبارته الشهيرة لحظة تقهقر الجيوش البروسية أمام الجيش الفرنسي: «اليوم ومن هنا تبدأ مرحلةٌ جديدة من تاريخ العالم، ويمكنك أن تقول إنك حاضر في بدايتها.» غير أن هذه اللحظة الحاضرة أو اللحظة المعيشة التي تشير إليها عبارة جوته ليست هي الوجود الحقيقي، لأنها — في حد ذاتها — لحظةٌ مظلمة لم تسلط عليها الأضواء وليست منفتحة على المستقبل.١٠٦ والظلام الذي يحيط بها أو يغلفها يمكن أن ينقشع إن عرفنا الأمل أو الجديد الذي يكمن فيها، ولهذا يجب النظر إليها نظرة يوتوبية نتجاوز فيها اللحظة المظلمة إلى لحظاتٍ أخرى نستشرف فيها المستقبل.
يرى بلوخ في كل من حياة جوته وأعماله مثالًا على هذا التطور اليوتوبي. فهو يجد في «آلام فيرتر» من أعمال جوته المبكرة حالةً يوتوبية للمشاعر، لكنها يوتوبيا من النوع السلبي أودت بحياة صاحبها ودفعته للانتحار. ثم تطور الوعي اليوتوبي عند جوته فلم تعد شخصيات رواياته مستعدة لتقبل الأشياء كما هي، بل هجرت العواطف غير الناضجة وتفجرت بعواطف أكثر حدةً وتحديًا. تركت تلك الشخصيات المعاناة السلبية، وعبرت عن نفسها بالتمرد والمعارضة، وتخلَّت عن مواقفها السلبية من المجتمع. وجاء هذا التحول عند جوته مع حركة «العصف والدفع» فكانت مسرحيات «بروميثيوس» و«جوتس فون برليشنجن» و«أجمونت» وغيرها من قصائده وأعماله. وتحول قلق جوته من قلق الشباب المندفع إلى قلق الإبداع أو الإنتاج، كما تحول معه القصد اليوتوبي إلى قصد السمو أو الجلال Intention of Sublimity كما يتضح من هذه الأبيات:
حنين عذب يستعصي على التفسير
دفعني لعبور الغلبة والتلال،
وعندما كانت آلاف الدموع تحرقني
كنت أشعر أن عالمًا يرتفع في داخلي.١٠٧
إن خيال جوته الشعري المبدع قد خلق له عالمًا ثانيًا، ولكن هذا الخيال ليس من قبيل الخيال الذي يحلق في الأفق بعيدًا عن الواقع، وإنما هو «خيالٌ موضوعي» مغروس في ظروفٍ يوتوبية لا تبعد عن الواقع ولا تفارقه. بل إن واقعية جوته ليست واقعيةً سطحية تلمس قشور الواقع فقط، وإنما تجد في كل أشكاله التي يظهر فيها تشبيهًا أو استعاره تدل على الوجود اللامتناهي. وعلى الرغم من هذه الواقعية التي تطبع حياته وإنتاجه بطابعها، نجد في عالمه أشياء تظل دائمًا مجرد رغبة أو شوق لم يتحقق قط، وربما بدا هذا واضحًا في شخصية «مينون» الغامضة في رواية «فيلهلم ميستر». فقد ظلت هذه الشخصية رمزًا للشوق ولم تهبط عواطفها على الأرض ولم تظهر للوجود.١٠٨ وإلى جانب الشرق أو الرغبة التي تظل على مستوى الرغبة، نجد لديه رغبات تشعرنا بقدراتنا الداخلية كما يقول جوته في الكتاب التاسع من سيرة حياته «شعر وحقيقة»: «إن رغباتنا هي إحساساتٌ مسبقة بالقدرات الكامنة فينا، وهي تدل على ما سوف نتمكن من تحقيقه، وما نقدر عليه ونرغب في عمله يتمثل لخيالنا على أنه يقع خارجنا وفي المستقبل؛ ولهذا نشعر بالشوق إلى ما نتملكه بالفعل بطريقةٍ خفيه. ومن ثم يحول التوقع الحار الممكن الحقيقي إلى واقعٍ متخيَّل. وإذا كان هذا التوجه يعبر عن جزءٍ محدود من طبيعتنا، فإن كل خطوة نخطوها في مسار تطورنا ستحقق جزءًا من رغبتنا الأولى أو سيصحبها تحقيق جزء من رغبتنا الأولى. وحين تكون الظروف مناسبة يسير التحقيق في خطٍّ مستقيم، وإذا لم تكن مناسبة يتم التحقق تبعًا للاتفاق والصدفة بحيث نرجع مرة بعد المرة إلى الخط المستقيم.»١٠٩
ويظل العالم عند جوته بعيدًا عن الاكتمال ولم يأخذ شكله النهائي. وتظل عبقريته في حالة تطورٍ إبداعي، حتى إذا وصلنا إلى أهم وأكبر أعماله، وجدنا فاوست هو المثال الأسمى للرجل اليوتوبي. ذلك أن فاوست هو الرمز المجسد للقلق، وفيه يكتمل القلق اليوتوبي، إنه المغامر إلى ما وراء الحدود، والمخاطر للبحث عن الجديد. وفاوست هو كذلك رمز التعطش الدائم للمعرفة، وقد كان دائمًا يزداد غنًى بتجربته التي تقوده إلى ما وراءها. في فاوست تنطلق الإرادة الثائرة، إرادة القصد، وتتحقق بالمعنى الجدلي مرحلة التوسط بين الذات والعالم. وتتشكل هذه الإرادة في العالم ومن خلاله للوصول إلى القصد اليوتوبي — الذي تريد فلسفة بلوخ بلوغه — أي إلى اللحظة الممتلئة Fulfilling Moment، لحظة الوجود الكامل والمطلق.١١٠ هذه اللحظة الممتلئة هي موضوع فاوست بأكملها، منذ أن عقد الرهان مع الشيطان وانطلق لاهثًا — بنفس الإرادة التي عقد بها الرهان — للبحث عن تلك اللحظة التي يمكنه أن يقول لها «تريثي قليلًا، فما أجملك!» ولكنه لم يصل إليها أبدًا. إن الذات لا تنظر في هذه اللحظة إلى نفسها، وإنما تنظر إلى العالم الخارجي وتتمرس بتجربته، وتظل محاطة بالعالم. ويغامر فاوست بعباءته السحرية وينطلق في العالم، إلى ما وراء كل شيء، وتجربته مع العالم هي بمثابة رحلةٍ جدليةٍ متصلة. فكل لذة يحققها تلغيها رغبةٌ جديدة تستيقظ في داخله، غير أن اللحظة الجميلة التي يمكن أن يتوقف عندها لا تأتي أبدًا.
لم يبحث فاوست عن فكرةٍ مجردة، بل تحولت الفكرة عنده إلى تجربةٍ عينية. فمنذ «حانة أورباخ» في القسم الأول من فاوست إلى «شعب حر على أرض حرة» في نهاية القسم الثاني نجد ألوانًا من الصراع وتجاربَ عديدة للبحث عن الوجود الأسمى.١١١ لقد أعطى جوته الرهان صياغةً يوتوبيةً عميقة تتجاوز الوجود هنا لتصف الوجود هناك، أي الوجود الأسمى في العالم. وتظل لحظة السكون والاستقرار غائبة في فاوست. وحتى عندما يتكلم في النهاية عن أرضٍ فردوسية، تظل اللحظة وكأنها بلدٌ آخرُ إنساني. إن مضمونها أيضًا هو القصد البشري. وهي لا تشترك في شيء مع اللحظات العابرة التي يعيشها الإنسان من يوم لآخر، فالإمساك بالذات والسيطرة على الوجود مختلفان كل الاختلاف عما تقوله الحكمة القديمة: تمتع بيومك Carpe diem، ولو لم يكن الأمر كذلك لانتهت فاوست في «حانة أورباخ». معنى هذا أن لحظات المتعة العابرة التي مر بها فاوست لم تكن هي لحظات الوجود الحقيقي، وأن التمتع باللحظة الأسمى يأتي في النهاية. ويؤكد هذا أن الفعل الأخير الذي يقوم به فاوست ينطلق من روح التفاني التي يحملها للبشر، أي من قربه الشديد من الإنسان. هنا يتحول الكون الأكبر إلى شعبٍ حر على أرضٍ حرة. وهنا يتحقق المعنى أو المغزى من كل هذه الدراما الكونية. وكأن لحظة العمل الأخيرة تجمع العالم كله في نقطةٍ واحدة. وبهذا يثبت فاوست في النهاية أن كفاحه أو سعيه غير المشروط لم يكن سعيًا إلى اللامتناهي بالمعنى الذي قصده هيجل من اللامتناهي السيئ. ولم يكن أيضًا هو الله المتعالي.١١٢
إن الدراما الإنسانية الحقة التي يصورها فاوست في النهاية التي يجرب أو يستشعر فيها اللحظة الأسمى هي التي تلخص مغزى النهاية. فالخير الأقصى لم يتجه إلى إلهٍ متعالٍ أو إلى عالمٍ متعالٍ مطلق، وإنما اتجه إلى مملكة الإنسان، لأن اللحظة الفاوستية خالية من أي طبيعة متعالية، ومطبوعة بشكلٍ واضح بالطابع الإنساني. إن الكفاح والسعي والقصد النهائي في نهاية فاوست هو هذا المغزى الإنساني للحظةٍ إنسانية. ففعل فاوست الأخير (وهو حفر القناة واستخلاص أرضٍ جديدة من البحر لتأسيس أرضٍ حرة يعيش عليها شعبٌ حر) هو ذروة الاقتراب من البشر،١١٣ واللحظة الفاوستية التي يتم فيها هذا الفعل تتميز بطابعها اليوتوبي الإنساني إلى أقصى حد. وهذا الجانب الإنساني الذي يظهر في نهاية فاوست يصب فيه كل قلق البدايات وكل قلق فاوست. فالبداية — كما يقول جوته — متضمنة في النهاية، كما أن النهاية تتضمن البداية. وكأن الجملة التي يخاطب فيها فاوست اللحظة بقوله: «تريثي قليلًا، فما أجملك!» هي التعبير عن السعي إلى اللحظة الممتلئة، وإن كان هو نفسه سعيًا مطلقًا لا تشبعه أية لحظة، لأن العبرة في فاوست كلها — كما تتجلى في النهاية — هي أن فاوست استشعر هذه اللحظة الحقيقية ولم يصل إليها أثناء قيامه بعملٍ إنساني يهدف إلى قيام شعبٍ حر على أرضٍ حرة. لذلك لم تكن هذه اللحظة — كما سبق أن قلنا — غاية تصب في مطلقٍ إلهي ولا في عالمٍ متعالٍ على الرغم من كل الدوائر السماوية التي تحيط بالنهاية. فالسماء في خاتمة فاوست — كما يقول الباحثون المحدثون — لا علاقة لها بالسماء المسيحية، وخلاص أو نجاة فاوست ليست خلاصًا بالمعنى الديني.١١٤ واستخدام جوته للرموز الدينية في خاتمة فاوست لا يعني أنه يقصد المعنى الديني الذي يعطيه الدين لهذه الرموز.١١٥
نجد عند جوته فن التركيز على اللحظة الحاضرة والإحاطة الواعية بقيمة اللحظة.١١٦ فيقول على لسان فاوست:
عندئذٍ لا تتطلع الروح إلى الأمام وإلى الوراء؛
إذ الحاضر وحده عندنا هو السعادة والهناء.١١٧
لكن هل يتوقف الزمان عند هذه اللحظة بحيث لا ينظر إلى الأمام ولا إلى الوراء كما قد يُفهم من هذا البيت؟ إن اللحظة الحاضرة التي يعنيها جوته ترمز إلى الماضي والمستقبل، بل هي رمز الأبدية. ويدرك جوته الثراء الداخلي للحاضر والشمولية التي تنطوي عليها اللحظة الحاضرة. وبتحديد الحاضر يتسع الإحساس لإبعاد العالم، فعندما يركز المرء تفكيره على الحاضر يكتشف أن الحاضر نفسه يحتوي على الماضي والمستقبل حيث إنه المعبر الفعلي الذي يتم فيه الفعل وحركة الواقع.١١٨ ويقول جوته في حديث له مع إيكرمان: «تمسك بالحاضر جيدًا، فكل مناسبة فيه وكل لحظة، ذات قيمة لا نهاية لها، إذ إنه هو الذي يمثل الأبدية كلها.»١١٩ ومعنى هذا أن العبرة من فاوست هي أن اللحظة الحقيقية، إذا كان من الممكن أن يجربها الإنسان، لن تكون لحظة متعةٍ عابرة وإنما هي لحظة عملٍ يوتوبيٍّ إنسانيٍّ مكرس للبشر وقادر على تأسيس حريتهم وسعادتهم.

(أ) اللحظة بين فاوست ودون كيشوت

تناول بلوخ العديد من الأعمال الأدبية الشهيرة التي تسعى شخصياتها للبحث عن مغزى الوجود في اللحظة، وتملك إرادة الفعل في اللحظة، تلك اللحظة التي تتوافق فيها العوامل أو الشروط الداخلية مع العوامل أو الشروط الخارجية لتكون لحظةً ممتلئة أو لحظة يتحقق فيها الوجود الأسمى للإنسان. ودون كيشوت من أهم الشخصيات الأدبية — بعد فاوست — التي سعت لهذه اللحظة. ويعقد بلوخ مقارنة بين نوع اللحظة في كل من «فاوست» و«دون كيشوت»، فكلٌّ منهما يحلم بالوصول إلى اللحظة التي يحقق فيها وجوده الأسمى. وكلٌّ منهما يملك الإرادة لتحقيق هذا الحلم، لكن أي نوع من الإرادة تلك التي تسلح بها كلٌّ منهما؟ إن إرادة فاوست هي الإرادة الثائرة التي انطلقت ثوريتها من داخل فاوست إلى العالم الخارجي، وتوسطت هذا العالم واستوعبت ظروفه وشروطه الموضوعية، وتمرست بتجربته، وظلت في حالة انتقال من تجربة إلى أخرى ومن لحظة إلى أخرى. وهذه الإرادة الثائرة هي التي جعلت صاحبها يأتي بأفعال شجاعة ويسعى سعيًا لا هوادة فيه لتحقيق الحلم.

أما عن إرادة «دون كيشوت» فهي من نوع الإرادة الضعيفة التي لم تستطع التوسط مع العالم الخارجي، بل انحصرت ثورتها في نفسها فقط.١٢٠ لقد أخفقت إرادته في التوسط لأنها لم تعِ ظروف العالم الخارجي. وبالتالي لم تستوعب الواقع الذي تعيش فيه. ويعود السبب في هذا إلى أن دون كيشوت الذي يعيش في القرن السادس عشر، استمدَّ أحلامه وآماله مما قرأه في كتب القرن الثالث عشر، فاشتد شوقه إلى البطولة والفروسية التي سادت ذلك القرن، وانطلق في رحلاته وتجواله ومغامراته يتصرف في الحياة اليومية بعقلية القرن الثالث عشر. فبدا كشبح من لحم ودم يأتي بأفعالٍ باعثة على الضحك والسخرية، ويتصرف بمنطق عصرٍ مختلف عن عصره، ولم يفهم التغير الأيديولوجي الذي طرأ على عصره.١٢١ انفصل دون كيشوت عن الواقع العيني الذي كان يعيش فيه، فكانت مغامرته إلى الماوراء مفارقةً تاريخيةً اجتماعية. ولهذا السبب عينه لم تؤتِ تجربته في العالم ثمرةً إيجابية، ولم يصل للحظته المنشودة أبدًا.
بنى دون كيشوت لنفسه جسرًا بين الواقع الموجود والوجود الأسمى الذي يسعى للوصول إليه، ولكن إرادته لم تتوسط مع العالم الخارجي أو التاريخي، ولم يدرك الممكن الموضوعي فيه.١٢٢ ولذلك افتقد المعرفة بعصره الذي يعيش فيه، أي افتقد المعرفة بالواقع الحاضر. واتجه حلم اليقظة لديه إلى العصر الذهبي القديم، وبمعنًى آخر لم يتجه التوقع — الذي يميز حلم اليقظة — إلى الأمام ولا إلى المستقبل، بل تقهقر إلى الوراء إلى الماضي، وراح يتبع صورةً مضت ولن تعود أبدًا، ولم تكن هذه صورة الحلم بحياةٍ أفضل في المستقبل، بل الحلم بفروسية وبطولة العصور الوسطى التي انقضت، دون أن يدرك دون كيشوت التغيرات والتقلبات التي حدثت في عصره. ويعزو بلوخ إخفاقه هذا إلى نزعته المثالية المجردة التي فصلته عن عصره فأتى بأفعال تبدو جنونية لمعاصريه.١٢٣ ولم يصل دون كيشوت إلى لحظته الممتلئة والمنشودة إلا على فراش الموت، عندما عرف حقيقة نفسه لأول مرة في اللحظة الأخيرة من حياته، وهي لحظة اليقظة الحقيقية في حياته، ولحظة المعرفة التي حلقت فوق رأسه على فراش الموت وأفاقته من الوهم الذي سيطر عليه طوال عمره. كانت تلك اللحظة الكبرى ذات مغزًى وفيها تحولت يوتوبيا دون كيشوت إلى يوتوبيا عينية، على النقيض من اليوتوبيا المجردة التي صاحبت خياله طوال رحلاته، وجعلت منه مثالًا للرجل الذي لم يتعلم شيئًا من العالم ولا من التجربة،١٢٤ وذلك على خلاف فاوست الذي ظل يتعلم من تجاربه في العالم منذ أن عقد الرهان مع الشيطان.

(ب) الجدل بين فاوست و«ظاهريات الروح»

يعقد بلوخ موازنة بين ما نلمسه من جدلية في رحلة «فاوست» وبين الرحلة الجدلية للروح المطلق عند هيجل في «ظاهريات الروح».١٢٥ وإذا كانت فاوست تُلخِّص في حياة فردٍ واحد وتجاربه ومصيره تطور البشرية كلها، فإن ظاهريات الروح تلخص المراحل التي قطعها الوعي البشري في مجرى التاريخ. إنها رحلةٌ تصاعدية لكلٍّ منهما، تبدأ من الذات إلى العالم الخارجي الواسع، ويتغير فاوست مع العالم، كما يتغير العالم مع فاوست. هذا التبادل بين الذات والموضوع هو رحلة الخروج من الذات والابتعاد عنها من خلال التجربة في العالم، لترتد مرةً أخرى إلى ذاتها في لحظة الوجود الأسمى.
يبدأ البناء الجدلي لكل من فاوست والظاهريات من الحس المباشر، أي من المرحلة الحسية، فهناك تناظر بين مراحل المعرفة في كلٍّ من فاوست والظاهريات، فمروج الأزهار بعد جريتشن في القسم الأول من فاوست — حيث انغمس في كل ألوان المتع واللذات الحسية — تمثل المرحلة الحسية للمعرفة في فاوست، ثم الانتقال إلى مرحلةٍ عقلية وفكريةٍ أعلى في تأمل الجمال الخالص واستحضار التراث كما في سلسلة الجبال العالية في الفصل الرابع من القسم الثاني، فبعد أن عادت هيلين إلى عالمها السفلي، طار فاوست بردائه السحري وحط على جبالٍ عالية، وهناك يصعد فاوست من المجال الحسي الجمالي إلى المجال الأخلاقي.١٢٦ ويصرح جوته نفسه بهذا التدرج المعرفي في حديثه مع إيكرمان في ١٧ / ٢ / ١٨٣١م حين يقول: «إن القسم الأول ذاتي تمامًا، فكل شيء انبثق عن شخصٍ أناني شهواني، أما في القسم الثاني فلا يكاد يوجد فيه أي عنصرٍ ذاتي، بل يتجلى ها هنا عالمٌ أعلى وأوسع وأنصع لا مجال فيه للشهوات.»١٢٧ ومن أقوالٍ أخرى لجوته يؤكد أن القسم الأول ذاتيٌّ وجداني، والثاني عقليٌّ موضوعي.١٢٨ وهذا أيضًا ما عبَّر عنه جوته على لسان مفستوفيلس في حديثه مع فاوست:
ستشاهد العالم الصغير، وبعد ذلك العالم الكبير.١٢٩
وتلك هي المستويات أو الخطوات المعرفية للفكرة التي تجعل كلًّا من الظاهريات وفاوست متشابهَين من الناحية المنهجية١٣٠ حيث تتطور المعرفة بالذات إلى المعرفة بالكون، كما تتجلى الرغبة في كلٍّ منهما في أن يدرك الإنسان ذاته باعتباره سؤالًا ويدرك العالم باعتباره جوابًا. ومن ناحيةٍ أخرى يمكن القول بأن العالم في العملَين هو السؤال وأن الذات هي الجواب. فالذات تعاود رحلتها داخل الموضوع (أي العالم) لتلتمس فيه الإجابة من خلال الموضوع نفسه، كما أنها بتجربتها لهذا الموضوع تصل إلى مستوًى جديد من الذاتية.١٣١ فليس فاوست الذي ينطلق على سجيته في «حانة أورباخ» هو نفسه فاوست الذي يتمتع بالسلطة في قصر الإمبراطور. يختتم هيجل ظاهرياته بقوله: «وعندما يبدو في النهاية أن العقل يبدأ عملية خلقه من جديد من البداية، فالواقع أنه يبدأ في هذه الحالة من مستوى أعلى (…) إن هدفه هو الكشف، هو إلغاء لعمقه أو امتداده وهو سلبية هذه الأنا التي كانت وجودًا في ذاته.»١٣٢
والواقع أن مسار فاوست مرتبط بهذا المسار؛ إذ أن ذات فاوست تمتد لتصبح هي ذات الجنس البشري كله. لقد سعت هذه الذات إلى أن تتصل بكل شيء حتى بروح الأرض، وكأن فاوست هو الذات الفاعلة داخل العالم بأسره، وكأنه يتطور في كل أشكال هذه الفاعلية داخل العالم. فالنهاية في كلٍّ من فاوست والظاهريات كانت متضمنة في البداية بحيث إن الرحلة بكل مراحلها كانت نوعًا من الفض المتدرج لتلك البداية. ولكن الذات التي يعود إليها فاوست والبداية التي ترجع إليها الظاهريات في نهايتها هي في الحالين على مستوًى أعلى.١٣٣ إذ إن الرحلة في كلٍّ من فاوست والظاهريات تنتهي بالعودة إلى البداية. بيد أنها ليست هي البداية الأولى، بل تتم على مستوًى أعلى بعد انتهاء التخارج والاغتراب، والذات عند هيجل تعود إلى عمقها الذي انطلقت منه وهو المطلق، لكنها تعود إليه أكثر وعيًا بهذا المطلق وبذاتها. وكذلك يعود فاوست إلى ذاته، ولكن بعد أن التحمت بالذات البشرية من خلال الفعل الذي يحقق «الشعب الحر على أرضٍ حرة» أي على مستوًى أعلى. والفعل الذي انتهى إليه فاوست هو رمز للحظة الممتلئة وليس هو اللحظة الممتلئة نفسها.١٣٤ وهذا يتسق مع إيمان جوته بالفعل الذي عبر عنه في كل أعماله وقال عنه عبارته المشهورة: «في البدء كان الفعل.»
إن العبارة التي يخاطب بها فاوست اللحظة قائلًا: «تريثي قليلًا.» تصبح رمزًا على الوصول، ولكنها تظل رمزًا فحسب، لأن فاوست وفلسفة هيجل أيضًا ينجحان في تشكيل القصد أو السعي اليوتوبي. وإذا كانت فاوست تنتهي بهذا البيت «ابتهجوا فقد تم كل شيء.» كما تنتهي الظاهريات بهذه العبارة: «إن العلم يظهر نفسه على شكل دائرةٍ كامنة في ذاتها.» فإن هذا لا يمثل الذروة النهائية في الحالَين. فلم تكن المشكلة في فاوست هي أن يخطو خطوات في العالم الخارجي، وإنما ظلت المشكلة هي الصراع في اللحظة، أي الصراع من أجل لحظةٍ كاملة؛ لحظةٍ مفعمة بالقوة وخالية من الاغتراب، وكأنها تقول علينا أن نتمتع بلحظاتنا في عالمنا هذا، وكأن مغامرة فاوست — كما سبق أن ذكرنا — لم تكن مغامرة إلى الماوراء وهذا هو الذي يضفي عليها طابع العظمة.١٣٥ إنها لم تستلقِ في النهاية على فراشٍ مريح لأن السموات التي تصورها فاوست في النهاية لا تخلو من الحركة ولا تمثل راحة أو نهاية لهذا السعي، بل إن الملائكة التي تصاحب نهاية فاوست تروي كيف أن أنتيليخياه تمضي من تحول إلى تحولٍ أصفى منه.١٣٦
كل فانٍ هو رمز فحسب،
وكل ما لا يمكن الوصول إليه سيصير هنا حادثًا،
وما لا يمكن وصفه قد جرى ها هنا فعله،
إن الأنوثة الأبدية تجذبنا إلى أعلى.١٣٧

إن المقارنة التي عقدها بلوخ بين فاوست وظاهريات الروح، على الرغم من أنها تبدو موفقة إلى حدٍّ كبير، وخاصة في عرضها للتدرج المعرفي الذي يبدأ من المعرفة الحسية لينتقل إلى المعرفة العقلية أو إلى التأمل الخالص، إلا أنها — أي هذه المقارنة — تكشف عن تناقضٍ يكمن في فلسفة بلوخ فيما يتصل بآرائه عن الفلسفة الهيجلية. فقد سبق له — كما رأينا — أن اتهم هذه الأخيرة بالابتعاد عن البعد اليوتوبي الأصيل، بسبب اعتمادها على الفكرة الأفلاطونية التي تقول: إن العلم تذكُّر، كما اتهم الجدل الهيجلي — على الرغم من اعترافه بأن بعض النصوص توحي بانفتاحه على المستقبل — في مواضعَ عديدة بأنه جدلٌ مكتمل اكتمال الدائرة ولا يسمح بالجديد الآتي. ولكنه يعود ليوازن ظاهريات الروح بفاوست لينتهي من هذه الموازنة إلى توحيد النهاية في كلٍّ منهما، على الرغم من الاختلاف الهائل الذي ينتهي به كلا العملين. فإذا كان كلاهما رمزًا للوصول، فإن الهدف الأخير الذي وصل إليه فاوست — كما يقول بلوخ نفسه — يظل رمزًا مفتوحًا، والفعل في نهايتها هو رمز للحظة الممتلئة فحسب، وليس اللحظة الممتلئة ذاتها.

وهذه النهاية تتفق تمامًا مع هدف وغاية النسق الفلسفي لبلوخ نفسه، ولكنها لا تتشابه ولا تتفق مع هدف الفلسفة الهيجلية بصفةٍ عامة أو نهاية الظاهريات بصفةٍ خاصة، ولا مع تلك العبارة السالفة الذكر التي أوردها بلوخ من نهاية ظاهريات الروح، فهذه العبارة لا تتفق بأي حال من الأحوال مع نهاية فاوست، ولا تتشابه معها في مضمون الهدف، لأن الفعل في هذه الأخيرة — أي فاوست — ليس هو الفعل الأخير، أما العلم في عبارة هيجل فهو ذلك النسق الذي اكتمل في شكل دائرة. والدائرة المكتملة — كما هو معروف — هي أكمل الأشكال، وهي التي لا تسمح بدخول شيءٍ آخر يكملها أو يستكملها. إذن فالهدف في نهاية فاوست مفتوح على المستقبل، أما ظاهريات الروح فقد بلغت الهدف والغاية، وهو وصول الروح المطلق أو الفكرة العينية الشاملة إلى ذاتها. وعلى الرغم من تشابه التدرج المعرفي، وتشابه الرحلة الجدلية في كلٍّ منهما إلا أنه لا يمكن الاتفاق مع بلوخ على تشابه النهاية التي وصل إليها كلا العملين.

(٢) اللحظة والخير الأسمى

إذا كان مضمون اللحظة الممتلئة هو الوصول إلى الوجود الأسمى أو تحقيق الخير الأسمى، فلا بد أن ينتهي الحديث عن القيم بكل أنواعها من أخلاقية ودينية وجمالية؛ لا بد أن ينتهي إلى الخير الأسمى Summum Bonum باعتباره نهاية السلم في هذه القيم. وقد سبق الحديث في الفصل الثاني عن علاقة المثل بالوظيفة اليوتوبية وكيف يطمح المثل الأعلى إلى تحقيق الكمال. لذلك تجنبًا لتكرار ما سبق قوله في هذا الشأن يمكن الاكتفاء بالحديث — في هذا الموضع — عن علاقة الخير الأسمى باللحظة.
ليست الصور المتخيَّلة للمُثل العليا مجرد موضوع للتأمل وإنما هي صور تناضل من أجل أن تتسم بالكمال وتصل إليه. والقيم الأخلاقية هي مُثلٌ عليا لم تتجسد أو لم تتحقق بعدُ. وتتمثل القيم الدينية في المسيحية في محاكاة المسيح أو أن تكون مثل الله، أي تتمثل في قابلية توحد الذات بالمثل العليا، فكلٌّ من المثل الدينية والأخلاقية قيمٌ معيارية يصعد الإنسان إليها شيئًا فشيئًا، وترتفع الإرادة البشرية تدريجيًّا للمثل العليا، لأنها هي إرادة الأمل التي لا حدَّ لصيرورتها.١٣٨ ولمشكلة الخير الأسمى جذور في العصور القديمة والوسيطة، فنحن نجدها في العصور القديمة عند الحكماء السبعة والرواقية الرومانية، كما أنها تبلورت بشكلٍ خاص عند أفلاطون في مثال الخير، حيث تكون كل الأفعال خيرةً وكل المفاهيم حقيقيةً بقدر ما تشارك في مثال الخير. وفي العصر الوسيط ارتبطت المثل العليا بالاتجاهات الفكرية في ذلك العصر، فارتبط المَثل الأعلى بالسماء عندما تحول مثال الخير عند أفلاطون إلى الرب في المسيحية باعتباره الخير الأسمى.
أما في العصر الحديث فإن الخير الأسمى عند كانط — على سبيل المثال — هو هدفٌ نهائي للعقل الخالص، «لا يمكن أن يعرف الخير الأسمى عن طريق العقل إذا جعلنا الطبيعة وحدها هي الأساس، وإنما يمكن الأمل فيه إذا أصبح العقل الأسمى الذي يصدر أوامره وفقًا لقوانين في نفس الوقت هو أساس الطبيعة وعلتها.»١٣٩ وينبع الخير الأسمى عند كانط من افتراض وجود إلهٍ يأمر وفقًا لقوانينَ أخلاقية، فالأخلاق والدين مصدرهما العقل، ولهذا فإن العقل هو الذي يبرر الحياة الدينية والأخلاقية. وقد أعاد فشته صياغة الرؤية الكانطية عن الخير الأسمى وحوَّل مذهب كانط من مذهبٍ عقلي إلى مذهبٍ إرادي وأعطاه صبغةً عمليةً إراديةً فعالة. وتجلى الخير الأسمى بوضوح في العصر البرجوازي، وكانت الثورة الفرنسية هي المثل الأعلى في كتابات فلاسفة العقل والتنوير في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مع ظهور الصراع من أجل المُثل، وتنافس الكتاب في رسم نماذجَ مثالية وتقديم أنماط من المقاومة والنضال ضد أنظمة الحكم المستبد الفاسد. وكان الشاعر شيللر خير من رسم هذا الصراع وأظهر تعارض المَثل الأعلى وصراعه مع الواقع وصراع الروح مع المادة، فاستطاع في أشعاره ومسرحياته أن يبدع الصور الخيالية المتناقضة للبشر.
ويظل الخير الأسمى، على رأس كل المثل، هو الموضوع اليوتوبي الذي لم تظهر ماهيته بعدُ إلى النور. والواقع أن الخير الأسمى يدخل التاريخ بشكلٍ جدلي بحيث يبقى الوجود الأكمل تجربةً وإحساسًا مسبقًا ينتظر التحقق وليس واقعًا محققًا، ويظل مرتبطًا بصيرورة العالم والتاريخ لا بمجمع للآلهة متعالٍ على البشر.١٤٠
ويظل الخير الأسمى كذلك — بوصفه غاية المثل الأعلى للتاريخ البشري وصورةً موجهة للإنسانية كلها — يظل مشكلةً قائمة لا العقل الإنساني فقط بل للواقع الفعلي-الموضوعي باعتبار أن الخير الأسمى كامن في صيرورة العالم والممكن الموضوعي. وتتبلور المشكلة في هذه الصيغة: هل ترتبط أحكام القيمة بالرغبة؟ وبمعنًى آخر هل هي ذاتية فقط وتعتمد على إرادة الذات وعقلها، أم أنها موضوعية أيضًا وتتفاعل مع الجانب الموضوعي؟ لقد بقيت أحكام القيمة لفترةٍ طويلة ذاتية بمعنى أنها نابعة من عقل الإنسان ووعيه، فلم يكد السوفسطائيون يجعلون الإنسان مقياس كل شيء حتى برزت المشكلة السقراطية عن التقييم والقيم العامة، وبدأ التساؤل حول الحق في ذاته والخير في ذاته، لكن معيار القيمة ظل عند سقراط وعند كانط في الإنسان نفسه، أي في الوعي أو العقل العام لا في الموضوعات نفسها ذات القيمة الموضوعية، هذا هو الجانب الذاتي للمشكلة. ولكن الجانب الموضوعي المتفاعل معه لا يمكن فصله عنه مهما أعطيت الأولوية للوعي أو للإرادة، لأنه حتى إذا وُصف شيء بأنه خير لمجرد أنه مرغوب فيه فإن هذه الرغبة تقوم على أساسٍ موضوعي في الشيء نفسه يجعله مرغوبًا فيه.١٤١
إن أحكام القيمة الأخلاقية لم تكن واحدة خلال العصور والمجتمعات المختلفة، ولكنها توقفت دائمًا على الأساس الاجتماعي المتغير، ولهذا لم يقم المعيار الذي تستند إليه على الوعي ولا على العقل في ذاته فقط، لكن قام كذلك على المحتوى المادي للشيء الذي يوصف في مختلف الأحوال أنه خير. أي أن عملية التقييم لا تعتمد على الوعي المعياري نفسه بل تعتمد كذلك على الموضوعات التي تزود هذا التقييم بالمحتوى المادي وتدخل في تحديد ما يوصف بالخير وفي تمييز القيم والخيرات وترتيبها. ولو لم توجد الموضوعات المادية المختلفة التي تشارك مشاركةً فعالة في إشباع الحاجات وتكوين القيم، لولا هذا لما وجدت إلا قيمةٌ واحدةٌ متفردة ولبقيت هذه القيمة في الذات المنعزلة أو الشكلية المجردة من أي محتوًى. هذه الذاتية هي التي يسميها سقراط ببساطة بالفضيلة وهي التي يدعوها كانط بالإرادة الطيبة. ولو صح موقف سقراط وكانط لما كانت هناك أي قيمٍ نوعية لا أخلاقية ولا جمالية ولا دينية ولا اقتصادية ولا حتى الخير الأسمى النهائي. إن العمل وحده مضافًا إليه المحتوى المادي هو الذي ينتج جميع القيم، ويستحيل إنتاج القيمة خصوصًا في مستوياتها العليا عن طريق الذات المنعزلة وحدها بغير تدخل تأثير القيم المادية. فليس العالم المادي متحفًا ولا كاتدرائية، ولكنه صيرورةٌ متصلة ذات قيمٍ موضوعية، لكن الجانب الموضوعي للقيم لا يعني أن القيمة توجد في ذاتها ومن أجل ذاتها.١٤٢ فهذه القيم بقدر ما هي نابعة من الإنسان فهي أيضًا ماثلة أمامه في العالم المادي وتنتظر الأداة التي تنقلها من الماهية إلى الوجود، وليست هذه الأداة سوى الإرادة البشرية المتمثلة في الفعل. هنا يتفاعل الجانب الذاتي والجانب الموضوعي للقيم بشكلٍ جدلي، فالقيم ليست ثابتة ولا مطلقة بل لها أساسٌ اجتماعيٌّ متغير.
إن القيم التي تنبع من الذات تشير إلى الغاية منها والتي يجب أن تكون عينيةً موضوعية، والغاية هي أن يتلقى الشخص ما يرغبه أو ما فيه خيره وسعادته. ولكن يجب أن يتحول المتلقي إلى منتج لهذا الخير لسد الحاجة البشرية عن طريق العمل. هذا المبدأ جعل فكرة الخير ذاتية، ولكن مع بداية العصر البرجوازي تغيرت عملية التقييم، فلم تعد تقييمًا ذاتيًّا فقط بل بدأت تعمل الذاتية بفعاليةٍ كبيرة فتحولت القيمة من معناها الأصلي الذاتي الأخلاقي إلى معنًى عمليٍّ موضوعي يُدعى الخير الاقتصادي (وليس الخير الأسمى) القادر على تلبية الحاجات البشرية، ولم تعد القيمة تقييمًا بل عملًا.١٤٣ إن القيمة الاقتصادية لها أصلٌ ذاتي لكن تحول إلى عمل يعبر عن التحدي للعالم الإقطاعي. وهذا التعريف يتوافق مع نظرية فائض القيمة «لماركس»، فالقيمة عنده عمل أو جهدٌ مكثف. وأصبح الجهد البشري واعيًا منتجًا للقيمة تمامًا كما أصبح موضوعيًّا، وتم إنكار القيم بالمعنى التوماوي وتحررت من اللاهوت الوسيط وتحولت إلى قيمٍ يوتوبية مرتبطة بالعمل والإنتاج الذي يحرر الإنسان ككائنٍ حرٍّ منتج.
لم يعد العالم المادي مجرد قيمٍ استاتيكية ذات طابعٍ ديني كما عبر عنها المجتمع الوسيط، وإنما اتجهت قيمة العالم المادي إلى الجهد البشري ليستخرج منها مضمونها. ولم يعد الفكر يتوجه نحو الواقع — كما يقول ماركس — وإنما أصبح الواقع هو الذي يتجه للفكر. وأصبح تشكيل القيم أمرًا يعتمد على الاتجاه الكامن في المادة على أساس أن الممكن الإيجابي في العالم المادي هو الخير الأسمى؛ إذ ليس من الممكن أن يوجد خير أسمى في الداخل، أي في الذات، بدون أن يتحقق في الخارج بشكلٍ موضوعي. إن مادة العالم الأفضل — وهي تمثل السمة الحقيقية لنظرية القيمة الموضوعية — هي مادة القيم اليوتوبية الكامنة فيه. وبهذا يكون الخير الأسمى هو الممكن الواقعي الذي تتجه إليه الصيرورة التاريخية والكونية. وموقع الخير الأسمى ليس على قمة قيمٍ تراتبية ولكن موقعه في اللحظة باعتبارها المركز أو القلب الذي توحد فيه الذاتية والموضوعية.١٤٤ إن القيم لا توجد إلا في اللحظة التي يقوم فيها الإنسان بجذب الماهية إلى عالم الوجود،١٤٥ اللحظة التي تختفي فيها المسافة بين الذات والموضوع، والإنسان والعالم في لحظة إبراز القيمة النهائية التي أطلقنا عليها الخير الأسمى. هكذا انبثق الأمل في تحقيق الخير الأسمى من تفاعل الذات والعالم أو حوارهما المستمر الذي يوضح الطريق اليوتوبي لتحقيق سائر الخيرات في لحظة الحاضر التي ينبثق منها هذا الأمل، ويتم التفاعل والحوار بين الإنسان كسؤال والعالم كجواب والعكس صحيح. فلم يعد الخير الأسمى ذاتيًّا ولا عقليًّا خالصًا كما عند سقراط وكانط ولا لاهوتيًّا كما عند توما الأكويني، بل أصبح هو الممكن الواقعي الذي يتحقق من خلال العملية الجدلية التي يتفاعل فيها الذات والموضوع والإنسان والعالم في سؤال وجواب دائمَين.

ظل بلوخ — كما تقدم — تحت تأثير الفلسفة الماركسية في تفسيره للقيمة تفسيرًا اقتصاديًّا، إذ تحولت القيمة من مجرد تقييم لأفعال الإنسان وسلوكه إلى نشاط وفاعليةٍ اقتصادية، أصبح العمل هو منتج القيم، كما لا تعدو هذه الأخيرة أن تكون تلبية للحاجات البشرية. وعلى الرغم من ذلك فقد تجاوز بلوخ هذا المفهوم الماركسي، ووضع فكرة القيمة في إطارٍ أوسع لقد رفض أن يكون للقيم عالمٌ موضوعيٌّ مستقل عن عقل الإنسان وإرادته وكأنها مجموعة من المعطيات السابقة والجاهزة التي تُفرَض على الذات البشرية من الخارج، بحيث تلغي جهد البشر وإرادتهم وحريتهم في الثورة على القيم السائدة حينًا، أو إيجاد واكتشاف قيمٍ أخرى جديدة حينًا آخر، ووضعها (أي فكرة القيمة) في إطار من الفاعلية بين الذات البشرية وإرادتها من ناحية، والعالم الموضوعي من ناحيةٍ أخرى، بل إنه استطاع أن يوظف هذه الفكرة في إطار فلسفته الخاصة بأن جعل القيمة في أعلى طبقات مقولة الإمكان وهي طبقة الممكن الواقعي الذي يتفاعل فيه الذات والموضوع من خلال عمليةٍ جدليةٍ تبادلية، بحيث تصبح مشكلة الخير الأسمى هي لحظة توحيد الذاتية والموضوعية.

(٣) اللحظة الممتلئة في الديانات

«الكمال» هو ما تنشده جميع الديانات على اختلاف أشكالها وتنوعها، وقد اختلفت المحاولات التي انتهجتها هذه الديانات ظنًّا منها أنها السبيل لتحقيق الوجود الأسمى للإنسان، كمحاولة للاقتراب من الموجود الكامل أو الله. وقد نظر بلوخ في كل هذه المحاولات بحثًا عن اللحظة الممتلئة في كل ديانات العالم، ويتعذر بطبيعة الحال العرض التفصيلي في صفحاتٍ قليلة للديانات السماوية وغير السماوية في تاريخ الحضارة البشرية، لذلك سيكون العرض لهذه الديانات من الجانب الذي يخدم موضوع البحث فقط، بحيث يكون التركيز على اللحظة الخالدة أو اللحظة الأسمى في هذه الديانات. ولتكن البداية ببعض الديانات الوثنية سواء في الشرق أو الغرب وهي التي تركت بصمات وعلاماتٍ هامة على الطريق.

(أ) ديانات الحضارات القديمة

إن هزيود وهوميروس هما اللذان وضعا الثيوجونيا (أو أنساب الآلهة) وخلعا على الآلهة أسماءهم في الديانة الإغريقية. ومن خلال الشعراء أصبح البارثينون الأوليمبي مقرًّا للآلهة. لكن الديانة الإغريقية لم تتوسط مع المويرا (ربات القدر) التي تسري أحكامها على البشر والآلهة على السواء. إن هوميروس على وجه التحديد يعد مؤسس الديانة الإغريقية في شعره الملحمي؛ لذلك أطلق بعض الباحثين على أشعاره اسم «إنجيل الإغريق» وهي إن لم تكن كذلك فقد كانت مسئولةً أكثر من أي عاملٍ فرديٍّ آخر عن تثبيت وتدعيم صورة الآلهة الشبيهة بالبشر في أذهان الناس.١٤٦ وهوميروس مؤسس دين بقي خارج أشعاره ولم يصبح كبقية مؤسسي الأديان الذين التصقت الديانة بأسمائهم وأصبحوا أنبياءها ولهم نفس قداستها. فقد أسس ما يمكن تسميته بالديانة الفنية أو ديانة الفن art-religion وأشرقت الإنسانية في هذه الديانة التي أضفت على الآلهة ملامحَ بشرية.١٤٧ أما عن بروميثيوس فهو كما تروي الأساطير نصفٌ إله ونصفٌ بشر، وقد تمرد الجزء الإنساني فيه على الآلهة. وإذا لم يكن بروميثيوس مؤسس دين بالمعنى المعروف، إلا أنه يمكن اعتباره مؤسس دين التراجيديا الإغريقية. وقد ظلت ديانة بروميثيوس — إذا صح هذا التعبير — غير مزدهرة وغير متفتحة لافتقارها للظروف الاجتماعية التي توافرت لموسى وتمرده ضد فرعون، وللمسيح وتمرده على قيصر. وهكذا تحولت ديانته إلى دراما تأملية لأسطورة التمرد، وظلت التراجيديا هي معبد دين بروميثيوس وطقسها الديني.١٤٨ كما ظل بروميثيوس المتمرد على رب العالم زيوس، وراء كل صور الخلاص البشري فيما بعدُ.
أما الديانات الشرقية القديمة مثل الديانة المصرية القديمة أو الديانة البابلية فقد فقدت — على حد زعم بلوخ — الملامح الإنسانية وتعالت على الإنسان بقسوتها وجبروتها وأصبحت فوق الإنسان Super-human بل وغير إنسانية، ففي مصر القديمة اتخذت الآلهة شكل رءوس الحيوانات، وفي الحضارة البابلية اتخذت أشكال النجوم والكواكب، كما كانت أشكال الآلهة مستمدة من الطبيعة الخارجية وتجاهلت بالكامل لحم الإنسان ودمه.١٤٩ فكذلك جاء مضمون هذه الديانات من أعلى؛ مما جعلها تمثل أقصى حالات الاغتراب.
تتكرر صورة الموت في الديانة المصرية القديمة، كما تولد الشمس يوميًّا من جديد. وبالتالي يمد أوزوريس في الحياة البشرية القصيرة ليمنحها الخلود. فالموت الذي قدرته السماء يتحكم في كل تغيرٍ حي، كما تتحكم الهندسة المفعمة بالأمل — والتي تتسم بالصلابة والثبات — في المستقبل الذي يحمل سكون الماضي ويتجاوز عالم الإنسان. إن المضمون الأساسي لهذه الديانة يأخذ شكل الجوهر «البلوري» للعمارة المصرية القديمة في شكلها الثابت والمحدد. إنه نظامٌ يجسده أو يبلوره إله الموت أوزوريس، الذي كان في الخيال الشعبي القديم إله النماء الذي يسكن في الأرض، ومن قبره يمنح الخصوبة لكل الأشياء، ويتحرك هذا الإله بشكلٍ دائري بين الحياة والموت لكن سمته الأساسية هي الحياة في الموت.١٥٠ ولحظة الوجود الأسمى في الديانة المصرية القديمة هي لحظة الصمت والسكون والثبات، هي الأمل في الخلود، في التوحد مع أوزوريس.
وإذا كان الهرم هو رمز الديانة المصرية القديمة على ضفاف النيل، فإن البرج ذو الطبقات المتصاعدة إلى أعلى أو الزقورة هي رمز الديانة البابلية على ضفاف الفرات التي أهدته للشمس والكواكب السبعة. بدت الآلهة — التي تمثل هذه الدورات الفلكية — في أشكالٍ غليظة وأجسادٍ خشنة، محاطين بكل ما هو وحشي وغير إنساني من طيور وحيوانات وحشرات، وعندما توحدت الآلهة البابلية الفلكية في إلهٍ واحد هو «مردوخ» لم نجد سوى البطل البابلي جلجامش الذي اكتسب ملامحَ إنسانية. وعلى الرغم من تأليهه في حياته وبعد موته إلا أنه عانى آلام الموت، ولم تشفع له أعماله وأمجاده، وذهب إلى «أرض اللاعودة» بلا أمل في بعثٍ سماوي، ولا أمل في الخلود الذي أضاع نبتته.١٥١ إن أعمال جلجامش وحدها هي التي تنطوي على «أمل» في المستقبل — لعله أن يكون هو خلود الذكر النافع — وهو أملٌ بديل عن الخلود الإلهي الذي ضاع. وقد ربطت الديانة البابلية «الأمل» أو «الخلاص» بالإله المسيطر على الدورة الفلكية المتكررة فيكرر مردوخ هذه الدورة في كل سنةٍ جديدة، ومن ثم ارتبط الأمل بالساعة الفلكية الثابتة. وأصبحت الذات البشرية تدور مع هذه الدورة الفلكية، واقتصر دورها على اتقاء غضب الآلهة والخوف من انتقامها، والتضرع لها أملًا في رضاها وعفوها. وكأن الطريق في هذه الديانات الشرقية يسير من داخل الذات إلى خارجها حيث يستقر في الحجر — كما في الديانة المصرية القديمة — أو في الطبيعة — كما في الديانة البابلية — دون أن تعود الذات البشرية إلى ذاتها مرةً أخرى. ولذلك ظلت في حالة اغتراب يحددها الدين من فوق ومن الخارج.١٥٢
وفي حضارةٍ شرقيةٍ أخرى هي الصين، يوجد فكرٌ دينيٌّ مختلف كل الاختلاف. فكونفوشيوس (٥٥١–٤٧٩ق.م.) — وهو مؤسس الديانة الكونفوشيوسية — دعا إلى السير على طريق الملوك القدامى الذين وجد فيهم القدوة في الحكمة والصلاح، وأعاد بحث الموروث الديني الصيني وتنظيمه. كانت للديانة الصينية القديمة طبيعةٌ أسطورية وطقوسٌ وشعائر تتسم بالوحشية والدموية، فاختفت مع حركة الإصلاح التي انتهجها كونفوشيوس وأعاد تفسير الطبيعة الأسطورية للدين بما يخدم حياة الإنسان ويعمل على تهذيبه وإصلاحه حتى يصلح نظام الحكم والسياسة. واتجه الفكر الصيني إلى الاعتدال والتوازن واتباع النهج المستقيم في كل شيء، ويتناول كتاب «التحولات» القديم جدل الصراع بين اليانج Yang والين Yin، أي بين السالب والموجب، والليل والنهار، والأرض والسماء، وفي وحدة هذين الضدَّين نوع من الاشتياق للانسجام الكوني. فعندما يتحقق التوازن البشري-الكوني، ويعيش البشر بشكلٍ منظم وفي انسجام مع الطبيعة يسير العالم بسرور.١٥٣ إن عقيدة كونفوشيوس التي تنشد الاعتدال عبرت عن حكمة الحكماء السبعة «الزم الحد.» كما عبرت عن فضيلة السوفروزنيه sophrosyne.١٥٤ التي طالما أشاد بها الإغريق. وقبل كونفوشيوس بقليل أو في وقتٍ واحد معه — على حسب الروايات المختلفة — جاء لاوتزو ليقول بالتوسط والاعتدال أيضًا، ويؤسس «التاوية» — أو فلسفة الطريق الحق — التي كانت انقلابًا على الدين التقليدي والطقوس القديمة، ودعوةً إلى نوع من التصوف الطبيعي الذي يحث على الرجوع للطبيعة والاندماج فيها والبعد عن كل أشكال التمدن. لم يكن للتراث الديني والأخلاقي أهمية عند لاوتزو، بل إن مبدأه الأساسي هو اللا-فعل. وطريق الحكيم إلى السعادة يتلخص في كلمةٍ واحدة هي «وو-وي» أي التخلي عن الفعل أو عدم الفعل عن طريق «الحد من البذور» والكلمات والأفعال — (…) على الإنسان أن يبقى بغير عمل … أن يلزم السكينة والهدوء … أن يتجرد من شهوة الكسب والنجاح، فيصل إلى الكسب والنجاح الحقيقيين بالاتحاد مع «التاو»،١٥٥ طريق السماء.١٥٦
وفي ديانةٍ شرقيةٍ أخرى، هي الدين الإيراني القديم، يوجد زرادشت (٦٢٨–٥٥١ق.م.) وكتابه المقدس الأفستا Avesta الذي لم يبقَ منه سوى ترنيمات زرادشت Cathas التي تظهره في صورة رجلٍ مفعم بالحيوية و«نبي» أو داعيةٍ متحمس لنشر دعوته إلى النور والخير والنقاء. رفض زرادشت الديانة القديمة، وألقى بآلهتها في الجحيم. ومع ذلك لم تخلُ الزرادشتية من سكون الديانات النجمية. وأهم ما يميزها الصراع بين النور (أو أورامزدا Ormuzd) والظلام (أو أهرمين Ahriman) أو بين الحق والباطل، وإن لم يكن الصراع بينهما أزليًّا؛ إذ سوف تأتي لحظة التحول الأخيرة في العالم عندما يلتحم الجيشان، وعلى البشر أن يختاروا بين القوتَين المتعارضتَين وسوف تتحقق العدالة ويسود الخير ويعم النور ويتجدد الكل من جديد بواسطة المخلصين الذين يقمعون الهوى.١٥٧ ثم جاء ماني (٢١٦–٢٧٤م) في عهد شابور الأول، وكان على معرفةٍ جيدة بالفلسفة اليونانية وخاصة أفلاطون. وأعلن ماني أنه جاء ليتم عمل زرادشت وبوذا والمسيح، فهو «رسول النور» والشمس والقمر عنده — على عكس ما عند البابليين والكلدانيين — ليسا آلهة بل وسيلة للوصول للآلهة. كان للشمس تأثيرٌ عظيم على هذه الديانة، فهي النور الذي ينبغي أن يشرق حتى نهاية الزمان، ويأتي إله النور مع الشمس ويفتح العالم على اتساعه، لذلك وُصف ماني بأنه محرر النور من المادة التي هي من فعل الشيطان. ولقد كان لماني تأثيرٌ عظيم على أوغسطين، فما آمن به ماني — من ثنائية النور والظلام — على مسرح الطبيعة أبرزه أوغسطين في مسار التاريخ بين مدينة الله ومدينة الأرض.١٥٨
والديانة البوذية من ديانات الهند، ظهر مؤسسها بوذا في نهاية القرن السادس ق.م. في الوقت الذي خمدت فيه الديانة الهندية القديمة للفيدا، أراد بوذا أن يخطو خطوات على طريق التحرر من المعاناة والألم، فكانت دينًا بلا آلهة ولا سماء متعالية، وأراد مؤسسها أن يصبح هو نفسه الطريق الذي يُعلمه لأتباعه، طريق الخلاص من العالم. إن الجهل في العقيدة البوذية هو سبب ظهور العالم وعلة استمراره، والمعرفة هي لحظة تدمير العالم بلا كوارث كونية. وهنا تتغير وظيفة المعرفة في هذه الديانة الهندية فلا تضيف ولا تعلمنا شيئًا، بل تحول العالم إلى لا-عالم.١٥٩ ويصبح الأمل في هذه اللحظة هو الخلاص بالانطفاء (النيرفانا).

(ب) الديانات السماوية

مع أولى الرسالات السماوية جاء الوعي الديني، ومع موسى بدأ تمرد الشعب المستعبَد فكان الخروج من مصر. لم يوجد شعب تمرد على آلهته وعصاها مثلما فعل الشعب اليهودي. ويمكن القول إن أيوب هو بروميثيوس العبرانيين، فمثلما تمرد بروميثيوس على آلهة الإغريق، تمرد أيوب على «يهوه». لذلك يرى الكثيرون أن فكرة المخلص لم تظهر لا في زمن موسى ولا في الديانة اليهودية إلا في مرحلةٍ متأخرة لأنها بدت غير ضرورية في نظر شعب كان يؤمن بأن أخطاءه فقط هي التي تتسبب فيما أصابه من كوارث.١٦٠ غير أن بلوخ يرفض هذا التفسير قائلًا إن فكرة الخلاص موجودة وكامنة منذ البداية في الدين اليهودي، ولكنها لم تعلن إلا متأخرة. وهو كذلك لا ينفي وجود شبه بينها وبين الزرادشتية، خاصة الفكرة القائلة بالمخلص الذي يأتي في نهاية الزمان، فعلى الرغم من أن اليهود تأثروا بدين زرادشت أثناء الأسر البابلي (من ٥٨٦ إلى ٥٣٨ق.م.) إلا أن فكرة الخلاص لدى الشعب اليهودي تعني أكثر مما تعنيه عند الفرس أو الكلدانيين، فبعد العودة من الأسر بدأت هذه الفكرة تعمل عملها في الدين لوضع حد لمعاناة شعب يعيش على أمل الخلاص. وهنا ظهرت فكرة الخلاص واضحة وتحول إله الانتقام عند موسى إلى إله أمل وخلاص، أي إله اليوتوبيا.١٦١ وكما يقول موسى بن ميمون وهو الفيلسوف اليهودي العقلاني: «إن من ينكر الخلاص ينكر كل التوراة.» وبذلك تكون اللحظة الكبرى في الديانة اليهودية هي الخلاص، وهي لحظةٌ يوتوبية؛ إذ لم يكن الإله العبراني ساكنًا كالآلهة الوثنية، بل كان واعدًا بالخلاص في سماء جديدة وأرضٍ جديدة.
وفي المسيحية تحولت الديانة الفوقية المتعالية إلى الإنسان، أو إلى ابن الإنسان. كانت دعوة للحب لا تقارن بها أية ديانةٍ أخرى، دعوى للتخلص من المال واحتقار العالم: «قال يسوع إن أردت أن تكون كاملًا فاذهب وبعْ أملاكك وأعطِ الفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعالَ اتبعني.»١٦٢ ونصيحة المسيح التي تقول: «أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله.» لا تعني الإذعان لهذا العالم، بل احتقاره. لذلك يقدم بلوخ تفسيرًا لموت المسيح على الصليب مختلفًا عن التفسيرات السائدة التي اعتبرته — أي الموت — نوعًا من التضحية الإرادية، كما لو كان الموت قد تولد من الحب، وكان الثمن الذي دفعه المسيح لله ليفتدي البشر من الخطيئة. إن المسيح في رأي بلوخ مات متمردًا على التقاليد وسلطة الحكم القائمة في عهده. وقد أقحمت الأساطير بعض العبارات، مثل الموت والصليب على حديثه عشية موته. فلم يتحدث المسيح عن إصلاح أو إحياء لمجدٍ سابق، إنما تحدث عن تدمير القدس والمعبد أي الثورة على العهد القديم: «لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا.»١٦٣ لذلك اعتبره الرومان مجدفًا على الله ويستحق الموت صلبًا جزاءً له على تمرده.١٦٤ ولذلك أيضًا كان للدين المسيحي مستويان: المستوى الاجتماعي، والمستوى اللاهوتي الذي ألغى فكرة الإله المتعالي فأصبح للمطلق مضمونٌ بشري، كما أصبح — إذا جاز هذا القول — دينًا يعمل بشكلٍ ديمقراطي.١٦٥
غير أن الآمال في المتعالي جاءت بعد موت المسيح. انتهى التواضع والخجل المسيحي بعد الصلب وتجلَّت المسيحية في قيامة المسيح من القبر واكتسبت عظمتها وتخلَّت عن تواضعها. ظهر المسيح والمسيحية في ضوءٍ جديد انبثق من القبر. فصعود المسيح إلى السماء كان مرساة الأمل التي تأخذ البشر معها. وهي اللحظة الممتلئة؛ اللحظة الثابتة للمملكة المسيحية: «سوف تكونون مثل الإله Eritis Sicut Deus تلك هي بشارة الخلاص المسيحي.»١٦٦
وجد بلوخ أن مضمون اللحظة الممتلئة في الدين الإسلامي في الخضوع لإرادة الله، فالدين الإسلامي — في زعمه — قد ورث التعصب الذي بدأ مع موسى. ومنذ أن أتى أول الأنبياء بفكرة الوحدانية، أتى معها بالتعصب لهذا الإله الواحد؛ مما ترتب عليه أن كل ديانات التوحيد أصبحت أديانًا تبشر بهذا الإله الواحد وتتعصب له. بذلك يكون التعصب كجزءٍ أساسي من الإيمان قد أتى مع موسى وامتدَّ إلى المسيحية والإسلام على حد زعم بلوخ. ولكن الحروب الدينية بدأت مع الإسلام،١٦٧ وعندما أشهر محمد — عليه السلام — سيفه ضد الكفار. فالمسلمون هم جنود الله الخاضعون لإرادته، وروح الإسلام تتمثل في الخضوع للقرآن الكريم والسير على السُّنة المحمدية. ويتهم بلوخ الدين الإسلامي بالتحجر وعدم المرونة، وبأن تعاليمه لا تسمح بالتجديد والحرية، حتى إنه تصدى للمجددين من الفلاسفة ورجال الدين.

على الرغم من المعرفة الموسوعية الكبرى التي تميز بلوخ، إلا أنه ليس لديه فكرةٌ واضحة ولا متكاملة عن الحضارة الإسلامية من ناحية ولا عن بعض الحضارات الشرقية من ناحيةٍ أخرى؛ مما جعل أحكامه على هذه الحضارات تتسم أحيانًا بالسطحية والعمومية الشديدة، ويجانبه الصواب في معظم الأحوال. والواقع أنه لا يمكن أن يُلتمَس له العذر في هذا، لأنه عاش فترةً زمنية — تجاوزت ثلاثة أرباع القرن العشرين — اكتملت فيها الأبحاث والدراسات والشروح الممكنة لهذه الحضارات البشرية. وعلى الرغم من اتساع أفقه وتبنِّيه للنزعة الإنسانية الخالصة فلا نستبعد أن يكون «للمركزية الأوروبية» دور في إساءة تفسيره للحضارات والديانات الشرقية، وقد اختزل مفهومه عن الديانة الإسلامية — شأنه في ذلك شأن العديد من الغربيين — في عبارة النار والسيف.

(ﺟ) اللحظة في أنثروبولوجيا الدين

يُعدُّ لودفيج فيورباخ (١٨٠٤–١٨٧٢م) نقطة تحول في فلسفة الدين، فقد أقام نزعةً طبيعية تتسم بإعادة الإنسان إلى الأرض والطبيعة. إن الفلسفة في رأيه من العصر اليوناني وحتى آخر عصر هيجل تعد لاهوتًا؛ لذلك جعل مهمته مصادرة العالم الآخر، أو جعل من نفسه حفَّار قبور للدين التراثي ليعطي للإنسان ما للإنسان، وينكر السماء لحساب الأرض لإضفاء الأهمية على الإنسان: «أنا أنكر الله، هذا يعني في حالتي أنني أنكر إنكار الإنسان؛ إن مسألة وجود أو لا-وجود الله هي بالنسبة لي وجود الإنسان.»١٦٨ إن الإنسان خلع على الله كل الصفات التي لا يستطيع أن يحققها، وآن الأوان ليستردَّ الإنسان هذه الصفات.
كان الله الكائن في السماء هو الهدف الأسمى في النزعة المدرسية التي امتدت من أفلاطون وليس من المسيح. فكان — أي الله — هو الأمل الذي يسعى البشر للوصول إليه. ومع فيورباخ لم يترك الأمل للسماء فاندفع للأمام — وليس إلى فوق — وانتقلت الميثولوجيا من السماء إلى الأرض. أعاد فيورباخ مضمون الدين من السماء إلى الإنسان، فلم يعد الإنسان يوجد على صورة الله، بل إن الله يوجد على صورة الإنسان، واختفت صورة الإله الخالق ليكتسب الإنسان هذه الصورة.١٦٩ لقد حاول فيورباخ أن يترجم الصور الذهنية في الدين المسيحي ويعثر على حقائقها العيانية معتمدًا على التحليل التجريبي والتاريخي والفلسفي للأسرار المسيحية. ويسمى فيورباخ نفسه روحيًّا وضعيًّا، وصاحب فلسفة إنسانية تجعل الوجود الإنساني هو الوجود الحقيقي، وتقيم فلسفةً لا تأملية دون ماهية.١٧٠
لم تعد الذات تتصارع مع الموضوع الذي هو الطبيعة المحيطة بها، بل أصبح الأمل الموجود في الدين موجهًا لإدراك الإمكانية في الذات وفي الموضوع معًا. فأنثروبولوجيا الدين عند فيورباخ هي بمثابة يوتوبيا للإنسان. ويصبح الموروث الديني هو وعي الوظيفة اليوتوبية بالكل، وتصبح المغامرة الإنسانية إلى ما وراء ذاتها هي العلو في التاريخ الذي صنعه البشر، وتعاليًا بدون أي علوٍّ سماوي. تصبح — أي المغامرة الإنسانية — هي توقعات لمستقبل ما زال غير معروف. لقد كانت كل التسميات والألقاب التي نسبت إلى الله محاولات لتفسير السر البشري، أي الشكل الإنساني المختبئ في الأيديولوجيات الدينية. وجاء النقد الأنثروبولوجي للدين ليجعل الإله هو الوجود بالإمكان، أي الوجود البشري الذي لم يصبح بعدُ في الواقع، ويظهر بوصفه أنتيليخيا الروح مثلما تكون الجنة أنتيليخيا يوتوبية للإله.١٧١
لكن هل تحويل الميثولوجيا إلى أنثروبولوجيا يعني اختفاء مشكلة المكان الديني — إذا صح هذا التعبير؟ بمعنى المكان الذي يوجد فيه العدم أو الكل، وجحيم النار أو نعيم الجنة بالمفهوم الديني؟ إن الواجب على البشر أن يوقروا آلهتهم في مكانٍ آخر من الطبيعة؛ مكانٍ يوتوبي يمتلئ بالآلهة. إنه مملكة الحرية، بدلًا من مملكة الله التي في السماء، وهو المكان الذي يمتد أمامنا في قلب البشر وفي قلب الأرض، ويكمن في الذات الأنثروبولوجية كما يكمن في الطبيعة.١٧٢ إن تدمير أساطير الاغتراب التي جاء بها مؤسسو الديانات الثلاث من الشرق هي اللحظة اليوتوبية الكبرى، لحظة الكشف الذاتي؛ لحظة أن يصبح الله إنسانًا.

(د) اللحظة في التجربة الصوفية

في التجربة الصوفية الدينية تختفي الثنائيات الحادة بين الأنا واللا-أنا، بين الذات والموضوع. وتسمى هذه اللحظة بالآن الأبدية أو اللحظة الخالدة Nunc Stans ويتم التبادل بين كلٍّ من اللحظة والأبدية في وحدةٍ جدلية، هي اللحظة الأسمى التي لم تعد موجودة في الزمان بل تكون «الآن» فيها دائمة، وتكون اﻟ «هنا» في كل مكان.١٧٣ هذه اللحظة الصوفية إذن هي لحظةٌ يوتوبية يتحد فيها الذات والموضوع واﻟ «هنا» و«الآن» والمكان والزمان، ويختفي فيها الاغتراب.
في لحظة التصوف تتحرر الأنا من وجودها الفردي ومن تعددية الأشياء حولها وتتخلى عن كل شيء لأن هذا التخلي هو السبيل الوحيد لإيجاد كل شيء، أي لوجود الكائن مع الذات الحقيقية في لحظة الاتحاد بالذات الإلهية. فنجد التصوف عند أفلوطين هجر الذات الفردية للاتحاد بالذات الإلهية في ثلاث مراحل: التطهر، التنور، الاتحاد، ويسميها بلوخ مراحل تألُّه الذات، التي تكون مرحلة أسمى من الوعي، فيها تصبح الذات جزءًا من الذات الإلهية. كما نجد التصوف عند ميستر إكهارت (١٢٦٠–١٣٢٨م) ليس فقط معرفة أو كشفًا ذاتيًّا لله، لأن الروح عنده هي شرارةٌ صغيرة من القبس الإلهي، وهدف العبد أن تتصل روحه بالقبس الإلهي عن طريق التخلي عن العالم وكل ما يمت له بصلة لتنكشف الشرارة الإلهية أي الروح الإنسانية وترجع إلى مبدئها وأصلها الذي خرجت منه لأن ماهيتهما واحدة. وفي حالة التخلي هذه يتخلى الإنسان كذلك عن نفسه فلا يعود يعرف أو يريد أو يفعل إلا بالله وفي الله، وبهذا يتحد مع كل ما هو كائن ويتحد مع الحقيقة الأبدية أي مع الله، في لحظةٍ مباشرة تذوب فيها المسافة بين الذات الفردية والذات الإلهية. فالصوفي لا ينشد الاتحاد بالعالم، بل يريد الاتحاد بالواحد الذي يسمو على العالم ولا يتصل به بسبب، ولا يتم هذا فيما يعلمنا الميستر إكهارت وأفلوطين — وهما عمدة التصوف الغربي — عن طريق التلاشي في العالم، بل عن طريق التخلي عنه والزهد فيه.١٧٤ وعند الوصول إلى هذه اللحظة تتوقف أصدق صفات الذات وهي الرغبة، كما تتوقف أكذب صفات الموضوع وهي الاغتراب، ولحظة الوصول إلى هذه الحالة يطلق عليها بلوخ لحظة الانتصار.

بعد تحليل بلوخ لديانات العالم الكبرى محاولًا إيجاد اللحظة اليوتوبية التي تبحث عنها والتي يتحقق فيها الوجود الأسمى للإنسان، انتهى من رحلته إلى حقيقةٍ هامة وهي ابتعاد الديانات الوثنية والسماوية على السواء عن تلك اللحظة المنشودة التي وجدتها الديانات الأولى في لحظات السكون والثبات، ووجدتها الثانية في السماء المتعالية وفيما وراء العالم الأرضي. وإذا كان ينظر إلى المسيح على أنه يمثل شخصيةً يوتوبية ثارت على الأوضاع القائمة وأرادت أن تحرر البشرية من عبودية سلطة «يهوه» وأن يقيم «مملكته» في هذا العالم الدنيوي، وإذا كان هذا التفسير يختلف قلبًا وقالبًا عن التفسير التقليدي لشخص المسيح، فإنه يتفق مع طريقة بلوخ في فهمه غير التقليدي لتاريخ الفلسفة برمَّته.

أضف إلى هذا أن اللحظة التي يقصدها بلوخ ليست في التصوف، أي لحظة اتحاد الذات الفردية بالذات الإلهية، فهذه اللحظة أيضًا — على الرغم مما فيها من ذوبان الذات في الموضوع، والأنا في اللا-أنا — هي لحظةٌ متعالية بطبيعتها عن هذا العالم الأرضي وبعيدة عن الواقع الفعلي؛ وبالتالي لم ترفع الاغتراب القائم بين الإنسان والطبيعة ولا بين الذات والموضوع. وربما كان المفهوم الأنثروبولوجي للدين كما هو عند فيورباخ هو أصلح إطار يمكن أن تتحقق فيه اللحظة الممتلئة كما يتصورها بلوخ ويمكن أن تقنع عقله ووجدانه.

وإذا كان هدف جميع الديانات السماوية هو الوصول إلى الأرض التي يسودها اللبن والعسل على نحوٍ واقعي ورمزي على السواء، فإن هدف الديانة الإنسانية التي يؤمن بها بلوخ هو على وجه الدقة نفس الهدف السابق — أي الوصول إلى عالم أكثر كمالًا — أو حسب تعبيره إلى يوتوبيا الكمال التي وضعها الدين في السماء. غير أن بلوخ استعاض عن الإله بالممكن الذي لم يكشف الأستار عن وجهه بعدُ، وبالخلاص الذي لم يزل كامنًا في الأرض وفي تاريخ البشر.

(٤) اللحظة الممتلئة في الموت

قد توجد مفارقة في هذا العنوان؛ فكيف يكون الموت — وهو لحظة انطفاء الوعي — لحظةً ممتلئة؛ وهي اللحظة التي ينبغي أن يشعر الإنسان حيالها بالكمال والسعادة؟ بمعنى آخر: كيف يُنظر للموت — وهو سلب الوجود ووأد كل لحظةٍ ممتلئةٍ سعيدة — نظرةً يوتوبية بما تنطوي عليه اليوتوبيا من سعيٍ دائم لحياةٍ أفضل؟ وكيف يكون الموت — وهو الفك الذي يطحن كل شيء ويلتهم كل غاية — هو لحظة تحقيق الوجود الأسمى؟ ربما تبدو الحياة مقيتة ولا نعيشها كما نتمنى، ومع ذلك فهناك دائمًا أمل لتحسينها في المستقبل، ولكن من غير الممكن أن نأمل في أي نوع من التحسن في لحظة الموت نفسها. كما أن هناك شعورًا طبيعيًّا بالفزع والرعب من فكرة الموت، ومهما حقق الإنسان من أهداف وأمنيات في الحياة فهو لا يموت وهو مشبع بها، فدائمًا ما يفاجأ المرء بالموت قبل أن يحقق كل آماله في المستقبل. فكيف يكون الموت إذن نوعًا من اليوتوبيا؟

قد يزول هذا التناقض عند معرفة الصور الخيالية المفعمة بالأماني التي رسمتها الأديان لحياة ما بعد الموت، والتي لا تعني العدم أو الفناء الشامل بل تتصور الموت على أنه نهاية للحياة على هذه الأرض وبداية حياةٍ أخرى في عالمٍ آخر.

(أ) الموت في الديانة المصرية القديمة

لم يوجد جنس اهتم بفن الموت وأنفق من الوقت والجهد والعناية والتكاليف لبناء المقابر استعدادًا له مثلما فعل المصريون القدماء الذين نظروا للموت على أنه بداية الحياة الحقيقة فخططوا بعنايةٍ فائقة لما وراء الحياة على الأرض.١٧٥ لقد رسموا صورة للعالم الآخر ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالموقف الأخلاقي للشخص المتوفى. ففي هذا العالم الآخر تعقد محاكمة الميت، يرأسها أوزوريس نفسه ويسجل أحكامها الكاتب المقدس (توت). وتذهب النفس Ka مع صاحبها وتدخل العالم الآخر لتعيش وجودها الأبدي في حياة ما بعد الموت. وقد صوَّرت الكتابة المصرية القديمة النفس ساكنة وبعيدة عن الحركة.١٧٦ وكان أوزوريس — إله الموتى في العالم الآخر — نفسه إلهًا صامتًا حيث لا توجد حركة ولا موسيقى في معبده في أبيدوس؛ لذلك فإن فكرة سلام الموت وسكونه وهدوئه انحدرت من الحضارة المصرية القديمة.١٧٧ وعلى الرغم من بعض المناظر المصوَّرة على جدران المقابر والمعابد عن الحرث والحصاد والأنشطة الأخرى والمرتبطة بالحياة الدنيوية لعامة الشعب، إلا أن الحياة الحقيقية ليست على هذه الأرض، كما أن مفتاح الحياة الذي يهديه الإله للملك الحاكم ليس بالتأكيد لهذه الحياة الأرضية، وإنما هو مفتاح للحياة في العالم الآخر، ذلك العالم الذي عاش المصريون القدماء طوال حياتهم يستعدون للحظة الانتقال إليه، حيث كان الخلود هو لحظة الوجود الأسمى في الحضارة المصرية القديمة.

(ب) الموت في الكتب المقدسة

أما عن فكرة الموت في الكتب المقدسة كما جاءت في الكتاب المقدس والقرآن الكريم، فإن فكرة الخلود لم تظهر في الديانة اليهودية إلا في مرحلةٍ متأخرة، فقد كان الجنس اليهودي جنسًا دنيويًّا مثل الإغريق. كذلك لم تظهر فكرة البعث والحساب إلا في وقتٍ متأخر. لم يكن الاعتقاد بخلود النفس ولا الإيمان ببعث الموتى في نهاية الزمان نظريةً أساسية لدى الفريسيين.١٧٨ وبتأثير الديانة المصرية القديمة تحول الإله المصري توت — الذي يدون جلسات يوم الحساب — إلى الإله يهوا في الديانة اليهودية، الذي يفتح سجل أعمال البشر في يوم السنة العبرية الجديدة.١٧٩ أضف إلى هذا أن بعض الأبحاث تعقد مقارنة بين ديانة موسى وديانة أخناتون، على أساس الإهمال المشترك من جانب الديانتين لعقيدة البعث التي لم تظهر في اليهودية إلا في وقتٍ متأخر. ولا يوجد بين نصوص التوراة ما يؤكد وجود الاعتقاد في البعث على زمن موسى عليه السلام. وكذلك حاربت ديانة أخناتون عقيدة البعث ذات الجذور المتأصلة في ديانة المصريين القدماء. وقد كان أحد أهداف الرؤية الدينية لأخناتون هي محاربة عبادة أوزوريس الذي ارتبطت عبادته بعقيدة البعث والحياة بعد الموت.١٨٠
أما عن الموت في المسيحية فقد كان الإيمان بالبعث والحساب جزءًا من المذهب المسيحي. لكن هل الموت هو اللحظة الأسمى في الدين المسيحي كما هو الحال عند المصريين القدماء؟ في الواقع أن هناك اختلافًا كبيرًا بين الموت في الحضارة المصرية القديمة — وهو لحظة سكون وجمود كما يقول عنها بلوخ — وبين الموت في العقيدة المسيحية؛ حيث إن الموت الفيزيقي ليس هو نهاية المطاف، لكن يأتي البعث أو القيامة Easter من الموت. إن المجيء الثاني للمسيح هو لحظة الوجود الأسمى: «أنا هو القيامة والحيوة. من آمن بي ولو مات فسيحيا.»١٨١ إذن اللحظة الممتلئة هنا هي التخليص من الموت: «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حيوة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير.»١٨٢ هي لحظة حياة وليست لحظة موت، فالمسيح ليس كأوزوريس إلهًا في عالم الموتى: «وليس هو إله أموات بل إله أحياء لأن الجميع عنده أحياء.»١٨٣ لذلك يطلق بلوخ على هذه اللحظة اسم يوتوبيا القيامة.١٨٤ ويشبهها بالفن القوطي الذي هو رمز الحياة: «لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع.»١٨٥ هكذا أشادت المسيحية بالحياة ولم تمتدح الموت.١٨٦
وفي الإسلام بدأ الترغيب في الموت عندما أعلن أن الموت على يد الأعداء شهادة في سبيل الله وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ حيث يستمتع المجاهدون المؤمنون بالنعيم في العالم الآخر. وقدم القرآن الكريم تصويرًا حسيًّا وماديًّا للجنة التي سيتمتع بها الصالحون والمجاهدون: أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا.١٨٧ وهكذا كانت لحظة الموت والاستشهاد في سبيل الله في الإسلام هي لحظة الوجود الأسمى التي سيتبعها الخلود في جنة النعيم.

(ﺟ) النرفانا ولحظة الفناء

تنصبُّ الفلسفة الهندية على التفكير وتخضع لحياة الإنسان الداخلية أكثر مما تخضع للعالم الخارجي والطبيعة المادية.١٨٨ إن الإحساس العام لكل البشر هو الخوف من الموت، لكننا الآن أمام نوعٍ آخر من التفكير يتحول فيه هذا الخوف إلى خوف من الوجود أو الحياة.١٨٩ وأمام حضارة ترى الحياة مخيفةً أكثر من الموت، ولذلك تنشد الفناء أو الانطفاء (النرفانا) بهدف التحرر من الشقاء والألم ليعقبه ميلادٌ جديد. إن الحياة هي مصدر ما يعانيه الإنسان من أحزان وآلام وأمراض وشيخوخة وموت. لذلك فكر بوذا: «وهكذا ركزت عقلي في حالة من نقاء وصفاء، ركزته في فناء الكائنات وعودتها إلى الحياة في ولادةٍ جديدة. وبنظرةٍ قدسيةٍ مطهرةٍ إلهية، رأيت الكائنات الحية تمضي ثم تعود فتولد خيرة أو شريرة، سعيدة أو شقية، حسب ما يكون لها من «كارما»،١٩٠ وفق ذلك القانون الشامل الذي بمقتضاه سيتلقى كل فعلٍ خيِّر ثوابه، وكل فعلٍ شرير عقابه، في هذه الحياة أو في حياةٍ تالية تتقمص فيها الروح جسدًا آخر.»١٩١
وجد بوذا أن الحياة مستحيلة، فلا هي ممكنة في هذه الحياة الدنيا كما يظن الوثنيون، ولا هي ممكنة في الحياة الأخرى كما يعتقد أنصار كثير من الديانات، أما ما يمكن أن نظفر به فهو السكينة، هو النرفانا،١٩٢ التي هي إخماد أو إطفاء لكل شهوات الفرد. وسرعان ما يتحطم الفرد بالموت لتأتي عجلة الميلاد بآخرَ جديد. فتناسخ الأرواح هنا هو فرصةٌ متاحة للروح لتكفِّر عما ارتكبت من آثام، ولا بد للإنسان أن يكتمل روحيًّا وأخلاقيًّا قبل أن يحقق الخلاص. والعدالة هي قانون الحياة الأخلاقية تمامًا كما أن العلة والمعلول هما قانون العالم الطبيعي. وبما أن العدالة والكمال الأخلاقي والروحي لا تتحقق في حياةٍ واحدة لذلك تؤمن هذه العقائد بالولادة الثانية حتى تُعطى فرصةٌ للإنسان لكي يتقدم أخلاقيًّا ولكي ينال الكمال. فالكارما والولادة الثانية هما الوسيلتان اللتان تحققان النظام الأخلاقي للكون في حياة الإنسان.١٩٣
وتختلف النرفانا بهذا المعنى اختلافًا واضحًا عن التصوف الغربي كما عرف عند أفلوطين (٢٠٥–٢٧٠م) أو ميستر إيكهارت (١٢٦٠–١٣٢٨م). إن التجربة الصوفية لكل العصور تجربة يصعب التعبير عنها، وهي تتسم بالبساطة، وتبتعد عن أي تعقيد، فالفناء في التجربة الصوفية هو فناء في الذات الإلهية، ولحظة انجذابٍ صوفي. ولكن النرفانا هي الصورة المضادة لها لأن صورتها الخيالية المفعمة بالأماني هي الفناء في العدم أو في الموت.١٩٤ فالعدم أو الموت هو اللحظة الممتلئة لهذه العقيدة الهندية، وكأن لحظة الوجود الأسمى ليست في قهر الموت — كما في المسيحية — بل في الفناء فيه في لحظة عدمٍ مطلق؛ لحظة تتحد فيها الروح باللانهاية اللاواعية حيث السكون والسكينة المطلقة.

(د) الرومانسية ولحظة نعيم الموت

مع الرومانسية اختفى الخوف المعتاد من الموت، وتغيرت النظرة إليه فلم يعد جحيمًا، بل أصبح نوعًا من التغيير والراحة الأبدية.١٩٥ تحرر الفكر من العالم الآخر. والواقع أنه نادرًا ما كان ينظر إلى الموت — الذي شعر الرومانسيون بالحنين إليه — على أنه فناءٌ شامل، فهو يعني بالنسبة للبعض الاستغراق في «الكل»، وهو بالنسبة للبعض الآخر بداية الحياة الخالدة التي قالت بها المسيحية.١٩٦ كذلك نجد أن الموت عند «ليبنتز» ليس فناءً، فالكائن الحي لا ينتظر الحساب في عالمٍ آخر، لأنه لا يسري عليه الفناء ولأن الموت لا يخرج عن كونه عملية تحول. كما هاجم ليسنج — في مقاله «كيف تخيل القدماء الموت؟» — الصورة التي رسمتها العصور الوسطى للموت، ورسم له صورةً أخرى جمالية، يصفها بلوخ بأنها يوتوبيا عينية للموت.
وقد أعجب جوته بفكرة ليسنج الجمالية التي تعبر عن الفكر الحر ولا تريد أن تستسلم للعدم، وتحرر الفكر من العالم الآخر بحيث لا يكون هناك مكان للسماء ولا للجحيم. هذا الشعور الحيوي والجمالي تجاه الموت الذي نجده عند كلٍّ من ليسنج وجوته أدى بهما إلى القول بتناسخ الأرواح، لم ينظرا لعجلة الميلاد على أنها ورطة كما في الفلسفة الهندية، بل على أنها وسيلة لوجودٍ قادر على أن يكون أفضل في أكثر من حياة واحدة.١٩٧ هو ذلك العنصر الحيوي في صورة ليسنج الخيالية عن الموت، وتناسخ الأرواح أعطى للأفراد وجودًا حاضرًا وواقعيًّا Actual being-present في مراحل التاريخ ككل. ولا يجب أن ننظر للتاريخ القديم على أنه تاريخٌ إنسانيٌّ مجرد، بل من الممكن أن يكون تجربةً حية لبشر يعودون بأرواحٍ جديدة حيث تتحرك الأرواح في فراغ. إن المونادة العارفة لا يمكن زوالها في رأي جوته، ولعل ما قاله في أحد أحاديثه لصديقه أيكرمان في سن الخامسة والسبعين أن يكون أصدق تعبير عن هذه الفكرة التي جعلت جوته يؤمن بأن واجب الطبيعة أن تزوده بشكلٍ آخر من أشكال الوجود بمجرد أن يصبح وجوده الحالي غير قادر للإبقاء على روحه.١٩٨

إن الموت هو الحدث الأخير في حياة الإنسان؛ لأنه — أي الموت — ليس سوى درجة من درجات التحول الدائم كما يقول جوته في قصيدته «حنين مبارك»:

وإذا لم تصغِ للصوت القديم
داعيًا إياك: مت كيما تكون،
فستبقى دائمًا ضيفًا يهيم
في ظلام الأرض كالطيف الحزين.١٩٩
فالتضحية بالذات علوٌّ وارتفاع في سُلَّم الوجود، كالفراشة تحقق ذاتها بالفناء في نار الشمعة، وكالقطرة تحقق ذاتها عندما تموت وتتحول إلى لؤلؤة، وكأن تحقيق الذات قهر للموت، تلك هي عقيدة جوته عن الخلود. ولعل العمل الفني — في تحولاته المختلفة التي يمر بها حتى يصبح عملًا كاملًا — يشبه هذه القطرة التي وهبها الله القوة والبقاء.٢٠٠
هذه الحالة من الخلود التي توصل إليها كلٌّ من ليسنج وجوته نجدها في إطارٍ آخر عند كانط، وإن كان تناسخ الأرواح ليس له مكان عند هذا الأخير، حيث يصنف مثل هذه الأشياء بين مغامرات ما وراء التجربة الميكانيكية، لذلك لا يكمن خلود الروح في تناسخ الأرواح ولكن في النزوع إلى الكمال الأخلاقي من خلال العقل العملي: «وهكذا فإن الخير الأسمى هو أمرٌ ممكنٌ عمليًّا فحسب إذ افترضنا خلود النفس، وهذا الأخير بحكم كونه مرتبطًا على نحوٍ لا فكاك منه بالقانون الأخلاقي هو شرطٌ ضروري للعقل العملي الخالص.»٢٠١ ويتعين علينا فهم الاعتماد على الحجة الأخلاقية لإثبات الخلود بدلًا من الرجوع إلى التجربة الدينية أو الإيمان الأعمى. إنه نتيجة لنفور كانط من النزعة الصوفية ولتأثير المزاج العقلاني على رؤيته للدين. وفي المقام الأول لنظرته إلى أسبقية التجربة الأخلاقية على التجربة الدينية.٢٠٢ وهكذا نجد أن الموت ليس له الكلمة الأخيرة عند كانط؛ إذ يظل الأمل قائمًا وموجودًا في صمت ما بعد الموت، وأعني به الأمل في النزوع العقلي الأخلاقي.

(ﻫ) لحظة الخلود في العمل

كان من الطبيعي أن يرفض بلوخ فكرة الموت كما جاءت في الديانات والحضارات السابقة الذكر، ويرفض أيضًا فكرة الخلود من هذا المنظور الديني والساكن. ووجد أن لحظة الوجود الأسمى أو لحظة الخلود الأعظم ما هي إلا لحظة الفعل أو العمل، فهناك حكمةٌ ريفية تقول: لا تترك الحياة بدون أن تزرع شجرة، وبدون أن تترك ابنًا. ونستطيع أن نقول أيضًا إن هناك من الأعمال التي يخلقها العقل البشري ما لا يسري عليه الفناء، فالأعمال التي رُسمت وأُلِّفت وكُتبت وبُنيت وتم التفكير فيها، مثل هذه الأعمال التي يمكن أن يُعاد تشكيلها وتجديدها مرةً ومرات؛ لا بد أن تكون خالدة، ومع ذلك فليست كل الأعمال الناجحة خالدة، فهناك على سبيل المثال الفوز بمعاركَ حربية أو سياسية لا يسري عليها الخلود، لأنها أعمال لا يمتد تأثيرها طويلًا، كما أنه لا يمكن إعادة تشكيلها وتجديدها في وعي البشرية ووجدانها. وهناك أمثلة على الأعمال الخالدة التي احتلت مكانها في التاريخ، فموسيقى بتهوفن وأشعار شكسبير — على سبيل المثال لا الحصر — ظلت لقرون بعد موت صاحبيها باقية يتردد صداها في وعي بشرية ووجدانها.٢٠٣
وهناك أشخاصٌ أحسُّوا بهذه اللحظة الخالدة الممتلئة — مثل شيللر وجوته — ولم يجدوا الخلود في لحظة الموت أو فيما وراءه، وإنما في لحظة العمل. فعندما بدأ مرض شيللر كتب لجوته في ٣ أغسطس ١٧٩٤م: «لن يكون لديَّ وقت لاستكمال ثورةٍ عقليةٍ عامة وكبيرة داخلي ولكني سأعمل ما أستطيع، وعندما ينهار البناء فربما أنقذ ما له قيمة من اللهب.» كما رأى جوته أيضًا خلود أعماله، فقبل وفاته بأربعة شهور كتب لفون همبولدت رسالةً يعبر له فيها عن أن عمره الطويل جعله يرى أعماله وقد أصبحت تاريخية.٢٠٤ كما يؤكد هذان البيتان فلسفة جوته القائمة على الفعل:
ورثت جنة، تزهو على الجنان
إن الزمان ثروتي، وحقلي الزمان
فما دام الإنسان لا يملك إلا حقل اللحظة، فما الذي يطلب منه إلا الإقبال على حرثه ورعايته بالعمل؟ تلك هي ذروة الجدية والمسئولية والوعي بقيمة الحياة التي يتهددها الفناء في كل لحظة.٢٠٥ واللحظة الممتلئة هنا هي لحظة الخلود، ولكنه ليس خلودًا في عالمٍ آخر ولا هو فناء في العدم، وإنما هو خلود في العمل. لقد تحول الخوف المعتاد من الموت إلى خوف من مباغتة الموت قبل إكمال العمل، فالموت بالنسبة للفنان لا يعني أنه سيؤدي به إلى العدم، بل يعنى أنه سيأخذ قلمه من يده، وهذا ما عبر عنه هيلدرلن عندما باغته المرض أثناء كتابة مسرحيته الشعرية التي لم يتمها وهي «أنبادوقليس»:
هبوني صيفًا واحدًا أيها «الآلهة» الأقوياء!
وخريفًا واحدًا فحسب لكي تنضج أغنيتي،
ولكي يموت قلبي وهو مغتبط،
ومشبع بالعزف الحلو.

إن هيلدرلن في هذه الأبيات لا يخشى أن تهبط روحه إلى العالم السفلي إذا استطاع أن يحقق واجبه الإلهي القريب إلى قلبه، أي إذا استطاع أن يتم قصيدته، عندئذٍ سيرحب كما يقول في نهاية هذه القصيدة بالهبوط إلى عالم الصمت والظلال:

مرحبًا بك إذن يا صمت عالم الظلال،
إنني راضٍ على الرغم من أن أوتاري
لا تصاحبني بالعزف في الهبوط إلى هناك،
لقد عشت كالآلهة مرةً واحدة؛
فلم تعد بي حاجة إلى شيءٍ آخر.٢٠٦

إن إرادة هيلدرلن في هذه القصيدة تثبت أن الخلود في العمل وفي الإبداع، وإذا كانت الذات البشرية لا تشارك بشخصها في هذا الخلود، فإن الأمل في إنقاذ ذلك الجزء النبيل في الإنسان من التدهور، أي العقل البشري، يظل باقيًا. لقد اختفت الصورة الخيالية القديمة للخلود وحلَّت محلها يوتوبيا الخلود التي تنتج نفسها من جديد، وتعبر عن الوجود المستمر للإنتاج العقلي البشري وليس العقل الإلهي.

وإذا كان الموت هو سلب الوجود، فإن سرعة مجيء الموت هي التي تضفي على اللحظة قيمتها، كما أن لحظة الامتلاء والسعادة القصوى لن يوقفها الإنسان — لفرط طموحه واتساع أمله — أو يخاطبها على لسان فاوست «تريثي قليلًا، فما أجملك!» لأن من الممكن — مهما تصورناها ذروة الإمكان — أن تتكرر على الدوام في صور لا تنفد جِدَّتها ولا ينتهي تنوُّعها. وعلى الرغم من أن الإنسان بطبيعته كائنٌ متناهٍ لا يمكن أن يصل إلى المطلق، إلا إنه لا يمكن أن يتوقف عن السعي إليه. وعنصر السعي إلى المطلق ما زال موجودًا في فاوست، فكل لحظة تشير إلى لحظاتٍ أخرى ممتلئة، ونداء فاوست للحظة بالتريث والوقوف — في نهاية القسم الثاني — ما هو إلا أمنية لنيل الخلود بوقف عجلة الزمان عن الدوران. لقد شعر فاوست وهو على وشك الموت أنه صار بين الزمان وبين السرمدية، بين التناهي وبين اللانهاية، أنه يود لو أن عمله يخلد.٢٠٧
توقفي إذن، فأنت رائعة الجمال!
إن أثر أيامي على الأرض
لا يمكن أن يغيب في الدهور،
وفي استشعار سابق بمثل هذه السعادة،
فإني أستمتع الآن بأسمى اللحظات.٢٠٨

وجد بلوخ إذن — مع فاوست جوته — اللحظة الممتلئة في العمل. ولكن كيف تتجلى هذه اللحظة في الزمان؟ لقد تجلت في اليوتوبيات الاجتماعية التي ظهرت منذ بدايات التفكير اليوتوبي القديم والوسيط والحديث، فمنها ما كان أفكارًا مجردة، ومنها ما حلَّق في آفاق الحلم وهجر الواقع. لكن لحظة الفعل الحقيقية لا بد أن تتجلى في مجتمعٍ إنساني ما زال يتصوره بلوخ؛ مجتمعٍ شيوعي أطلق عليه اسم «الوطن» أو «المجتمع الإنساني».

١  Holz, Hans Hein: Ernst Bloch. S. 103.
٢  Ibid: S. 103.
٣  هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، المجلد الأول ٨١، إضافة ١، ترجمة وتقديم وتعليق د. إمام عبد الفتاح إمام. بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر، الطبعة الأولى ١٩٨٣م، ص٢١٨-٢١٩.
٤  Bloch: p. of H. V. II. p. 838-839.
٥  Ibid: p. 878-879.
٦  هيراقليطس، شذرات ٢٠ و٢٢، على التوالي حسب ترتيب برنت وترجمة د. أحمد فؤاد الأهواني في فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط، القاهرة. دار إحياء الكتب العربية ط١، ١٩٥٤م، ص١٠٤-١٠٥.
٧  هيراقليطس، شذرة ٧٨، حسب ترتيب برنت (المرجع السابق، ص١٠٩).
٨  بارمنيدس، شذرة ٨، من ترجمة د. أحمد فؤاد الأهواني، المرجع السابق، ص١٣٢.
٩  Bloch. p. of H. V. II. 841.
١٠  Bloch. Tübinger Einleitung in die Philosophie S. 186-187.
١١  أفلاطون، فايدروس ٢٣٠د، ترجمة وتقديم د. أميرة حلمي مطر، القاهرة، دائرة المعارف، الطبعة الأولى ١٩٦٩م، ص٤٤.
١٢  إمام عبد الفتاح إمام: المنهج الجدلي عند هيجل، بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر، الطبعة الثانية ١٩٨٢م، ص٥٥.
١٣  Bloch. p. of H. V. II. p. 845.
١٤  Ibid: p. 846.
١٥  هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، ٨١ إضافة ١، الترجمة العربية، ص٢١٩.
١٦  ستيس، والتر: فلسفة هيجل، الترجمة العربية، ص٧٣.
١٧  Bloch: p. of. H. V. II. p. 843.
١٨  Ibid: p. 844.
١٩  Ibid: p. 844.
٢٠  حسن حنفي، الدين في حدود العقل وحده عند كانط، في قضايا معاصرة، ج٢، القاهرة، دار الفكر العربي، ١٩٧٧م، ص١٣٧.
٢١  انظر نص كانط في: Bloch: p. of H. V. II. p. 844.
٢٢  ورد نص كانط في: Ibid: p. 844.
٢٣  ذكر بلوخ نص كانط في: Ibid: p. 844.
٢٤  Ibid: p. 845.
٢٥  Ibid: p. 846.
٢٦  جلسون، إتين: روح الفلسفة في العصر الوسيط، الجزء الأول، عرض وتعليق د. إمام عبد الفتاح إمام، القاهرة، مكتبة سعيد رأفت، ١٩٧٢م، ص١٥٢.
٢٧  المرجع السابق، الجزء الثاني، ص٥٨٣ من الترجمة العربية.
٢٨  Bloch: p. of H. VII p. 855.
٢٩  Ibid: p. 857–865.
٣٠  بلوخ، إرنست: فلسفة عصر النهضة، ترجمة وتقديم وشروح إلياس مرقص، بيروت، دار الحقيقة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، ١٩٨٠م، ص٧٧.
٣١  المرجع السابق، ص٧٩.
٣٢  انظر المرجع السابق، ص٨١-٨٢.
٣٣  المرجع السابق، ص٨٧.
٣٤  بلوخ: المرجع السابق، ص٨٨.
٣٥  المرجع السابق، ص٨٨.
٣٦  المرجع السابق، ص٨٩.
٣٧  المرجع السابق، ص٩٢.
٣٨  Bloch: p. of H. V. II p. 847-848.
٣٩  بلوخ، إرنست: فلسفة عصر النهضة والترجمة العربية، ص٥٨.
٤٠  المرجع السابق، ص٥٩.
٤١  Spinoza: Ethics, I. Edited with a revised translation by G. H. R. Parkinson London Everyman’s Library. 1989. Pro p. 33 Note II p. 28.
٤٢  Spinoza: Eth, I Theorem 29, Note. p. 25-26.
٤٣  فؤاد زكريا: اسبينوزا، القاهرة، دار النهضة العربية، ١٩٦٢م، ص١٥٥.
٤٤  جوته: فاوست، القسم الأول، بيت ٥٠٨ و٥٠٩.
٤٥  عبد الغفار مكاوي: انتظر فسوف تستريح، في البلد البعيد، القاهرة، دار الكاتب العربي، ١٩٦٨م، ص٩١.
٤٦  Bloch: p. of H. Vol. II p. 853.
٤٧  نصوص ليبنتز ذكرها بلوخ في المرجع السابق، ص٨٥٩.
٤٨  المرجع السابق، ص٨٦٠.
٤٩  ليبنتز: المونادولوجيا، ترجمة وتقديم د. عبد الغفار مكاوي. القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، ١٩٧٨م، ص٢٩.
٥٠  Bloch: Ibid: p. 860.
٥١  انظر تفاصيل تأثير هذه الأفكار على هيجل في كتاب «المنهج الجدلي عند هيجل» للدكتور إمام عبد الفتاح إمام، ص٥٩–٦١.
٥٢  Holz, Hans Heinz: Ernst Bloch, S. 113.
٥٣  Bloch: Subjekt-Objekt, Erläuterungen Zu Hegel. Frankfurt am Main Suhrkamp. 1962. S. 476.
٥٤  Ibid: S. 476.
٥٥  Ibid: S. 477.
٥٦  Ibid: S. 478.
٥٧  هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، فقرة ٢٤، إضافة ٢، الترجمة العربية، ص١٠٣.
٥٨  Bloch: Ibid: S. 479.
٥٩  Ibid: S. 479-480.
٦٠  Bloch: Tübinger Einleitug in die Philosophie S. 188-189.
٦١  Bloch: Subject-Objeckt: Erläuterungen Zu Hegel. S. 480.
٦٢  Ibid: S. 483.
٦٣  Ibid: S. 484-485.
٦٤  Marx, Karl: Capital. V. I. Moscow, progress publishers. Afterword to the second German Edition 1965. p. 20.
٦٥  حسن حنفي: هربرت ماركيوز العقل والثورة، في «قضايا معاصرة» ج٢، ص٤٧١.
٦٦  ماركيوز هربرت، العقل والثورة، هيجل ونشأة النظرية الاجتماعية. ترجمة د. فؤاد زكريا، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط٢، ١٩٧٩م، ص١٣-١٤.
٦٧  ربما كان الرد المناسب على هذا التفسير هو السؤال الذي طرحه الدكتور فؤاد زكريا: ألا يحق للمرء أن يرى في هذا التفسير السياسي قراءة لأفكار ماركس التالية في مبدأٍ هيجلي لم يكن يقصد منه أن يسير في هذا الاتجاه؟ (انظر المرجع السابق، مقدمة المترجم، ص٨.)
وإذا انتقلنا إلى الفكر العربي وجدنا رأيًا آخر يتفق مع تفسير ماركيوز، وهي المحاولة التي قام بها الدكتور إمام عبد الفتاح في كتابه «دراسات هيجلية» لإظهار المثالية الهيجلية في ثوبٍ تقدمي: «إن المثالية الهيجلية بالذات تقوم على فكرةٍ ثورية تمامًا؛ وبالتالي فهي تدفع بالفكر خطواتٍ سريعة إلى الأمام.» ويستند هذا الرأي إلى الفكرة الأساسية عند هيجل وهي: إن الفكر هو اللامتناهي الحقيقي وهو الحقيقة النهائية لكل شيء. وبالتالي ما يضاد الفكر — كالمادة مثلًا — ليس بالحقيقة وهو متناهٍ. وعلى ذلك فإن الأشياء التي يزخر بها العالم الخارجي لا تمثل الوجود الحقيقي ولا هي بالحقيقة النهائية؛ ومن ثم فالوصول إلى الحقيقة لا بد من تجاوزها للانتقال إلى مرحلةٍ أعلى. ولكن متى يتم الوصول إلى النهاية؟ حين تصل الروح إلى النهاية، إلى خاتمة المطاف. ولما كانت الروح هي التي تقوم بهذا السعي، ولما كانت هي نفسها لا متناهية، فإن ذلك يعني أن الروح تسعى إلى الوصول إلى ذاتها، أي إلى التعرف على نفسها، أو تسعى — بلغة هيجل — للوصول إلى مرحلة الوعي الذاتي: أن تكون هي الذات الساعية وهي الموضوع الذي تسعى إليه في آنٍ معًا (انظر د. إمام عبد الفتاح إمام، دراسات هيجيلية، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ١٩٨٥م، ص١٢-١٣، ١٥). ونستطيع ردًّا على هذا الرأي أن نقول إن خاتمة المطاف التي انتهت إليها الروح هي «التعرف على نفسها»، وإن كلمة التعرف في حد ذاتها لا تحمل الجديد في مضمونها، لأنها تعرف على شيءٍ معروف سلفًا. والجدل الهيجلي وإن كان بطبيعته جدلًا ثوريًّا، إلا أنه انتهى وتوقف على يدي هيجل في مرحلةٍ معينة، ولم يحمل في طياته بُعد المستقبل، ولم يبشر بالجديد القادم. والحق أن الطبيعة الثورية لجدل هيجل — والتي لم يفجرها هيجل نفسه — انطلقت على يدي فلاسفةٍ آخرين بعد هيجل، اكتشفوا ثورية الجدل وفجروا ما فيه من طاقاتٍ إبداعية لم يتوصل إليها هيجل نفسه. وربما يرجع السبب الأساسي في ذلك كما سبق القول إلى اعتماد هيجل على الفكرة الأفلاطونية وهي أن العلم تذكُّر.
٦٨  Bloch: Subject Objekt, S. 486-487.
٦٩  Bloch: Tübinger Einleitung in die philosophie S. 195.
٧٠  Ibid: S. 195-196.
٧١  Bloch, Ernst: p. of H. V. I. p. 196.
٧٢  إمام عبد الفتاح إمام، المنهج الجدلي عند هيجل، ص٣٠٥.
٧٣  Bloch: p. of H. V. I. p. 257.
٧٤  Ibid: p. 260.
٧٥  Ibid: p. 278.
٧٦  Ibid: p. 283-284.
٧٧  هيراقليطس، شذرة ٧٠ حسب ترتيب برنت وترجمة د. أحمد فؤاد الأهواني، ص١٠٨.
٧٨  أفلاطون، طيماوس، ترجمة فؤاد جرجي بربارة، تحقيق وتقديم ألبير ريفو، دمشق، منشورات وزارة الثقافة والسياحة والإرشاد، ١٩٦٨م، ص٢٢٨.
٧٩  أرسطو، الطبيعة، ترجمة إسحق بن حنين، مع شروح ابن السمح وآخرين، حققة وقدم له د. عبد الرحمن بدوي، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، ١٩٦٤م، ج١، ص٤٣٢.
٨٠  أفلوطين، التاسوع الثالث، الفصل السابع عن ترجمة د. أميرة مطر في «دراسات في الفلسفة اليونانية»، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، ١٩٨٠م، ص١٥٢.
٨١  رسل، برتراند، حكمة الغرب ج١، ترجمة د. فؤاد زكريا، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون ولآداب، سلسلة عالم المعرفة، عدد ٦٢، فبراير ١٩٨٣م، ص٢٥٢.
٨٢  Bloch: p. of H. V. I. p. 856.
٨٣  أوغسطين، «الزمان والأبدية والكائن» نصٌّ مترجمٌ ملحق بكتاب هنري مارو ومعاونه أ. م. لابونارديار، «القديس أوغسطين» نقله عن الفرنسية الأب ج. عقيقي اليسوعي، القاهرة منشورات معهد المعادي، ١٩٦٣م، ص٥٦.
٨٤  Bloch: Ibid: p. 855-856.
٨٥  رسل، برتراند، ألف باء النسبية، ترجمة فواد كامل، القاهرة، دار الثقافة العربية للطباعة، ١٩٦٥م، ص٤٧.
٨٦  برجسون، هنري، التطور الخالق، ترجمة د. محمد محمود قاسم، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب ١٩٨٤م، ص١٤.
٨٧  المرجع السابق، ص٢٠.
٨٨  المرجع السابق، ص١٤-١٥.
٨٩  المرجع السابق، ص١٩.
٩٠  حسن حنفي، الظاهريات وأزمة العلوم الأوروبية، في قضايا معاصرة، ج٢، ص٣٠٦.
٩١  هوسرل، إدموند، تأملات ديكارتية المدخل إلى الظاهريات، ترجمة وتقديم د. نازلي إسماعيل حسين، القاهرة، دار المعارف، ١٩٦٩م، ص١٥٢.
٩٢  المرجع السابق، ص١٥٤.
٩٣  هيدجر، مارتن، نداء الحقيقة، ترجمة د. عبد الغفار مكاوي، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، ١٩٧٧م، من دراسة بقلم المترجم، ص١٠٥.
٩٤  عبد الغفار مكاوي، الحاضر السرمدي واللحظة الخالدة، مجلة الحكمة. ليبيا جامعة طرابلس، كلية التربية، قسم الفلسفة والاجتماع، العدد الثالث، السنة الثانية، أكتوبر ١٩٧٨م، ص٣٢.
٩٥  Markun, Silvia: Ernst Bloch. S. 69.
٩٦  Ibid: S. 69.
٩٧  Ibid: S. 69.
٩٨  Bloch: Tübinger Einleitung in die philosophie S. 131-132.
٩٩  Ibid: S. 133.
١٠٠  Ibid: S. 134.
١٠١  Ibid: S. 135-136.
١٠٢  Ibid: S. 136.
١٠٣  Holz, Hans Heinz: Ernst Bloch. 127.
١٠٤  Bloch: Tübinger Einleitung in die philosophie S. 137-138.
١٠٥  Neville plaice, Stephen plaice, paul knight: The principle of Hope. Translators Introduction. V. I. p. XXX.
١٠٦  Bloch: p. of H. V. I. 294.
١٠٧  Coethe: Faust I, 775–778. in p. of H. V. III. p. 980-981.
١٠٨  انظر مقال «هل تعرف البلد البعيد؟» د. عبد الغفار مكاوي في البلد البعيد، القاهرة، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ١٩٦٧م، ص٧٠-٨٧.
١٠٩  جوته، شعر وحقيقة (C. F. Bloch: p. of H. V. III. p. 998).
١١٠  Bloch: p. of H. V. III. p. 1013.
١١١  Ibid: p. 1013-1014.
١١٢  Ibid: p. 1015-1016.
١١٣  Ibid: p. 1016.
١١٤  جوته: فاوست، ترجمة وتقديم د. عبد الرحمن بدوي، الجزء الأول المقدمة، الكويت، وزارة الإعلام، من المسرح العالمي، يناير ١٩٨٩م، من مقدمة المترجم، ص٣٠٢.
١١٥  المرجع السابق، ٣٠٤.
١١٦  بيير هاردو، في الحاضر وحده سعادتنا، ترجمة موسى بدوي، مركز مطبوعات اليونسكو، مجلة ديوجين، العدد ٧٧، د.ت، ص٦٠.
١١٧  الترجمة الشعرية عن بيير هاردو، المقال السابق ص٦٠، وهي عن البيت رقم ٩٣٨١ في القسم الثاني من فاوست.
١١٨  المرجع السابق، ص٧٩.
١١٩  انظر نص الحديث عند بيير هاردو في المقال السابق، ص٦٠.
١٢٠  Bloch: p. of H. V. III. p. 1034.
١٢١  Ibid: p. 1036.
١٢٢  Ibid: p. 1050.
١٢٣  Ibid: p. 1042.
١٢٤  Ibid: p. 1048.
١٢٥  محاولة بلوخ لعقد موازنة بين عملٍ شعري (فاوست) وآخر فلسفي (ظاهريات الروح) ليست هي المحاولة الأولى من نوعها، فقد سبقه في عقد هذه الموازنة صديقه جورج لوكاتش في كتاب بعنوان «جوته وعصره» (انظر الترجمة العربية لبديع عمر نظمي، بيروت، دار الطليعة، ١٩٨٤م).
١٢٦  جوته: فاوست، الترجمة العربية السالفة الذكر، من مقدمة المترجم، ج١، ص٢٦٩.
١٢٧  نص حديث جوته بالمرجع السابق، ص٣٠٧-٣٠٨.
١٢٨  المرجع السابق، ص٣٠٩.
١٢٩  جوته: فاوست، الترجمة العربية، ج٢، النص المسرحي الأول، ص٧٨.
١٣٠  Bloch: p. of H. V. III. p. 1019.
١٣١  Ibid: p. 1018.
١٣٢  Hegel: The Phenomenology of Mind p. 808.
١٣٣  Bloch: Ibid: p. 1018.
١٣٤  Ibid: p. 1022.
١٣٥  Ibid: p. 1022.
١٣٦  جوته: فاوست، الترجمة العربية، ج١، من مقدمة المترجم، ص٣٠٤.
١٣٧  المرجع السابق، ج٣، ص٢٩٠.
١٣٨  Bloch: p. of H. V. III. p. 1317.
١٣٩  Ibid: p. 1320.
١٤٠  Ibid: p. 1324.
١٤١  Ibid: p. 1325.
١٤٢  Ibid: p. 1326.
١٤٣  Ibid: p. 1328-1329.
١٤٤  Ibid: p. 1333.
١٤٥  يحيى هويدي، مقدمة في الفلسفة العامة، القاهرة، دار النهضة العربية، ط٦، ١٩٧٠م، ص٣٠٤.
١٤٦  بارندر، جوفري وآخرون، المعتقدات الدينية لدى الشعوب، المشرف على التحرير جفري بارندر، ترجمة د. إمام عبد الفتاح إمام، مراجعة د. عبد الغفار مكاوي، الكويت، عالم المعرفة، العدد ١٧٣، مايو ١٩٩٣م، ص٦٨.
١٤٧  Bloch: p. of H. V. III. p. 1207-1208.
١٤٨  Ibid: p. 1212.
١٤٩  Ibid: 1216.
١٥٠  Ibid: p. 1216.
١٥١  Ibid: p. 1218.
١٥٢  Ibid: p. 1219-1220.
١٥٣  Ibid: p. 1221–1224.
١٥٤  كلمةٌ يونانية تعني التدبر أو التروي والاعتدال في الحياة بأكملها. والمعنى الأصلي للكلمة هو صحة الصدر. ومنذ أفلاطون استعملت الكلمة كإحدى الفضائل الأربع الأساسية. وعند أرسطو تعني التأمل النظري وهو الغاية الكبرى لحياة الإنسان. (C. F. Liddell, Scott: Greek-English Lexicon Oxford. 1959. p. 500).
١٥٥  «التاو» Tao أو الطريق، ورد في مواضعَ كثيرة من حكم كونفوشيوس بمعنى طريق الملوك الأقدمين أو طريق السلوك الصحيح في الحياة. وهو يرد في التاوية القديمة بمعنى الطريق إلى الحياة الأبدية (انظر، لاوتسي، الطريق والفضيلة، ترجمة د. عبد الغفار مكاوي، القاهرة، سلسلة الألف كتاب ١٩٦٧م، من مقدمة المترجم، ص٤).
١٥٦  المرجع السابق، ص٥–٧.
١٥٧  بارندر، جوفري وآخرون، المعتقدات الدينية لدى الشعوب، الترجمة العربية، ص١١٧.
١٥٨  Bloch: p. of H. V. III. p. 1248.
١٥٩  Ibid: p. 1254.
١٦٠  Ibid: p. 1237.
١٦١  Ibid: p. 1241.
١٦٢  متى، ١٩: ٢١، الكتاب المقدس، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط.
١٦٣  متى، ١٠: ٣٤، المرجع السابق.
١٦٤  Bloch: p. of H. V. III. p. 1262.
١٦٥  Ibid: p. 1265.
١٦٦  Ibid: p. 1274.
١٦٧  Ibid: p. 1276.
١٦٨  نص فيورباخ ورد في مبدأ الأمل، الجزء الثالث، ص١٢٨٦.
١٦٩  Bloch: p. of H. V. III. p. 1284.
١٧٠  حسن حنفي، الاغتراب الديني عند فيورباخ، الكويت، مجلة عالم الفكر، المجلد العاشر، العدد الأول (أبريل، مايو، يونيو) ١٩٧٩م، ص٤٧.
١٧١  Bloch: p. of H. V. III. p. 1288-1289.
١٧٢  Ibid: p. 1297.
١٧٣  Ibid: p. 1301.
١٧٤  شتروفه، فلسفة العلو «الترانسندنس»، ترجمة د. عبد الغفار مكاوي، القاهرة، مكتبة الشباب، ١٩٧٥م، ص٩٦.
١٧٥  Ibid: p. 1121.
١٧٦  Ibid: p. 1122.
١٧٧  Ibid: p. 1125.
١٧٨  شورون، جاك، الموت في الفكر الغربي، ترجمة كامل يوسف حسين، مراجعة د. إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، عالم المعرفة، أبريل ١٩٨٤م، ص٩٠.
١٧٩  Bloch: Ibid: p. 1126.
١٨٠  محمد حسن خليفة، ظاهرة النبوة الإسرائيلية، القاهرة، دار الزهراء للنشر، ١٩٩١م، ص١٢٤-١٢٥.
١٨١  يوحنا، ١١: ٢٥، الكتاب المقدس.
١٨٢  يوحنا، ٦: ٥٤، المرجع السابق.
١٨٣  لوقا، ٢٠: ٣٨، المرجع السابق.
١٨٤  Bloch: p. of H. V. III. p. 1130.
١٨٥  رسالة بولس الأولى في أهل كورنثوس، ١٥: ٢٣، الكتاب المقدس.
١٨٦  Bloch: Ibid: p. 1133.
١٨٧  سورة الواقعة: ١١–٢٥.
١٨٨  سرفبالي راد أكرشنا، وشارلزمور، الفكر الفلسفي الهندي، ترجمة ندرة اليازجي، دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر، ١٩٦٧م، من مقدمة الترجمة العربية، ص١٤.
١٨٩  Bloch: p. of H. V. III. p. 1136.
١٩٠  الكارما Karma هي التقييم الأخلاقي لأعمال الفرد في حياته.
١٩١  ورد نص بوذا في كتاب ول ديورانت، قصة الحضارة، الجزء الثالث من المجلد الأول، ترجمة زكي نجيب محمود، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ط٣، ١٩٦٨م، ص٧٠-٧١.
١٩٢  المرجع السابق، ص٧١-٧٢.
١٩٣  سرفبالى راد أكرشنا، شارلزمور، الفكر الفلسفي الهندي، الترجمة العربية، ص١٩-٢٠.
١٩٤  Bloch: p. of H. V. III p. 1141.
١٩٥  Ibid: p. 1142.
١٩٦  شورون، جاك، الموت في الفكر الغربي، الترجمة العربية، ص١٦٧.
١٩٧  Bloch: p. of H. V. III p. 1144.
١٩٨  انظر نص هذا الحديث في مبدأ الأمل، ص١١٤٦.
١٩٩  جوته، من قصيدة «حنين مبارك» عن ترجمة د. عبد الغفار مكاوي في «النور والفراشة»، القاهرة، دار المعارف، اقرأ، مارس ١٩٧٩م، ص٩٣.
٢٠٠  عبد الغفار مكاوي، المرجع السابق، ص١٣٩.
٢٠١  كانط، نقد العقل العملي، عن جاك شورون، المرجع السابق، الترجمة، ص١٥٦.
٢٠٢  المرجع السابق، ص١٥٧.
٢٠٣  Bloch: p. of H. V. III. p. 1162.
٢٠٤  انظر نص رسائل جوته وشيللر في مبدأ الأمل، ج٣، ص١١٦٣.
٢٠٥  عبد الغفار مكاوي، النور والفراشة، ص١٣٤.
٢٠٦  Bloch: p. of H. V. III, p. 1164-1165.
٢٠٧  جوته: فاوست، من مقدمة الترجمة العربية، ص٢٨٩.
٢٠٨  المرجع السابق، النص المسرحي الثاني، ج٣، من الترجمة العربية، ص٢٧٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤