الفصل الخامس

تجليات الأمل في يوتوبيات التقنية والكشوف الجغرافية والفنون

بعد أن أقام بلوخ نسقه الفلسفي للأمل وأسسه أنثروبولوجيًّا وأنطولوجيًّا، حاول أن يبحث عن بذور الأمل في التاريخ البشري بأكمله وفي مظاهر الحضارة الإنسانية، ومن ثَمَّ أخذ يبحث عن تجليات اللحظة الممتلئة في التفكير اليوتوبي عبر التاريخ البشري. فهل تجلى الأمل — بما ينطوي عليه من اكتشاف إمكاناتٍ ثوريةٍ كامنة في الواقع الفعلي وقادرة على استشراف المستقبل — فيما يمكن تسميته باليوتوبيات التاريخية، أي في تاريخ التقنية والكشوف الجغرافية والفنون المختلفة من ناحية، وفيما أبدعه الخيال البشري وأطلق عليه اليوتوبيات الاجتماعية من ناحيةٍ أخرى؟ قبل تتبع هذه التجليات اليوتوبية لا بد من التوقف قليلًا عند المصطلح نفسه، أي اليوتوبيا.

كان توماس مور أول من استخدم كلمة اليوتوبيا التي تعود إلى الأصل اليوناني من امتزاج كلمتي لا مكان no place والمكان الطيب Good place. وأصبح للكلمة فيما بعدُ معانٍ كثيرة غير التي استخدمها بها مور، فصارت تطلق على كل إصلاحٍ سياسي أو أية تصوراتٍ فلسفيةٍ مستقبلية، أو حدوسٍ علمية وفنية. ولكن اليوتوبيا تظل تصورًا فلسفيًّا — مهما تنوعت أشكالها الأدبية والعملية — لمجتمعاتٍ مثالية يتحقق فيها الكمال بصفةٍ عامة، كما تنشد انسجام الإنسان مع نفسه ومع الآخرين ومع مجتمعه، أي أن الفكر اليوتوبي معنيٌّ بالدرجة الأولى بخلق أفكار وتصورات للانسجام الاجتماعي.١
وقد تنوَّعت الأشكال اليوتوبية فكانت صورًا لمجتمعاتٍ خياليةٍ مثالية يتحقق فيها الكمال أو تقترب منه، وتم التعبير عنها في أشكالٍ أدبيةٍ مختلفة منها المقالة والقصة والرواية والقصيدة، أو في شكل نظرياتٍ سياسية تقدم صورة نظامٍ سياسيٍّ نموذجي بمؤسساته المختلفة مع تصورٍ كامل لكل تنظيمات الحياة (كما عند توماس مور)، أو في بعض النظريات في فلسفة التاريخ (كما عند كوندورسيه). ويلعب الخيال الدور الأكبر في كل الأشكال اليوتوبية بدءًا من جمهورية أفلاطون وانتهاءً بروايات الخيال العلمي. وإذا كان هناك عصورٌ تاريخية تميزت بالطابع اليوتوبي أكثر من غيرها، إلا أنه ليس صحيحًا ما يزعمه البعض — وبخاصة الماركسيون الرسميون — عن اختفاء التفكير اليوتوبي في العصر الحديث والمعاصر. وها هو أوسكار وايلد يعترف بالتفكير اليوتوبي ويذهب إلى القول بأنه لا توجد خريطة للعالم ما لم تنظر بعين الاعتبار لدولة اليوتوبيا.٢

وإذا كانت كلمة اليوتوبيا لم تنشأ إلا في القرن السادس عشر مع توماس مور، فإن التفكير اليوتوبيي نفسه قد نشأ مع بدايات التفكير البشري، بل يمكن القول — مع بلوخ — إن الحلم بحياةٍ أفضل بدأ مع صرخة الجوع، فكان هو الدافع الأول للتفكير اليوتوبي، إن الإنسان المتخم بالشبع لا يصرخ ولا يجأر بالشكوى، ومن لم يعانِ الجوع لا يمكنه الحلم برغيف الخبز. وكان الجوع هو الحافز على العمل، فالطبيعة تمنحنا الهواء والتربة، ولكن الإنسان لا يستطيع أن يعيش على الهواء وحده، كما أن التربة تحتاج إلى الحرث والغرس، والخبز لا ينمو فوق الأشجار إلا في الأحلام والحكايات الخرافية، لأن الواقع المادي يتطلب من الإنسان الكدح والكد لإشباع جوعه. ولا يوجد محرك لصنع أو خلق مشروعٍ يوتوبي يفوق في قوَّته قوة الاحتياج، ولهذا كانت الأفكار والأحلام والخيالات اليوتوبية استجابة للحاجات الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات البشرية على مر العصور. وتكمن أصول التفكير اليوتوبي في الأساطير والحكايات القديمة عن جنة عدن أو غيرها؛ إذ تصور هذه القصصُ الموروثةُ الانسجامَ المطلق والسعادة الفطرية التي كان يحيا في ظلها البشر الأولون، وبقي حنينهم الدائم إلى استعادة هذه العصور الذهبية.

ويتطور التاريخ البشري أيضًا من منظورٍ يوتوبي، فكل ما في العالم يدل على الغاية اليوتوبية وهي هدف التاريخ، ولا يخلو تاريخ العلوم والفنون والكشوف الجغرافية من آثار النزعة اليوتوبية. فلم تكن لهذه العلوم والفنون أن تتطور لولا ما تضمنته من أمل في الجديد والأفضل، أي بمعنًى آخر لولا ما كان فيها من عنصرٍ يوتوبي يلقي الضوء على إمكانات الواقع الكامنة ليظهرها إلى النور. فما هي إذن تلك الإمكانات الكامنة في هذا العنصر اليوتوبي فيما أبدعته الحضارة البشرية من خيالات وتصوراتٍ مختلفة للأشكال اليوتوبية التاريخية التي ظهرت في شكل يوتوبيات للتقنية، وأخرى للجغرافيا أو الكشوف الجغرافية، وأخيرًا في الأشكال اليوتوبية في تاريخ العمارة والفنون؟ ومن الطبيعي أن يكون عرض هذه اليوتوبيات من تلك الزاوية التي يبرق فيها شعاع الأمل الذي يستشرف الجديد القادم في المستقبل وسيكون الحكم عليها بقدر ما تحمل من أمل.

أولًا: التجلي اليوتوبي في تاريخ التقنية

«الحاجة أمُّ الاختراع.» أثبت بلوخ صدق هذه المقولة بأن تتبع فكرة الاختراع أو الابتكار منذ بداية الخليقة، وهي الفكرة التي تولَّدت من الحاجة، وقد استطاع الإنسان أن يحتفظ بوجوده وبقائه بفضل العمل والتخطيط لشيءٍ أفضل، ولو لم يسلح الإنسان البدائي نفسه أمام الذئاب لكان الجنس البشري قد انتهى وحُكم عليه بالفناء. فالحاجة إلى المحافظة على الوجود أو البقاء جعلت كل ما على ظهر الأرض يحتمي من العراء في شيءٍ ما يصنعه أو يبتكره؛ بنى العصفور العش، وصنع الحيوان العرين، وبنى الإنسان الكهف الخشبي أو الحجري، وأشعل النار ليُنضج طعامه، واخترع الأدوات ليُلبِّي احتياجاته اليومية.٣

(١) التقنية القديمة

بدأت التقنية في العصر اليوناني مع الميثولوجيا، وبخاصة في أسطورة برومثيوس سارق النار من الآلهة ليعطيها للإنسان مانحًا إياه سر التقنية، ومضيئًا له الطريق بالعقل الذي كان نقطة انطلاق لكل التغيرات المادية المستحدثة. وتوسط هذا العقل بين الذات البشرية المقهورة وبين الطبيعة التي فرضت سلطان الضرورة العمياء على الإنسان، وظلت أسطورة برومثيوس في تاريخ الفكر البشري رمزًا للتمرد، ورغبة وأملًا في التحرر من سيطرة الطبيعة. وتوسطت الطاقة — التي منحها برومثيوس للبشر — لتحول الإنسان المقهور إلى إنسانٍ صانع أو فاعل يتَّحد مع الطبيعة الكونية.

ولم يكن للاختراع أو الابتكار أن يتم لو لم يتمتع الإنسان بمخيلةٍ خصبة وخيالٍ خلاق، وحتى عندما عجزت قدرات الإنسان العلمية والمادية — في العصور القديمة والوسيطة — عن اختراع أشياءَ عينية لتحقيق حياةٍ أفضل، لم تعجز مخيلته عن اختراعها في الخيال، وهذا ما تؤكده آداب الشعوب التي حاولت بالخيال — على أقل تقدير — تخطى حدود المكان والزمان لرسم صورةٍ مفعمة بالأماني لحياةٍ إنسانيةٍ أفضل. كما تؤكده الحكايات الخرافية Fairy tales التي استخدمت الأساليب السحرية في تلبية الاحتياجات البشرية، ففي هذه الحكايات لعبت المخيلة دورًا كبيرًا في رسم صورٍ خيالية لاختراعاتٍ تقنية توسطت بين ما هو موجود وبين ما تحلم البشرية بوجوده بحيث جعلت المستحيل ممكنًا ولو على مستوى الخيال. ونجد أمثلة من هذه الحكايات في التراث الشعبي العربي، لا سيما في حكايات ألف ليلة وليلة مثل علاء الدين والمصباح السحري، وفي التراث الألماني نجد اختراع المائدة السحرية في حكايات الأخوين جريم Grimm، والصفارة الفضية السحرية في حكايات هاوف Hauf الفنية التي تُنفِّذ لصاحبها ما يريد بالسحر. كذلك نجد أمثلة لها في الحكايات الخرافية التي اخترعت البساط السحري الذي يطير بصاحبه إلى حيث يشاء ووقتما يشاء، إلى جانب العديد من الحكايات التي وردت في آداب الشعوب المختلفة،٤ مثل هذه الأشياء السحرية في الحكايات الخرافية مزجت العقل بالخيال وقدمت صورًا تقنيةً خيالية، بحيث يمكن القول بأن السحر في هذه الحكايات هو التقنية في ثوبها القديم، وترجع قيمة هذه الحكايات إلى أنها تمثل مستقبل القدرة البشرية.
في عصر النهضة تحوَّل السحر الذي لعب دورًا هامًّا في الحكايات الخرافية إلى سحر من نوعٍ مختلف، إذ ارتبطت الكيمياء بالسيمياء،٥ واستخدم السحر والتنجيم لفك رموز الطبيعة. ويتصدر باراسلس (١٤٩٣–١٥٤١م)، الطبيب والفيلسوف، العصر الذي اختلطت فيه الكيمياء والسيمياء لدرجة يستحيل معها فصل أحدهما عن الآخر، ولكن السيمياء عنده لا تعني فقط استخلاص الذهب من المعادن الخسيسة، بل تعني أيضًا بالنسبة للإنسان — أو العالم الصغير — صحة الجسد، كما تعني بالنسبة للكون — أو العالم الكبير — استخلاص النور الأصلي. وتقوم فلسفة باراسلس على الفكرة الأساسية للتوافق بين العالم الداخلي (الميكروكوزم) والعالم الخارجي (الماكروكوزم)، لأن الداخلي ليس بإمكانه أن يعرف الطبيعة، والطبيعة ليس بإمكانها أن تعرف نفسها إلا إذا كان الذي يعرف سليمًا غير مريض، ومصطلح «المرض» لا يُفهَم هنا بالمعنى الطبي حصرًا، بل يشير إلى أن الإنسان يجب ألا يكون مغرورًا ممتلئًا بذاته، ولا يحبس نفسه في قفص فرديته، إن الطبيب ينطق هنا بلسان الفيلسوف في قوله: يجب على الإنسان أن يسترجع صحته بأن يمتثل لمعرفة للطبيعة، كما يجب عليه أن يُتوِّج معرفته للطبيعة بأن يعيد لها صحتها، وهكذا تظهر مقولةٌ جديدة تمامًا، هي مقولة الشفاء الذاتي للعالم.٦
هكذا يرى باراسلس أن المرض ليس مجرد خلل، وإنما هو نقيضه أيضًا أو «لا-كمال»، ويتجه الإنسان — بوصفه أكبر مشروع في الخليقة — ليقود الأشياء بتحسينه لها نحو مآلها في الطبيعة. هذا هو الميلاد الجديد الفاعل، النهضة النشيطة: فالإنسان المخترع «يفعل» على الطبيعة، ينطق كلمة «ليكن» معطيًا إياها شكلًا سحريًّا. وعلى السحر والسيمياء والتنجيم أن تفك رموز الطبيعة؛ فسيمياء باراسلس ما هي إلا صورٌ رمزية في الطبيعة وبإمكان الإنسان أن يسهم في تفتحها، أي بإمكانه أن يقود العالم نحو جوهره. وبالسحر — بوصفه الشكل الأقدم للتقنية — يتم تحويل العالم، والطبيب يدعو الفيلسوف لخلق إنسانٍ أكمل من الذي خلقه سيد العالم. وللوصول إلى ذلك يجب على الإنسان أن يتسلح بجرأةٍ قصوى، وأن يقتنع بالعظمة الفائقة لذكائه الخلاق، هذا الذكاء المبدع يدعوه باراسلس «التخيل» أو «الخيال» وهو القوة المتفائلة.٧
ثم تأتي سيمياء ياكوب بوهمه (١٥٧٥–١٦٢٤م) لتنظر للطبيعة نظرةً كيفية، في رؤية تتعارض بشكلٍ ساذج مع العلم الطبيعي الميكانيكي. لقد قدَّم بوهمه وصفًا تفصيليًّا لواقع الحياة الطبيعية، فحدد لها سبع قوى هي بمثابة كيفيات أو أشكالٍ وجوديةٍ ديناميكية تدور حول نفسها في العالم، أو بالأحرى هي التي تؤلف العالم في صيرورةٍ مستمرة، وهذا يفترض بالضرورة أن الخلق لم يتم دفعةً واحدة، بل يتجدد في كل لحظة، والقوة الأولى هي الحموضة أو العنصر القابض، ينضم إليه العنصر المحرض أو القوة الثانية وهي الحركة، والقوة الثالثة، وهي سلبية في جوهرها، هي القلق أو النار المضطرمة تحت الرماد، أو هي الكبريت الذي ما زالت النار راقدة في أعماقه.٨ ويسمي بوهمه القوى الأساسية الثلاث للواقع الطبيعي بالمصطلح السيميائي (الكيميائي) المستعمل آنذاك: سالنتير.٩ من هذه القوى الثلاث تأتي القوة أو الكيفية الرابعة وهي النار المندفعة، وهي تَعيُّن من تعيُّنات الطبيعة يظهر في شكلَين مختلفَين، أحدهما مظلمٌ سلبي يتمثل في نار الغضب التي تعبر عن نفسها في شكلٍ مدمر كإعصار أو صاعقة أو حريق وتسبب الدمار والفزع، والشكل الآخر إيجابي، فهذه النار ذاتها هي التي تولد الحرارة والنور. إنها هي نار الموقد التي تجمع البشر، وهي التي تدفئ الكون وتضيء كل شيء، وهي الشمس التي تحمل إلينا الربيع وتجعل الحياة تتفتح. إذن فالنار هي التي تلد القوة الخامسة وهي الضوء. ويتبع الضوءَ قوةٌ أساسية سادسة هي الصوت الذي يرافق الضوء دائمًا، ومع الصوت تولد الكلمة التي تسهل الاتفاق والتفاهم، ومع نهاية هذه الولادات الست يبزغ الكيف السابع وهي الجسمية، أي الطبيعة المشكلة في جملتها وتمامها. وهو الامتلاء لكل الكيفيات السبع وما يسمى بالخلق أو الخليقة.١٠

(٢) التقنية الحديثة

في القرنين السابع عشر والثامن عشر نشأت في أوروبا الجمعيات السرية.١١ (مثل جمعية الصليب الوردي Rosenkreutz والماسونية) التي زعمت أنها تملك معرفةً سرية بالطبيعة والدين، ومن المعروف أن العلم في القرن السابع عشر والثامن عشر كان لا يزال تابعًا للعقيدة الدينية، ولم يتحرر من أسرار الدين إلا في القرن التاسع عشر حتى انفصل كلٌّ منهما عن الآخر بشكلٍ نهائي في القرن العشرين. وفي القرن الثامن عشر انتشرت المذاهب المادية الآلية التي نظرت إلى الإنسان على أنه آلة، كما أن اختراع الساعة كان له أثر على الإحساس بالزمن في بدايات المجتمع الصناعي الأول، وارتبطت النزعة المادية الآلية بتأسيس المنهج العلمي الرياضي في تفسير العالم؛ مما انعكس على التفسير الآلي للإنسان، وتصور العالم والجنس البشري بوصفهما آلةً دقيقة تحكم قوانينها الحتمية العلمية، ولعل أكثر من عبر عن هذا الاتجاه هو الفيلسوف المادي الفرنسي لاميتري La Mettrie (١٧٠٩–١٧٥١م) الذي تبنى المادية الآلية المتطرفة واعتبر الإنسان آلة حتى إن أشهر كتبه يحمل هذا العنوان «الإنسان الآلة» عام ١٧٤٨م.
ظلت يوتوبيا التقنية أسيرة الميثولوجيا والسحر والسيمياء والتنجيم والاهتمام بأوضاع الكواكب والنجوم لحظة تحويل المعادن أو صنع الذهب … إلخ. حتى إن يوتوبيا توماس مور الليبرالية كان بها إشاراتٌ خفية لهذه السيمياء. كما لم تخلُ يوتوبيا كامبانيلا من أسر علم التنجيم، على الرغم من أنها قدمت تصورًا لاختراعاتٍ علميةٍ عديدة اهتمت بها القرون التالية لها. ومع فرنسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦م) بدأت دراسةٌ خاصة ليوتوبيا من نوعٍ جديد لم يكن معروفًا في زمنه وهي «يوتوبيا التقنية»، وتحررت التقنية من أسرها السحري؛ إذ نبذ بيكون السيمياء وعارض المنهج الاستنباطي، ووضع المنهج الاستقرائي، ودعا إلى التجربة في كتابه «الأورجانون الجديد» عام ١٦٢٠م. وكانت أطلنطا الجديدة Nova Atlantis أول يوتبيا للتقنية أطلق عليها بلوخ اسم «مختبر يوتوبي» فاقت في خيالها ما جاء في الحكايات الخرافية، وتميزت عن غيرها من يوتوبيات اجتماعية متخلفة في مستواها التقني. وقد تميزت يوتوبيا بيكون أيضًا بالتفاؤل فكشفت عن إمكاناتٍ هائلة للتطور التقني، حتى لتُعدُّ أول يوتوبيا اهتمت بالإنتاج التقني من أجل حياةٍ أفضل، ومجدت الاختراع والاكتشاف.
وظلت «أطلنطا الجديدة» زمنًا طويلًا هي الكتاب الوحيد في قصص الخيال العلمي Science fiction وهي عبارة عن جزيرةٍ سعيدةٍ نائية أُطلق عليها اسم «بنسالم»، انعزل أهلها عن العالم ولم يصلها إلا من ضل سبيله من الرحالة. أقام العلماء من أهل الجزيرة «دار سليمان» على نمط «هيكل سليمان» كما ورد في التوراة؛ لتنظيم البحث العلمي والاكتشاف والاهتمام بما يمكن تسميته بفن الاختراع، بحيث يمكن أن يطلق على هذه الدار مصطلح أكثر دنيوية وهو «جامعة تقنية»، فما حققه سليمان بالمعجزات حققه أهل الجزيرة بالعلم. وفي هذه المؤسسة التقنية واليوتوبية الأسطورية تُصنع أشياءُ مدهشة، فهي تضم معهدًا لعلم توليد النباتات أي زراعة أنواعٍ مختلفة من النباتات والفواكه في المناطق الحارة، ومركزًا علميًّا لتربية الحيوانات وتهجينها، ويمارس العلماء التشريح في هذا المركز، كما أن هناك فرعًا للبيوكيمياء (الكيمياء الحيوية) لفحص نوعية الأطعمة واللحوم. واخترع العلماء محركًا، وقدموا وصفًا للآلة البخارية والميكروسكوب والتلسكوب والميكروفون، وتخيل علماء أهل الجزيرة فكرة التليفون بوصف شبكة أنابيب تحت الأرض خاضعة لضغطٍ هوائي يسهل انتشار الصوت.١٢
اهتم بيكون بأن يطوع العالم الخارجي لما تتطلبه الحاجات البشرية عن طريق الاختراعات، وفلسفته في ذلك تتلخص في هذه الحكمة: السيطرة على الطبيعة أو قهرها بالطاعة. وقد اقتضت هذه الحكمة معرفةً كاملة بالقوانين الطبيعية واستغلالها أو ما يسمى بتطبيع الطبيعة.١٣ ومعرفة أهل «أطلنطا الجديدة» بالطبيعة وتطويعها تستهدف الإنسان، فكل شيء في هذه الجزيرة صُنع من أجل الإنسان وتوفير حياةٍ أفضل له، التقنية هنا مسخرة لبناء «عصر الإنسان» ولم تجلب عليه الكوارث التي ستظهر في عصورٍ متأخرة. ولقد وضعت «أطلنطا الجديدة» معالم الطريق، وإذا لم يكن بيكون نفسه فاتحًا في هذا المجال، إلا أنه كان منقبًا ورائدًا مستطلعًا يسجل الأماكن التي سيكون ممكنًا ذات يوم احتلالها. قرأ بيكون واقع عصره ودرسه بالعلم — وليس بالسحر أو التنجيم — فاستطاع أن يستخرج إمكاناته الكامنة التي يمكن تحقيقها في المستقبل. ويتميز بيكون بأن الحقيقة التي يسعى إليها ليست من أجل ذاتها ولا من أجل غاياتٍ تأملية، لأن مفتاح المعرفة هو أداة تحسين العالم، وتحقيق مملكة البشر، على نحو ما وضع باراسلس المعرفة في خدمة الشفاء، وكما صار الفردوس دنيويًّا «مملكة بشرية» عند ياكوب بوهمه وغيره ممن جعلوا من الأرض مكانًا أفضل للإقامة.١٤
عندما ظهرت «أطلنطا الجديدة» ظهرت في نفس الوقت «مدينة الشمس» Civitas Solis لتوماسو كامبانيلا (١٥٦٨–١٦٣٩م). وفي الجانب التقني من هذه اليوتوبيا امتدح كامبانيلا في مدينته النهضة العلمية، ودعا إلى إثراء الاكتشافات العلمية والاختراعات، وقد كان لأهل مدينته اختراعات تجاوزت النهضة الأوروبية في ذلك الحين، إذ ابتكروا فن الطيران بدون أجنحة، واخترعوا منظارًا لاكتشاف كواكب كانت مجهولة في عصرهم، وصنعوا سفنًا تطوف البحار بدون مجاديف ولا أشرعة بل بفضل مراوح وعجلاتٍ ميكانيكية الحركة. وتميز كامبانيلا بحدسٍ يوتوبي أضفى على تقنيته رؤيةً مستقبلية، وحقق التقدم العلمي والثورة الصناعية بعض رسوم اليوتوبيا التقنية كما تخيلها كامبانيلا، لا باعتبارها تنبؤاتٍ صادقة، بل من حيث هي صور الأمس المرجوَّة.١٥

وعلى الرغم من أن كامبانيلا قدَّم في «مدينة الشمس» بعض الاختراعات العلمية السابقة لعصرها، إلا أنه لم يكن له عقل بيكون المفعم بالقوة. فيوتوبياه لا تنطلق في الطبيعة الموجودة، بينما تنطلق «أطلنطا الجديدة» إلى ما وراء الطبيعة وتتسم بالتفاؤل التقني، على العكس من يوتوبيا كامبانيلا التي يحكمها نظامٌ صارم وثابت كوضع الكواكب الثابتة. إنها تقوم على علم التنجيم، فكل شيء يجب أن يوجد في موقعه، وكل شيء محدد من أعلى ومحكم في موضعه طبقًا لمواضع النجوم. وهي يوتوبيا لا تسمح بأي قدر من الحرية، بل لم تستطع أن تتحرر من أسر «العلوم السرية» التي سادت العصر الوسيط وبداية عصر النهضة فوقعت في أسر التنجيم والسحر إلى حدٍّ كبير.

وجاء القرن السابع عشر ليُكسب الطبيعة صورةً جديدة — بعد أن توَّجها بيكون ملكة للعلوم — صورة لم تنظر للطبيعة ككائنٍ حي وإنما كآلة أو ماكينة أو ساعة، مصداقًا لقول عالم الكيمياء الفيلسوف روبرت بويل إن الطبيعة أشبه بساعةٍ نادرة كتلك الموضوعة في ستراسبورج حيث صنع كل شيء بمهارة … وتؤدي الساعة دورها المرسوم بفضل تصميمها العام والمبدئي الذي وضع للآلة برمَّتها.١٦ في هذا القرن انتهت النظرة الغائية وسادت النظرة الآلية للطبيعة التي نُظر إليها نظرةٌ جديدة، وهي أنها ذات تكوينٍ رياضي عندما قال جاليليو: الطبيعة مكتوبة في هذا الكتاب الكبير، أعني الكون، وهي أمامنا على الدوام نستطيع أن نحملق فيها، ولكن الكتاب لن يُفهم إلا إذا عرف المرء كيف يفهم لغة الكتاب، وقرأ الحروف التي كُتبت بها، فهو مكتوب بلغة الرياضة، وحروفه في المثلثات والدوائر وغيرها من الأشكال الهندسية، وبغيرها لن يستطيع بشر فهم كلمةٍ واحدة من هذا الكتاب، فبغيرها سنتخبط في متاهات الظُّلمة.١٧
ولكن قوانين العلم الطبيعي الميكانيكي الذي يتصف بالآلية لم ترتبط بعلاقةٍ جدلية مع البناء التحتي للمجتمع، لأن الميكانيكا الكلاسيكية لا تسمح بالتناقض بل إنها قدَّمت — على لسان صاحبها جاليليو — تصورًا ثنائيًّا للطبيعة يقوم على التفرقة بين الخصائص الكمية والخصائص النوعية للأشياء. الأولى تختص بمجال العلم، والثانية بالميتافيزيقيا؛ مما كان له أثره على التفكير الفلسفي في بدايات العصر الحديث، فجاء ديكارت (١٥٩٦–١٦٥٠م) بتفرقته المشهورة بين العقل والمادة، وجاء كانط من بعده ليقول بالنومينا والفينومينا. وهكذا اختفى مفهوم الطبيعة الذي قدَّمه جوردانو برونو وبيكون نفسه. وجاء جاليليو وديكارت وكانط ليتحدوا في فكرة إن ما ينتج بالطريقة الرياضية هو فقط ما يمكن التعرف عليه، وما يُفهم بشكل ميكانيكي هو فقط المفهوم علميًّا، ولكن إذا نظرنا إلى السُّكَّر كسلعةٍ مجردة وجدناه مختلفًا اختلافًا كليًّا عن حقيقة السكر. ومن هنا نشأت — في رأي بلوخ — التقنية البرجوازية التي أقامت علاقتها مع السلعة الخالصة ومقدار ما تحققه من ربح لأن الاقتصاد البرجوازي — كما يقول برشت في مسرحية «الإنسان الطيب في ستشوان» — لا يهتم بالأرز بل بسعره. إنها علاقة اغتربت منذ البداية عن قوى الطبيعة التي تعمل بفاعلية من الخارج، وأهملت هذه التقنية حقيقةً أساسية هي أنه لا بد للإنسان أن يعرف الطبيعة معرفةً كاملة لكي يروضها ويجعلها تخدم إرادته.١٨ وعندما ابتعد العلم الطبيعي عن هندسة إقليدس وبدأ ما يسمى بتفكك-النظام de-Organization بدأت تبتعد «الذات» الإنسانية عن «الذات» الطبيعية. وبدت الطبيعية أكثر ابتعادًا عن الإنسان الذي سيطر عليه الشعور بأنه غير منسجم أو متناغم مع الطبيعة، وبدأ يشعر حيالها بالرهبة والعظمة والتوقير وأنها تتحدى عقله وخياله. واستفحل هذا الشعور بالاغتراب بحيث بدت الطبيعة مفرغة من المعنى الإنساني، وفقدت الذات الإنسانية اتصالها بالطبيعة.
للأسباب السابقة لم تعد التقنية تتوسط بين الذات من ناحية والموضوع من ناحيةٍ أخرى، أي لم تتحول «الأشياء في ذاتها» إلى «أشياء لنا» وبذلك لم تصبح التقنية عينية، لأن هذه الأخيرة — أي التقنية — لا يمكن لها أن تستغني عن معطيات الطبيعة للأسباب الآتية: لا يمكن أن نسقط من حسابنا ما تمنحه الطبيعة للتنقية من موادَّ أولية أو موادَّ خام استخدمها الإنسان في الكيمياء الصناعية لاستحداث موادَّ جديدةٍ أخرى أو استخلاصها بشكلٍ مختلف (كتصنيع البترول من الفحم … إلى آخر ما تنتجه الكيمياء الصناعية) أو إحداث تطورٍ سريع على المواد الخام التي تمر بحالة من التطور الطبيعي البطيء، وذلك بعد أن هجرت الكيمياء الصناعية قوانين الميكانيكا الكلاسيكية، ولا يمكن أن نسقط من حسابنا أيضًا قوانين الطبيعة التي أثبتت كل النظريات العلمية أن لها سمةً موضوعية كانت عونًا للقوانين الاقتصادية، وأنه مهما تغيرت الظروف الاقتصادية فلا يمكن لها القفز فوق هذه القوانين ولا تخطِّيها. وعلى الرغم من أن هذه القوانين ضرورية وحتمية وخارجة عن إرادة الذات البشرية بل وممتدة أمامها، وعلى الرغم أيضًا من أن هذه القوانين على جانبٍ كبير من الفعالية، إلا أن البشرية لا تتحول إلى عبد لها، بل تتوسطها وتتفاعل معها لترفع الاغتراب بين الذات والموضوع.١٩
نظر الفكر البرجوازي إلى هذه القوانين على أنها ضرورةٌ خارجية غير متوسطة مع العامل الذاتي بل تعمل ضدها، فنشأ العداء للضرورة وللممكن وللقوانين الموضوعية بصفةٍ عامة، وهكذا ظهرت الضرورة أو الحتمية للوعي البرجوازي المجرد الذي بقي وعيًا مغتربًا. وهذا على عكس ما نجده في الفكر الماركسي الذي فسر قوانين العلم، سواء كانت قوانين العلم الطبيعي أو قوانين الاقتصاد السياسي، بوصفها صيرورةً موضوعية تؤثر على إرادة الكائنات البشرية بحيث يمكنهم أن يكتشفوا ويتعرفوا ويبحثوا ويأخذوا بها في سلوكهم ويستغلوها في منفعة المجتمع. وهذا ما عبَّر عنه إنجلز بقوله: لا تكمن الحرية في الاستقلال الحالم عن قوانين الطبيعة، بل في التعرف على هذه القوانين، وفي الإمكان المتاح لجعلها تعمل بفاعلية طبقًا لخطة ومن أجل أهدافٍ محددة.٢٠
وتسير بصيرة هيجل في هذا الاتجاه، على الرغم من عدائه الذي لا يُنكَر للطبيعة ورفضه للحركة الداخلية للطبيعة، إلا أنه فهم على وجه الدقة التحكم في قوانين الطبيعة عن طريق الدهاء: تحولت هذه السلبية إلى إيجابية … حيث إن فاعلية الطبيعة نفسها وانتظامها الذي يشبه انتظام الساعة يتدخل الإنسان ويحملهما دهاؤه على تحقيق أشياءَ مختلفة عما كانت تريده الطبيعة نفسها بحيث تستحيل أعمالها العمياء إلى أعمالٍ هادفة أي إلى عكس ما كانت تريده الطبيعة.٢١ فالطبيعة بالنسبة لهيجل عمياء، والإنسان يتوسط لكي يقودها. وتعبر فلسفة هيجل في النص السابق عن فلسفة الأنا والسيطرة المطلقة وتسخير كل شيء للأنا البشرية وتتفق عبارة شيللر التي تقول «مباركة هي قوى الطبيعة إذا أحسن الإنسان توجيهها.» تتفق هذه العبارة مع نص هيجل السابق وتفهم في نطاق المنفعة المستمرة من الطبيعة. والواقع أن كلًّا من شيللر وهيجل يعبران في هذه النقطة عن وجهة النظر الرأسمالية، وأن التصور الرأسمالي للتقنية في مجموعها يمثل السيطرة أكثر مما يمثل المودة التي عبر عنها جوته في فاوست مستلهما عصر النهضة: «أيها الروح الجليل، لقد وهبتني كل شيء، أجل كل ما طلبت، فليس سدًى أنك وأنت في النار ولَّيت وجهك نحوي.» ففي أبيات جوته هذه يعبر عن ثقته المطلقة في الطبيعة التي تدير له وجهها كصديق، على العكس مما عبرت عنه عبارة هيجل السابقة التي تمثل فكرةً استعمارية إلى حدٍّ كبير.٢٢
إن تدخل الذات البشرية في عالم الصيرورة واختراقها لعالم الضرورة الذي تفرضه قوانين الطبيعة لهو من الأمور الأساسية والملموسة التي يمكن اقتفاء آثارها في العالم الخارجي، وذلك كما قال ليوناردو دافنشي وعبَّر في لوحاته: «إن قوانين الطبيعة تفرض على الرسام أن يدمج نفسه داخل روح الطبيعة ويجعل من نفسه وسيطًا بين الطبيعة والفن.» وكما عبر ماركس أيضًا عن هذا المعنى نفسه في كتاب العائلة المقدسة: «بين الصفات الملازمة للمادة تعتبر الحركة هي أهم هذه الصفات وأشدها تميزًا، وليس المقصود هو الحركة الآلية أو الرياضية، وإنما المقصود هو النزوع والروح الحية والتوتر وعذاب المادة، على حد تعبير ياكوب بوهمه.» لذلك ظلت المشكلة الأكثر إلحاحًا في العصر البرجوازي هي مشكلة الاتصال بين الذات الإنسانية المبدعة للتقنية وبين الطبيعة التي تملك معطيات التقنية، كما ظلت التقنية في العصور البرجوازية تعتمد فحسب على استغلال قوى الطبيعة، ولم تعتمد على إقامة علاقة بين الكائنات البشرية والمادة العينية المستغَلة. إن برومثيوس عندما سرق النار من الآلهة ليمنحها للبشر، قد سرق معها الحكمة الطبيعية أيضًا. واكتسبت التقنية جذورًا جديدة في إنتاجٍ صناعي للمواد الأولية، أي أنها اقتحمت وتوسطت نظام الطبيعة أو نسقها لتطوره.٢٣
إن الأشياء قابلة للتغيير لا في ظاهرها فقط، بل من جذورها أيضًا. وكل تقنية تتطلب إرادة التغيير، لأن الظاهرة — رغم وجودها الموضوعي المعترف به — تظل بدون تدخل الذات غير مرتبطة بالإنسان وغريبةً عنه، أي تظل ظاهرةً بدون ذات. فالذات مفتقدة في التفكير الكمي والميكانيكا الكلاسيكية، أما في الميكانيكا القائمة على الهندسات اللاإقليدية فقد أصبحت ترابطًا حرًّا لقوانين ذات طابعٍ نسبي. ولقد أقام كانط الترابط الفيزيائي للقوانين على الذات المتعالية على نحو ما فعل مع كل ترابطٍ آخر كما جاء في عبارته المشهورة في نقد العقل الخالص «إن الأنا أفكر يجب أن تكون قادرة على مصاحبة جميع تمثلاتي.» وهذا بطبيعة الحال لا يدخل الذات في آليات الطبيعة بل تبقى الذات عاجزة أمام التصورات الميكانيكية عن الطبيعة. هي حسب التعريف متعالية على الطبيعة وليست ملتحمة بها التحام ذاتٍ تجريبيةٍ عضوية بالذات الطبيعة. ويرجع هذا إلى إيمان كانط بأن نسق نيوتن الذي تحكمه الآلية الصارمة هو نسقٌ موضوعيٌّ تام، وإن القوانين الطبيعية ومقولاتها الأساسية كالعلِّية موجودة في العقل بشكلٍ قبلي.٢٤ والعلماء لا يكتشفون في الطبيعة إلا ما سبق أن وجده العقل في نفسه كما أوضح كانط هذا في مقدمته للطبعة الثانية لكتابه «نقد العقل الخالص».
وظلت الذات البشرية مغتربة عن الذات الطبيعية حتى اكتشفت الماركسية — في رأي بلوخ — الذات التاريخية في الإنسان العامل. وأضفت الإرادة بمفهومها الماركسي «الذات» على الصيرورة الطبيعية، فتوسطت الكائنات البشرية مع هذه الذات، كما توسطت الذات مع الكائنات البشرية، وأخيرًا توسطت هذه الذات مع نفسها. إن الإرادة التي تكمن في كل بناء فيزيائي-تقني تتطلب ذاتًا اجتماعية وراءها، وذاتًا أمامها تتوسط معها. فالذات الأولى بوصفها قوةً إنسانية لا يمكنها أن تكون مؤثرة بشكلٍ كافٍ، ولا يمكن للذات الثانية بوصفها الطبيعة المطبوعة أن تتوسط بشكلٍ كافٍ، ولكي تتحقق اليوتوبيا فلا بد للذات البشرية أن تشارك الذات الطبيعية وتتحالف معها من أجل إنتاج تقنيةٍ عينية، فالذات البشرية داخلها قوةٌ هائلة لم تتفجر بعدُ، وهذه القوة التي تسمى بالإرادة يطلق عليها بلوخ اسم «إليكترون الذات البشرية». لكن السؤال الآن: كيف تنطلق الإرادة من مكمنها لتعمل في التاريخ؟ وهل تصيب هدفها دائمًا؟ لا بد للإجابة عن هذا السؤال من تتبع الإرادة البشرية طوال تاريخها، فنموذج الإرادة الأوروبية هي إرادة القوة العسكرية الإسبرطية أي في الانضباط والطاعة وسلطة الإرادة القادرة على القتال. غير أن هذه الإرادة لا تخرج عن كونها لم تعرف التوسط، ولذلك لم تكن إرادةً حرة تفعل ما تمليه عليها الحرية، بل إرادة عمياء تنصاع وهي معصوبة العينين لتحقيق الهدف الذي تؤمن به، وإرادة متعصبة لم ترَ الحد الأوسط للأشياء، وكل ما يخالفها الرأي أو الهدف فهو عدو لها. وتَسبب هذا الشكل المجرد من أشكال الإرادة في إيجاد كائناتٍ بشرية هي بمثابة آلات الإرادة، كائنات لا تعبر عن إرادتها الخاصة بقدر ما تنفذ إرادة الهدف الذي تؤمن به طبقًا لشعار «إن لم تكن معنا فأنت ضدنا.» وهو الشعار الذي قسم العالم إلى مملكتَين: مملكة المسيح، ومملكة الشيطان.٢٥
ويؤكد بلوخ إن الطبيعة ليست شيئًا عتيقًا من الماضي ولا يصح أن نفسر إنتاجها من خلال الماضي الذي يكرر نفسه باستمرار، وأن علينا أن ندرك التاريخ الطبيعي والتاريخ البشري في علاقتهما التي لا تنفصم، ولا نتصور أن تجلِّي الطبيعة قد انتهى إلى الإنسان أو أن التاريخ الحقيقي لم يبدأ إلا بظهور الإنسان؛ ذلك أن الطبيعة كانت دائمًا حاضرة في التاريخ ومحيطة به، أي أن الفعالية الطبيعية في حالة استمرار، فالواقع أن تجلي الطبيعة والتاريخ الإنساني كلاهما يقع في أفق المستقبل. كما أن توسط التقنية يتجه أيضًا إلى المستقبل وحده. وعندما تنجز التقنية من خلال هذا التحالف، ويتحد إنتاج الإنسان بإرادته وخياله مع إنتاج الطبيعة، فإن هذا يساعد بالتأكيد على إطلاق الطاقات أو القوى الخلَّاقة في الطبيعة الساكنة المجمدة.٢٦

والمهم في هذه الفكرة عن الاتحاد بين الطبيعة والخيال اليوتوبي الإنساني، أن الطبيعة ليست شيئًا ماضيًا منفصلًا عن الإنسان وإنما هي الأساس والمستودع الذي يستمد منه الإنسان مواد بناء بيت المستقبل الذي لم يتمكن بعدُ من بنائه، فلا الطبيعة أعطت كل ما عندها، ولا الإنسان أقام بيته غير المغترب. والتقنية التي يقصدها بلوخ هي التي تقوم بهذا التوسط الجدلي بحيث لا تكون الطبيعة مغتربةً عنها، ولا تكون هي نفسها — أي التقنية — مغتربة عن الإنسان. وبعبارةٍ أوضح يمكن القول بأن هذا البيت الإنساني لا يقوم في التاريخ فقط وعلى أساس النشاط الإنساني وحده، وإنما يقوم قبل كل شيء على أساس الذات الطبيعية «الموسطة» وكذلك على أساس هذا المستودع الطبيعي الزاخر بمواد البناء.

هكذا تبقى الذات الطبيعية مشكلة ما بقي التوسط العيني للإنسان — بوصفه الابن الأصغر للطبيعة — غائبًا، وقد وقعت المجتمعات البرجوازية في هذه المشكلة عندما فقدت الاتصال بالعالم الطبيعي وأنتجت ثورةً صناعية اعتمدت على دافع الربح ونكبت العالم بقبح العمل الآلي. وهذا هو الذي صوَّرته روايات الروائي الإنجليزي شارلز ديكنز عن بدايات العصر الصناعي في المجتمع البريطاني. وقد نشأت في القرن التاسع عشر حركة تدعى «لوديزم» وهي جماعةٌ معادية للنزعة الآلية دعت إلى تحطيم الآلات والماكينات لاعتقادها بأنها ستقضي على الأيدي العاملة.٢٧ وعبَّر هذا العصر الصناعي عن مرحلة اغتراب لم تقم التقنية فيها على «التحكم في الطبيعة» بل على انتهاك الطبيعة، بحيث صارت — أي التقنية — شبيهة إلى حدٍّ كبير بجيش الاحتلال الذي يقوم بالاعتداء على بلدٍ ما ويكون انتهاك الحرمات واستغلال الثروات هو كل ما يربطه بهذا البلد، ومن ثَمَّ لا يعرف أي شيء عن حقيقة هذا البلد من الداخل.
هكذا أدى افتقاد التوسط بين الضرورة الخارجية أو الطبيعة وبين الذات الإنسانية إلى أزماتٍ اقتصادية. والأهم من هذا أنه أدى إلى العديد من الكوارث التكنولوجية في مقابل الكوارث الطبيعية التي تنبأ بها الأنبياء. وتنطبق كوارث التقنية على كل عصور اللاشيء التي لا يرتبط فيها اﻟ «ليس-بعد» بهدفٍ يجمع العالم المادي بالتاريخ البشري ليصل إلى ما يسمى بالكل اليوتوبي. وعندما ينعدم الارتباط بهذا الهدف يسقط العالم في هاوية العدم أو اللاشيء أي عندما يتحول اﻟ «ليس-بعد» إلى أداة تدمير.٢٨
إن علاقة التقنية بالطبيعة تعكس بشكلٍ مختلف علاقة الطبقة البرجوازية أو الرأسمالية بطبقات المجتمع الأخرى؛ إذ تقوم العلاقة في الحالتَين على الاستغلال والافتقار إلى التوسط، أو الافتقار إلى العلاقة الجدلية التي يجب أن تكون قائمةً بين المجتمع البشري والعالم المادي، والتاريخ من صنع البشر، لكن الطبيعة هي ما لم يصنعه الإنسان بعدُ، لذلك تظل الطبيعة كعملاقٍ مقيَّد على يسار الإنسان، ويظل لغز الطبيعة — أو أبو الهول الطبيعة المحجَّب كما يسميه بلوخ — على يمينه. ويستمر الحال كذلك حتى يتدخل الإنسان ويحرر الطبيعة من أغلالها ويكشف عن الإبداعات النائمة في رحمها، أي لا بد أن يتدخل الإنسان تدخلًا عينيًّا ليتحد مع الممكن الكائن في العالم الطبيعي إذا أراد أن يخطو خطواتٍ واسعة لتحقيق يوتوبيا تقنيةً عينية، فالتقنية وحدها هي التي تفك سلاسل هذا العملاق الجبار وترفع الحجاب عن لغز الطبيعة.٢٩ بحيث تشترك مادة الطبيعة — التي يمكن أن تكون مادةً عينية — في علاقةٍ جدلية مع ذات التاريخ ومحورها هو الإنسان العامل أو الصانع homofaber؛ الإنسان الذي نحى القدر عن التاريخ عندما أدراك أنه صانعه أو منتجه، وأنه أيضًا يتلمس مواطن الإنتاج في العالم الطبيعي، وبذلك يرفع الاغتراب التقني من الطبيعة.
هذه العلاقة أو هذا الانسجام بين الذات الإنسانية وذات الطبيعة هي هدف الفكر الماركسي وغايته، فالإنسان الذي يريده ماركس هو ذلك الذي يحقق ذاته وكماله عن طريق العمل الخلَّاق الذي يحرره «لأن بالنسبة لماركس لم يكن التحرر الحقيقي تحررًا دينيًا وسياسيًّا فحسب، بل كان أيضًا اجتماعيًّا.»٣٠ وهذا العمل أيضًا هو ما يتيح له الاتحاد العيني بالعالم الخارجي أو الطبيعة الخارجية، فالعمل هو ما يحدد ماهية الإنسان على وجه التحديد، وبتحويل الطبيعة بالعمل الخلَّاق والنشاط البنَّاء تتحد الذات البشرية مع حركة الأشياء، ومع فعل الإنسان الذي يغير هذه الأشياء.

وفي العقود الأخيرة من العصر الحديث ازداد سلطان الإنسان على الطبيعة وحقق إنجازات في مجال التقنية لم يحلم بها الخيال البشري، فهل حقق التقدم التقني الهائل الذي نتج عن التقدم العلمي السريع ابتداءً من القرن التاسع عشر حتى بلغ ذروته في القرن العشرين؛ هل حقق ما يسمى بيوتوبيا التقنية؟ وهل رفع ما عانته البشرية طوال تاريخها من اغتراب عن ذاتها من ناحية، وعن الطبيعة من ناحيةٍ أخرى؟ بالنظر إلى الواقع العيني تكون الإجابة هي النفي، فطبقًا لمقولة «الحاجة أم الاختراع.» لا يمكن اختراع شيء له فائدة أو نفع ما لم تكن هناك حاجة أو ضرورةٌ اجتماعية لإيجاده أو اختراعه، وإرادة الاختراع لا تُعد يوتوبيا حقيقيةً ما لم تتوجه إلى تلبية الحد الأقصى من الاحتياجات البشرية على مستوًى تقنيٍّ عالٍ. ولكن الثورة الصناعية ومنجزاتها ومخترعاتها تتوجه إلى تحقيق الحد الأقصى من الربح.

وبعد أن كان الجوع — في العصور البدائية الأولى — نتيجة قلة الإنتاج، أصبح — في العصور الحديثة وفي ظل التقنية المتقدمة — بسبب وفرة الإنتاج وامتلاء المخازن وتكدُّس رأس المال في المجتمعات البرجوازية والرأسمالية. وإذا بالتقنية التي بدأت بإبداع واختراع الوسائل المعينة على الوجود، إذا بها تُبدع وسائل للموت والدمار، وبدلًا من أن توجه الطاقة النووية — التي هي آخر ما توصل إليه العقل البشري — لتعمير الصحراء وتخصيبها وتحويلها إلى أرضٍ خضراء واستخدامها كأداة للحياة، أصبحت في ظل التقنية العالية أداةً للموت والفناء، وهذا ما تشهد عليه أهوال حربَين عالميتَين وحروبٌ إقليميةٌ أخرى كثيرة.

هكذا أدى الاغتراب بين الطبيعة الإنسان إلى الدمار الذي أصبح صفةً مميزة للتقنية، ولم يعد شعور الإنسان بالاغتراب مقصورًا على موقفه من الطبيعة فقط، بل امتد هذا الشعور ليشمل العلاقة التي تربطه بإنتاجه التقني، هذا الإنتاج الذي تعملق وأصبح ماردًا مجردًا من الإنسانية وعجز الإنسان في أحيانٍ كثيرة عن السيطرة عليه، بل أصبح تابعًا له في أحيانٍ أخرى، ولتجنب كوارث التقنية على المستويَين الاجتماعي والطبيعي لا بد من التوسط في الحالتَين مع قوى الإنتاج، أي لا بد من توسط البشر مع أنفسهم — بوصفهم ذواتٍ منتجةً للتاريخ — ولا بد من توسط البشر مع القوانين الطبيعية. وعندما يتم التغلب على الصدفة التي تلازم العالم الطبيعي، وعلى القدر الذي يلازم العالم التاريخي، عندئذٍ تتغلب التقنية على الجانب الكوارثي الكامن فيها وتتجه إلى الكل اليوتوبي، وتتجنب السقوط في هاوية العدم.

ثانيًا: تاريخ الكشوف الجغرافية

إن البحث عن الجديد يخرجنا دائمًا من الظلام إلى النور، ولكنه يقتضي خوض غمار الأخطار والمصاعب، وتخطي العالم المألوف والمعتاد، والسعي للمغامرة إلى الماوراء في رحلة نتحرر فيها من الأرض التي نقف عليها لاكتشاف أخرى جديدة. وإذا كان الاكتشاف هو العثور على شيءٍ ما أو إظهاره الوجود للمرة الأولى، فقد تنطوي كلمة الاكتشاف على معنًى يتناقض مع «الجديد» أو هي — بمعنًى آخر — تعني إزاحة الغطاء عن شيء كان موجودًا من قبلُ (كاكتشاف أمريكا أو اليورانيوم) ويمثل «الجديد» بالنسبة للذات المكتشِفة فقط، بحيث يكون دور المكتشِف في هذه الحالة هو دور المتأمِّل فحسب. وعلى النقيض من هذا نجد الإنسان «الصانع» أو «المخترع» — وإن كان يفترض ضمنًا المكتشِف — نجده يتجاوز هذا الاكتشاف بصنع شيءٍ ما جديد كصنع الزجاج أو الخزف. لكن هذه التفرقة بين الاكتشاف والاختراع لا تعدو — في رأي بلوخ — أن تكون ضربًا من الوهم، لأن الاكتشاف أيضًا — وليس الاختراع فقط — لديه القدرة على التغيير، وكل القيم الكريمة في الحياة قد تغيرت بالاكتشاف، فالتغيرات المبكرة نحو حياةٍ أفضل لم تحدث من خلال الاختراعات فقط، بل كذلك من خلال اكتشافاتٍ هامة وعديدة.

(١) القصد اليوتوبي الجغرافي

بدأت الاكتشافات الجغرافية لخدمة الأغراض التجارية. فالمكتشف الأول كان تاجرًا ولا يمكن وصفه بأنه من النموذج التأملي. لقد غامر إلى «الماوراء» بحثًا عن طرقٍ جديدة للتجارة أو عن الذهب والفضة والعاج … إلخ، فالاكتشاف لا يتم في فراغ بل في أرضٍ مليئة بالممكن الواقعي. وكما تسعى يوتوبيا التقنية العينية لتحرير إبداعات الطبيعة أو إمكاناتها التي تكمن في رحمها، فكذلك يبدو الاكتشاف في شكله الجغرافي موازيًا للاختراع. ولكي يكون الاكتشاف يوتوبيا عينية — لا مجرد وهم أو حلم لا سبيل إلى تحقيقه — فلا بد أن تتعلق القدرة على الاكتشاف بالمستقبل. واليوتوبيا الجغرافية تعني اكتشاف الطريق الجديد، والبضائع والسلع الجديدة، حتى يمكن القول بأن كل اليوتوبيا الأخرى مدينة للكشوف الجغرافية لأن هذه الأخيرة ذات قصدٍ يوتوبي وتتجه إلى هدفٍ موضوعي، قد يكون هو اﻟ Topos، أرض الذهب، أو أرض السعادة في العالم الجديد أو جنة عدن، الموطن الأسطوري المخبأ في الأرض الجديدة.٣١ إن رحلات الاكتشاف تساعد الإنسان على تحويل الممكن الواقعي إلى ممكنٍ فعلي بالوصول إلى الأرض المخبَّأة. وبهذا يكون الحلم المفعم بالأماني في الكشوف الجغرافية هو البضائع السحرية أو الفروة الذهبية التي يفترض وجودها في مكانٍ ما، مما جعل بلوخ يقول بارتباط البناء التحتي بالبناء الفوقي لهذه الكشوف بحيث يستحيل التمييز بين إلدورادو Eldorado — أو الموطن الأسطوري للثروة — وبين بداية جنة عدن. وإلى جانب الدوافع المادية والاقتصادية التي تمثل البناء التحتي، هناك بناءٌ فوقي للكشوف الجغرافية يتمثل في الأرض الجديدة، بل إن هذه الأرض هي الإسهام الكبير الذي قدمته هذه الكشوف إلى اليوتوبيا الاجتماعية.٣٢
إن البشرية لا تتوقف عن الحلم بأشياء غير موجودة في واقعها المادي. وليس أدل على ذلك من الحكايات الخرافية للشعوب التي تتضمن وادي الماس، وأنواعًا غريبة من النباتات والحيوانات. والكشوف الجغرافية والرحلات البحرية هي الأماكن العينية التي يمكن أن توجد فيها مثل هذه الأشياء، كما في رحلات السندباد البحري وغيرها من أدب الرحلات التي يزدهر بها التراث العربي. لذلك كان الهدف من بعض الرحلات هو السعي وراء الحلم الأسطوري بالفروة الذهبية التي كان يُعتقد أنها موجودة في مكانٍ ما من أرض اليونان، أو وراء الحلم بالكأس الذهبية المقدسة في التراث المسيحي، وهي التي كان يُعتقد أنها مخبأة ومحاطة بتحريمٍ سماوي، إن الحلم بمثل هذه الكنوز دفع البشر إلى رحلاتٍ بحرية بعيدة، لأنها — أي الكنوز — لا تكمن تحت أرجلهم في أرض الوطن، بل في مكانٍ ناءٍ بعيد. هكذا كانت الفروة الذهبية والكأس المقدسة هما الهدف اليوتوبي للرحلات البحرية في الحكايات الخرافية للعصور القديمة والوسيطة.٣٣
واقترن الخوف بالسعادة في الرحلات البحرية القديمة، فالمغامرة إلى الماوراء تكون دائمًا محفوفةً بالمخاطر. وركوب البحر ظل لفترةٍ طويلة مقرونًا بالفزع وبخاصة فيما كان يطلق عليه اسم «بحر الظلمات» — أي المحيط الأطلنطي — ولذلك استمرت أسطورة المحيط الغربي الممتنع على الملاحة لمئات بل لآلاف السنين. وأفزعت هذه الأسطورة الغربيين، كما عوَّقت تجارة الفينيقيين، وعلى الرغم من معرفتهم — أي الفينيقيين — بالمحيط الهندي ووصولهم إلى الفلبين، إلا أنهم لم يغامروا في المحيط الأطلنطي رغم امتلاكهم لسواحل إسبانيا والمغرب، ورغم التقدم الهائل للجغرافيين العرب في ذلك الوقت في رسم الخرائط.٣٤ وكان الإدريسي قد رسم خريطة للعالم سنة ١١٥٠م، كما كان للعرب معرفةٌ كاملة بالنيجر وجزيرة بورينو، إلا أن معرفتهم لم تمتد للساحل الأفريقي الغربي. وكان يُعتقَد — طبقًا للإدريسي — أن هيسبيريدس.٣٥ كائنة في بحر الظلمات، كما تحكي أساطير الجغرافيين العرب عن وجود عمالقة في مياه الأطلنطي تشد السفن إلى أعماق المحيط وتحذر من عدم وجود أراضٍ جديدة يمكن اكتشافها. هذا في الوقت الذي زاد فيه الاعتقاد بأن جنة عدن ترقد في منطقة ما من بحر الظلمات، ولذلك كان آباء الكنيسة أسرع من العرب في تحطيم أسطورة الفزع من الساحل الغربي.٣٦

(٢) الجنة الجغرافية الأرضية

وتغيَّر الهدف من الرحلات البحرية فلم يعد هو الفروة الذهبية، بل أصبح البحث عن جزيرة السعادة أو أرض السعادة، وتحول البحث عن الأرض الموعودة، وأرض النبيذ، وأرض اللبن والعسل، تحول من السماء إلى الأرض على صورة كشوفٍ جغرافية. وإذا كانت نزعة الخلاص التي أتى بها الكتاب المقدس قد وعدت بالجنة في نهاية الزمان، إلا أنها جنةٌ هابطة من السماء: «رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله.»٣٧ هذا عن جنة آخر الزمان، أما عن الجنة الأولى، أي جنة عدن، فقد بقيت جنةً بكرًا على الأرض، غير مسموح بالدخول إليها، وإن سُمح فقط بالبحث عنها والهبوط بالقرب من أسوارها الخارجية. وقد ظل الاعتقاد في وجود الجنة الأرضية في مكانٍ ما على الأرض قويًّا طوال العصور الوسطى، وعبرت عنه الكنيسة في إرساليتها النشطة التي اهتدت بأسماء الأنهار التي تنبع من محيط الجنة لبقية أجزاء الأرض،٣٨ كما ورد في سفر التكوين: «وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رءوس. اسم الواحد فيشون. وهو المحيط بجميع أرض الحويلة الذهب. وذهب تلك الأرض جيد. هناك المقل وحجر الجزع، واسم حداقل. وهو الجاري شرقي آشور. والنهر الرابع الفرات.»٣٩
كان يُعتقد أن هذه الأنهار تأتي معها بالبركة من جنة عدن لتنعم بها على الأرض الساقطة في الخطيئة، ويُنظر لجنة عدن على أنها نموذجٌ أولي لحديقةٍ سحرية، وازداد الاعتقاد في العصور الوسطى بأن هناك قطعةً من الأرض ذات طبيعةٍ غير ساقطة في الخطيئة، وأطلقت الكنيسة العنان للخيال لتحديد موقع هذه الأرض. والجنة الأرضية كائنة في عدن طبقًا لما ورد في الكتاب المقدس: «وغرس الرب الإله في عدن شرقًا.»٤٠ كما فُسرت كدليل على الموقع الشرقي للجنة، فكلمة bereschith (أي في البدء) لا تعني البداية فقط بل تعني أيضًا أنها تقع في الشرق.٤١
هكذا جاء الكتاب المقدس ليحول الجنة الأرضية من المحيط الأطلنطي أو بحر الظلمات إلى الشرق، بل إلى نقطةٍ محددة فيه وهي أورشليم — ومال التراث الغربي إلى هذا التحول نظرًا لخوفه التقليدي من الساحل الغربي — طبقًا لما يسمى باليوتوبيا الشرقية وخريطة العالم mappa mundi التي رُسمت في نهاية القرن الثالث عشر والموجودة في كاتدرائية هيرفورد Hereford وتحدد هذه الخريطة الجنة الأرضية في منتصف أورشليم. ثم جاء دانتي ليضع الجنة الأرضية على قمة جبل الأعراف purgatorio، ولكنها منطقةٌ محرمة لا يمكن الوصول إليها، ولا مكان فيها للإقامة ولا للأرواح ذاتها، لأنها منطقة عبور أو مرور فحسب، أو هي مرحلةٌ انتقالية كما عند توما الأكويني الذي عبر دانتي عن فلسفته تعبيرًا أدبيًّا.
وعلى الجانب الآخر كانت هناك اعتقاداتٌ أخرى في وجود الجنة الأرضية في منطقةٍ أخرى من الشرق وهي الهند — وقد امتد هذا التراث من زمن الإسكندر الأكبر وفتوحاته — فبدأت الرحلات البرية والبحرية للأرض الاستوائية الغامضة المليئة بمعجزات الوجود. ولعل أشهر أسطورة سادت العصور الوسطى هي رحلة القديس برندان Brendan الشهيرة وبدأت رحلته عندما سمع صوت ملاك في الليل يخبره بأن الله هداه إلى الأرض الموعودة التي يبحث عنها، فرحل القديس غربًا من إيرلندا لمدة خمسة عشر يومًا، ثم أبحر لمدة سبعة شهور ليجد جزيرةً مليئة بعدد لا يُحصى من الخراف، وكان قد سبقه إلى هذه الجزيرة قديسان آخران. وبعد سبع سنوات عاد القديس ورفاقه الرهبان ومعهم فكرة «الأرض الموعودة للقديسين» لتصبح الهند كرمةً مغروسة في الغرب.٤٢ وكانت هذه الجزيرة اليوتوبية من أهم معالم خريطة القرون الوسطى، فقامت بعثات وإرسالياتٌ متوالية حتى عام ١٧٢١م للبحث عنها، وقد امتزجت فيما بعدُ بجزرٍ أخرى ليست من التراث المسيحي مثل الجزيرة المقدسة من التراث القديم وأسطورة العصر الذهبي، وظل موقع الجزيرة يتحرك مع الأساطير فأصبح في القرن الرابع عشر في أقصى الجنوب ثم جزر كناري. ويقول العالم الجغرافي الألماني ألكسندر فون همبولدت: إن التغير الدائم لموقع الجزيرة يعود إلى تقدم الملاحة نتيجة التجارة في البحر المتوسط، الأمر الذي ترتب عليه أن أصبحت الجزيرة متجولة، وأن التأريخ لجزر الكناري يثبت المحاولات العديدة للهبوط على هذه الجزيرة الخيالية من عام ١٤٨٧ وإلى عام ١٧٥٩م.٤٣
ظلت الأنظار متجهة نحو الشرق سواء للبحث عن جنة عدن أو للبحث عن الثروة والربح الناجم عن التجارة مع الشرق؛ مما نتج عنه تنظيم الغرب للحملات الصليبية الأولى والثانية والثالثة. وقد أخفقت جميعها في تحقيق غرضها تحت راية الدين. وفي هذا الوقت من عام ١١٦٥م وصلت إلى بابا الكنيسة خطابات من حاكمٍ مسيحيٍّ شرقي من الهند أطلق على نفسه اسم برسبيتر جون Presbyter John، وقد امتدح في رسائله دولته العظمى التي تمتد من شروق الشمس حتى الغرب، وروى عن معجزات بلاده وما تحويه من أنواعٍ غريبة من الحيوانات والبشر والأماكن، وما فيها من عجائب السحر والأحجار الكريمة. وأرسل البابا إلى هذا الحاكم الهندي طبيبه الخاص كمبعوثٍ شخصي بعد أن ردَّ على رسائله في ٧ / ٩ / ١١٧٧م وترجم هذا الرد إلى كل لغات أوروبا التي انحنت أمام الأمل الجديد المتمثل في الجنة الأرضية في الهند. ثم فُقدت بعثة البابا ولم يُعثر لها على أثر، وظلت الرسالة محور التفكير والحلم كما ظل الشرق هو قبلة اليوتوبيا الجغرافية.٤٤
وقد كانت الهند في ذلك الوقت مصدرًا لصورٍ خياليةٍ مفعمة بالأماني نظرًا لاتساعها الجغرافي الكبير، وما تحويه أرضها من أحجارٍ كريمة، كما كانت موطنًا للمعجزات وأرضًا خصبة لأساطير مملكةٍ خياليةٍ ساحرة؛ مما كان له أثره على الإسكندر المقدوني الذي اتخذ من حياة «راما» — البطل الملحمي الهندوسي — مثالًا يحتذى في حياته اليومية. وظلت الهند مصدرًا لحكايات صُوِّرت ورُسمت على نسيج العصور الوسطى في عصر القديس جيروم، وتَروي هذه الحكايات كل ما في الهند من سحر الشرق.٤٥ هذا بالإضافة إلى سببٍ تاريخي على جانبٍ كبير من الأهمية، فإلى جانب ما للهند من ثقافةٍ مؤثرة فهي منطقة إنتاج هيمنت على خطوط التجارة العالمية وكانت قوة دافعة لها طوال العصور القديمة والوسيطة ومرحلة ما قبل الكشوف الجغرافية وما بعدها حتى نهاية عصر الاستعمار؛ مما جعلها هدفًا لأكثر رحلات الاستكشاف الجغرافية — إن لم يكن جلها — لمعرفة أكثر الطرق المؤدية إليها، كما كانت الدافع القوي والخفي وراء الحملات الصليبية المتكررة على الشرق والتي تستَّرت وراء الصليب.
وترجع أهمية الأسطورة السابقة وانتشارها إلى ما أشاعته من أمل في نفوس شعوب أوروبا في العصر الوسيط. لقد رسمت يوتوبيا اجتماعية في صورة يوتوبيا جغرافية في مملكةٍ كائنة في الشرق اختفى منها الفقر والمرض والجريمة، كما صورت قصرًا للفقراء يشعر كل من يدخله بالشبع والامتلاء. وهناك سببٌ آخرُ سياسيٌّ وراء ترويج هذه الأسطورة، وهو حلم أوروبا بنظامٍ سياسيٍّ شبيه إلى حدٍّ كبير بالنظام الذي صوَّرته الأسطورة عن حياة الأمن والسلام الخالية من الحروب في ظل حكومةٍ ثيوقراطية، وفي ظل الملكية الخاصة؛ حياة يسودها التسامح مع أعدادٍ هائلة من غير المسيحيين في مملكة يحكمها قسٌّ مسيحي. وقد كانت هذه صورةً مضادة لحياة أوروبا المعذَّبة التي يسودها القلق والاضطراب في ذلك الوقت. ومع أن هذه الأسطورة وما يحيطها من غموض لم يكن لها تأثيرٌ سياسي يُذكر، إلا أنها أحدثت تأثيرًا يوتوبيًّا كبيرًا، فقامت العديد من رحلات الاستكشاف الجغرافي لهذه المملكة، كما اجتذبت أعدادًا هائلة من التجار والمغامرين، وأرسلت إليها البعثات والإرساليات الدينية التي استغرقت قرونًا. ولعل أهم الرحلات إلى هذه المنطقة من العالم هي رحلات ماركوبولو (١٢٥٦–١٣٢٣م) التي كانت المملكة هدفًا من أهداف رحلته التي وصلت إلى الصين. وقد بحثت البارجة البرتغالية عن هذه المملكة على الشاطئ الغربي لأفريقيا، كما كانت كذلك هدفًا لرحلة فاسكودي جاما التي لفَّ فيها حول رأس الرجاء الصالح فاكتشف الهند الشرقية لا مملكة الكاهن القس برسبيتر جون.٤٦

(٣) اكتشاف الأرض الجديدة

من الضروري أن تكون الأرض الجديدة هي الهدف، أي لا بد أن تكون هناك خطة وقصد من وراء الرحلة. فالكثير من الشواطئ التي تم اكتشافها عُثر عليها بمحض الصدفة عندما جنحت السفن بطاقمها وضلَّت طريق العودة، وعلى سبيل المثال اكتشف الشاطئ الأمريكي — بدون قصد — ما يقرب من أحد عشرة مرةً قبل أن يكتشفه كريستوفر كولمبس (؟-١٥٠٦م) لكن هذه الرحلات لم تؤتِ ثمارها لافتقارها للقصد والخطة، على حين أن رحلات الفينيقيين كانت بهدف التجارة ولم تكن للبحث عن جنة عدن أو عن الفروة الذهبية. وقد استطاع هانو Hanno القرطاجني على سبيل المثال أن يبحر حول الشاطئ الغربي لأفريقيا حوالي سنة ٥٢٥ق.م. ووصل إلى ما يسمى الآن بالسينغال والكاميرون وسجَّل رحلته في صورة تقريرٍ عسكري.٤٧ كما كان ماجلان مغامرًا أبحر حول القارة من الشمال إلى الجنوب.
نخلص من هذا إلى أن رحلات الاستكشاف في ذلك الزمان لم تكن تفتقر إلى الهدف، فقيام الأتراك بسد الطريق البري إلى الهند، واحتياج الاقتصاد الإقطاعي إلى الذهب لإعادة التوازن في العجز التجاري مع الشرق، ورغبة الطبقة الدنيا من النبلاء الإسبان hidalgos في وضع أيديهم على «الدورادو» التي ستجعل منهم طبقةً من الأثرياء ما بين ليلة وضحاها، وسيطرة الحلم القديم على خيال الرحالة جميعًا للوصول إلى جنة عدن، كل هذه الأهداف مجتمعة كانت وراء رحلات الاستكشاف البحرية، ولكن الغالب على هذه الأهداف جميعًا هو الهدف الاقتصادي الذي بفضله حطم كولمبس أسطورة بحر الظلمات وأدخلها في نطاق التراث الأدبي، ولذلك امتدح قول سنيكا (٤ق.م.–٦٥م) إن منطقة المحيط الأطلنطي سوف تُخترق يومًا ما ولن تبقي هي ثوله Thule (وهي أقصى الشمال عند الإغريق والرومان وتعني أبعد جزء في العالم). كما امتدح قول بلوتارك (٤٥–١٢٠م) إنه إذا كان القمر مرآة للأرض فإنه يشير إلى قارةٍ غير مكتشَفة في قطعةٍ صغيرةٍ مظلمة. ولكن مثل هذه الأقوال لم تدفع فكر عصر النهضة — قبل كولمبس — إلى قهر وتحطيم أسطورة الرعب من المحيط الأطلنطي.٤٨
جاء كولمبس مسلَّحًا بإرادةٍ قوية وهدفٍ واضح، فأبحر الرحالة الحالم قاصدًا الساحل الغربي، وساعده على ذلك تغير الظروف الخارجية وتغير صورة الكون الموروثة عن أرسطو وبطليموس حيث كانت الأرض مركزه وحولها الأفلاك. وجاء كوبرنيكوس ليُحرِّر الأرض من قداستها فتوقف السؤال عن موقع جنة عدن بها وانبعث سؤالٌ آخر عما يمكن أن يوجد وراء المحيط! واحتلت الرياضيات مكانة الغايات، وتوجهت العقول إلى الحياة الإنسانية كما ينبغي أن تُعاش وكما ينبغي على الأرض أن تكون. هذا بالإضافة إلى عاملٍ اقتصاديٍّ هام حين ضاقت الزراعة عن تلبية الضرورات، وتتابعت ثورات الفلاحين، وتدفقت إلى المدن والموانئ هجرات المزارعين المتطلعين إلى الأرض والمال، فأمسكت الطبقة الوسطى في المدن التجارية والموانئ بأَعنَّة التغيير، مستثمرة إخفاق مشروع الطبقات الإقطاعية بالتحالف مع الكنيسة لاستعادة الشرق، وتحالفت مع الملوك لتكوين دولٍ مستقلةٍ مطلقة السيادة على أراضيها بعيدًا عن السلطة الروحية البابوية، ساعية إلى تحقيق قوة اقتصادية بتبني المشروع القديم لاستعادة التجارة ومناطق الإنتاج،٤٩ لا عن طريق غزو بلاد الشرق ولكن باكتشاف طرقٍ خارجيةٍ جديدةٍ ذات مسافاتٍ أقصر وتكاليفَ أقل.
واستهل البرتغال عصر الكشوف الجغرافية بريادة هنري الملاح (١٣٩٤–١٤٦٠م) الذي استند إلى معرفته بالعلم العربي. وتمَّ له اكتشاف بعض الجزر القريبة من المحيط الأطلنطي مثل مادييرا وآزورس وكناري — التي كانت نقطة انطلاق رحلات كولمبس — ثم اجتذبته أفريقيا بمعادنها ورقيقها واتخذ من الوصول إلى مملكة القديس يوحنا المسيحية ستارًا ودافعًا لملَّاحيه. وقبل أن ينصرم النصف الأول من القرن الخامس عشر تحققت معظم أهدافه، وتم استعمار ثلث الساحل الغربي لأفريقيا، ثم جاء خلفه دياز Diaz ليعلن أن الطريق البحري للهند قد كُشف؛ مما أشعل حلم كولمبس بإمكان تحقيق هذا الكشف بالإبحار غربًا عبر الأطلنطي.٥٠
أبحر كولمبس٥١ مدفوعًا بما سلف من أهداف يحكمها جميعًا الهدف الاقتصادي، وعندما وصل للمحيط الأطلنطي لم يجد الظلام ولا العملاق الذي يقف محذِّرًا، وواصل إبحاره حتى بلغ بعض الجزر التي اعتقد أنها بدايات لاكتشاف الطريق البحري للهند — الذي كان هدفه ووجهته منذ البداية — وفي أكتوبر عام ١٤٩٨م كتب للملكة الإسبانية ما يفيد بأنه وصل إلى النقطة الأولى التي انطلق منها النور لحظة الخلق، إذ كانت فكرة كولمبس عن الجنة الأرضية هي الفكرة القديمة في الكتاب المقدس: «كنت في عدن جنة الله. كل حجرٍ كريم في ستارتك عقيقٌ أحمر وياقوتٌ أصفر وعقيقٌ أبيض وزبرجد وجزع ويشب وياقوتٌ أزرق وبهرمان وزمرد ذهب.»٥٢ ويؤكد كولمبس في خطاباته أنه توصل إلى الأرض الجديدة والسماء الجديدة، بل ويدعم اعتقاده بنصوص من الكتاب المقدس.٥٣ ومن المرجح أنه كتب ذلك — فيما يقول بلوخ — ليمتصَّ العداء المتزايد له في دوائر القصر الملكي حيث بدأ الضيق من الرحلة التي تكلَّفت أموالًا باهظة ولم تسفر إلا عن بعض جزر ليس لها أهميةٌ كبيرة. ولم يكن كولمبس ولا معاصروه يعرفون أنه توصل إلى قارةٍ جديدة، حتى مات وهو معتقد أنه وصل إلى الهند، وأنه قد توصل أيضًا إلى جنة عدن. والمهم أن الجنة الأرضية لم تعد الآن سوى رمز للأمل الكامن والسعي البشري الدائم نحو هذا الأمل.

(٤) اكتشاف الفضاء

انحصرت الآمال القديمة في امتطاء متن البحار والوصول إلى الشواطئ الجديدة والهبوط عليها، ثم تحولت الآمال للتطلع إلى مكانٍ أكثر إغراءً؛ إنه الفضاء. وكان لهذه الأمنيات نماذجها الأولى عندما كانت السماء هي المكان المفضَّل للآلهة والنفوس الحكيمة الفاضلة، ولذلك كان ينظر دائمًا بإجلال واحترام وتوق إلى معرفة أسرارها. أما الآن وبعد التقدم العلمي الهائل فقد تحررت أجسادنا المقيدة بالجاذبية الأرضية، وانطلقت في الفضاء في رحلات استكشاف للكواكب الأخرى. لقد وصل رواد الفضاء إلى القمر وزحل والمريخ، ولما كانت ظروف الحياة على سطح زحل مشابهة إلى حدٍّ ما لظروف الحياة على كوكب الأرض فإن هذا شجع على آمالٍ يوتوبيةٍ كبيرة في إمكانية صلاحية الكوكب للسكن بعد أن ضاق البشر بالأرض وتطلعوا إلى عالم النجوم الذي كان يمثل بالنسبة لهم مكانًا يوتوبيًّا.

ونجد من الفلاسفة المحدثين من ينظر إلى الكواكب البعيدة عن الشمس نظرته إلى عالمٍ أفضل وأسمى. إن كانط — على سبيل المثال — في مرحلته السابقة على المرحلة النقدية، يعدُّ الأماكن السعيدة هي تلك التي تبتعد بُعدًا شاسعًا عن مركز الأرض. وليست هي الأماكن التي تقع على مسافةٍ متوسطة من الشمس كما هو الحال في حالة الأرض والمريخ: «إن كمال العالم الروحي وكمال العالم المادي على حدٍّ سواء، ينمو ويتقدم في الكواكب من عطارد حتى زحل، أو ربما أبعد من ذلك، إذا كان هناك كواكبُ أخرى، في اطرادٍ تام طبقًا لابتعادها عن الشمس.» ويستشفُّ بلوخ المعنى اليوتوبي لنص كانط بأنه في مرحلته قبل النقدية قد تخيَّل — طبقًا لقاعدة نيوتن عن نقص الثقل في مربع المسافة — أن النقص في جاذبية الثقل ينمو باطراد مع جاذبية النقاء طبقًا للتضاد المتخيل بين الثقل والنور العقلي.٥٤ وكأن قانون الجاذبية الذي يتحكم في مدار الأرض حول نفسها وحول الشمس قد جعلها مكانًا غير صالح لا للكائنات البشرية ولا للعقل البشري.
غير أن كانط يعود فيُعدِّل من آرائه ويُقلِّل من المغالاة في تفضيل عالم النجوم العلوي، فنجده يقول في كتابه أحلام راءٍ للأشباح عام ١٧٦٦م: «عندما نتحدث عن السماء بوصفها مقام أناسٍ سعداء، فإن الفكرة الشائعة تتخيلها مكانًا فوق رءوسنا في فضاءٍ هائل الاتساع، لكننا لا نضع في اعتبارنا حقيقةً هامة، وهي أن أرضنا عندما يُنظَر إليها من هذه الأماكن البعيدة تبدو هي الأخرى نجمًا من النجوم العديدة في السماء، وأن سكان العوالم الأخرى يشيرون إلينا قائلين: انظروا هناك إلى أعلى، إنه مقام الفرحة الخالدة وإقامة سماوية أُعدَّت لاستقبالنا يومًا ما، كما أن هناك اندفاعًا غريبًا يجعل الأمل يرتبط دائمًا بمفهوم الصعود، دون أن نضع في اعتبارنا أن صعودنا إلى أعلى يجب أن يسقط من جديد لنحصل على موطئ قدمٍ ثابت في عالمٍ آخر.»٥٥
معنى هذا أن هذه الأرض نفسها يمكن النظر إليها نظرةً يوتوبية من سكان الكواكب الأخرى، فلا داعي إذن أن نبحث عن الكمال في عالمٍ علوي، بل الأجدر بسكان هذه الأرض البحث عنه داخل عالمهم الأرضي. وإذا كان لعالم النجوم إغراؤه الخاص كرمزٍ سماوي وله بُعده اليوتوبي، فإن هذه الأرض أيضًا تتضمن داخلها عالمًا أفضل من عالم النجوم الأخرى يجب البحث عنه بين الكائنات البشرية وفي سر القبة الزرقاء للأرض لا في قبة السماء. وإذا كانت النجوم المتألقة بالضوء في السماء قد جذبت إليها البشر وجعلتهم ينظرون إلى أعلى، وإذا كانت السماء المرصَّعة بالنجوم تمثل بالنسبة للإنسان النماذج الأولية للسلام والسمو والهدوء، فإن على هذه الأرض يجب على الإنسان أن يحول هذه الصورة إلى مهمة للتحقيق وهدف للوصول، هنا على هذه الأرض — وليس في السماء — توجد القبة، ومن هذه الأرض يبدأ الصعود.٥٦
لم يبقَ الآن شيء من الحلم الجغرافي في ثوبه القديم، لأن كل الشواطئ قد كُشف عنها النقاب. أما الذي لم يُكشَف بعدُ فهو التفاعل بين الإنسان والأرض، ويتم هذا التفاعل من خلال الجغرافيا الاقتصادية والسياسية والتقنية لأن الأرض تلعب دورًا هامًّا في التفاعل بين الإنسان والطبيعة، فالمناخ والمواد الأولية إمكاناتٌ طبيعية كان لها أثرٌ هام في تحديد مسار العمل البشري سواء كان زراعيًّا أو صناعيًّا … إلخ، وفي تحديد هوية المجتمع البشري؛ ولهذا ظلت الجغرافيا ملازمة للتاريخ أو ظلت مفهومة بشكلٍ تاريخي لأن كليهما ميدان صراع وإطار عمل.٥٧ هذا المجتمع البشري لا يرقد على سطح القمر، ولا يكمن داخل العقول، ولا يقع في أعماق البحار، وإنما يمتد على الأرض التي تمنحه إمكانات تغير من طبيعة العمل الإنساني، كما يغير هذا العمل بدوره من طبيعة الأرض ويعمل على إعادة بناء الكوكب الذي نعيش عليه بصورةٍ جديدة.

لا يدين بلوخ منجزات التقنية والتقدم العلمي الحديث الذي أدى إلى اكتشاف الفضاء، وإنما يدين الأيديولوجية التي أفسدت المعرفة العلمية واستخداماتها ونتائجها. ولعل هذه الإدانة تتفق مع توجهه الاشتراكي الذي حتَّم عليه الانطلاق من هذا العالم ومن واقعه الفعلي، وتبنيه للمقولة الماركسية المعروفة عن ضرورة تطبيع الإنسان وأنسنة الطبيعة، أو اتحاد الإنسان مع الطبيعة، الأمر الذي فرض عليه المطالبة بفهمٍ جديد لهذا العالم الذي نعيش عليه، وتكريس التقنية الحديثة والاكتشافات الجديدة من أجل إيجاد حل للمشكلات المتجددة في هذا العالم. ولعل هذا التوجه كان من أهم الأسباب التي جعلته من دعاة حماية البيئة وتشجيعه ووقوفه وراء ما يطلق عليه اسم «حزب الخضر» في ألمانيا وغيرها.

وحقيقة الأمر أن محاولة علماء الفضاء رسم صورٍ خيالية لكواكبَ أخرى والحلم بالسكن عليها في المستقبل — على الرغم مما تنطوي عليه هذه الآراء من تفكيرٍ مستقبليٍّ مُغرٍ — هي محاولة للهروب من هذا العالم لا تقل في خطورتها عما رسمته الأديان لعوالمَ ما ورائية، ولا عما رسمه أصحاب اليوتوبيا الاجتماعية الخيالية — على الورق فقط — من صور وأماني لمجتمعاتٍ مثالية ظلت على مستوى الحلم فقط. فالتحدي الحقيقي أمام العلم والعلماء والجغرافيين على السواء هو هنا على هذه الأرض. وإذا صح الافتراض القائل بأن كل الشواطئ والأراضي التي على هذا الكوكب قد كُشف النقاب عنها، فيبقى من الصحيح أيضًا إزاحة الستار عما يكمن فيه من إمكانات لم تُكتشَف بعدُ، وبذل كل الجهود التي تجعل من هذا العالم أفضل عالم يمكن أن يعيش عليه الإنسان.

إن مشكلة البيئة التي برزت على قمة مشاكل العالم في العقود الأخيرة من القرن العشرين، لهي أولى بالتفكير فيها من مشكلة الفضاء، ومكافحة التلوث الذي يحيط بكوكب الأرض لهي من أهم المشكلات التي يجب أن تُوجَّه إليها كل القدرات الهائلة على الاكتشاف، واستخدام جل أساليب التقدم العلمي من أجل تحسين الظروف على هذه الأرض التي نقطنها. كما أن مشكلة المياه هي أيضًا من أهم المشكلات التي ستواجه سكان كوكب الأرض في السنوات القليلة القادمة، لتصبح من أهم المشكلات التي تطفو على سطح نهرٍ هائل من مشاكل هذا العالم الأرضي، وقد بدأت بعض الدول بالفعل في معاناة هذه المشكلة، كما أنها تهدد عددًا غفيرًا من الدول في سنواتٍ قادمة، والمهم أن مواجهة مثل هذه المشكلات هي التحدي الحقيقي أمام العلماء والجغرافيين وعامة الناس على السواء.

ثالثًا: تاريخ العمارة والفنون

ترتبط اليوتوبيات المعمارية ارتباطًا وثيقًا باليوتوبيات الجغرافية، فمهمة العمارة هي تشكيل المكان وبناء أشكالٍ معماريةٍ مفعمة بالأمل سواء في الواقع على أرض الوطن، أو في حدود التصور لعالمٍ أفضل. وقد يتبادر هذا السؤال إلى الذهن: كيف يكون البناء المعماري نوعًا من اليوتوبيا؟ وكيف يتضمن فن المعمار بأنواعه — من مبانيَ وتكويناتٍ نحتية ورسومٍ تصورية بأشكالها المختلفة — كيف يتضمن عنصرًا يوتوبيًّا؟ ربما تزول الدهشة عند معرفة أن فن العمارة بدأ بإقامة أشكال لمبانيَ جميلة غير موجودة على أرض الواقع. وعند تأمل المباني المعمارية التي وصفتها وتخيلتها الحكايات الشعبية الخرافية، وبخاصة الحكايات التي يحفل بها التراث العربي في ألف ليلة وليلة بنماذجها المعمارية من قصور وقلاعٍ مصنوعة من المجوهرات والياقوت وحوائط من ذهب، ونوافذ من الزجاج الملوَّن، ومدن من البرونز وكنوزٍ لا حصر لها، وما يمثله قصر علاء الدين من سحر المعمار؛ مما جعله نموذجًا لما يسمى ﺑ «يوتوبيا القصر» في العصور الوسطى الأوروبية. وقد كانت هذه النماذج في الحكايات الخرافية العربية والشرقية بمثابة صورٍ يوتوبيةٍ معمارية انتقلت من الشرق إلى الغرب؛ مما جعل الشرق مركزًا للإلهام الفني لعمارةٍ خيالية في كل العصور.

ظهر تأثير ألف ليلة وليلة بشكلٍ مباشر على فن المعمار الغربي في العصور الوسطى في الاستخدام الواسع النطاق للذهب والأحجار الكريمة ونوافذ الزجاج الملوَّن التي تميزت بها كنائس وكاتدرائيات الغرب المسيحي. كما ظهر في قصور وقلاع الإمبراطورية البيزنطية التي تأثَّرت بشكلٍ مباشر بجمال البناء الشرقي أثناء الحملات الصليبية على الشرق العربي الإسلامي. ولم يقتصر هذا التأثير على ما تم بناؤه بالفعل من كنائس وقصور، بل امتد أيضًا إلى الحكايات الخرافية الغربية التي قلَّدت الحكايات الشرقية وبخاصة ألف ليلة وليلة واتخذت من صورها المعمارية الأسطورية نماذجَ يوتوبية، وذلك كما نجد في حكايات هوفمان Hoffmann لا سيما حكاية «الوعاء الذهبي» فحجرة البطل الزرقاء، وأشجار النخيل المصنوعة من الذهب، وغيرها من التفاصيل مستمدة من نسقٍ معماريٍّ شرقي، كما تحوَّل حلم العمارة الخيالية إلى عمارةٍ حقيقية في الطراز المعماري المغربي الذي ما يزال له وقع السحر في نفوس الأوروبيين.٥٨

ومن الطبيعي أن يفسر بلوخ اليوتوبيات المعمارية تفسيرًا يتفق مع توجهه الاشتراكي، وأن يجعل من السياق الاجتماعي — بما يشمله من ظروفٍ سياسية واقتصادية وتاريخية — الأساس الأول لكلٍّ من الفنون والعمارة. وفي هذا المجال يعرض بلوخ العديد من النماذج المعمارية والفنية التي يحفل بها تاريخ الحضارات البشرية. ولن يتسع المجال للكمِّ الهائل من تفاصيل تلك الفنون ومبدعيها؛ إذ يحتاج دراسةً مستقلة، ولذلك يمكن الاكتفاء هنا بعرضٍ سريع للأساس الاجتماعي للفنون بصفةٍ عامة، والوقوف عند بعض النماذج التي يكمن فيها العنصر اليوتوبي وتستهدف الحياة الأفضل وتعبر عن النسق المفتوح على المستقبل.

وقد كان الدين هو الظاهرة الاجتماعية الكبرى التي عملت على ظهور الفن وتطوره وترقِّيه، ولذلك نجد أن كثيرًا من علماء الاجتماع يربطون بين الدين والفن فيقولون إن الظاهرة الجمالية قد نشأت في أحضان «المعبد» الذي عمل على ظهور أقدم الفنون البشرية جميعًا وهو فن المعمار، وتبعه تزيين جدران المعابد بالنقوش والتماثيل فظهر فن النحت، ثم تفنن المثَّالون في عمل التماثيل الملونة فظهر فن التصوير الذي لم يكن يُستعمَل إلا لتزيين جدران المعابد.٥٩

(١) اليوتوبيا المعمارية

عبَّر فن المعمار القديم عن أحلامٍ مفعمة بالأماني، وتطور عن رسوم وصورٍ معبرة عن الرغبات والأشواق. ونجد هذا في سور أو جدار بومبي Pompeian Wall. فقد رُسمت على هذا الجدار مناظرُ جميلة ومبانٍ مستحيلة التنفيذ على أرض الواقع، وزخارف ومناظرُ أسطورية، وحدائق لها من السحر ما يجعلها تستوقف النظر، وقصور وأعمدة قصيرة ذات انحناءاتٍ مستديرة ميَّزت فن المعمار الروماني، ورسوم لمنازلَ مليئةٍ بالأركان، ومعابدَ صغيرةٍ صاعدة إلى أعلى وكأنها تسخر من القاعدة السكونية التي ترتكز عليها؛ مما جعل الحياة المصوَّرة على سور المدينة تبدو جميلة في أعين المشاهدين. ومع ذلك لم ينظر أحد بعين الاعتبار لهذا العنصر اليوتوبي بما له من قدرة على الإيحاء بالحلم بحياة أفضلَ مقبلة، وما يتضمنه — وبخاصة في الطراز البومبي المتأخر — من عنصر التوقع.٦٠
وخضعت الدول الأوروبية في العصور الوسطى لسيطرة السلطة الدينية المسيحية، فجاء المعمار والفنون بأنواعها تعبيرًا عن هذه السيطرة في منشآتٍ دينية كالكاتدرائيات والكنائس ورسوم وصورٍ مستوحاة من الكتاب المقدس. وظهرت الفنون كخادم لمتطلبات العقائد المسيحية، فكان فن المعمار الديني هو الذي يميز الفن القوطي.٦١ (وهو الطراز السابق لفن عصر النهضة) وساد هذا الطراز سائر أنحاء أوروبا، وتحول إلى طرازٍ قومي واجهه فن عصر النهضة ووجد صعوبةً شديدة في بعض بلدان أوروبا — مثل فرنسا وألمانيا — في إزاحته. وقد تميز هذا الفن بالتخطيط والأعمدة الرشيقة والأبراج العالية والسقف ذي الأقبية المتقاطعة المدبَّبة، والنوافذ المغطاة بالزجاج الملوَّن، وكلها عناصر مترابطة تعطي إحساسًا قويًّا بالقيم الدينية الرقيقة.٦٢ وتُعدُّ كنائس العصور الوسيطة كلها من الطراز القوطي، ولعل أشهرها كنيسة نوتردام دي باري بفرنسا، وكاتدرائية ستراسبورج بألمانيا.
في نهاية العصور الوسطى انتقل فن بومبي من الجدار الخارجي إلى داخل القصور. وبدأت أوروبا في التمرد على سلطة الكنيسة، كما بدأت النزعة الفردية في النمو مع بداية عصر النهضة الذي سادته مجموعةٌ هائلة من التغيرات الاقتصادية والسياسية والدينية التي صاحبها تحول في الفنون يعكس ما تمتعت به الطبقة الحاكمة من ثروةٍ ضخمة وما اكتسبه أمراء المدن وكبار تجارها من مظاهر الثروة والفخامة والعظمة، ورغبتهم في إقامة القصور البديعة الشاهقة. وقد تفتَّحت مجالاتٌ جديدةٌ متعددة أمام رجال العمارة نتيجة لهذه التغيرات وازدهار المدن وما احتاجت إليه من إنشاء مبانيَ عامة وقصور للطبقات الجديدة الغنية، واقترن هذا التغيير بتحول في البنية الاجتماعية للحياة الجديدة التي غلب عليها الصخب والاحتفالات والمهرجانات، وتبع ذلك أيضًا تحول في الفن المعماري ليكون أقدر على التعبير عن قوة هذه الطبقة وإحساسها بالسعادة، فانتقل فن بومبي — كما سبق القول — من الجدار إلى داخل القصور؛ فكان الرسم على الموائد وصالات المآدب حيث صورت المهرجانات والاحتفالات بشكلٍ أسطوريٍّ ساحر، ولم تعد الموضوعات الدينية وحدها هي مجال فن العمارة، بل دخلت موضوعاتٌ جديدة من المناظر الطبيعية ومشاهد الحياة اليومية في المدينة والريف.٦٣ وعندما نشبت الحروب الصليبية تحوَّلت الرسوم والنقوش إلى تصوير الحروب والانتصارات والمناظر التي تصور القديسة التي تبارك الحرب، أي تحولت الرسوم إلى مناظر الفروسية.
بالغ فن عصر النهضة في استعمال الزخارف التي تزين البناء، وأسرف في استخدام الخطوط المنحنية، وازداد التعبير عن البذخ والحيوية والوفرة وملابس المهرجانات الفاخرة والحفلات الصاخبة ورحلات الصيد، فنشأ فن الباروك.٦٤ الذي تميز بنزعة التكلف وإثارة الاندهاش والانبهار المنبعث من الرسوم المفعمة بالألوان، كما تميز معماره بالفخامة والقصور الخيالية التي أراد بها تحقيق الإعجاز في فن المعمار. ونلمح في هذا الفن العنصر اليوتوبي وعمق النظرة إلى الأمام كما تتمثل في استخدامه للمنظور لجعل المكان مضاعفًا أو ثلاثة أضعاف واقعه الفعلي، وفي أسلوب الفراغ لإعطاء الإحساس بأنها مبانٍ حقيقية وليست رسومًا، وهذا ما حققه Giuseppe Galli Bibiena (١٦٩٦–١٧٥٧م) عبقري العمارة المسرحية، وفنان المناظر الأوبرالية. وقد قدم على المسرح منظورًا جديدًا من مسافةٍ جانبية بدلًا من المنظور البسيط للمشاهد، ورسم حوائط وأسقفًا ذات مساحاتٍ مفتوحة، وصور على المسرح مباني مرسومة في اللامتناهي مستخدمًا أساليب الخداع البصري والمناظير لملء الفراغ. ومما يذكر أن هذا الفنان قام ببناء الأوبرا الشهيرة في بايرويت، والمسرح الإيطالي، وأوبرا Dresden، والكنيسة اليسوعية في مانهايم التي تُعدُّ إنجازًا احتفاليًّا مبهجًا بالحجارة.٦٥
ليس بالرسوم وحدها يكون المعمار، فلا بد من جهد البناء الفعلي طبقًا للمثل الفرنسي «ما لم يتشكل لم يوجد.» ومع هذا التشكيل ينمو الجوهر أو المضمون اليوتوبي لفن المعمار. في العصور الوسطى قامت اتحادات بنَّائي الكنائس The church mason’s guilds التي اتبعت قواعدَ سرية — مثلما فعل المصريون القدماء — ولكنها لم تكن تعمل وفق أسسٍ رياضية بل وفق رموزٍ بنائية لما يسمى بأساس المعمار الحجري basis of stone masonry وفي العصور الوسطى المتأخرة بدأت نقابات البناء القوطي تعمل على أسسٍ رياضية بصرف النظر عن الاحتفاظ بسر المهنة أو الإفشاء به، فلم تعد المواد الخام والتقنية والوظيفة هي وحدها التحديدات الأساسية للبناء الفعلي، بل أصبح الإلهام الفني أهم من المواد الخام والتقنية والوظيفة، فهو التخيل أو الخيال، وهو أساس الكمال المعماري الكنسي.٦٦ وقد كان الرمز الديني هو القصد لهذا الإلهام الخلَّاق أو هذا الخيال الفني الطموح، وكان الرمز المعماري لاتحاد بنائي كنائس العصور الوسطى هو معبد سليمان الذي كان في نظرهم أفضل بناء على الأرض، ولاتحاد البنَّائين أسلاف هم موسى والبنَّاءون الكهنة في مصر القديمة والكلدانيون السحرة في وادي الرافدين القديم وحيرام Hiram البناء والمعماري لمعبد سليمان، وامتد هذا التسلسل حتى أرفن فون شتاينباخ Erwin Von Steinbach الذي شيَّد كاتدرائية ستراسبورج. وظل معبد سليمان وراء تاريخ العمارة المسيحية بأكملها على الرغم من تدميره من آلاف السنين، كما ظلت الطوائف الحرفية التي عملت في كنائس العصور الوسطى تنظر إليه باعتباره النموذج السري.٦٧ وتعد كنيسة Würzburg نموذجًا لعمارة سليمان بأعمدتها المطابقة في أوصافها للكتاب المقدس: «على رأس العمودَين صيغة السوسن فكمل عمل العمودين.»٦٨ لقد شدت اتحاد البنائين المسيحيين عاطفةٌ سحرية إلى هيكل سليمان، وبقي الهيكل في اكتماله اليوتوبي نموذجًا لكل النظم المعمارية، كما بقيت أحلام الفن المعماري المفعمة بالأماني حتى القرن التاسع عشر مرتبطة بإعادة بناء هيكل سليمان.

إن الإلهام أو الخيال الفني يعبر عن يوتوبيا تهدف لتحقيق الانسجام مع المكان بشكل أكثر كمالًا. فالعمارة اليونانية — التي لم تكن سرية ولا متعالية كالعمارة المصرية القديمة أو القوطية — قائمة على محاكاة جسد الإنسان كما يتضح في النحت على وجه الخصوص، أي أن القصد اليوتوبي للعمارة اليونانية كان قصدًا إنسانيًّا. بينما كانت الهندسة المتعالية أو السكونية هي الرمز للفن المصري القديم، والحيوية والوفرة هي الرمز المعماري للفن القوطي الوسيط. فكلٌّ من هذين النموذجَين يتضمن عنصرًا يوتوبيًّا للكمال، كما أن رموزهما المعمارية المشار إليها تعبر عن إمكانياتٍ جماليةٍ حقيقية طالما كانت نموذجًا يُحتذى في تاريخ فن العمارة، وإن كان أحدهما يمثل البلُّورة أو السكون، ويمثل الآخر الحيوية أو الوفرة.

يقدم كلٌّ من الفن المصري القديم والفن القوطي نظامًا فريدًا في فن العمارة، وكلاهما ارتبط ارتباطًا وثيقًا بعقيدته الدينية، فكان الدين هو البناء الفوقي لكلٍّ منهما على الرغم من اختلاف الرمز والإرادة المعمارية، وقد قدم كلٌّ منهما يوتوبيا معماريةً مناقضة للآخر؛ فالحضارة المصرية القديمة قدمت — في زعم بلوخ — البلُّورة التي ترمز لسكون الموت، إنها حضارة تتميز بالصرامة التي لا تنطبق على فن المعمار وحده بل تنعكس أيضًا على الحياة الاجتماعية، والحضارة التي ترى كمالها في الموت لا يمكن أن تبنى بمادةٍ حية، فتماثيل الملوك ذات الأجسام المنتظمة تمثل الجسد الميت وليس الجسد الحي. ولكنها أضافت شيئًا جديدًا على فن المعمار، إذ اتخذت من المثلث نموذجًا لبناء الهرم، وهو بناء له غرضٌ عمليٌّ مباشر ويمثل غرفة الدفن أو مقبرة فرعون، وهو بجانب ذلك يمثل الشكل الكوني كما قال بلوتارك «هكذا تصور المصريون طبيعة الكون في صورة مثلثٍ كبيرٍ جميل.» وعلى الرغم من أن عصر الأهرامات بدأ بهرم سقارة السداسي الشكل، وعلى الرغم أيضًا من وجود أشكالٍ أخرى للأهرامات، إلا أن المثلث بقياسه الرياضي أثبت انتصاره وانسجامه مع دائرية الأرض، ويظل الهرم واقفًا صامتًا كالبلُّورة بعيدًا عن الحياة وكأنه أسطورةٌ نجمية لكهنة الشرق القديم.٦٩
أما عن الفن القوطي فهو على النقيض من سابقه يكسر الصرامة ويعبر عن الحياة التي يمكن أن تعيد نفسها من جديد، ليست الهندسة هي نموذجه، بل بعث المسيح من القبر أو قيامة المسيح، ولذلك فإن رمزه المعماري هو الابتهاج والنصر والفرح التي تعد في الفن المصري خروجًا عن القياس. إن الفن القوطي محاكاةٌ ديناميكية للكون، ولبعث المسيح من القبر، أي محاكاة لإعادة الحياة. وإذا كان الفن المصري هو بلُّورة الموت باعتبار أن هذا الأخير هو الكمال المتوقع، فإن الفن القوطي ضد الموت، إنه فن الزخرفة إلى حد الإسراف أو هو شجرة الحياة باعتبار أن هذه الأخيرة كمالٌ متوقَّع ومتجدد. تلك هي السمات الأساسية للأشكال المعمارية لكلٍّ من الهرم في النوع الأول، والكاتدرائية في النوع الثاني، وكلاهما محاولة لتشكيل المكان في شكلٍ أكثر كمالًا، في صمت الموت أو في شجرة الحياة والمجتمع.٧٠

إن الهدف من تشكيل المكان لا يقتصر على إرضاء حاجاتنا المعيشية، ولا هو مجرد مكانٍ مبهجٍ سارٍّ، فقد ارتبطت العمارة دائمًا بالظروف الاجتماعية، لا ببنائها الفوقي فحسب، إنها فنٌّ موضوعيٌّ ملتزم بالعالم المرئي، والبنَّاء يعيد تشكيل العالم المرئي بشكلٍ ماديٍّ تجريبيٍّ ملموس. ولكن ماذا يعني العالم المرئي بالنسبة لفن العمارة؟ إنه يتخذ من الأشكال الطبيعية نموذجًا يُحتذى، ويستمد المعماري من العالم الطبيعي أدق تفاصيله مثل البيضة أو العش كنموذج للمنزل، وهناك أمثلةٌ عديدة على استخدام فن المعمار للأشياء الطبيعية في الزخرفة مثل اللوتس والمحارة، إلا أن الفنان المعماري لا يقلد هذه الأشياء ولا يحاكيها، بل هو يكتشفها ويخترعها إذا لم توجد في العالم الخارجي بشكلٍ مرئي.

وهناك أنساقٌ معماريةٌ قديمة تُعدُّ صورًا موجهة لتاريخ فن العمارة، فكل النماذج التي اتبعت الشكل الهندسي في المعمار تنتسب للنسق المعماري المصري الذي انتقل إلى أوروبا عن طريق أكثر محاورات أفلاطون تأثرًا بالحضارة المصرية وهي طيماوس التي تتسم بالانسجام والنسب الهندسية. في حين أن السماء الهائلة هي الصورة الموجهة للمعمار الروماني وأن البانثينون انعكاس للكون كله، وللقبة والنجوم والكواكب السبعة، فهو يمثل آخر بناءٍ نجمي لأن قبة العالم اختفت من العالم المسيحي بعد ذلك.

إن صورة بَنَّاء العالم World-builder أو نحَّات العالم World sculpter صورةٌ مصرية ترجع للإله الفنان «إله النحت» في ممفيس، وهو الإله المصري الذي يُعد النموذج البدائي لخلق العالم. ولم يكن هذا موجودًا في الأساطير الوثنية عن خلق العالم ولا في الميثولوجيا البابلية التي قدمت الإله باعتباره منظِّم العالم وليس صانعه أو خالقه، لأن العالم مكتمل منذ البداية، والمعروف أنها ميثولوجيا بدون عالمٍ آخر، ولذلك لم تحتج إلى بناء عالمٍ آخر غير هذا العالم الذي افترضت كماله منذ البداية. وصورة بابل التي كان لها دائمًا صداها في الكتاب المقدس لم تكن صورةً موجهة لأشكالٍ معماريةٍ أخرى في العالم الخارجي، بل جاءت هذه الصور من أرض الخروج، من مصر. وقد نسبت كل أعمال «بتاح» إلى يهوه إله الخروج، بحيث أصبح الإله المصري صورةً موجهة لكل أساطير خلق العالم بما في ذلك قصة الخلق المعروفة في الكتاب المقدس. جاء إذن فن العالم من أرض الخروج.٧١ وشعر يهوه شعورًا غريبًا تجاه العالم القائم أو الموجود والكون المنتهي بالفعل، فكانت السماء الجديدة والأرض الجديدة: «لأني ها أنا ذا خالق سمواتٍ جديدة وأرضٍ جديدة فلا تذكر الأولى ولا تخطر على بال.»٧٢
إن النسب الهندسية السرية لمعبد سليمان مأخوذة من الهرم والمعبد المصري، فقد تحول قصر أو معبد بتاح إلى معبد للخروج، وارتبط الحلم المعماري بعالمٍ أفضل إلى حدٍّ بعيد بتاريخ العقيدة التي امتدت من عبادة الشمس عند المصريين القدماء إلى نبوءه الخروج في الكتاب المقدس، حتى إن موسى بن ميمون يفسر وقوف إبراهيم على الجانب الغربي من جبل مورايا Moria بأنه نوع من المعارضة للديانة المصرية والبابلية القديمة التي اتجهت لعبادة الشمس، ولذلك أدار إبراهيم وجهه عن مشرق الشمس ليتجه ناحية الغرب. وهذه هي الأسطورة النجمية الموجهة للعمارة المسيحية التي سعت لبناء عمارةٍ جديدةٍ باعثة على الأمل فكانت شجرة الحياة في الفن القوطي، وتوقع أرضٍ جديدة وسماءٍ جديدة.٧٣
إذا كان للعمارة القديمة — بعد استبعاد أيديولوجيتها الدينية — وظيفة، فما هي وظيفة فن المعمار في العصر الحديث بعد أن اتخذت الأشكال المعمارية شكلًا مختلفًا أشد الاختلاف، فبدت المباني كما لو كانت متأهبة للرحيل، وظهرت في شكل السفينة أو الصندوق. وعلى الرغم من أنها — أي العمارة الحديثة — اتجهت للانفتاح على ضوء الشمس، وفتحت مساحاتٍ كبيرة لاستقبال ضوء الشمس من خلال نوافذَ زجاجية، إلا أن هذا الضوء لم يبعث على السعادة، لأن الأماكن والنوافذ والأبواب المفتوحة التي اتجهت إليها العمارة الحديثة تحتاج إلى الحرية والأمن الذي لم تستطيع تحقيقه في ظل النظم الاستبدادية (فاشية ونارية) لذلك عاد الحلم المعماري مرةً أخرى إلى منازلَ على هيئة كهوف وقلاع.٧٤
لقد قامت العمارة القديمة التي حددها Vitruvius على ثلاثة مبادئ هي المنفعة Utilitas والصلابة Firmit والخيال Venustas الذي زخرفه وزيَّن البناء في كليته وتفاصيله، وعندما دُمِّر العنصر أو الشكل الوظيفي أصبح البناء بشعًا monstrous كرسوم الفنانين التعبيريين، وسعى المعماريون لإيجاد الفراغ، والبناء على مكانٍ أجوف.٧٥
وعندما تطورت حركة المعمار وأصبحت المباني تحتاج إلى مدن وميادين، كان لا بد من التصميم للمدى البعيد، أي للمستقبل. واتجه المجتمع البرجوازي والرأسمالي القائم على الربح لبناء مدنٍ صناعية بلا فكر ولا تخطيط، مدن لا يجمعها سوى الكآبة والشوارع المكشوفة في فراغ، على العكس من المدن التي نشأت في مجتمعات ما قبل الرأسمالية ولم تنشأ بطريقةٍ عشوائية. إن تخطيط المدن لم يقتصر على العصور الحديثة بل له جذورٌ تاريخيةٌ بعيدة. وقد انحدرت إلينا تصميمات المدن من عصر ما قبل الإسكندر — وهو المؤسس الكبير للمدن — وأشار أرسطو — في كتابه السياسة II فصل ٨ — إلى المعماري هيبو داموس Hippodamos الذي اخترع تقسيم المدن وكان في نفس الوقت أول رجل وضع دستورًا سياسيًّا، وقد قام بتخطيط مؤسساتٍ سياسية وأبنيةٍ خاصة بالمنفعة العامة، وشرع في إقامة المدن على أساسٍ اجتماعي، بل إن عملية التخطيط نفسها كانت تقوم على دراسةٍ دقيقة ومنهجٍ واضح، وكان تخطيط المدن معروفًا أيضًا في زمن الإمبراطورية الرومانية عندما حوَّل أوغسطس مباني روما من الآجر إلى الرخام، وعندما أعاد قسطنطين بناء بيزنطة وجعلها عاصمةً ملكية. وقد كان نصف هذا التخطيط يوضع على أساس اعتباراتٍ هندسية ونصفه الآخر على اعتباراتٍ نجمية.٧٦
ثم جاء معمار النهضة ليدخل في حسابه النسب الرياضية؛ فتحوَّلت العمارة إلى عالمٍ آليٍّ ميكانيكي ساد في عصر الباروك — على الرغم من الإسراف في الزخرفة والنحت — وبقي التصميم الهندسي لفن الباروك نموذجًا للمدن البرجوازية.٧٧ وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر سادت الفوضى المعمارية، فاختفى التخطيط عندما سيطر اقتصاد الربح في المجتمعات الرأسمالية، على الرغم من وجود بعض الاستثناءات في بعض الشوارع المنحنية والفيلات أو القصور الفخمة، ثم جاء دور الهندسة المدنية في تصميم وتخطيط الفوضى المعمارية بغرض إيجاد مدنٍ مثالية وتحقيق التناسق والانسجام في فن المعمار، وهذا ما فعله المهندس الفرنسي Ledoux (١٧٣٦–١٨٠٦م) عندما صمم مدينةً مثالية مخططةً بغرض الإقامة الدائمة، وتحتوي على نماذجَ مختلفة للبناء طبقًا لاحتياجات السكان، ومراكز العمل ومساحاتٌ خضراء في كل مكان. ويشبه بلوخ هذا المعمار بما جاء به كامبانيلا في يوتوبياه التي قامت على النظام الصارم وعلم التنجيم؛ إذ كانت عمارة Ledoux تدور في نظامٍ فلكي لأنه كان يعتقد أن البَنَّاء builder هو المنافس للإله، ومن ثم يسعى لتشكيل المكان على نمط النظام الكوني الذي يفترض كماله منذ البداية وإن هندسته أيضًا مكتملة. وهكذا جاءت يوتوبياه المعمارية «بلورة» مصرية أي يوتوبيا ساكنة هدفها المعماري هو تحقيق الانسجام مع الكون.٧٨

إن العمارة في العصر الحديث — مثلها مثل التقنية — عمارةٌ مجردة، ومدنها مدن بلا حياة، مغتربة عن الإنسان الذي يشعر نحوها بالاغتراب. إنها عمارة تعكس برودة العالم الآلي، والمكان المعماري فيها «إنشاءاتٌ مجردة» يبقى العنصر السكوني فيها مسيطرًا على فن العمارة التي لم تتصل بالعالم المادي، على الرغم من أن هدفها هو الانسجام مع الكون. والسؤال الآن: كيف يمكن أن يمتزج النظام السكوني للعمارة بشجرة الحياة الحقيقية؟ وكيف يمكن التأليف بين النموذجَين المعماريَّين المصري والقوطي؟ لا شك أن هذا أمرٌ مستحيل بدون عنصرٍ ثالثٍ أصيل بتوسط بينهما ويجده بلوخ في الماركسية التي تتوسط بشكلٍ منتج وعيني من خلال اتجاهها إلى «تطبيع» الإنسان وإلى «أنسنة» الطبيعة.

إن العمارة هي محاولة إنتاج وطنٍ إنسانيٍّ جديد في العالم القائم بشكلٍ أكثر جمالًا وانسجامًا. واليوتوبيا المعمارية تمثل بداية ونهاية اليوتوبيا الجغرافية نفسها، وكأنما تقصد إلى تحقيق أحلام الجنة الأرضية، وإيجاد «أركاديا» في المكان وفي حدود عالمٍ أفضل في بناءٍ فعلي يبدو أكثر جمالًا ويضم كل ما يُرسَم ويُصوَّر ويُنحَت ويُنقَش. والعمارة الحقيقية هي استشراف مكان أكثر ملاءمة للإنسان يقوم على مزج النظامين السكوني والحيوي، فالسكون هو الذات والعالم الخارجي هو الموضوع، وعملية التوسط بينهما طبقًا للجدل الهيجلي تأتي على يد الماركسية التي «أنسنت» الطبيعة و«طبَّعت» الإنسان.

يتهم بلوخ الفن المصري القديم بالسكون والثبات الذي يعبر عن الجسد الميت أكثر مما يعبر عن الجسد الحي، ويصفه بأنه كالبلورة التي ترمز لسكون الموت في مقابل الفن القوطي الذي يرمز لشجرة الحياة. والحقيقة أن هذا الحكم لا يعدو أن يكون مجرد ترديد لأقوال بعض الدارسين الغربيين عن الفن المصري القديم، كما يخالف الطابع العام الذي يميز تفسير بلوخ لتاريخ الفلسفة تفسيرًا غير تقليدي، ولا يتفق مع توجهه الماركسي الذي يحتم عليه الاهتمام بالأساس الاجتماعي للفن. وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن يوضع في الاعتبار أن المجتمع المصري القديم انقسم إلى فئتَين اجتماعيتَين، طبقة الحكام أو الملوك الفراعنة، وطبقة عامة الشعب، وهذا التقسيم الطبقي انعكس على الفن المصري القديم الذي يمكن النظر إليه على مستويَين: الفن الذي يصور بل ويخلد حياة الملوك، والفن الذي يصور حياة العامة من الناس. وإن التماثيل أو الرسوم التي يصفها بلوخ بالسكون والثبات إنما تعبر عن طبقة الملوك التي كانت تقاليدها تحتم عليها الوقار الذي يفرضه الطابع الرسمي لفئة الملوك بصفةٍ عامة، بالإضافة إلى الجلال الذي يفرضه الاعتقاد الديني السائد في هذا المجتمع والذي يؤلِّه هؤلاء الملوك. وربما كانت هذه هي الأسباب التي دعت بلوخ — وغيره ممن يتهمون الفن المصري القديم بالجمود — إلى إطلاق مثل هذه الأحكام العامة على هذا النوع من الفن. لكن كل هذه الاتهامات أغفلت ما يمكن أن نسميه بالمستوى الآخر من الفن المصري القديم الذي يصور عامة المصريين وتفاصيل حياتهم اليومية وعملهم في الحقول واحتفالاتهم في الأعياد والمهرجانات كأعياد الحصاد ووفاء النيل وأعمال الحرث والغرس وما اتسمت به هذه الرسوم من حركة الأشخاص وانحنائهم، وإيقاع الرقص المصري الذي نلمسه في حركة الفنانين المصورة على جدران المعابد. وتتضح الحركة وتزداد الرسوم التي تعبر عن الفعل في تلك الرسوم الخاصة بتصوير المعارك الحربية المفعمة بالحيوية، بالإضافة إلى الألوان الزاهية والمشرقة التي تتسم بها كل الرسوم المصرية القديمة والتي لا يمكن وصفها بأنها ترمز للموت، وإنما هي موحية بالحياة وبالصراع مع الموت ومقاومته.

(٢) فن التصوير

التصوير الفني هو الشعور أو الصوت الداخلي للفنان، وعندما يتحرك هذا الصوت للتعبير عن نفسه تعبيرًا خارجيًّا يمر هذا الشعور عبر اليد الموهوبة المبدعة للفنان، فالصورة الفنية لا تُرى فقط بل تُسمع أيضًا، إنها تروي — بقدر ما لديها من تأثيرٍ مبهج — ما نراه فيها بأسلوبٍ مفعم بالألوان المشرقة. وليس مهمًّا أن تكون هذه الألوان مطابقة للعالم الخارجي أو الواقعي، فغالبًا ما تجذبنا الصور الفنية إلى عالمٍ بعيد عن الواقع، وإنما المهم أن يكون لديها القدرة — من خلال الأضواء والظلال والتكوينات والأبعاد والزوايا — على استشراف المستقبل وإلقاء الضوء على شيء أو أشياء لم توجد بعدُ في عالم الواقع. ولقد مر التصوير — شأنه شأن سائر الفنون الأخرى — بمراحل تطور مختلفة كشف في كل مرحلة منها عن بُعد من أبعاده اليوتوبية الكامنة في داخله.

وبالابتعاد عن المرحلة الزمنية التي كان الفن فيها خادمًا للدين ومُكرِّسًا لتصوير موضوعاته، والاتجاه إلى المرحلة التي عبر فيها عن الحياة اليومية؛ يتضح أن هولندا من أكثر البلاد التي شهدت نهضةً فنيةً كبيرة في هذا المجال، وظهر بها مصوِّرون عظام عبروا عن الموضوعات الدنيوية التي أصبح لها استقلالٌ مطلق، وأخذت تعبر عن موقف من الحياة لا ترفُّع فيه، مبني على التجربة اليومية، موقف لا يترفع عن الواقع وإنما يعده شيئًا تم الانتصار عليه وبالتالي أصبح مألوفًا، وكأن هذا الواقع قد اكتشف، وامتلك، وتم الاستقرار فيه للمرة الأولى.٧٩
أبدع الفنانون الهولنديون في تصوير الحياة العائلية المتمتعة بالدفء والهدوء والسكينة والحياة الآمنة المطمئنة التي لا يعتريها أية تغيراتٍ فجائية، كالزوجة التي تقرأ الخطاب، والأم التي تراقب الأطفال وهم يلعبون في الساحة، والسيدة العجوز التي تتنزه في الشارع بينما تتخلل أشعة الشمس المنظر الصامت، والعديد من اللوحات التي تعبر عن الهدوء واللامتناهي، والضوء الساقط من زوايا مختلفة ومن إطار النافذة والباب المفتوح، ولمبات الحائط المعلقة، والكراسي ذات المساند، إلى آخر هذه الأشياء التي تعبر عن الراحة البرجوازية وأسلوب الحياة اليومية المنتظمة والمألوفة داخل الغرف الضيقة. وعندما يلقي الفنان الضوء على العالم الخارجي من خلال النافذة، فإن المنظر لا يمتد لأكثر من مائة متر أو مائتين كما في بعض لوحات بيتر دي هوخ Hooch (١٦٢٩–بعد ١٦٨٤م) الذي تعبر لوحاته عن حياة الطبقة البرجوازية المتوسطة.٨٠
في نهاية العصور الوسطى أصبح للبعد الثالث مكان في الصور المرسومة، واتجه الفنانون إلى تصوير المنظر المفتوح المفعم بالأمل، وظهرت في الصورة أبعادٌ مفتوحة على العالم الطبيعي للإيحاء بالامتداد الهائل لعالمٍ لا متناه. صار هذا البعد جزءًا لا يتجزأ من تصميم الصورة وكأن المُشاهِد لها ينظر من خلال نافذةٍ كبيرة ليمتد النظر إلى ما وراء الأفق، كما يتضح في لوحة الفنان الهولندي جان فان إيك Jan Van Eyck.٨١ (١٣٩٠–١٤٤١م) «مادونا» حيث وظف المنظور في خدمة المنظر الموضوع داخل إطار من العمارة، ويظهر المنظر الطبيعي نفسه بوصفه نافذة للمنزل، وأصبحت خلفية الصورة هي المدينة وأبراجها وكاتدرائيتها، والنهر الذي تجري فيه السفن والجسر المزدحم، وتلالًا خضراء صاعدة في الأفق وجبالًا مغطاة بالثلوج. وهكذا أعطى المنظور من خلال إطار الصورة أرضًا مفعمة بالحلم وواقعًا آخر متعدد الطبقات.٨٢
ولا يوجد فنان اهتم بالمنظور وأبدع فيه مثلما فعل ليوناردو دافنشي (١٤٥٢–١٥١٩م) في لوحته «عذراء الصخور»؛ إذ لا تبدو الصخور منفصلةً عن الأشخاص الذين يبدون كأنهم طافون في هذا الجو الشاعري الغامض المغلَّف بالظلال. ولقد صارت الظلال منذ اكتشاف دافنشي لأهميتها عنصرًا أساسيًّا في اللوحة ونبذت طريقة الاهتمام بتأثير الألوان الزاهية.٨٣ وتميز دافنشي برسم أشخاصٍ ذات أبعاد ثلاثة باستخدام الضوء والظل دون تحديد لمعالمهما كما في لوحته التي طبقت شهرتها الآفاق «الموناليزا»، هذه اللوحة التي جاءت بعنصرٍ ثوري في تطور مفهوم النهضة لفن البورتريه حيث أتت بعلاقةٍ جديدة بين الوجه Figure وخلفية الصورة؛ مما جعل من «الموناليزا» لحظة تنوير كلية،٨٤ بابتساماتها الغامضة ونظراتها التي تلاحق المشاهد من كل الزوايا، وخلفيتها الضبابية. وتميز دافنشي برسم أشخاصه داخل تكوينٍ هرمي بطريقةٍ مبتكرة لم تكن معروفة من قبلُ، وخفف من التأثير الجاف للشكل الهندسي بأساليب علمية.٨٥
إن الحلم الذي جسدته لوحة «الموناليزا» في الخلفية، تكرر في الموناليزا نفسها، أي تكرر شكل المنظر الطبيعي في تموُّجات ثوبها وجفون عينَيها الهادئتَين، وفي ابتسامتها الغامضة، فالمنظر الطبيعي الذي تصوره خلفية الصورة لا يقل أهمية عن وجه الموناليزا نفسها؛ مما جعل اللوحة تعكس فلسفة دافنشي ومفهومه عن العالم «فكل جزء ينزع للاتحاد مع الكل مرةً أخرى ليهرب من النقص، وهذا النزوع هو الخلاصة والجوهر، وصداقة الطبيعة والإنسان هي نموذج العالم كله.»٨٦ إن الامتزاج بين المنظر الطبيعي، بجباله وأضوائه الخافتة وبحيراته وحقوله الشاحبة اللون، وبين الموناليزا، التي تحدق في كل الزوايا مع الغموض الذي يحيط بها والأرض الضاربة في الخضرة والضوء المفعم بالدخان حولها، إنما يعبر عن وحدةٍ كلية رسمها الفنان بالأضواء والظلال. وهذا أيضًا هو الذي عبَّرت عنه لوحة «القديسة آن» التي أوضحت قدرة دافنشي على مزج الجمال الأنثوي بجمال الطبيعة.
وتتحول الخلفية المنفتحة على اللامتناهي عند دافنشي إلى خلفيةٍ مظلمة عند الفنان الهولندي رمبرانت Rembrandt (١٦٠٦–١٦٦٩م) الذي تميز بدقة التعبير عن الوجه الإنساني فيما يعرف بفن البورتريه، واهتم اهتمامًا خاصًّا بتوزيع الضوء في لوحاته توزيعًا متفردًا: كانبعاث الضوء القوي من أحد جوانب اللوحة، أو تدفقه من جهةٍ واحدة، أو سقوط الضوء الساطع خارج اللوحة على خلفيةٍ مظلمة. ويتضح هذا في اللوحات العديدة التي رسمها الفنان لزوجته ساسكيا Saskia. كما يتضح في لوحته الشهيرة «نوبة الحراسة الليلية» حيث يسطع الضوء من الخوذة الذهبية التي يضعها قائد الحراسة الليلية على رأسه، وهذا البريق المتجمع للضوء يلقي بظلاله على خلفيةٍ مظلمة تتداخل فيها الألوان البُنِّية والذهبية ويعمل النور داخل الظلام، وتخفي الظلال معظم جنود الحراسة الليلية وإن كانت لا تخفي حركاتهم الخافتة. ويصدق على هذا أيضًا مجموعة لوحات العذاب Passion، وهي اللوحات التي تصور عذاب المسيح حيث يقف الأشخاص وحتى الأشياء في خلفيةٍ ممتدة منعزلة ومظلمة، وتظهر الألوان من انعكاس الضوء الذي ينبعث من مركز الصورة وإن كان لا يصدر من أشعة الشمس، ولا من ضوءٍ صناعي، وإنما يشرق من لحظة انطفاء حياة المسيح على الصليب. هذه المفارقة في استخدام رمبرانت للضوء تعبر عما يمكن تسميته منظور نور الأمل Perspective light of hope فقد استبدل بالمنظور الكوني المفتوح عند دافنشي مكانًا مظلمًا، وظِلَّ الضوء الذي يتعارض كلٌّ منهما في طريقة استخدامه يرسم حقيقة الأمل والإشراق.٨٧
ويتحول التصوير إلى رسم مناظرَ يوتوبيةٍ واضحة حتى في عنوانها كما في لوحة أنطوان واتو Antoine, J. Watteau٨٨ (١٦٨٤–١٧٢١م) «الإبحار إلى جزيرة كيثيرا».٨٩ وهي تصور مجموعة من الشبان والشابات يقفون في أحضان الطبيعة في انتظار السفينة التي ستُبحر بهم إلى جزيرة الحب. وقد صورت هذه اللوحة ثلاث مرات، وتعتمد النسخة الأولى منها على المرحلة الانطباعية التي يبدو فيها ترتيب الأشكال مألوفا وتعد مجرد رحلةٍ رومانسية. وفي النسخة الثانية (في باريس) ظهرت تشكيلات في المنظور واتضح الحلم في منظرٍ طبيعيٍّ ساحر يحيط بالأزواج الذين ينتظرون سفينة الحب على الماء الفضي، وليل الجزيرة المأمولة غير مرئي ولكنه ينعكس بشكلٍ مباشر على الحركة والسعادة التي تنبعث من الصورة بخلفيتها اليوتوبية الواضحة. أما النسخة الثالثة (في برلين) فتبدو فيها الخلفية أكثر زينة، والسفينة التي تحوم الملائكة حولها على أهبة الاستعداد للرحيل، وثمة تجاور مباشر في استعمال اللون الأحمر الوردي والأزرق السماوي يرف حول منظر الإبحار؛ مما يوحي بأنه وعدٌ مرسل من جزيرة الحب بسعادةٍ متوقعة.٩٠
عبَّر التصوير عن الرحيل إلى عالمٍ أفضل كهروب من الكدح اليومي وأمل في تحقيق السعادة في عطلة يوم الأحد الخالد، وقد تحول يوم الراحة في العصور الوسطى إلى عالم آخر يتحقق فيه السلام والخير في اللحظة الساكنة وراء هذا العالم. ولذلك ظلت صور حكايات الكتاب المقدس والحكايات الدينية هي الشكل الرئيسي للفن في البلدان الكاثوليكية، وفي تلك التي يحكمها ملوكٌ ذوو سلطةٍ مطلقة … ولم تكن موضوعات الحياة اليومية والمناظر الطبيعية والطبيعة الصامتة سوى عناصرَ مساعدةٍ في التكوينات المستمدة من الكتاب المقدس ومن التاريخ والأساطير.٩١ وفي هذه الفترة لم يكن المنظور مألوفًا، وربما يرجع هذا إلى طبيعة الموضوع الديني الذي تتناوله هذه الرسوم. وجاء جيوتو Giotto (١٢٦٦–١٣٣٧م) في نهاية العصور الوسطى ليعبر عن التراتب في الفكر الديني، فكل شيء في لوحاته يأخذ مكانه المحدَّد له طبقًا لنظامه أو وضعه الديني، حتى الملائكة تطير في الأماكن المحددة لها فلا تزحم اللوحة ولا يأتي وجودها مصادفة، وتوزيع الأشكال على الأماكن على أساس قيمتها الروحية.٩٢ وتظهر الطبيعة على حافة هذا النظام.٩٣ وعلى الرغم من أن جيوتو يُعد مؤسس الواقعية في الغرب وصاحب ثورةٍ كبيرة في تاريخ فن التصوير؛ حيث يعتبر أسلوبه الحد الفاصل بين التقاليد الجامدة وتقاليد فن النهضة الحديثة ونهاية فترة في فن التصوير كانت تسيطر عليها فكرة تصوير المقدسات فقط وبداية فترة تهتم بالإنسانيات،٩٤ كما يعده البعض أيضًا من أعظم فناني النزعة الكلاسيكية البرجوازية التي حققت توازنًا كاملًا بين العناصر الطبيعية والعناصر الشكلية في التصوير. على الرغم من كل ذلك إلا أن فن جيوتو يتطابق مع صورة العالم كما حددها توما الأكويني، وكان فيها الإيمان بالتراتبية هو المقدمة المنطقية الوحيدة للبرهان الأنطولوجي على وجود الله. إن الله هو الوجود الحقيقي لأنه كلي وكامل، لذلك رسم جيوتو لوحاته من بُعدين، وأضاف تراتبية المكان إلى تراتبية الوجود. وتحولت اليوتوبيا المميزة لعالم جيوتو إلى مجرد ميثولوجيا وانتفت عنها نزعة التفاؤل، كما تحطم بناؤه مع نهاية الثيوقراطية-الإقطاعية في العصور الوسطى.٩٥ وغلب على يوتوبياه طابع السكون الذي يعلو على الحركة، أي أنها يوتوبيا مكانيةٌ ساكنة وليست زمنيةً لا نهائية.
ثم تحرر التصوير من أسر السلطة الدينية في نموذج الفن الهولندي وتصويره للحياة المنزلية. ولكن هذا النوع من التصوير لم يُرضِ أيضًا الذات البشرية التواقة للرحيل إلى عالم أفضل من جدران المنزل وحجراته، إلى عالم يخرج بها عن نطاق الحياة اليومية الرتيبة، فتحول الرسم إلى تصوير الحياة خارج المنزل بحدوده الضيقة إلى أماكنَ طبيعية أكثر اتساعًا وانفتاحًا في الهواء الطلق. وقد صوَّر العديدُ من الفنانين عطلة يوم الأحد أو يوم الراحة، مثل الفنان الهولندي بروجيل Brueghel (١٥٢٥–١٥٦٩م) في لوحته «أرض الكوكايين» التي تصور حشدًا من الفقراء الحالمين بالطعام والشراب في يوم الأحد، منهم الفارس والعالِم والفلاح، وقد نام بعضهم بعد إشباع جوعه، وبقي العالِم مفتوح الفم والعينَين يحلم بمشويات ليس لها أثر في الأوعية الخاوية حوله، وربما يحلم بلحم الخنزير الذي يظهر بالفعل في خلفية المنظر الطبيعي للصورة، حيث يشرق النور من الخلف ليُسلَّط على الخنزير الذي ربما يكون موضوع الحلم ورمز إشباع المعدة الخاوية.
وتعبر أيضًا لوحة الفنان الإيطالي جيور جيوني Giorgione (١٤٧٨–١٥١٠م) «حفل موسيقي في الهواء الطلق» عن يوتوبيا يوم الأحد، فهي تصور رجالًا يستمعون للموسيقى في يوم العطلة في صحبة سيداتٍ عاريات، وفي أحضان الطبيعة الساحرة، وقد كانت هذه اللوحة نموذجًا لصورة الفنان الانطباعي الفرنسي مانيه Manet (١٨٣٢–١٨٨٣م) «غداء على العشب» الذي أعاد هذا المنظر بدون موسيقى، وصور حديقة أبيقورية يسطع عليها ضوءٌ خافت يسقط من بين الأشجار ويحيط بالأزواج، وتتميز اللوحة بالبساطة والحضور والاستمتاع الحسي بعطلة يوم الأحد وما فيه من إمكانٍ فعلي للطبقة الوسطى الصغيرة،٩٦ وقد أثارت هذه اللوحة ثائرة النقاد الذين اعتبروها سخريةً قاسية من بعض طبقات المجتمع وخاصة الطبقة البرجوازية.
ثم تأتي لوحة الفنان الفرنسي جورج سورا Seurat (١٨٥٩–١٨٩١م) «نزهة على نهر السين» لتعبر عن المعنى السلبي ﻟ «غداء على العشب» حيث يصور الطبقة البرجوازية الحقيقية بوجوهٍ فارغةٍ مسترخية، ونهرًا شاحبًا وقواربَ مبحرة بتراخٍ في المؤخرة، كما تبدو الشمس وكأنها العالم السفلي هاديس. وتعد هذه اللوحة نموذجًا لما يسمى بالكسل الحلو وانعدام الوعي اليوتوبي. وتحول التصوير مع سيزان (١٨٣٩–١٩٠٦م) إلى تبسيط للموضوعات، فقدم صورةً إيجابية ليوم أحد الطبقة البرجوازية، وأصبحت اللوحات تعبيرًا عن ممكنٍ ساكن في طبيعةٍ ريفيةٍ بسيطة، وأصبح هدوء يوم الأحد عينيًّا ملموسًا في حاله من الطمأنينة والرضا المتمثل في قطف التفاح والبرتقال والليمون بعيدًا عن صراعات الحياة المدنية التي سادت القرنين التاسع عشر والعشرين. ثم هجرت يوتوبيا يوم الأحد أوروبا كما في لوحات الفنان الفرنسي جوجان Gauguin (١٨٤٨–١٩٠٣م) إلى عالمٍ آخرَ بعيد وبدائي، إلى تاهيتي التي اكتُشفت عام ١٦٠٦م، ونظر لها الأوروبيون كأنها قطعة من الفردوس حتى دخلت في رسوم يوم الأحد التي طغت عليها السعادة.٩٧

والآن، كيف يُحكم على العمل الفني بالأصالة أو الزيف؟ وكيف يتم تقييم الظاهرة الجمالية، فيُحكم عليها بأنها حقيقةٌ أصيلة أو وهميةٌ مزيفة؟ إن مثل هذا السؤال يعبر عن أحد الإشكالات الهامة في علم الجمال. ولا يمكن بطبيعة الحال الاستفاضة في عرض هذه المشكلة التي تخرج عن حدود هذا البحث، ولذلك يمكن الاكتفاء بعرض وجهة نظر بلوخ في هذا الموضوع إذ يؤكد أن الحكم على العمل الفني وتقديمه لا بد أن يكون في حدود ما يحمل هذا العمل من بُعدٍ يوتوبي، أي بقدر ما يعبر مضمونه عن الأمل الكامن فيه.

إن الاستطيقا الكلاسيكية تعبر عن استطيقا خالصة للتأمل كما هي عند كانط الذي قصر موضوع الجميل على التأمل الخالص. فالفن عند كانط عمل يقصد من ورائه المتعة الجمالية الخالصة، بمعنى أنه حرٌّ منزه عن كل غرض سوى المتعة الفنية ذاتها.٩٨ بذلك يكون الموضوع الجمالي مقصورًا على الحاضر وبعيدًا عن الوجود في المستقبل، وكأن الفن يبرر العالم كظاهرةٍ جمالية بتعبيراته الشكلية ومن خلال الكمال الشكلي، ومن هنا تنظر الاستطيقا الكلاسيكية إلى الموضوع الجمالي من ناحية مظهره فقط فيتحول إلى نوع من المتعة الجمالية، كما تصبح الاستطيقا ميتافيزيقية عند شوبنهور تُحرِّر الإنسان من إرادة الحياة.٩٩ إن الفنان في نظره — أي شوبنهور — هو في لحظة الإبداع إنسانٌ متأملٌ هادئ استطاع أن يحطم قيود الرغبة، ويتحرر من أسوار الفردية، فهو أشبه ما يكون بالمتصوف الغارق في سكون النظر العقلي المحض، السابح في فيض من السكينة الروحية الخالصة … لقد قال شوبنهور باستطيقا سلبية تقوم على النظر والتأمل، وتعتبر أن مهمة الفن لا تكاد تتعدى معرفة المثل أو الماهيات.١٠٠ وكذلك فعل هيجل على الرغم من نزعته التاريخية واهتمامه بالمضمون ومعارضته للشكلية لأن الاستطيقا عنده تنحصر أيضًا في نطاق الفن الساكن المتأمل.
أما عن الاستطيقا الماركسية كما هي عند لوكاتش على سبيل المثال الذي يعبر عن النزعة الواقعية، فحتى من وجهة نظر هذه الواقعية — التي يتهمها بلوخ بأنها واقعيةٌ فجة — وحتى لو بدت الأعمال الفنية التي تعبر عنها مكتملة من الناحية الشكلية البحتة، فهي لا بد أن تكون غنية في مضمونها معبرة عن الواقع الذي هو عملية صيرورةٍ متفتحة على آفاقٍ مستقبلية. فالعمل الفني ليس مجرد شيءٍ محسوس يظل دائمًا على ما هو عليه، بل هو حقيقةٌ حية يطرأ عليها الكثير من التغير، بفعل تلك الصيرورة الحضارية التي لا بد لكل عملٍ فني من أن يندمج فيها ويتأثر بها.١٠١
ويدل هذا على أن الفن بالمفهوم الجدلي يعبر عن صيرورةٍ واقعية وليست مزعومة، فهو من ناحية مضمونه ومن الناحية النظرية لا بد أن يكون فنًّا متفتحًا وغير منتهٍ، لأنه يصور النزوعات والإمكانات الكامنة في الموضوعات. إن العمل الفني يصور الجميل على أنه جدل الوجود في مرحلةٍ سابقة على المظهر الذي يبدو عليه. والفن بمفهومه الجدلي عمل لم يكتمل بعدُ شأنه شأن الواقع نفسه، فكلاهما منخرط في العملية الجدلية، وكلاهما مسيرةٌ مفتوحة نحو كمالٍ لم يتحقق بعدُ. وهذا على العكس من معالجة المثالية التي اقتربت مما يسمى امتلاء أو تحقيق كمال الواقع fullness of perfection of the real، وكأن العالم الذي هو متغير في كل وظائفه الثقافية الأخرى قد بلغ الغاية من روعته وكماله، مع أن الفن هو النزوع لهذا الكمال الرائع، والإمكان الواقعي الموضوعي لهذا الكمال.١٠٢ إن المعالجة المثالية للموضوع الجمالي، تصنع وهمًا جماليًّا منفصلًا عن الحياة، أما الفن الذي يتناول الإمكانيات الكامنة وراء المظهر أو المظهر البادي من الواقع الممكن فهو وحده الذي يستحق اسم الفن، لأنه يضع نفسه في أفق الواقع الذي لم يزل في سبيله إلى التحقق. والمضمون الفني يجب أن يُنظر إليه نظرةً يوتوبيةً واقعية لا نظرةً وهميةً مجردة تصور المظهر كأنه لعبةٌ مكتملة. وهكذا يقاس الفن بمقياس موضوعاته ذات الدلالة اليوتوبية، لأنه يخلق علاقةً معرفية بالأمل لا مجرد متعةٍ جماليةٍ سطحية.
وهذا هو الذي أدركه الفن الكلاسيكي أيضًا وإن كان قد أدركه بشكلٍ مثالي-موضوعي كما تؤكد عبارة شيللر «الجمال هو الحرية في المظهر.» ويقول كانط في «نقد ملكة الحكم»: «إن القدرة على إدراك الجليل تدل على قدرة في العقل تتخطى كل مقاييس الحواس … والجليل يجلب معه فكرة اللانهاية، ولهذا فإن الجليل يكون طبيعة في أحد مظاهره التي يجلب تأملها فكرة اللانهاية.» وليست اللانهاية هنا إلا ما يجلب معه الشعور بحريتنا في المستقبل.١٠٣ تقوم الاستطيقا القديمة إذن على فكرة الجليل التي يصفها كانط بأنها سعادةٌ مبرأة من كل غرض أو مصلحة، تمامًا مثل الفن الإغريقي الذي يقوم على مقولة الجليل، والذي ينسب عادة لموضوعاتٍ دينية ويتميز برجفة الدهشة التي قال عنها جوته إنها أفضل ما في الجنس البشري.
إن مملكة الإمكان أو الممكن الواقعي هو الشرط الأساسي للفن الذي يجب أن يمتد لعالمٍ لم يوجد بعدُ. والنزعة الواقعية للفن يجب ألا تكون وصفية بمعنى تفسير الواقع أو وصفه، وإنما يجب أن تكون مرآة للتوقع الباطن داخل العمل الفني. إنها نزعةٌ واقعية ذات دلالةٍ يوتوبية. ويخلص بلوخ من هذا كله إلى أن الإرادة الفنية يجب أن تتحرر من النزعة الشكلية التي تحمل سمات مجتمعٍ برجوازي كل ما يميزه هو السعادة الشكلية والمظهرية، أي أن يخرج من نطاق الشكلية ومن نطاق التأمل. فلا يكفي في العمل الفني أن ننظر إلى العالم نظرةً جديدة، بل يجب أن نخلقه خلقًا جديدًا. فالفنان ليس مجرد صانع، وإنما هو خالق — كما أطلق عليه المعمار الفرنسي Ledoux — يذيع أسرار الآلهة، إذ يصرح لنا بتلك المعاني الخفية والعلاقات المطوية والقيم المستترة التي أودعتها الآلهة صدر المخلوقات. بل إن الفنان قد يزعم لنفسه الحق في إعادة خلق هذا الكون، لكي يبين للآلهة كيف كان يمكن أن تجيء الخليقة أفضل، أعني أكثر إثارة وأخصب وجدانًا وأعمق معنًى وأوقع أثرًا.١٠٤ وحتى الاستطيقا الكلاسيكية التي اهتمت بالنزعة الشكلية والكمال الشكلي لم تغفل هذا الجانب اليوتوبي المشرق على الرغم من أنها تناولته تناولًا مثاليًّا — موضوعيًّا — لا بد للفن إذن أن تكون له غاية يحققها من خلال أساليبه الاستعارية والرمزية، وأن يعبر عن نزوع الواقع ونزوع الذات البشرية نحو أمل لم يتحقق بعدُ. ومع الماركسية لم يعد الفن — كما يرى بلوخ — تأملًا فحسب، بل أصبح فيه إمكانٌ كامن وراء المظهر أي ممكنٌ إيجابي يملك القدرة على التحقق.

يدين بلوخ كل الفنون التي تبعث في النفس السكينة والاطمئنان أو تلك التي تركن إلى الراحة أو السعادة، ويطلق عليها المقولة الماركسية التي تزعم أنها تعبِّر عن الفكر البرجوازي. إنه يبحث في اللوحات الفنية عن تلك التي تعبر عن الممكن الواقعي الموضوعي أو التي توحي بعالم لم يوجد بعدُ، وتبعًا لذلك يهاجم كل الأعمال الفنية التي تقترب من تحقيق الكمال على المستوى الاستطيقي، ويزعم أنه ليس سوى كمالٍ شكلي يشابه إلى حدٍّ كبير ما في المجتمعات البرجوازية التي لا ترى من إمكانات الواقع سوى تلك السعادة الشكلية، بينما الفن عنده ينبغي أن يعكس الواقع المتدفق في صيرورةٍ دائمة. لذلك كان تقييمه للعمل الفني بقدر ما يحمل من أمل، وبقدر ما فيه من نزوع يوتوبي نحو اكتشاف إمكاناتٍ واقعيةٍ موضوعية. ومن هنا قدم تحليلًا للأعمال الفنية أبرز فيه ما تحمله من أملٍ كامن في أعماق الصور، فتحليله لتوزيع الأضواء والظلال في اللوحات الفنية وكيفية استخدام الأبعاد والزوايا والمنظور استخدامًا يكشف عن الجديد القادم، كان محاولة لإبراز هذا الجديد بصورةٍ عينية، أو لجعل «الجديد» — الذي يسعى جاهدًا لالتماسه في هذه الأعمال — مرئيًّا.

ويمكن القول إنه على قدر ما في تحليلات بلوخ للأعمال الفنية من عمق النظرة التي كشفت عن تمتع صاحبها بحسٍّ جمالي على مستوًى عالٍ من ناحية، وألقت الضوء على الجوانب الخفية لهذه الأعمال من ناحيةٍ أخرى، وقدمت تفسيراتٍ مبدعة وخلَّاقة تتفق مع نظرته للموروث الثقافي الذي يُعاد تشكيله وخلقه من جديد بشكلٍ مستمر؛ أقول إنه على قدر ما في هذه التحليلات من عمق النظرة، إلا أنها انحصرت في التفسيرات الماركسية التي تربط الفن بالظروف التاريخية والاجتماعية. وعلى الرغم من أن بلوخ تجاوز في مواضعَ كثيرة الرؤية الماركسية التي نجح في أن يُطوِّعها للإطار العام لفلسفته، إلا أنه التزم ببعض مقولاتها في تحليله للظاهرة الجمالية، ربما لأنها تساعده أكثر من غيرها في التعبير عن فلسفته الخاصة وتطويع هذه الفنون وتفسيرها بما يتفق مع نسقه الفلسفي العام الذي لا يهتم بالوصول إلى الهدف بقدر اهتمامه بالسعي إليه. لذلك كانت نظرته إلى تلك الأعمال الفنية التي تصور الواقع على أنه مكتمل هي نفس نظرته للفلسفة المثالية التأملية، لأن الواقع الفعلي لم يبلغ كماله بعدُ، ولن يبلغه على الإطلاق وفقًا لفلسفة بلوخ نفسه، أي وفقًا لنسقه المفتوح على المستقبل اللانهائي. ومن هنا كانت وظيفة الفن عنده وظيفةً يوتوبية، وكانت الأعمال الفنية التي استأثرت باهتمامه هي تلك التي تبعث في نفس من يشاهدها مشاعر أو انفعالات التوقع بعالم أو بشيء لم يأتِ ولم يتحقق بعدُ، أي هي تلك التي تعبر عن النزوع إلى الكمال وليس الوصول للكمال عينه.

وإذا كان صحيحًا أن الفن يعبر عن واقع الحضارة والثقافة التي نشأ بين أحضانها، وإذا كان صحيحًا أيضًا أن للأحداث التاريخية آثارها على العمل الفني، فإن هذا لا يجعلنا ننظر إليه من الزاوية التاريخية فقط لأنها نظرةٌ أحادية الجانب تفقده الطبيعة الخاصة به والتي تميزه عن غيره. فالعمل الفني باعتباره نشاطًا إبداعيًّا حرًّا يختلف بطبيعة الحال عن الأعمال الإبداعية الأخرى للنشاط البشري لما له من فردية وخصوصيةٍ متفردة. والظاهرة الجمالية ليست كسائر الظواهر العلمية الأخرى التي تُحدِث في جميع النفوس نفس النتائج، ولكنها ظاهرةٌ إبداعيةٌ حرة تثير في الذوات مشاعر وانفعالاتٍ متباينة أشد التباين.

إن هذه الظاهرة الجمالية، حتى في ثوبها المثالي، منخرطة — بحكم طبيعتها — في العملية الجدلية نفسها، وهذا أمر ظاهر حتى بدون أن يجهد بلوخ نفسه في البحث عن عملية التوسط في الفن وبدون الاستعانة بمقولاتٍ ماركسية لتفسيره. إن مشاهدة العمل الفني تنطوي على علاقةٍ جدلية بين الذات المشاهدة والموضوع المشاهد، والعمل الفني ينطوي على علاقةٍ جدلية بين الذات المشاهدة والموضوع المشاهد، والعمل الفني كرؤيةٍ إبداعيةٍ حرة إنما يعكس هذا الإبداع على المشاهد نفسه، الذي يبدع بدوره في تحليل وتفسير العمل موضوع المشاهدة، فالتفاعل مع موضوع اللوحة يثير في كل فرد إيحاءاتٍ حرةٍ متباينة من فرد لآخر. ولذلك فإن الاستطيقا الكلاسيكية، التي يراها بلوخ مجرد استطيقا تأملية فقط، لا تخلو من هذه العلاقة الجدلية، لأنه على الرغم من أن للعمل الفني وجوده الموضوعي، إلا أنه وجود لا ينفصل عن الذات المشاهِدة له، لأن هذه الموضوعية لا يمكن أن تنكشف إلا للذات وعن طريقها.

ويمكن أن ننتهي إلى القول بأن العمل الفني تجربة تعلو على الظروف التاريخية والاجتماعية، وذلك بنفس القدر الذي يمكن معه القول بأنه مرتبط كذلك بالظروف التاريخية والاجتماعية، ولعل هذا أن يكون أحد وجوه المفارقة الجدلية التي تميز العمل الفني وتجعله نقطة التقاء الزمني والأبدي، والنسبي والمطلق، والجزئي والكلي، والخاص والعام.

(٣) الأعمال الأدبية

إذا كنا نستطيع أن نلمس العنصر اليوتوبي في الفنون المرئية، فكيف نستشعر هذا البُعد في الفنون المكتوبة والمسموعة؟ ربما يكون الاهتداء إلى بُعد الأمل في الآداب المكتوبة من الأمور التي لا يصعب على الإنسان أن يستخلصها إذا استطاع أن يفضَّ غلاف الاستعارات والرموز الفنية في العمل الأدبي ويضع يديه على المعنى العميق والهدف البعيد الذي تشير إليه الكلمات. وقد حاول بلوخ أن يفض هذا الغلاف عن عملَين كبيرَين ليكشف عن بُعد الأمل في كليهما، وهما الكوميديا الإلهية لشاعر إيطاليا الكبير دانتي (١٢٦٥–١٣٢١م) وفاوست لشاعر ألمانيا الأكبر جوته. ولم يكن اختيار بلوخ لهذين الشاعرين اختيارًا عشوائيًّا، بل لأن كلًّا منهما قدم ملحمةً أدبيةً يوتوبية تختلف عند أحدهما عنها عند الآخر اختلاف الضد عن ضده.

كانت الكوميديا الإلهية صدًى لمؤثرَين كبيرَين، فقد وقع دانتي من ناحية تحت تأثير جغرافيا بطليموس فجاءت يوتوبيا مكانية ومطابقة لمركزية الأرض، كما كانت الكوميديا الإلهية من ناحيةٍ أخرى تعبيرًا شعريًّا عن فلسفة توما الأكويني التي قدمت يوتوبيا تراتبية بمستويات الوجود الاجتماعية وقامت على المجتمع الإقطاعي. وقد رسم دانتي صورًا خيالية لفردوسٍ سماوي في شكلٍ رمزي هو الوردة. لكن يجب ألَّا تفهم الوردة بالمعنى الدنيوي المعروف، لأنها رمزٌ مكاني للكمال. وهي تشبيه استُعمل في عصر دانتي كرمز للسماء يوحي بالشكل الدائري الذي كان يُعدُّ منذ عهد الإغريق أكمل الأشكال. وقد نشر بيترو دا مورا Pietro da Mora كاردينال capua، رسالة عن الوردة الكاملة بمراحلها الثلاث، مرحلة جوقة الشهداء، ومرحلة عذراء العذارى، ومرحلة المسيح وسيط الإله والبشر.١٠٥ وقد جاءت رمزية الكوميديا الإلهية في ثلاثة أقسامٍ رئيسية تتفق مع هذه المراحل؛ الجحيم، المطهر، الجنة، فكانت الوردة أو الدائرة هي الإطار لعمل دانتي. ولم تقدم يوتوبياه جنة في السماء فقط، بل أشارت إلى الجنة الأرضية التي ليست سوى مكان لعبور الأرواح الصالحة إلى الجنة السماوية. وظلت سماء دانتي سماءً كاثوليكية، رمزًا للسكون المركزي الأبدي الثابت، وكأن هذه السماء لا تتضمن أي هدف على الإطلاق، أو على الأصح لا تتضمن إلا هدفًا واحدًا هو التعبير عن كمال الوجود في ذاته ومن أجل ذاته. إن المكان أو الفضاء عند دانتي في يوتوبياه السماوية يعكس في تجلِّيه الأسمى فلك الشمس ولكنه يعبر عن نفسه في شكلٍ رمزيٍّ خاص وغير فلكي بالمرة. فحيثما توجد وردة السماء يكون النور الخالص كما تقول هذه الأبيات:
(١) ربما تتوهج شمس الظهيرة وهي بعيدة عنا بستة آلاف ميل،
وتكاد تأخذ الدنيا تميل بظلها إلى مهادها المستوى،
(٤) حينما تأخذ في التحول ساحة السماء التي تعلو من فوقنا شاهقة،
حتى تحتجب بعض النجوم عن الرؤية في هذه الآفاق،
(٣٧) استأنفت بهمة الدليل المقدام وصوته: «لقد خرجنا من أعظم
الدوائر إلى السماء التي هي النور الخالص.»
(٤٠) إنه نورٌ روحانيٌّ مفعم بالمحبة، بمحبة الخير الحق المليء
بالبهجة؛ بالبهجة التي تسمو على العذوبة.
(٤٦) وكبرقٍ خاطف يزيغ من قوى الإبصار، حتى ليحرم العينَين
من قدرتهما على رؤية أكثر الأجسام ضياءً.١٠٦
نخلص من هذا إلى أن يوتوبيا دانتي هي نوع من اليوتوبيا المكانية التي تنتهي فيها كل الأشكال بالدائرة المكتملة، أي أنها يوتوبيا وصلت لنهايتها وليس لها مستقبل. وعلى الرغم من ذلك فحتى عالم الجحيم الذي كُتب على بابه «أيها الداخلون اطرحوا عنكم كل أمل.»١٠٧ هذا العالم الأبدي السكوني الذي يستمر فيه العذاب إلى الأبد قد لا يخلو من أمل، لقد استسلم الملعونون لمصيرهم وفقدوا كل إحساس بالرغبة أو الندم فقد تصالحوا مع قَدَرهم وسلموا بالعناية الإلهية ورضوا بالعقاب الإلهي. ومن هنا تأتي عبارة هيجل الجريئة التي تصدق على دانتي: «حتى الملعونون في جحيم دانتي لا يزال لهم حظهم من النعمة الأبدية لقد كتبت على أبواب الجحيم عبارة «أنا باقٍ إلى الأبد.» فالملعونون قد فقدوا كل إحساس بالألم أو الندم، وهم لا يتكلمون عمَّا يقاسونه من عذاب لكنهم يتذكرون فقط أفكارهم وأعمالهم في الدنيا دون أن يشكوا من شيء أو يشتاقوا إلى شيء.»١٠٨
أما عن فاوست جوته فقد سبق الحديث عن أبعاده اليوتوبية في الجزء الخاص باللحظة الممتلئة، وتجنُّبًا للتكرار سنذكر فقط النقاط التي تخدم المقارنة مع دانتي. وقد نشأت يوتوبيا فاوست — على العكس من يوتوبيا دانتي — في جوٍّ بروتستانتي، لا كاثوليكي، وخلفيتها الاجتماعية مجتمعٌ رأسمالي، لا أقطاعي، وقد قدم جوته كذلك صورًا خيالية للسماء، إلا أن سماء فاوست ليست في السماء المتعالية التي وجدناها عند دانتي، بل هي سماءٌ منظور إليها من العالم الأرضي، أي أنها ما زالت في هذا العالم. وإذا كان إطار كوميديا دانتي هو الدائرة، فإن إطار فاوست جوته هي السماء المتعالية التي ترتفع في تصاعدٍ لا نهائي إلى السماء، حيث الهدف البعيد الذي تسعى الذات سعيًا دءوبًا للوصول إليه، على العكس من سماء دانتي الخاوية من الهدف. ويمكن القول إن يوتوبيا جوته متحركة، أي أنه كلما تحقق فيها هدف تولَّد آخر ليبتعد إلى مسافةٍ لا نهائية حتى تسعى الذات مرةً أخرى وراءه من أجل أن يتحقق، بحيث يوجد في فاوست الوعي بمضمون الهدف الذي لم يتحقق بعدُ. وإذا لم يكن الفن — كما يقول مالرو — سوى انتقال من دائرة القدر إلى دائرة الوعي والحرية، فإن هذا على خلاف يوتوبيا دانتي التي تؤمن بالهدف القادر على التحقق النهائي. والنتيجة التي أراد بلوخ أن ينتهي إليها هي أن يوتوبيا دانتي مكانيةٌ ساكنة تنشد الراحة السماوية وتهدف للوصول للنهاية التي توقف عندها الزمان ولم يبقَ من أبعاده سوى بُعد الماضي الأزلي، بحيث يمكن القول إنها يوتوبيا مغلقة لا تسمح بالصعود، ومثلها الأعلى هو الوردة أو الدائرة رمز الكمال المتحقق بالفعل. أما يوتوبيا فاوست جوته فهي زمانيةٌ متحركة، تنبض بالوعي الحي وتبذل الجهد الإرادي لمقاومة العالم الواقعي غير المكتمل. إنها تؤمن بلا نهائية الهدف المتجدد دومًا، وتصعد معه إلى الجبال العالية الممتدة في الأفق الأزرق، في يوتوبيا دانتي ينتهي اللغز إلى الحل الموجود، أما في يوتوبيا جوته فإن الحل هو اللغز الباقي.١٠٩
وشهد العصر الحديث تطورًا كبيرًا في التفكير اليوتوبي فظهر عددٌ وفير من الأعمال الفنية التي اتخذت شكلًا يوتوبيًّا أكثر صراحة ووضوحًا، وتجلت أشكالٌ يوتوبيةٌ جديدة في صورة أعمالٍ روائيةٍ أدبية وأخرى علمية وهي المعروفة باسم روايات الخيال العلمي، والأعمال التي وضعها أدباء في شكلٍ روائي ويمكن وصف بعضها بأنها يوتوبيات والبعض الآخر بوصفه يوتوبيات مضادة. ومن هؤلاء الأدباء كان كارليل Carlyle (١٧٩٥–١٨٨١م) الذي وقف معارضًا للعالم الصناعي والنزعة الرأسمالية والليبرالية على السواء وتعاطف مع ضحايا العصر الصناعي معتبرًا إياه جذر الشر ومؤيدًا للنزعة الفردية والبطولية التي عُرفت عنه. فالفكرة الأساسية عنده هي أن الفرد البطل هو صانع التاريخ. وقد صور في رواياته بؤس الطبقة العاملة الإنجليزية وقبح عصرها الصناعي، ذلك العصر الذي تمثل الثورة الفرنسية انطلاقة له. ولكنه لم يقف عند سلبيات هذه الثورة كغيره من الكتاب، وإنما أدرك أيضًا إيجابياتها وانتصارها على السلطة البالية الفاسدة. وقد دعا كارليل إلى فكرة «الزعيم الصناعي» أي إلى حكم الفرد البطل حكمًا مطلقًا مستنيرًا، وإن كان سان سيمون قد سبقه في الدعوة لسيطرة رجال الصناعة على حكم الدولة. وإذا كان هذا شيئًا مقبولًا في تلك الأيام نظرًا لضعف الطبقة العاملة في عصر سان سيمون، فكيف يكون ذلك مقبولًا في أيام كارليل، وهو الذي عاش وشهد الصراع الاشتراكي والوعي البروليتاري في منتصف القرن التاسع عشر؟
لقد ظلت كلمة يوتوبي مرادفة لكلمة اشتراكي حتى أواخر القرن التاسع عشر، الأمر الذي أدى إلى زيادة تأثير الأفكار اليوتوبية على الحياة السياسية والاقتصادية، كما تجلَّى هذا في يوتوبيا «التطلع للوراء» لإدوارد بيلامي (١٨٥٠–١٨٩٨م) وهي نظرة إلى المستقبل من خلال روايةٍ أدبية تم تنويم بطلها تنويمًا مغناطيسيًّا ليستيقظ عام ٢٠٠٠م في ولاية بوسطن الأمريكية ليجد دولةً مثالية لا يتم التعامل فيها بالنقود بل بالبضائع التي توزع بالبطاقات، وهي دولة تسودها المساواة في الربح بين كل المواطنين الذين لا يتنافسون على الأجور بل على خدمة الدولة. لقد رسم بيلامي ملامحَ اشتراكية تحوَّلت من تجمعاتٍ صغيرة إلى مجتمعٍ واحدٍ كبير لتكون يوتوبيا مركزية.١١٠ واعتمدت الحركات الاشتراكية في الولايات المتحدة الأمريكية على هذه اليوتوبيا، كما كان لها رد فعل مضاد في اليوتوبيات الأوروبية.
وإذا كان بيلامي قد صور الدولة عام ٢٠٠٠م، فإن وليم موريس (١٨٣٤–١٨٩٦م) رسم ملامح مدينته المثالية بعد عام ألفين فكتب روايته «أنباء من لا مكان» التي صور فيها أحلام الإنسانية وأمانيها، وقدم نموذجًا غير مألوف من اشتراكية يمكن أن نطلق عليها وصف الاشتراكية الشعبية. ولم يقف موريس — باعتباره فنانًا وصاحب حرفةٍ يدوية — ضد يوتوبيا بيلامي فقط بل عارض أيضًا كل اليوتوبيات الآلية أو الميكانيكية، وقدم نظرةً جديدة للعمل بوصفه متعة: «لقد بثثنا في العمل لذةً تُغري الناس به، وليس ذلك بعجيب؛ إذ الفنان الحق يستمتع بما يؤديه، وعمالنا يأخذون العمل على أنه فنٌّ جميل، كلٌّ يختار ما يستمتع به.»١١١ ولا شك أن هذا تطور في فكرة العمل، ولكن العمل المقصود هنا هو الحرفة الفنية وليس العمل الصناعي الذي يقتل الجمال ويعوق سعادة الجنس البشري الذي تنبأ موريس بأنه سيثور عليه ثورة تدمر المصانع وتقضي على النزعة الصناعية غير الطبيعية من وجهة نظره، فتموت الرأسمالية ومعها كل بلاء المدنية وتعود الحرف المهنية مرةً أخرى.
وتوالت أحلام اليوتوبيين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، وتنوعت ما بين يوتوبياتٍ علمية تفاءلت بالمستقبل ورأت إمكانية التغلب على المرض والموت والفقر والجهل والفوضى بأساليبَ علميةٍ حديثة ومتطورة، وبين أخرى تصور اليوتوبيات-المضادة التي رسمت صورةً قاتمة للمستقبل وتنبأت بكوارث التقدم العلمي وتدمير البيئة بتأثير عوامل التلوث، إبادة البشرية بفعل أسلحة الدمار الشامل، من أشهر هذه اليوتوبيات «العالم الطريف الشجاع» للكاتب الإنجليزي هكسلي (١٨٩٤–١٩١٩م) الثائر على عالم التقنية وعلى ازدياد نفوذ العلم في الحياة، وفي هذه الرواية يتخيل أن الإنسان سوف يتناسل في المستقبل لا عن طريق الحب والتقاء الرجل بالمرأة، ولكن عن طريق العلم وتكوين الأطفال بطريقةٍ علميةٍ داخل القوارير.١١٢ وهكذا يصور لنا هكسلي العلم في صورة تشمئز منها النفوس وتقشعر الأبدان، ويعبر عن خوفه من سيطرة العلم على حياة الناس، بتصوير مدينة العلماء الفاضلة بكل ما فيها من مساوئ، ورأى في عالم التقنية الجديد؛ عالم العقاقير والآلات الذي انتفت منه العاطفة والشعر والدين والجمال: «في هذا العالم الجديد كل شيءٍ آليٌّ، وكل شيءٍ مرسومٌ أو محفوظ في قارورة، والصفة الإنسانية تكاد تنعدم.»١١٣
وكتب صمويل بتلر أيضًا «إرون» أي البلد الذي لا وجود له، وإرون هي قلب لكلمة No where. والكتاب تهكمٌ مرير على نظام المجتمع ورجال الدين وعلى العلم وأصحابه. وما كتبه بتلر عن الآلات هو تهكمٌ لاذع على نظرية دارون، إذ يحاول أن يطبق أصول نظرية دارون في التطور على الآلات، فلا يرى من المستحيل أن تتطور الآلة وتسبق الإنسان في تنازع البقاء كما سبق الإنسان صنوف الحيوان، وهو بذلك يريد أن يؤيد وجهة نظره بأن أساس التطور هو محاولة الوصول إلى غايةٍ معينة وليس الصدفة البحتة كما قال دارون١١٤ يقول بتلر: «إما أن نعترف بأن للأشياء إدراكًا، وبذلك نعترف ضمنًا أن للآلات إدراكًا لا نفهمه، وإما أن نقول إن الإنسان وحده يتمتع بالإدراك ولكنه هبط من أصولٍ لا إدراك لها فتكون النتيجة المنطقية أن تتطور الآلات إلى شيءٍ جديد له فوق ما للإنسان من إدراك وفكر. وإذن فيا بني آدم سارعوا بتحطيم الآلات خشية أن تسبقكم بعد قليل في مضمار الحياة (…) إني لأري الإنسان يعمل بنفسه على خلق خلفه في سيادة الأرض! إنه ما يفتأ يزيد من دقة الآلة ونظامها وقوَّتها، ولست أشك في أن الأمر سينتهي بالآلة إلى ذكاءٍ خارقٍ وعندئذٍ تعلو في سلم الكائنات وتسود.»١١٥
إن اليوتوبيات-المضادة التي بدأت في الظهور في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وقفت في المقام الأول ضد التقدم العلمي والتقني وكشفت ما يمكن أن ينتج عنه من أهوال وبشاعة. وقد ظلت الشيوعية هدفًا لكل اليوتوبيات السابقة إلى أن ظهرت رواية «العالم سنة ١٩٨٤م» لجورج أورول.١١٦ (١٩٠٣–١٩٥٠م) التي تصور نظام الحزب الشيوعي وما يجري داخله. وقد كشفت هذه الرواية عما يحدث في المجتمعات الاشتراكية من دعاوى حزبية رتيبة، شملت كل شيء وتدخلت في كل شيء؛ دعاوى قضت على أولى مبادئ الحرية، كما قضت بجرة قلم على الماضي والحاضر والمستقبل لأن الحزب يهيمن على كل شيء، حتى على مجرد تفكير الإنسان. وقد استعان الكاتب بقوى شيطانية وبجهاز استطلاع دقيقٍ مخيف أطلق عليه اسم «بوليس الفكر» يستشف أفكار الناس حتى في خلوتهم، وعاشت الطبقة العاملة في هلع وفزع؛ الكل يرقب ويتلصَّص، حتى الطفل يرقب والديه ليشي بهما.١١٧ والكتاب يصف الصورة القاتمة — التي كانت تتمثل في ذهن المؤلف — لنظام الحزب الاشتراكي وما يجري داخله من أعمال الإرهاب والتعذيب والتسلط: «إن السلطة ليست وسيلة ولكنها غاية، والإنسان لا يمكن أن يُنشئ ديكتاتورية لحماية ثورة، وإنما يثير الإنسان ثورة لإنشاء ديكتاتورية.»١١٨ «إن الهدف من الاضطهاد هو الاضطهاد، والهدف من التعذيب هو التعذيب، ومن ثَم فإن الهدف من السلطة هو السلطة.»١١٩ كما يقول أورول أيضًا على لسان أوبرين؛ إحدى شخصيات روايته: «إن السلطة هي ممارسة السلطة فوق بني الإنسان، فوق أجسامهم بل وفوق عقولهم قبل كل شيء.»١٢٠ ولا شك أن الأهوال التي رسمها المؤلف لنظم الحكم الشمولية كان أغلبها صحيحًا، وهذا ما كشفت عنه الأحداث الأخيرة بعد انهيار الحكم الشيوعي في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية.

بعد أن كشف بلوخ النقاب عما في اليوتوبيات التاريخية من أمل وتأرجح بعضها بين السكون والحركة، وانغلاق بعضها على الماضي، وانفتاح البعض الآخر على المستقبل، اكتفى من يوتوبيات القرن التاسع عشر، والقرن العشرين على السواء بتلك اليوتوبيات التي كتبها أصحابها في شكل أعمالٍ أديبةٍ روائية ترسم ملامح مجتمعاتٍ اشتراكيةٍ مثالية؛ مما يوحي بطبيعة الحال بتفضيله لذلك النوع من اليوتوبيا التي قامت على أسسٍ اشتراكية. وربما يبدو هذا متسقًا ومتماشيًا مع إيمانه — حتى آخر لحظات حياته — بالنزعة الماركسية التي وجد فيها وحدها الحل الذي يُنهي كل الظروف التي سببت شقاء الإنسان وبؤسه.

وربما كان هذا الهدف نفسه هو ما جعله يهمل أو يتجاهل نوعًا آخر من اليوتوبيات التي صنفت تحت اسم اليوتوبيا-المضادة، وهي تلك التي تعرضت بالسخرية حينًا وبالتحليل حينًا آخر لمساوئ النظم الاشتراكية (أورويل، ١٩٨٤م)، أو لمخاطر التطبيقات غير الإنسانية لمنجزات العلم والتقنية (هكسلي، عالم طريف شجاع). وعلى الرغم من خطورة العديد من المساوئ التي وردت في هذه اليوتوبيات المضادة، وعلى الرغم من أن بلوخ نفسه عاصر العديد من مفاسد تلك الأنظمة وعاش تجربتها المريرة، وعلى الرغم من إيمانه باللاحتمية التاريخية التي تتفق مع نسقه الجدلي المفتوح وتتعارض تعارضًا أساسيًّا مع الفكرة الماركسية عن حتمية التطور التاريخي؛ على الرغم من كل هذا فقد ظل إيمانه بالماركسية الإنسانية باقيًا، وسيطر عليه حتى النهاية حلمه بمجتمعٍ شيوعيٍّ إنساني؛ مما جعله ينسى أو يتناسى عن عمد تلك اليوتوبيات-المضادة.

١  Edwards, paul: (Editor): Encyclopedia of philosophy. London, Collier Macmillan publisher. 1970. Article utopia V. 8. p. 212-213.
٢  Bloch, p. of H. V. II. p. 479.
٣  Ibid: p. 626-627.
٤  انظر العديد من هذه الحكايات في Bloch: p. of H. V. II. p. 627–629.
٥  Alchemy، هي السيمياء بالمعنى القديم المعروف في العصور الوسطى وأوائل عصر النهضة وتعني استخلاص القوة السحرية الكامنة في المادة، وقد اهتمت بتحضير ما يُسمى بحجر الفلاسفة وإكسير الحياة باستخدام السحر وإضافة المواد الكيماوية، والتأثير على الطبيعة بالطاقات الروحية، وتحويل المعادن إلى ذهب، واستخلاص الذهب من المعادن، ولذلك اختلطت الكيمياء بالسيمياء (C. F. Bloch: p. of H. V. II p. 634).
٦  بلوخ، فلسفة عصر النهضة، الترجمة العربية، ص٧٧.
٧  المرجع السابق، ص٧٨-٧٩.
٨  المرجع السابق، ص٨٩.
٩  Salniter: السالنتير، كلمة مشتقة من اليونانية البيزنطية Salonitron وتعني ملح البارود أو الحامض الأزوتي الذي كان يستخدم في العصر البيزنطي لاستخراج الذهب من المعادن المختلط بها. ومن المرجَّح أن للكلمة أصلًا أقدم من أصلها البيزنطي، فهي تعود إلى البابلية القديمة التي كانت تطلق اسم nitriu على نوع من الرماد. وإذا كان هذا الاشتقاق اللغوي صحيحًا، يكون الإغريق قد استعاروا الكلمة من البابليين قبل أن ينقلوها إلى الرومان (انظر المرجع السابق، ص٩٠).
١٠  المرجع السابق، ٩٠-٩١.
١١  كان لهذه الجمعيات أصول في القرن الخامس عشر استخدمت السيمياء السحرية، أو ما يمكن أن يسمى بالتقنية السحرية السائدة في ذلك العصر. وأشهر الكتب التي عبرت عن هذه الجمعيات هو كتاب «زفاف سيميائي لجمعية الصليب الوردي المسيحية عام ١٤٥٩» وهو الكتاب الأساسي الذي صدر عام ١٦١٦م لأندريا (وهو شاعر من شفابن، ورجل كنيسة يوتوبي ولد عام ١٣٨٨م ورحل إلى الشرق وهو شاب، وبدأ الاشتغال بالعلوم السرية وتحويل المعادن) ويدور الكتاب حول حفل زفاف للمعادن وتحويلها في زواجٍ ملكي، والعرس هي السيمياء، والمدعوون هم فرسان الحجر الذهبي، ويتم الزفاف في سبعة أيام تمثل المراحل السبع للعمليات الكيميائية اللازمة لتحويل المعادن (C. F. Bloch: p. of H. V. II. p. 634-635).
١٢  بلوخ، فلسفة عصر النهضة، الترجمة العربية، ص١٠٩.
١٣  Bloch: p. of H. VII, p. 657.
١٤  بلوخ، فلسفة عصر النهضة، ص١١١.
١٥  عبد العزيز لبيب، الأيطوبيا والأيطوبيات، الكلمة والأصناف والدلالات، القاهرة، مجلة فصول، المجلد السابع، أبريل-سبتمبر ١٩٨٧م، ص١٠٩-١١٠.
١٦  ورد النص في كتاب فرانكلين ل. باومر الفكر الأوروبي الحديث (القرن السابع عشر)، ترجمة د. أحمد حمدي محمود، القاهرة، الهيئة المصرية للكتاب، ١٩٨٧م، ص٥٩.
١٧  المرجع السابق، ص٦٠.
١٨  Bloch: p. of H. V. II, p. 667.
١٩  Ibid: p. 668.
٢٠  Ibid: p. 669.
٢١  ورد نص هيجل في: Ibid: p. 669-670.
٢٢  Ipid: p. 670.
٢٣  Ibid: p. 671.
٢٤  Ibid: p. 672.
٢٥  Ibid: p. 674–676.
٢٦  Ibid: p. 690.
٢٧  Ibid: p. 691-692.
٢٨  Ibid: p. 694.
٢٩  Ibid: p. 695-696.
٣٠  جارودي، روجيه، كارل ماركس، ترجمة جورج طرابيشي، بيروت، دار الأدب، ١٩٧٠م، ص١٥٧.
٣١  Bloch: p. of H. V. II. p. 750.
٣٢  Ibid: p. 751.
٣٣  Ibid: p. 752–756.
٣٤  احتلَّ التراث الجغرافي للعالم الإسلامي موقعًا هامًّا في العصور الوسطى الأوروبية وتمثل في مؤلفات الرحَّالة العرب التي ألقت الضوء على طرق ومسالك العالم القديم، وقد تضمنت هذه المؤلفات خرائطَ تفصيلية؛ مما جعلها أيضًا من أهم مصادر المعرفة في عصر النهضة الأوروبية، كما كانت هاديًا ومرشدًا للرحالة الأوروبيين في رحلاتهم الاستكشافية — وخاصة كولومبس — ومن أهم الجغرافيين العرب: الفزاري، البيروني، الخوارزمي، الفرغاني، البلخي، الإدريسي وكتابه الشهير «نزهة المشتاق»، والمسعودي وكتابه «مروج الذهب»، وغيرهم.
٣٥  Hesperides: حديقة التفاح الذهبي في الميثولوجيا اليونانية وتقع في الطرف الغربي من العالم.
٣٦  Bloch: p. of H. V. II. p. 758.
٣٧  رؤيا يوحنا اللاهوتي، ٢١: ٢، الكتاب المقدس.
٣٨  Bloch: Ibid: p. 760.
٣٩  سفر التكوين، ٢: ١٠–١٤، الكتاب المقدس.
٤٠  سفر التكوين، ٢: ٨، الكتاب المقدس.
٤١  Bloch: p. of H. V. II, p. 760.
٤٢  عاش Brendan في القرن السادس وطُبعت رحلته كأسطورة في القرن التاسع والحادي عشر، وأُعيد طبعها ثلاث عشرة مرة بعد تقديس برندان. انظر تفاصيل رحلته في: (Bloch: p. of H. v. II. p. 763–765).
٤٣  Ibid: p. 765.
٤٤  انظر نص الرسائل في Ibid: p. 766.
٤٥  Ibid: p. 767.
٤٦  Ibid: p. 771.
٤٧  Ibid: p. 772.
٤٨  Ibid: p. 773.
٤٩  عمر الفاروق، بانوراما رحلة كولمبس، (١) صورة العالم عشية الرحلة، مجلة القاهرة، فبراير ١٩٩٣م، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص٧٦.
٥٠  المرجع السابق، ص٧٧.
٥١  استعان كولمبس بنظرية العرب عن قبة الأرض — وقد امتلأت المكتبات الأوروبية في ذلك الحين بترجمات كتب الرحالة والجغرافيين العرب — واتخذها قاعدة لقياسه وحساباته للمسافة بين جزر أزوروس وميناء زيبانجو على ساحل جزيرة قرب الساحل الآسيوي. والفروض النظرية الخاصة بقبة الأرض هي أن الأرض على شكل قبة، هذه القبة تتلاشى عند قمتها خطوط الطول والعرض (انظر أثر النظريات الجغرافية العربية على كولمبس في الندوة التي عقدتها مجلة القاهرة بمناسبة مرور ٥٠٠ عام على اكتشاف أمريكا، عدد ١٢٤، مارس ١٩٩٣م).
٥٢  حزقيال، ٢٨: ١٣ وما بعدها، الكتاب المقدس.
٥٣  انظر نص خطابات كولمبس في: Bloch: p. of H. V. II. p. 775.
٥٤  Ibid: p. 784.
٥٥  Ibid: p. 784.
٥٦  C. F., Ibid: p. 785.
٥٧  Ibid: p. 790.
٥٨  Ibid: p. 706-707.
٥٩  زكريا إبراهيم، مشكلة الفن، القاهرة، مكتبة مصر، ١٩٧٦م، ص١١٣.
٦٠  Bloch: p. of H. V. II. p. 700–701.
٦١  كلمة قوطي تعني الهمجي. ويطابق فن العمارة القوطي قواعد المنطق، فشكل الكاتدرائية القوطية من الخارج يُوحي إلى الإنسان بشكلها من الداخل. وكل عقد وفراغ وتمثال أو حلية له فائدةٌ معمارية وجمالية، ويلاحظ أن معظم النسب في العمارة القوطية محسوبة على أساس قامة الإنسان لا على أساس ضخامة المبنى (C. F. Encylopedia of World art. London. Mc Graw-Hill publishing comapny. 1962. Vol. VI article Gothic Art p. 461 f).
٦٢  أبو صالح الألفي، الموجز في تاريخ الفن، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٧٣م، ص٢٢٤.
٦٣  المرجع السابق، ص٢٢٨.
٦٤  الباروك Baroque كلمة من أصلٍ برتغالي Barruco وأصلٍ إسباني barrueco وتعني اللؤلؤ غير المنتظم الاستدارة، واستخدمت الكلمة للتعبير عن الفنون المخالفة للتقاليد السائدة والمناهضة لمفهوم النهضة الكلاسيكي (C. F. Encyclopedia of World Art. Vol. II. article Baroque Art. p. 258).
٦٥  Bloch: p. of H. V. II. p. 703-704.
٦٦  Ibid: p. 715.
٦٧  Ibid: p. 716-717.
٦٨  ملوك، ١: ٧–٢٢، الكتاب المقدس.
٦٩  Bloch: p. of H. VII. p. 722-723.
٧٠  Ibid: p. 725-726.
٧١  Ibid: p. 730-731.
٧٢  إشعياء، ٦٥: ١٧، الكتاب المقدس.
٧٣  Bloch: p. of H. V. II. p. 732.
٧٤  Ibid: p. 734.
٧٥  Ibid: p. 736.
٧٦  Ibid: p. 738-739.
٧٧  Ibid: p. 740.
٧٨  Ibid: p. 742.
٧٩  هاوزر، أرنولد: الفن والمجتمع عبر التاريخ، ترجمة د. فؤاد زكريا، مراجعة أحمد خاكي، القاهرة، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ١٩٦٧م، ج١، ص٥١٤.
٨٠  Bloch: p. of. H. V. II. p. 796.
٨١  يعتبر جان فان إيك المؤسس الأول لمدرسة تصوير الأشخاص بالزيت في بلاد الأراضي الواطئة، ولذلك سبقت بلاده إيطاليا في هذا المجال، ويتميز هذا الفنان بسعة الخيال والدقة في تسجيل التفاصيل الصغيرة للموضوعات المرسومة. C. F. Peter and Linda Murray: A Dictionary af Art and artists. Great Britain. penguin Books. 1959. p. 104-105.
٨٢  Bloch: p. of. H. VII. p. 799.
٨٣  نعمت إسماعيل علام، فنون الغرب في العصور الوسطى والنهضة والباروك، القاهرة دار المعارف، ١٩٧٦م، ص٨٨.
٨٤  Monti, Raffaele: Leonardo Da Vinci, Translated from the Italian by Pearl Sanders. London, Thames and Hudson, 1967. p. 18.
٨٥  نعمت إسماعيل علام، فنون الغرب، مرجع سابق، ص٩٠.
٨٦  Bloch: p. of H. VII. p. 800.
٨٧  Ibid: p. 801.
٨٨  أنطوان واتو: هو الفنان الفرنسي الذي اشتُهر برسم المناظر الطبيعية والأعياد والاحتفالات، يتميز بشاعرية اللون (الأسود والأحمر والأبيض) ورقَّة اللمسات، ويعتبر فنه الذي يختم فن التصوير في القرن السابع عشر بداية التطور في طراز الفن والمجتمع الفرنسي، حيث ظهر اتجاهٌ فنيٌّ جديد تخلَّص من الأسلوب الأكاديمي وعرف بطراز الروكوكو. (C. F. Peter and Linda Murray: A Dictionary of art and artists p. 341–345).
٨٩  كيثيرا Cythera: جزيرة في البحر الإيجي تقع بين شبه جزيرة المورة وجزيرة كريت كان بها معبد لأفروديت إلهة الحب والجمال.
٩٠  Bloch: p. of H. VII. p. 798.
٩١  هاوزر، أرنولد: الفن والمجتمع عبر العصور، الترجمة العربية، ج١، ص٥١٤.
٩٢  Bloch: p. of H. V. II. p. 818.
٩٣  نجد عكس هذا النظام في النزعة الطبيعية في مدرسة «الطاو» الصينية حيث المناظر الطبيعية والزخرفة هي الإطار الذي يخدم الأشكال (C. F. Ibid: p. 818).
٩٤  نعمت إسماعيل علام، فنون الغرب، مرجع سابق، ص٣٦.
٩٥  Bloch. p. of H. VII. p. 819.
٩٦  Ibid: p. 813.
٩٧  Ibid: p. 814-815.
٩٨  زكريا إبراهيم، مشكلة الفن، ص١٤.
٩٩  Bloch: p. of H. VII. p. 807.
١٠٠  زكريا إبراهيم، المرجع السابق، ص١٩٥.
١٠١  Bloch: Ibid: p. 808-809.
١٠٢  Ibid: p. 809.
١٠٣  Ibid: p. 810.
١٠٤  زكريا إبراهيم، مشكلة الفن، ص٢٤٢.
١٠٥  Bloch: p. of H. V II. p. 822.
١٠٦  دانتي، أليجييري: الكوميديا الإلهية (٣ الفردوس)، ترجمة حسن عثمان، القاهرة، دار المعارف، ١٩٦٩م الأنشودة الثلاثون، الأبيات على التوالي: ١، ٤، ٣٧، ٤٠، ٤٦، ص٥٠٧-٥٠٨.
١٠٧  دانتي، أليجييري: الكوميديا الإلهية (١ الجحيم)، المرجع السابق، صدر الجزء الأول منه عام ١٩٥٩م، الأنشودة الثالثة، البيت رقم ٧، ص١٠٣.
١٠٨  ورد نص هيجل في: Bloch, p. of H. V. II. p. 824.
١٠٩  انظر تفاصيل المقارنة في: Ibid: p. 820–827.
١١٠  Bloch: p. of H. VII. p. 612-613.
١١١  موريس، وليم: أنباء من لا مكان. ترجمة د. زكي نجيب محمود في كتاب «أرض الأحلام»، القاهرة، دار الهلال، ١٩٧٧م، ص١١٦.
١١٢  أثبت التقدم العلمي الهائل في القرن العشرين صدق يوتوبيا هكسلي، فتوصل إلى إنجاب الأطفال في القوارير، وهو ما يسمي في عصرنا بأطفال الأنابيب.
١١٣  هكسلي، أولدس: العالم الطريف الشجاع، ترجمة محمود محمود، القاهرة، دار الكاتب المصري، ط١، ١٩٤٧م، من مقدمة المترجم، ص: ي-ل.
١١٤  زكي نجيب محمود، أرض الأحلام، ص٦٨.
١١٥  بتلر، صمويل: أرون، ترجمة د. زكي نجيب محمود، في المرجع السابق، ص٩٣-٩٤.
١١٦  كاتب وروائيٌّ إنجليزي، سافر عام ١٩٣٦م إلى إسبانيا حيث اشترك في الحرب الأهلية ورأى فظائع وأهوال الأحزاب السياسية اليسارية، فعاد بعدها يحذِّر الأجيال القادمة من طغيانها ومن مستقبلٍ مظلم تعده المذاهب اليسارية للعالم.
١١٧  أورول، جورج: العالم سنة ١٩٨٤م، ترجمة شفيق أسعد فريد وعبد الحميد محبوب، راجعه عبد الرحيم رشوان، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، ١٩٥٦م، من مقدمة المراجع ص٩-١٠.
١١٨  المرجع السابق، ص٣٤٨.
١١٩  المرجع السابق، ص٣٤٨.
١٢٠  المرجع السابق، ص٣٥٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤